
سورة العاديات
لقاؤنا مع سورة العاديات. سورة العاديات مختلف فيها أيضاً مدنية أم مكية وإن كان الأرجح أنها مكية. سورة العاديات أقسم الله (تبارك وتعالى) فيها بثلاثة أشياء على ثلاثة أشياء فقال:
وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ ضَبْحًۭا ﴿1﴾
فَٱلْمُورِيَـٰتِ قَدْحًۭا ﴿2﴾
فَٱلْمُغِيرَٰتِ صُبْحًۭا ﴿3﴾
فَأَثَرْنَ بِهِۦ نَقْعًۭا ﴿4﴾
فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعًا ﴿5﴾
إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌۭ ﴿6﴾
وَإِنَّهُۥ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌۭ ﴿7﴾
وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿8﴾
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ ﴿9﴾
وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ ﴿10﴾
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍۢ لَّخَبِيرٌۢ ﴿11﴾
﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ إذاً فالخيل تَقدَحُ بسَنَابِكِهَا، بحوافرها الأرض، الحصى، الرمل، فتُورِي من هذا القَدحِ ناراً تراها كالشرر تخرج من حوافر الخيل حين العدو على الأرض. ﴿فَالْمُورِيَاتِ﴾ الموريات التي أظهرت وأخرجت ناراً بقَدحِهَا الأرض.
﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ أغار عليه إغارة وأغار عليه غارة يُغِير: يهاجم ويُسَلِّط خيلَه على عَدُوِّه. فالمغيرات صُبحاً: في وقت الصباح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد غزو أناس سرى ليلاً، خرج للغزو بالليل وانتظر حتى يصبح الصباح ثم يُغِيرُ عليهم صُبحاً ليرى المجاهدون ما يتركون وما يأخذون، ما يقتلون وما يَذَرُون، ولا يقتلون شيخاً أو صبياً أو امرأة وما إلى ذلك. أيضاً صُبحاً للعزة، فهو يُغِيرُ نهاراً لأنه عزيز بعزة الله، فيُغِيرُ على أعدائه عَلَناً ونهاراً، ولذا يقول الله تبارك تعالى: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ) [سورة الصافات آية: ١٧٧]
لأنه كان يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يغزو القوم: "إنا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين" ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾ وقُرِأَت ﴿فَأَثَّرْنَ به نقعاً﴾ النَّقع: التراب، النَّقْع: الغبار. وقد يكون النَّقْع: الصوت العالي. أَثَرْنَ من الإثارة: التهييج. ﴿فَأَثَرْنَ به﴾: بالمكان، ﴿فَأَثَرْنَ به﴾: بالعَدْو، ﴿فَأَثَرْنَ به﴾: بِعَدْوِهَا أو قَدْحِهَا، أو بالمكان التي أغارت عليه. ﴿نَقْعَاً﴾: الغبار طار وملأ الأجواء. ﴿فَأَثَّرْنَ به نَقْعَاً﴾: تَرَكْنَ أَثَرَ النقع. أَثَّرَ: ترك الأَثَر. أَثَارَ: هَيَّجَ. ﴿فَأَثَرْنَ به نَقْعَاً﴾: فَهَيَّجْنَ الغبار فملأ الجو بالمكان. أو ﴿فأثَّرْنَ﴾: أي تَرَكْنَ في المكان آثار الغبار من العَدْو والهجوم والكر والفر. ﴿فَوَسَطْنَ به جَمْعَاً﴾ أو ﴿فَوَسَّطْنَ به جمعاً﴾ وَسَطْنَ: صِرْنَ وسط القوم. الجَمْع: الجُمُوع التي أغار عليها المسلمون. وَسَطْتُ القوم: صِرتُ وَسَطَ القوم. وَسَطْنَ: أي صاروا وسط القوم، أغاروا عليهم ولشجاعتهم لم يأتوهم من الأطراف بل دخلوا في جموعهم ففرقوهم وشتتوهم. ﴿فَوَسَّطْنَ﴾: جعلوا الجمع فريقين عن اليمين وعن الشمال، هذا إذا كان الكلام في الخيل.
إذا كان الكلام في الإبل -إبل الحج على وجه الخصوص- والكلام عن الحجيج، والحاج خرج في سبيل الله كالمجاهد ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾: الإبل. ﴿ضَبْحًا﴾: بمعنى ضَبعاً -بالعين- والضَّبْعُ مَدُّ الأضباع أي مَدُّ الأعناق، أي حين تسرع الإبل في سيرها تفتح بين أرجلها وتمد أعناقها إلى الأمام. ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾: بمعنى ضبعاً، والحاء والعين يتعاقبان بنفس المعنى: الإبل. ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ الإبل بأخفافها حين تعدو وتوري أيضاً بقَدْحِهَا فيظهر من سرعة سيرها واحتكاك أخفافها بالحصى والرمل توري أيضاً يري ذلك الإيراء بعض الشرر، النيران.
﴿فَالْمُغِيرَاتِ﴾ المسرعات من الإغارة أيضاً. ﴿صُبْحًا﴾: أي حين الإفاضة من مزدلفة إلى عرفة، ومن عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى مِنَى، ومن مِنَى إلى مزدلفة، والخروج من المزدلفة إلى مِنَى يُسَنُّ أن يكون صباحاً، فقد صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) الفجر بمزدلفة. ﴿فَالْمُغِيرَاتِ﴾ أي المسرعات في السير. ﴿صُبْحًا﴾: بعد صلاة الصبح في المزدلفة إلى مِنَى. ﴿فأثرن به نفعاً﴾: أيضاً الغبار من سرعة السير، ومن ذهب إلى الحج رأى ذلك حتى وإن كان الحج ماشياً أو بالسيارة. ﴿فأثرن به نقعاً﴾: الصوت، رفع الصوت بالتلبية، النقع: الصوت، من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول عمر: دعهم إذا لم تكن نَقْعٌ أو لقلقة. ﴿فَوَسَطْنَ به جَمْعَاً﴾ الجَمْع: اسم لمزدلفة، ومنطقة المزدلفة تسمى جَمْع، وجاءت هذه التسمية في أحاديث كثيرة لأن الناس جميعاً -الحجيج-يجتمعون في مزدلفة. ذاك رأي إن كان الكلام في الإبل، وهما رأيان. والأرجح والله أعلم الكلام في خيل الجهاد، في الأفراس.
ويأتي ما أقسم الله (تبارك وتعالى) عليه:
(إن الإنسان) جواب القَسَم. ﴿لربه لَكَنُود﴾ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الإنسان: مطلق الإنسان أو الكافر، رأيان. إن كان مطلق الإنسان فذاك طبع الإنسان، طُبِعَ على ذلك إلا من رحمه الله. فالآيات عن طبع الإنسان، لكن هذا الطبع يُغَيِّرُه الله فيصطفي من عباده من يشاء فلا يجعله كذلك رغم أن طبعه كذلك. أو الإنسان المقصود به الإنسان الكافر. ﴿لربه لَكَنُود﴾ أصل الكلمة كَنَدَ الحبل: قَطَعَه. الكَنُود: البخيل، قَطَعَ خَيرَه عن الناس، الكَنُود لا يشكر الكثير ويَكفُرُ القليل، الكَنُود يذكر المصيبة ولا يذكر النعمة، الكَنُود: الكَفُور، الكَنُود: الجَحُود، يأكل وحده ويمنع رِفدَه ويجلد عَبدَه. أوصاف وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم) للكَنُود. الكَنُود الذي لا يواصل الشكر لله (تبارك وتعالى) على النِّعَم، يرى النعمة ولا يرى المنعِم، يكفر بالنعم، لا يرى إلا المصائب، لا يرى إلا الشر، لديه الصحة، لديه الأولاد، لديه المأوى، لديه الطعام، يريد الجاه، يريد الغنى، يريد المال، لديه كذا ولديه كذا، يغفل عن النعم، يغفل عن كل شيء أعطاه الله إياه ولا يذكر إلا حَبَّة ظهرت في أذنه أو ضعفاً بدا في نظره أو رعشة أصابت يده أو مرضاً أصاب ابنه أو قلة في مال أو رزق بالبنات ولم يرزق بالبنين، ينسى كل شيء، ينسى نعمة البصر ونعمة السمع ونعمة العقل ونعمة المشي ونعمة الستر، ينسى، وإن تَعُدُّوا نعمة الله لا تحصوها -إي وربي- لا تُحصَى ولا تُعَدُّ، فينسى النعمة ويذكر فقط الشر. الكَنُود: الكفور الجحود العاصي الذي يذكر المصيبه ولا يذكر النعمة، لا يشكر الكثير ويجحد بالقليل، ذاك هو الكَنُود. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾: تأكيد بــــــــِ (إِنَّ) واللام. ﴿لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾.
﴿وَإِنَّهُ﴾: الله (على ذلك)على كُنُود الإنسان (لشهيد): شاهد يُعَاقِبَ ويُؤاخِذ. كَنَدَ يَكنُدُ كُنُوداً: جَحَدَ وكَفَر. ﴿وَإِنَّهُ﴾ الضمير إما عائد على الله وإما عائد على الإنسان وذاك أرجح. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ ﴿وَإِنَّهُ﴾: الإنسان ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾: على كُنُوده. ﴿لَشَهِيدٌ﴾: يشهد حاله ومقاله، تراه كيف حاله؟ يشكو، لِمَ تشكو؟ رسب الولد في الامتحان، الحياة كلها منقضية، غداً يموت هذا الغلام كبيراً أو صغيراً وتنتهي الدنيا. تراه وتسأله ويقول نُقِلْتُ إلى بلدة كذا، الأرض أرض الله، وأرض الله واسعة. تراه فيشكو المرض، يشكو قله المال، يشكو انعدام المزاج، يشكو الاكتئاب، يشكو من امرأته، يشكو من جاره، تراه دائماً شاكياً ولا تراه شاكراً. فهو شاهد على نفسه بأنه كَنُود بفعله وقوله، إذا أصابه الخير مَنَع وإذا أصابه الشر هَلَع، جاءه المال يَمْنَع، قَلَّ عنده المال شكا، وشكا اللهَ لخَلْقِه. ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾: الإنسان شاهد على نفسه، يقال له يوم القيامة )كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد(.﴿وَإِنَّهُ﴾: الإنسان باتفاق. (لحب الخير لشديد) الخير: المال. والخير أطلقه الله على المال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة البقرة آية: ١٨٠] خيراً هنا بمعنى المال، وهل المال خير؟ أبداً، قد يكون خيراً وقد يكون شراً، ونعوذ بالله من مال أو جاه يكون علينا وبالاً، ونبينا استعاذ بالله (تبارك وتعالى) من ذلك فقال: "اللهم إني أعوذ بك من مال يكون عَلَيَّ وبالاً وأعوذ بك من وَلَدٍ يكون عَلَيَّ سيداً" لكن الله أطلق على المال كلمة الخير لأن الناس يفرحون بالمال، فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا فخاطبهم بما تعاهدوا عليه. ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ أي شديدٌ حُبُّهُ للمال. أو(شديد): بمعنى بخيل، وتطلق كلمة الشديد والمتشدد على البخيل. ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾: أي من أجل حبه للمال يبخل، يمسك ولا ينفق ولا يعطي الحقوق لأصحابه. إذاً فهي ثلاثة أشياء أقسم الله عليها، والإنسان: مطلق الإنسان، فتلك طبائع الإنسان وطبائع الناس إلا من اختصه الله برحمته. أو الكلام عن الإنسان أي الكافر من الناس. ويأتي التهديد ويأتي الإنذار والوعيد: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩)وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠)إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)﴾ أفلا يعلم هذا الإنسان؟ ألم يُخبَر؟ ألم يخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ هاهو القرآن يُتلَى علينا ليلاً ونهاراً. ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ بُعثِرَ: قُلِب. البعثرة: التفتيش، البعثرة: جَعلُ أسفلَ الشيء أعلاه. إذا بَعثَرْتَ الشيء: فَتَّشْتَ فيه وقَلَّبْتَ فيه وجَعَلتَ أعلاه أسفله وجعلت أسفله أعلاه، هكذا تُبَعْثَرُ القبور، ذاك يوم القيامة. ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ أصل كلمة التحصيل: نزع الحَبِّ من القشر فيُمَيَّز الحَبُّ على جانب والقشر على جانب آخر. حُصِّلَ: مُيِّزَ ما في الصدور، جُمِعَ ودُوِّنَ في الصحائف وظَهَر، ولذا قُرِأَت ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩)وحَصَلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ حَصَلَ: أي ظَهَر، ظَهَر ما في الصدور. ما هو ما في الصدور؟ النية -آه من النية-أَنَمْلِكُهَا؟ أيستطيع العبد منا أن يجعل نيته خالصة أم يلجأ إلى الله في ذلك؟ اللجوء إلى الله في كل شيء حتى النية وإن كان يملكها إلا أنه قد يدخل في نيته مالا يصح دون قصد، فقد يُعجَب برؤية الناس له وهو يصلي، وقد يُعجَب ويُسَرُّ بِمَدحِ الناس له وهو يُنفِق، قد يصلي منفرداً ويقرأ في صلاته جهراً ويأتي أناس يصلون خلفه فيطيل من قراءته ويحسن صوته للناس، قد. حصل ما في الصدور: ظَهَرَ وخَرَج ومُيِّز.
﴿إِنَّ رَبَّهُمْ﴾ رب المبعوثين، وما من أحد إلا ومبعوث. ﴿بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ وقُرِأَت ﴿أَنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ بغير اللام وبفتح (أَنَّ) الخبير: العلم إذا أضيفت له الخبرة بمكنون الصدور، تلك هي الخبرة، العلم إذا كان بالظاهر والباطن، علم ظواهر الأمور وبواطنها فتلك خبرة، ربنا بهم يومئذٍ لخبير. أليس هو خبير من الأزل إلى الأبد؟ بلى هو الخبير في كل وقت، فلِمَ يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾؟ للإشعار بأن الخبرة هنا تتعلق بالجزاء، أما الخبرة في الدنيا فمعها إمهال الله، فهو في الدنيا بهم خبير ولكنهم في دائرة الإمهال، أما يومئذٍ فهو بهم خبير فهم في دائرة الشقاء أو دائرة السعادة. ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ إذاً فهو مجازيهم على ما في صدورهم.
أيها الأخ المسلم -حصل ما في الصدور- كم من أمر تخفيه في صدرك؟ كم من أمور لا يعلمها أحد؟ كم من نوايا لا يراها إلا الله الذي يسمع هواجس الضمير ويرى خفايا الوهم والتفكير؟ كم؟ كم منا يدور ويمشي في ستر الله وإمهاله؟ أنت يراك الناس ظاهراً لكن الله يراك باطناً، يراك الناس تصلي وربنا يرى النية في قلبك لكنه لا يفضحك في الدنيا أبداً، فإذا جاء يوم القيامة، يوم الفضيحة، يوم التغابن، يوم المصيبة، يوم المصائب، خرج كُلُّه، ظَهَرَ كُلُّه. (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره) لكن المؤمن يُستَر فإن رأى رأى وحده وسُتِرَ في الآخرة كما سُتِرَ في الدنيا، أما الكافر فيَرَى ويرى معه الآخرون على الملأ -إي وربي- يأتي الرجل وعلى كتفيه ناقة! ناقة؟! نَعَم، غَلَّهَا أو أخذها من مال المسلمين وستره في الدنيا وفضحه في الآخرة، يأتي الرجل وعلى كتفيه شاة تَيعَر لها صوت، حية تيعر أو بقرة لها خوار صوت يراه الناس ويأتي مسرعاً إلى الحوض من العطش يشرب يقول: يا محمد أدركني، فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا أملك لك من الله شيئاً).
النوايا الطيبة والنوايا الخبيثة، كم من كلمة حلوة تنطق بها أتقصدها؟ كم من حب تظهره أتشعر به؟ كم من نصيحة تبديها أصادق أنت في ذلك؟ أصلحوا نواياكم كي يُصلِح ربنا أعمالكم. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئٍ ما نوى) الحساب على النية، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ هنا يكون الحساب على ما في الصدور. ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ﴾ لم يقل "بها": بالصدور أو "بها": بما في الصدور بل قال "بهم": بالناس، إذاً فهو يحاسبهم " بهم": أي بأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم. ﴿لَخَبِيرٌ﴾: لأنه يعلم الدافع للعمل، أنت تصلي لِمَ ؟ أنت تنفق لِمَ؟ أنت تقول لِمَ؟ أنت تمشي لِمَ؟ أنت تركب لِمَ؟ هكذا فالأعمال مُحاسَبٌ الإنسان عليها، على أساس الدافع لها. النية هنا في القلب، ما في الصدور يُحَصَّل ويَظهَر.
أيها الأخ المسلم؛ الأعمال ثلاثة أقسام: طاعة في المأمورات، واجتناب للمنهيات، والمباحات كالأكل والشرب. وأنت تستطيع أن تجعل كل ذلك في سبيل الله فتأتي الطاعات بنية صادقة كي يرضى الله عنك، وتجتنب المنهيات بنية صادقة كي يقيك الله عذابه، وتأتي المباحات بنية، تأكل بنية إعطاء البدن حقه ويتقوى على الطاعة وهكذا، فتثاب على كل ذلك. النية، اهتموا بالنية! هنا نهتم بأمرين -خلاصة الكلام-الأمر الأول: نهتم بمثاقيل الذر. كلمة، كلمة طيبة، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ به ما بلغت يرفعه الله بها إلى أعلى عليين وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ به ما بلغت يهوي بها إلى أسفل سافلين" كلمة أو نظرة أو إشاحة بوجه أو إقبال بوجه، انتبهوا لمثاقيل الذر. والأمر الثاني: انتبهوا للنوايا ولا تجعلوا أعمالكم خالية من النية، كل عمل: أكل، شرب، قضاء حاجة؛ وأنت تدخل لقضاء الحاجه انوِ أن تُذهِبَ عن جسمك ما يؤذيه وأن تُبقِي ما ينفعه، استعذ بالله من الخُبُث والخبائث وحين تخرج احمَدِ الله تبارك وتعالى (الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأمسك لي ما ينفعني) في طعامك وفي شرابك، في مشيك، حتى اللقمة تضعها في فم زوجتك وأولادك احتَسِبْهَا صدقة واتَّقِ الله.