
سورة الغاشية
مقدمة
لقاؤنا مع سورة الغاشية، سورة الغاشية سورة مكية، نزلت بمكة تعالج موضوعين أساسيين: الموضوع الأول هو موضوع الساعة، موضوع القيامة وأهوال يوم القيامة. والموضوع الثاني هو موضوع التوحيد والتدليل على وحدانية الله (تبارك وتعالى) وقدرته وتدبيره. وتُختَم السورة بتذكير الإنسان عَلَّهُ يتذكر. يقول الله (تبارك وتعالى):
هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلْغَـٰشِيَةِ ﴿1﴾
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ ﴿2﴾
عَامِلَةٌۭ نَّاصِبَةٌۭ ﴿3﴾
تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةًۭ ﴿4﴾
تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍۢ ﴿5﴾
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍۢ ﴿6﴾
لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍۢ ﴿7﴾
وينتقل الكلام إلى المؤمنين، وبضدها تتميز الأشياء، ذاك هو حال الكفار فما هو حال المؤمنين والأبرار؟
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ نَّاعِمَةٌۭ ﴿8﴾
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌۭ ﴿9﴾
فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍۢ ﴿10﴾
لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَـٰغِيَةًۭ ﴿11﴾
فِيهَا عَيْنٌۭ جَارِيَةٌۭ ﴿12﴾
فِيهَا سُرُرٌۭ مَّرْفُوعَةٌۭ ﴿13﴾
وَأَكْوَابٌۭ مَّوْضُوعَةٌۭ ﴿14﴾
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌۭ ﴿15﴾
وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾
(فيها): في الجنة. ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾: وعين بمعني العيون. ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ إذاً فهي تجري على وجه الأرض، ليست من خلال أخدود ولا تعب ولا نَصَب في الحصول على مائها. (عين جارية) نكرة، عين تجري، أهي ماء؟ أهي عسل؟ أهي لبن؟ أهي خمر؟ أهي سلسبيل؟ هي تجري وتجري على وجه الأرض ولا تصيب الأرض ببلل، بل تجري وتذهب إلى ولي الله حيث يجلس فتأتيه فإذا صعد صعدت وراءه وإذا نزل نزلت وراءه وإذا مشى مشت وراءه. ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ تُرى أَيُّ عين هذه؟ وأي طعم لما فيها من شراب؟ وأَيُّ شراب؟ وكلكم تعلمون شراب الدنيا، كم من ألوان الشراب؟ كم من أنواع الشراب؟ كم من حلاوة وكم من لذاذة في شراب الدنيا؟ شراب الآخرة الذي لا يتحول إلى بول يتبوله الإنسان كيف هو؟ الذي لا ينتن، الذي لا يتغير بمرور الوقت، ليس فيه عكارة. ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ في الجنة ﴿سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ مرفوعة المكان، مرفوعة القدر والمكانة، مرفوعة أين؟ قالوا: السرير مرفوع عن الأرض ارتفاع السماء عن الأرض، وكيف يصل إليه صاحبه إذا كان السرير مرفوعاً؟ أهناك سلالم؟ أهناك معارج؟ أهناك درجات؟ قالوا: أبداً، إذا هَمَّ بالجلوس عليه تطامن له السرير ونزل إليه فجلس عليه ثم ارتفع به بمجرد الرغبة، لا يأمره ويقول انزل يا سرير، بل بمجرد الرغبة، بمجرد الإرادة، يتطامن له السرير فيجلس عليه ثم يصعد به. وما الغرض من هذا الارتفاع؟ قيل إن صاحب الجنة يريد أن يرى مُلكَه، وأقل مُلكٍ في الجنة لأقل رجل من أهل الجنة مسيرة ألفي عام، فيصعد به السرير إلى أعلى كي ينظر إلى مملكته ومُلكِه وهو في هذا المكان العالي المرتفع. وحين تعجب المؤمنون من ذلك وكيف ينزل السرير وكيف يصعد السرير قال الله لهم: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ أليس يَبرُكُ البعير فتضع عليه حملك ثم يقوم البعير فيرتفع الحمل؟ أليس يَبرُكُ البعير لتجلس عليه فإذا قام البعير ارتفَعْتَ؟ فكذلك السرير، ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾. ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ والكوب: القَدَح لا عُروَة له، أما الإبريق فله عُروَة. الأكوابُ أكوابٌ وأباريق. ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ أين هي موضوعة؟ ومن أي شيء صُنِعَت؟ أهي قوارير من فضة؟ الفضة الشفافة التي لم يُخلَق مثلها في الدنيا ولم تُرَى لها مثيل؟ أكواب، من صنعها؟ الله صنعها لأحبابه. أين وضعها؟ قالوا موضوعة على حافة العيون، فإذا أراد ولي الله أن يشرب منها قُدِّرَت على قَدْرِ حاجته ومُلِأَت بنفسها وجاءته إلى يده دون سعي ودون تعب ودون ملء أو تفريغ، ولا يبقى فيها فضالة، لا يبقى شيء، وتُملَأ على قدر ما يريد دون زيادة ودون نقص، أكواب موضوعة أمامهم في كل مكان. ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ ولم يقل لنا ماهي الأكواب وأين توضع، نكرة للتفخيم والتعظيم. ﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ النَّمَارِق: جمع نُمرُقَة، والنُّمرُقَة: الوسادة الصغيرة إذا كانت من فاخر الحرير. النمارق المصفوفة صُفَّت بعضها إلى بعض، رُتِّبَت. ونحن في الدنيا كلما كانت المرأة ذات ذوق رفيع صنعت مثل هذه النمارق ورتبتها وصَفَّتها لتعطي المنظر البهيج، فكيف إذا كان الصانع للنمارق هو الله؟! وكيف إذا كان المـــُصَفِّف لها هو الله خالق الجمال كله؟ صاحب الجلال كله؟ ﴿وزَرَاِبُّي مبثوثة﴾ الزَّرَابِيُّ واحدها زَربِيَّة، وقد تُضَمُّ (زُربِيَّة). الزرابي: البُسُط، السجاد الذي يوضع على الأرض إذا كان له مُخمَل؛ أطراف وهُدُب رقيقة تتدلى منه، بُسُط نُسِجَت للجنة ونَسَجَها الله. (مبثوثة): منتشرة في كل مكان.
تلك أوصاف يحدثنا ربنا (تبارك وتعالى) عما غاب عنا بما هو مُشَاهَد لدينا. يحدثنا عن صفات الجنة بأسماء تعارفنا عليها ورأيناها في الدنيا، ولكن هل النمارق وهل الزرابي وهل الأكواب وهل العيون وهل السُّرُر؟ هذه الأسماء لها مدلول، مدلولات الأسماء نحن نعرفها في الدنيا، نعرف السُّرُر ونعرف النمارق ونعرف الزرابي ونعرف العيون ونعرف الأكواب، هذه المدلولات وإن دلت على أشياء بعينها لكنها في الجنة شيء آخر. واللهِ واللهِ مافي الجنة من دنياكم إلا الأسماء.
يخاطب القرآن أهل مكة وتخاطبهم سورة الغاشية على وجه الخصوص، وأهل مكة وأهل جزيرة العرب في أيام بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن لهم من ركائب إلا الإبل، وكانت أعظم أموالهم وأغلبها من الإبل وكانوا يسافرون عليها، والمسافر في الصحراء يتأمل رغم أنفه، فهو مسافر في طريق مُوحِش هادئ لازرع فيه ولا ضرع، ليس هناك ساكن وليس هناك أناس بل هو مسافر وحده. وكثيراً ما كانوا يرتحلون وحدهم، يرعون الإبل ويرعون الغنم وينتقلون من مكان إلى مكان على ظهور الإبل، لابد من المسافر أن ينظر وأن يتأمل، فَلَفَتَ ربنا تبارك وتعالى نظرهم إلى ذلك بأربعة أشياء لابد أن ينظر إليها كل منهم: الإبل؛ الركوب، الدابة التي يركبها لابد أن ينظر إليها. فإذا رفع رأسه إلى فوق لم يَرَ إلا السماء، وإذا نظر إلى الأرض لم يَرَ إلا الأرض، وإذا التفت يُمنَةً أو يُسرَةً لم يَرَ إلا الجبال. وهكذا لَفَتَ ربنا تبارك وتعالى نظرهم إلى هذه الأشياء الأربع:
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾
وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾
وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾
وَإِلَى ٱلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20﴾
﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خَلَقْتُ﴾ قراءة، ﴿وإلى السماء كيف رَفَعْتُ﴾ ﴿وإلى الجبال كيف نَصَبْتُ (١٩)وإلى الأرض كيف سَطَحْتُ﴾ وربنا يتكلم عن نفسه؛ كيف سَطَحتُها، كيف خَلَقْتُها، كيف نَصَبتُها. ﴿وإلى الأرض كيف سُطِّحَت﴾ قراءة ثالثة: (سُطِحَت – سَطَحْتُ – سُطِّحَت). يأتي بعد ذلك التذكير، هذه أربعة أدلة على وجود الله (تبارك وتعالى) المدبر المهيمن. أنظر يا من صاحب نظر، يا من لك عقل، يا من لك نظر. وإذا كان الخطاب لأهل الجزيرة العربية أو لأهل مكة في وقت بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه الأشياء التي يعاينوها بصفة مستمرة، فاليوم لك أن تنظر في كل شيء، لك أن تنظر فيما يحيط بك من بحار من أنهار من حيوانات من طيور من أغصان من أشجار مِن ومِن ومِن، ما من شيء في هذا الوجود إلا ويدل على الرب المعبود -إي وربي-الإيمان بالله واجب بمجرد النظر، يصل العبد إلى الإيمان. لذا يوجه ربنا (تبارك وتعالى) حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من بعد ذلك فيقول:
فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌۭ ﴿21﴾
لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾
إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴿23﴾
فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ ﴿24﴾
إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴿25﴾
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ﴿26﴾
أيها الأخ المسلم؛ الحساب وما أدراك ما الحساب! تخيل نفسك قد أخطأتَ في حق صديق دون أن يدري هذا الصديق، ثم أُخبِرَ الصديق بخطئك وأنت لا تدري أنه عَلِم فلَقِيتَه فهَمَمْتَ بالسلام عليه وباحتضانه فإذا به يُشِيحُ بوجهه عنك ثم يقول لك: كيف تقول عني كذا وكذا وقد أحببتُك وصاحبتُك؟ كيف يكون الخزي؟ كيف يكون الخجل؟ كيف تتمنى لو أن تنشق الأرض وتبلعك ولا تواجهه؟ كيف بالزوج إذا دخل على بيته فوجد رجلاً آخر في فِراَشه ونظر لامرأته، تُرَى كيف تنظر إلى زوجها في هذا الموقف؟ كيف؟ تشبيهات! وتَأَمَّل وربنا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٧]
كيف بالعبد إذا أخطأ في حق بلده وجيء به أمام الحاكم؟ كيف إذا سرق أحد وقُبِضَ عليه
ووُوجِهَ بالسرقة، كيف وكيف؟ وهكذا تَأَمَّل في كل ذلك واعلم أن الله (تبارك وتعالى) لا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر، سائلك عن لفتات النظر وفلتات الخاطر، ما تَحَدَّثَت به نفسُك يعلمه ويسألك عنه. في يوم من الأيام ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يجلس بين أصحابه دخل عليه عثمان بن عفان بعد فتح مكة ومعه رجل مُلَثَّم يُخفِيه عثمان ويُجِيرُه، قد أهدر النبي (صلى الله عليه وسلم) دَمَه وجاء عثمان يستجير ويقول يارسول الله أَجَرْتُ فلاناً فاعفُ عنه، فسكت النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكرر مرتين أو ثلاث، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "قد عفونا عنه"، فانصرف عثمان وانصرف الرجل، ونظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أصحابه وقال: "سَكَتُّ عَلَّ أحدكم يقوم فيضرب عنق هذا الكافر المنافق وقد علمتم أني أهدرتُ دَمَه" فقال أحد الجالسين: يارسول الله هَلَّا غَمَزْتَ إليَّ بعينك أو أَشَرْتَ إليَّ إشارة خفية، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا! ما كان لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين" نعم! فربنا يقول: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.