
سورة الليل
مقدمة
كان المشركون بمكة يعذبون ضعفاء المسلمين عذاباً شديداً، ومن أشد الناس عذاباً كان العبيد، وعلى رأسهم بلال، وقد كان بلال عبداً لأمية بن خلف رأس الكفر بمكة، كان يُخرِجُهُ فيَطْرَحُهُ على الرمل الساخن في الظهيرة ثم يأتي بالصخرة العظيمة ويضعها على ظهره ويتركه بلا ماء ويكاد العطش يقتله ويقول إنه لن يرفع عنه العذاب حتى يكفر بمحمد وبرب محمد، وكانت إجابة بلال إجابة واحدة، بكلمة وحيدة: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يَمُرُّ عليه ويقول: "نَعَم يا بلال أَحَدٌ أَحَدٌ" وتألم النبي (صلى الله عليه وسلم) لحال بلال فقال لأبي بكر: "يا أبا بكر إن بلال يُعَذَّب" ففهم أبو بكر مُرادَ النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهب إلى أمية بن خلف وهو يُعَذِّب بلال وقال له: أما تتقي الله في هذا؟ فقال: أنت السبب في تعذيبه، مُرْهُ فليكفر أو اشتره، قال: بل أشتريه، فاشتراه أبو بكر، وحين اشتراه أبو بكر قال له بلال: يا أبا بكر هل اشتريتني لعملك أم اشتريتني لعمل الله؟ فقال: بل اشتريتك لعمل الله وأنت حر يا بلال، فأعتقه في سبيل الله. فقال الكفار: أعتق أبو بكر بلالاً لأن له يد عنده -أي يجازيه على نعمة سابقة-فَكَذَّبَهم الله وأنزل جبريلَ بسورة الليل يُكَذِّبُهُم ربنا تبارك وتعالى في ذلك ويُبَرِّئُ أبا بكر من الهوى ويُبَرِّئ عمله من كل رياء أو نفاق أو مجازاة لأحد من الناس، بل ابتغاء وجه ربه الأعلى. وكان سيدنا عمر (رضي الله عنه وأرضاه) يقول: أبو بكر سَيِّدُنا وأَعتَقَ سَيِّدَنا.
سورة الليل سورة مكيه، أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بثلاثة أقسام:
وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿1﴾
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿2﴾
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ ﴿3﴾
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴿4﴾
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾: يغطي. غَشِيَه: غَطَّاه، يغشى: يغطي، يغطي الشمس، يغطي الأرض، يغطي الدنيا، يغطي كل شيء بظلمته. أقسم ربنا بالليل إذا غطى الناس، وفي هذا القَسَم تَأَمَّل وتَفَكَّر، وانظر إلى الليل وما فيه من سكون، وكيف يخلو كل حبيب بحبيبه، وكيف تحن الطيور إلى أوكارها، وكيف تهدأ الحركة، وكيف ينام الناس وأين يذهب حين ينام ولماذا ينام، وهل تنام الأشجار كما تنام الطيور. ذلك الليل الذي يأتي رغماً عنا وليس بإرادتنا، مَنِ الذي أتى به؟ ولماذا أتى به؟
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ تَجَلَّى: ظَهَر، ظهر النهار وظهر به كل شيء، تقلب الليل والنهار، الليل للسكون والنوم والراحه والهدوء، والنهار للسعي والعمل وهكذا. ولو كانت الدنيا كلها ليلاً لفسدت الأحوال، ولو كانت الدنيا كلها نهاراً لفسدت الأحوال. لو جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من يأتيكم بضياء؟ ولو جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه؟
﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ و"وما" هنا بدلاً من "مَنْ" للعاقل، و"ما" لغير العاقل كما تعلمنا في اللغه العربية، لكنها أُوثِرَت هنا لبيان العظمة والتفخيم، وكأن السؤال: والشيء العظيم القادر الذي لا يصل إليه خيال أو يصل إلى كُنْهِ ذاته عقل أو فكر أو تَوَهُّم الذي خلق الذكر والأنثى، وكيف يخلق الذكر والأنثى؟ ولماذا هذا ذَكَر ولماذا هذه أنثى والمني واحد والنطفة واحدة والبويضة واحدة وإذا بها تأتي بذكر أو تأتي بأنثى، مَنِ الذي نَوَّع؟ من الذي قَسَّم؟ ولو كان الأمر مصادفة لزاد عدد الذكور تارة حتى فاض على عدد الإناث أو زاد عدد النساء تارة ففاض عدد الإناث على عدد الذكور وأصبحت الدنيا كلها إناث أو أصبحت الدنيا كلها ذكور، لكن الذكور والإناث فيها النسبة والتناسب، فيها النسق، فيها الترتيب وإن كانت هناك بعض الزيادة في هذه الأصناف تارة وبعض الزيادة في هذه الأصناف تارة ولكن كل شيء بمقدار، لو أن المسائل مصادفة لجاءت المرأة بذكور أو جاءت بإناث، كل الدنيا ذكور أو كل الدنيا إناث. ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ في الناس فقط؟ وفي البهائم وفي الوحوش وفي الأسماك وفي الطيور وفي الحشرات بل وفي الزروع؛ فهناك نخلة ذكر وهناك نخلة أنثى، حتى في الزروع يتم التلقيح: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [سورة الحجر آية: ٢٢] فتأتي الرياح فتحمل حبوب اللقاح من ذكور الشجر إلى إناث الشجر فتثمر وتُخرِجُ الزروع أصناف وألوان. ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ أقسم بذاته العليه وأقسم بقدرته وصنعته (جل وعلا). (إن سعيكم لشتى) شَتَّى: جمع شَتِيت: مُختَلِف. وسمي الاختلاف شتاتاً للبُعدين المختلفين، فمن اختلف فعله عن فعل الآخر تباعد الفعلان وتباعد أثر الفعلين فسمي الاختلاف شتاتاً. ﴿إن سَعْيَكُم لَشَتَّى﴾ أي متشتت مختلف، عمل الناس مختلف، نعم! عامِلٌ من أجل الدنيا وعامِلٌ من أجل الآخرة وشتان بين الاثنين، عامِلٌ في الطاعة وعامِلٌ في المعصية وشتان بين الاثنين، عامِلٌ من أجل الجنة وعامِلٌ في طريق النار وشتان بين الثواب والعقاب. ﴿إن سَعْيَكُم لَشَتَّى﴾: قَسَمٌ من الله (تبارك وتعالى) على ذلك. ثم فَصَّلَ هذا الاختلاف فقال:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ﴿5﴾
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ ﴿6﴾
فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ ﴿7﴾
وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ ﴿8﴾
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ ﴿9﴾
فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ ﴿10﴾
وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ ﴿11﴾
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ﴿12﴾
وَإِنَّ لَنَا لَلْـَٔاخِرَةَ وَٱلْأُولَىٰ ﴿13﴾
فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًۭا تَلَظَّىٰ ﴿14﴾
لَا يَصْلَىٰهَآ إِلَّا ٱلْأَشْقَى ﴿15﴾
ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿16﴾
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلْأَتْقَى ﴿17﴾
ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾
وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٍۢ تُجْزَىٰٓ ﴿19﴾
إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿20﴾
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ﴿21﴾
أيها الأخ المسلم؛ الإنسان منا يتقلب بين العدل والفضل وما ربك بظلام للعبيد، فإن جاءتك الحسنة فمن فضل الله وإن جاءتك السيئة فبعدل الله، ما أصابك من خير فمن فضل الله وما أصابك من شر فمن نفسك وبعدل الله وكُلٌّ من عند الله.