القرآن الكريم / سورة العصر / التفسير المقروء

سورة العصر

لقاؤنا مع سورة هي ثلاث آيات غاية في الإيجاز والبيان، قال فيها إمامنا الشافعي: لو لم يُنزِل ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ غيرها لَكَفَتِ الناس. سورة العصر سورة مكية نزلت بمكة. أقسم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ في أولها بالعصر.

وَٱلْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ ﴿3﴾
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ : أهو وقت العصر كما أقسم بالضحى؟ أم هي صلاة العصر -الصلاة الوسطى-لفضلها أقسم بها؟ العصر: آخر ساعة من ساعات النهار. أو هو عصر النبوة، عصر النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ خير العصور وخير القرون. أو هو الزمان والدهر، وذاك أرجح الأقوال. العصر: الزمان، الدهر كله لما فيه من أعاجيب وتقلب الأحوال وتغير المقادير، وتحول الغني إلى فقير والفقير إلى غني، والصحة إلى مرض والشباب إلى هَرَم. العصر فيه أفعال الله ﴿تبارك وتعالى﴾ فيه تصاريف المقادير، فيه الأرزاق، فيه تَقَلُّبُ الليل والنهار، فيه كل شيء يدل على وجود الواحد القهار.
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ أقسم ربنا بالعصر، ولله أن يُقسِمَ بما شاء على ما يشاء تعظيماً لشأن المقسَم به وتنبيهاً لخطورة ما أقسم عليه. ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ الإنسان: أهو الكافر؟ الإنسان: هو مطلق الإنسان؟ كل الناس وذاك أرجح، الآية خاصة بالناس جميعاً، وليست للكافر فقط ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ خُسْر: خُسْرَان، نَقْص، هلكة، عذاب، ضياع، ضلال. ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾، ولم يذكر ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ أسباب هذا الخَسَار، وإن كان الخَسَار قد حاق بالكفار ﴿وكان عاقبة أمرها خُسْراً﴾ كل الناس، كل إنسان يمضي به العمر في خُسْر. هل في نقص من صحته؟ نقص من عمره؟ نقص من شبابه؟ نقص من قوته؟ فما من إنسان إلا ومرور الليل والنهار ينقص منه، من عمره، من شبابه، من صحته، من أمله، من أحبابه، من أهله، من كل شيء.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ استثناء. فإن كان المقصود الإنسان الكافر فالاستثناء منقطعاً؛ أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كان المقصود بالإنسان كل الناس فالاستثناء مُتَّصِل: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليسوا في خُسْرٍ أبداً، لأن المؤمن الذي عمل الصالحات في شبابه إذا مرت به الأيام، ونقصت قوته، وضعف، ووَهَنَ عَظْمُه، ولم يَقْوَ على الطاعة كُتِبَ له ما كان يفعله، وهو صحيح، فهو في زيادة، وليس في نقصان، هو في ربح، وليس في خاسر مهما كبر أو مرض أو أقعده المرض عن الطاعة أو أقعده الكِبَرُ عن السعي في سبيل الله فهو زيادة أبداً، تكتب له الملائكة مثل ما كانوا يكتبون له، وهو صحيح معافى، ذاك قول. أيضاً الخُسْر: الهلكة والضياع، فإذا كان الإنسان في هلكة، وفي ضياع بمرور الزمان عليه لأنه دائماً وأبداً يسعى لتحصيل الدنيا ولجمع المال وللسعي وراء الجاه، وهكذا، كلما سعى، ومرت به الأيام دون طاعة نَدِمَ، وخَسِرَ على كل لحظة مرت، ولم يذكرها فيها الله ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ هؤلاء ليسوا في خُسْر. وشَرَطَ الله ﴿تبارك وتعالى﴾ أربعة أشياء: آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. أربعة أشياء؛ اثنان منها يكمل الإنسان بها نفسه: الإيمان والعمل الصالح، واثنان يكمل الإنسان بها غيره: النصح والإرشاد.
﴿ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ ذاك يتوقف على أنفسهم ﴿، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ إذاً فقد أوصى بعضُهُم بعضاً، ونصح بعضُهُم بعضاً، وأرشد بعضُهُم بعضاً. فمن فعل هذه الأشياء الأربعة أرضى الحق، وقام بالواجب نحو الخلق، أدي الواجب نحو الحق؛ نحو الله ﴿تبارك وتعالى﴾، وأدى الواجب نحو الخلق، وانصلح المجتمع، وصلح حاله.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ أربعة أشياء لم يذكر ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ أسباب الخاسر، فجاءت الكلمة نكرة لبيان أن الخُسْرَ عام، وأن الخُسْرَ هلاك لا يوازيه هلاك. أما المؤمن الذي عمل الصالحات هذا الشخص الذي كمل نفسه، وتواصى بالحق، وتواصى بالصبر، هذه الأشياء الأربعة هي طريق النجاة. فإذا حصرت النجاة في أربعة أشياء: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، كل ما عدا ذلك يؤدي إلى الخُسْر. جَمَعَ ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ أسباب النجاة في هذه الأربعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. الحق: هو الله، الحق: هو الشيء الثابت الذي لا زوال له، الحق: التوكُّل على الله والإيمان بالله والعمل لإرضاء الله، هذا هو التواصي بالحق: التوحيد الخالص، عبادة الله ﴿تبارك وتعالى﴾ بخلوص النية. والتواصي بالصبر داخل ضمن التواصي بالحق ﴿، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾ كفى، فالصبر من ضمن الحق لكنه جاء بتكرير الفعل ﴿، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا ﴾ كَرَّرَ الفعل، وذاك إطناب، شيء من البلاغة لزيادة التأكيد، ومن باب عطف الخاص على العام، فأعاد ذكر الصبر اختصاصاً له لأن الصبر من أهم الأمور وبغيرها لا يبلغ الإنسان مطلقاً رضاء الله، إذ الصبر أنواع: الصبر عن المعاصي، ذاك أول أنواع الصبر؛ الصبر عن المعصية، عن لائذ الدنيا ومتعها، عن غرورها، عن دعوة شياطين الإنس والجن، دُعَاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. الصبر عن المعاصي، وعن عصيان الله، الصبر عن الشبهات، الصبر عن كل ذلك. والصبر علة الطاعة، والطاعة تحتاج إلى صبر فلو لم تصبر على الطاعة تَمَلّ، ولم تأت بها على وجهها الأكمل، فنحن محتاجون لصبر على الطاعة. ثم هناك الصبر على المصائب، وعلى البلاء، والمؤمن مصاب والدنيا بلايا فيها البلاء ﴿ لتبلوا فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [سورة آل عمران آية:186] وربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ بين لنا أنه يبتلي الإنسان، ويمنحه: ﴿، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [سورة البقرة آية:155] فالصبر على البلاء والصبر على المصائب والصبر على المرض. لذا اختص الصبر بالذكر، وعَطَفَ على الحق -وهو منه-تأكيداً لفضيلة الصبر. هؤلاء هم الناجون. وقد رُوِيَ عن أصحاب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يفترقان على ذلك.