القرآن الكريم / سورة النصر / التفسير المقروء

سورة النصر

تأتي سورة النصر في الترتيب بعد سورة الكافرون بالمصحف وبينهما ثلاث وعشرين سنة، أول البعثة وآخر الأمر؛ آخر البعثة. سورة النصر مدنية يقول الله ﴿تبارك وتعالى﴾ فيها:

إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ ﴿1﴾ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًۭا ﴿2﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابًۢا ﴿3﴾
هل نَزَلَت قبل الفتح؟ قالوا ذلك فهي بشارة بالفتح، وهي من أعلام النبوة. أو نزلت في مِنَى في حجة الوداع بعد الفتح.
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ أي: قد جاء نصر الله. نزلت السورة وقرأها النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ على أصحابه فاستبشروا، وكان من بينهم العباس عم النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فبكى، فقال له النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "يا عباس، يا عَمّ، ما يبكيك؟ " فقال العباس: نُعِيَت إليك نَفْسُك، فقال النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "إنها لَكُمَا قُلتَ"، وتقول السيدة عائشة ﴿رضي الله عنها﴾: بعدما نزلت سورة النصر كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يكثر من قول: "سبحانك اللهم وبحمدك اغفر لي" في ركوعه وسجوده. وتقول أم سلمة ﴿رضي الله عنها﴾: كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بعد نزول السورة إذا قام، وإذا قعد، وإذا جاء، وإذا ذهب يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي". بل كان عمر ﴿رضي الله عنه﴾ في خلافته يدعو أهل بدر يشاورهم- فهم أهل مشورته وأهل مجلسه- وكان يدعو معهم عبد الله بن العباس ﴿رضي الله عنهما﴾ فوجدوا في أنفسهم، وقالوا كيف يدعوه معنا، ومن أبنائنا من مثله؟ فعاتبوه، فدعاهم عمر يوماً ودعا عبدَ الله بن العباس معهم ثم سألهم: ما تقولون في قول الله ﴿تبارك، وتعالى ﴾ : ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾؟ فقالوا: أمر الله ﴿تبارك وتعالى﴾ نبيه إذا جاء نصر الله، وفُتِحَت مكة أن يسبح بحمد الله وأن يستغفره. فقال لعبد الله بن العباس: أتقول مثلهم؟ قال: لا ليست كذلك، وإنما أَعْلَمَ الله نبيَّهُ بأَجَلِه، فقال عمر: أتلومونني عليه؟ أو لا أَعلَمُ منها إلا ما تقول. سورة النصر تسمى سورة التوديع، وقد رُوِيَ عن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أنه بعد نزول هذه السورة اجتهد حتى تَوَرَّمَت قدماه، ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه.
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾، وعبر عن الحصول بالمجيء ﴿ إِذَا جَاءَ ﴾، ولم يقل ﴿إذا حصل﴾ إشعاراً بأن الأمور مقدرة من الأزل، وهذه المقدرات من الأزل تأتي في أوقاتها التي قَدَّرَها الله لها شيئاً فشيئاً. فالنصر تَقَدَّرَ من الأزل، وهو قادم إلى الحبيب المصطفى ﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ حتى يصل في موعده. من هنا قال: "إذا جاء". والنصر: العَوْن، إذا جاء نصر الله: أي عَونُك، عَوْنُ الله لك على مشركي مكة. والفتح: فتح مكة. أو هي عامة، النصر عموماً والفتح عموماً، فتح مكة وكل الأمصار.
﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾ الناس: كلمة عامة، ولكن أُرِيدَ بها الخصوص، أُرِيدَ بها العرب، فهو من الخاص الذي جاء بلفظ العام، العرب على الخصوص. ﴿يدخلون في دين الله أفواجاً﴾ فوجاً وراء فوج، جماعات جماعات. كان الناس يدخلون في الإسلام في أول البعثة أفراداً؛ رجل، امرأة، رجلان وهكذا، أما في آخر البعثة ربن يبشره، ويخبره أن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، جماعات، قبائل كاملة، ليسوا فرادى. وقد حدث ذلك، وتحقق القرآن، وتحققت البشارة، كان كثير من العرب الذين لم يدخلوا في الإسلام يقفون موقف الحياد، موقف الترقب، ها هو محمد يحارب قومه وعشيرته وقبيلته وأهله، ويحاربوه فانتظروا، فإن دخل مكة فهو صادق، وهو على الدين الحق لأن مكة حماها الله من قبل من أصحاب الفيل، ولم يُمَكِّن أصحاب الفيل من دخولها، فإن مَكَّنَ محمداً من دخولها فهو رسول الله حقاً. كان ذلك مبدأهم، وكانوا يترقبون ذلك اليوم أيدخل مكة؟ يفتح له؟ يُفتَحُ له البيت؟ يُخَلَّى بينه وبين الكعبة؟ إن حدث فهو صادق لا محالة، وإن لم يكن صادقاً فلا بد، أن يُمنَع كما مُنِعَ أصحاب الفيل. فحين فُتِحَت مكة، ودخل رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وكَسَّرَ الأصنام، وصلى في جوف الكعبة أسلم العرب جميعاً، ولم يبقَ في أرض الحجاز مشرك.
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ التسبيح: التنزيه، التنزيه لله ﴿تبارك وتعالى﴾ عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، تنزيه الذات عن الشريك وتنزيه الصفات عن المشابهة، فالله ليس كمثله شيء. سَبِّح لله : صَلِّ. سَبِّح لله: نَزِّهْهُ متلبساً بالحمد، حامداً لله على نِعَمِهِ الكثيرة التي خَوَّلَكَ إياها.
﴿ وَاسْتَغْفِرْهُ ﴾ واطلب منه المغفرة. أيطلب نبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ المغفرة؟ يستغفره عن أي شيء، وقد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ اختلف العلماء فمنهم من قال إن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾كان يستقذر نفسه إلى جوار من أنعم الله به عليه، فكان يرى ذلك موجبا للاستغفار، وكان يستغفر في اليوم والليلة مئة مرة كما حَدَّثَ هو عن نفسه. وقال بعضهم بل الاستغفار مما حدث منه خلافاً للأَولَى كما حدث في قصة عَبَسَ، وتَوَلَّى أو في فداء الأسرى يوم بدر أو في الإذن للمنافقين ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾. وقال بعضهم بل الاستغفار ليس لنفسه بل لأمته ﴿فسبح بحمد ربك واستغفره﴾ أي استغفره لأمتك، أما هو فقد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وقال بعض الناس الاستغفار عبادة، مجرد الاستغفار عبادة، تضرع إلى الله هضما للنفس تواضعاً لله، فأُمِرَ بالاستغفار لأن الاستغفار عبادة حتى لو لم يكن له ذنوب، ولو لم يكن هناك ما يدعو للاستغفار، فمجرد الاستغفار عبادة كالدعاء الدعاء مخ العبادة، وكذلك الاستغفار عبادة. وقال بعض الناس بل أَمَرَهُ ربُّه بالاستغفار تعليماً لأمته، وكأنه يقول لنا إذا كان سيد الخلائق جميعاً؛ من غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ صاحب اللواء المعقود والحوض المورود؛ الشهيد يوم القيامة على الشهود أمور بالاستغفار فكيف بكم؟ إذا كان هو مأمور بالاستغفار فكيف نفعل نحن؟ فهو تعليم للأمة وتنبيه حتى يُكثِرُوا من الاستغفار. لذا يقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كُلَّهُمٍ فَرَجَاً". ﴿واستغفره إنه كان تواباً﴾ كان تواباً يتوب على المستغفرين، ويتوب على المسبحين منذ أن خلق المكَلَّفين، هو ﴿سبحانه وتعالى﴾ يقبل التوبة عن عباده. والآية فيها الأمل والبشرى لكل مستغفر مصداقاً لقوله ﴿عز وجل ﴾ ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [سورة النساء آية:110]، وقد كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يُكثِرُ من الاستغفار، ويقول في استغفاره: ﴿اللهم اغفر لي خطئي وجهلي وعَمْدِي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قَدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ وما أَسْرَرْتُ وما أَعْلَنْتُ وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.