سورة الأعلى

يأتي بعد ذلك في ترتيب المصحف سورة الأعلى، والتناسق والتناسب بين ترتيب السور في المصحف تناسب وتناسق مُعجِز، فما بين السور في ترتيبها تجد التناسق والانسجام والانتظام، وكذلك بين مُفتَتَح السورة وبين مُنتَهَى كل سورة وهكذا‫.‬ وتأتي سورة الأعلى، وحين نزلت سورة الأعلى‫:‬ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وقد نزلت بمكة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : "اجعلوها في سجودكم" كما قال لهم حين نزل قول الله (تبارك وتعالى):(فَسَبِّح باسم ربك العظيم) "اجعلوها في ركوعكم"

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى ﴿1﴾
سورة مكية اختلف العلماء في أولها‫:‬ الاسم‫.‬ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ فقال بعضهم‫:‬ أي اذكُر اسمَ الله‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل المقصود سَبِّح رَبَّك بدليل أننا نقول "سبحان ربي الأعلى" ولا نقول سبحان اسم ربي الأعلى‫.‬ والاسم هنا صلة يُقصَد بها تعظيم الذات العَلِيَّة؛ المسمى‫.‬ قال بعض الناس‫:‬ الاسم هو المــُسَمَّى‫.‬ خلاف فقهي أو خلاف فلسفي‫.‬ ﴿سَبِّح﴾: نَزِّه‫.‬ والتسبيح أصلاً من السباحة، والسباحة‫:‬ السير بسرعة في الماء أو في الهواء‫.‬ وكأن كلمة التسبيح وكلمة سبحان تعني أن الإنسان يسارع في تنزيه الله (عز وجل) عما لا يليق بجلاله وكماله‫.‬ والمقصود من الآيه أَمْرٌ لنا بتنزيه الله )عز وجل ) عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله‫.‬ وإن كان المقصود تنزيه الاسم‫:‬ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ إذاً فمعنى الكلام‫:‬ لا نُسَمِّي أحداً باسمٍ من أسمائه كما يفعل المشركون حين حَرَّفُوا الأسماء وسموا الأصنام (اللات)بدلاً من (الله)، و(العُزَّى)بدلاً من (العزيز)، و(مناة)بدلاً من (المنَّان). فسَبِّح الاسم أي نَزِّه الاسم أن يكون له شبيه، أن يُسَمَّى به غير الله مما يُشعِر بالاشتراك في الصفة‫.‬ أيضاً لا تذكر اسم الله (تبارك وتعالى)إلا في الأماكن الطاهرة الطيبة‫.‬ فَنَزِّه الاسم عن أن يُسَمَّى غير الله، نَزِّه الاسم عن أن يُذكَرَ في غير ما يجب، ونَزِّه الاسم عن أن يُستَهزَأَ به، ونَزِّه الاسم عن كل ما لا يليق بجلال الصفات العليا‫.‬ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ وعُلُوُّ الله (تبارك وتعالى)ليس عُلُوَّ مكان، فقد كان قبل المكان والزمان وهو الآن على ماهو عليه كان، بل هو فوق كل مخلوق فوقية لا تُبعِدُه عن خلقه، وهو قريب من كل مخلوق، وهو أقرب للإنسان من حبل الوريد، وقُربُهُ من الإنسان لا يشابه قرب الأجسام كما أن ذاته لا تشابه ذوات الأجسام، وهو في قربه من خلقه بائن عنهم بالصفات، رفيع الدرجات رب العرش والسموات، وخير تفسير لهذا هو كلام الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿2﴾ وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴿3﴾ وَٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ ﴿4﴾ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحْوَىٰ ﴿5﴾
‫﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ هاهو الأعلى، الأعلى خَلَقَ فَسَوَّى، والذي قَدَّرَ فَهَدَى‫.‬ الذي خلق كل شيء فَسَوَّاه، جعل الأشياء سواءً في الإحكام والإتقان والإحسان‫.‬ سَوَّى الشيء سَوَّاه‫:‬ جعله مستوياً معتدلاً. وانظر إلى نفسك ألك عين أوسع من عين؟ ألك يد أطول من يد؟ ألك رجل أطول من رجل؟ (والذي قَدَّرَ فَهَدَى): قَدَّرَ خَلْقَه وقَدَّرَ لكل شيء أجله ورزقه وفعله والمطلوب منه، الأفعال، الأقوال، الآجال، الأرزاق، الأشكال، الأعمال‫.‬ قَدَّرَ كل شيء، وما من شيء إلا بمقدار ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ٤٩] قَدَّرَ كل شيء (فَهَدَى): فَدَلَّ كل شيء على ما يصلحه، على ما ينفعه، وهداية الله (تبارك وتعالى)لا عد لها ولا حصر‫.‬ قَدَّرَ للفرخ أي زمن يبقى في بيضه ثم هداه كيف يخرج فنقر البيض وخرج في الوقت المناسب، قَدَّرَ للنحل رزقه وبيته وسكنه ثم هداه كيف يرشف رحيق الزهور فيخرج الشفاء مشارب، قَدَّرَ في الأرض المعادن وما إلى ذلك ثم هدى الإنسان كيف يستخرجها وكيف ينتفع بها وكيف يصنع منها السلاح ويصنع منها الأدوات ويصنع منها كل شيء، قَدَّرَ للإنسان القُوَى ثم هداه لاستخدامها فعَلِمتَ كيف تستخدم يدك وكيف تستخدم عينك وكيف تستخدم عقلك وكيف تستخدم لسانك وكيف تستخدم أسنانك، وكل شيء خلقه الله (تبارك وتعالى)قَدَّرَه ثم هداه لما أُودِعَ فيه إما طبعاً وإما اختياراً؛ طبعاً ككل شيء في الوجود يُخرِج مافيه بالطبع وليس بالاختيار كالنحل؛ النحل الذي يخرج لك العسل هداه ربنا (تبارك وتعالى)لذلك‫:‬ ﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(٦٨) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ(٦٧)إِنَّفِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(٦٩)﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٦٨- ٦٩] تلك هي هداية الله للنحل‫.‬ وحين خرج العسل من النحل هل خرج اختياراً؟ خَرَجَ طبعاً، بالطبع‫.‬ حين خرج الدفء من الشمس هل خرج اختياراً؟ خرج طبعاً، طبيعتها تعطيك الدفء‫.‬ هل خرج النبات من الأرض اختياراً؟ خرج طبعاً. هل خرج من الإنسان المعروف طبعاً؟ خرج اختياراً، فَقَدَّر عليك المعروف والخُلُق الجميل ثم هداك لهذه الأخلاق الجميلة فخرج منك المعروف اختياراً. قَدَّرَ كل شيء، ووضع في كل شيء صفات، ووضع في كل شيء مواصفات، ووضع في كل شيء سِرَّاً ثم هَدَى الأشياء والمخلوقات لإخراج ما ينفع إما طبعاً كالجمادات وإما ختياراً كالإنسان‫.‬ من هنا تعلم أن كل ما استفدتَ أنتَ به من هذه الدنيا من مخلوقات كالبهائم وكالنبات وكالأرض وكل شيء، ما فيها من منافع قَدَّرَها الله، معرفتك باسخراجها هداية الله‫.‬ قَدَّرَ فَهَدَى، من أين لنا الحديد؟ من الأرض، من الذي خلقه؟ الله، من الذي هدانا لاستخدامه؟ الله، قَدَّرَ فَهَدَى، ذاك هو الأعلى‫.‬ (والذي أخرج المرعى فجعله غُثَاءً أحوى) تتكلم السورة في البداية عن الإيجاد، عن الرب الواحد العلى الأعلى الذي أوجد كل شيء وقَدَّرَ كل شيء وسَوَّى كل شيء وهدانا لاستخدام كل شيء من منافع والحواس كيف نستخدمها والأعضاء وما أتاح لنا ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [سورة الجاثية آية‫:‬ ١٣] ثم يُبَيِّن لنا تَقَلُّبَ الأحوال ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ ما يرعاه البهائم؛ النبات، أخرجها الله (تبارك وتعالى)، حتى الأنعام خلقها لك ولم يكلفك برزقها بل رزقها لك، خلق الأنعام وخلق رزقها وما عليك إلا أن تستخدمها في المنافع التي هداك الله لها والتي خلقها وقَدَّرَها لك‫.‬ ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ﴾ أخضر طري ثم فجأة يتحول فجعله غُثَاءً أَحوَى‫.‬ الغُثاء‫:‬ كل ما يحمله السيل في طريقه من قش وأوراق الشجر الجافة وما لا قيمة له، تجرفها السيول وتلقيها على الشُّطآن، ذاك هو الغثاء، لا نفع فيه‫.‬ الأَحوَى‫:‬ الأسود، من الحَوَّة‫:‬ وهي السواد‫.‬ إذاً فقد كان المرعى أخضر طرياً غضاً ثم تحول بعد ذلك إلى أوراق يابسة ونبات جاف أسود نتن‫.‬ هذا التغيير والتحويل من المرعى الذي جعله بعد ذلك غثاءً أحوى يُشعِرُك بنهاية الدنيا، وأن كل بداية لابد وأن لها نهاية، وأن بعد القوة ضعف وبعد الشباب شيب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ اتق الله وانظر في أحوالك، وانظر إلى الدنيا واسمع للعبر والأمثال والتي جاءت في الصحف الأولى‫.‬ عَجِبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعَجِبتُ لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعَجِبتُ لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، وعَجِبتُ لمن أيقن بالقَدَر كيف يَنْصَب، وعَجِبتُ لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل‫.‬‬‬‬‬
‫بَيَّنَ الله (تبارك وتعالى)بعض صفاته العليا‫:‬ خَلَقَ فَسَوَّى، قَدَّرَ فَهَدَى، ومن كان هذا وصفه وجب الإيمان به ووجب تنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله‫.‬ وتأتي البشارة لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)بخيرَيِ الدنيا والآخرة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ﴿6﴾ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴿7﴾
‫﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ الأُمِّيُّ العربي الذي لا يكتب بقلم‫.‬ هذا القرآن العظيم كلام الله (تبارك وتعالى)، ربنا يبشره بعد أن كان يخشى على نفسه من النسيان ويتابع جبريل في القراءة‫.‬ ربنا يبشره ويقول له سنعطيك القرآن يا محمد ونجعلك تقرأه ولا تنساه أبداً، فهي معجزة كبرى لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)أن يحفظ هذا القرآن دون كتابة ودون قراءة ودون ترديد ودون أن يُحَفِّظَه أحد أو يسمع منه أحد، بل يقرأه جبريل عليه فيحفظه إلى آخر عمره‫.‬ ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾: فلا تخشى النسيان‫.‬ ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ المشيئة‫.‬ والاستثناء لابد منه لتعلم أن الله على كل شيء قدير‫.‬ ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ ولكنه لم يشأ، كقول الله (عز وجل)في أهل جهنم‫:‬ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ١٠٧] ولم يشأ أن يخرجوا منها بل شاء لهم الخُلد، هنا كذلك تقديم المشيئة لإشعارنا وتعليمنا بقدرة الله (تبارك وتعالى)وأنه قادر على أن ينسيه، كما قال في موضع آخر‫:‬ ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٨٦] لكنه لم يشأ ولم يذهب بما أوحى إليه‫.‬ هنا كذلك‫:‬ ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ ولم يشأ أن يُنسِيَه‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ "لا" هنا ليست نافية أي (لن تنسى). وإنما "لا" الناهية وكأنه يقول له سنقرئك القرآن فلا تنسى العمل به فهو ينهاه عن أن يترك العمل به، ذاك رأي آخر‫.‬ ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ إلا أن يشاء الله أن يجعلك تتركه بأن ينسخ الحكم، فالقرآن فيه ناسخ وفيه منسوخ، سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسيك وهو المنسوخ‫.‬ تلك آراء أرجحها وأشبهها بالصواب ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ بشرى أن لن يحدث منك نسيان فلا تخشَ شيئاً، بيان لقدرة الله (تبارك وتعالى)على كل شيء‫.‬ ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ الله (تبارك وتعالى)يعلم جهرك بالقراءة وإخفاءك للقراءة، يعلم ما يجهر به الناس وما يخفيه الناس، فهو أعلم بالمصالح فينسخ ما يشاء ويُبقِي ويُثبِتُ ما يشاء‫.‬ وتأتي البشرى الثانية‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴿8﴾ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴿10﴾ وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى ﴿11﴾ ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿12﴾ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ﴿13﴾
البشرى الثانية‫:‬ ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ اليُسرى‫:‬ الطريق الأيسر والأسهل ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٧٨] ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٦] الطريق اليُسرى للجنة، الطريق اليُسرى‫:‬ الحنيفية السمحاء، الدين يُسْر‫.‬ ﴿سَنُيَسِّرُك﴾ سَنُسَهِّلُ لك ونوفقك للطريق اليسرى‫:‬ الأمثل والأسهل والأيسر‫.‬ ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ وكأن الله (تبارك وتعالى)يقول له بعد أن ذَكَّرتَ الناس جميعاً وأنذرتَ الكل، هناك من يتذكر وهناك من لا يتذكر، وأنت تجهد نفسك وتُتْعِبُ نفسك وتكاد تُهلِكُ نفسك من الحزن عليهم ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٦] أي ضع الذكرى في موضعها، فإن رأيتَ واستشعرتَ من إنسانٍ أنه قريب من التذكر فضع له التذكر وذَكِّر من تنفعه الذكرى‫.‬ أما الذي لا تنفعه الذكرى فدعك منه ولا تُتعِب نفسك معه، كقوله له‫:‬ ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٢٩]وتلك إشارة لكل العلماء على مَرِّ العصور؛ أيها العالِم لا تضع عِلمَك إلا فيمن ينفع وإلا كنتَ كمن ينشر الدُّرَّ على البهائم، فلا تُعطِ العلمَ إلا لمن يستحق العلم‫.‬ أو فَذَكِّر إِن نَفَعَتِ الذِّكرى‫:‬ أي حيثما نفعت الذكرى‫.‬ أو فَذَكِّر إن نَفَعَت الذي أو لم تنفع، عليك التذكير، وقال‫:‬ ﴿إِن نَفَعَت﴾ ولم يقل "إن لم تنفع" اكتفاءً بذكر واحدة عن الأخرى كقوله‫:‬ ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٨١]ولم يقل (سرابيل تقيكم البرد)يدل هذا على ذاك‫.‬ ﴿فَذَكِّر إِن نَفَعَتِ الذِّكرَى﴾ "إِن" إما شرطية وإما بمعنى "ما" (ما نفعت الذكرى): حيثما نفعت فَذَكَّر إن نفعت الذكرى‫.‬ ثم يبين ربنا (تبارك وتعالى)من هم المنتفعون‫:‬ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ من يخشى ومن يرجو يَذَّكَّر أم لا؟ يَذَّكَّر‫.‬ من يرجو الله ألا تنفعه الذكرى؟ تنفعه‫.‬ ومن يخشى الله ألا تنفعه الذكرى؟ تنفعه‫.‬ لكن الله قال‫:‬ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ لأن الخوف من الله أشد من الرجاء فيه، والخوف من الله أدعى من الانتهاء عن محارمه والامتناع عن كل ما يغضبه‫.‬ لكن من يرجو يَذَّكَّر ومن يخشى يَذَّكَّر‫.‬ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾: يخشى الله ويخشى عقابه‫.‬ ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾: أشقى الناس الكافر المــُصِرُّ المعانِد المنكِر للبعث يتجنب هذه الذكرى ولا يسمعها ولا ينتبه لها الأشقى‫.‬ ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ النار الكبرى‫:‬ الدَّرَك الأسفل من النار‫.‬ أو النار هي النار وسُمِّيَت كبرى لأن نار الدنيا هي الصغرى، سيصلى النار الكبرى‫:‬ أي نار الآخرة‫.‬ وما نار الدنيا إلا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة‫.‬ ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾ لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة كريمة مريحة‫.‬ وتأتي النهاية التي تفيد كل من يعقل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴿14﴾ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ﴿15﴾ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿16﴾ وَٱلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ وَأَبْقَىٰٓ ﴿17﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَىٰ ﴿18﴾ صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴿19﴾
‫﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ أفلح‫:‬ فاز، أفلح‫:‬ نجا‫.‬ أفلح من الفلاح، والفلاح أصلاً من فَلَحَ الأرض‫:‬ شَقَّ الأرض‫.‬ سُمِّيَ الفَلَّاُح فَلَّاحاً لأنه يَفلَحُ الأرض‫:‬ يَشُقَّها ليضع الحب‫.‬ وكأن المفلحين شقوا طريقهم إلى الجنة‫.‬ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾: من تَطَهَّرَ من دَنَسِ الشرك ومن المعاصي، أفلح‫ : ‬ فاز بالجنة‫.‬ ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ أي تَذَكَّرَ الله (تبارك و تعالى) وخَشِيَ عقابه ورجا ثوابه فَصَلَّى وأقام الصلوات‫.‬ وقالوا‫:‬ الآية تفيد الزكاة وصلاة العيد، زكاة الفطر ثم صلاة العيد، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ أخرج الزكاة ثم ذكر اسم ربه بتكبيرات العيد فصلى صلاة العيد‫.‬ وقالوا ( تَزَكَّى ) تَطَهَّر من دَنَسِ الشرك والمعاصي، وذكر اسم ربه بتكبيرة الإحرام فصلى الصلوات الخمس‫.‬ الكلام عن الصلاة، والصلاة صِلَة بين العبد وربه، طالما أَقَمْتَ الصلاة فالاتصال بينك وبين الله موجود، تارك الصلاة لا صِلَة بينه وبين الله‫.‬ وأول ما يُسأَل عنه العبد يوم القيامة الصلاة، إن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله‫.‬ ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ "يؤثرون" قراءة ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ التفات في الخطاب‫.‬ الكلام‫:‬ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ صيغة الغيبة ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، ثم التفت وكأنه يُخاطِب الناس ويشد انتباههم ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ طَبْعُ الإنسان، يؤثر العاجل على الآجل، الدنيا قُدِّمَت وعُجِّلَت بلذاتها وشهواتها وطعامها وشرابها وملبسها ونسائها وجاهها ومالها وما إلى ذلك، وزُوِيَت عنا الآخرة وغُيِّبَت، فَتَعَجَّل الناس وآثروا العاجل على الآجل‫.‬ ﴿وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ خير‫:‬ أفضل ؛ نساء الآخرة أفضل من نساء الدنيا، لا يَحِضْنَ وقاصرات الطرف، من كل شيء أفضل، شراب الآخرة خير من شراب الدنيا، في كل شيء، كل شيء في الآخرة خير من الدنيا (موضع سوط أحدكم في الآخرة خير من الدنيا وما فيها ) .
(وأبقى) : لأنها دائمة لا تزول ولا تنقطع، وأما الدنيا فانية لا محالة، وما معك من نعيم لابد وزائل، إما يزول النعيم وتبقى أنت تتحسر، وإما يزول عنك النعيم بموتك ويرثه غيرك، فنعيم الدنيا زائل لا محالة والآخرة خير وأبقى‫.‬ ﴿إِنَّ هَذَ﴾ إن هذا التذكير، هذا المعنى‫:‬ أفلح من تزكى ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾: الكتب السابقة‫.‬ بمعنى‫:‬ السور، أو القرآن كله، أوهذا الكلام -قد أفلح من تزكى والآخرة خير وأبقى-هذا في الصحف الأولى، في الكتب الأولى، التي هي ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ والصحف غير الكُتُب، وصحف إبراهيم كانت كلها أمثال، وصحف موسى كانت كلها عِبَر، وصحف موسى خلاف التوراة‫.‬ التوراة كتاب شَرْعٍ، فيه أمر ونهي إلى آخر ما في الكتب السماوية‫.‬ وأما الصحف فهي أمثال فقط، كما قيل‫:‬ عَجِبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعَجِبتُ لمن أيقن بالنار ثم يضحك، وعَجِبتُ لمن أيقن بالقَدَر ثم يَنْصَب، إن كان رزقك على الله فلا تحزن، كيف تَنْصَب وكيف تتعب وأنت تؤمن بالقضاء والقَدَر ورزقك عند الله محسوب‫.‬ تلك هي الأمثال، تلك هي الكلمات التي كانت في الصحف، ومن ضمنها ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾.‬

أيها الأخ المسلم؛ لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لعلمنا أن الدنيا وإن كانت من ذهب ولكنه يفنى والآخرة وإن كانت من خزف لكنه يبقى فالعقل يقول إنك تؤثر الخزف الذي يبقى على الذهب الذي يفنى، فكيف والدنيا من خزف والآخرة من ذهب؟ كيف؟ فعلى العاقل أن يعقل وأن يتعظ وأن ينظر في أمر نفسه‫.‬ ما من يوم يصبح إلا ويُنادَى العبد فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل فِيَّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو مضيتُ لا أعودُ إلى يوم القيامة‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ ما من صباح يصبح إلا ونسمع عن فلان كان ملء الأعين والأسماع وفجأة مات، الموت أقرب شيء إلينا وأبعد شيء عن تفكيرنا، وكأن الناس الذين تسمع بهم يموتون كأنهم يموتون وأنت لا تموت، ولو تيقن الإنسان من الموت ما حلا له عيش ولا ذاق لذة طعم، ومن أراد واعظاً الموت يكفيه، إذا تذكرتَ وعَلِمتَ أن الموت قريب منك أَملتَ في رحمة الله ولجأت إليه واستغفرت وتبُتَ ورَجَوتَ وسألتَ الله واسع مغفرته‫.‬‬‬‬‬‬