
سورة قريش
لقاؤنا مع سورة مكية، وهي سورة قريش. قريش: اسم قبيلة النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾. والاسم مشتق من التقرح، التقرح: هو التَّجَمُّع، لأنهم اجتمعوا بعد اختلاف. الاسم مشتق من التقرح: بمعنى التَّكَسُّب، لأنهم كانوا يتكسبون بالتجارة. أو اشتُقَّ من القِرْش، والقِرْشُ دابة في البحر عظيمٌ أمرُها وكبيرٌ خطرُها تأكل، ولا تؤكل، تعلو، ولا تُعلَى، فاشتقوا اسمهم من اسم هذه السمكة أو تلك الدابة-القِرْش- وصَغَّرُوه للتفخيم فَسُمُّوا قُرَيْش، وذلك أرجح الأقوال. قبيلة قريش لم تكن ذات زرع، ولا ضرع، فهم سلالة ذرية إسماعيل حيث أسكن ذريته بوادٍ غير ذي زرع، ودعا الله لهم بالأمن والأمان فَمَنَّ الله عليهم بنعمتين؛ نعمة الأمن والاستقرار، ونعمة الغِنَى واليَسَار. وكانت لهم رحلتان؛ رحلة إلى الشام في الصيف فهي بلاد باردة، ورحلة إلى اليمن في الشتاء فهي بلاد حارة.
وكان في ذلك الوقت، وتلك الأيام -أيام الجاهلية-الناس بين مُتَخَطَّف ومنهوب، تُغِيرُ القبائل بعضُها على بعض، ويَسْبِي بعضُهُم من بعض، ولا يأمن الإنسان على نفسه إذا ارتحل، فهو مخطوف أو منهوب. لكن قريش كانت تسافر في أمن وأمان، وإن تَعَرَّضَ لهم أحد أو عَرَضَ لهم عارِض قالوا: نحن أهل بيت الله، نحن أهل حَرَمِ الله، فكانت الناس تهابهم، ولا يتعرضون لهم بأذى في هذه الرحلات. كانوا يأتون في هذه الرحلات بالطعام والثياب، ويربحون في الذهاب والإياب. وجاءت حادثة الفيل فزادت رهبتهم في قلوب الملوك والأمراء، وقال الناس لقد دافع الله عنهم، وحماهم وحارب نيابةً عنهم، فَعَظِّمُوهم وأَمِّنُوهُم، ولا تتعرضوا لهم بأذى. وبُعِثَ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ منهم، يعرفونه ويعرفون نسبه، يعرفون صِدْقَه، يعرفون أمانته، فكانوا أول مُكَذِّبٍ به، كَذَّبُوه وآذوه وحاربوه. فنزلت سورة قريش، وكأنها عتاب من الله ﴿تبارك وتعالى﴾ لهؤلاء، يُذَكِّرُهُم بنعمته عليهم، ويُذَكِّرُهُم بأن البيت الذي أَمَّنَهُم، ونالوا الشرف بجوارهم له هو ربه، فكيف يملؤونه بالأوثان والأصنام؟ وكيف يعتزون ببيتٍ، وقد كفروا بإلهه وربه؟ يقول الله (تبارك وتعالى).
لِإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ ﴿1﴾
إِۦلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ ﴿2﴾
فَلْيَعْبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ﴿3﴾
ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍۭ ﴿4﴾
﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴾ والكلمة مُطلَقَة "إيلاف"، جاء بصيغة الإطلاق ثم خَصَّصَها فقال: ﴿ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾ ﴿ إِيلَافِهِمْ ﴾ تكرير للأولى، تخصيص لهذه الكلمة المطلقة.
﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴾ : آلَفَ ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ قريش، آلفهم ماذا؟ آلَفَهُم الرحلتين، فمن أجل هذا إن لم يعبدوه لنِعَمِهِ التي لا تُعَدُّ، ولا تُحصَى فليعبدوه لهاتين النعمتين فقط! وَقَرَأْت ﴿ لإيلاف قريش ﴾ بغير ياء ﴿ إيلافهم ﴾ ﴿ إِلْفِهِم ﴾ ﴿ إيلافهم ﴾ ﴿ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾ ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ يُبَيِّن، ويُذَكِّر بالنعمتين، وكأنه يقول: يا معشر قريش إذا لم تعبدوا الله تبارك، وتعالى لكل ماحييكم به فاذكروا الأمن والأمان، اذكروا الرحلتين كيف أمنتم، وكيف خافكم الناس.
﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴾، وجاءت الفاء لترتيب الكلام، لأن الكلام فيه معنى الشرط فجاءت الفاء لأن الكلام الأول ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾ فيه معنى الشرط فجاء بالفاء جزاءً ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴾، وجاءت الإضافة لأمور؛ أولا :كانوا يعبدون الأوثان، يملؤون بها البيت الحرام فَذَكَّرَهُم ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ ونَزَّهَ نفسه، هو رب هذا البيت، وليست تلك الأصنام، وأضاف البيت إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً لهذا البيت المعظم، وذَكَّرَهُم بأن هذا البيت الذي نلتم الشرف بانتسابكم إليه هو ربه، فكيف تتركونه؟ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴿ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ﴾، وجاءت كلمة "جوع" نكرة وكلمة "خوف"نكرة ليبين لك شدة الجوع الذي كانوا فيه وشدة الخوف الذي أصابهم حينما جاء جيش الأحباش، ومعهم الفيل ليهدموا البيت، ويصيبوا نساءهم وذراريهم، كيف أَمَّنَهُم؟ كيف أطعمهم؟ وليست هذه الأصنام أو تلك الأوثان.