القرآن الكريم / سورة البلد / التفسير المقروء

سورة البلد

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة البلد‫.‬ سورة البلد مكية نزلت تُسَرِّي عن الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وتُبَشِّرُه بفتح مكة‫.‬ نزلت سورة البلد ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يكابد من أذى المشركين ما يكابد، نزلت والمسلمون مستضعفون بمكة، نزلت وقد اشتد الأذى بكل من آمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم). أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بقوله‫:‬‬‬‬‬‬

لَآ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴿1﴾ وَأَنتَ حِلٌّۢ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴿2﴾ وَوَالِدٍۢ وَمَا وَلَدَ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ ﴿4﴾
‫﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ والبلد‫:‬ مكة‫.‬ ﴿لَا أُقْسِمُ﴾: أي أُقسِم، و"لا" تُزادُ في مثل هذه الأحوال للتأكيد، كقوله‫:‬ لا وأبيك، لا والله ما فعلتُ كذا ولا كذا‫.‬ وقد تكون "لا" نفيٌ لكلامٍ مُسبَق، نفيٌ لزعمهم أن الإنسان لا يُبعَث، أو نفيٌ لهذا الجبار العنيد المتكبر الذي زعم أنه أَهْلَكَ مالاً لُبَدَاً، وقد قُرِأَت ﴿لَأُقسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ بغير أَلِف لتأكيد القَسَم‫.‬ ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾: أي قسم بهذا البلد، لأن الله (تبارك وتعالى) أقسم به في مكان آخر حيث قال‫:‬ ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [سورة التين آية‫:‬ ٣] البلد‫:‬ مكة‫.‬ ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ والخطاب لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم). ﴿حِلٌّ﴾ يُقال هو حِلٌّ وهو حلال، وهو كما يقال حِرْم وهو حرام وهو مُحرِم‫.‬ ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾: هل قَيَّدَ الله (تبارك وتعالى) القَسَمَ بمكة بشرط أن يكون فيها سيد الخلق؟ ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾: أي وأنت حالِلٌ بها موجود مقيم بها‫.‬ أو ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ أي وأنت فيها لا ترتكب الآثام، كل أفعالك حلال، لا كما يفعل مشركو أهل مكة من عبادة الأوثان والأصنام‫.‬ أُقسِمُ بهذا البلد وأنت فيها غير آثم، مطيع لله (تبارك وتعالى)، مُعَظِّم لحرمة البلد‫.‬ أو وأنت حِلٌّ في هذا البلد أي‫:‬ حلال دمك عليهم، يُحَرِّمُون البلد الحرام ويُحَرِّمُون الصيد فيه ويُحَرِّمُون دماءهم ثم يُحِلُّون لأنفسهم أن يُخرِجُوك أو يقتلوك، أي وأنت في نظرهم حلال، أحلوا دمك‫.‬ أو هي بشارة، بشرى بفتح مكة، والكلام في أول البعثة، والسورة نزلت بمكة وفي أيام الأذى والشدة والمكابدة، ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾) أي أن الله (تبارك وتعالى) يبشرك بفتح مكة ويجعلك فيها حلالاً، يُحِلُّ لك ما يحرم على غيرك، فتقتل من تشاء من هؤلاء المشركين وتذر من تشاء من هؤلاء المشركين، مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح مكة‫:‬ "إن الله (تبارك وتعالى) حَرَّمَ مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تَحِلُّ لأحدٍ من قبلي ولن تَحِلَّ لأحدٍ من بعدي وإنما أُحِلَّت لي ساعة من نهار" ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ كلام عن المستقبل، والكلام عن المستقبل بصيغة الحاضر في كلام الله كثير لأن المستقبل عند الله حاضر مُشاهَد فهو يعلم ما هو آت كما يعلم ما فات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقَسَمٌ آخر‫:‬ ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ "ووالدٍ" مجرورة بالقَسَم، والوالد‫:‬ آدم، وما وَلَد‫:‬ ذرية آدم‫.‬ (ووالد): إبراهيم وذريته والأنبياء‫:‬ إسحق وإسماعيل ومحمد (صلى الله عليه وسلم). (وما ولد) "ما" أُوثِرَت هنا على "مَنْ" ﴿ووالدٍ ومَنْ وَلَد﴾ قال (ووالد وما ولد) للتعجيب وللتكثير، إذ أن الإنسان والناس أعجب خلق الله على الأرض، فالأرض فيها خلائق كثيرة ومخلوقات كثيرة‫.‬ أعجب الخلائق على الأرض ذلك الإنسان السوي المعتدل الذي أعطاه الله (تبارك وتعالى) البيان وركز فيه العقل والإدراك وهيأ له الاجتهاد وكسب العلوم‫.‬ فالإنسان القوي في البيان، القادر على الاختيار وكسب العلوم والاجتهاد، العاقل المدرك هو أعجب خلق الله، فأقسم الله (تبارك وتعالى) بوالدٍ وما وَلَد وجاء بــــــِ "ما" للتعجيب بدلاً من "مَنْ". أو الآية تختص بكل والدٍ وما وَلَد، كل ما يَنسِل، كل ما يَلِد أقسم الله به‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ لا يكون القَسَم بالعصاة أبداً، ﴿ووالدٍ ومَنْ وَلَد﴾ آدم وَلَد، وذرية آدم منها الصالحون ومنها الفاسقون، إذاً فالقَسَم مقيد بالصالحين، ﴿ووالدٍ ومَنْ وَلَد﴾: آدم والصالحين من ذريته‫.‬ وأرجح الأقوال إن الآية عامة في كل والد وما ولد لأن في الناس كل مولود يولد على الفطرة وهناك ما يلد من المخلوقات الأخرى، ﴿ووالدٍ ومَنْ وَلَد﴾. ذاك كان القَسَم، أَقسَمَ بالبلد، أَقسَمَ بالحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وبوجوده تشريفاً له وتعظيماً له في هذا البلد، أو بَشَّرَه بفتح مكة وأَقسَمَ بكل والد وما ولد‫.‬ وجاء جواب القَسَم‫:‬ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ الإنسان‫:‬ صالحه وفاسقه‫.‬ في كَبَد‫:‬ في مشقة، كَبِدَ الرجل كَبداً فهو أَكبَد‫:‬ وَجَعَتهُ كَبِدُه، كَبِدَ الرجل‫:‬ وَجَعَتهُ كَبِدُه، فيقال للمَشَاقِّ ومكابدة الأمور أو محاولة حل الأمور أو اجتياز الأمور بمشقة وتعب يقال فيها مكابدة، استعارة ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾: في مشقة، في تعب‫.‬ والإنسان هنا‫:‬ الصالح والعاصي، الصالح يكابد فيمتنع عن المعاصى ويمتنع عن المحرمات ويصوم ويصلي ويقوم الليل وينفق من ماله ثم يحصل على النعيم في الآخرة‫.‬ والعاصي الفاسق والكافر يكابد في هذه الحياة في جمع المال وفي الاجتراء على المعاصي وارتكاب المحرمات ويكابد في هذه الدنيا في جمع المال وفي الحصول على الجاه ثم يكابد في الآخرة بالعذاب والشقاء‫.‬ وقالوا الكَبَد‫:‬ وجود الإنسان في الرَّحِم، والرَّحِم ضيق، خروجه ساعة الولادة وأي مكابدة في ذلك؟ قطع السُّرَّة، معاناة نبت الأسنان، معاناة الارتضاع ولولاه لضاع، معاناة الكِبَر والمراهقة والأمراض والأسقام والأوجاع ومحاولة الحصول على المعايش والارتزاق‫.‬ في كَبَد، في مشقة حتى يصل إلى نزع الروح والموت، وأي مكابدة في هذا!! ثم القبر والدفن والظلمة والوحدة وسؤال الملكين والبعث والنشور واجتياز الصراط والسؤال، ما من مخلوق يكابد في هذه الدنيا كالإنسان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌۭ ﴿5﴾ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًۭا لُّبَدًا ﴿6﴾ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُۥٓ أَحَدٌ ﴿7﴾ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ ﴿8﴾ وَلِسَانًۭا وَشَفَتَيْنِ ﴿9﴾ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَيْنِ ﴿10﴾
يتوجه الكلام لجنس وصنف من الناس الذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمكة، والكلام فيه تسرية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والسؤال‫:‬ ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ سؤال إنكاري للتوبيخ، أيحسب هذا الإنسان، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان أشد الناس عذاباً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وللمسلمين‫.‬ وقيل نزلت في فلان وفلان، والآية عامة في كل من يتجبر في هذه الأرض ويؤذي الخلائق بغير ذنب ويظلم الناس بغير حق، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ هل يظن ذلك؟ وهل يعتقد أن قدرته لا تدانيها ولا تساويها قدرة؟ كيف يعتقد ذلك وكيف لا يذكر قدرة الله عليه؟ ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾ وعَبَّرَ عن الإنفاق بالإهلاك‫.‬ هذا الإنسان يقول‫:‬ ﴿أَهلَكْتُ﴾، لا يقول (أَنفَقْتُ) لأن إنفاق المال مهما أنفق المنفق ينتظر عوضاً فهو ينفق المال وينتظر العوض، إن أنفقه على أهله ينتظر الولاء، إن أنفقه على الناس ينتظر الثواب، إن أنفقه في تجارة ينتظر الربح‫.‬ لكن أن ينفق الإنسان المال إهلاكاً، إتلافاً لا ينتظر منه نفع ولا يرجو له عوض، إهلاك‫.‬ لذا عُبِّرَ بالإهلاك عن الإنفاق للدلالة على عدم الاكتراث، ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾: كثيراً، مُجتَمِعَاً. لُبَد‫:‬ جمع لُبدَة، واللُّبدة‫:‬ ما اجتمع، ومنها لِبدَة الأسد للشعر المجتمع على عنقه‫.‬ وقُرِئت ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبُدَاً﴾ بضم الباء، ﴿لِبَدَاً﴾ بكسر اللام، ﴿لَبَدَاً﴾ بفتح اللام، ﴿لُبَّدَاً﴾ تلك قراءات وكلها لغات بمعنى واحد‫.‬ ﴿لُبَّدَاً﴾ جمع لابِد كراكع ورُكَّع، ﴿لُبُدَاً﴾ جمع لَبُود وهكذا، كلها لغات بمعنى الشيء المجتمع، تَلَبَّد الشيء‫:‬ تكاثر والتصق بعضه ببعض واجتمع‫.‬ فهذا الكافر الذي يَدَّعي أنه أَهْلَكَ مالاً لُبَدَاً: مُجتَمِعاً، أَهْلَكَهُ: أي أنفقه دون انتظار لنفع ودون رجاء للثواب، أنفقه رياءً وسُمعَة، أَطعَمَ وسقى الحجيج -ما كانوا يفعلونه في الجاهلية- أو يَدَّعِي أنه أنفق المال الكثير في تجهيز الجيوش لمعاداة محمد أو للإنفاق على الكفار حتى يكفروا به وهكذا‫.‬ يقول أَهْلَكتُ مالاً لُبَداً. ويأتي السؤال الإنكاري للتوبيخ مرة أخرى ﴿أَيَحسَبُ أن لَمْ يَرَهُ أَحَد﴾ أي ذلك الوقت حين كان ينفق‫.‬ هو يَدَّعِي ذلك للناس ويقول أَهلَكْتُ مالاً لُبَدَاً، هل يظن أن الله لا يراه؟ ﴿أَيَحسَبُ أن لَمْ يَرَهُ أَحَد﴾ يُذَكِّرُهُم بالنِّعَم‫.‬ ويأتي السؤال التقريري حتى يتعظ الإنسان ويشكر بدلاً من أن يكفر‫:‬ ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد خلق للإنسان عينين يبصر بها أفلا يبصر هو؟! أيجعلك تبصر وهو لا يبصر؟ هل يُعقَلُ هذا؟ كيف يمنحك البصر وهو ليس له بصر وفاقد الشيء لا يعطيه؟ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ؟ سؤال للتقرير‫.‬ ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ وفي كل نعمة من هذه النِّعَم أمور لا تُعَدُّ ولا تحصى‫.‬ في شأن العينين كثير من العلوم وكثير من الكلام وكثير من الإعجاز الدال على قدرة الله (تبارك وتعالى). ﴿ولساناً﴾ يتكلم به ويعبر به عما في ضميره‫.‬ ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ يُطبِقُ بها على فمه فيداري ما بداخل الفم ويستعين بها على النطق، يستعين بها على الكلام وعلى الطعام‫.‬ وثلاث أمور جعل الله لها أبواب تُطبِقُ عليها حماية وحفظ ورحمة، فإذا نازعتك عيناك للنظر إلى ما حرم الله فقد جعل الله لك أبواباً تطبقها عليها فتغلق الجفون فلا ترى العين‫.‬ وإذا نازعك لسانك على النطق بمالا يجب وبما لا يحل أعطاك الله الشفتين لتطبق بها عليه فلا ينطق بمالا يجب وبما لا يحل، العينان واللسان والشفتان‫.‬ والشفة أصلها شفه -بالهاء- هذه النِّعَم لو فكر الإنسان فيها لعلم أن الله (تبارك وتعالى) قد اختصه بنعم وبرحمة وهو مسئول عن هذه النعمة ولو فقدها لفقد الشيء الكثير‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ النَّجْد‫:‬ المرتفع من الأرض‫.‬ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾: طريقَيِ الخير والشر‫.‬ وقيل النجدين‫:‬ الثديين، أي بعد ما وُلِدَ هديناه، دللناه على ثدي أمه، فبالثديين كان طريقه إلى الحياة وإلى الرزق‫.‬ النجدين‫:‬ طريق الخير وطريق الشر، دل ربنا (تبارك وتعالى) الخلق على طريق الخير وعلى طريق الشر، ألهمهما للإنسان وجعل في الإنسان تمييزاً يميز به بين الخير وبين الشر بالفطرة، بين ما ينفع وما يضر بالفطرة، ثم مكن الإنسان من الاختيار، ركبنا فيه القُوَى والإدراكات والأحاسيس التي تمكنه من الاختيار فيختار طريق الخير أو يختار طريق الشر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَا ٱقْتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ ﴿11﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ ﴿12﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13﴾ أَوْ إِطْعَـٰمٌۭ فِى يَوْمٍۢ ذِى مَسْغَبَةٍۢ ﴿14﴾ يَتِيمًۭا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15﴾ أَوْ مِسْكِينًۭا ذَا مَتْرَبَةٍۢ ﴿16﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْمَرْحَمَةِ ﴿17﴾ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ ﴿18﴾ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـَٔمَةِ ﴿19﴾ عَلَيْهِمْ نَارٌۭ مُّؤْصَدَةٌۢ ﴿20﴾
‫﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ (لا) هنا بمعنى "لِمَ" وفي كلام العرب إذا كانت "لا" عن الماضي تُكَرَّر كقوله (عز وجل) ﴿فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى﴾ هنا لم تُكَرَّر لكنها عُطِفَ عليها بـــــــِ "ثم" ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي كُرِّرَت بالمعنى ولم تُكَرَّر باللفظ‫.‬ ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ أي فَلِمَ يقتحم العقبة بعد ما أعطاه الله (تبارك وتعالى) العينان واللسان والشفتين وهداه النجدين؟ لِمَ يقتحم العقبة رغم ما ركز فيه وركب فيه من عقل وإدراك وعين تبصر ولسان يبين ويوضح؟ لِمَ يقتحم العقبة؟ وقيل "لا " بمعنى السؤال أي‫:‬ أفلا اقتحم العقبة بعد كل ذلك وبعد ما وهبه الله من نعم؟ أي هَلَّا اقتحم العقبة؟ والعقبة‫:‬ الطريق الصعب في الجبل والذي يكابد الإنسان في صعوده إلى الجبل تعترضه العقبات، أي الطريق الصعب الشديدة التي يصعب اجتيازها‫.‬ هل اقتحم العقبة؟ لِمَ يقتحم العقبة؟ أو لَهَلَّا اقتحم العقبة؟ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾: السؤال للتشويق‫.‬ وما أدراك‫:‬ ما أَعلَمَك؟ وقلنا كل ما قال فيه (ما أدراك) فقد أدراه، وما قال فيه "وما يدريك" فلم يُعلِمْه‫.‬ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم)، ما أدراك ما العقبة، ما أعلمك ما العقبة؟ التي لم يقتحمها هذا الكافر المعاند المكابر، أو التي يحصن الإنسان على اقتحامها، ثم بَيَّنَها‫:‬ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾ وقُرِئت ﴿فَكَّ رقبةً أو أَطعَمَ في يوم ذي مسغبة﴾ وقُرِئت ﴿أو أطعم في يوم ذا مسغبة﴾ ﴿يتيماً﴾ بدلاً من ﴿ذا مَسْغَبَةٍ﴾. العقبة يبينها ربنا (تبارك وتعالى)، أو يبين كيفية اقتحامها‫.‬ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة‫.‬ أو كيف تُقتَحَمُ العقبة‫.‬ والكلام فيه حذف لأن الله لا يعبر عن العقبة بفَكِّ الرقبة، وإنما يُعَبِّر عن اقتحام العقبة ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)﴾ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة، أو كيف تُقتَحَمُ العقبة‫.‬ العقبة‫:‬ المشقة التي يكابدها الإنسان في الطاعة وفي إنفاق المال‫.‬ العقبة‫:‬ الذنوب والمعاصي تُحمَل على الظهر فتصبح عقبة يستحيل على الإنسان أن يجتاز الصراط المنصوب على جهنم والأوزار على ظهره‫.‬ العقبة‫:‬ جهنم‫.‬ العقبة‫:‬ الصراط المنصوب على حافتي جهنم‫.‬ تلك هي العقبة‫:‬ الصراط‫.‬ كيف تُقتَحَم؟ أن يجتازها الإنسان، والناس يمرون على الصراط بحسب أعمالهم كما أخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم)، فمارٌّ يَمُرُّ مَرَّ البرق، ومارٌّ يَمُرُّ مَرَّ الريح، ومارٌّ يَمُرُّ مَرَّ الراكب المسرع، ومارٌّ يَمُرُّ مَرَّ الماشي، ومارٌّ يحبو، ومارٌّ يقع ويقوم وهكذا، كل بحسب عمله فمنهم الناجي، ومنهم الناجي بعد عناء ونَصَب، ومنهم الناجي بعد ما تخدشه الكلاليب، ومنهم المـــُكَردَس في جهنم الواقع فيها بعدما تأخذه الكلاليب‫.‬ العقبة‫:‬ هذا الصراط على حافتي جهنم كيف يُجتَاز؟ العقبة‫:‬ الذنوب والمعاصي، كيف يُكَفِّر الإنسان عن نفسه؟ كيف يمحوها؟ كيف؟ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ الفَكُّ: التخليص، تخليص الشيء من الشيء‫.‬ الفَكُّ: الحَلُّ، حَلُّ العقدة‫.‬ والرقبة‫:‬ الأسير أو الرقيق‫.‬ والرق كان موجوداً في الجاهلية، والإسلام يحض على منع الرق وهناك كفارات كثيرة‫.‬ هذه الكفارات الكثيرة هي فك الرقاب‫.‬ وسمي الرقيق رقبة تشبيهاً له بالأسير الذي يُربَط من رقبته، فكأنك إذا دفعت مالاً للرقيق المسلم كي ينال حريته فكأنك حللت القيد من عنقه كما يُربَط الأسير من عنقه‫.‬ فعبر عن الرقيق بالرقبة وكذلك يعبر عن الأسير، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "من فَكَّ رقبة مؤمنة كانت فداؤه من النار" . ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي في يوم فيه الجوع، فيه المجاعة، وقَيَّدَ الإطعام بذلك لأن المجاعة إذا عَمَّت حرص كل إنسان على ماله مهما كثر، فإذا كانت المجاعة والناس في حالة قحط وجوع الإنفاق هنا لا يساوي الإنفاق في حالة البسط وفي حالة الرخاء، لذا قيد الإنفاق في يوم ذي مسغبة‫:‬ أي يوم شديد فيه الجوع‫.‬ ونسب الجوع إلى اليوم لزيادة المبالغة في شأن الجوع في ذلك اليوم، كقولك‫:‬ ليلٌ قائم ونهارٌ صائم‫.‬ وحين قُرِئت ﴿أو إطعامٌ في يوم ذا مسغبة﴾ أي أَطْعَمَ ذا مسغبة‫:‬ أي صاحب الجوع، ﴿يتيماً﴾: بدلاً من ﴿ذا مسغبة﴾. ﴿ذي مسغبة﴾ اليوم الشديد فيه المجاعة وفيه القحط‫.‬ ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾: اليتيم أحق الناس بالعناية وأولى الناس بالرعاية، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يوصي باليتيم فيقول‫:‬ "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وقَرَنَ بين إصبعيه المسبحة والوسطى، ويقول‫:‬ "من مسح رأس يتيم غُفِرَ له". واليتيم من الناس هو يتيم الأب، واليتيم من الحيوان من ماتت أمه، فاليُتم في الحيوان بموت الأم واليُتم في الإنسان بموت الأب‫.‬ واليُتم من الميلاد حتى البلوغ فلا يتم بعد البلوغ، ولا يقال للبالغ يتيم‫.‬ ولكن الآية تحض وتبين أن الإنفاق على القريب أشد وأعظم ثواباً من الإنفاق على الغريب، ولذا قيده بالقرابة فقال‫:‬ ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ فالإنفاق على فقراء القرابة فيه ثواب الإنفاق وثواب صلة الرحم، فيه ثوابان والثواب فيه مضاعف، ولو أنفق كل غني على أقاربه من الفقراء ما كان هناك حسد وما كان هناك غل ولعاش الناس في وئام وسلام‫.‬ ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾: أي ذا قُربَة‫.‬ قَرُبَ أي قَرُبَ في النسب، مصدر ميمي لقَرُبَ. ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ المسكين‫:‬ ذلك الذي لا يجد قوت يومه، أو لا يكاد يكفيه رزقه، أو من السكون؛ ألصقه الفقر بالأرض فسَكَنَ لا يتحرك من الجوع، لا قوة له‫.‬ ﴿ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ متربة‫:‬ مصدر ميمي لتَرِبَ الرجل‫:‬ افتقر، أي لَصَقَ بالتراب، كأن الفقر ألصقه بالتراب، لا بيت له يأويه، لا بيت له يضمه ولا كساء له يحميه، لصق بالتراب‫.‬ تَرِبَ الرجل‫:‬ افتقر، أَترَبَ الرجل‫:‬ اغتنى، همزة السَّلْب سَلَبَتهُ التراب والفقر‫.‬ وأترب بمعنى كثر ماله حتى أصبح كالتراب من كثرته‫.‬ ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾ والكلام يُشعِرُك بأن الله (تبارك وتعالى) حين وبخ ذلك الكافر الذي كابد منه النبي (صلى الله عليه وسلم) المشاق، الذي يَدَّعِي أنه أَهلَكَ المال وأنفق الكثير منه، يقول الله (تبارك وتعالى) في شأنه‫:‬ هَلَّا اقتحم العقبة؟ هَلَّا أنفق ماله في إطعام اليتيم القريب أو المسكين الفقير بدلاً من أن ينفقه في الرياء وفي السمعة؟ والآيات تنبه الإنسان بمصادر إنفاق المال، وأن إنفاق المال في النفع العام وفي سد حاجة الفقراء هو المنجي من عذاب يوم القيامة، من هول العرض، هو المنجي من الصراط على جهنم‫.‬ المال، والمال صنو الروح، وإنفاق المال فيه مشقة وفيه مكابدة للنفس إذ جُبِلَت الأنفس على الشح (ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هم المفلحون) ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "جُبِلَت الأنفس على الشُّح" إنفاق المال من الأمور الصعبة، والمال كما قلنا صنو الروح، وقد قرن الله المال بالروح في قوله" ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٢٩] قَرَنَ قتل النفس بأكل المال، فالمال صنو الروح، وإنفاق المال يحتاج من الإنسان لقوة ولمجاهدة لنفسه، ولذا يبدأ ذلك بالإنفاق مما تحب فربنا يقول‫:‬ ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٩٢] ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ (الصدقه تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء نار الحطب). هل اقتحم الإنسان العقبة؟ كيف تُقتَحَم العقبة؟ بالمال، من ليس له مال فليحسن خُلُقَه، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ (وإنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فَسَعُوهم بأخلاقكم) ولذا قال‫:‬ ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٣] ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾ ولكن يُشتَرَط لقبول هذا الإيمان، فالإيمان هو رأس الأمر كله ولا يَقبَل الله (تبارك وتعالى) العمل إلا إذا كان صادراً من قلب مؤمن‫.‬ لذا عطف ربنا الكلام على اقتحام العقبى ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ عَطَفَ عليه بقوله‫:‬ ﴿ثُمَّ كَانَ﴾ أي هذا الذي أنفق وأطعم اليتيم وأطعم المسكين ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ "ثم" الترتيب هنا ليس للتراخي، ليست معناها ينفق ويطعم اليتيم ثم يؤمن، لأن الإطعام والإنفاق لا يُقبَل إلا إذا كان من مؤمن، فالإيمان سابق للعمل، بل الإيمان هو الذي يحض ويدفع إلى العمل‫.‬ "ثم" هنا بمعنى الواو، أي وكان من الذين آمنوا‫.‬ أو "ثم" هنا بمعنى أن هذا العمل كان دافعه الإيمان، وظل مؤمناً حتى آخر يوم في حياته فتفيد الاستمرار‫.‬ ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ آمنوا بالله (تبارك وتعالى) ودفعهم الإيمان للعمل، لأن ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصَدَّقَه العمل‫.‬ ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ التواصي أن يوصي بعضُنا بعضاً. والوصية‫:‬ النصح والإرشاد، الوصيه يجب أن تكون بِلِينٍ وبرفق، الوصيه يجب ألا يكون فيها التعالي، فإذا أوصيت غيرك لا توصيه بالتعالي عليه أو كأنك كبير وهو صغير أو كأنك تعلم وهو لا يعلم، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فالتواصي معناه أن توصيه ويوصيك، تنصحه وينصحك، والتناصح من شِيَمِ المسلمين، وقد بويع النبي (صلى الله عليه وسلم) على النصيحة، وسئل‫:‬ النصيحة لِمَنْ يارسول الله؟ قال‫:‬ "لأئمة المسلمين وعامتهم"، وقد بايع الناس على النصح لله ولرسوله وللمسلمين‫.‬ تواصوا‫:‬ تناصحوا، أوصى بعضُهُم بعضاً بالصبر، وما أدراك ما الصبر! الصبر‫:‬ ضبط النفس، الصبر منه الجميل ومنه غير الجميل، والصبر المقصود هو الصبر الجميل‫.‬ الصبر الجميل الذي لا شكوى معه، فإن كنت صابراً على قضاء وقدر، على مصيبة موت أو فقد ولد أو فقد مال فلا تشكو اللهَ لأحد‫.‬ إذا كنت صابراً على مرض فلا تشكو مرضك لأحد، لأن الصبر إذا كان معه الشكوى لم يكن صبراً جميلاً، وإنما الصبر الجميل الذي صَبَرَه يعقوب وقال‫:‬ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ١٨] الصبر الجميل الذي لا شكوى معه، والصبر أنواع وألوان‫:‬ صبر على الطاعة، والطاعة تحتاج إلى صبر، أن تستيقظ فجراً في الشتاء وتتوضأ بالماء البارد وتقوم والناس نيام تحتاج لصبر، أن تصبر على الجوع والعطش في رمضان، أن تصبر على مشقة الحج، أن تصبر على الإنفاق، الصبر على الطاعة‫.‬ وهناك صبر عن المعصية، أن ترى الحرام أمامك قد زُيِّنَ وسُهِّلَ لك الحرام فتصبر عنه، ذاك صبر وأي صبر! ويشتد ذاك في أواخر الزمان لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "يأتي زمان على أمتي يكون القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من النار" الصبر عن المعاصي‫.‬ والصبر صبرٌ بالله، والصبر صبر في الله، والصبر صبرٌ مع الله ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ١٢٧] فالصبر بالله والصبر مع الله في طريق الطاعة والرضوان، والصبر في الله بالجهاد وبالامتناع عن المحرمات والامتناع عن المعاصي وبكف النفس عن الشهوات‫.‬ ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ بجميع أنواع الصبر وألوانه‫.‬ ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ التراحم، وسِمَةُ الإسلام الرحمة، وأول ما افتتح به ربنا (تبارك وتعالى) كتابه افتتحه بالرحمة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ الرحمة، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، التراحم بين الناس تلك سمة الإسلام‫.‬ الرحمة أن يرحم الكبير الصغير، أن يرحم الغني الفقير، أن يرحم ذو الجاه من حُرِمَ من الجاه‫.‬ التراحم بين الناس‫.‬ هذا التراحم الذي أوصى به نبينا (صلى الله عليه وسلم) وأوصانا به القرآن، وأثنى على المؤمنين المتراحمين بقوله‫:‬ ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ٢٩] هذا التراحم الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وسلم): ( المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) . تواصوا بالمرحمة‫:‬ أوصى بعضُهُم بعضاً أن يرحموا بعضُهُم بعضاً. أَحَبُّ الناس إلى الله أَعذَرُهُم إلى الناس، أن تعذر الناس، والناس في ذلك أربعة‫:‬ سريع الغضب سريع الرضا، وبطيء الغضب وبطيء الرضا -وهذه بتلك-وبطيء الغضب سريع الرضا -ذاك خير الناس- وسريع الغضب بطيء الرضا -وذاك شر الناس- ليس في قلبه رحمة، إنما يرحم اللهُ من عباده الرحماءَ. التراحم‫:‬ أن يرحم بعضُهُم بعضاً. وتواصوا بالمرحمة، أيضاً وتواصوا بما يؤدي إلى رحمة الله الواسعة‫.‬ ﴿أولئك﴾: اسم إشارة لهؤلاء الذين فعلوا ذلك‫.‬ ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ الميمنة‫:‬ اليمين، الميمنة‫:‬ اليُمن، الميمنة‫:‬ الذين خُلِقُوا من شِقِّ آدم الأيمن في بعض الأقوال، الميمنة‫:‬ الذين يأخذون كُتُبَهم بأيمانهم -جعلنا الله وإياكم منهم-‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ المشأمة‫:‬ الشؤم، المشأمة‫:‬ الشمال، المشأمة‫:‬ الذين يأخذون كُتُبَهم بشمالهم، الذين كفروا بآيات الله؛ الدلائل على خلقه، الدلائل على وجوده؛ الشمس والقمر ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦)وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)﴾ [سورة الشمس آية‫:‬ ٥- ٨] الذين كفروا بهذه الآيات الدالة على وجود الخالق ووجوب الوجود، الدالة على قدرته وهيمنته وسيطرته وتدبيره‫.‬ الآيات‫:‬ القرآن، الآيات‫:‬ الكتب السماوية ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ ولم يقل (أولئك) كما قال في شأن المؤمنين‫.‬ قال في شأن المؤمنين‫:‬ ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ باسم الإشارة، فيه الرفعة، فيه رفعة الشأن، فيه التعظيم، ﴿أُولَئِكَ﴾ اسم إشارة للبعيد لرفعة منزلتهم عند الله‫.‬ وحين جاء الكلام عن الكفار عَبَّرَ عنهم بالضمير‫:‬ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ﴾ لمزيد التحقير ﴿هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾. ما مصيرهم؟ أصحاب الشمال، أصحاب الشؤم الذين أخذوا كتبهم بشمائلهم‫.‬ ﴿عليهم نار مُوصَدَة﴾ قراءة ﴿مؤصدة﴾ قراءة‫.‬ أَوصَدَ الباب وآصَدَ الباب‫:‬ أَغلَقَهُ وأَطبَقَه‫.‬ ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾: مُغلَقَة‫.‬ ما الفارق بين أن تكون النار مفتوحة أو مقفولة؟ تُشعِرُ الكلمة بأن النار لا نور فيها، فقد أطبقها الله على أهلها فلا نور فيها ولا ضياء بل هي مظلمة إظلاماً شديداً، حتى النار لا ضوء لها، بل هي نار سوداء -إي وربي- نار سوداء لا فيها ضوء ولا فيها فرج ولا فيها مجال للهروب ولا فيها مجال للخروج، أُوصِدَت وأُطبِقَت عليهم ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾.

أيها الأخ المسلم؛ تلك كانت سورة البلد، أقسم الله (تبارك وتعالى) فيها بالبلد الأمين وبالنبي (صلى الله عليه وسلم) وشَرَّفَه وعَظَّمَه بوجوده بمكة للإشعار بأن شرف المكان بشرف أهل المكان، فالمكان يَشرُفُ بأهله‫.‬ وبَشَّرَه بفتح مكة، ثم سَرَّى عنه وقال إن كنت تكابد وتلقى المشقة في الدعوة فما من إنسان إلا يكابد، ولكن هناك مكابد في الخير ومصيره الخير وهناك مكابد في الشر ومصيره إلى الشر‫.‬ ويحض ربنا (تبارك وتعالى) الإنسان الذي أعطاه مالاً وميزه عن الحيوان بالنطق والبيان فجعل له اللسان، وعظ الإنسان وحَضَّهُ على الإنفاق وبَيَّنَ أن الإنفاق على القرابة أفضل وأعظم ثواباً، إن كان لك فقراء من أقربائك، فإن لم يكن هناك فقراء من ذوي قرابتك فالإنفاق على الأقرب فالأقرب، والأقربون أولى بالمعروف‫.‬ حضنا ربنا (تبارك وتعالى) على الإنفاق ثم بَيَّنَ بعد ذلك مصير المنفقين مصير المؤمنين كيف هم في نعيم مقيم، ثم مصير هؤلاء الذين كفروا وجحدوا بآيات الله (تبارك وتعالى) حيث أُغلِقَت عليهم جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول أبو ذر الغفاري (رضى الله عنه وأرضاه): "أوصاني خليلي بأربعٍ هُنَّ خير عندي من الدنيا وما فيها قال‫:‬ يا أبا ذر أَحكِمِ السفينة فإن البحر عميق واستكثر الزاد فإن السفر طويل وخَفِّف ظهرك فإن العقبة كَؤود وأحسن العمل فإن الناقد بصير"‬‬‬
‫تلك أربعة أوصى بها النبي (صلي الله عليه وسلم) أبا ذر الغفاري‫:‬ أَحكِمِ السفينة فإن البحر عميق، شَبَّه النبي (صلى الله عليه وسلم) النفس البشرية بالسفينة، وشَبَّهَ الدنيا ببحرٍ عميق متلاطمة أمواجُه خطيرة أنواؤه، فيه الظلام وفيه الرياح، طبقات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، أَحكِمِ السفينة، وكأن الإنسان بقلبه وبإيمانه وبإدراكه وبعقله وبتميزه كربان السفينة، كلما كان الربان ماهراً كلما نجا بسفينته من الأنواء والعواصف‫.‬ ونحن في هذه الدنيا في بحر متلاطم تتنازعنا الشهوات وتُزَيَّن لنا المحرمات وتُسَمَّى الأشياء بغير أسمائها، فإذا بالفسق فن، وإذا بالفجور نباهة وذكاء، وإذا بسوء الخلق خفة دم، وإذا بالسباب والقذف والشتائم هزل وتسلية وتسرية، وإذا بالحرام حلال، وإذا بالربا تجارة، وإذا بالعري تمدين، بحر عميق أنت فيه سفينة عقلك ربانها، أَحكِمِ السفينة فإن البحر عميق، أُشدُد على قلبك وأَحكِم قِيَادَ نفسك، إياك إياك أن تميل مع المائلين! ولا يَغُرَّنَّك كثرة الهالكين، واحرص على اللحاق بالرفيق السابق، فها هي جهنم قد تميزت وتَغَيَّظَت وعلا زفيرها مستعدة لتَلَقِّي أهلها، على أبوابها دُعَاة يدعونك إليها، من أجابهم إليها قذفوه فيها، أَحكِم السفينة فإن البحر عميق‫.‬ (واستكثر الزاد فإن السفر طويل) وكل مسافر لابد من زاد، وعلى قدر مسافة السفر على قدر زيادة الزاد، فكلما قَلَّت المسافة قَلَّ الزاد وكلما كثرت المسافة وطالت المشقة وبعدت كلما زاد الزاد، وها أنت مسافر إلى ربك‫.‬ جسدك هذا سفينة، قلبك يركبها في رحلته منذ وُضِعَت الروح ونُفِخَت الروح في جسمك، أعطاك الله هذا الجسد كمركب يركبه قلبك المعاتَب والمعاقَب في هذه الدنيا، فإذا انتهى أجلك في هذه الدنيا خَلَعتَ هذا الجسد، نَزَلتَ من هذه المركب وركبت مركباً آخر، جسد آخر لحياة البرزخ، ثم تركب مركباً آخر فتلبس جسداً آخر للبعث والنشور، ثم بعد ذلك لك جسد ولك مركب، مركب النعيم أو مركب الجحيم‫.‬ أنت في هذه الدنيا، كم عمر الدنيا؟ أين الملوك؟ أين الرؤساء؟ كم من الزمن حكموا؟ وكم من الزمن مضى بعد ما دُفِنوا؟ أين فرعون أين عاد أين ثمود؟ أين هؤلاء وهؤلاء؟ تُرى كم مضى على نوح؟ تُرى منذ متى خُلِقَ آدم؟ هذه الأرض التي تمشي عليها ما هي إلا أجساد ناس، السفر طويل، مدة بقاء الإنسان في القبر هل تساوي مدة بقائه في الدنيا؟ كم تعيش؟ خمسون؟ ستون؟ سبعون؟ مائة؟ ثم بعد ذلك؟! هَبْ أنك أُوتِيتَ عُمرَ نوح وهَبْ أنك أُوتيِتَ مُلكَ سليمان، ثم ماذا؟ ثم الموت، ثم القبر، ثم الظلمة، ثم الدفن، ثم الوحدة، ثم السؤال‫.‬ استكثر الزاد‫.‬ هل تعلم ما هو الزاد؟ التقوى ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾ لقمة في يد مسكين، مسحة على رأس يتيم، تفريج كربة عن مكروب، إزالة هَمٍّ عن مهموم، قضاء دَينٍ عن مديون‫.‬ استكثر الزاد، هَلُمَّ أبواب الخير كثيرة فتحها الله (تبارك وتعالى) لنا تفتيحاً. (وخَفِّف ظهرك فإن العقبة كؤود) العقبة‫:‬ الصراط على جهنم أَحَدُّ من السيف وأَدَقُّ من الشَّعر طوله آلاف السنين، طوله قُطرُ جهنم، تُرى مساحة جهنم، فوهة جهنم ما مساحتها؟ هذا الجسر الممدود على جهنم الناس في اجتيازهم لهذا الجسر -أَحَدُّ من السيف وأَدَقُّ من الشعر-إن كان ظهرك خفيفاً جَرَيتَ وكلما حَمَلتَ على ظهرك كلما قَلَّ سيرك وقَلَّت سرعتك فمشيت أو وقعت أو انكفأت‫.‬ خَفِّف ظهرك، والظهر كيف يُخَفَّف؟ باجتناب المعاصي والذنوب، لأن الذنوب والأوزار تُحمَل على الظهر، والغُلول يُحمَل على الظهر، وأكل أموال الناس يُحمَل على الظهر، يأتي الإنسان يوم القيامة ويحمل على ظهره بقرة، كيف يمشي بها؟ نَعَم! غَلَّهَا في الدنيا، يحمل شاة، يحمل بعيراً، يحمل أموال اكتنزها وأكلها بغير حق، فكيف يمشي على الصراط؟ خَفِّف ظهرك فإن العقبة كؤود‫:‬ صعبة، شاقة، مستحيلة‫.‬ (وأَحسِنِ العمل) أي أتقن عملك، إذا صليت فصلي بخشوع، أَتِمَّ أركان الصلاة، إذا زكيت فزكي بحق وبصدق وضَعِ المال في مكانه، إذا قَدَّمتَ النصح فقدمه مخلصاً، إذا استشارك أحد من الناس فكن مؤتمناً فالمستشار مؤتَمَن‫.‬ أَحسِنِ العمل‫:‬ أتقِن عملك، اقرأ القرآن بتروي، صَلِّ بخشوع ، زَكِّ بصدق وأنت طيب النفس، أَحسِن عملك فإن الناقد الذي يَنقُدُ العمل بصير، والبصير هو الله! وأحسن العمل فإن الناقد بصير‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬