سورة الغاشية

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة الغاشية، سورة الغاشية سورة مكية، نزلت بمكة تعالج موضوعين أساسيين‫:‬ الموضوع الأول هو موضوع الساعة، موضوع القيامة وأهوال يوم القيامة‫.‬ والموضوع الثاني هو موضوع التوحيد والتدليل على وحدانية الله (تبارك وتعالى) وقدرته وتدبيره‫.‬ وتُختَم السورة بتذكير الإنسان عَلَّهُ يتذكر‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى):

هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلْغَـٰشِيَةِ ﴿1﴾
والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) في صيغة الاستفهام للتشويق والتعجيب من أمر يوم القيامة‫.‬ "وهل" هنا قد تعني "قد"، أي قد أتاك حديث الغاشية‫.‬ لم يكن يعلم هو ولا قومه شيئاً عن القيامة، فأخبر الله (تبارك وتعالى) عنها ثم يسأله ويقول‫:‬ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ أي‫:‬ لم تكن تعلم فعلمت، لم يأتك هذا الحديث فأتيناك به‫.‬ والغاشية‫:‬ يوم القيامة، لأنها تغشى الناس بأهوالها وتَعُمُّهم بجليل أمرها، والغاشية‫:‬ التي تغطي، غَشَّاهُ: غَطَّاه، والغِشَاء‫:‬ الغِطاء‫.‬ ويوم القيامة يغطي جميع الخلائق، يَعُمُّهم ويُجَلِّلُهم‫.‬ وقد يكون المعنى الغاشية‫:‬ جهنم تغشى الكفار، وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ [سورة إبراهيم آية‫:‬ ٥٠]. ولكن الأرجح هو أن الغاشية هي القيامة، النفخة الثانية حيث يقوم الكل لرب العالمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌۭ نَّاصِبَةٌۭ ﴿3﴾ تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةًۭ ﴿4﴾ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍۢ ﴿5﴾ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍۢ ﴿6﴾ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍۢ ﴿7﴾
‫﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ خاشعة‫:‬ ذليلة منكسرة يعلوها الهوان والخزي والذل‫.‬ والمقصود بالوجوه‫:‬ أصحاب الوجوه‫.‬ والوجه أشرف ما في الإنسان، والوجه يظهر عليه آثار التنعم ويظهر عليه آثار الفزع ويظهر عليه آثار الذل، فعُبِّرَ عن أصحاب الوجوه -ألا وهم الكفار-بالوجوه‫.‬ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾: أي يوم القيامة، في النفخة الثانية حيث يقوم الناس ويُعرَف الناس بسيماهم ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة الرحمن آية‫:‬ ٤١] ويُعرَف المؤمنون أيضا بسيماهم، وجوه منيرة ووجوه مظلمة، وجوه ضاحكة مستبشرة ووجوه عليها غَبَرَة تَرهَقُها قَتَرَة‫.‬ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣)﴾ عامِلَةٌ: من دَأَبَ على عَمَل قيل فيه عامِل، عَمَلَ يَعمَل فهو عامِل، يذهب مستمر على العمل، يعملون، فيمَ يعملون؟! ناصِبَة‫:‬ تَعِبَة مُرهَقَة، والنَّصَب‫:‬ أشد التعب، نَصِبَ يَنصَبُ نَصَبَاً فهو ناصِب‫:‬ تَعِب، مُرهَق، مشقة فوق الاحتمال‫.‬ أصحاب الوجوه عاملة ناصبة، أي أصحاب الوجوه عاملون ناصبون تعبون مرهقون، فيمَ يعملون؟ قالوا‫:‬ الكلام عن الدنيا؛ أي عاملة في الدنيا، ناصبة في الدنيا، تعبت في عملها وجاءت يوم القيامة فإذا الوجوه خاشعة، كيف؟ قالوا‫:‬ عملوا بمعصية الله وشَقُوا بجمع المال وتعبوا في الكَدِّ والكدح من أجل الدنيا فجاءوا يوم القيامة لم يجدوا إلا الذل والهوان‫.‬ ومن هؤلاء العاملون الناصبون أيضاً من عملوا في طريق يظنون أنه طريق الله وإذا هو بطريق الشيطان والهوى ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً(١٠٣)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(١٠٤)﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ١٠٣- ١٠٤]. وفي رحلة عمر بن الخطاب إلى الشام جاءه راهب ثيابه بالية مُغَبَّر عليه آثار التعب والسهر كبيرٌ سِنُّه رقيقٌ عَظْمُه يمشي متكئاً من شدة التعب والنَّصَب، فرآه عمر فبكى، قالوا يا أمير المؤمنين ما الذي يبكيك؟ إنه نصراني، إنه مشرك، فقال‫:‬ رأيتُه فَذَكَرتُ قول الله (تبارك وتعالى): ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤)﴾ تَعِبَ في حياته يسجد للصليب ويُؤَلِّهُ البشر ويَدَّعِي ألوهية عيسى، حرم نفسه من الدنيا، تَرَهَّب، حرم نفسه من الحلال والملذات، تَعِبَ وكَدَّ ونَصَبَ وجاء في الآخرة فليس له شيء هناك، فقد أخطأ القصد وضل عن سواء السبيل‫.‬ والكلام عن هؤلاء، ومنهم الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) وكَفَّرُوه، ومنهم فئات من المسلمين انحرفوا عن العقيدة فَضَلُّوا وأَضَلُّوا، ومنهم أناس حكى لنا عنهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال في شأنهم‫:‬ "يَحقِرُ أحدُكُم صلاته إلى صلاتهم ويَحقِرُ أحدُكُم صيامه إلى جوار صيامهم يقرأون القرآن يَحقِر أحدكم قراءته إلى جوار قراءتهم يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ تَرَاقِيهِم يَمرُقُون من الإسلام كما يَمرُقُ السهم من الرَّمِيَّة". وقالوا‫:‬ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة‫.‬ عاملة ناصبة في الدنيا ذاك رأي أول، والرأي الثاني فَصَّلَ؛ قال إن العمل في الدنيا والنَّصَب في الآخرة، عملوا بمعصية الله في الدنيا فأَنْصَبَهم الله بالعذاب في الآخرة، عملوا لغير وجه الله، عملوا للدنيا فجاءهم النَّصَب في الآخرة‫.‬ ورأي ثالث يقول‫:‬ (عاملة ناصبة) في الآخرة، هؤلاء كانت حياتهم لهو ولعب، لم يذكروا الله ولم يذكروا البعث ولم يعملوا ليوم الحساب ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ١٩] لم يتعبوا من أجل الطريق إلى الله، لم يفرشوا لله جباههم ولم ينصبوا له أقدامهم فجاءوا يوم القيامه فعملوا ونصبوا في النار، وهل في النار عَمَل؟ وهل في النار نَصَب؟ أَيُّ عَمَل وأَيُّ نَصَب؟ ألا تراهم يَجُرُّون السلاسل؟ كل منهم مسلوك في سلسلة ذَرْعُها سبعون ذراعاً كيف يجرها؟ ألم تسمع قول الله عز وجل‫:‬ ﴿سَأُرهِقُهُ صَعُوداً﴾ [سورة المدثر آية‫:‬ ١٧]؟ هم دائماً وأبداً في هبوط وصعود في جهنم، في وديانها وأوهادها وجبالها، جبال من نار يخوضون فيها كما تخوض الإبل في الوحل، لا يتقون شر العقارب والحيات، يَجُرُّون السلاسل والأغلال، يصعدون الجبال وينزلون الجبال، تصعدهم جهنم بلهبها فيظهرون على سطحها فيَهُمُّون بالخروج من سُرَادِقِها الذي أحاط بهم فإذا بالمقامع تتلقاهم فتقذفهم إلى قعرها، فهم دائماً أبداً في صعود وهبوط‫.‬ عاملة ناصبة في جهنم لأنهم لم يعلموا في دنياهم خيراً ولم يتعبوا في دنياهم من أجل رضا الله‫.‬ ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ تَصلَى‫:‬ تُشوَى، صَلَاهُ وأَصلَاهُ: شَوَاه، تَذَوَّق حَرَّها‫.‬ وقُرِأَت تَصلَى، تُصلَى، تُصَلَّى، ثلاث قراءات بمعنى واحد، فهي ثلاث لغات والمعنى واحد‫.‬ ﴿حَامِيَةً﴾: اشتد حَمْوُهَا‫.‬ نار أُوقِدَت منذ خُلِقَت، يُحمَى عليها منذ خلقها الله يشتد أُوَارُها ويشتد لهيبها ويشتد سعيرها، نار حاميه تتغيظ، حتى أنها شَكَت لربها من نفسها فقالت‫:‬ يارب أكل بعضي بعضاً، نار فوق كل خيال، نار صنعها الجبار من غضبه، خلقها من غضبه فكيف غضب الله؟ وكيف تُخلَق من غضبه؟ وكيف هي؟ نار حامية‫.‬ ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ﴾ تُسقَى الوجوه، والكلام عن الوجوه والمراد أصحاب الوجوه، تُسقَى من عين آنية‫.‬ آنية‫:‬ أي بلغت إناها أو بلغت منتهاها في الحرارة‫.‬ الطعام إذا نضج يقال بلغ إناه أي بلغ منتهاه، ليس بعد ذلك شيء، فإذا أُوقِدَ على الماء وسخن وبلغ منتهى الحرارة التي ليس بعدها حرارة فهو آنٍ ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [سورة الرحمن آية‫:‬ ٤٤] بالغ النهاية في الحرارة‫.‬ هؤلاء يُسقَون من عينٍ آنية‫.‬ (ليس لهم طعام إلا من ضريع) الشراب عين آنية، فكيف بالطعام؟ ضريع، ماهو الضريع؟ الضريع‫:‬ نَبْتٌ يَنبُتُ في جزيرة العرب يُسَمَّى الشِّبْرِق، ونَبْتُ الشِّبْرِق إذا كان رطباً سُمِّيَ شِبْرِقاً فإذا يَبُسَ سُمِّيَ بالضريع، نبت ذو شوك وليس فيه إلا الشوك، لاصق بالأرض، سُمٌّ قاتل يتعافاه البهائم ولا ترعاه الإبل، فهو كريه الطعم كريه الرائحة نَتِن وهو سُمٌّ. شُبِّهَت الشجرة في جهنم التي تأكل منها الكفار بهذا النَّبْت‫.‬ ليس للكفار في جهنم طعام إلا من ضريع‫.‬ والضريع شجرة تنبت في جهنم لا تحرقها النار، والنار تحرق كل شيء فكيف لا تحرق هذه الشجرة؟ ربنا (تبارك وتعالى)كما يقول في أهل جهنم‫:‬ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٥٦] فكذلك الشجر‫.‬ حيات وعقارب في جهنم مخلوقة من النار لا تقتلها النار، والشجر في النار لا تحرقه النار، وكما قال ربنا تبارك وتعالى عن الكفار‫:‬ ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٩٧] وسُئِلَ النبي (صلى الله عليه وسلم): كيف يُحشَرُون على وجوههم يا رسول الله؟ قال‫:‬ "الذي أمشاهم في الدنيا على أرجلهم قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم" وكذلك ما في جهنم من سلاسل لايذوب من النار، والأغلال لا تذوب من النار، والحيات والعقارب لا تموت من النار، والشجر كذلك لا يُحرَق‫.‬ هؤلاء ليس لهم طعام إلا من ضريع‫.‬ وفي أماكن أخرى من القرآن يخبرنا ربنا (تبارك وتعالى) عن طعام هؤلاء فيقول طعامهم الزقوم، وفي مكان آخر (غِسلِين)، فقالوا هي ألوان من الطعام، يطعمهم هذا مرة وذاك مرة‫.‬ يُسَلِّطُ ربنا (تبارك وتعالى) عليهم الجوع فلا يطيقون هذا الجوع، فيلجأون إلى شجر الضريع والغِسلين والزقوم فيأكلون منه، وكلما أكلوا منه ازدادوا عطشاً فيلجأون إلى الشراب فيشربون من عين آنية، يشربون من الحميم أو يشربون من الصديد‫.‬ وقال بعض العلماء‫:‬ بل هي دَرَكَات، جهنم دَرَكَات وأنواع، منهم من يأكلون الغِسلين ومنهم من يأكلون الزقوم ومنهم من يأكلون الضريع ومنهم من يشربون الحميم ومنهم من يشربون الصديد‫.‬ ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦)لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧)﴾ لا يُسمِن‫:‬ لا يُسمِن الجسد، لا ينبت منه لحم ولا ينمو منه عظم ولا يُغنِي من جوع، إذاً فلا يصابون بالشبع بل يأكلون ولا يشبعون ويأكلون ولا يشبعون ويشربون ولا يرتوون، عذاب فوق الخيال، فوق التخيل، وإذا أردت أن تعلم فقد خلق ربنا (تبارك وتعالى) الطعوم في الدنيا كثيرة‫:‬ الصَّبر مُرٌّ طعمُه والعسل حلوٌ طعمُه، واللبن حلو المذاق والخمر مُرٌّ شرابها، فمن الطعوم ما هو حلو مستساغ ومن الطعوم ما هو لا يستساغ، فإن كانت الطعوم في الدنيا بهذا الشكل فكيف بالطعوم في الآخرة التي خلقها الله لينتقم بها من الجبابرة والكفار؟ نعم ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يُسمِن ولا يُغني من جوع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وينتقل الكلام إلى المؤمنين، وبضدها تتميز الأشياء، ذاك هو حال الكفار فما هو حال المؤمنين والأبرار؟‬‬
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ نَّاعِمَةٌۭ ﴿8﴾ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌۭ ﴿9﴾ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍۢ ﴿10﴾ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَـٰغِيَةًۭ ﴿11﴾ فِيهَا عَيْنٌۭ جَارِيَةٌۭ ﴿12﴾ فِيهَا سُرُرٌۭ مَّرْفُوعَةٌۭ ﴿13﴾ وَأَكْوَابٌۭ مَّوْضُوعَةٌۭ ﴿14﴾ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌۭ ﴿15﴾ وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾
‫﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ وهنا واو مُضمَرة أي‫:‬ "ووجوه يومئذٍ ناعمة" للفصل بينها وبين الوجوه الخاشعة‫.‬ هناك واو مُضمَرَة مُقَدَّرة وكأنه يقول‫:‬ "ووجوه". (يومئذٍ): في يوم القيامة‫.‬ (ناعمة): من النعومة، إذاً فهي وجوه نَضِرَة ذات حُسنٍ وذات بهجة وذات جمال‫.‬ أو هو من النعيم ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ أي متنعمة، عليها آثار النعمة، عليها آثار التنعم‫.‬ ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ لسعيها الذي سعته في الدنيا راضية، لأنها رأت ثواب سعيها في الدنيا، ثواب الصلاة، ثواب الصيام، ثواب الحج والعمرة، ثواب الزكاة، ثواب الصدقة، ثواب المعروف، هذا الثواب الذي رآه المؤمنون يوم القيامة يظهر أثر السرور والفرح على وجهه ويظهر أثر النعيم على وجهه، ويرضى عن سعيه الذي سعاه في الدنيا‫.‬ ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠)﴾ العلو علو مكان والعلو علو مكانة، جنة عالية، عالية المكان فهي فوق السماوات السبع، وهي عالية القدر والمكانة إذ خلقها الله (تبارك وتعالى) بيده ودَلَّى فيها ثمارها وأَذِنَ لها فقال‫:‬ تكلمي، فقالت‫:‬ (قد أفلح المؤمنون)، خلقها الله (تبارك وتعالى) لتنعيم عباده، لإثابتهم ولإسعادهم، خلقها من أجل أحبابه وأوليائه‫.‬ وانظر إلى الدنيا وما فيها من نِعَم، وانظر إلى القصور وفيها الأشجار وفيها الجنان، وانظر إلى الفراش والأثاث، وانظر إلى السيارات والطيارات وما خلقه ربنا (تبارك وتعالى) على يد الإنسان وألهمه صنعه، انظر إلى الجمال في كل شيء في الدنيا، كل ما في الدنيا من جمال وزخرف وبهرج ونعيم وزينة، كل ذلك يدمره الله لأنه لا يساوي عنده جناح بعوضة، ما هو إلا خزف يفنى والآخرة ذَهَبٌ يبقى‫.‬ ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠)لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١)﴾ لا تسمع فيها أيها المخاطَب، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) أو لكل من يعقل الخطاب‫.‬ (لاغية): أي كلمة لغو، لاغية‫:‬ نَفسٌ لاغية‫.‬ واللغو‫:‬ ما يُلغَى ويُطرَح من الكلام، اللغو‫:‬ الباطل، اللغو‫:‬ الإثم، اللغو‫:‬ الشكل، اللغو‫:‬ السخيف من الكلام والقذر من الكلام والبذيء من الكلام، اللغو‫:‬ الكذب‫.‬ كل مالا طائل من ورائه في الدنيا أو في الآخرة من كلام يسمى لغو، من الإلغاء لأنه يُطرَح ويتعفف العاقل عن سماعه‫.‬ ففي الجنة لا تسمع فيها لاغية، لا تسمع فيها إلا الحمد والتسبيح والكلمات الجميلة والأصوات العظيمة، لا تسمع أيها المخاطَب، أو لا تسمع الوجوه الناعمة فيها لاغية، والكلام عن أصحاب الوجوه‫.‬ وقُرِئت ﴿لا يُسمَعُ فيها لاغية﴾ ﴿لا تُسمَعُ فيها لاغية﴾ فهي ثلاث قراءات؛ ﴿لا تَسمَعُ﴾ أيها المخاطَب، ﴿لا تَسْمَعُ﴾ الوجوه فيها لاغية، ﴿لا تُسمَعُ﴾ فيها لاغية، و ﴿لا يُسْمَعُ﴾ فيها لاغية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(فيها): في الجنة‫.‬ ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾: وعين بمعني العيون‫.‬ ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ إذاً فهي تجري على وجه الأرض، ليست من خلال أخدود ولا تعب ولا نَصَب في الحصول على مائها‫.‬ (عين جارية) نكرة، عين تجري، أهي ماء؟ أهي عسل؟ أهي لبن؟ أهي خمر؟ أهي سلسبيل؟ هي تجري وتجري على وجه الأرض ولا تصيب الأرض ببلل، بل تجري وتذهب إلى ولي الله حيث يجلس فتأتيه فإذا صعد صعدت وراءه وإذا نزل نزلت وراءه وإذا مشى مشت وراءه‫.‬ ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ تُرى أَيُّ عين هذه؟ وأي طعم لما فيها من شراب؟ وأَيُّ شراب؟ وكلكم تعلمون شراب الدنيا، كم من ألوان الشراب؟ كم من أنواع الشراب؟ كم من حلاوة وكم من لذاذة في شراب الدنيا؟ شراب الآخرة الذي لا يتحول إلى بول يتبوله الإنسان كيف هو؟ الذي لا ينتن، الذي لا يتغير بمرور الوقت، ليس فيه عكارة‫.‬ ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ في الجنة ﴿سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ مرفوعة المكان، مرفوعة القدر والمكانة، مرفوعة أين؟ قالوا‫:‬ السرير مرفوع عن الأرض ارتفاع السماء عن الأرض، وكيف يصل إليه صاحبه إذا كان السرير مرفوعاً؟ أهناك سلالم؟ أهناك معارج؟ أهناك درجات؟ قالوا‫:‬ أبداً، إذا هَمَّ بالجلوس عليه تطامن له السرير ونزل إليه فجلس عليه ثم ارتفع به بمجرد الرغبة، لا يأمره ويقول انزل يا سرير، بل بمجرد الرغبة، بمجرد الإرادة، يتطامن له السرير فيجلس عليه ثم يصعد به‫.‬ وما الغرض من هذا الارتفاع؟ قيل إن صاحب الجنة يريد أن يرى مُلكَه، وأقل مُلكٍ في الجنة لأقل رجل من أهل الجنة مسيرة ألفي عام، فيصعد به السرير إلى أعلى كي ينظر إلى مملكته ومُلكِه وهو في هذا المكان العالي المرتفع‫.‬ وحين تعجب المؤمنون من ذلك وكيف ينزل السرير وكيف يصعد السرير قال الله لهم‫:‬ ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ أليس يَبرُكُ البعير فتضع عليه حملك ثم يقوم البعير فيرتفع الحمل؟ أليس يَبرُكُ البعير لتجلس عليه فإذا قام البعير ارتفَعْتَ؟ فكذلك السرير، ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾. ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ والكوب‫:‬ القَدَح لا عُروَة له، أما الإبريق فله عُروَة‫.‬ الأكوابُ أكوابٌ وأباريق‫.‬ ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ أين هي موضوعة؟ ومن أي شيء صُنِعَت؟ أهي قوارير من فضة؟ الفضة الشفافة التي لم يُخلَق مثلها في الدنيا ولم تُرَى لها مثيل؟ أكواب، من صنعها؟ الله صنعها لأحبابه‫.‬ أين وضعها؟ قالوا موضوعة على حافة العيون، فإذا أراد ولي الله أن يشرب منها قُدِّرَت على قَدْرِ حاجته ومُلِأَت بنفسها وجاءته إلى يده دون سعي ودون تعب ودون ملء أو تفريغ، ولا يبقى فيها فضالة، لا يبقى شيء، وتُملَأ على قدر ما يريد دون زيادة ودون نقص، أكواب موضوعة أمامهم في كل مكان‫.‬ ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ ولم يقل لنا ماهي الأكواب وأين توضع، نكرة للتفخيم والتعظيم‫.‬ ﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ النَّمَارِق‫:‬ جمع نُمرُقَة، والنُّمرُقَة‫:‬ الوسادة الصغيرة إذا كانت من فاخر الحرير‫.‬ النمارق المصفوفة صُفَّت بعضها إلى بعض، رُتِّبَت‫.‬ ونحن في الدنيا كلما كانت المرأة ذات ذوق رفيع صنعت مثل هذه النمارق ورتبتها وصَفَّتها لتعطي المنظر البهيج، فكيف إذا كان الصانع للنمارق هو الله؟! وكيف إذا كان المـــُصَفِّف لها هو الله خالق الجمال كله؟ صاحب الجلال كله؟ ﴿وزَرَاِبُّي مبثوثة﴾ الزَّرَابِيُّ واحدها زَربِيَّة، وقد تُضَمُّ (زُربِيَّة). الزرابي‫:‬ البُسُط، السجاد الذي يوضع على الأرض إذا كان له مُخمَل؛ أطراف وهُدُب رقيقة تتدلى منه، بُسُط نُسِجَت للجنة ونَسَجَها الله‫.‬ (مبثوثة): منتشرة في كل مكان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك أوصاف يحدثنا ربنا (تبارك وتعالى) عما غاب عنا بما هو مُشَاهَد لدينا‫.‬ يحدثنا عن صفات الجنة بأسماء تعارفنا عليها ورأيناها في الدنيا، ولكن هل النمارق وهل الزرابي وهل الأكواب وهل العيون وهل السُّرُر؟ هذه الأسماء لها مدلول، مدلولات الأسماء نحن نعرفها في الدنيا، نعرف السُّرُر ونعرف النمارق ونعرف الزرابي ونعرف العيون ونعرف الأكواب، هذه المدلولات وإن دلت على أشياء بعينها لكنها في الجنة شيء آخر‫.‬ واللهِ واللهِ مافي الجنة من دنياكم إلا الأسماء‫.‬‬‬‬‬‬
‫يخاطب القرآن أهل مكة وتخاطبهم سورة الغاشية على وجه الخصوص، وأهل مكة وأهل جزيرة العرب في أيام بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن لهم من ركائب إلا الإبل، وكانت أعظم أموالهم وأغلبها من الإبل وكانوا يسافرون عليها، والمسافر في الصحراء يتأمل رغم أنفه، فهو مسافر في طريق مُوحِش هادئ لازرع فيه ولا ضرع، ليس هناك ساكن وليس هناك أناس بل هو مسافر وحده‫.‬ وكثيراً ما كانوا يرتحلون وحدهم، يرعون الإبل ويرعون الغنم وينتقلون من مكان إلى مكان على ظهور الإبل، لابد من المسافر أن ينظر وأن يتأمل، فَلَفَتَ ربنا تبارك وتعالى نظرهم إلى ذلك بأربعة أشياء لابد أن ينظر إليها كل منهم‫:‬ الإبل؛ الركوب، الدابة التي يركبها لابد أن ينظر إليها‫.‬ فإذا رفع رأسه إلى فوق لم يَرَ إلا السماء، وإذا نظر إلى الأرض لم يَرَ إلا الأرض، وإذا التفت يُمنَةً أو يُسرَةً لم يَرَ إلا الجبال‫.‬ وهكذا لَفَتَ ربنا تبارك وتعالى نظرهم إلى هذه الأشياء الأربع‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾ وَإِلَى ٱلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20﴾
سؤال يوجههم ويلفت نظرهم، أما الإبل فهي بهائم ولكن البهائم خُلِقَت لأربع فوائد؛ منها ما خُلِقَ للركوب كالخيل وللركوب فقط فهي ركوبة؛ ومنها ما خُلِقَ للأكل وللأكل فقط كالكِبَاش، كالغنم؛ ومنها ما خُلِقَ للحَلْبِ فهي حَلُوبة كالبقر؛ ومنها ما خُلِقَ للحَمْل كالبغال والحمير‫.‬ والجياد للركوب، وقد تُركَب البغال أيضاً ويستفاد منها بأمرين‫.‬ والبقر ينفع في الزراعة ويؤكل لحمه ويُحلَب لبنه، لكن لا يُحمَل عليه ولا يُركَب‫.‬ والبغال تُركَب ولا تُحلَب ولا تؤكل‫.‬ فخلق ربنا الإبل وفيها أربع فوائد؛ هي في الأنعام وفي الأغنام وفي البغال والخيل والحمير‫.‬ فالإبل تُركَب ويؤكل لحمها وتحمل الأثقال ويُحلَب لبنها، فهي ركوبة وحمولة وأكولة، تُؤكَل وتُركَب ويُحمَل عليها ويُحلَب لبنها فجمعت الفوائد الأربع التي في باقي البهائم‫.‬ أيضاً في خلق الإبل أعاجيب؛ فهي تصبر على العطش وعلى الجوع مدداً طويلة، أعناقها طويلة وتأكل كل ما ينبت في الأرض أيا كان حتى الشوك، ولذلك تجد الشفة السفلى مشقوقة حتى لا يضرها الشوك، إذا يدخل الشوك من خلال الشق فلا يؤذيها الشوك وتأكله، وتستطيع أن تصل بطول أعناقها إلى الشجر المرتفع في الصحراء، والخُفُّ كيف يحتمل السير على الرمال، وإذا أردت أن تحمل عليها بَرَّكتَها وتضع الأحمال عليها مالا تطيقه باقي البهائم ثم تقوم بالحمل وتركب عليها وتقوم بك‫.‬ فيها منافع كثيرة وهي من أعظم أموال العرب ولذا خاطبهم بها ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾؟ ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ رُفِعَت السماء بلا عَمَد، أين أعمدة السماء التي تحملها؟ أين هي؟ وكيف حُمِلَت السماء هكذا بغير أعمدة؟ وليس هناك بناء في الوجود يقف بدون أعمدة، كيف رُفِعَت فلا تنالها الأيدي بل ويرتد البصر عنها خاسئاً وحسيراً؟ ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ هذه الجبال التي ثبتت و رَسَت و رَسَخَت في الأرض فلا تزول ولا تتحرك ونُصِبَت بغير حبال، من غير شيء يشدها بل نُصِبَت، جبال صخرية صلدة، ألوان وأنواع‫:‬ بِيض وحُمر وغرابيب سُود، كيف نُصِبَت كي تَرسَخُ الأرض حيث مادت فَرَسَت بالجبال‫.‬ ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ سُطِحَت وأصبحت سطحاً، سطحاً يستطيع الإنسان أن يسير عليه، وإن كان الأرض كُرَيَّة -كما قيل-أو كروية، إلا أن عِظَمِ حجمها يجعلك لا ترى ذلك، فهي مسطحة يسهل السير عليها‫.‬ أربع أشياء لابد من النظر إليها، وإذا نظرت إليها قادتك إلى الله المدبر والخالق‫.‬ البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على الحكيم الخبير؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خَلَقْتُ﴾ قراءة، ﴿وإلى السماء كيف رَفَعْتُ﴾ ﴿وإلى الجبال كيف نَصَبْتُ (١٩)وإلى الأرض كيف سَطَحْتُ﴾ وربنا يتكلم عن نفسه؛ كيف سَطَحتُها، كيف خَلَقْتُها، كيف نَصَبتُها‫.‬ ﴿وإلى الأرض كيف سُطِّحَت﴾ قراءة ثالثة‫:‬ (سُطِحَت – سَطَحْتُ – سُطِّحَت). يأتي بعد ذلك التذكير، هذه أربعة أدلة على وجود الله (تبارك وتعالى) المدبر المهيمن‫.‬ أنظر يا من صاحب نظر، يا من لك عقل، يا من لك نظر‫.‬ وإذا كان الخطاب لأهل الجزيرة العربية أو لأهل مكة في وقت بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه الأشياء التي يعاينوها بصفة مستمرة، فاليوم لك أن تنظر في كل شيء، لك أن تنظر فيما يحيط بك من بحار من أنهار من حيوانات من طيور من أغصان من أشجار مِن ومِن ومِن، ما من شيء في هذا الوجود إلا ويدل على الرب المعبود -إي وربي-الإيمان بالله واجب بمجرد النظر، يصل العبد إلى الإيمان‫.‬ لذا يوجه ربنا (تبارك وتعالى) حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من بعد ذلك فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌۭ ﴿21﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴿23﴾ فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ ﴿24﴾ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴿25﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ﴿26﴾
‫﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ فَذَكِّر يا محمد، عِظْ ونَبِّه والفِت أنظار الناس إلى هذه الأشياء، إنما أنت مُذَكِّر ما عليك إلا البلاغ، أَمذَا أن يتذكر الإنسان أو لا يتذكر فذاك شأن الله، أما النبي (صلى الله عليه وسلم) فليس عليه إلا البلاغ‫.‬ إنما أنت مُذَكِّر؛ تَعِظُ وتُنَبِّه وتَلفِتُ أنظار الناس وتحذرهم وتنبههم فقط، أما أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا فذاك شأن الله‫.‬ (لست عليهم بمصيطر) بالصاد، (بمسيطر) بالسين، (بمسيطَر) بفتح الطاء، قراءات‫.‬ المسيطِر‫:‬ المهيمِن المشرِف على الشيء المتسلِّط عليه‫.‬ أصل الكلمة من السَّطْر، والكتاب مُسَطَّر، والذي كتب الكتاب مُسْطِر ومُسَيطِر‫.‬ والتَّسطِير أن تضع الحروف متشابكة في كلمات، والكلمات مُتَّسِقَة، والسطر لا يتجاوز حده حيث الورق، حيث ما تكتب عليه، فينتظم السطر ويُسَيطِرُ الشخص فيَسْطُر ويضع الحروف في أماكنها‫.‬ استُخدِمَت الكلمة بعد ذلك في الهيمنة، في السيطرة، في الإشراف على الشيء، في كتابة الأعمال‫.‬ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ أي لا سلطان لك عليهم، لست عليهم بمهيمن‫.‬ المهيمن هو الله، لا تحصي عليهم أعمالهم بل المحصي هو الله، لا تؤاخذهم ولا تعاقبهم بل المؤاخذ والمعاقب والمحاسب هو الله، لم تُسَلَّط عليهم إنما تُذَكِّرُهم ﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣)فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)﴾ "إلا": استثناء، إذا كان منفصلاً عما قبله ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾: على الكل، إلا من تولى وكفر، بمعنى‫:‬ لكن من تولى وكفر، تولى عن التذكير والتذكر وكفر بالله (تبارك وتعالى) هذا يعذبه الله العذاب الأكبر‫.‬ والاستثناء قد يكون متصلاً: لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فأنت مُسَيطِر عليه، سَلَّطْنَاكَ عليه بسيفك لتجاهد ولتقتل هؤلاء الكفار وتُشَرِّد بهم مَنْ خَلْفَهُم‫.‬ وقُرِئت ﴿أَلَا من تولى وكفر﴾ (أَلَا): للتنبيه، والكلام انتهي‫:‬ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾. ثم يستأنف الكلام للتنبيه‫:‬ ﴿أَلَا من تولى وكفر﴾: تنبيه فيه التهديد، فيه الوعيد الشديد‫.‬ (من تولى وكفر) تولى عن الذكرى وأعرض عن التذكر وكفر بالله فيعذبه الله العذاب الأكبر‫.‬ العذاب الأكبر‫:‬ عذاب جهنم، ليس أكبر منه عذاب‫.‬ أما العذاب الأصغر فهو القتل، لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليه مُسَيطِر، سَلَّطنَاك عليهم بالجهاد فتقتلهم وتأسرهم وتصيبهم بالجراحات وبالذل والهوان ثم يعذبهم ربنا (تبارك وتعالى) العذاب الأكبر، فعذابك لهم يا محمد بالقتل والسبي والأسر عذاب أصغر، أما العذاب الأكبر فهو عذاب النار‫.‬ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (٢٢)إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣)﴾ لكن من تولى وكفر يعذبه الله العذاب الأكبر؛ عذاب الآخرة‫.‬ أما العذاب الأصغر فهو ما أصابهم الله بهم في الدنيا من خسف وتدمير، زلازل، أمراض، كما سَلَّطَ على كفار قوم فرعون الطاعون والجراد والقُمَّل والضفادع وهكذا‫.‬ وتُختَم السورة بالقرار وبالحقيقة الخالدة التي لاشك فيها ولا مراء‫:‬ ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)﴾ و قُرِئت ﴿إن إلينا إِيَّابَهم﴾ بالتشديد‫.‬ آبَ يَؤوبُ: رَجَع‫.‬ ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ رجوعهم إلى الله، بعد الموت يرجع الإنسان إلى ربه، في البعث يرجع الإنسان إلى ربه، يرجع إلى أمره، إلى قضائه، إلى حُكمِهِ فيه‫.‬ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ إذاً ربنا (تبارك وتعالى) هو المحاسِب، لكن التعبير هنا قُدِّمَ فيه الخبر على المبتدأ ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ "إلينا" خبر (إِنَّ) "وإيابهم" هو المبتدأ‫.‬ أو القياس أن يقول الإنسان -في كلام الناس- إن إيابه إلى بيته فيُقَدِّمُ المبتدأ ويُؤَخِّر الخبر‫.‬ هنا الخبر مُقَدَّم، المفعول مُقَدَّم ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ هذا النَّسَق وهذا التعبير بهذه الكيفية يقال فيها للتخصيص، لمزيد التخصيص‫.‬ أيضاً للإرهاب والترهيب والوعيد بمعنى‫:‬ ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ أي أن الرجوع إلى الله وليس لغيره، وإلى الله فقط‫.‬ فتخصيص الرجوع إلى الله، وإلى الله فقط‫.‬ وتخصيص الحساب لله (تبارك وتعالى)، هو المحاسِب وليس غيره‫.‬ فالسياق بهذا الأسلوب فيه وعيد شديد وفيه تهديد لكل من يفهم اللغه العربية، وكانت قريش وكانت العرب أفصح الناس وهم يعلمون هذا ويفهمون الكلام ويعرفون بديعه وبلاغته‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم؛ الحساب وما أدراك ما الحساب! تخيل نفسك قد أخطأتَ في حق صديق دون أن يدري هذا الصديق، ثم أُخبِرَ الصديق بخطئك وأنت لا تدري أنه عَلِم فلَقِيتَه فهَمَمْتَ بالسلام عليه وباحتضانه فإذا به يُشِيحُ بوجهه عنك ثم يقول لك‫:‬ كيف تقول عني كذا وكذا وقد أحببتُك وصاحبتُك؟ كيف يكون الخزي؟ كيف يكون الخجل؟ كيف تتمنى لو أن تنشق الأرض وتبلعك ولا تواجهه؟ كيف بالزوج إذا دخل على بيته فوجد رجلاً آخر في فِراَشه ونظر لامرأته، تُرَى كيف تنظر إلى زوجها في هذا الموقف؟ كيف؟ تشبيهات! وتَأَمَّل وربنا يقول‫:‬ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٢٧]‬‬‬‬‬
‫كيف بالعبد إذا أخطأ في حق بلده وجيء به أمام الحاكم؟ كيف إذا سرق أحد وقُبِضَ عليه‬‬
‫ووُوجِهَ بالسرقة، كيف وكيف؟ وهكذا تَأَمَّل في كل ذلك واعلم أن الله (تبارك وتعالى) لا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر، سائلك عن لفتات النظر وفلتات الخاطر، ما تَحَدَّثَت به نفسُك يعلمه ويسألك عنه‫.‬ في يوم من الأيام ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يجلس بين أصحابه دخل عليه عثمان بن عفان بعد فتح مكة ومعه رجل مُلَثَّم يُخفِيه عثمان ويُجِيرُه، قد أهدر النبي (صلى الله عليه وسلم) دَمَه وجاء عثمان يستجير ويقول يارسول الله أَجَرْتُ فلاناً فاعفُ عنه، فسكت النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكرر مرتين أو ثلاث، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "قد عفونا عنه"، فانصرف عثمان وانصرف الرجل، ونظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أصحابه وقال‫:‬ "سَكَتُّ عَلَّ أحدكم يقوم فيضرب عنق هذا الكافر المنافق وقد علمتم أني أهدرتُ دَمَه" فقال أحد الجالسين‫:‬ يارسول الله هَلَّا غَمَزْتَ إليَّ بعينك أو أَشَرْتَ إليَّ إشارة خفية، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا! ما كان لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين" نعم! فربنا يقول‫:‬ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.