
القرآن الكريم / سورة الفجر / التفسير المقروء
سورة الفجر
مقدمة
لقاؤنا مع سورة الفجر. وسورة الفجر سورة مكية، نزلت تهدد وتتوعد كفار مكة، تضرب لهم الأمثال وتبين لهم مصير الأمم السابقة والتي يعلمون عنها، فقد كانت في بلادهم أو قريبة من بلادهم. أقسم الله (تبارك وتعالى) في أول السورة بخمسة أقسام، ولله (تبارك وتعالى) أن يُقسِمَ بما شاء، فيُقسِمُ بأسمائه وصفاته لعِلْمِه، ويُقسِمُ بأفعاله لقدرته، ويقسم بمصنوعاته، يقسم بما شاء على ماشاء، وما أقسم الله (تبارك وتعالى) به يُشعِرُ بعزة وعظمة وتفخيم ما أقسم به وعِظَمِ شأن ما أَقسَمَ عليه.
وَٱلْفَجْرِ ﴿1﴾
وَلَيَالٍ عَشْرٍۢ ﴿2﴾
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ ﴿3﴾
وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿4﴾
خمسة أقسام. القَسَم الأول بالفجر. ﴿وَالْفَجْرِ﴾ أهو انفجار الظلمة عن ضوء الصبح؟ أهو النهار كله وعُبِّرَ عنه بأول الفجر؟ أهو صلاة الصبح التي يشهدها ملائكة الليل والنهار؟ أهو فجر الأضحى -عيد الأضحى-بعد عشر ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾؟ أهو فجر كل يوم؟ أهو فجر المحرم إذ منه تنفجر السنة كلها؟ أهو فجر عرفة؟ ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾: هي العشر من ذي الحجة لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما من عمل أو ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عَشْرِ ذي الحجة" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ أهي عشر ذي الحجة؟ أهي العشر الأواخر من رمضان؟ خير الليالي على الإطلاق وفيها ليلة خير من ألف شهر، فعشر ذي الحجة خير الأيام والعشر الأواخر من رمضان خير الليالي، أهي العشر الأوائل من المحرم والتي تنتهي بيوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى؟ أقوال. وقُرِئت ﴿وليالِ عَشْرٍ﴾ بالإضافة، أي: ولَيَالِ أيامٍ عَشْرٍ. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ الشَّفْع: الزوج، الوَتر: الفرد. وقُرِأَت (الوِتر) الوَتر والوِتر لغتان بمعنى واحد: الفرد، إن الله (تبارك وتعالى) وِتر ويحب الوِتر. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ الشفع: الأيام والليالي، فما من يوم إلا وله ليلة وما من ليلة إلا ولها يوم، أما الوتر فهو اليوم الذي لا ليل بعده، ليس له ليلة، ألا وهو يوم القيامة. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾: الصلوات، منها شفع كصلاة الصبح والظهر والعشاء ومنها الوتر كصلاة المغرب. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ الشفع: اليوم العاشر من ذي الحجة، والوتر اليوم التاسع، إذ أن العدد تسعة وتر والعدد عشرة شفع. (والفجر): فجر الأضحى، أما الشفع والوتر فهو يوم عرفة ويوم النحر. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ الشفع: الخَلْق، لأن الخَلْق شفع، وربنا يقول: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٩]، أما الوتر فهو الله، أقسم بالخَلْقِ والخالق. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ آدم وحواء فقد كان آدم وتر فشُفِّعَ بزوجته. ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ كل خَلقِ الله (عز وجل)، كل ما في السماء والأرض، كل مافي الدنيا.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يسري﴾ قراءة، وهناك من أثبت الياء وصلاً وحذفها وقفاً، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف ومنهم من حذفها في الوصل والوقف وذاك أرجح إذ يوافق رسم المصحف. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ حُذِفَت الياء واستُغنِيَ عنها بالكسرة لتتفق ورؤوس الآي. يَسْرِ: بمعنى . بعدما أقسم الله بالليالي العشر على الخصوص أقسم بالليل على العموم. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾: يمضي، يذهب. وقيل: القَسَم بالليل، بسَرَيَانِه، بمُضِيِّه، لأن في تقلب الأحوال دليل على قدرة المــُقَلِّب والمــُغَيِّر والمـــُحَوِّل الذي لا يتحول ولا يتغير، إشعاراً بأن الدنيا تمضي، إشعاراً بالقدرة وإشعاراً بالنعمة، إذ لو أن الليل لم يَسِر من يأتيكم بضياء يمشي فيه الناس ويسعون على أرزاقهم؟ ففيه إشعار بالقدرة وإشعار بالنعمة. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾: يمضي. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يسري﴾ أي يُسرَى فيه، يُمشَى فيه، كقولهم "ليل نائم" أي يُنَامُ فيه أو "نهار صائم" أو "قائم."
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾ [سورة الفجر آية: ٥]
ذي حِجْر: ذي عقل. سُمِّيَ العقل حِجراً لأنه يحجر صاحبه عن السفاهات، يمنع. الحِجْر: المنع، حَجَرَ عليه: مَنَعَهُ، والحُجرة حُجرة لأن ما فيها ممتنع بها، والحِجر حِجر لامتناعه بصلابته، فالحِجر: المنع. ليس كل عقل يسمى حِجراً، وإنما الرجل ذو الحِجر هو الذي ضبط نفسه وقهرها ومنعها عن السفاسف والسفاهات. ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾: الأقسام، ما قَسَمَ الله به. ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾: ما أقسم عليه. ﴿قَسَمٌ﴾: حَلِفٌ (لذي حجر). وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول إذا كان السامع ذا عقل عَلِمَ أن ما أقسم الله به حقيقٌ أن يُقسِمَ به، فهي تأكيد لما أقسم عليه الله. وقد يكون "هل" بمعنى "إن" أي (إن في ذلك قَسَمٌ لذي حِجر): لذي عقل يعقل، يعلم أن ما أقسم الله به شيء عظيم، شيء خطير، شيء يُقسَم به، فإن أَقسَمَ به الله (تبارك وتعالى) دل ذلك على حقيقة ما أقسم عليه. أقسام خمسة، ما هو جوابها؟ جوابها محذوف تقديره: ليعذب الله الكفار. والدليل على هذا الجواب قول الله عز وجل:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يسري﴾ قراءة، وهناك من أثبت الياء وصلاً وحذفها وقفاً، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف ومنهم من حذفها في الوصل والوقف وذاك أرجح إذ يوافق رسم المصحف. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ حُذِفَت الياء واستُغنِيَ عنها بالكسرة لتتفق ورؤوس الآي. يَسْرِ: بمعنى . بعدما أقسم الله بالليالي العشر على الخصوص أقسم بالليل على العموم. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾: يمضي، يذهب. وقيل: القَسَم بالليل، بسَرَيَانِه، بمُضِيِّه، لأن في تقلب الأحوال دليل على قدرة المــُقَلِّب والمــُغَيِّر والمـــُحَوِّل الذي لا يتحول ولا يتغير، إشعاراً بأن الدنيا تمضي، إشعاراً بالقدرة وإشعاراً بالنعمة، إذ لو أن الليل لم يَسِر من يأتيكم بضياء يمشي فيه الناس ويسعون على أرزاقهم؟ ففيه إشعار بالقدرة وإشعار بالنعمة. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾: يمضي. ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يسري﴾ أي يُسرَى فيه، يُمشَى فيه، كقولهم "ليل نائم" أي يُنَامُ فيه أو "نهار صائم" أو "قائم."
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾ [سورة الفجر آية: ٥]
ذي حِجْر: ذي عقل. سُمِّيَ العقل حِجراً لأنه يحجر صاحبه عن السفاهات، يمنع. الحِجْر: المنع، حَجَرَ عليه: مَنَعَهُ، والحُجرة حُجرة لأن ما فيها ممتنع بها، والحِجر حِجر لامتناعه بصلابته، فالحِجر: المنع. ليس كل عقل يسمى حِجراً، وإنما الرجل ذو الحِجر هو الذي ضبط نفسه وقهرها ومنعها عن السفاسف والسفاهات. ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾: الأقسام، ما قَسَمَ الله به. ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾: ما أقسم عليه. ﴿قَسَمٌ﴾: حَلِفٌ (لذي حجر). وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول إذا كان السامع ذا عقل عَلِمَ أن ما أقسم الله به حقيقٌ أن يُقسِمَ به، فهي تأكيد لما أقسم عليه الله. وقد يكون "هل" بمعنى "إن" أي (إن في ذلك قَسَمٌ لذي حِجر): لذي عقل يعقل، يعلم أن ما أقسم الله به شيء عظيم، شيء خطير، شيء يُقسَم به، فإن أَقسَمَ به الله (تبارك وتعالى) دل ذلك على حقيقة ما أقسم عليه. أقسام خمسة، ما هو جوابها؟ جوابها محذوف تقديره: ليعذب الله الكفار. والدليل على هذا الجواب قول الله عز وجل:
هَلْ فِى ذَٰلِكَ قَسَمٌۭ لِّذِى حِجْرٍ ﴿5﴾
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿6﴾
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴿7﴾
ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ ﴿8﴾
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُوا۟ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ ﴿9﴾
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلْأَوْتَادِ ﴿10﴾
ٱلَّذِينَ طَغَوْا۟ فِى ٱلْبِلَـٰدِ ﴿11﴾
فَأَكْثَرُوا۟ فِيهَا ٱلْفَسَادَ ﴿12﴾
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴿14﴾
أي ليُعَذَّبُنَّ كما عُذِّبَ عاد وثمود وقوم فرعون. وقد يكون جواب القسم: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾؛ ﴿وَالْفَجْرِ (١)وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾ والجواب: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾: استفهام على بابه، رأي آخر. واستفهام للتقرير: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾؟ استفهام يقرر أنه قَسَمٌ فعلاً يعقله كل عاقل.
ويتوجه الوعيد لكل كافر بذكر ثلاث أمم طغت وتجبرت وأهلكها الله (تبارك وتعالى). أما عاد فهي في الأرض الواقعة بين عُمان وحضرموت يمر عليها أهل مكة في تجارتهم. وأما ثمود فهي واقعة في الأرض بين الحجاز وتبوك، بين الحجاز والشام يمرون عليها أيضاً في تجارتهم إلى الشام. وأما فرعون فقد جاءهم خبره من أهل الكتاب، من أهل المدينة -يهود المدينة-وتَسَمَّعُوا أخباره.
من هنا يضرب الله (تبارك وتعالى) المثل بهذه الأمم السابقة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) والمراد هو والأمة، هو والناس، هو والخلق جميعاً. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ والرؤية هنا رؤية القلب وليست رؤية العين، أي ألم تعلم؟ ألم أُعلِمْكَ بما حدث في شأنهم؟ كيف فعل ربك بعاد؟ عاد هم قوم هود وسُمُّوا باسم أبيهم عاد. ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ "إِرَم": اسم جدهم أو هو اسم القبيلة. ذات العماد: ذات الأعمدة. بنوا قصورهم على أعمدة. ذات العماد: ذات الشدة، ذات القوة. ذات العماد: ذات الأجسام الفارعة، قيل في شأنهم أن الرجل كان طوله اثني عشر ذراعاً في الهواء، وكان الرجل منهم إذا ضرب الأرض برجله دخلت رجله في الأرض وفي الصخر، مصارع الأبواب -المزلاج- كانوا يتخذونها من الصخور، كانت تمر بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة، طوال الأعمار، طوال الأجسام، ضخام الأجسام، حتى أنهم قالوا عن أنفسهم كما حكى لنا ربنا: ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [سورة فصلت آية: ١٥] وامتَنَّ الله (تبارك وتعالى) عليهم كما أخبرنا: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ [سورة الأعراف آية: ٦٩] أجسام عظيمة وأعمار طويلة، قوة وبأس وشدة. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾ فيها قراءات عديدة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ﴾ بالإضافة، ﴿بِعَادَ إِرَم﴾، ﴿بِعَادٍ أَرَمَ﴾، ﴿بِعَادٍ أَرِمَ ذات﴾ بالفتح، ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾، ﴿بِعَادٍ أَرَمَّ ذات العماد﴾ أي جعلها ربنا رميماً، أَرَمَّ: أي أَرَمَّ اللهُ ذاتَ العماد. ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨)﴾ الخالق هو المخبر لك، لم يخلق ربنا مثل عاد أبداً، بنوا مدائن على الأعمدة، وكانوا ينتجعون ويخرجون وينصبون الخيام بالعماد، كانوا طوال الأجسام وكانت القوة وكانت الشدة وكان البأس، وكانت وكانت وكانت ،لَمْ يُخلَق مثلها في البلاد، كانوا يتخذون مصانع لعلهم يخلدون وكأنهم صنعوا كل شيء حتى أعضاء الإنسان، لكن الله (تبارك وتعالى) أهلكهم، وأهلكهم بالريح.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ ثمود قوم صالح. جاءهم صالح يدعوهم إلى الله، طلبوا آية وحددوا الآية: ناقة، وأشاروا إلى الصخرة، وانفلق الصخر وخرجت ناقة عاشوراء حامل في عشرة أشهر تشرب الماء كله في يوم وتشرب القبيلة كلها في يوم، يقال لها ضِرعان؛ ضِرع يَدُرُّ لبناً وضِرع يَدُرُّ عسلاً، ناقة تخرج من الصخرة. عقروها فأهلكهم ربنا (تبارك وتعالى) بالصيحة، صيحة واحدة صاحها عليهم جبريل. ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ جابوا: قطعوا. الجَوب: القطع. وجَيبُ الجلباب وجَيب القميص: الفتحة في صدر الجلباب والقميص، سُمِّيَ ذلك جيباً لأنه جِيبَ: أي قُطِع. ويقال للرجل يجوب الأرض أي يقطعها. ﴿جَابُوا الصَّخْرَ﴾: قطعوا الصخر. ﴿بِالْوَادِ﴾: وادي القرى، وكل طريق بين جبلين يسمى وادياً. الواد: وادي القرى الذين كانوا يسكنون فيه بين الحجاز والشام. أول من قطع الصخور ثمود، أول من استخرج الرخام ثمود، كانوا ينتزعون الصخور من الجبال ويجوبونها ويحفرون الجبال ويتخذون بيوتهم في داخل الجبال، ينحتون من الجبال بيوتا فارهين، ثمود الذين جابوا الصخر بالواد.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الأوتاد: جمع وَتَد، ما تُشَدُّ به الخيام. الأوتاد: الجنود الذين يشدون مُلكَه، الجبابرة الذين يشدون ملكه كما تُشَدُّ الخيام بالأوتاد. أو ذي الأوتاد: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، إذا أرادوا تعذيب أحد طرحه على ظهره ونصب أربعة أوتاد، شَدَّ إلى الأوتاد اليدين والقدمين ثم جاء بِبِكَار وصخرة عظيمة يرفعها ثم تُترَك الصخرة فتنزل على المصلوب أرضاً تشدغه، ذي الأوتاد: الأوتاد التي يعذب بها الناس. أو الأوتاد: البناء المرتفع كالجبال، وربما تكون إشارة إلى الأهرامات الموجودة في مصر. ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١)﴾ "الذين": عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد، والطغيان: تجاوز الحد. ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ كُفرٌ وشِرك وجبروت وتعذيب وإهانة وتسخير للناس. أكثروا في الأرض الفساد: أفسدوا فيها. ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ الصَّبُّ: الإفراغ والإلقاء. جاءت الكلمة للإشعار بالكثرة والتتابع لأن الصَّبَّ معناه إذا صَبَبْتَ الماء أنك تُلقيه دفعة واحدة وتفرغه بكثرة وتتابع، فكأن العذاب نزل عليهم كثيراً متتابعاً. ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ السَّوطُ أصلاً: الخَلْط، سَاطَ يَسُوطُ الشيء سَوطاً: خَلَطَه، وسَوَّطَه: خَلَطَه ببعض. ويطلق اللفظ أيضاً على الجلد المضفور الذي يُجلَد به الناس ويُعَذَّب به الناس، سُمِّيَ سوطاً لأنه مخلوط من جلد مضفور، فالسَّوط: الخَلط. سوط عذاب: نوعاً من أنواع العذاب، ولله أسواط كثيرة يعذب كل أمة بِسَوطٍ منها: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٠] كل أمة سَلَّطَ الله عليها وصَبَّ عليها سوط عذاب: نوعاً من العذاب أو خليط من العذاب. أو جاء بكلمة السَّوط لأن أقصى ما كان يعذب به أهل مكة العبيد أن يجلدهم بالسياط، فيقول الله (تبارك وتعالى) أن عذاب الدنيا سَوط، فإذا قورن بعذاب الآخرة كانت كالسوط بالنسبة للسيف، فالسوط في الدنيا والسيف في الآخرة. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ المرصاد: المكان الذي يقف فيه الراصد يرقب ويرصد. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ كناية عن أن الله (تبارك وتعالى) يرصد أعمال الناس ويرقب الكفار ويحصي عليهم أعمالهم، يسمع ويري كالرصد الذي يقف ويرصد ويرقب ويحصي وهكذا، إن ربك لبالمرصاد: إذاً فهو مراقِب عالم يسمع يرى يحصي على الكفار أعمالهم. هذا شأن الله أما الإنسان فله شأن آخر.
ويتوجه الوعيد لكل كافر بذكر ثلاث أمم طغت وتجبرت وأهلكها الله (تبارك وتعالى). أما عاد فهي في الأرض الواقعة بين عُمان وحضرموت يمر عليها أهل مكة في تجارتهم. وأما ثمود فهي واقعة في الأرض بين الحجاز وتبوك، بين الحجاز والشام يمرون عليها أيضاً في تجارتهم إلى الشام. وأما فرعون فقد جاءهم خبره من أهل الكتاب، من أهل المدينة -يهود المدينة-وتَسَمَّعُوا أخباره.
من هنا يضرب الله (تبارك وتعالى) المثل بهذه الأمم السابقة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) والمراد هو والأمة، هو والناس، هو والخلق جميعاً. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ والرؤية هنا رؤية القلب وليست رؤية العين، أي ألم تعلم؟ ألم أُعلِمْكَ بما حدث في شأنهم؟ كيف فعل ربك بعاد؟ عاد هم قوم هود وسُمُّوا باسم أبيهم عاد. ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ "إِرَم": اسم جدهم أو هو اسم القبيلة. ذات العماد: ذات الأعمدة. بنوا قصورهم على أعمدة. ذات العماد: ذات الشدة، ذات القوة. ذات العماد: ذات الأجسام الفارعة، قيل في شأنهم أن الرجل كان طوله اثني عشر ذراعاً في الهواء، وكان الرجل منهم إذا ضرب الأرض برجله دخلت رجله في الأرض وفي الصخر، مصارع الأبواب -المزلاج- كانوا يتخذونها من الصخور، كانت تمر بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة، طوال الأعمار، طوال الأجسام، ضخام الأجسام، حتى أنهم قالوا عن أنفسهم كما حكى لنا ربنا: ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [سورة فصلت آية: ١٥] وامتَنَّ الله (تبارك وتعالى) عليهم كما أخبرنا: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ [سورة الأعراف آية: ٦٩] أجسام عظيمة وأعمار طويلة، قوة وبأس وشدة. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾ فيها قراءات عديدة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ﴾ بالإضافة، ﴿بِعَادَ إِرَم﴾، ﴿بِعَادٍ أَرَمَ﴾، ﴿بِعَادٍ أَرِمَ ذات﴾ بالفتح، ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾، ﴿بِعَادٍ أَرَمَّ ذات العماد﴾ أي جعلها ربنا رميماً، أَرَمَّ: أي أَرَمَّ اللهُ ذاتَ العماد. ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨)﴾ الخالق هو المخبر لك، لم يخلق ربنا مثل عاد أبداً، بنوا مدائن على الأعمدة، وكانوا ينتجعون ويخرجون وينصبون الخيام بالعماد، كانوا طوال الأجسام وكانت القوة وكانت الشدة وكان البأس، وكانت وكانت وكانت ،لَمْ يُخلَق مثلها في البلاد، كانوا يتخذون مصانع لعلهم يخلدون وكأنهم صنعوا كل شيء حتى أعضاء الإنسان، لكن الله (تبارك وتعالى) أهلكهم، وأهلكهم بالريح.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ ثمود قوم صالح. جاءهم صالح يدعوهم إلى الله، طلبوا آية وحددوا الآية: ناقة، وأشاروا إلى الصخرة، وانفلق الصخر وخرجت ناقة عاشوراء حامل في عشرة أشهر تشرب الماء كله في يوم وتشرب القبيلة كلها في يوم، يقال لها ضِرعان؛ ضِرع يَدُرُّ لبناً وضِرع يَدُرُّ عسلاً، ناقة تخرج من الصخرة. عقروها فأهلكهم ربنا (تبارك وتعالى) بالصيحة، صيحة واحدة صاحها عليهم جبريل. ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ جابوا: قطعوا. الجَوب: القطع. وجَيبُ الجلباب وجَيب القميص: الفتحة في صدر الجلباب والقميص، سُمِّيَ ذلك جيباً لأنه جِيبَ: أي قُطِع. ويقال للرجل يجوب الأرض أي يقطعها. ﴿جَابُوا الصَّخْرَ﴾: قطعوا الصخر. ﴿بِالْوَادِ﴾: وادي القرى، وكل طريق بين جبلين يسمى وادياً. الواد: وادي القرى الذين كانوا يسكنون فيه بين الحجاز والشام. أول من قطع الصخور ثمود، أول من استخرج الرخام ثمود، كانوا ينتزعون الصخور من الجبال ويجوبونها ويحفرون الجبال ويتخذون بيوتهم في داخل الجبال، ينحتون من الجبال بيوتا فارهين، ثمود الذين جابوا الصخر بالواد.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الأوتاد: جمع وَتَد، ما تُشَدُّ به الخيام. الأوتاد: الجنود الذين يشدون مُلكَه، الجبابرة الذين يشدون ملكه كما تُشَدُّ الخيام بالأوتاد. أو ذي الأوتاد: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، إذا أرادوا تعذيب أحد طرحه على ظهره ونصب أربعة أوتاد، شَدَّ إلى الأوتاد اليدين والقدمين ثم جاء بِبِكَار وصخرة عظيمة يرفعها ثم تُترَك الصخرة فتنزل على المصلوب أرضاً تشدغه، ذي الأوتاد: الأوتاد التي يعذب بها الناس. أو الأوتاد: البناء المرتفع كالجبال، وربما تكون إشارة إلى الأهرامات الموجودة في مصر. ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١)﴾ "الذين": عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد، والطغيان: تجاوز الحد. ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ كُفرٌ وشِرك وجبروت وتعذيب وإهانة وتسخير للناس. أكثروا في الأرض الفساد: أفسدوا فيها. ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ الصَّبُّ: الإفراغ والإلقاء. جاءت الكلمة للإشعار بالكثرة والتتابع لأن الصَّبَّ معناه إذا صَبَبْتَ الماء أنك تُلقيه دفعة واحدة وتفرغه بكثرة وتتابع، فكأن العذاب نزل عليهم كثيراً متتابعاً. ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ السَّوطُ أصلاً: الخَلْط، سَاطَ يَسُوطُ الشيء سَوطاً: خَلَطَه، وسَوَّطَه: خَلَطَه ببعض. ويطلق اللفظ أيضاً على الجلد المضفور الذي يُجلَد به الناس ويُعَذَّب به الناس، سُمِّيَ سوطاً لأنه مخلوط من جلد مضفور، فالسَّوط: الخَلط. سوط عذاب: نوعاً من أنواع العذاب، ولله أسواط كثيرة يعذب كل أمة بِسَوطٍ منها: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٠] كل أمة سَلَّطَ الله عليها وصَبَّ عليها سوط عذاب: نوعاً من العذاب أو خليط من العذاب. أو جاء بكلمة السَّوط لأن أقصى ما كان يعذب به أهل مكة العبيد أن يجلدهم بالسياط، فيقول الله (تبارك وتعالى) أن عذاب الدنيا سَوط، فإذا قورن بعذاب الآخرة كانت كالسوط بالنسبة للسيف، فالسوط في الدنيا والسيف في الآخرة. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ المرصاد: المكان الذي يقف فيه الراصد يرقب ويرصد. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ كناية عن أن الله (تبارك وتعالى) يرصد أعمال الناس ويرقب الكفار ويحصي عليهم أعمالهم، يسمع ويري كالرصد الذي يقف ويرصد ويرقب ويحصي وهكذا، إن ربك لبالمرصاد: إذاً فهو مراقِب عالم يسمع يرى يحصي على الكفار أعمالهم. هذا شأن الله أما الإنسان فله شأن آخر.
فَأَمَّا ٱلْإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكْرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَكْرَمَنِ ﴿15﴾
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَهَـٰنَنِ ﴿16﴾
ذاك شأن الإنسان؛ قليل صبره كثير جزعه، يبخل بالمال، يظن أن السعة في الدنيا دليل على رضا الله والتقتير في الدنيا دليل على غضب الله، وذاك شأن الكافر. أما المؤمن فلا، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر. ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ الإنسان هنا الكافر، ذاك شأنه. ﴿إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ امتحنه، اختبره. ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾: أكرمه بسعة المال، بكثرة المال، بكثرة الولد. نَعَّمَه: أعطاه من المال، من طمأنينة، من هدوء البال، من نفس مستريحة، من كل ما في الدنيا من ألوان النعم. ﴿فَيَقُولُ﴾: في هذه الحالة. ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾: لا يشكر الله (تبارك وتعالى) بل يعتقد أن الله أكرمه لأنه يستحق ذلك، فقد أتاه الله كل ذلك باستحقاقه وأنه يستحق، ليس لأن الله تفضل عليه. ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ قَدَرَ: ضَيَّق. قُرِئت ﴿فَقَدَّرَ﴾ قَدَرَ قَدَّرَ: ضَيَّق، لغتان بمعنى واحد. أو قَدَرَ: ضَيَّقَ، وقَدَّر: أعطاه بمقدار الكفاية. ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾: أهانه بالفقر، أهانه بقلة الجاه، أهانه بقلة المال. المؤمن يعلم أن العبد يتقلب بين الفضل والعدل فإن أصابه الخير علم أن ذلك من فضل الله وليس لأنه يستحق وإن أصابه ضر علم أن ذلك من عدل الله والله ليس بظلام للعبيد، يصبر في حال الضراء ويشكر في حال السراء. أما الكافر إذا ما ابتلاه واختبره بالغنى يَدَّعِي أن ذلك لاستحقاقه وأن الله أكرمه لأنه يستحق الإكرام، وإذا ابتُلِيَ بالفقر ادَّعَى أن الله أهانه وهو لا يستحق الإهانة، فابتلاه بالفقر أو أصابه بالفقر ليُهِينَه وهو لا يستحق ذلك. وقُرِئت بإثبات الياء وصلاً ووقفاً: (أكرمني - أهانني)، وقُرِئت بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً. وقُرِئت بالحذف في الوقف والوصل، والحذف أولى وأرجح باتفاق ذلك مع رسم المصحف، وطالما كانت القراءة متفقة مع رسم المصحف فهي أرجح وهي أولى حيث أن الصحابه اتفقوا على ذلك. ويقول الله (تبارك وتعالى) ردعاً لهم وزجراً لهم وتكذيباً لهم:
كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ ﴿17﴾
وَلَا تَحَـٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ ﴿18﴾
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلًۭا لَّمًّۭا ﴿19﴾
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّۭا جَمًّۭا ﴿20﴾
"كلا": ليس الأمر كذلك، وإنما الكريم إذا أكرمه الله (تبارك وتعالى) بطاعته، والمهان إذا أهانه الله بمعصيته. فالإكرام أن تُوَفَّقَ إلى الطاعة، وأكبر كرامة التوفيق إلى الطاعة، وأعظم إهانة أن تُسَخَّرَ لك المعاصي وأن تُترَك في معصية الله ولا يلهمك التوبة ولا يرزقك الإنابة ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ [سورة الحج آية: ١٨] وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول: كلا! إن من أكرمتُهُ أكرمتُهُ بطاعتي، ومن أهنتُهُ أهنتُهُ بمعصيتي، لأن الله (تبارك وتعالى) لا يُعصَى قهراً ولا يُطاعُ جبراً، فمن أطاع فقد أطاع بتوفيق الله، ومن عصى فقد عصى بخذلان الله، خَذَلَه. كلا! بل أنتم شر من ذلك وأفعالكم أَشَرُّ من أقوالكم. ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ (كلا): ردع وزجر عن مقالتهم، تكذيب لهم و رَدٌّ عن ذلك -إذا أكرمه قال ربي أكرمن وإذا قَدَر عليه رزقه يقول ربي أهانن- ليس الأمر كذلك، بل أنتم أفعالكم يا أهل مكة شَرٌّ من أقوالكم، أنتم لا تكرمون اليتيم، ولا تحضون على طعام المسكين، وتأكلون الميراث أكلاً لَمَّاً، وتجمعون المال وتحبون المال كذلك حُبَّاً جَمَّاً. قُرِأَت بالتاء على الخطاب، وهو التفاف فجائي لأهل مكة ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ التفاف لأهل مكة مع أنهم دخلوا في الآيات السابقة دخولاً أولياً ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ الإنسان: الكافر، يدخل فيها أهل مكة، المشركون من أهل مكة. ثم التفت إليهم مهدداً: ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾. (ولا تَحَاضُّون - ولا تَحُضُّون - ولا تُحَاضُّون ) ثلاث قراءات. ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾. وقُرِت بالياء ﴿كَلَّا بَل لَا يُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧)وَلَا يَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨)وَيَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩)وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)﴾ لا يكرمون اليتيم واليتيم أحق الناس بالعطف، فإذا كان أحق الناس بالعطف والعناية والرعاية مُهَان في مجتمع إذاً فغيره بالهوان أولى. أهم الناس وأشد الناس استحقاقاً للرعاية من تَرَكَهُ أبوه. واليُتم ينتهي بالبلوغ، ويُتم الإنسان بموت الأب، ويُتم الحيوان بموت الأم، وينتهي اليُتم بالبلوغ إذ لا يُتم بعد البلوغ كما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم). قد أوصى الإسلام بكفالة اليتيم وقال نبينا (صلى الله عليه وسلم): "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وقَرَنَ بين إصبعيه المسبحة والوسطى" وقال: "من مسح رأس يتيم غُفِرَ له". هؤلاء الكفار أهل مكة لا يكرمون اليتيم الضعيف المحتاج للمساعدة والمحتاج للعطف والعناية والرعاية. ﴿وَلَا يَحَاضُّونَ﴾ الحَضُّ: الحَثُّ، حَضَّهُ على شيء: حَثَّهُ على فعله وزَيَّنَه له ودفعه إليه، أوصاه به. ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾: أى تتحاضون، يحض بعضكم بعضاً. فإذا كانوا لا يحضون بعضهم، لا يحث أحدهم الآخر على إكرام اليتيم وعلى إطعام المسكين إذاً هو لا يُطعِم من ماله من باب أولى، إذا كان يمنع غيره عن الإنفاق فهو بالمنع أجدر وأولى. دليل على أنهم لم يُطعِموا من أموالهم بل ولم يَحُضُّوا غيرهم على الإطعام. ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ والمسكين: الفقير الذي ألجأه فقره إلى السكون فسكن لا يتحرك، ليس له قوة، جوعان، والجائع يفقد قواه فيسكن وتسكن حركته، فعُبِّرَ عن الفقير الذي ألجأه فقره للسكون بالمسكين، سَكَنَت حركته والتصق بالأرض.
﴿ويأكلون﴾، ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾ التراث: الميراث. أصل الكلمة وِرَاث، وَرِثَ وِرَاثَاً. التراث كتُجاه: أصل الكلمة وِجاه. التراث: الميراث. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ اللَّمُّ: الجَمْع. لَمَّ اللهُ شَملَه: جَمَعَ شَملَه. أي تأكلون التراث جامعين من الحلال والحرام. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ أي أكلاً جامعاً، فإذا ورث نصيبه أَلَمَّ بنصيب غيره، فقد كانوا لا يُوَرِّثُون النساء ولا يُوَرِّثون الصبيان. الوارث الولد الكبير الذي حمل السلاح وما سواه لا يرث، فلا ترث الزوجة ولا ترث الابنة ولا يرث الغلام أو الطفل أبداً، فكانوا يأكلون ميراثهم وميراث القُصَّر والنساء. تأكلون التراث أكلاً لَمَّاً: أي ميراثكم وميراث غيركم. كذلك لا تبالون بالميراث أَمِن حلال هو أم من حرام. ورث الرجل أباه وقد جمع الرجل ماله من حرام ومن حلال فهو حين يرث يرث الكل، الحلال والحرام، عالماً بالحرمة، وذاك ذَمٌّ لكل وارث يرث مالاً وهو يعلم أن فيه الحرام فيأكله، إذ يجب على كل وارث أن يتبين إن كان الميراث فيه شبهة الحرام فلابد وأن يعتزل ذلك وأن يتركه مخافة الله لأنه مسئول، فمن ورث رجلاً كان يتاجر في الممنوعات والمحرمات فميراثه حرام، ومن كتب له أبوه زيادة عن إخوته فأخذ ذلك وأَكَلَه فقد أكل حراماً. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)﴾ الجَمُّ: الكثير. جَمَّهُ: جَمَعَهُ لكثرته. حُبَّاً جَمَّاً: حُبَّاً فيه شره وفيه حرص. الحُبُّ الجَمُّ: الحب الكثير المشوب والمخلوط بالحرص والشر.
﴿ويأكلون﴾، ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾ التراث: الميراث. أصل الكلمة وِرَاث، وَرِثَ وِرَاثَاً. التراث كتُجاه: أصل الكلمة وِجاه. التراث: الميراث. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ اللَّمُّ: الجَمْع. لَمَّ اللهُ شَملَه: جَمَعَ شَملَه. أي تأكلون التراث جامعين من الحلال والحرام. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ أي أكلاً جامعاً، فإذا ورث نصيبه أَلَمَّ بنصيب غيره، فقد كانوا لا يُوَرِّثُون النساء ولا يُوَرِّثون الصبيان. الوارث الولد الكبير الذي حمل السلاح وما سواه لا يرث، فلا ترث الزوجة ولا ترث الابنة ولا يرث الغلام أو الطفل أبداً، فكانوا يأكلون ميراثهم وميراث القُصَّر والنساء. تأكلون التراث أكلاً لَمَّاً: أي ميراثكم وميراث غيركم. كذلك لا تبالون بالميراث أَمِن حلال هو أم من حرام. ورث الرجل أباه وقد جمع الرجل ماله من حرام ومن حلال فهو حين يرث يرث الكل، الحلال والحرام، عالماً بالحرمة، وذاك ذَمٌّ لكل وارث يرث مالاً وهو يعلم أن فيه الحرام فيأكله، إذ يجب على كل وارث أن يتبين إن كان الميراث فيه شبهة الحرام فلابد وأن يعتزل ذلك وأن يتركه مخافة الله لأنه مسئول، فمن ورث رجلاً كان يتاجر في الممنوعات والمحرمات فميراثه حرام، ومن كتب له أبوه زيادة عن إخوته فأخذ ذلك وأَكَلَه فقد أكل حراماً. ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)﴾ الجَمُّ: الكثير. جَمَّهُ: جَمَعَهُ لكثرته. حُبَّاً جَمَّاً: حُبَّاً فيه شره وفيه حرص. الحُبُّ الجَمُّ: الحب الكثير المشوب والمخلوط بالحرص والشر.
كَلَّآ إِذَا دُكَّتِ ٱلْأَرْضُ دَكًّۭا دَكًّۭا ﴿21﴾
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفًّۭا صَفًّۭا ﴿22﴾
وَجِا۟ىٓءَ يَوْمَئِذٍۭ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍۢ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ ﴿23﴾
يَقُولُ يَـٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ﴿24﴾
فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٌۭ ﴿25﴾
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٌۭ ﴿26﴾
﴿كَلَّا﴾: ردعاً لذلك، وانتبهوا! إياكم أن تأكلوا التراث أكلاً لماً وتحبون المال حباً جماً، إياكم وذلك. ردع بــــــِ"كلا" ثم أعقب الردع بالتهديد والوعيد ﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾. الدَّكُّ: الكَسْر والدَّقُّ ذاك هو الدَّكُّ، التسوية. دُكَّتِ الأرض دَكَّاً دَكَّاً: أي دَكَّاً بعد دَكٍّ، تُكسَر وتُدَقُّ وتُسَوَّى الجبال فلا ترى في الأرض عوجاً ولا أَمْتَاً، لا مباني ولا قصور ولا طرق ولا عمارات ولا بيوت. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ أيجيء ربنا؟ هذه الآية من المتشابهات، وهي من آيات الصفات التي تمر دون تكييف ودون تمثيل ودون تأويل كما فعل الصحابة (رضوان الله عليهم). وهناك من العلماء من أَوَّلَ فقال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي وجاءت آياتُه كقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢١٠] أي جاءهم بالغمام. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: جاءت آياته. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: جاء الحق وأصبحت المعارف ضرورية وعلم المشركون أنهم قد ضلوا. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: أي جاء الحق، جاءت الحقيقة وظهر الحق. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: جاء عذابُه. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: جاء سلطانُه وهيبتُه. أَوَّلُوا ونحن لسنا معهم في ذلك! وهناك من الناس من أخذوا الآيات على ظاهرها؛ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قالوا يجيء ربنا وهي صفة من صفاته، يجيء. وقد قال الراسخون في العلم التابعون للصحابة: هذه من الآيات المتشابهات التي قال الله في شأنها: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [سورة آل عمران آية: ٧] ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾: جاء ربك على المعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي يليق بجلاله وبكماله، فهي من آيات الصفات وربنا (تبارك وتعالى) لايجوز له الانتقال من مكان إلى مكان، وأَنَّى يكون له التحول والانتقال ولا مكان له ولا أوان ولا يجري عليه الوقت ولا الزمان، فإن جريان الوقت فَوْت للأوقات ومن فاته شيء فهو عاجز وربنا مُنَزَّه عن العجز، مضى الأمس علينا أفي استطاعتنا أن نعود به؟ فات الأمس ولا يمكن لنا أن نعود إليه أو نعيده، إذاً فنحن عاجزون، أيجوز ذلك على الله؟ إذاً لا يجري عليه الوقت والزمان فقد كان قبل المكان والزمان وهو الآن على ما هو عليه كان. ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ آمنا بذلك على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله وعلى المعنى الذي أراده (سبحانه وتعالى) جل ثناؤه. ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾: أي صفوفاً متتالية كُلٌّ بحسب مقامه. أو كما أراد الله (تبارك وتعالى). أو كما قلنا من قبل: جبريل في صف وباقي الملائكة في صف. أو هي صفوف متتابعة. يعلم الله، هو تصوير لشيء لم نراه بعد لكنا نؤمن به. (وجيء يومئذٍ بجهنم) وفي يوم يجلس الصحابة حول النبي (صلى الله عليه وسلم) وفجأة تغير لونُه ورُئِيَ فيه، فقالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: "لقد أقرأني جبريل آية، وقرأ: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١)وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ فقال علي: يا رسول الله كيف يُجَاءُ بجهنم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "يُؤتَى بجهنم تُقادُ بسبعين ألف زمام يقود كل زمام سبعون ألف ملك فتَشْرِدُ شَرْدِة -أي تتفلت أو تكاد تتفلت منهم- تَشْرِدُ شَرْدِة لو تُرِكَت لأحرقت أهل الجَمْع جميعاً ثم تَعرِضُ لي جهنم فتقول مالي ولك يا محمد لقد حَرَّمَ الله لحمك عليَّ" وهنا كل من في الموقف يقول نفسي نفسي ومحمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: "يارب أمتي يارب أمتي". يُجَاءُ بجهنم وربنا على كل شيء قدير. ويقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى﴾ [سورة النازعات آية: ٣٦] وهنا في سورة الفجر يقول: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ يُجَاءُ بها، تُقَادُ لها تَغَيُّظ ولها زفير، ويخرج منها لسان يظلل الكفار في سموم وحميم. لكن المؤمنين والمتقين في أمان، منهم من هو مُظَلَّل بظل العرش، ومنهم من هو مُظَلَّل بعمله، الآمنون المطمئنون. لكن حين تظهر جهنم ويُجَاءُ بها الكل يقول نفسي ثم نفسي من لدن آدم والأنبياء والمرسلون كلهم، الوحيد الآمِن هو محمد (صلى الله عليه وسلم) في تلك اللحظة ويقول يارب أمتي يارب أمتي. ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ يتذكر الإنسان، يتوب، يتذكر أعماله السيئة، يتذكر المعاصي. ظهر الحق وذهبت الوسائط وظهرت الحقائق، هنا يتذكر، أنى له الذكرى؟ ﴿أَنَّى﴾ تفيد معنى كيف ومتى وأين، ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ أي أَنَّى تنفعه الذكرى؟ لأن الكلام إذا تُرِكَ على ظاهره حدث التعارض، التعارض ﴿يَتَذَكَّرُ﴾ ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ هناك تعارض في اللفظ من حيث الشكل لكن المعنى يتذكر فعلاً ويذكر أعماله السيئة ويندم ويتوب، أنى له الذكري أي أنى تنفعه الذكرى. والآية دليل على عدم وجوب قبول التوبة، هاهم قد تابوا وأخبرنا ربنا بتوبتهم، يتذكر الإنسان لكنه يخبر أنه لم يقبل توبته، إذاً فالتوبة لا يجب على الله أن يقبلها، وإنما يقبل الله توبة التائبين تفضلاً وإحساناً، ولذا كان التائبون على وجل، مهما تاب الإنسان توبة نصوحاً يظل خائفاً ويظل على وجل، إذ لا يجب على الله شيء، إن شاء قَبِلَها وإن لم يشأ لم يَقْبَل، والآية دليل على ذلك. ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ اللام، إذا كانت اللام تعليلية ﴿لِحَيَاتِي﴾ أي حياتي الأخروية. وإذا كانت اللام توقيتية: لحياتي في الدنيا، أي يا ليتني عملت أعمالاً صالحة في حياتي الدنيوية فتنفعني اليوم، أو ياليتني عملت أعمالاً صالحة فتنفعني في حياتي الأخروية. ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾: في ذلك اليوم ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾ لا يُعَذِّبُ عذابَ الله (تبارك وتعالى) أحد، بل يتولى بنفسه كل شيء وبأمره. وقيل إن الآية تعني أن العذاب في الآخرة لا مثيل له، ومهما عذب الناس في الدنيا ومهما سمعتم عن التعذيب في الدنيا ومهما سمعتم عن الألم في الدنيا ذاك شيء وعذاب الله شيء آخر. ﴿لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ﴾ الضمير هنا لله، ﴿عَذَابَهُ﴾: أي عذاب الله. (أَحَدٌ) أبداً لا يقوى على هذا التعذيب أحد إلا الله. ﴿وَلَا يُوثِقُ﴾: التقييد القيود، الوثاق: سلاسل لا تذوب من النار، كيف هي؟ سلاسل ذَرْعُهَا سبعون ذراعاً ،كيف هي؟ أغلال، أشكال وألوان أعاذنا الله وإياكم منها، لا فرار ولا مهرب، شُدَّ الوثاق. وقُرِئت (لا يُعَذَّبُ) والضمير للكافر ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾ أي لا يُعَذَّب مثل عذاب الكافر في ذلك اليوم أحد من الناس أبداً، ولا يُوثَقُ مثل وثاق الكافر أحد من الناس أبداً.
يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ﴿27﴾
ٱرْجِعِىٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةًۭ مَّرْضِيَّةًۭ ﴿28﴾
فَٱدْخُلِى فِى عِبَـٰدِى ﴿29﴾
وَٱدْخُلِى جَنَّتِى ﴿30﴾
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ نداء -أسمعنا الله إياه جميعاً- النفس المطمئنة، المطمئنة بذكر الله ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٨] المطمئنة: الآمنة. ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة آية: ٦٢] المطمئنة: المــُـصَدِّقَة بوعد الله الموقِنة بثوابه، المطمئنة: المـُـبَشَّرة بالجنة، فالمؤمن يُبَشَّر في ثلاثة مواقف: عند الموت يُبَشَّر، وعند البعث يُبَشَّر، وعند لقاء الله والحساب يُبَشَّر ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ المطمئنة بثواب الله، المطمئنة بذكر الله، المطمئنة بالإيمان لا يخالطه شك ولا ريبة، المطمئنة: الآمنة غير الفَزِعَة. ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾: أي إلى ثواب ربك يوم القيامة. ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ راضية عن ثواب الله الذي هيأه لك، مرضية بإرضاء الله لك. ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ ادخلي في زمرة عبادي الصالحين، كما دعا سليمان وقال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة النمل آية: ١٩] . ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾: معهم. ذاك نداء يُنادَى به المؤمن يوم القيامة، تناديه الملائكة. أو هذا النداء عند البعث، القيام من القبور، فيُبَشَّر المؤمن عند الموت وعند قيامه من قبره أيضاً ثم يُبَشَّر في الموقف. ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ المطمئنة بالله، المطمئنة لثوابه. ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾: إلى صاحبك، إلى الجسد، إذ النفس في مكان والجسد في مكان، الجسد في القبور حُوِّلَ إلى التراب يعيده الله (تبارك وتعالى) خلقاً متكاملاً، وينبت من عَجْزِ الذَّنَب، ثم يأمر ربنا النفوس فترجع بعد أن قبضها بالموت وتوفاها عنده بالموت فيأمرها بالرجوع إلى الأجساد، فتؤمر النفس المطمئنة: ارجعي إلى ربك؛ إلى جسدك، إلى صاحبك ومالكك –الجسد-راضية بما هُيِّئَ لك، بما أُعِدَّ لك، مرضية من الله بالأمن من الفزع. ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾: أي في جسد عبدي. ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾: أي وادخلي بعد ذلك في الجنة مع الداخلين فيها. وقيل: بل الكلام عند الموت، عندما يأتي الموت، المؤمن يقال له: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي﴾ أي اخرجي من هذا الجسد الفاني وارجعي إلى ربك، خالقك ومالكك الذي أعد لك الرَّوحُ والريحان. ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً﴾ راضية بدنياك وبما قَدَّمْتِ من أعمال في هذه الدنيا، مرضية من الله، يرضيك بما أعد لك. ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾: في زمرة الصالحين من عبادي، في عِلِّيِّين ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [سورة المطففين آية: ١٨]. ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾: يوم تُفتَح الجنان، يوم البعث، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): ( إذا مات المؤمن -عند الموت- يأتيه مَلَكَان ويأتيانه بتحفة من الجنه -هدية من الجنة- يراها ويراها وهو على فراش الموت -وهو يُغَرغِر- يأتيانه ويقولان السلام عليك يا عبد الله السلام عليك من الله أَبشِر ويخاطبان الرُّوح والنَّفس ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)﴾ مرضياً عنكِ، ارجعي إلى رَوحٍ وريحان و رَبٍّ راضٍ غير غضبان، فتخرج النفس من الجسد كخروج الشعرة من العجين، دون ألم، دون وَصَب، دون تعب، تخرج فرحة مستبشرة كطائر في الأسر فُتِحَ له باب القفص، كيف يخرج؟ هكذا تكون روح المؤمن، تخرج فرحة بلقاء الله مطمئنة لثواب الله، ومن أَحَبَّ لقاءَ الله أَحَبَّ اللهُ لقاءه، ومن كَرِهَ لقاءَ الله كَرِهَ اللهُ لقاءه.