القرآن الكريم / سورة الناس / التفسير المقروء

سورة الناس

سورة الناس سورة مكية أيضاً، نزلت مع سورة الفلق. إن كانت سورة الفلق تُعِيذُ من الأضرار الجسمية فسورة الناس تُعِيذُ من الأضرار النفسية والروحية.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ﴿1﴾ مَلِكِ ٱلنَّاسِ ﴿2﴾ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ ﴿3﴾ مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ ﴿4﴾ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ ﴿5﴾ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ ﴿6﴾
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ رب الكل؛ الناس والجن والحيوان والجماد والسماء والأرض، فَلِمَ اختص الناس بالذكر؟ لأمرين أو ثلاثة أمور؛ الأمر الأول: تشريف الناس فهم أكرم الخلق على الله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ نعم، فَضَّلَهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، فهي تشريف للناس خاصة أنها تكررت ﴿قل أعوذ برب الناس * مَلِكِ الناس﴾، ولم يقل مَلِكُهُم، إلههم ﴿مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) ﴾، هذا التكرير لتعظيم شأن الناس وتشريفهم. الأمر الثاني: مِنَ الناس من يُعَظَّم، ومن الناس من يَملُك فمنهم الملوك، ومنهم من يُعبَد من دون الله، فأراد ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يُشعِرُنا أنه ملك الملوك ورب الأرباب، وهو المستحق للعبادة، فهو مَلِكُ الكل. وإن كان من الناس من يَدَّعِي الألوهية فهو إله الكل بالحق صدقاً وحقاً. الأمر الثالث: أن المستعيذ بالله من الناس فكأنه يستعيذ برب الناس الذي هو مُرَبِّيهم ومُصلِحُ أمرهم ومُتَوَلِّي شؤونهم ليُعِيذُهُ من شر ما يَستَعِيذُ به. أيضاً في ترتيب الآيات الأولى، وفي هذا النسق إشعار لكل ذي عقل، ولكل متأمل: ننظر إلى أنفسنا من خلال النظر إلى غيرنا، فنجد الإنسان نطفة، علقة، جنين؛ سَقْطٌ أو مُخَلَّق، يُولَد لا يدري، لا يَعقِل، لا يسمع، ثم يسمع ثم يبصر ثم يعقل ثم يحبو ثم يقوم ثم يمشي ثم يتعلم ثم يكتسب. هذا النمو تربية، لأن التربية هي إيصال الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً بحسب استعداده، استعداده للوصول لهذا الكمال، فالذي يزرع يُرَبِّي الزرع، الذي يربي الدجاج والبهائم وغيره، الذي يربي الناس وهكذا. إذاً فإذا نظرت إلى نفسك عَلِمْتَ أن لك رباً يُرَبِّيك، يتولاك؟ يغذيك في الرحم، ثم يغذيك بعد الولادة بثدي أمك، ثم يغذيك بعد ذلك بما خلق من نبات ولحم وماء وما إلى ذلك، وتنمو رويداً رويداً، شيئاً فشيئاً. إذاً فلنا رب لا شك. ثم بعد ذلك نتأمل في هذا الرب فنجد أنه لا يطلب منا شيئاً فهو غير محتاج إلينا، يعطي بلا سبب، بلا انتظار لفائدة أو عوضاً عن شيء حدث له، فما كان الخلق واجباً عليه، وما كان التكليف لنفع يحصل لديه. ما دام مستغن عن الكل والكل بيده هو يحي، ويميت، هو يُوجِدُ، وهو يُعدِمُ، إذاً فهو الـمَلِك. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) ﴾ إذاً فيأتي هذا الترتيب للمتأمل بأن المربي -رب الناس-ثم هو الـمَلِك لأنه يَملِكُهُم، ويَملِكُ كل شيء نفعاً وضراً، وهم لا يفيدونه بشيء، ولا يحتاج إلى شيء. فإذا توصلتَ إلى ذلك عَلِمتَ أن الرب والملك لا بدَّد، وأن يُعبَد، هو المستحق للعبادة، إذاً فهو الإله الأوحد الحقيق بالألوهية المستحق للعبودية ﴿إله الناس﴾. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) ﴾ هذا الترتيب يشعرك بترتيب المتأمل في الوصول إلى وجوب عبادة الله، وللعلم بأن الله هو واجب الوجود، هو الحق الأزلي الأبدي. ثم إنَّ التكرير: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) ﴾ للإفادة بأن الله قد جمع كل صفات الجلال والكمال، فهو المستحق للعبادة، وجمع لنفسه ثلاث صفات أساسية: الربوبية والمــُلْك والألوهية. فمن الملوك من ليس رباً، ليس كل رب مَلِك، فأنت رب البيت لكنك لستَ مَلِكاً. وليس كل مَلِك إله، لكن الله هو الرب، وهو الـمَلِك وهو الإله. إذاً فطالما استعذتَ بهذه الصفات لن يَمَسَّكَ ضر، لأن الله إذا كان رب الناس فهو آخذ بنواصيهم، وإذا كان هو مَلِكُ الناس فلا تصرف لهم دونه، وإذا كان هو إله الناس فهو آخذ بناصيتهم، قابض على النواصي بيده، كل شيء، يفعل ما يريد، ولا يقع في مُلْكِهِ إلا ما يريد، فمهما بلغ شر أهل الشر نواصيهم بيد من؟ الملك الرب القادر على دفع الضر عنك، نستعيذ بالله، بالـمَلِك، بالرب. ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ الوَسْوَاس: الشيطان. وكلمة وسواس تعني الوسوسة، أما الشيطان فهو يُوَسْوِس. سمي الشيطان المــُوَسْوِس بفعله، الذي هو الْوَسْوَاس. الْوَسْوَاس كالزِّلْزَال أي الزلزلة، أما المصدر فهو زلزال. فالوسواس هو المصدر، الوسواس بمعنى الوسوسة. سمي الشيطان بِفِعْلِه للدلالة على أنه مُبَالِغ في ذلك، وللإشعار بخطورة أثرها وشرور فعلها. ولكن الوسوسة: الحديث الخفي الذي لا تسمعه الأذن، الذي يلقيه الشيطان في صدر الإنسان فيفهمه أو يعيه دون أن تسمعه أذنه، صوت خفي، قدرة أعطاها الله لإبليس ولشياطين الإنس والجن امتحاناً وابتلاءً. لكن كلمة الخناس؛ خَنَسَ: اختفى ﴿لا أُقسِمُ بالخُنَّس﴾ [سورة التكوير آية: 15] النجوم إذا خَنَسَت: إذا غابت. سُمِّيَ الوَسْوَاسُ خناساً لأن العبد إذا ذكر الله خَنَسَ الشيطان، اختفى وتضاءل، وتصاغر وهرب، فإن كانت الاستعاذة تُشعِر بخطورة إبليس وبخطورة الشياطين وبخطورة الوسوسة، أسلوب الاستعاذة يُشعِرُ بذلك، لكن كلمة الخناس تفيد أن كل هذه القوة معدومة بِذِكْرِ الله ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًاً﴾ [سورة النساء آية: 67] يخنس بذكر الله، لا يجرؤ الشيطان وقَبِيلُهُ وجِنُّ الدنيا، شرهم وشرورهم لا يجرؤ أن يمس عبداً يثق بالله، ويذكر الله، لا يضره سحر، ولا يضره عَمَل، ولا يضره فعل حاسد، ولا يضره شيطان، ولا تضره وسوسة ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [سورة الإسراء آية: 65] إن تَعَلَّلَ أحدٌ بما حدث لرسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ من سحر، فذلك ليس لنا، كما نسي في الصلاة، وصلى العصر ركعتين لِيَسُنَّ لنا سجود السهو، فكذلك لِيَسُنَّ لنا الاستعاذة، فما حدث حدث لِيَسُنَّ لنا، أما نبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فمعصوم، وكذلك كل عبد ذاكر لله، والمعصوم من عصمه الله، وربنا يعصم مَنْ ذَكَرَه ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [سورة البقرة آية:152] ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) ﴾ بَيَّنَ الفعل بعد الإتيان بالاسم ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾: الذي يوسوس، ذاك بيانٌ لِفِعْلِه. ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾: في القلب، والقلب محله الصدر، يدخل إليه. وقد رُوِيَ أن الشيطان واضع خَطْمَهُ على قلب ابن آدم -أي أنفه-واضع خَطْمَهُ على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خَنَس، وإن نسي الله التقم قلبه فوسوس إليه.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ الجِنَّة: جمع جِنِّي، والتاء تأنيث الجماعة. هم الجن، شياطين الجن. هل في الإنس شياطين؟ ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾: إبليس وذرية إبليس، ﴿والناس﴾ والناس؟ نَعَم، في الناس شياطين كما في الجن شياطين، واسمع لقول الله ﴿عز وجل﴾: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [سورة الأنعام آية:122] نعم، ففي الناس شياطين، وفي الوحوش شياطين، وفي الجن شياطين. والشيطان: كل مَارِدٍ عَاتٍ متمرد على الله ﴿عز وجل﴾ ذاك هو الشيطان. وشيطان الإنس أخطر من شيطان الجن، شيطان الجن بِذِكْرِ الله يَخنَس، ويختفي ويتضاءل، أما شيطان الإنس فلا يزال يغويك، ولا يزال يُزَيِّنُ لك. وها هي النار منتظرة أهلها، على أبوابها دُعَاةٌ يَدعُون الناس إليها، من أجابهم قذفوه فيها. هؤلاء الناس الذين يزينون المعاصي، هؤلاء الذين يزخرفون القول، الذين يُسَمُّون الأشياء بغير مسمياتها؛ فيسمون الخمر بغير اسمها، ويُسَمُّون الدعارة بغير اسمها، ويُسَمُّون اللاتي رَفَعْنَ برقع الحياء بالفنانات؛ تلك التي تخلع ملابسها أمام الرجال، وتتراقص وتتمايل؛ إذا مَرِضَت عُولِجَت؛ وإذا ماتت شُيِّعَت، وإذا وإذا، سموا ذلك فناً، أهو فن أم هو عصيان وتمرد؟ أم هو خلع لبرقع الحياء؟ هاتي الخمر تباع علناً، وتُصنَع بين أظهرنا تحت دعوى تشجيع السياحة، هاتي الفنون الشعبية وما ألقوه من أسماء على مسميات ما أنزل الله بها من سلطان ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [سورة الأعراف آية: 71] هؤلاء دعاة على أبواب جهنم، ها هي وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً إما تفتحها، وإمّا تراها أو تسمعها أو تقرؤها إلا، وتدعوك إلى العصيان، إلى التمرد. فشياطين الإنس أخطر من شياطين الجن، شيطان الجن إذا وَسْوَسَ، واستَعَذْتَ بالله خَنَس ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ ربنا القائل، ويقول: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ لكن شياطين الناس كيف نَتَّقِيهِم وكلامهم ملء الآذان وأصواتهم عالية وأدواتهم كثيرة قادرة بل قاهرة، فهي في البيوت تدخل عليك دون استئذان، يراها أبناؤك، وتسمعها بناتك، وهكذا، لذا كان في الناس شياطين أخطر من شياطين الجن. والاستعاذة بالله ﴿تبارك وتعالى﴾ واجبة من كل هؤلاء مع التوكل على الله والاعتماد على الله وكثرة ذِكرِ الله، والانضمام إلى الجماعة والوئام والتآخي والتحابب في الله والاجتماع على كلام الله، فذاك هو الحصن، أما أن تنفرد بنفسك تأكلك السباع، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ﴾.
وتَمَّت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، لا مُبَدِّلَ لكلماته وهو السميع العليم. سُئِلَ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ عن أحب الأعمال إلى الله فقال: "الحَالُّ الـمُرْتَحِل"، قيل: وإرسال الله وما الحَالُّ الـمُرْتَحِل؟ قال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "الذي يَضرِبُ من أول القرآن إلى آخره، إذا حَلَّ ارتَحَل". نَعَم، صدق الله العظيم، وبَلَّغَ نبيه الكريم، ونحن على ذلك من الشاهدين.