
سورة البينة
لقاؤنا مع سورة البينة. سورة البينة مختلف فيها مكية هي أم مدنية، والأرجح أنها مدنية. سورة البينة حين نزلت أَرسَلَ النبي (صلى الله عليه وسلم) في طلب أُبَيِّ بن كعب وقال له: "يا أُبَيّ إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك سورة: "لَمْ يَكُنِ الذين كفروا " وقال أُبَيّ: وسَمَّانِي لك يا رسول الله؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "نَعَم" فبكى أُبَيّ. سورة البينة تُكَلِّمُنا عن حال أهل الكتاب والمشركين قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعد بعثته، تحدثنا عن أحوالهم في الدنيا ثم عن أحوالهم في الآخرة. يقول الله (عز وجل):
لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ ﴿1﴾
رَسُولٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُوا۟ صُحُفًۭا مُّطَهَّرَةًۭ ﴿2﴾
فِيهَا كُتُبٌۭ قَيِّمَةٌۭ ﴿3﴾
قد تحمل الآيه هذا المعنى. والآيه فيمن آمن من أهل الكتاب ومن آمن من مشركي مكة. لم يكونوا مزايلين ما هم عليه من كفر وشرك حتى تأتيهم البينة وقد أتتهم. ومحمد (صلى الله عليه وسلم) يتلو عليهم هذه الصحف المطهرة. ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ الكُتُب: جمع كتاب، بمعنى المكتوب. قَيِّمَة: مستقيمة لا عوج فيها، مصداقاً لقوله (عز وجل): ﴿أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [سورة الكهف آية: ١] إذاً فهي قَيِّمَة: أي مستقيمة لا عوج فيها، الحق فيها أبلج. والآيات فيمن آمن. أو كان أهل الكتاب قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا استضعفهم مشركو مكة أو أهل المدينة -وكانوا قلة وغرباء-كانوا يستفتحون ويستنصرون على المشركين ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بنبي آخر الزمان المبعوث في التوارة والإنجيل، كقول الله (عز وجل): ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٨٩] كانوا يستفتحون ويستنصرون بنبي آخر الزمان. هم مصدقون به، مؤمنون به، نَعتُهُ في كتبهم، وصفه واسمه وكل شيء. وكان المشركون يسمعون هذا من أهل الكتاب فكانوا ينتظرونه أيضاً، والكل يأمل أن يُبعَثَ منهم، فلم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ: مزايلين إيمانهم بنبي آخر الزمان حتى تأتيهم البينة وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانوا يؤمنون به وينتظرونه، يستفتحون به، يستنصرون به، وحين جاء كفروا به فلعنة الله على الكافرين. إذاً فقد تكون الآية فيمن آمن ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾: عن كفرهم وشركهم ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾: فآمنوا حين جاءتهم البينة. أو لم يكونوا منفكين عن إيمانهم ببعثة نبي آخر الزمان حتى جاءهم، فلما جاءهم كفروا به، ولم يكفروا به قبل أن يُبعَث بل كفروا به بعد أن بُعِث ورأوا نَعتَهُ وصِفَتَه وصِدقَه. ثم يتكلم القرآن عن هؤلاء الذين كفروا، فالكلام توضيح لما سبق إن كان ما سبق في كفرهم بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم). وإن كان ما سبق فيمن آمن فالكلام عن كفر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هؤلاء الذين كفروا تفرقوا وكفروا بعدما جاءت البينة، وقد كانوا جميعاً مُجمِعِين على بعثة نبي آخر الزمان، على المعنيين؛ سواء كان المعنى عمن آمن أو المعنى عمن ترك الإيمان بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) كانوا جميعاً مجتمعين عىي أن هناك نبي يُبعَث في آخر الزمان وقد أَظَلَّهُم زمانه. حين بُعِثَ تفرقوا؛ آمن من آمن وكفر من كفر، فأنكر الله (تبارك وتعالى) عليهم ذلك، واختص أهل الكتاب بالذكر للتشنيع لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فقال:
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ ﴿4﴾
وَمَآ أُمِرُوٓا۟ إِلَّا لِيَعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ ﴿5﴾
أما المنهيات فإن انتهي العبد عنها بغير نية وبغير ابتغاءٍ لوجه الله لا يُثابُ على تُركِهَا، كمن ترك الخمر لأنه لا يستلذها أولا يستطعمها أو لأنها تضر بمعدته، أو تركها خوفاً على صحته، لا يثاب على ترك الخمر، ومن ترك الزنا خشية الفضيحة أو خشية لوم الناس لم يثاب على تركه. أما من ترك المنهيات مخافة الله وخشية عقابه وحياءً منه أُثِيبَ على تُرْكِ ما تَرَك، تلك المنهيات.
وأما المباحات؛ كالأكل والمشي والشرب والجماع مع الزوجة وما إلى ذلك، هذه المباحات يغفل عنها الناس بحكم العادة فيأكل ويشرب وهكذا بحكم العادة، هذا لا ثواب لها ولا أجر لها. أما إن أتى المباحات مبتغياً وجه الله شاكراً لأنعمه أُثِيبَ عليها وأصبحت عبادة، فإن أكل من أجل أن يعطي بدنه حقه فيتقوى على الطاعة كان أكله كصلاته، وإن جامع زوجته كي يعصم نفسه عن الحرام ويعطي امرأته حقها كان جماعه كزكاته وصيامه، فقد يأتي الإنسان المباحات بِنِيَّةٍ فيُثَابُ عليها وتصبح العادةُ عبادةً ويصل إلى مراتب الأنبياء، كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أمره الله (تبارك وتعالى) بقوله (عز وجل): ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(١٦٢)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(١٦٣)﴾ [سورة الأنعام آية: ١٦٢ -١٦٣] إذاً فالأعمال ثلاث: مأمورات ومنهيات ومباحات. على العبد أن يحرص في إتيانه بالمأمورات أن يُخلِصَ النية لله، وتَركِهِ للمنهيات أن يبتغي بذاك رضا الله وأن يخاف عقابه ويخشى عذابه، حتى المباحات يجعلها نية لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إن في بِضْعِ أحدكم لصدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويثاب عليها؟ قال: "تُرَى لو وضعها في حرام أكان يُعاقَب؟" وهكذا. وكذلك أن تضع اللقمة في فِيِّ زوجتك لك صدقة، وهكذا قال الصادق المصدوق، فإذا أنفقت على أهلك وعيالك من مالك في طعامهم وشرابهم ولباسهم وابتغيتَ بذلك وجه الله كان لك صدقة وكان لك أجر عليها وثواب وكأنك تأتي بطاعة وتأتي بعبادة. من هنا يبين ربنا تبارك وتعالى أن أهل الكتاب أُمِرُوا بما جاء به سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ موحدين له، ولكنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم لقول الله عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١] وما أُمِرُوا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، نعم! وما أُمِرُوا إلا ليعبدوا الله. حُنَفَاء: الحُنَفَاء جمع الحَنِيف، والحَنِيف: المائل عن الباطل إلى الحق، الحَنَف: الميل إلى الحق، والجَنَف: الميل إلى الباطل ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا﴾ [سورة البقرة آية: ١٨٢] حُنَفَاء: أي مائلين عن الدين الباطل إلى الدين الحق. ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ هذا ما أمرهم به نبينا (صلى الله عليه وسلم) حين بُعِث، أمر أهل الكتاب بما ُأِمُروا به في كتبهم. واختص ربنا (تبارك وتعالى) الصلاة والزكاة بالذكر لأن الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين، وهي الفرق بين المؤمن والكافر، بيننا وبينهم الصلاة فإن أقاموها فهم منا وإذا لم يقيموها خرجوا عن ملة الإسلام، بيننا وبينهم الصلاة، الصلاة عماد الدين من أقامها أقام الدين ومن تركها ترك الدين. تلك الصلاة؛ الصله بين العبد وربه، الصلاة التي تَعرُجُ بروحك إلى الملأ الأعلى فقد فُرِضَت من فوق سبع سماوات، فُرِضَت ليلة عُرِجَ بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وتجاوز سِدرَةَ المنتهى، هناك فُرِضَت الصلاة، فالعبد إذا صلى عُرِجَ بروحه حيث عَرَجَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بجسده وروحه. وأما الزكاة فهي صلاح المجتمع، تُطَهِّرُ النفوس، ترحم الفقراء، هي علامة التراحم في المجتمع، إذا أنفق الغني على الفقير تلك رحمة، لم يحسده الفقير وهو لم يتعال على الفقير، وعَلِمَ أن الله (تبارك وتعالى) ابتلاه بالغنى، وعَلِمَ الفقير أن الله ابتلاه بالفقر فرضي هذا بحاله ورضي ذلك بحاله. الزكاة عماد وصلاح المجتمع، ولو أنفق كل غني زكاته كما أمر الله ووضعها حيث يجب ما وجدتَ إنساناً يتكفف الناس، واللهِ إن الله قد رزق الجميع، واللهِ إن الله لم يترك إنساناً إلا وقَدَّرَ له رزقه من قبل أن يخلق السموات والأرض، وقَدَّرَ فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين، ولكنه وضع حقوق الفقراء في أيدي الأغنياء وساق إلى الأغنياء رزقهم ورزقهم مباشرة، فساق إلى الغني رزقه ورزق الفقير معه يبتليه أيعطيه حقه أولا يعطيه حقه، ولذا ورد في الحديث القدسي: (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإن منع وكلائي مالي عن عيالي أذقتهم ناري ولا أبالي).
﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾: الدين المستقيم، الدين القَيِّم، الملة والشريعة المستقيمة التي لا عِوَجَ فيها ولا باطل ولا زور. ثم يهدد ربنا (تبارك وتعالى) ويتوعد هؤلاء الذين كفروا بنبينا (صلى الله عليه وسلم) ويبين حالهم في الآخرة بعد أن بَيَّنَ حالهم في الدنيا فيقول:
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ ﴿6﴾
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ ﴿7﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ والإيمان لا يُقبَل إلا إذا اقترن بالعمل، ولذا تجد ربنا في كتابه العزيز قَرَنَ الإيمان بالعمل في كل آية ذُكِرَ فيها الإيمان، إذ الإيمان بغير عمل كَلَا إيمان. الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقَه العمل، هكذا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم). والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يُحَذِّرُ ويقول: "إذا أذنب العبد ذنباً نُكِتَ في قلبه نُكتَةٌ سوداء فإذا استغفر ونَزَعَ مُحِيَت وإن عاد نُكِتَ في قلبه نُكتَةٌ سوداء وهكذا حتى يَسْوَدَّ القلب كله وذاك الرَّان. ثم تلى قول الله عز وجل: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [سورة المطففين آية: ١٤] وكذلك الإيمان يزيد كقول الله (عز وجل): ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ١٢٤] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إذاً لابد من العمل مع الإيمان، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقَهُ العمل وإن أناساً خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون نُحسِنُ الظن بالله وقد كَذَبُوا فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل). الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، أو البريئة، قراءتان.
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـٰتُ عَدْنٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًۭا ۖ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُۥ ﴿8﴾
مقعده من النار أولاً فيفزع، فيقال له: لا تفزع ولا تخف لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون، ذاك مقعدك من النار نجاك منه، ثم يُعرَض عليه مقعده من الجنة ويقال له ذلك مقعدك من الجنة فانظر إليه حتى تُبعَث إليه. وأما إن كان العبد والعياذ بالله كافراً مستحقاً للنار ولم يُجِب وحَارَ ولَمْ يَدْرِ ما يقول، إذا سئل في قبره عُرِضَ عليه مقعده من الجنة أولاً فحين يبهر ويفرح يقال له ضَيَّعْتَهُ بعملك السيئ، هذا مقعدك من النار ويعرضون عليه مقعده من النار فانظر إليه حتى تُبعَث. فإذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار اتسعت كل منهما على أهلها، أما النار فحين تجد نفسها قد اتسعت فتقول: يارب هل من مزيد؟ فَيَمُدُّ عز وجل قدمه فتنكمش وتنزوي وتقول: حسبي حسبي وتضيق على أهلها ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [سورة الفرقان آية: ١٣] وأما الجنة فحين تتسع على أهلها وتصبح فيها الأماكن الشاغرة كثيرة يُعَادُ تقسيم الأماكن الشاغرة على أهل الجنة فيأخذون مزيداً ومزيداً من أماكن الجنة، لذا يقول الله عنهم: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)﴾ [سورة المؤمنون آية: ١٠- ١١].
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ رضي الله عنهم: أي رضي عن أعمالهم فَقَبِلَها. ورضوا عنه: أي رضوا عن ثوابه وجزائه وفرحوا به. وفي هذا الرضا يتوقف الكلام، ويستحيل على اللسان أن يصف معنى الكلام. ويكفي أن يُسَاقُ في ذا حديث، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا دخل أهل الجنة الجنة واستقروا في أماكنهم ناداهم ربنا (تبارك وتعالى): يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولوا: يارب رضينا. فيقول: يا أهل الجنة سَلُونِي، فيقول أهل الجنة: يارب نسألك رضاك، فيقول الله (عز وجل): رضائي أسكنكم جنتي، يا أهل الجنة سَلُوني -أي أن الرضا تَحَقَّق وبالرضا سكنوا الجنة فَسَلُوا أمراً آخر- فيقولون: يارب وما نسألك؟ فيقول الله عز وجل: سَلُوني المزيد، فيقول أهل الجنة: يارب نسألك المزيد، فتُكْشَفُ الحُجُب ويَتَجَلَّى رب العزة على أهل الجنة فيرون من الله ماشاء. ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ ذلك الثواب وذلك المذكور لمن خشي ربه، لمن خاف الله (تبارك وتعالى). نعم رأس الحكمة مخافة الله. الخوف من الله، الحياء من الله. ربنا (تبارك وتعالى) حين وصف جزاء أهل الجنة، هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كيف رضي الله عنهم ورضوا عنه، كيف أعد لهم جنات عدن، جنات الإقامة، قال عَزَّ مِن قائل: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ والخشية: الخوف الممزوج بالرهبة. والخوف أنواع، الخوف أقسام، فمنا من يخاف العقاب ويذكر ذنبه ويبكي ويندم ويخشى ألا يُغفَر، نعم إن الله (تبارك وتعالى) وعد بالمغفرة وقال: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٠] نعم قول حق ولكن هل يضمن المذنب أن استغفاره قُبِل؟ هل يجب على الله شيء؟ أبو بكر، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين على رجل أفضل من أبي بكر الصديق، المسمى بعبد الله والملقب بعتيق، صاحب رسول الله في الغار وفي الطريق، أمينه في الأسرار ورفيقه في الأسفار، يقول: لا آمَنُ مكر الله ولو كانت إحدى قَدَمَيَّ في الجنة! أبو بكر الذي دخل عليه عمر بعد موته فنظر حوله فلم يجد إلا حصيراً مُسْوَدّاً ينام عليه أبو بكر وإداوة يشرب منها ويتوضأ منها، لم يجد شيئاً فبكى وقال: أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ يا خليفة رسول الله. أبو بكر يطلب شراباً يوماً فيؤتى بكوب فيه شربة لبن خُلِطَ بعسل، فيمسك يده ويبكي حتى أبكى من حوله، يا خليفة رسول الله مالك؟ ماذا حدث؟ فيقول: كنت جالساً مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرأيته يدفع شيئاً عن نفسه بكلتا يديه ولا أرى شيئاً، فقلتُ: بأبي وأمي أنت يارسول الله ماذا تدفع عنك؟ قال: "مُلكُ الدنيا، جاءتني بزينتها فقلتُ لها إليكِ عني" قالت: أما إن نَجَوتَ فلن ينجو أحدٌ بعدك، وبكى أبو بكر، أبو بكر!!! عمر بن الخطاب؛ الإمام الأواب الناطق بالصواب الموافق حُكمُه حُكمَ الكتاب، الذي قال للنبي: احجُب نساءك فنزلت آية الحجاب، يُطعَن وتخرج أحشاؤه من بطنه تتدلى في المحراب وهو يصلي ويحيط به المسلمون فينهرهم ويقول: الصلاة الصلاة، أي دعوني وأقيموا صلاتكم، ويأتي ابنه عبد الله فيضع وسادة تحت رأسه فيقول: يا بني أَزِلْهَا وارفعها وضع رأسي في التراب لعل الله يرحمني!! عثمان بن عفان المبشر بسكنى أعلى الجنان، من نَوَّرَ المحراب بإمامته وزَيَّنَ القرآن بتلاوته، عثمان بن عفان يُقتَلُ صائماً ويسيل دمه على المصحف بين يديه ويبكي ويخاف ويخشى الله (تبارك وتعالى). علي بن أبي طالب، ليث بني غالب، مُظهِرُ العجائب ومُفَرِّقُ الكتائب، الصائم بالصيف والضارب بالسيف والمواسي للضيف، يُضرَبُ في رأسه فتَتَخَضَّبُ لحيته وهو مقبل على المحراب يصلي -علي بن أبي طالب- ويتذكر خلافه مع أصحابه وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويقول: والله إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: (إخواناً على سُرُرٍ متقابلين) يخشى ويخاف. عبد الله بن مسعود الذي قال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه: "اقرأوا بقراءة ابن أم عَبْد" "من أَحَبَّ أن يقرأ القرآن غَضَّاً طرياً فليقرؤه بقراءة ابن أم عبد". ورآه يوما يتسلق نخلة فضحك المسلمون من دِقَّة ساقيه -فقد كان دقيق الساقين (رضي الله عنه)- فقال: "تضحكون من قدمي ابن أم عَبْد؟ والذي بعثني بالحق لَهُمَا في الميزان أثقل من جبل أُحُد" يبكي ويقولون له: عبد الله كيف تبكي وأنت صاحب رسول الله؟ فيقول: ولم لا أبكي وأنا لا أدري من أي القبضتين أنا، اللهم إني أعوذ بك من ليلة صاحبها إلى النار. عبد الله بن مسعود وغيره وغيره، خير القرون على الإطلاق كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "خير القرون قرني" هؤلاء يبكون عند الموت ويخافون فلم لا نخاف كخوفهم؟ هل قَسَت قلوبنا؟ هل نحن من الذين قال الله فيهم: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [سورة الحديد آية: ١٦] لم لا نبكي؟
أيها الأخ المسلم؛ أوصانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالبكاء وقال: "ابكوا فإذا لم تبكوا فَتَبَاكُوا". لذا فليُبكِي بعضُنا بعضاً أو نحاول البكاء لعلنا نبكي حقاً. أيها الأخ المسلم؛ رأس الحكمه مخافة الله، خشية الله (تبارك وتعالى) في السر والعلن. اتق الله واتق الأرض فالأرض شاهدة عليك، واتق جوارحك شاهدة عليك، فربنا (تبارك وتعالى) لا يغفل ولا ينام.