القرآن الكريم / سورة الليل / التفسير المقروء

سورة الليل

مقدمة‬‬
‫كان المشركون بمكة يعذبون ضعفاء المسلمين عذاباً شديداً، ومن أشد الناس عذاباً كان العبيد، وعلى رأسهم بلال، وقد كان بلال عبداً لأمية بن خلف رأس الكفر بمكة، كان يُخرِجُهُ فيَطْرَحُهُ على الرمل الساخن في الظهيرة ثم يأتي بالصخرة العظيمة ويضعها على ظهره ويتركه بلا ماء ويكاد العطش يقتله ويقول إنه لن يرفع عنه العذاب حتى يكفر بمحمد وبرب محمد، وكانت إجابة بلال إجابة واحدة، بكلمة وحيدة‫:‬ أَحَدٌ أَحَدٌ. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يَمُرُّ عليه ويقول‫:‬ "نَعَم يا بلال أَحَدٌ أَحَدٌ" وتألم النبي (صلى الله عليه وسلم) لحال بلال فقال لأبي بكر‫:‬ "يا أبا بكر إن بلال يُعَذَّب" ففهم أبو بكر مُرادَ النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهب إلى أمية بن خلف وهو يُعَذِّب بلال وقال له‫:‬ أما تتقي الله في هذا؟ فقال‫:‬ أنت السبب في تعذيبه، مُرْهُ فليكفر أو اشتره، قال‫:‬ بل أشتريه، فاشتراه أبو بكر، وحين اشتراه أبو بكر قال له بلال‫:‬ يا أبا بكر هل اشتريتني لعملك أم اشتريتني لعمل الله؟ فقال‫:‬ بل اشتريتك لعمل الله وأنت حر يا بلال، فأعتقه في سبيل الله‫.‬ فقال الكفار‫:‬ أعتق أبو بكر بلالاً لأن له يد عنده -أي يجازيه على نعمة سابقة-فَكَذَّبَهم الله وأنزل جبريلَ بسورة الليل يُكَذِّبُهُم ربنا تبارك وتعالى في ذلك ويُبَرِّئُ أبا بكر من الهوى ويُبَرِّئ عمله من كل رياء أو نفاق أو مجازاة لأحد من الناس، بل ابتغاء وجه ربه الأعلى‫.‬ وكان سيدنا عمر (رضي الله عنه وأرضاه) يقول‫:‬ أبو بكر سَيِّدُنا وأَعتَقَ سَيِّدَنا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫سورة الليل سورة مكيه، أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بثلاثة أقسام‫:‬‬‬‬

وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿1﴾ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿2﴾ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ ﴿3﴾ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴿4﴾
أقسم بهذه الأشياء المتنوعة المختلفة، وكان جواب القَسَم‫:‬ ﴿إن سَعْيَكُم لَشَتَّى﴾ أي إن سَعْيَ الإنسان مختلف فبائعٌ نفسَهُ فمُوبِقُها ومُبتَاعُ نفسَه فمُعتِقُها‫.‬‬‬‬‬
‫﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾: يغطي‫.‬ غَشِيَه‫:‬ غَطَّاه، يغشى‫:‬ يغطي، يغطي الشمس، يغطي الأرض، يغطي الدنيا، يغطي كل شيء بظلمته‫.‬ أقسم ربنا بالليل إذا غطى الناس، وفي هذا القَسَم تَأَمَّل وتَفَكَّر، وانظر إلى الليل وما فيه من سكون، وكيف يخلو كل حبيب بحبيبه، وكيف تحن الطيور إلى أوكارها، وكيف تهدأ الحركة، وكيف ينام الناس وأين يذهب حين ينام ولماذا ينام، وهل تنام الأشجار كما تنام الطيور‫.‬ ذلك الليل الذي يأتي رغماً عنا وليس بإرادتنا، مَنِ الذي أتى به؟ ولماذا أتى به؟‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ تَجَلَّى‫:‬ ظَهَر، ظهر النهار وظهر به كل شيء، تقلب الليل والنهار، الليل للسكون والنوم والراحه والهدوء، والنهار للسعي والعمل وهكذا‫.‬ ولو كانت الدنيا كلها ليلاً لفسدت الأحوال، ولو كانت الدنيا كلها نهاراً لفسدت الأحوال‫.‬ لو جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من يأتيكم بضياء؟ ولو جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه؟‬‬‬‬‬
‫﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ و"وما" هنا بدلاً من "مَنْ" للعاقل، و"ما" لغير العاقل كما تعلمنا في اللغه العربية، لكنها أُوثِرَت هنا لبيان العظمة والتفخيم، وكأن السؤال‫:‬ والشيء العظيم القادر الذي لا يصل إليه خيال أو يصل إلى كُنْهِ ذاته عقل أو فكر أو تَوَهُّم الذي خلق الذكر والأنثى، وكيف يخلق الذكر والأنثى؟ ولماذا هذا ذَكَر ولماذا هذه أنثى والمني واحد والنطفة واحدة والبويضة واحدة وإذا بها تأتي بذكر أو تأتي بأنثى، مَنِ الذي نَوَّع؟ من الذي قَسَّم؟ ولو كان الأمر مصادفة لزاد عدد الذكور تارة حتى فاض على عدد الإناث أو زاد عدد النساء تارة ففاض عدد الإناث على عدد الذكور وأصبحت الدنيا كلها إناث أو أصبحت الدنيا كلها ذكور، لكن الذكور والإناث فيها النسبة والتناسب، فيها النسق، فيها الترتيب وإن كانت هناك بعض الزيادة في هذه الأصناف تارة وبعض الزيادة في هذه الأصناف تارة ولكن كل شيء بمقدار، لو أن المسائل مصادفة لجاءت المرأة بذكور أو جاءت بإناث، كل الدنيا ذكور أو كل الدنيا إناث‫.‬ ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ في الناس فقط؟ وفي البهائم وفي الوحوش وفي الأسماك وفي الطيور وفي الحشرات بل وفي الزروع؛ فهناك نخلة ذكر وهناك نخلة أنثى، حتى في الزروع يتم التلقيح‫:‬ ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ٢٢] فتأتي الرياح فتحمل حبوب اللقاح من ذكور الشجر إلى إناث الشجر فتثمر وتُخرِجُ الزروع أصناف وألوان‫.‬ ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ أقسم بذاته العليه وأقسم بقدرته وصنعته (جل وعلا). (إن سعيكم لشتى) شَتَّى‫:‬ جمع شَتِيت‫:‬ مُختَلِف‫.‬ وسمي الاختلاف شتاتاً للبُعدين المختلفين، فمن اختلف فعله عن فعل الآخر تباعد الفعلان وتباعد أثر الفعلين فسمي الاختلاف شتاتاً. ﴿إن سَعْيَكُم لَشَتَّى﴾ أي متشتت مختلف، عمل الناس مختلف، نعم! عامِلٌ من أجل الدنيا وعامِلٌ من أجل الآخرة وشتان بين الاثنين، عامِلٌ في الطاعة وعامِلٌ في المعصية وشتان بين الاثنين، عامِلٌ من أجل الجنة وعامِلٌ في طريق النار وشتان بين الثواب والعقاب‫.‬ ﴿إن سَعْيَكُم لَشَتَّى﴾: قَسَمٌ من الله (تبارك وتعالى) على ذلك‫.‬ ثم فَصَّلَ هذا الاختلاف فقال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ﴿5﴾ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ ﴿6﴾ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ ﴿8﴾ وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ ﴿9﴾ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ ﴿10﴾ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ ﴿11﴾
‫﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾ أعطى الطاعة واتقى المعصية‫.‬ (أعطى): أنفق من ماله‫.‬ ﴿وَاتَّقَى﴾: واتقى غضب الله (أعطى): أنفق، أعطى الطاعة، أعطى الاستسلام لله والتوكل عليه‫.‬ ﴿وَاتَّقَى﴾: اتقى المعاصي، اتقى المحارم واتقى الشرك واتقى غضب الله واتقى النار‫.‬ ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ صَدَّقَ: آمن وأيقن‫.‬ (بالحسنى): بالكلمة الحسنى ألا وهي لا إله إلا الله‫.‬ صَدَّقَ بالحسنى أي بالتوحيد، بكلمة الحسنى، رأي‫.‬ ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾: بالجنة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٢٦]، والحسنى تطلق على الجنة، أي صَدَّقَ بالجنة، صَدَّقَ بأن هناك بعث وثواب وعقاب فَصَدَّقَ بالجنة وعمل لها‫.‬ أو صَدَّقَ بالحسنى‫:‬ أي بأن الله يُحسِنُ إليه كما أَحسَنَ ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٧٧]. ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾: أي بالخَلَف، بأن ما أنفقتم من شيء فإن الله يُخلِفُه، أي إذا أحسنتَ أَحسَنَ اللهُ إليك، وإذا أنفَقْتَ أَنفَقَ اللهُ عليك‫.‬ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسرى﴾ نُسَهِّل له الأيسر‫.‬ اليسرى مؤنث الأيسر أي الطريقة والخصلة اليسرى المــُسَهَّلة، نجعل الطاعة عليه سهلة يسيرة، تجد إنساناً إذا أُذِّنَ للفجر في برد الشتاء قام نشيطاً مسارعاً إلى الوضوء، إلى الصلاة وكأنه مع موعد ولقاء مع حبيب بعد طول انتظار، يُسِّرَت له، سُهِّلَ عليه الإتيان إلى المسجد، سُهِّلَ عليه قراءة القرآن، سُهِّلَت له الطاعة فهو يأتيها بلا تعب، إي وربي! بلا كَدّ، بلا مشقة، يقوم الليل ويصوم النهار ويجد في ذلك لذة، سهولة، يُسْر‫.‬ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسرى﴾ نجعل الطاعة عليه يسيرة مُسَهَّلَة‫.‬ أو نُسَهِّل ونُيَسِّر له الطريق إلى اليسرى، الطريق اليسرى‫:‬ الطريق الأيسر، النعيم والراحة بعد الموت وعند البعث وفي الجنة‫.‬ وهناك من الناس من يسمع الأذان لصلاة الجمعة مثلاً في النهار ولا شيء وراءه، جالس في بيته لا يصنع شيئاً ولا يمنعه مرض ولا تمنعه ظروف، وحين يقال له قُمْ فَصَلِّ يجد الصلاة عليه شاقة وصعبة ويقول إن شاء الله في الغد، من باكر، يجد الصيام شاق، الإنفاق؛ لا يستطيع أن يضع يده في جيبه ليخرج مالاً، كأنك تقطع من جسده، شاق كل أمر فيه طاعة عليه، عسير وشاق، ذاك الذي كَذَّبَ وتَوَلَّى‫.‬ ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾: بَخِلَ بالطاعة واستغنى عن الله، بخل بالمال واستغنى عن الجنة، بخل بالخير واستغنى بالدنيا عن الآخرة، استغنى بالعاجلة عن الآجلة وبالدنيا عن العُقبَى‫.‬ من بخل بماله وبخل بالطاعة واستغنى عن الله واستغنى بالدنيا عن الآخرة ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾: أي بالكلمة الحسنى، كَذَّبَ بالتوحيد‫.‬ أو كذب بالحسنى‫:‬ بالجنة، بالثواب، حين بَشَّرَهُم نبينا (صلى الله عليه وسلم) بالجنة لمن أطاع كَذَّبُوا بذلك‫.‬ ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾: الثواب، أن ما أنفَقْتَ سيُخلَف، فيخشى على ماله من النقص، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ (لو كُنتُ حالفاً لحلفت على ثلاث‫:‬ ما نقص مال من صدقة، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها). ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾ الطريق العسرى‫:‬ الأعسر، كل طاعة عليه عسيرة، شديدة، صعبة، فلا يستطيع أن ينفق ولا يقوم للصلاة ولا يصوم ولا يأتي الطاعات‫.‬ يسافر ليتنزه في كل البلاد حتى إذا ذُكِرَت مكة أو المدينة انقبض قلبه وشَحَّت يده وتوقف وقال المصاريف والعيال والزواج وما إلى ذلك، إذا ذُكِرَ الفقير أشاح بوجهه، وإذا ذُكِرَ المسكين انصرف عنك وأعطاك ظهره، بخل واستغنى وتكالب على الدنيا وكَذَّبَ بأن الله يُخلِفُ عليه ما أنفق وكَذَّبَ بالثواب، كَذَّبَ بالعقاب، كَذَّبَ بالآخرة، كَذَّبَ بكلمة التوحيد، كَذَّبَ بالجنة وكَذَّبَ بالحسنى فسنيسره للعسرى، نعسر عليه طريق الطاعة ونسهل له طريق الأعسر في كل شيء، فيعسر عليه في الموت وتخرج روحه بصعوبه وتنزع من أظفاره ومن شعره، شعره من جسده، ثم يعسر عليه في الجحيم وهكذا، فسنيسره للعسرى‫.‬ ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ تَرَدَّى‫:‬ هَلَك، تردى‫:‬ مات، رَدِيَ الرجل يَردَى ردىً: مات، رَدِيَ: مات‫.‬ وتَرَدَّى‫:‬ سقط‫.‬ ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ﴾ "ما" نافية، أي‫:‬ لا يُغنِي عنه مالُهُ إذا هلك، لأن الله تبارك وتعالى لا يأخذ فداءً، يود المجرم يومئذ لو يفتدي نفسه ببنيه وأخيه، يود لكن الله لا يقبل منه فداء‫.‬ ويود الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة فلا فداء هناك، فلا يغني عنه ماله إذا تردى‫:‬ وقع وسقط في جهنم، أو مات وهلك‫.‬ و"ما" قد تكون استفهام للتوبيخ؛ وأَيُّ شيءٍ يُغنِي عنه مالُهُ؟ هل يُغنِي؟ هل يُغنِي عنه مالُهُ؟ أرأيتم ميتاً أغنى عنه ماله أن يُؤَخَّر أجله؟! أن يُوَسَّع قبره أو يُنَوَّر له فيه أو يُرفَع عنه السؤال في القبر؟ أرأيتم مالاً نزل مع صاحبه في قبره؟ إذا كان المال لا ينفع في القبر ولازلنا في الدنيا فكيف ينفع في الآخرة؟ لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ . ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مبيناً أن الله (تبارك وتعالى) ليس بظلام للعبيد‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ﴿12﴾ وَإِنَّ لَنَا لَلْـَٔاخِرَةَ وَٱلْأُولَىٰ ﴿13﴾
‫﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ للدلالة على الله بمقتضى حكمته وبمحض فضله ولو شاء لترك الناس هملاً، للدلالة على الله بمقتضى حكمته وبمحض فضله ووفقاً لقضائه أن يهدي الناس، أن يدل الناس، أن يبين لهم طريق الخير وطريق الشر‫.‬ أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنزل الآيات والدلالات وليس لكافرٍ بعد ذلك عُذْر، ربنا يدل ويبين ويوضح الأحكام ويبين الحلال والحرام‫.‬ ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ هو مالك الدنيا ومالك الآخرة ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٣٤] ومن ابتغى الدنيا من غيره فقد ضل ومن ابتغى الآخرة عند غيره فقد ضل‫.‬ ربنا يملك الدنيا ويملك الآخرة، إن أردتَ الدنيا فابتغيها ممن يملكها، وإن أردت الآخرة فاسألها ممن يملكها‫.‬ ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ والناس قد تغفل عن الدنيا وتنتظر الآخرة، وتُرجِئ التوبة وتُرجِئ العمل الصالح وقد غفلوا عن أن الله يملك الدنيا كما يملك الآخرة‫.‬ فأنت تريد في الدنيا الصحة، من يملك الصحة؟ وأنت تريد في الدنيا نجاح أبنائك وزواج بناتك من يملك ذلك؟ الله‫.‬ فإن أردتَ مالاً فالله مالكه، وإن أردتَ جاهاً فالله صانعه، وإن أردتَ فلاحاً فالله الموفق له، هو له الدنيا وهو له الآخرة، فَسَلْهُ الدنيا وسَلْهُ الآخرة وقل ربنا آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، سَلِ الحسنة في الدنيا وسَلِ الحسنة في الآخرة، وربنا يقول ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾.‬
فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًۭا تَلَظَّىٰ ﴿14﴾ لَا يَصْلَىٰهَآ إِلَّا ٱلْأَشْقَى ﴿15﴾ ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿16﴾ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلْأَتْقَى ﴿17﴾ ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٍۢ تُجْزَىٰٓ ﴿19﴾ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿20﴾ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ ﴿21﴾
‫﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ جاء الإنذار‫.‬ والإنذار تخويف مع إعطاء مهلة، إذا أنذرتُك أي خوفتُك من شيء وأعطيتك المهلة كي تتقي وكي تبتعد، ذاك هو الإنذار‫.‬ ربنا بعدما أقسم على أن سعي الناس مختلف فهناك من هو بائع نفسه فموبقها ومبتاع نفسه فمعتقها، بعد ما أقسم على ذلك بَيَّنَ ثم أنذر‫.‬ ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾، وقُرِئت تَتَلَظَّى على الأصل، تَتَلَظَّى‫:‬ تَتَلَهَّب‫.‬ ﴿لَا يَصْلَاهَا﴾: أي يصلى حَرَّها ويخلد فيها‫.‬ ﴿إِلَّا الْأَشْقَى﴾ الأشقى‫:‬ بمعنى الشقي، أو الأشقى‫:‬ أشقى الناس، والكلام في أمية بن خلف رأس الكفر بمكة، صنديد من صناديد قريش‫.‬ لا يصلاها‫:‬ وكأنها خُلِقَت له، التهديد والوعيد الشديد‫.‬ ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)﴾ كَذَّبَ بحمد (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾ يُجَنَّبُها‫:‬ يبعد عنها تماماً، أتقى الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبو بكر، ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق، وذلك وعد لأبي بكر وبشارة‫.‬ ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)﴾ يؤتي‫:‬ يُعطِي‫.‬ يَتَزَكَّى‫:‬ يَتَطَهَّر، ولكي يكون زاكياً عند الله مُقَدَّماً مرفوعاً شأنُه‫.‬ ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ أي لم يفعل ذلك ليُجَازِي على نعمةٍ سابقةٍ أو على معروفٍ سَلَف‫.‬ وقيل إن أبا بكر كان يشتري من العبيد كبار السن والضعفاء والنساء فقال له أبوه -أبو قحافة- يا أبا بكر هلا اشتريتَ رجالاً جَلْداً يمنعونك؟ قال يا أبتاه إنما أُرِيدُ ما أُرِيدَ؛ أي يريد الله (تبارك وتعالى)، ولا يريد مَنَعَة ولا يريد رجالاً أشداء، بل يريد الرحمة لهؤلاء الناس فيرحمه الله (تبارك وتعالى). ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ تكذيب لقريش الذين زعموا أن أبا بكر أعتق بلالاً من أجل نعمةٍ سَلَفَت‫.‬ ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ إذاً فهذا تشريف لأبي بكر وشهادة لأبي بكر بخلوص العمل وخلوص النية‫.‬ ﴿إلا ابتغاءَ﴾ وقُرِئت ﴿إلا ابتغاءُ﴾ بالرفع، كما قيل في موضع آخر ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٦٦] والمستثنى منصوب، وقد يُرفَع‫.‬ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‫:‬ خالصاً مخلصاً لله ﴿وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ أي ابتغاء ثواب الله، ابتغاء جهة الله، ابتغاء الذات العلية ورضا الله‫.‬ وعُلُوُّ الله (تبارك وتعالى) ليس عُلُوَّاً مكانياً، هو مُنَزَّه عن المكان وهو مُنَزَّه عن جريان الزمان‫.‬ ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠)وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)﴾ "سوف" من الله ليست تسويفاً كما يقال في كلام الناس، ولكن "سوف" من الله وعد أكيد ومحقق‫.‬ (ولسوف) وجيء باللام لتأكيد الوعد‫.‬ ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ أي سوف يرضى هذا الذي أعطى واتقى وصَدَّقَ بالحسنى، هذا الذي لم يبتغِ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، سوف يرضى‫.‬ الله (تبارك وتعالى) يُرضِيه، وربنا هو الذي خلق الرضا والرضوان، فإن أعطاك وأرضاك كيف يكون عطاؤه؟ يروي لنا الإمام علي (رضي الله عنه وأرضاه) فيقول‫:‬ كنا في جنازة بالبقيع فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فجلس وجلسنا معه وكان معه عود يَنْكُتُ به في الأرض فقال‫:‬ "ما من نفسٍ منفوسة إلا وقد كُتِبَ مدخلها" فقال القوم‫:‬ يارسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ قال‫:‬ "بل اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له". وجاءه شابان وقالا‫:‬ يا رسول الله العمل فيما جَفَّت به الأقلام وجَرَت به المقادير أم في شيء يُستَأْنَف؟ قال‫:‬ "بل فيما جَفَّت به الأقلام وجَرَت به المقادير"، قالوا‫:‬ يا رسول الله فَفِيمَ العمل؟ قال‫:‬ "اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لعَمَلِه الذي خُلِقَ له" فقالا‫:‬ إذاً فالآن نَجِدُّ ونَعمَل‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) حين يقول‫:‬ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ لمن صَدَّقَ بالحسنى، ويقول‫:‬ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ لمن كَذَّبَ بالحسنى، ذاك يعني أن من أراد الطاعة وأراد الإيمان يَسَّرَ الله له طريق الطاعة وطريق الإيمان وكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له، ومن أراد الكفر والعصيان يَسَّرَ له طريق المعصية ويَسَّرَ له طريق الفجور فعمل له، وكتاب الله سابق، وإن من العباد من يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن من العباد من يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة‫.‬ كُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له، وعلى الإنسان أن يَجِدَّ ويجتهد ويعمل ويخلص النية لله، فإن أخلص العبد نيته لله يُسِّرَت له الطاعة وسُهِّلَ له الصلاح وفُرِشَت له طريق الجنة بالسهولة واليسر‫.‬ ومن كانت نيته خبيثة وبخل واستغنى ولم يُصَدِّق يُسِّرَت له المعاصي وسُهِّلَ له طريق الفجور فدخل النار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم؛ الإنسان منا يتقلب بين العدل والفضل وما ربك بظلام للعبيد، فإن جاءتك الحسنة فمن فضل الله وإن جاءتك السيئة فبعدل الله، ما أصابك من خير فمن فضل الله وما أصابك من شر فمن نفسك وبعدل الله وكُلٌّ من عند الله‫.‬‬‬‬