
القرآن الكريم / سورة الكوثر / التفسير المقروء
سورة الكوثر
يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك، يقول أنس بن مالك ﴿رضي الله عنه﴾: "بَينَا رسول الله عليه، وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: يا رسول الله ما أضحكك؟ فقال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أُنزِلَت عليَّ آنفاً سورة فيها خير كثير وقرأ:
إِنَّآ أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ ﴿1﴾
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ ﴿2﴾
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلْأَبْتَرُ ﴿3﴾
ثم قال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: نهر في الجنة به خير كثير، وهو حوض يوم القيامة أكوابه عدد النجوم فيُختَلَجُ العبد أي -يُؤْخَذُ، ويُنتَزَع يريد أن يشرب فَيُؤْخَذُ بعيداً-تشرب منه أمتي، حافتاه من ذهب، مجراه الدر والياقوت، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج وألين من الزبد، من شرب منه لا يظمأ، أكوابه عدد النجوم فيُختَلَجُ العبد فأقول إنه من أمتي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدث بعدك".
سورة الكوثر مكية على أرجح الأقوال. الكوثر: فوغل من الكثرة، والعرب تقول لكل شيء كَثُرَ حتى وصل إلى حد الإفراط بكوثر، لكل شيء كثير العدد أو كثير في الفضل أو كثير في أي شيء يقال عنه كوثر إذا كانت الكثرة تصل إلى حد الإفراط. والكوثر قال العلماء فيها الكثير؛ ما يزيد عن ستة عشر قولاً. قالوا الكوثر: القرآن. الكوثر: أمة النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾. قالوا الكوثر: الفتح. قالوا الكوثر: الخير الكثير، قالوا وقالوا وقالوا. وأصح الأقوال ما ورد في الصحيح، لأن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وصف لنا الكوثر، وأخبرنا عنه، وهؤلاء الذين أَوَّلُوا الكوثر بمعانٍ مختلفة قالوا إن التمثيل بالنهر مجرد تمثيل. لكنا نأخذ بظاهر اللفظ كما ورد في الصحيح: نهر في الجنة، هو حوض النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يقف عليه، ويسقي منه الأحباب، كل ظامئ من القوم عطشان من أمته، فإن شربوا لم يظمؤوا من بعدها أبداً. ربنا تبارك وتعالى يَمُنُّ على الحبيب المصطفى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ مبتدأً بقوله: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ "إنا" أصلاً: ﴿إنَّ﴾ و ﴿نحن﴾، وابتُدِئَ العطاء بحرف التأكيد الذي يجري مجرى القَسَم، وكأن الله يُقسِمُ له بالعطاء. ﴿إنا أعطيناك﴾ ولم يقل " أعطيتُك"، بل قال ﴿أعطيناك﴾ تفخيماً وتعظيماً للذات العلية ولشأن ما أعطاه لحبيبه. وجاء اللفظ بصيغة الماضي "أعطيناك" والكوثر يوم القيامة، لكن اللفظ بصيغة الماضي لإفادة التحقيق، وكأنه قد أعطاه فعلاً، وكأنه قد حازه فعلاً.
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وأنحر ﴾ أي طالما أعطاك ربنا هذا الخير الكثير والفضل العظيم فَصَلِّ له، فقد كان القوم يُصَلُّون لغير الله، وينحرون لغير الله. والنَّحْرُ مختص بالإبل، وهو كالذبح في البقر والغنم، البقر والغنم يُذبَح أما الإبل تُنحَر. والنَّحْر: الطَّعْن في اللَّبَّة؛ موضع النحر، هو ملتقى العنق مع الصدر مع عظام الترقوتين، مع عظام الصدر، هذه النقرة في آخر العنق هي موضع النحر. والإبل تُنحَر واقفة أما البقر والغنم يُذبَح. وحين يقول:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾ شَرَّفَه بنسبه إلى الله، ولم يقل: "فَصَلِّ لله" بل قال: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾ نَسَبَهُ إليه رفعة لقدرة وتشريفاً لشأنه ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ وكأنه يقول له هؤلاء يُصَلُّون لغير الله، وينحرون البُدْنَ للأوثان والأصنام، أما أنت فَصَلِّ لربك، وانحر لربك، داوم على الصلاة، واجعلها خالصة لوجه الله.
﴿ وَانْحَرْ ﴾ وأطعم المساكين. وكأن السورة ترد على هؤلاء الذين يَدُعُّون اليتيم، ولا يحضون على طعام المسكين، هؤلاء الذين في صلاتهم يراؤون ويمنعون الماعون. أما أنت يا خير خلق الله فَصَلِّ لربك، وداوم على إخلاص الصلاة لله، وداوم على نحر الإبل وإطعام المساكين وإعطاء المحاويج. وقال بعض الناس الكلام مختص بصلاة العيد، وقد كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ينحر ثم يصلي فأمره الله ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يصلي أولاً ثم ينحر: فَصَلِّ لربك، وانحر بعد الصلاة.
وقال بعض الناس بل هي مختصة بيوم مزدلفة: فَصَلِّ لربك في الجمع -يوم الجمع يوم مزدلفة-صَلِّ لربك بمزدلفة الفجر وانحر بِمنى. وقال بعض الناس بل هي مختصة بالحديبية، وهؤلاء قالوا إنَّها نزلت بالمدينة بالحديبية حين حُصِر، أراد العمرة فمنعته قريش، منعه كفار مكة حين أراد العمرة في عام صلح الحديبية، وقد أحرم، وساق البُدْنَ فربنا قال له:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾، وانصرِف بعد ذلك ثم تأتي بعد هذا العام.
والأعم أفضل، وعموم اللفظ أرجح.
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾ دُمْ على صلاتك، واجعلها خالصة لوجهه الكريم، وانحَر وتَصَدَّق وأطعم المساكين.
﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ الشانِئ: الـمُبغِضُ الكارِه. والشنآن: البُغض، الكراهية. ومنه قول الله ﴿تبارك وتعالى.
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [سورة المائدة آية:2] الشنآن: شَنَأَهُ وشناه: كَرِهَه وأَبغَضَه. الأَبْتَر: مقطوع الذَّنَب في الحيوان، فإذا أُطلِقَت على الإنسان مقطوع الولد، إذا مات أبناؤه الصبيان يقال له أبتر أي لا عَقِبَ له، وإن كان له بنات. يقال أيضاً الأبتر لكل مقطوع عن الخير لا نصيب له في الخير، لا ذكر له، لا حُسْنَ في ذِكرِه، ولا أثر له بعده من فعل صالح أو عمل صالح أو ذِكرٍ صالح للناس يقال أيضاً أبتر.
وقيل سبب الكلام إن كافراً من كفار مكة حين مات القاسم ابن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وهو بمكة ذهب، وقال للناس: لا تبالوا بمحمد فإن هلك انتهى ذِكرُه فقد بُتِر، هو أبتر، أي مات ابنه، ولم يكن له من الصبيان سوى القاسم، فنزلت السورة يقول له ربنا (تبارك، وتعالى) ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ مبغضك هو الأبتر المقطوع خبره، المقطوع ذِكرُه، أما أنت فلست بأبر، فأمتك إلى أن تقوم الساعة أعظم الأمم فضلاً وأكثرهم عدداً، وأنت كوالدٍ لهم، فإن لم يكن لك بنون فكل أمتك أولادك، وأنت والد لهم، فكيف تكون أبترا وهؤلاء جميعاً أبناؤك، وإلى أن تقوم الساعة؟ الخير فيه وفي أمته إلى أن تقوم الساعة، ذِكرُهُ على المنائر، وعلى المنابر إلى أن تقوم الساعة، لا يُذكَرُ الله إلا، ويُذكَرُ معه، ما يُذكَر إلا، وتصلي عليه الملائكة في الملأ الأعلى، ويصلي عليه الناس، مرفوع الشأن مرفوع الذِّكْر ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الآية فيها العموم بغض النظر عن السبب أو الخصوص لأنها فيها إفادة الحصر بقوله "إنَّ" ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ الصياغة اللغوية أفادت الحصر، وهي سارية إلى أن تقوم الساعة، ما يكره أحدٌ النبيَّ ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ إلا، وقُطِعَ ذِكرُه ونسلُه وخيرُه، ولا ينال خيراً أبداً، لا دنيا، ولا أخرى -أي ورب الكعبة-لا يكرهه إلا أبتر مقطوعٌ ذِكرُه مقطوعٌ خيرُه مقطوعٌ نسلُه مقطوعٌ من كل خير دنيا وأخرى.
أما الأحباب والمحبون له ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فهم الناجون، حبه حبل النجاة، من أحبه أحبه الله -أي وربي-هو المفتاح، هو الباب، هو الطريق إلى الله، ولو آمن رجل بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعاً، وكفر بمحمد واللهِ لن يدخل الجنة، ولن يُقبَلَ منه إيمانٌ أبداً، هو الباب، هو الخير، هو الرحمة المهداة، هو الشفيع، هو مِفتَاحُ كل خير ومِغلَاقُ كل شر. بل هو ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يبين لنا أنه لا نجاة إلا بحبه، بل ولا إيمان كامل إلا بحبه حيث يقول ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وهو الصادق المصدوق: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أَحَبَّ إليه من نَفْسِهِ ووَلَدِه﴾. وفي يوم يجلس بين أصحابه ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، ويقول: "أحبائي، أحبائي" فيقول الصحابة: نحن يا رسول الله؟ فيقول: "لا، بل أنتم أصحابي. أحبائي أحبائي"، قالوا: ومن هؤلاء وإرسال الله؟ قال: "قوم يأتون بعدي -يأتون من بعدكم- لم يروني يود أحدهم لو يراني بأهله وماله وولده" ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ هو السَّنَد، هو الشفيع، هو الحبيب، هو المولى.
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [سورة الأحزاب آية: 6] هو المولى، هو الحبيب، هو الشفيع، هو الرحمة، هو المفتاح، هو الطريق، هو حبل النجاة، هو سيد الخلق أجمعين، هو حبيب الله، من أَحَبَّهُ أَحَبَّهُ الله.
سورة الكوثر مكية على أرجح الأقوال. الكوثر: فوغل من الكثرة، والعرب تقول لكل شيء كَثُرَ حتى وصل إلى حد الإفراط بكوثر، لكل شيء كثير العدد أو كثير في الفضل أو كثير في أي شيء يقال عنه كوثر إذا كانت الكثرة تصل إلى حد الإفراط. والكوثر قال العلماء فيها الكثير؛ ما يزيد عن ستة عشر قولاً. قالوا الكوثر: القرآن. الكوثر: أمة النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾. قالوا الكوثر: الفتح. قالوا الكوثر: الخير الكثير، قالوا وقالوا وقالوا. وأصح الأقوال ما ورد في الصحيح، لأن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وصف لنا الكوثر، وأخبرنا عنه، وهؤلاء الذين أَوَّلُوا الكوثر بمعانٍ مختلفة قالوا إن التمثيل بالنهر مجرد تمثيل. لكنا نأخذ بظاهر اللفظ كما ورد في الصحيح: نهر في الجنة، هو حوض النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يقف عليه، ويسقي منه الأحباب، كل ظامئ من القوم عطشان من أمته، فإن شربوا لم يظمؤوا من بعدها أبداً. ربنا تبارك وتعالى يَمُنُّ على الحبيب المصطفى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ مبتدأً بقوله: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ "إنا" أصلاً: ﴿إنَّ﴾ و ﴿نحن﴾، وابتُدِئَ العطاء بحرف التأكيد الذي يجري مجرى القَسَم، وكأن الله يُقسِمُ له بالعطاء. ﴿إنا أعطيناك﴾ ولم يقل " أعطيتُك"، بل قال ﴿أعطيناك﴾ تفخيماً وتعظيماً للذات العلية ولشأن ما أعطاه لحبيبه. وجاء اللفظ بصيغة الماضي "أعطيناك" والكوثر يوم القيامة، لكن اللفظ بصيغة الماضي لإفادة التحقيق، وكأنه قد أعطاه فعلاً، وكأنه قد حازه فعلاً.
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وأنحر ﴾ أي طالما أعطاك ربنا هذا الخير الكثير والفضل العظيم فَصَلِّ له، فقد كان القوم يُصَلُّون لغير الله، وينحرون لغير الله. والنَّحْرُ مختص بالإبل، وهو كالذبح في البقر والغنم، البقر والغنم يُذبَح أما الإبل تُنحَر. والنَّحْر: الطَّعْن في اللَّبَّة؛ موضع النحر، هو ملتقى العنق مع الصدر مع عظام الترقوتين، مع عظام الصدر، هذه النقرة في آخر العنق هي موضع النحر. والإبل تُنحَر واقفة أما البقر والغنم يُذبَح. وحين يقول:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾ شَرَّفَه بنسبه إلى الله، ولم يقل: "فَصَلِّ لله" بل قال: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾ نَسَبَهُ إليه رفعة لقدرة وتشريفاً لشأنه ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ وكأنه يقول له هؤلاء يُصَلُّون لغير الله، وينحرون البُدْنَ للأوثان والأصنام، أما أنت فَصَلِّ لربك، وانحر لربك، داوم على الصلاة، واجعلها خالصة لوجه الله.
﴿ وَانْحَرْ ﴾ وأطعم المساكين. وكأن السورة ترد على هؤلاء الذين يَدُعُّون اليتيم، ولا يحضون على طعام المسكين، هؤلاء الذين في صلاتهم يراؤون ويمنعون الماعون. أما أنت يا خير خلق الله فَصَلِّ لربك، وداوم على إخلاص الصلاة لله، وداوم على نحر الإبل وإطعام المساكين وإعطاء المحاويج. وقال بعض الناس الكلام مختص بصلاة العيد، وقد كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ينحر ثم يصلي فأمره الله ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يصلي أولاً ثم ينحر: فَصَلِّ لربك، وانحر بعد الصلاة.
وقال بعض الناس بل هي مختصة بيوم مزدلفة: فَصَلِّ لربك في الجمع -يوم الجمع يوم مزدلفة-صَلِّ لربك بمزدلفة الفجر وانحر بِمنى. وقال بعض الناس بل هي مختصة بالحديبية، وهؤلاء قالوا إنَّها نزلت بالمدينة بالحديبية حين حُصِر، أراد العمرة فمنعته قريش، منعه كفار مكة حين أراد العمرة في عام صلح الحديبية، وقد أحرم، وساق البُدْنَ فربنا قال له:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾، وانصرِف بعد ذلك ثم تأتي بعد هذا العام.
والأعم أفضل، وعموم اللفظ أرجح.
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَانْحَرْ ﴾ دُمْ على صلاتك، واجعلها خالصة لوجهه الكريم، وانحَر وتَصَدَّق وأطعم المساكين.
﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ الشانِئ: الـمُبغِضُ الكارِه. والشنآن: البُغض، الكراهية. ومنه قول الله ﴿تبارك وتعالى.
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [سورة المائدة آية:2] الشنآن: شَنَأَهُ وشناه: كَرِهَه وأَبغَضَه. الأَبْتَر: مقطوع الذَّنَب في الحيوان، فإذا أُطلِقَت على الإنسان مقطوع الولد، إذا مات أبناؤه الصبيان يقال له أبتر أي لا عَقِبَ له، وإن كان له بنات. يقال أيضاً الأبتر لكل مقطوع عن الخير لا نصيب له في الخير، لا ذكر له، لا حُسْنَ في ذِكرِه، ولا أثر له بعده من فعل صالح أو عمل صالح أو ذِكرٍ صالح للناس يقال أيضاً أبتر.
وقيل سبب الكلام إن كافراً من كفار مكة حين مات القاسم ابن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وهو بمكة ذهب، وقال للناس: لا تبالوا بمحمد فإن هلك انتهى ذِكرُه فقد بُتِر، هو أبتر، أي مات ابنه، ولم يكن له من الصبيان سوى القاسم، فنزلت السورة يقول له ربنا (تبارك، وتعالى) ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ مبغضك هو الأبتر المقطوع خبره، المقطوع ذِكرُه، أما أنت فلست بأبر، فأمتك إلى أن تقوم الساعة أعظم الأمم فضلاً وأكثرهم عدداً، وأنت كوالدٍ لهم، فإن لم يكن لك بنون فكل أمتك أولادك، وأنت والد لهم، فكيف تكون أبترا وهؤلاء جميعاً أبناؤك، وإلى أن تقوم الساعة؟ الخير فيه وفي أمته إلى أن تقوم الساعة، ذِكرُهُ على المنائر، وعلى المنابر إلى أن تقوم الساعة، لا يُذكَرُ الله إلا، ويُذكَرُ معه، ما يُذكَر إلا، وتصلي عليه الملائكة في الملأ الأعلى، ويصلي عليه الناس، مرفوع الشأن مرفوع الذِّكْر ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الآية فيها العموم بغض النظر عن السبب أو الخصوص لأنها فيها إفادة الحصر بقوله "إنَّ" ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ الصياغة اللغوية أفادت الحصر، وهي سارية إلى أن تقوم الساعة، ما يكره أحدٌ النبيَّ ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ إلا، وقُطِعَ ذِكرُه ونسلُه وخيرُه، ولا ينال خيراً أبداً، لا دنيا، ولا أخرى -أي ورب الكعبة-لا يكرهه إلا أبتر مقطوعٌ ذِكرُه مقطوعٌ خيرُه مقطوعٌ نسلُه مقطوعٌ من كل خير دنيا وأخرى.
أما الأحباب والمحبون له ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فهم الناجون، حبه حبل النجاة، من أحبه أحبه الله -أي وربي-هو المفتاح، هو الباب، هو الطريق إلى الله، ولو آمن رجل بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعاً، وكفر بمحمد واللهِ لن يدخل الجنة، ولن يُقبَلَ منه إيمانٌ أبداً، هو الباب، هو الخير، هو الرحمة المهداة، هو الشفيع، هو مِفتَاحُ كل خير ومِغلَاقُ كل شر. بل هو ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يبين لنا أنه لا نجاة إلا بحبه، بل ولا إيمان كامل إلا بحبه حيث يقول ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وهو الصادق المصدوق: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أَحَبَّ إليه من نَفْسِهِ ووَلَدِه﴾. وفي يوم يجلس بين أصحابه ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، ويقول: "أحبائي، أحبائي" فيقول الصحابة: نحن يا رسول الله؟ فيقول: "لا، بل أنتم أصحابي. أحبائي أحبائي"، قالوا: ومن هؤلاء وإرسال الله؟ قال: "قوم يأتون بعدي -يأتون من بعدكم- لم يروني يود أحدهم لو يراني بأهله وماله وولده" ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ هو السَّنَد، هو الشفيع، هو الحبيب، هو المولى.
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [سورة الأحزاب آية: 6] هو المولى، هو الحبيب، هو الشفيع، هو الرحمة، هو المفتاح، هو الطريق، هو حبل النجاة، هو سيد الخلق أجمعين، هو حبيب الله، من أَحَبَّهُ أَحَبَّهُ الله.