
القرآن الكريم / سورة التين / التفسير المقروء
سورة التين
لقاؤنا مع سورة التين وهي سورة مكية على أرجح الأقوال. أقسم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ في أولها بأربعة أشياء حيث قال عز مِنْ قائل:
بِّسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ ﴿1﴾
وَطُورِ سِينِينَ ﴿2﴾
وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ ﴿3﴾
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ التين: هو الذي تأكلون. والزيتون: هو الذي تعصرون وذاك أرجح الأقوال. واختص الله ﴿تبارك وتعالى﴾ التين والزيتون بالقَسَم لفضلهما وشرفهما وكثرة منافعهما، فقد عَدَّدَ العلماء منافع كثيرة للتين حتى أنهم قالوا إنه لا فضلات له إذا أكله الإنسان فلا يترك فضلات، وهو شفاء من كثير من الأدواء كانسداد الكبد وفشل الطحال وما إلى ذلك. وكذلك الزيتون كثير المنافع فهو طعام وإدام وزيته يُستَصْبَحُ به ويُستَشْفَى به ويُدَاوَى به المريض. وقال بعض العلماء القَسَم ليس بالتين والزيتون وإنما بمنابتها، أي بالأرض التي ينبت فيها التين والأرض التي ينبت فيها الزيتون، ومنابت التين والزيتون في بيت المقدس فأقسَمَ بالمنابت ألا وهو الشام أو بيت المقدس حيث بُعِثَ عيسى، وأقسم بطور سيناء حيث كُلِّمَ موسى، ثم أقسم بالبلد الأمين حيث وُلِدَ وبُعِثَ سيد العالمين. وقال بعض العلماء التين: مسجد نوح، ذاك كان اسمه. والزيتون: بيت المقدس. وقالوا في هذا أقوال كثيرة حتى أنهم قالوا إن التين هو الذي ستر آدم نفسه بورقه حين أخذ يخصف من ورق الجنة فكان ورق التين هو الساتر لعورة آدم. وأرجح الأقوال هو ما ظهر من الآية؛ التين: فاكهة التين المعلومة، والزيتون كذلك، حيث قال ربنا في شأن الزيتون: ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ﴾ [سورة المؤمنون آية: 20] .
﴿ وَطُورِ سِينِينَ ﴾ وقُرِئت "وطور سَينَاء" وقُرِأَت "طور سِينَاء" بفتح السين وبكسرها. وسينين: تعني الحَسَن أو المبارَك. وقالوا: كل جبل ينبت فيه الشجر والثمر يسمى سينين. والمقصود بالكلمة هو الموضع الذي فيه الجبل الذي تكلم فيه موسى مع ربه. "طُور": اسم الجبل، سينين: أي الجبل المبارك، الجبل الذي في هذا الموضع. ﴿وهذا البلد الأمين﴾ البلد: مكة، والأمين: أي الآمن، لقول الله (عز وجل):
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [سورة العنكبوت آية:67] فالأمين: بمعنى الآمن أو المأمون فيه، البلد الأمين: أي المأمون فيه، لقول الله (عز وجل) : وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [سورة آل عمران آية: 97].
أقسم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ بهذه الأشياء أو الأماكن تشريفاً لها وإشعاراً بأن الدين متصل من لدن آدم، وشرائع الأنبياء واحدة، وما جاء محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بجديد فقد كان من قبله موسى وكان من قبله عيسى وكلهم بُعِثَ لتوحيد الله ﴿عز وجل﴾. وجاء جواب القَسَم:
﴿ وَطُورِ سِينِينَ ﴾ وقُرِئت "وطور سَينَاء" وقُرِأَت "طور سِينَاء" بفتح السين وبكسرها. وسينين: تعني الحَسَن أو المبارَك. وقالوا: كل جبل ينبت فيه الشجر والثمر يسمى سينين. والمقصود بالكلمة هو الموضع الذي فيه الجبل الذي تكلم فيه موسى مع ربه. "طُور": اسم الجبل، سينين: أي الجبل المبارك، الجبل الذي في هذا الموضع. ﴿وهذا البلد الأمين﴾ البلد: مكة، والأمين: أي الآمن، لقول الله (عز وجل):
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [سورة العنكبوت آية:67] فالأمين: بمعنى الآمن أو المأمون فيه، البلد الأمين: أي المأمون فيه، لقول الله (عز وجل) : وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [سورة آل عمران آية: 97].
أقسم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ بهذه الأشياء أو الأماكن تشريفاً لها وإشعاراً بأن الدين متصل من لدن آدم، وشرائع الأنبياء واحدة، وما جاء محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بجديد فقد كان من قبله موسى وكان من قبله عيسى وكلهم بُعِثَ لتوحيد الله ﴿عز وجل﴾. وجاء جواب القَسَم:
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ ﴿4﴾
ذاك جواب القَسَم، ولله ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يُقسِمَ بما شاء على ما يشاء. وفائدة القَسَم بيان شرف ما أقسم الله به ورفعة شأن ما أقسم الله عليه. واختص الإنسان بالذكر لأنه أشرف مخلوقات الله ﴿عز وجل﴾ وهو المخلوق المكلَّف والمعاتَب والمخاطَب والمعاقَب، خَلَقَ الله ﴿تبارك وتعالى﴾ الإنسان في أحسن تقويم. الإنسان هنا آدم، أو الإنسان هنا مطلق الإنسان، أو الإنسان هنا الكافر الذي خلقه الله ﴿تبارك وتعالى﴾ في أحسن تقويم فكفر بأنعم الله ولم يشكر الله فرده إلى أسفل سافلين. والتقويم: التعديل، ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ في أحسن صورة. وانظر إلى المخلوقات من حولك، أنت تأكل بيدك وتشرب بيدك وتتناول الأشياء بيدك وغيرك يأكل ويشرب بفمه، أنت معتدل القامة قائماً على قدميك مستوياً وغيرك مُنكَبٌّ على وجهه يمشي على أربع أو يمشي على بطنه. ميز الإنسان بالعقل والإدراك والتدبير والإحكام، جعل الله ﴿تبارك وتعالى﴾ في الإنسان من الصفات ما اتصف ﴿سبحانه وتعالى﴾ بها فجعل الإنسان حياً قادراً مُريداً مُدرِكاً مُتَكَلِّماً سميعاً بصيراً، وتلك من صفات الله ﴿عز وجل﴾، فالله هو الحي المتكلم السميع البصير المريد القادر، فتلك صفات من صفات الله ﴿عز وجل﴾ اختص الله بها الإنسان دون خلقه من سائر الحيوان. خلق الإنسان في أحسن تقويم، في أحسن صورة، وتركيب أعضاء الإنسان في جسمه متسقة متناسقة، الأيدي والأرجل متساوية في الطول والحجم. خلق الله ﴿تبارك وتعالى﴾ الإنسان -والكلمة عن مطلق الإنسان في أحد الأقوال-وحين خلقه في أحسن تقويم وأسكنه الجنة لتكون مأوى له عَلِمَ منه بعلمه الأزلي أنه يكفر ويضل ويطغى فَرَدَّهُ إلى أسفل سافلين بأن جعل هذا الوعاء الذي حَسُنَت صورتُه وأُتقِنَ خلقُه وتساوت أعضاؤه ومُنِحَ من الصفات الربانية ما مُنِح رَدَّهُ أسفل سافلين بأن جعله حاملاً للقذارة والنجاسة، ومن لُطفِهِ سَتَرَ ذلك، فسبحان من أظهر الجميل وستر القبيح.
ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ ﴿5﴾
إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۢ ﴿6﴾
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ ﴿7﴾
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَـٰكِمِينَ ﴿8﴾
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ وقُرِئت ﴿ أسفل السافلين ﴾ قالوا أسفل السافلين: الدرك الأسفل من النار. إذاً الكلام عن الكافر؛ ﴿لقد خلقنا الإنسان﴾: أي الكافر ﴿ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ : على الفطرة، وكل مولود يُولَد على الفطرة، ثم رده الله ﴿تبارك وتعالى﴾ إلى جهنم؛ أسفل سافلين لأنه كفر وطغى وتجبر. أو إذا كان الكلام عن مطلق الإنسان وليس على الكافر، فأسفل السافلين هو أرذل العُمُر حيث لا يَعلَمَ بعد عِلمٍ شيئاً، بعد القوة الضعف، وبعد الشباب الهِرَم، وبعد العلم النسيان، وبعد القوة الضعف، فأسفل سافلين: أي إلى أرذل العمر.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ فإن كان المقصود بأسفل سافلين النار فالاستثناء متصل، بمعنى أن الإنسان إذا كَفَرَ رُدَّ من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين، إلى النار، إلا الذين آمنوا لا يدخلون النار، فالاستثناء متصل. وإذا كان أسفل سافلين عبارة عن أرذل العمر فالاستثناء منقطع لأن الكل يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ويصبح المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم -مطلق الإنسان- ثم رددناه أسفل سافلين، فكل إنسان يرجع ويرجع إلى أرذل العمر إذا طال عمره، , ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
الاستثناء منقطع بمعنى لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات -كلام جديد- لهم أجر غير ممنون. وقال بعض العلماء: أبداً! أسفل سافلين إن كانت بمعنى أرذل العمر لا يُرَدُّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى أرذل العمر أبداً، فقيل: كيف ذلك والكِبَرُ حق والهِرَم على الكل ساري، فكيف لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر ذلك الذي آمن وعمل الصالحات؟ قالوا: عقله لا يذهب أبداً مهما طال عمره، لا يصاب بالخَرَف أبداً، أبداً لا يَهرَم، أبداً لايذهب عقله، أبداً لا يختلط عليه الأمر. واختصوا من هؤلاء حَمَلَةَ القرآن وقالوا إن حامل القرآن مهما طال عمره عقله ثابت وتمييزه صحيح مهما كَبُر ومهما وَهَنَ منه العَظْم ومهما أصيب بالضعف، كل ذلك في البدن أما العقل فلا.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾
(ممنون) من المـــَنّ: القَطْع، مَنَنْتُ الحبل: قَطَعتُه. غير ممنون: أي غير مقطوع، عطاءً غير مجذوذ، إذاً فهو العطاء المستمر، النعيم الدائم. وقيل ممنون: بمعنى الـمَنّ من قوله (عز وجل) :
﴿ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ ﴾ [سورة البقرة آية:264]
أي غير ممنون: أي لا يَمُنُّ عليه بالأجر، لا يَمُنُّ عليه بالنعيم، يأخذوا النعيم ويتمتعوا بالنعيم دون أن يَمُنُّ عليهم بذلك. والـمَنُّ كلكم يعرفه، إذا تَصَدَّقتَ على رجل أو خدمتَ إنساناً فإن قلتَ له لولا نفقتي عليك لحدث وحدث، وأَلَا تذكر أني أنعمتُ عليك بكذا وكذا وتُقَرِّرُه بذلك، ذاك هو المــَنُّ الممنوع. فهؤلاء إذا دخلوا الجنة لا يُمَنُّ عليهم، وربما يشير لذلك قول الله ﴿عز وجل﴾ في شأنهم حين قالوا:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية: 43] .
أجر غير ممنون: غير مقطوع، غير ممنوع، لا يُمَنُّ به عليهم. ويأتي بعد ذلك السؤال الموجه للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، أو السؤال الموجه للكافر: ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ أيها الكافر بعد أن رأيت تقلب الأحوال فيك؛ كيف خُلِقتَ، كيف كنتَ شاباً قوياً، ثم بعد ذلك تغير بك الحال فأخذتَ تتكئ على عصا، كنتَ تمشى على أربع وأنت طفل، تحبو، ثم أقامك وعَدَلَكَ فمشيتَ على قدميك، ثم ها أنت تعود وتمشي على ثلاث فتتوكأ على العصا وينحني ظهرك وهكذا. هذا التقلب في الأحوال يدل علي وجود الـمُغَيِّر والـمُحَوِّل الذي لا يَتَحَوَّل ولا يَتَغَيَّر. وإذا كان الأمر كذلك فالبعث حق والقيامة حق والجزاء والسؤال والعقاب والثواب حق من رؤيتك لذلك، كيف خُلِقتَ في أحسن تقويم ثم رُدِدتَ إلى أرذل العمر. هذا التقلب في أحوالك لابد أن يقودك إلى الإيمان بوجود الملِكِ الدَّيَّان.
﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ ﴾ أيُّ شيء يُكَذِّبُك؟ أَيُّ شيء دفعك للتكذيب ﴿بالدين﴾: أي الجزاء. دَانَه: جازاه، ومنه قول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "كما تَدِينُ تُدَان" أي تُجَازَى. فما الذي كَذَّبَك ودفعك إلى التكذيب بالبعث والقيامة والجزاء؟
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ﴾ [سورة السجدة آية: 18]
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ فإن كان المقصود بأسفل سافلين النار فالاستثناء متصل، بمعنى أن الإنسان إذا كَفَرَ رُدَّ من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين، إلى النار، إلا الذين آمنوا لا يدخلون النار، فالاستثناء متصل. وإذا كان أسفل سافلين عبارة عن أرذل العمر فالاستثناء منقطع لأن الكل يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ويصبح المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم -مطلق الإنسان- ثم رددناه أسفل سافلين، فكل إنسان يرجع ويرجع إلى أرذل العمر إذا طال عمره، , ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
الاستثناء منقطع بمعنى لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات -كلام جديد- لهم أجر غير ممنون. وقال بعض العلماء: أبداً! أسفل سافلين إن كانت بمعنى أرذل العمر لا يُرَدُّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى أرذل العمر أبداً، فقيل: كيف ذلك والكِبَرُ حق والهِرَم على الكل ساري، فكيف لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر ذلك الذي آمن وعمل الصالحات؟ قالوا: عقله لا يذهب أبداً مهما طال عمره، لا يصاب بالخَرَف أبداً، أبداً لا يَهرَم، أبداً لايذهب عقله، أبداً لا يختلط عليه الأمر. واختصوا من هؤلاء حَمَلَةَ القرآن وقالوا إن حامل القرآن مهما طال عمره عقله ثابت وتمييزه صحيح مهما كَبُر ومهما وَهَنَ منه العَظْم ومهما أصيب بالضعف، كل ذلك في البدن أما العقل فلا.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾
(ممنون) من المـــَنّ: القَطْع، مَنَنْتُ الحبل: قَطَعتُه. غير ممنون: أي غير مقطوع، عطاءً غير مجذوذ، إذاً فهو العطاء المستمر، النعيم الدائم. وقيل ممنون: بمعنى الـمَنّ من قوله (عز وجل) :
﴿ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ ﴾ [سورة البقرة آية:264]
أي غير ممنون: أي لا يَمُنُّ عليه بالأجر، لا يَمُنُّ عليه بالنعيم، يأخذوا النعيم ويتمتعوا بالنعيم دون أن يَمُنُّ عليهم بذلك. والـمَنُّ كلكم يعرفه، إذا تَصَدَّقتَ على رجل أو خدمتَ إنساناً فإن قلتَ له لولا نفقتي عليك لحدث وحدث، وأَلَا تذكر أني أنعمتُ عليك بكذا وكذا وتُقَرِّرُه بذلك، ذاك هو المــَنُّ الممنوع. فهؤلاء إذا دخلوا الجنة لا يُمَنُّ عليهم، وربما يشير لذلك قول الله ﴿عز وجل﴾ في شأنهم حين قالوا:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية: 43] .
أجر غير ممنون: غير مقطوع، غير ممنوع، لا يُمَنُّ به عليهم. ويأتي بعد ذلك السؤال الموجه للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، أو السؤال الموجه للكافر: ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ أيها الكافر بعد أن رأيت تقلب الأحوال فيك؛ كيف خُلِقتَ، كيف كنتَ شاباً قوياً، ثم بعد ذلك تغير بك الحال فأخذتَ تتكئ على عصا، كنتَ تمشى على أربع وأنت طفل، تحبو، ثم أقامك وعَدَلَكَ فمشيتَ على قدميك، ثم ها أنت تعود وتمشي على ثلاث فتتوكأ على العصا وينحني ظهرك وهكذا. هذا التقلب في الأحوال يدل علي وجود الـمُغَيِّر والـمُحَوِّل الذي لا يَتَحَوَّل ولا يَتَغَيَّر. وإذا كان الأمر كذلك فالبعث حق والقيامة حق والجزاء والسؤال والعقاب والثواب حق من رؤيتك لذلك، كيف خُلِقتَ في أحسن تقويم ثم رُدِدتَ إلى أرذل العمر. هذا التقلب في أحوالك لابد أن يقودك إلى الإيمان بوجود الملِكِ الدَّيَّان.
﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ ﴾ أيُّ شيء يُكَذِّبُك؟ أَيُّ شيء دفعك للتكذيب ﴿بالدين﴾: أي الجزاء. دَانَه: جازاه، ومنه قول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "كما تَدِينُ تُدَان" أي تُجَازَى. فما الذي كَذَّبَك ودفعك إلى التكذيب بالبعث والقيامة والجزاء؟
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ﴾ [سورة السجدة آية: 18]