القرآن الكريم / سورة الشرح / التفسير المقروء

سورة الشرح

مقدمة‬‬‬
‫نزلت سورة الشرح، سورة (ألم نشرح) بمكة، وهي ثماني آيات‫. ‬ يقول الله (تبارك، وتعالى) مُنعِماً على حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مُقَرِّراً:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ ٱلَّذِىٓ أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾
‫﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ السؤال للتقرير، ونفي النفي إثبات‫. ‬ فالسؤال فيه بعض النفي أو بعض الجحد‫. ‬ و"لم" حرف نفي بمعنى (قد شرحنا لك صدرك). والشَّرْح‫:‬ الانفتاح، التوسعة‫. ‬ وقد سُئِلَ النبي (‪صلى الله عليه وسلم) من صحابته إذ قال له بعض صحابته‫:‬ يا رسول الله وينشرح الصدر؟ قال‫:‬ "نعم، ويَنفَسِح" قالوا‫:‬ وهل لذلك علامة؟ قال‫:‬ "نعم، التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاعتداد للموت قبل نزول الموت". "الشرح" في هذه الآية قال بعض العلماء هو ما حدث حقيقة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وهو صغير، وهو عند حليمة، حيث جاء الملكان فشَقَّا صدره فأخرجا قلبه، وأخرجا منه شيئاً، وقالا هذا حظ الشيطان منك ثم غسلاه وملآه حكمة وإيمان ثم رَدَّاه إلى صدره الشريف‫. ‬ قد حدث الشَّقُّ مرة ثانية، قال عنها نبينا (صلى الله عليه وسلم): "بَينَا أنا في البيت بين النائم واليقظان إذ أتى ملكان فقالا‫:‬ أحد الثلاثة -فقد كان ينام عن يمينه حمزة عمه سيد الشهداء، وعن يساره جعفر بن أبي طالب-قالا‫:‬ أحد الثلاثة، ثم أخذاه فشَقَّا صدره فأخرجا قلبه، وجاءً بطستٍ من ذهب فيه ماء زمزم فغسلا القلب ثم ملآه بالعلم والحكمة والإيمان"، فالآية تتحدث عن ذلك‫. ‬ وقال بعض العلماء‫:‬ بل الشرح هنا هو انفساح القلب واتساعه لدعوة الخلق وعبادة الحق، هو فتح القلب للإيمان والهدى والوحي والقرآن، هو استعداد القلب لتلقي كلام رب العالمين‫. ‬ ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ وَضَعْنَا‫:‬ حَطَطْنَا، وَضَعَ الشيء‫:‬ حَطَّهُ. الوِزر‫:‬ الحِمل، والوِزر يطلق على الذنب، وعلى الإثم‫. ‬ وهل للنبي (صلى الله عليه وسلم) ذنب، وهل له إثم؟ قالوا‫:‬ الكلام عما حدث قبل النبوة، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) على ما كان عليه قومه في الجاهلية الأولى، فربنا (تبارك، وتعالى) يتحدث عن تلك الذنوب أو الصغائر التي كانت قبل البعثة، والكلام مردود لأن النبي (صلى الله عليه وسلم‬) معصوم في الشيبة، وفي الشباب، لم يسجد لصنم، ولم يعبد وثن، لم يَزْنِ، لم يشرب الخمر، لم يأكل الميتة، لم يفعل ما كان يفعله الجاهلية، بل كان يَتَحَنَّث في غار حراء الليالي ذوات العدد، أبداً ما أخطأ النبي (صلى الله عليه وسلم)! وما كَذَبَ لا في صغره، ولا في كِبَرِه، ولا بدَّ أن يُؤَوَّلُ المعنى إلى شيء آخر‫. ‬ ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ النبي (صلى الله عليه وسلم) في بدء البعثة لم يكن يدري ما الأمر، جاءه الملك، وعلى هيئة رجل في غار حراء فضَمَّهُ، وغَطَّهُ مرة ومرتين وثلاث ثم قال‫:‬ اقرأ، وهو ما يدري ما يقرأ، وذهب خائفاً مرتعداً، ويقول‫:‬ "دَثِّرُوني زَمِّلُوني" ثم امتنع عنه الملك، وهو لا يدري ما الأمر، خاف على عقله، خاف على نفسه، حتى إنَّه كان يذهب إلى حراء، ويكاد يتردى من الجبل، فكان الحمل عليه ثقيل حتى جاءه الملك في صورته جالساً على كرسي بين السماء والأرض سَادَاً بعِظَمِ خلقه الأفق، هنا تَيَقَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) وثَبَت‫. ‬ ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ ذاك الحِمْل‫. ‬ أو كانوا يكذبونه، وكانوا وكانوا وكانوا، وكان يحمل هَمَّهُم، وكان يَغْتَمُّ من أجلهم، وكان حزيناً على قومه حتى إنَّ الله (تبارك، وتعالى) قال له" ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٦] أي قاتِل نفسك، مُهلِكُها‫. ‬ أيضاً كان يعتقد النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه مسؤول عن إيمان قومه، وربنا (تبارك، وتعالى) رفع عنه هذه المسؤولية، ورفع عنه هذا الهم، وقال‫:‬ ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا البلاغ﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٨] ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية آية‫:‬ ٢٢]، وقال‫:‬ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٥٦] ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ قد تحمل هذه المعاني‫. ‬ وقال بعض العلماء الوِزر‫:‬ الحمل الثقيل والذنب والإثم الكبير، وليس للأنبياء ذنباً أو إثم كبير، ولكن هناك بعض الأمور الصغيرة التي عُوتِبَ فيها الأنبياء، وقد عُوتِبَ نبينا (صلى الله عليه وسلم) في أمور منها ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [سورة عبس آية‫:‬ ١]، وإن كان الأمر بسيطاً وصغيراً، بل لو فعله أحد العلماء لكان أولى، ولكان ذاك هو الأولى والأصح أن ينتبه لمن يُعَلِّمَهم، ويُعرِض عن هذا الذي يقطع عليه حديثه، أما الأنبياء فشيء آخر، وحسنات الأبرار سيئات المقربين‫. ‬ ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ وَقْعُها عليه شديد، وإن كانت صغيرة إلا أنه عدها النبي (صلى الله عليه وسلم) كبيرة‫. ‬ فالخَطَرَات والصغائر، الدقائق في عُرفِ الأنبياء كبيرة لدرجتهم ومنزلتهم عند الله‫. ‬ أيضاً حين سُئِلَ عن الروح قال‫:‬ "أُخبِرُكُم غداً"، ونسي أن يقول إن شاء الله فعوتب‫:‬ ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٢٣- ٢٤] فعوتب‫. ‬ أيضاً جاءه المنافقون فاستأذنوه في عدم الخروج معه في الغزو فَأَذِن فعوتب‫:‬ ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٤٣]. تلك أمور عُوتِبَ فيها النبي (صلى الله عليه وسلم). من هنا وإن كانت أموراً صغيرة بسيطة إلا أنه شعر بحملها الشديد، شعر بعِظَمِها، ومثل هذا المؤمن يستعظم ذنبه، ويستصغر طاعته، المؤمن يستعظم الذنب، وإن كان صغيراً، ويخاف ويخشى ألا يُغفَرَ له، ومهما أتى من طاعة استصغرها ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [سورة المؤمنين آية‫:‬ ٦٠] من هنا يقول الله (تبارك، وتعالى) له مُمتَنَّاً ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) ﴾ أَثقَلَه، وأَوهَنَه‫. ‬ والأصل في الكلمة إذا وُضِعَ الحِمل الثقيل على ظهر البعير سُمِعَ له صوت -لهذا الحِمل- سُمِعَ له صوت أو لظهر البعير يقال له النَّقِيض‫. ‬ أَنقَضَ ظهرَك‫:‬ أي جعل ظهرك يصدر عنه الصوت، أو يصدر عن الحِمل الثقيل النَّقِيض، الذي أظهر نقيضاً. ﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾: أثقله وأوهنه، وأتعبه‫. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.
‫﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ رفع ذِكرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بأمور؛ أمر ربنا (تبارك، وتعالى) المؤمنين بالصلاة عليه، وذَكَرَه في الملأ الأعلى، وصَلَّى عليه أزلاً، وأمر ملائكته يُصَلُّون عليه، ذَكَرَه في الكتب السماوية السابقة جميعاً، وأخذ الميثاق على الأنبياء أن يشهدوا له، وأن يؤمنوا به، وأن يوصوا أقوامهم بالإيمان به، رفع الذكر بأمور كثيرة، أصحها أو أعلاها‫:‬ لا يُذكَرُ الله (تبارك، وتعالى) إلا، ويُذكَر محمد معه‫. ‬ وقيل أن الله (تبارك، وتعالى) أخبره عن طريق جبريل عن رفع الذِّكر‫:‬ ما ذُكِرتُ إلا، وذُكِرتَ معي، في التشهد، في الأذان، في الإقامة، في الخُطَب على المنابر، في رمي الجمار، في الطواف والسعي، في كل مكان يُذكَر نبينا (صلى الله عليه وسلم) مع الله (تبارك، وتعالى) بل لو أن رجلاً آمن بالله وباليوم الآخر وبالملائكة وبالكتب السماوية وبجميع الأنبياء، وعمل الصالحات، ولم يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) عُدَّ كافراً، ودخل النار ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾] ‫سورة النساء آية‫:‬ ٨٠‬[فجعل طاعة النبي طاعة له، وجعل حب النبي حباً له، ولا يُذكَر الله إلا، ويُذكَر النبي (صلى الله عليه وسلم) معه، ولا تُقبَل الشهادة بوحدانية الله إلا إذا قُرِنَت بشهادة أن محمداً رسول الله، ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾. ‬‬‬‬‬‬‬
فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًۭا ﴿6﴾ فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ ﴿7﴾ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَب ﴿8﴾
‫﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ العُسر‫:‬ الضيق والشدة، العُسر‫:‬ الضيق في المال والشدة في الحال‫. ‬ أيضاً العُسر‫:‬ كل ضيق، سواء كان ضيق ذات اليد أو ضيق الصدر أو الغم أو الهموم أو الكروب أو المشكلات أو المشاغل، كل ذلك يطلق عليه عُسر‫. ‬ ﴿مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ واليُسر‫:‬ التيسير في كل شيء، ذاك هو اليُسر‫:‬ التسهيل، أن يُسَهِّل لك أمرك‫. ‬ ربنا (تبارك، وتعالى) يقول ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ يقول لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بعد الوِزر الذي أنقض الظهر يأتي الغفران والتوبة والمحبة ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ٣] بعد الفقر يأتي الغنى، بعد التكذيب يأتي الإيمان، بعد القلة تأتي الكثرة، بعد الضعف يأتي النصر، بعد الهجرة أو الإخراج من مكة يأتي الفتح‫. ‬ ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ الكلام مؤكد ممن خلق العُسر، وخلق اليُسر، واللهِ لو كان العُسر في جُحرٍ لَطَلَبَهُ اليُسر حتى يدخل إليه، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. ثم يستأنف الكلام أو يكرر التأكيد ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ والعرب إذا كَرَّرَت الاسم الـمُعَرَّف فهو هو، هو الشيء نفسه‫. ‬ وإذا كَرَّروه، ونَكَّروه فهو شيء آخر‫. ‬ وهنا العُسر مُعَرَّف بالألف واللام ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ إذاً فالعسر في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية‫. ‬ أما اليُسر جاء نكرة بغير ألف ولام، وإذا كُرِّرَت الكلمة، الاسم كُرِّرَ، وهو نكرة فالأول غير الثاني‫. ‬ إذاً فقد خلق الله (تبارك، وتعالى) عُسراً واحداً، وخلق له يُسرَين، وما من عُسرٍ خُلِقَ إلا، وخُلِقَ معه يُسران -أي وربي- ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ التكرير للتأكيد، لِبَثِّ الأمل في الله (تبارك، وتعالى) فإنه لاييئسس من روح الله إلا القوم الكافرون‫. ‬ وقال بعض العلماء‫:‬ الآية الأولى للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) تَبَعًاً للكلام‫:‬ (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر -في هذه الدعوة التي تلاقي فيها المشقة-يسرا)، وإن مع هذا الفقر الذي تعانيه، وتكابده غنى‫. ‬ والآية الثانية استئناف للأمة؛ يا أمة محمد إن مع العُسر يُسراً، إياكم أن تُيَأَّسُوا من رحمة الله‫. ‬ ويتوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ إذا فَرَغْتَ من الفرائض فَانْصَب في قيام الليل‫. ‬ النَّصَب‫:‬ التعب، فانصب‫:‬ أي ابذل الجهد‫. ‬ النَّصَب‫:‬ التعب، المشقة، المكابدة‫. ‬ إذا فَرَغْتَ من الفرائض فانصَبْ، فانْصَبْ في قيام الليل والنوافل‫. ‬ إذا فَرَغْتَ من الغزو فارجع، واتعب في العبادة‫. ‬ إذا فَرَغْتَ من الخَلْق فاتجه إلى عبادة الحق‫. ‬ إذا فَرَغْتَ من أمورك الدنيوية فاتعب في الأمور الأخروية، فإذا فَرَغْتَ من دعوة الناس فانْصَبْ بالاتجاه إلى الله‫. ‬ ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ تحمل كل هذه المعاني‫. ‬ ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ فارغب في الدعاء‫. ‬ وقُرِئت ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَرَغِّب﴾ أي رَغِّبِ الناس‫. ‬ ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ أي فارغب إلى الله، ولا ترغب إلى أحد سواه، فارغب إليه في الدعاء، أَخلِص العمل لله (تبارك، وتعالى) أَخلِص النية‫.

أيها الأخ المسلم؛ الناس في هذه الدنيا مختلفون، وفي تقبلهم للقضاء والقَدَر درجات، فمن الناس من يرضى بقضاء الله (تبارك، وتعالى) ومن الناس من يسخط، ومن الناس من يَسعَد‫. ‬ والمال في الدنيا امتحان، وليس دليلاً على إكرام الله (تبارك، وتعالى) للعبد، وكل مافيا هذه الدنيا ابتلاء وفتنة، فإن كنتَ ذا مال فأنت مُمتَحَن، وإن كنتَ ذا جاه فأنت مُبتَلَى، وإن كنتَ ذا صحة وعافية فأنت مُختَبَر، كل ذلك يُسأَل عنه ابن آدم يوم القيامة‫. ‬ كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يربط الأحجار على بطنه من الجوع، وهو سيد الخلائق وأحب الناس إلى الله‫. ‬ إذاً فالغنى ليس علامة‫. ‬ ومَرِضَ النبي (صلى الله عليه وسلم) إذاً فالصحة ليست علامة، بل وحين مات النبي (صلى الله عليه وسلم) لَقِيَ وكابد من الموت وسكرات الموت الكثير حتى إنه ليقول‫:‬ "إن للموت لسكرات". إذاً التعب عند الموت ليس دليلاً على سخط الله) ‪تبارك، وتعالى‬ (، والمرض ليس دليلاً على غضب الله (تبارك، وتعالى) فما من عبد يصاب بشيء إلا، وهو كفارة لسيئاته ورفعة لدرجاته، والعلامة إذا دخلتَ على الرجل المصاب فوجدتَه راضياُ محتسباُ فتلك كفارة‫. ‬ ما من شيء يصيب المسلم إلا، ويُكَفِّرُ الله به عن سيئاته، حتى الشوكة يَشَاكُهَا يُكَفِّر بها عن سيئاته، ويرفع من درجاته ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ٢٢- ٢٣]. ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٣٠] فإذا دخلتَ عليه وجدتَه راضياً محتسباً فتلك كفارة، أما إذا دخلتَ عليه فوجدتَه سعيداً فرحاً فتلك علامة على رفعة الدرجة، ثلاث علامات‫. ‬ ولذا كان الصحابة إذا بُسِطَت لهم الدنيا بكوا، وقالوا‫:‬ نخشى أن تكون حسناتنا قد عُجِّلَت لنا في الدنيا، وكانت إذا جاءتهم المصائب فرحوا بها، وقالوا‫:‬ مرحباً بشِعَار الصالحين، إذا جاءهم الفقر قالوا مرحباً بشِعَار الصالحين، وإذا جاءت المصيبة قالوا نفرح، ونجد سرورنا عند مواقع القَدَر‫. ‬ وكانت النعمة الدنيوية إذا أتت أحدهم قال‫:‬ هي عقوبة عُجِّلَت لنا، الدنيا، النعمة، الغنى، الجاه، يعدوا ذلك عقوبة! نعم، يخشون السؤال، وكلما قل زاد المرء في الدنيا قل السؤال في الآخرة، وكلما كثر زاده في الآخرة كلما نجا، خير الزاد التقوى‫. ‬ أيها الأخ المسلم؛ الرضا بقضاء الله وقَدَرِه، حُلوِه ومُرِّه، خَيرِه وشَرِّه أساس في الإيمان، وهو علامة من علامات الإيمان‫.