القرآن الكريم / سورة الفيل / التفسير المقروء

سورة الفيل

مقدمة
تأتي بعد سورة الْهُمَزَة سورة الفيل. وسورة الفيل سورة مكية، وهناك رأي بأنها مدنية. سورة الفيل مكية نزلت بمكة تُذَكِّر بأمور. تُذَكِّر بفضل الله ﴿تبارك وتعالى﴾ على قريش، وتُذَكِّر الناس بانتقام الله ﴿تبارك وتعالى﴾ من الجبابرة، وتُبَيِّن أن حادثة الفيل كانت إرهاصاً لبعثة النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فهي من المعجزات التي تأتي قبل بعثة الأنبياء. وقد وُلِدَ نبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ في عام الفيل، وقيل بعده بخمسين يوماً. سورة الفيل نزلت تُذَكِّر بهذه القصة؛ كان في اليمن أمير من قبل النجاشي ملك الحبشة، وأراد أن يَستَدِرَّ إعجاب الملك -ينافقه- فبنى له كنيسة وسماها القابس، والجليس كنيسة لم يُبْنَ مثلها في عصرها، وأرسل إلى الملك، وأخبره أنه بنى له كنيسة لم يُبنَ مثلها، وسوف يحول الحجيج من الكعبة إلى كنيسته، وسمع بذلك رجلاً من كنانة من العرب فاغتاظ فذهب إلى القابس بالليل، وتغوط فيها ولوث جدرانها بالنجاسة ثم هرب، فعلم بذلك أبرهة ملك اليمن أو أمير اليمن من قبل النجاشي -أبرهة الأشرم ذاك اسمه- فاغتاظ، وحلف لَيُهَدِّمَنَّ البيت الذي تحج له العرب، وجهز جيشان من الأحباش، وجاء بفيل عظيم هو أضخم فيل في ذلك الوقت، وتوجه بجيشه إلى مكة، ونزل قبيل مكة -يقال عند عرفة- وأرسل قائد إليه يتحسس الأخبار، فذهب واستولى على إبل وغنم تسرح، وترعى لأهل مكة، منها مئة بعير لعبد المطلب سيد قريش، وعاد وأرسل هذا القائد لمكة مندوباً يسأل عن سيد مكة، فذهب المندوب، وقال له: لا نريد حربكم، وإنما جئنا لهدم البيت فإن تركتمونا وما نريد تركناكم. فإن كان لا ينوي حربنا -إذا كان سيد مكة لا ينوي حربنا-فأتوني به. فجاؤوا بعبد المطلب وكان وسيماً جسيماً جميلاً ذا مهيبة، فاستقبله أبرهة خير استقبال، وأجلسه وجلس إلى جواره، وقال: ما نريد حربكم، وإنما نريد هدم البيت فما حاجتك؟ قال: استولى جيشك على مئة بعير لي رُدَّهَا عليَّ، قال: لقد كَبِرْتَ، وعَظُمْتَ في عيني حينما رأيتُك والآن صَغُرْتَ! جِئتُ أهدم بيتَ آبائك، دينك ودين آبائك، وتطالبني بمئة بعير؟ فقال عبد المطلب: أما البعير فأنا ربها، وأما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فللبيت رب يحميه. فَرَدَّ عليه إِبِلَه، وعاد عبد المطلب وتمسك حدق الكعبة ودعا الله ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يحمي بيته، وهَمَّ الملك بالدخول إلى الكعبة لهدمها، وتوجه قِبَلَ البيت فَبَرَكَ الفيل، فأوسعوه ضرباً فلم يَقُم، فَوَجَّهُوه قِبَلَ اليمن فهرول ثم وجهوه قِبَلَ الشام فهرول، كلما وجهوه في جهة هرول إليها، وإذا جاؤوا به في اتجاه البيت بَرَكَ ولم يتحرك. وحدثت المعجزة وانتقم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ من الجبار، وحمى بيته فأرسل طيراً، والطيور لا تقتل، ما من طير يقتل أبداً، بل الطيور من أضعف المخلوقات، أرسل الله ﴿تبارك وتعالى﴾ طيراً صغيراً لم ير مثله، ومع كل طائر ثلاثة أحجار أصغر من الحمصة وأكبر من حبة العدس، حبة في منقار، وفي كل رجل حبة، وجاءت الطيور من قِبَلَ البحر، وأرسلت الأحجار على جيش أبرهة فكانت الحصوة أو الحجر يقع على رأس الرجل فيدخل في جسمه، ويخرج من دبره، نفض جلدهم بمجرد الإصابة، وقيل ذاك أول الجدري على الأرض، أصيبوا بهذه الأحجار، ووَلُّوا مسرعين مدبرين هاربين، وتساقطوا في الطريق في عودتهم، في طريق عودتهم إلى اليمن، وأما قائدهم فقد مُزِّقَ أُنمُلَةً أُنمُلَة، تمزقت الأجساد، يمشي فتقع أصابعه، ويمشي فيفقد ذراعه وهكذا. وقيل بل دخلت الأحجار في رءوسهم وحين خرجت من دبرهم تركتهم بغير أحشاء، خرج كل شيء من أجسادهم، مَزَّقَهم ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ شَرَّ مُمَزَّق، وقُتِلُوا جميعاً ما عدا رجل واحد، قيل بل هو أبرهة ومعه لفيف بسيط من جنوده حتى وصلوا إلى اليمن، وقَصُّوا على أهلها ما حدث ثم ماتوا حتى ينتشر الخبر، وحتى يكونوا عبرة لغيرهم. عَظُمَ أمر قريش في نفوس الناس، وكانت الناس في ذلك الوقت إما مُتَخَطَّف وإمّا منهوب، كانوا يُغِيرُون على بعضهم البعض، يَسبُون الذراري والنساء، وينهبون الأموال والتجارات والقوافل. أما قريش فلم يكن يتعرض لهم أحد أبداً في تجاراتهم لأنهم كانوا يقولون نحن أهل بيت الله وحَرَمِ الله، فكانت لهم الهيبة في نفوس القبائل والملوك والأمراء، وحين حدثت حادثة الفيل زادت هيبتهم في نفوس الناس فعاشوا في أمن واستقرار. وبُعِثَ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بعد حادثة الفيل بأربعين عاماً فآذوه وكذبوه. ونزلت السورة تخبرهم بقصة أصحاب الفيل، والخطاب في أولها مُوَجَّه لسيد الخلائق ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ولكنه عام.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـٰبِ ٱلْفِيلِ ﴿1﴾ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍۢ ﴿2﴾ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿3﴾ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍۢ مِّن سِجِّيلٍۢ ﴿4﴾ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍۢ مَّأْكُولٍۭ ﴿5﴾
والسؤال وإن كان في صيغة الاستفهام، وإنما هو للتقرير. سؤال لا يحتاج إلى الإجابة، سؤال تقريري. ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ﴾، ولم يقل: ﴿ألم تر ما فعل ربك ﴾. ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ﴾ للمبالغة في تذكير المستمعين بالكيفية؛ كيفية الأخذ، كيفية أخذ الله ﴿تبارك وتعالى﴾ أَخْذَ عزيزٍ مُقتَدِر. فجاء بكلمة "كيف" لَتَوَهُّم وتَخَيُّل الكيفية. وخاطب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وكأنه يعلم، وكأنه قد رأى، لأن حادثة الفيل سمعها الكل، سمعوها بالتواتر، ورأوا آثارها فكأنهم عَلِمُوها، وشَهِدُوها، ولذا سألهم مُقَرَّرًاً.
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ , ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ والكيد: المكر بحيلة، مكرهم كان هدم البيت، هدم بيت الله، هدم مكة، تحويل الحجيج إلى كنيستهم. ألم يجعل كيدهم في تضليل: في ضياع، في خسران، لم يأت بنتيجة، ضاع كيدهم هباءً.
﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾ أبابيل: اسم جمع لا مفرد له من لفظه. وقيل بل هو جمع إبالة، والإبالة: حزمة الحطب المجتمعة. وقيل بل هو جمع إبِّيل كَسِكِّين وسكاكين. والأبابيل: الجماعات المتفرقة التي تأتي من كل اتجاه ومن كل جانب. جاءت إبلة أبابيل أو مُؤَبَّلة: مجتمعة الطير مجتمع وآت من كل مكان.
﴿ تَرْمِيهِمْ ﴾ وقُرِئت: ﴿ يَرْمِيهِم ﴾. ﴿ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ (سِجِّيل): الحجارة من طين التي طُبِخَت بنار جهنم. وقيل سِجِّيل: مشتقة من الإسجال وهو الإرسال. وقيل بل مشتقة من السِّجِلِّ الذي دُوِّنَ فيه، السِّجِلّ: ما يُدَوَّن فيه، السِّجِّيل: كتاب دُوِّنَ فيه أصناف العذاب للكفار، وسِجِّين: ما دُوِّنَ فيه من أعمال الكفار، السِّجِّين: سِجِلٌّ دُوِّن فيه أعمال الكفار، والسِّجِّيل: دُوِّنَ فيه أصناف العذاب والخسف والتدمير والمطر الذي نزل على قوم لوط وهكذا.
طَيْرًا أَبَابِيلَ﴿ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ﴾ العَصْف: قِشر الحَبِّ، قشر القمح، ذاك هو العَصْف. وسمي عَصْفَاً لأن الرياح تَعصِفُ به فتطيره. جعل هؤلاء الناس الذين أرادوا هدم الكعبة كعَصْف، كقشر التِّبْن، وليس التبن وقشر الحب فقط بل المأكول منه أي ما راثته البهائم، فجعلهم كعصفٍ مأكول يشبه العصف إذا أكلته البهائم وهضمته ثم راثته فأصبحوا كالروث. وأنت إذا نظرت إلى البهيمة إذا راثت تجدها تمشي فتقضي حاجتها على مراحل فتجد الروث متفرقاً حسب اتجاه البهيمة، كتلة ثم كتلة وهكذا، لو نظرت إليهم لوجدتهم في الطريق هكذا بعضهم ملقى، ثم تمشي قليلاً فتجد البعض الآخر ملقى على الطريق من مكة إلى اليمن، منتشرون مُفَرَّقُون كالروث، جعلهم ربنا كعصف مأكول. سورة الفيل فيها امتنان عظيم على النبي ﴿ صلى الله عليه وسلم﴾ إذ أن الحادثة إرهاص بمبعثه. وفيها امتنان على قريش. وفيها بيان لشرف البيت وأن من أراد البيت بسوء دمره الله. وفيها أيضاً إنذار وتهديد من الجبار؛ تهديد لهؤلاء الذين كَذَّبُوا رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أن يصيبهم مثل ما أصاب أصحاب الفيل فهو ينبههم ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ إياكم وأن يصيبكم مثل ما أصابهم. أيها الأخ المسلم؛ هذه الحجارة الصغيرة التي أُمطِرَت من قبل على قوم لوط، هذه الحجارة ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ يقول في شأنها
﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [سورة هود آية:83] فقال العلماء إن هذه الحجارة موجودة مخزونة، تنزل إذا أراد الله لها ذلك، لم تَفْرَغ، نزلت على قوم لوط ونزلت على أصحاب الفيل وممكن أن تنزل في أي وقت على كل من فعل فعل هؤلاء.
أيها الأخ المسلم؛ الأيام تمضي والعمر ينقضي والعبد بين مخافتين؛ بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فيجب على الكَيِّسِ العاقل أن يأخذ من نفسه لنفسه، فيأخذ من شبابه لهِرَمِه، ومن صحته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن غناه لفقره.

أيها الأخ المسلم؛ اتق الله وعُدْ إليه واصطلح معه. ربنا تبارك وتعالى غفار الذنوب وستار العيوب، وإذا ارتكب الإنسان من المعاصي والذنوب ما يملأ بحراً ثم استغفر وجد الله غفوراً رحيماً، وصَدَقَ ربي حيث يقول: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [سورة النساء آية: 110]