
سورة البروج
مقدمة
لقاؤنا مع سورة البروج، وسورة البروج سورة مكية، نزلت بمكة تُسَرِّي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن صَحْبِهِ، فقد تَحَزَّبَ الكفر والكِبر في حِلفٍ يعاند آيات نزلت على المأمون تبياناً. عذبوا المسلمين وآذوهم، حرقوهم بالنار، ضربوهم بالحجارة، كتفوهم بالحبال، آذوهم، ولم ينجُ من الأذى أحد، حتى سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)، آذوه بالكلام، آذوه باللمز وبالغمز وبالإشارة. نزلت سورة البروج تُسَرِّي وتُنَبِّه، وتأمر المؤمنين بالبصر وتُبَيِّنُ لهم كيف كان حال من قبلهم، كيف صبروا على الأذى، كيف جاهدوا في سبيل الله، كيف ضحوا بأنفسهم من أجل كلمة الحق. وتتوعد الكفار بمصير من كان قبلهم من الكفار، كيف كذبوا وكيف كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فأخذهم الله بذنوبهم.
أقسم الله (تبارك وتعالى) في أول السورة بقَسَم، وإنه لقَسَمٌ عظيم. يقول الله (عز وجل):
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ ﴿1﴾
وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ ﴿2﴾
وَشَاهِدٍۢ وَمَشْهُودٍۢ ﴿3﴾
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ وقيل في هذه الآيه ستة عشر قولاً -الشاهد هو الله ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ١٦٦] - الشاهد هو النبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٤٥] - الشاهد: كل نبي يشهد على أمته ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ٤١] - الشاهد: الإنسان ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٤] يشهد على نفسه. - الشاهد: الأعضاء، الألسنة، الجلود. - الشاهد: الـمَلَكُ الرقيب ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ٢١] - الشاهد: يوم الجمعة يشهد للمصلين فيه. - الشاهد: يوم النحر. - الشاهد: الحجر الأسود يشهد لكل من لمسه أو التمسه أو قَبَّلَه. - الشاهد: كل يوم، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (ليس من يومٍ يأتي على العبد إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خَلْقٌ جديد وأنا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل فِيَّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد مضيت لا آتي أبداً ويقول الليل مثل ذلك. - الشاهد: هو الأرض على كل عبدٍ أو أَمَة بما عمل فيها فتقول عمل كذا في يوم كذا ذاك هو ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [سورة الزلزلة آية: ٤] (وشاهد ومشهود) والشاهد بمعنى الحاضر، من الحضور، ﴿فمن شَهِدَ منكم الشهر فليَصُمْه﴾ [سورة البقرة آية: ١٨٥]. والشاهد: الـمُقِرُّ بخبر كمن يشهد على الخصم أو له ﴿وشَهِدَ شاهد من أهلها﴾ [سورة يوسف آية: ٢٦]. فإن كان معنى (شاهد): الحضور، فكل ما يحضر في هذا اليوم من خلائق شاهد، وكل ما في ذلك اليوم من عجائب وأهوال وغرائب مشهود. وإن كان الشاهد بمعنى الـمُقِرُّ بالخبر، الذي يشهد على غيره، فما من شيء إلا ويشهد يوم القيامة: الحافظ، الكاتب، الأعضاء، الإنسان يشهد على نفسه، النبي يشهد على الأمة، أمة النبي تشهد على الأمم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [سورة البقرة آية: ١٤٣] كُلٌّ شاهد، بل كل شيء يشهد. (والمشهود): المشهود عليه، أو المشهود: الحاضر الذي يشاهد، إن كان بمعنى الحضور أو الشهود عليه. المشهود: يوم عرفة تشهده الملائكه. المشهود عليه: الإنسان. المشهود: الله (تبارك وتعالى) تشهد له الخلائق بالوحدانية والكل يقر بوجوده ووحدانيته. المشهود: نبينا (صلى الله عليه وسلم) حين يُبعَثُ المقامَ المحمودَ. المشهود: يوم الجمعة. المشهود جاء فيه معانٍ كثيرة، كل ما يُشاهَد وكل ما يُشهَد عليه. والآية جاء الكلام فيها نكرة للإبهام، ولتعلم أن كل ما قيل في معنى الكلمتين (شاهد ومشهود) يندرج تحت الكلمة، نكرة للإبهام وللإفادة بأن كل ما يخطر على بالك من حضور أو من شهادة حاضر في ذلك اليوم.
قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلْأُخْدُودِ ﴿4﴾
ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ ﴿5﴾
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌۭ ﴿6﴾
وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌۭ ﴿7﴾
وَمَا نَقَمُوا۟ مِنْهُمْ إِلَّآ أَن يُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ﴿8﴾
ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ ﴿9﴾
﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ "إذ" ظرف زمان للماضي، أي قُتِلُوا ولُعِنُوا حين كانوا قاعدين على الأخدود حول النار حافين بها. ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ حين كانوا قاعدين حول هذه النار التي أضرموها في الأخدود أو الأخاديد. ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ على ما يفعلون بالمؤمنين في ذلك اليوم وفي هذا الأخدود هم شاهدون على ذلك، يشهد بعضهم لبعض، يتفاخرون بذلك، يذهبون لجبارهم ولسلطانهم الذي أمرهم بذلك فيذهبون ويشهدون لبعضهم البعض؛ هذا أحرق كذا وذاك أحرق كذا، فهم يشهدون لبعض بهذه الفعلة الشنعاء. أو ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾: يوم القيامة -وشاهد ومشهود-يشهدون على أنفسهم، تشهد جوارحهم وجلودهم عليهم. تُرَى ماذا فعلوا بالمؤمنين؟ ماذا فعلوا بهم؟ ولماذا؟ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ نَقَمُوا، نَقِمُوا قراءة، وبالفتح أفصح. نَقَمَ: كَرِهَ، نَقَمُوا: كَرِهُوا. ماالذي كرهوه؟ ما الذي اعترضوا عليه؟ أنهم آمنوا؟ آمنوا بماذا؟ بالله العزيز الحميد. تأتي الأوصاف لتبين لك أنهم على الحق، هؤلاء المؤمنين آمنوا بالله العزيز: الغالب القوي القاهر الذي يُخشَى عقابه. الحميد: الـمُنعِم ذو الفضل والإحسان الذي يُرجَى ثوابه. إذاً فقد كانوا على الحق. وما ضر الكفار أن يؤمن هؤلاء؟ وما ضرهم وخاصة أنهم كانوا على الحق؟ وتأتي الآية في صيغة الذَّمِّ ولكنها تعنى المدح لهؤلاء، أي كرهوا منهم وما نَقَمُوهم إلا أنهم كانوا على الحق إذ آمنوا بالله العزيز الحميد. ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذاً هو المالك والخالق والرازق لكل شيء المستحق للعبادة. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾: إذاً هو شاهد يسمع ويرى. والآية فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكفار. وعد للمؤمنين بأنه يشاهد ما تَلقَون من عذاب وعَنَت فيثيبكم على صبركم وثباتكم على إيمانكم. ووعيد للكفار لأن الله مُشاهِد لما يصنعون ولما يفعلون، أحصى عليهم كل شيء فهو مؤاخذهم ومجازيهم على كفرهم وعلى إيذائهم للمؤمنين.
ويحكي لنا المصطفى القصه بالتفصيل فيقول فيما يرويه عنه الإمام مسلم في صحيحه من رواية صهيب حيث رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يلقاه المؤمنين من عَنَت وعذاب فأراد أن يُسَرِّي عنهم ويُثَبِّت أقدامهم وإيمانهم. يقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "كان مَلِكٌ فيمن كان قبلكم وكان له ساحر - وملوك الأزمان الغابرة كانوا يستعينون بالـمُنَجِّمين وبالسحرة- فكَبُرَ الساحر فقال للملك أيها الملك لقد كَبِرتُ فأرسل إليَّ غلاماً أُعَلِّمَه فأرسل إليه غلاماً يُعَلِّمُه فكان الغلام في مَسْلَكِهِ إلى الساحر فلقي راهباً فجلس إليه وسمع منه فأعجبه الكلام وبدأ الغلام يختلف إلى الساحر، وهو في طريقه إلى الساحر يمر على الراهب فيجلس إليه ويسمع منه ويتعلم منه، فشكى يوماً للراهب حيث يضربه الساحر لتأخره، فقال له الراهب: يا بني إن خشيتَ الساحر فقل حبسني أهلي -أي تأخرت عند أهلي- وإن خشيتَ أهلك فقل حبسني الساحر وأجاز له ذلك، أجاز له الكذب خشية الفتنة. وأخذ الغلام يختلف إلى الساحر وهو في طريقه يمر على الراهب يجلس إليه ويتعلم منه الإيمان. وفي يوم من الأيام والغلام في طريقه إلى الساحر وجد في الطريق دابة عظيمة حبست الناس في الطرقات فلا يستطيع أحد منهم أن يمضي، دابة عظيمة، قيل أسد وقيل حية، دابة، وحش في الطريق والناس في خوف وهلع، الكل يخشى أن يمضي في طريقه، فقال الغلام في نفسه اليوم أَعلَمُ آلساحر أَحَبُّ إلى الله أم الراهب، أو اليوم أَعلَم أَمرَ الساحر أَحَبُّ الله أم أَمرَ الراهب. فهو يتعلم السحر من الساحر وفي نفس الوقت يتعلم العقيدة والإيمان والتقوى من الراهب، والتقط من الأرض حجراً وتوجه قِبَلَ الدابة -وهو غلام-وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، وألقى بالحجر على الدابة فقُتِلَت ومضى الناس في طريقهم، وذهب الغلام إلى الراهب يحكي له فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني ولسوف تُبتَلَى فإن ابتُلِيت فلا تدل عَلَيَّ. وكان الغلام بعد ذلك يُبرِئُ الأكمه والأبرص ويشفي الناس من كافة الأدواء، وكان للملك جليس عمي بصره فسمع بالغلام فذهب إليه وأخذ له هدايا كثيرة عظيمة وقال له: يا بني كل ما ها هنا أجمع لك إن شفيتني. فقال الغلام: أنا لا أشفي أحداً ولكن الله يشفي، فقال الجليس: الله؟ أي إله؟ الله رب السماوات والأرض. قال: والـمَلِك؟ الملك رب البلاد؟ قال: بل ربي وربك ورب المـَلِك هو الله الذي لا إله إلا هو، آمِن بالله فإن آمنتَ بالله دعوتُ الله لك فشفاك ورد إليك بصرك، فآمَنَ الجليس بالله فدعا الغلام ربه فشُفِيَ الجليس ورُدَّ إليه بصره. وعاد الجليس إلى الملك يجلس إليه فتعجب الملك وقال سائلاً الجليس: من رد إليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ربك؟ أي رب هذا؟ قال: رب السماوات والأرض، رب الخلق جميعاً، فأخذه الملك فعذبه حتى دَلَّ على الغلام، وجيء بالغلام وعُذِّبَ تعذيباً شديداً حتى دَلَّ على الراهب وقد حَذَّرَه وقال لسوف تُبتَلَى فإن ابتُلِيتَ فلا تَدُلَّ عَلَيَّ لكنه دَلَّ عليه من شدة التعذيب، فجيء بالراهب في حضرة الملك وراوده الملك وأمره أن يرجع عن دينه فأبى، وحين أبى جيء بالمنشار ووُضِعَ المنشار على مفرق رأسه ونُشِرَ رأسه حتى سقط شِقُّه أمام الجليس وأمام الغلام. ثم جيء بالجليس وقيل له ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر الملك بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونُشِرَ حتى سقط شِقُّه، وجاء الملك بالغلام وأمره أن يرجع عن دينه -وقد كان يعتقد أن الغلام يفعل ذلك بالسحر حين رأى الجليس قد رُدَّ إليه بصره- ولكن الغلام أبى أن يخدع نفسه وأراد أن يعلنها واضحة صريحة، إذ حين سأله الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تشفي الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: لا ولكن الله يشفي، وأعلنها واضحة صريحة، وهذا الإعلان نتج منه أن عُذِّبَ الراهب ووُضِعَ المنشار على رأسه ووُضِعَ المنشار على رأس الجليس، وقُتِلَ الجليس وقُتِلَ الراهب. ويبدو أن الملك كان حريصاً على حياة الغلام لما رأى على يديه من معجزات فلم يأمر بالمنشار ولكنه دعى بعضاً من أصحابه وقال: خذوه واذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل حتى إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فأخذوا الغلام وذهبوا إلى جبل كذا وكذا وصعدوا إلى ذروة الجبل وراودوه فقال الغلام: اللهم اكفِنِيهم بما شئت، فَرَجَّ الجبل وسقط الأحراس جميعاً هلكى وعاد الغلام يمشي إلى الـمَلِك فسأله: مابال أصحابك وأين هم؟ قال لقد كفانيهم الله، فأمر بأصحاب آخرين -أحراس أشداد- وقال خذوه وضعوه في قرقور -أي سفينة- وامضوا به إلى وسط البحر فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه، فأخذوه في السفينة وذهبوا به إلى وسط البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فهاج البحر وماج وانقلبت السفينة وغرق الناس –الأحراس- وعاد الغلام يمشي إلى الملك، وسأله الملك: أين أصحابك وما خبرهم؟ قال لقد كفانيهم الله، أيها الملك اسمع إنك لن تبلغ ما تريد من قتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس جميعاً في صعيد واحد ثم تصلبني إلى جذع ثم تأخذ سهماً من كنانتي -الكنانة: جعبة السهام- فتضعه في قلب القوس ثم تقول: باسم الله رب الغلام، وترميني بالسهم إن فعلتَ ذلك قتلتني وبغير ذلك لن تقتلني، فأمر الملك فنودي في الناس فجُمِعَ الناس في صعيد واحد وجيء بالغلام وصُلِبَ على جذع شجرة وجاء الملك أمام الجمع وأخذ سهماً من كنانة الغلام ووضعه في القوس ثم نادى وقال: باسم الله رب الغلام، ورمى بالسهم فسقط السهم في صدغ الغلام فوضع يده ومات، فهتف الناس جميعاً: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. وقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك فقد آمن الناس جميعاً برب الغلام، فأمر الملك بالأخدود فشُقَّ على أفواه السكك وأُضرِمَ فيه النار وأمر جنوده وأحراسه أن يقفوا على رؤوس الطرق ويقال للمؤمنين: ارجع عن دينك وإلا فاقتحم، يُقالَ اقتحم -أي أَلقِ بنفسك في الأخدود، في النار- وشُقَّت الأخاديد على أفواه السكك وأُضرِمَت فيها النيران العظيمة المتأججة، وسِيقَ الناس إلى الأخاديد ووقف حراس الكافر وجنوده على هذه الأخاديد، وكلما مَرَّ رجل أو امرأة قيل له: تؤمن برب الغلام؟ فإن قال نعم قيل له اقتحم فيلقي بنفسه في النار حتى جاءت امرأة ومعها صبي صغير تحمله قيل لها: تؤمنين برب الغلام؟ قالت: نعم، قيل لها: اقتحمي، قتقاعست شفقةً على غلامها، فنطق الغلام وقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق! فألقت بنفسها في النار. وقيل إن الله (تبارك وتعالى) من رحمته قبض أرواح المؤمنين قبل أن تصل أجسادهم إلى النار فلم يشعروا بلهيبها ولا حرها بل وهم يقذفون أنفسهم كانت أرواحهم تصعد إلى أعلى الجنان، وإذا بالنيران في الأخاديد تنقلب على من أوقدوها فتحرقهم. (النار ذات الوقود) بهذه القراءة بمعنى النار ذات الوقود أحرقت من أوقدها. من هنا كانت السورة التي نزلت بمكة تبشر المؤمنين وتثبتهم وتسري عنهم. هاهم قد صبروا، ها هو الغلام قد ضحى بنفسه كي يؤمن الناس، وهاهم المؤمنون قد ألقوا بأنفسهم إلى النار ولم يرجعوا عن دينهم، وها هم الكفار أحرقتهم النار وتوعدهم ربنا (تبارك وتعالى). أيها الأخ المسلم؛ ربنا (تبارك وتعالى) حمد نفسه من الأزل فهو الحميد بحمده لنفسه أزلاً وبحمد عباده له أبداً، له الحمد الحق لجلال وجهه وعظيم سلطانه. ويقول الله تبارك وتعالى حاكياً عن أولئك الكفرة :
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا۟ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا۟ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ ﴿10﴾
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ جَنَّـٰتٌۭ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ ﴿11﴾
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾
إِنَّهُۥ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿13﴾
وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ ﴿14﴾
ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ ﴿15﴾
فَعَّالٌۭ لِّمَا يُرِيدُ ﴿16﴾
﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ أي المجيد هو الله. أو ﴿ذو العرشِ المجيدِ﴾ صفة للعرش -قراءة-وقُرِئت ﴿ذي العرشِ المجيدِ﴾ نعت لربك. العرش أكبر مخلوقات الله على الإطلاق. أرأيتم السماوات السبع؟ أبداً لكنا سمعنا عنها وسمعنا عن عِظَمِها مالا يخطر على البال. السماوات السبع والأراضين السبع كل ذلك بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة من الأرض! وكأن السماوات السبع بما فيها والأراضين وكل ما في هذا الوجود لو وُضِعَ إلى جوار ساق العرش لبدا كحبة رمل في صحراء. العرش عرشه، (ذو العرش): العرش المخلوق، أول خَلْقِ الله العرش، وأعظم خَلْقِ الله العرش. أو (ذو العرش): كناية عن السلطان والقوة والقهر. (المجيد) الله. المجد: الشرف، عظيم الشرف، رفعة المكانة والقدر. إذا اقترن شرف الذات بجميع الفِعَال فذاك هو المجد. المجد شرفٌ في الذات ثم جمال في أفعال هذه الذات. ربنا (تبارك وتعالى) هو المجيد المطلق، الشريف ذاتُهُ الجميل فِعَالُهُ الجزيل عطاؤه العظيم نَوَالُه. المجيد المطلق هو الله، المجيد المطلق، له المجد، له العزة، له العظمة، له الشرف أزلاً وأبداً.
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ تعلق إرادة الله (تبارك وتعالى) بالشيء يَحدُثُ بين الكاف والنون "كُن فيكون" أمره لا يُعجِزُهُ شيء أبداً، فَعَّالٌ لما يريد، لا يحتاج إلى جارحة كاليد وما إلى ذلك، لا يحتاج إلى أداة، لا يحتاج إلى آلة، لا يحتاج إلى مادة، فالصانع يصنع صنعته من المادة الخام؛ فالنجار يصنع الكرسي من الخشب، لكن الله حين صنع صنعته لم يصنعها من مادة خام، صنعها من لا شيء "كُنْ" بغير مادة، بغير جارحة، بغير أداة، بغير إعانة، بغير احتياج، بغير تَرَبُّص زمان، بكلمة "كُنْ" فَعَّال لما يريد.
ثم يأتي التسرية للنبي (صلى الله عليه وسلم) والتشويق:
هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ ﴿17﴾
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿18﴾
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى تَكْذِيبٍۢ ﴿19﴾
وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌۢ ﴿20﴾
بَلْ هُوَ قُرْءَانٌۭ مَّجِيدٌۭ ﴿21﴾
فِى لَوْحٍۢ مَّحْفُوظٍۭ ﴿22﴾
أيها الأخ المسلم؛ الإيمان محتاج لصبر، والصبر أنواع: صبر على الطاعة، صبر عن المعصية، صبر على الأذيى. صبر بالله، وصبر في الله، وصبر مع الله. وإن كان الأناس الذين آمنوا فيما مضى عُذِّبُوا وحُرِّقُوا ونُشِرَت رؤوسهم بالمناشير، بل مُشِّطَت أجسادهم بأمشاط الحديد التي خلصت بين اللحم والعظم، وفُعِلَ بهم وفُعِلَ بهم وما أَمْرْ بلالٍ عنكم ببعيد، وما حدث لعائلة عمار بن ياسر ما هو عنكم ببعيد، صبروا. ونحن الآن والحمد لله في أمان وفي اطمئنان ليس وراءنا جبار ينهانا عن صلاتنا وليس أمامنا جبار يردنا عن ديننا، لا نُعَذَّب ولا نُفتَن ولا نُسجَن ولا نُحَرَّق ولا نُفتَن في ديننا، بل هاهي مساجد الله مفتوحة، وهاهم الدعاة يتكلمون بحرية، وهاهم الناس يُصَلُّون إذا شاءوا، فأين الطاعة وأين العمل بما أنزل الله؟ أين وقد أَمَّنَنا ربنا تبارك وتعالى؟ لِمَ لَمْ نبتعد عن المعاصي؟ لِمَ وقد أخذتنا الدنيا نصارعها وتصارعنا؟ لِمَ نُزِعَت الرحمة من قلوب العباد؟ أين الشفقة؟ أين الرحمة؟ أين التوادد؟ أين ذهب كل ذلك؟ وصدقت يا سيدي يا رسول الله حيث قلت: "يأتي زمان على أمتي يكون القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من النار"