سورة القارعة

لقاؤنا مع سورة مكية. سورة القارعة تبين لنا أهوالاً يوم القيامة، ويوم القيامة يومٌ كان مقداره خمسين ألف سنة، أوله النفخة الأولى وآخره الفراغ من القضاء بين العباد.

ٱلْقَارِعَةُ ﴿1﴾ مَا ٱلْقَارِعَةُ ﴿2﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ ﴿3﴾ يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ ﴿4﴾ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ ﴿5﴾ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ ﴿6﴾ فَهُوَ فِى عِيشَةٍۢ رَّاضِيَةٍۢ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ ﴿8﴾ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٌۭ ﴿9﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا هِيَهْ ﴿10﴾ نَارٌ حَامِيَةٌۢ ﴿11﴾
﴿ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) ﴾ القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة. أو هو اسم للنفخة الأولى. والقَرْعُ في الأصل: الضرب والخبط بشدة حتى يُسمَع له صوت. وسميت بالقارعة لأنها تقرع أسماع الناس، تلك النفخة الهائلة. وسميت بالقارعة لأنها تقرع القلوب والأفئدة فيصيبها الفزع والهلع. ﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ سؤال للتهويل والتعظيم والتفظيع. "وما" يُسأَل بها عن ماهية الشيء، وذكر الظاهر بدلاً من الضمير:"القارعة ما هي" لم يأت بالضمير بل أتى بالظاهر:
﴿ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) ﴾، وكأنه يلفت النظر، ويشوق للسماع ويسأل سؤالاً يهول، ويفرع به شأن المسؤول عنه. ثم عاد وكرر:
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾، وبهذه الآية خرج علم القارعة عن دائرة علم الخلائق من مخلوق يدري أو يعلم عنها شيئاً، وما أدراك وما عَلَّمَك ومَنْ أَعلَمَك ومن أخبرك بشأن القارعة. وكل ما في القرآن من قول ﴿عز وجل﴾: ﴿وما أدراك﴾ فقد أدراه، وفَسَّرَ له، وما فيه: ﴿وما يدريك﴾ فلم يُعلِمْهُ به. ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ تكرير للسؤال وإظهار للكلمة بدلاً من الضمير. ثم فَسَّرَ بعد أن اشتاق السامع إلى معرفة شأن القارعة:
﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾ ها هي القارعة، ها هو قد أدراه بها وأدراناه بها. شأنها إذا حدثت أن ترى الناس في ذلك اليوم كالفَراش المبثوث. والفَراش كلكم يعرفه، جمع فَراشة، تلك الطيور أو الحشرات أو الهوام التي تطوف حول النار وحول الأضواء، وتتفحم فيها، وإذا نظرت إلى الفَراش لوجدته يطير بغير هدف، وليس مجتمعاً بل متناثر في كل اتجاه، جُلُّ هَمِّهِ أن يقذف بنفسه في النار -يقتحمها- شَبَّهَ ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ الناس في ذلك اليوم بالفَراش المبثوث: المنتشر المتفرق، وكأنهم حين يسمعون الداعي يخرجون من قبورهم متحيرين مترددين متجهين في كل اتجاه لا يجتمع لهم شمل، ولا يتحد لهم هدف، بل هم كالفَراش، وكأنهم مقتحمون وذاهبونا ليلقوا بأنفسهم في جهنم كما يلقي الفَراش بنفسه إلى النار. وفي هذا الشأن أو قريب من ذي قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "مَثَلِي ومَثَلُكُم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي" نعم يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.
﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾ العِهْن: يطلق على الصوف الملون المصبوغ. والمنفوش: الذي يُنفَش باليد، ويُفَرَّق، أن يُندَف بالمندَف فيتطاير في الهواء. الجبال خلقها الله ﴿تبارك وتعالى﴾ مختلفة الألوان؛ بيض وحمر وغرابيب سود، فإذا جاءت القارعة، هذه القارعة التي يهول ربنا من شأنها التي خرجت عن دائرة علم الخلائق، ذاك فعلها في الجبال الرواسي الراسخات التي قُدَّت من الصخر الصلد، إذا بها تتناثر، وتتطاير في الأجواء كالعهن المنفوش، كالصوف لمادوف، تتطاير بلا تماسك، وكأنها صوف ملون نُشِرَ في الهواء، ونُدِفَ بالمندف فتطاير في كل اتجاه. وأن تقرن الآية الخاصة بالناس بالآية الخاصة بالجبال يشعرك بأن الكلام، وكأنه يوجهنا إلى النظر إذا كان هذا فعل القارعة في الجبال فكيف هي الناس؟ ها هي الجبال، ذاك فعل القارعة بها، أن تصبح الجبال كالعِهْنِ المنفوش متطايرة فكيف بالناس؟ تلك القارعة التي تتشقق لها السماء، وتَنْهَدُّ لها الأرض، وتُدَكُّ بها الجبال، وتُسَوَّى الأرض، ها هو فعلها في الجبال فكيف يكون فعلها في الناس؟
﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾ حينئذ يبدأ القضاء فمنهم شقي، ومنهم سعيد.
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ -جعلنا الله منهم-ثَقُلَت موازينُه: أي موزوناته. أتُوزَنُ الأعمال؟ نعم توزن، والإيمان بالميزان والتصديق به من شروط الإيمان. نعم هناك ميزان له لسان، وله كفتان توزن به الأعمال أو الصحائف. أتأتي الأعمال مجسدة فتوضع أم تأتي الصحائف فتوضع أم الميزان هو القضاء العدل والحق؟ أهل السنة وجمهور أهل السنة كلهم يعتقدون أن هناك ميزان فعلاً، ولكن أهو ميزان واحد أم هي موازين؟ وربنا يقول:
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [سورة الأنبياءآية:47] أهي موازين كل بحسب ظروفه بيئته أين وُلِد؟ في أي عصر وُلِد؟ هل جاءه رسول؟ هل جاءه منذر؟ كيف كان أهله؟ كيف كان عقله؟ -وعقل المرء محسوب عليه من رزقه- أهي موازين أم هو ميزان؟ قيل ميزان واحد بيد جبريل، وقيل بل هي موازين، ولكنا نؤمن بالميزان.
﴿ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ أي رَجَحَت حسناتُه، ثَقُلَت موزوناتُه. وعُبِّرَ عنها بالميزان، وكأن الميزان هو الذي يَرجَح.
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ عيشة راضية: بمعنى عيشة راضٍ عنها صاحبها، أو العيشة نفسها راضية، إذاً فهي فاعلة. فكيف ترضى العيشة؟ العيشة: بمعنى العَيْش. هل العيش نفسه يرضى؟ قيل نعم تُعطَى الرضا من نفسها. ألا تعلم أن الرجل في الجنة إذا اشْتُهِيَ أن يتكئ أو يجلس نظر إلى السرير وارتفاعه مسيرة مئة عام فتَطَامَنَ، ونزل فإذا جلس عليه وليُّ الله ارتفع به مرة أخرى حتى ينظر إلى أنحاء مُلكِهِ؟ وكذلك الشجر، ارتفاعه فوق الخيال فإذا أراد ولي الله شيئاً تَدَلَّت ثمارها ﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [سورة الحاقة آية: 23]
فأخذ منها ما يشاء. بل قيل إن معه قضيباً فإذا أراد الماء أشار بالقضيب فتَبِعَه نهرٌ جارٍ لا يبلل الأرض، ولا يبلل الفراش، ولا يبلل شيئاً بل يجري معه، ويسير معه حيث سار، من قول الله (عز وجل): ﴿ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴾ [سورة الإنسان آية: 6].
إذاً فقد أعطت العيشة من نفسها الرضا، جعلت صاحبها راضٍ، فقد أعطت الرضا فيجوز أن يُسنَدَ إليها الفعل.
﴿ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ لأنها تُرضِي صاحبها بما أعد الله له. والعيشة هنا بمعنى نعيم الجنة.
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ بأن لم يكن له حسنات أصلاً، أو رَجَحَت كفة السيئات على كفة الحسنات.
﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ أُمُّه، وعُبِّرَ عن النار بالأم للكفار لأنهم يأوون إليها كما يأوي الصبي إلى أمه، أو كأنهم لا انفكاك لهم عنها فهم منها وإليها. والهاوية: ما يُهوَى فيها، يهوي فيها الإنسان، عميقة، قعرها بعيد، حتى إنَّ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أخبرنا أن بعض الناس يهوي في هذه النار سبعين خريفاً، ولا يصل إلى قعرها! مدة الهوى سبعون خريفاً، سبعون عاماً، بأعوام الدنيا أم بأعوام الآخرة؟ يعلم الله، فهي هاوية، قعرها بعيد عميق. فَأُمُّهُ هاوية ذلك الذي خَفَّت موازينُه.
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ والسؤال للتفظيع والتهويل، ما أدراك ماهية؟ لا يمكن أن يصل إلى قدرتها وفظاعتها وهَوْلِهَا عقلُ مخلوق أو تَوَهُّمُ إنسان. إذاً فهي خارجة عن دائرة علوم الخلائق. ثم فَسَّرَ فقال:
﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ هي نار لكن الذي أوقدها هو الله. حامية: بالغة منتهى درجات الحرارة. حَمِيَتِ النار تحمي حَمَوَاً وحميماً. حَمِيَت فهي نارٌ حامية. يُرْوَى أن الرجل إذا مات أتى الأموات من قبله فسألوه عن الرجل مات قبله فيقول: ذاك مات قبلي ألم يَمُرُّ عليكم؟ قالوا: لا واللهِ، فيقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون ذُهِبَ به إلى أُمِّهِ الهاوية، فيئست الأم وبأس المربية. نعم من ثَقُلَت موازينُه فهو في عيشة راضية، ومن خَفَّت موازينُه فأُمُّهُ هاوية، وما أدراك ما هي؟ نارٌ حامية.