القرآن الكريم / سورة الضحى / التفسير المقروء

سورة الضحى

مقدمة
لقاؤنا مع سورتي الضحى والشرح، والسورتان مكيتان. ونبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بمكة، وفي أول أيام بعثته، اشتكى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فلم يقم ليلتين أو ثلاثة، فجاءته امرأة -وهي أم جميل بنت حرب أخت أبو سفيان وزوجة أبي لهب، حمالة الحطب-جاءته، وقالت: يا محمد إني لأرجو أن شيطانك قد تركك لم أره قِرَبُك منذ ليلتين أو ثلاثة، وقال المشركون بمقالتها: تَرَكَ رَبُّ محمد محمدا، وقلاه، فنزل جبريل يقول للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ قَولَ الله:

وَٱلضُّحَىٰ ﴿1﴾ وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿2﴾ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ﴿3﴾
سورة الضحى، أقسم الله ﴿تبارك وتعالى﴾ في أولها بأمرين: الأمر الأول هو معاش العباد، والأمر الثاني هو نوم العباد وسكون الليل.
وَالضُّحَى﴿ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) ﴾، وكأن الدنيا في تقلبها بين الليل والنهار تُقَلِّبُ كل شيء، وتُغَيِّرُ كل شيء، وربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ لا يتغير ولا يتحول. الضحى: النهار، ويطلق على أول النهار وارتفاع الشمس، والمقصود هنا هو النهار. وقال العلماء: لِمَ اختص الله ﴿تبارك وتعالى﴾ الضحل ليقسم به؟ قيل الضحى هي الساعة التي كلم الله فيها موسى تكليماً. وقالوا الضحى هي الساعة التي خر فيها السحرة لله سُجَّدًاً حيث قال موسى:
﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [سورة طه آية:59]. وقالوا: أقسم بالليل حيث ليلة المعراج؛ حيث عُرِجَ بالنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ إلى السموات العلي. والعموم في القسم أشبه بالصواب؛ الضحى: النهار عموماً.
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ سَجَى: سَكَن، وسَجَى: غَطَّى، وكلمة سجا تعني المعنيين؛ ففي الليل تسكن الحركة والليل يغطي بظلامه كل شيء.
﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ وَدَّعَك بالتشديد: من التوديع للمفارق، إذا أراد إنسان أن يفارق إنساناً وَدَّعَه، أي ذهب إليه، وسَلَّمَ عليه مُودَعًاً إياه مُفارِقَاً له. وقُرِئت ﴿ ما وَدَعَك ﴾ بغير تشديد أي ما تركك، وَدَعَ الشيء: تَرَكَه. ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ أي وما قلاك، وحذف المفعول لمراعاة نهاية الآية، ﴿وما قلى﴾ كقول الله (تبارك، وتعالى):
﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ [سورة الأحزاب آية: 35]. أي والذاكرات الله. القَلْي: البغض الشديد. قلاه يَقلِيه قلىً وغلاءً: أبغضه. ربنا تبارك وتعالى يُقسِمُ بالنهار، ويُقسِمُ بالليل أنه ما ترك حُبَّ محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وما أبغضه بعدما أحبه، وما تركه وما ودعه. ثم يبشره:
وَلَلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ لَّكَ مِنَ ٱلْأُولَىٰ ﴿4﴾ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰٓ ﴿5﴾
والآخرة: يوم القيامة، والأولى: هي الدنيا. وقالوا الآخرة: أي آخر أمرك خير لك من أول أمرك، ففي أول الأمر أُوذِيَ، وكُذِّبَ وعُودِي وفي آخر الأمر فُتِحَت له الأمصار، ودانت له الأرض بمشارقها ومغاربها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. والرأي الأرجح أن الآخرة هي الآخرة والأولى هي الدنيا. ربنا يبشره ويقول ما عندي وما أعددتُ لك في آخرتك خيراً لك من هذه الدنيا وما فيها. وفي هذه الدنيا فُضِّلَ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ على كل الخلائق، وأكرمه الله ﴿تبارك وتعالى﴾ بالرسالة والنبوة وبالوحي وبرفع ذكره، أكرمه بكل ذلك، ولكن إكرام الآخرة أعلى وأَجَلُّ وأكبر، قيل الحوض؛ حوضه كما بين اليمن والشام وأكوابه عدد نجوم السماء من شَرِبَ منه شَرْبَة لم يظمأ بعدها أبداً. وقيل أيضاً الآخرة خير لك من الأولى: الشفاعة، المقام المحمود حيث يقول الكل نفسي ثم نفسي، وهو يقول: أنا لها أنا لها، ويتقدم إلى العرش، ويخر ساجداً لله.
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ وعد من الله ﴿تبارك وتعالى﴾ واجب التحقيق؛ سوف يعطيه فيرضى. ما الذي سوف يعطيه؟ لم يُبَيِّن ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ لنا هذا الذي سوف يعطيه لحبيبه ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، ولكن رُوِيَ أن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ تلا قول الله ﴿عز وجل﴾ في إبراهيم:
﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنْي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [سورة إبراهيم آية:36].
وقول عيسى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [سورة المائدة آية: 118].
فرفع يده إلى السماء، وقال: "اللهم أمتي أمتي"، وبكى، فقال الله ﴿عز وجل﴾ لجبريل: "يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فَسَلْهُ ما يبكيك" فأتى جبريل النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فسأله، وأخبره فقال الله ﴿عز وجل﴾ لجبريل: "يا جبريل اذهب إلى محمد، وقل له إن الله ﴿تبارك وتعالى﴾ يقول لك إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك". ورُوِيَ أن الآية حين نزلت:
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ قال النبي (صلى الله عليه، وسلم):"إذاً والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار".
ثم يعدد ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ نِعَمَه على الحبيب المصطفى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، وكأنه يقول له: الذي أنعم عليك في الماضي، وفي الحاضر سوف ينعم عليك في المستقبل، يعدد عليه النعم ليعلمه الشكر:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًۭا فَـَٔاوَىٰ ﴿6﴾ وَوَجَدَكَ ضَآلًّۭا فَهَدَىٰ ﴿7﴾ وَوَجَدَكَ عَآئِلًۭا فَأَغْنَىٰ ﴿8﴾
والسؤال للتقرير؟ ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ﴾ وُلِدَ النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يتيماً، فقد مات أبوه، وهو في بطن أمه، فكفله عمه بعد ما كفله جده، ماتت أمه، وهو ابن ست سنين، كفله جده عبد المطلب، ثم مات الجد والنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب. ربنا تبارك وتعالى يُذَكِّرْهُ ويقول:
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ﴾ وَجَدَ هنا بمعنى عَلِم أو صادف. ﴿ ووجدك ضالَّاً فهَدَى ﴾ الضلال يأتي بمعني النسيان، كقول الله (عز وجل):
﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ﴾ [سورة البقرة آية:282].
، والضلال هنا ليس بمعنى الكفر الذي هو ضد الإيمان، إذ الضلال أيضا يأتي بمعنى الكفر. والضلال يأتي بمعنى الغياب؛ ضل الماء في اللبن: غاب. والضلال هنا في أرجح الأقوال هو أن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ لم يكن يعلم الأحكام، ولم يكن يعلم الحلال والحرام، إذ هو منذ خُلِقَ لم يسجد لصنم، ولا ليثن، كان على الفطرة، لكنه لم يعلم كيف يعبد ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾، لم يكن يعلم شيئاً عن الصلاة والصيام أو الزكاة أو الحج، لم يكن يعلم شيئاً عن الحلال والحرام، كقول الله ﴿عز وجل﴾ في موضع آخر:
﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، وَلا الإِيمَانُ ﴾ [سورة الشورى آية: 82].
فهذا معنى الضلال ﴿، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ فهداك ببيان الأحكام، ببيان الحلال والحرام، بالبعثة، بالوحي، بالقرآن. وقال بعض الناس إن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ضَلَّ في شعاب مكة، وهو صغير، تاه فوجده بعض الناس فردوه إلى عمه. وقال بعض الناس حين جاءت حليمة السعدية بعد فطامه ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ لترده لأمه ظل منها في مكة، وذهبت تبحث عنه وأخيراً وجده بعض الناس. والرأي الأشبه والأرجح هو المعنى الذي قال فيه العلماء إن الضلال هنا بمعنى الغفلة عن الأحكام، عدم معرفة الحلال والحرام، وكيف يعبد ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾، معرفة الله وأفعال الله وصفات الله (عز وجل).
﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ عائلاً أي ذو عيال، عائلاً أي فقيراً، عَالَ الرجل: افتقر الرجل. وجدك عائلاً: أي فقيراً فأغناك. قالوا فأغناه الله تبارك، وتعالى بالزواج من خديجة وبالربح في التجارة. وقالوا أغناه الله ﴿تبارك وتعالى﴾ ليس بالمال، وإنما بالقناعة والرضا، قَنَّعَهُ بما رزقه فكان قانعاً برزق الله. وقالوا أغناه بالفتح، بفتح الأمصار، وذاك رأي بعيد لأن السورة مكية والفتوحات لم تأت إلا بعد الهجرة بزمن.
﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ قَنَّعَك بما رزقك، أو أغناك بالربح بالتجارة، أو أغناك بمال خديجة. ثلاث نِعَم عَدَّدَها ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ عليه: الإيواء؛ ضَمَّهُ إلى عمه فكان نِعْمَ الأب، حتى إنَّه بعد البعثة كان يدافع عنه، ويدفع عنه الأذى مع أنه لم يُسلِم لكنه كان سنداً له بالإيواء بعد اليتم، وبالهداية بعد الضلال، وبالغِنَى بعد الفقر. فيأمره بعد ذلك: أَحسِن كما أَحسَنَ اللهُ إليك.
فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴿9﴾ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴿10﴾ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴿11﴾
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ القهر: التسلط بظلم. وقُرِئت ﴿ فلا تَكْهَر ﴾ بالكاف أي: فلا تَزْجُر. ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ السائل: قيل هو الذي يَتَكَفَّفُ الناس، أي يسأل الناس بِكَفِّه، رُدَّه بِرَدٍّ جميل أو ببذل يسير، لقول الله (عز وجل):
﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ [سورة البقرة آية:263].
وقيل: بل السائل هنا هو السائل عن أمور دينه، عَلِّمْهُ برفق، وأَرفِق بالمتعلمين والسائلين عن الأحكام.
﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ النعمة: قالوا نِعَمِ الدنيا ونِعَمِ الآخرة يُحَدِّثُ بها، إذ التحديث بها شكر. وقال بل النعمة هنا القرآن والوحي، فَحَدِّث: أي فَحَدِّث الناس بما أوحى الله إليك. أما السائل فنبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أوصى به، وربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ أوصى به، وقال مثنياً على المتصدقين: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (14) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) ﴾ [سورة المعارج آية: 24-25] ونبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أوصى بالسائل، وقال: "إنه يأتيكم من ليس من الإنس، ولا الجن ليرى صُنعَكُم فيما خَوَّلَكم الله" السائل، رد السائل بقول جميل أو ببذل اليسير. أما اليتيم فقد أوصى النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ به في أحاديث كثيرة فقال: "أنا وكافل اليتيم -لنفسه أو لغيره-كهاتين في الجنة -وقَرَنَ بين المسَبِّحَة والوسطى-"، وقال: "من مسح رأس يتيم غُفِرَ له"، وقال: "من ضَمَّ يتيماً إلى نفقته، وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة" "من مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة"، وقال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "إذا بكى اليتيم اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله ﴿عز وجل﴾ لملائكته: يا ملائكتي من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غَيَّبْتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله ﴿عز وجل﴾ لملائكته: يا ملائكتي اشهدوا أن من أَسْكَتَهُ، وأرضاه أن أُرضِيَه يوم القيامة". وجاء رجل إلى النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فشكا له قسوة قلبه، فقال له النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "إن أردتَ أن يَلِين فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين"
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ والنعم وشكر النعم، يقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بالنعم شكراً وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب". ويقول رجل من أصحاب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: كنت عند النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ جالساً فرآني رث الثياب فقال لي: "آلك مال؟ " قلتُ: نَعَم، مِن كُلِّ المال، فقال (صلى الله عليه وسلم):"إذا أتاك الله مالاً فليُرَى أَثَرُهُ عليك"، وقال ﴿صلى الله عليه، وسلم):"إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته في عبده".