
سورة الأعلى
يأتي بعد ذلك في ترتيب المصحف سورة الأعلى، والتناسق والتناسب بين ترتيب السور في المصحف تناسب وتناسق مُعجِز، فما بين السور في ترتيبها تجد التناسق والانسجام والانتظام، وكذلك بين مُفتَتَح السورة وبين مُنتَهَى كل سورة وهكذا. وتأتي سورة الأعلى، وحين نزلت سورة الأعلى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وقد نزلت بمكة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : "اجعلوها في سجودكم" كما قال لهم حين نزل قول الله (تبارك وتعالى):(فَسَبِّح باسم ربك العظيم) "اجعلوها في ركوعكم"
سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى ﴿1﴾
ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿2﴾
وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴿3﴾
وَٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ ﴿4﴾
فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحْوَىٰ ﴿5﴾
أيها الأخ المسلم؛ اتق الله وانظر في أحوالك، وانظر إلى الدنيا واسمع للعبر والأمثال والتي جاءت في الصحف الأولى. عَجِبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعَجِبتُ لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعَجِبتُ لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، وعَجِبتُ لمن أيقن بالقَدَر كيف يَنْصَب، وعَجِبتُ لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل.
بَيَّنَ الله (تبارك وتعالى)بعض صفاته العليا: خَلَقَ فَسَوَّى، قَدَّرَ فَهَدَى، ومن كان هذا وصفه وجب الإيمان به ووجب تنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. وتأتي البشارة لسيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)بخيرَيِ الدنيا والآخرة.
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ﴿6﴾
إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴿7﴾
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴿8﴾
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ ﴿9﴾
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴿10﴾
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى ﴿11﴾
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿12﴾
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ﴿13﴾
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴿14﴾
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ﴿15﴾
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿16﴾
وَٱلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ وَأَبْقَىٰٓ ﴿17﴾
إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَىٰ ﴿18﴾
صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴿19﴾
(وأبقى) : لأنها دائمة لا تزول ولا تنقطع، وأما الدنيا فانية لا محالة، وما معك من نعيم لابد وزائل، إما يزول النعيم وتبقى أنت تتحسر، وإما يزول عنك النعيم بموتك ويرثه غيرك، فنعيم الدنيا زائل لا محالة والآخرة خير وأبقى. ﴿إِنَّ هَذَ﴾ إن هذا التذكير، هذا المعنى: أفلح من تزكى ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾: الكتب السابقة. بمعنى: السور، أو القرآن كله، أوهذا الكلام -قد أفلح من تزكى والآخرة خير وأبقى-هذا في الصحف الأولى، في الكتب الأولى، التي هي ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ والصحف غير الكُتُب، وصحف إبراهيم كانت كلها أمثال، وصحف موسى كانت كلها عِبَر، وصحف موسى خلاف التوراة. التوراة كتاب شَرْعٍ، فيه أمر ونهي إلى آخر ما في الكتب السماوية. وأما الصحف فهي أمثال فقط، كما قيل: عَجِبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعَجِبتُ لمن أيقن بالنار ثم يضحك، وعَجِبتُ لمن أيقن بالقَدَر ثم يَنْصَب، إن كان رزقك على الله فلا تحزن، كيف تَنْصَب وكيف تتعب وأنت تؤمن بالقضاء والقَدَر ورزقك عند الله محسوب. تلك هي الأمثال، تلك هي الكلمات التي كانت في الصحف، ومن ضمنها ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾.
أيها الأخ المسلم؛ لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لعلمنا أن الدنيا وإن كانت من ذهب ولكنه يفنى والآخرة وإن كانت من خزف لكنه يبقى فالعقل يقول إنك تؤثر الخزف الذي يبقى على الذهب الذي يفنى، فكيف والدنيا من خزف والآخرة من ذهب؟ كيف؟ فعلى العاقل أن يعقل وأن يتعظ وأن ينظر في أمر نفسه. ما من يوم يصبح إلا ويُنادَى العبد فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل فِيَّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو مضيتُ لا أعودُ إلى يوم القيامة. أيها الأخ المسلم؛ ما من صباح يصبح إلا ونسمع عن فلان كان ملء الأعين والأسماع وفجأة مات، الموت أقرب شيء إلينا وأبعد شيء عن تفكيرنا، وكأن الناس الذين تسمع بهم يموتون كأنهم يموتون وأنت لا تموت، ولو تيقن الإنسان من الموت ما حلا له عيش ولا ذاق لذة طعم، ومن أراد واعظاً الموت يكفيه، إذا تذكرتَ وعَلِمتَ أن الموت قريب منك أَملتَ في رحمة الله ولجأت إليه واستغفرت وتبُتَ ورَجَوتَ وسألتَ الله واسع مغفرته.