سورة الإخلاص

لقاؤنا مع خَتْمِ القرآن الكريم، لقاؤنا مع ثلاث سور مكية، مع الإخلاص، مع سورة التوحيد، مع ثلث القرآن، والعوذتين. سورة الإخلاص

قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدٌۢ ﴿4﴾
سورة الإخلاص نزلت إجابة على سؤال؛ فقد سأل المشركون نبينا (صلى الله عليه وسلم) قائلين: يا محمد صِفْ لنا ربك، أَمِن نحاس هو؟ أم من ذهب هو؟ أم من فضة هو؟ وقال بعضهم: انسِبْ لنا ربك. فنزل جبريل يقول للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾ سورة الإخلاص تَعدُلُ ثلث القرآن كما قال النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فقد خرج يوماً على أصحابه، وقال لهم: "احشُدُوا احشُدُوا -أي اجتمِعُوا- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد ثم خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾ ثم دخل". يقول الراوي: قال بعضنا لبعض إني أري ذلك خبراً جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ووقفوا وانتظروا فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال لهم: "إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إنها تعدل ثلث القرآن". وروى مسلم في صحيحة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الله تبارك، وتعالى جَزَّأَ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل "قل هو اللَّه أحد" جزءاً من أجزاء القرآن". قيل هي ثلث القرآن لأن فيها اسمين لم يَرِدَا في سواها من القرآن: الأَحَد، الصَّمَد. وقيل هي ثلث القرآن لأن الله (تبارك، وتعالى) جعل الثلث أحكاماً، وجعل الثلث الآخر قصصاً، وجعل الثلث الثالث التوحيد والصفات، وقد جمعت هذه السورة -على قِصَرِها فهي أربع آيات-صفات الجلال والكمال لله العالي المتعال. كان الصحابة يحبونها، وقد سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً رجلاً يقرأ بها فقال: "وَجَبَت"، وكان معه أنس بن مالك فقال: يا رسول الله ما وَجَبَت؟ قال: "الجنة". وأرسل رجلاً على سَرِيَّة يوماً فكان يصلي بهم، وكان في كل ركعة يقرأ بـــــِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وحين رجعوا، وأخبروا النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "سَلُوهُ لِمَ يصنع ذلك" فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقالوا للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فقال لهم: "قولوا له إن الله يُحِبُّك". وفي مسجد قباء كان رجلاً من الأنصار يَؤُمُّهُم فكان كلما افتتح القراءة في ركعة قرأ، وافتتح بــــــــِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ في كل ركعة ثم يقرأ سورة أخرى، فقالوا له: إنك تقرأ بــــــــِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ في كل ركعة ثم ترى أنها لا تُجزِئُك فتقرأ بغيرها؟ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تقرأ بغيرها، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وحين ذهب إليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأخبروه، قال له: "ما منعك أن تصنع ما يأمرك به أصحابك وما حملك على ذلك؟ " قال: يا رسول الله إني أحبها، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إن حُبَّكَ لها أدخلك الجنة".
أحاديث كثيرة وردت في فضل هذه السورة، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ونَفَثَ فيهما وقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ثم مسح بكفيه ما استطاع من جسمه، يبدأ برأسه ووجهه فيمسح بها ثم ما أقبل من جسده. وكان إذا اشتكى فعل ذلك. وكان يتعوذ بالعوذتين. وتروي لنا عائشة عنه (صلى الله عليه وسلم): إنه كان إذا اشتكى تَعَوَّذَ بها، ومسح بجسده حتى إذا كان في مرض موته كانت هي تقرأ بهذه السورة ثم تمسح بيديه (صلى الله عليه، وسلم) رجاء بركته.
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ "هو": قد تكون ضمير الشأن؛ أي الشأن أن الله هو أحد. وقد تكون الإجابة على السؤال؛ سألوه: صِفْ لنا ربك، فيجيبهم: هو الله، هو الأحد. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ﴾ "الله": معرفة بالألف واللام، فهي العَلَم على الذات العلية، بمعنى أن هذه الكلمة "الله" جمعت صفات الكمال، "أَحَد" جمعت صفات الجلال. وكلمة أَحَد تفيد ثلاثة معانٍ: المعنى الأول أنه واحد في ذاته مُنَزَّه عن التركيب، وعن التَّجَزُّؤ، وعن الجِسْمِيَّة، وعما تقتضيه هذه الصفات من تركيب وجسميه وتجزؤ وما إلى ذلك، بل هو منزه عن كل ذلك، واحد في ذاته، ليس جسماً مصوراً، ولا جوهراً محدوداً مقدراً، واحد في ذاته لا يحل في سواه، وليس في ذاته سواه؛ أيضاً تعني أن الله ﴿تبارك وتعالى﴾ واحد لا ثاني له فهو الأحد، وجاء بلفظ ﴿أَحَد﴾ لأن كلمة ﴿واحد﴾ قد تفيد معنى العدد واحد اثنين ثلاثة، أما الأحد فلا يمكن أن يترتب عليها عدد، فهو الأحد الفَرْد لا ثاني له؛ ثم نَفَت أيضاً وجود الشريك أو المثيل أو النظير، فهو واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في أفعاله لا شريك له، ليس له ثان، ليس معه أحد، لا نظير له، لا شبيه له، لا مِثْلَ له، ليس كَمِثْلِهِ شيء وهو السميع البصير.
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وجاءت كلمة أَحَد بغير تعريف، بغير ألف ولام، نَكَّرَها (سبحانه، وتعالى) تعظيماً، وكأنه يُشعِرُنا بأن الله ﴿تبارك وتعالى﴾ لا تصل إلى كُنْهِ ذاته العقول، ولا يمكن أن يعرفه إنسان، هو يعرف نفسه، هو الله.
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ وكَرَّرَ لفظ الجلالة للإشعار بأن الألوهية الحقة لمن اتصف بهذه الصفات. الصَّمَد: الذي يُصمَدُ إليه في الرغائب، ويُستَعَان به على المصائب. الصَّمَد: السيد الأزلي الأبدي. الصَّمَد: الذي يحتاج إليه كُلُّ أَحَد، وهو غني عن كُلِّ أَحَد. صَمَدَ إليه: لجأ والتجأ إليه، فَالصُّمُود: الذي يُلجَأ إليه في الحوائج والرغائب. فربنا (تبارك، وتعالى) مستغنٍ عن كل أحد والكل محتاج إليه طوعاً وكَرْهاً، طبعاً واختياراً واضطراراً؛ فالشمس محتاجة إليه في شروقها، والأرض محتاجة إليه في دورانها، والكون كله محتاج إليه في بقائه، والإنسان محتاج إليه في كل شيء شاء أم أبى، فأنت تلجأ إليه، وتدعوه، فأنت حين تلجأ إليه، وتدعوه فأنت ملتجئ إليه اختياراً، وجسدك وظلك ملتجئ إليه اضطراراً، يسجد له الكل إما طوعاً، وإما كَرْهاً، حتى الظلال. هو الصمد الذي لا نظير له، ولا ند له، ولا مثيل له، الكل محتاج إليه، وهو مستغنٍ عن الكل، فقد كان، ولم يكن هناك أحد. ولم تأتِ واو العطف ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) ﴾ لأن الجملة الثانية، وكأنها نتيجة للجملة الأولى، أو هي دليل عليها. وجاء العطف في الجمل الثلاث التالية، وكأنها جملة واحدة، لأن الجمل الثلاث التالية تنفي عن الله (تبارك، وتعالى) النَّسَب من كل اتجاه: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾ ﴿ولم يكن له كُفْوَاً أحد﴾ ﴿ولم يكن له كفؤا أحد﴾ قراءات ثلاث كلها بمعنى واحد. ﴿لم يَلِد﴾: كما وَلَدَت مريم. ﴿ولم يُولَد﴾: كما وُلِدَ عيسى أو عُزَير. فهو رد على المشركين الذين زعموا أن المسيح ابن الله. ﴿لم يَلِد﴾ لأن الوَلَد من جنس الوالِد، وربنا الصمد الأحد لا شبيه له، ولا مثيل له. ثم إنَّ الأب يفنى، ويموت فالولد استمرار لأبيه، ولأن الأب حين يكبر يحتاج لمن يعاونه وربنا المستغني عن العون، بل هو العون لكل طالب للعون. وكيف يَلِد ولم تكن له صاحبه؟ وكيف يُولَد وهو الأزلي الأبدي لم يسبقه عَدَم، ولم ينفصل عن غيره، ولم ينفصل غيره عنه؟ فالجسمية والتشابه والجنسية كل ذلك مستحيل عليه، فهو لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كفواً أحد. الكفر والكُفْء: النظير، الند، المثيل، الشبيه. لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، هو الله، هو الله! وجاء العطف كما قلنا في الجمل الثلاث: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾ لنفي النَّسَب الذي زعمته النصارى واليهود، حيث قالت اليهود عُزَير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال مشركو مكة الملائكة بنات الله. فنفى (سبحانه، وتعالى) عن نفسه النَّسْلَ والنَّسَبَ والذرية، وأثبت لنفسه صفات الجلال والكمال والأزلية والأبدية.
أربع آيات جمعت صفات الجلال والكمال للعالي المتعال. هذه السورة تَعدُلُ ثلث القرآن في الثواب لمن قرأها. وقيل فيها أسرار كثيرة وفوائد جَمَّة لا حصر لها، ومن قرأها كانت له حصناً وبراءة من الشرك وبراءة من النفاق وعلامة على التوحيد الخالص، ولذا سميت سورة الإخلاص. يروي نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن رب العزة حديثه القدسي يقول فيه: "كَذَّبَني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشَتَمَني ابن آدم، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يُعِيدَني كما بدأني، وليس بدء الخلق بأهون عَلَيَ من إعادته، وأما شَتْمُهُ إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كُفُواً أَحَد".