
سورة الانشقاق
لقاؤنا مع سورة الانشقاق. سورة الانشقاق سورة مكية، أي نزلت بمكة، وشأنها شأن السور المكية تُحَدِّثُ عن القيامة وأهوالها، تؤكد على وحدانية الله (تبارك وتعالى)، وتحذر وتنذر وتبين مصير الناس. يقول الله (عز وجل):
إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ ﴿1﴾
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾
وَإِذَا ٱلْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿5﴾
﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾: بُسِطَت. وكما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) الأرض فقال عنها: "تُمَدُّ كَمَدِّ الأديم –البساط-" إذا مُدَّ البساط هل ترى فيه ثني أو اعوجاج؟ فكذلك الأرض تُمَدُّ، تُمَدُّ فتُدَكُّ الجبال دكاً فلا ترى في الأرض عوجاً ولا أَمْتَاً، ليس فيها حُفَر وليس فيها انخفاضات وليس فيها ارتفاعات، بل هي مسطحة ممدودة كما يُمَدُّ البساط. ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ كناية عن شدة الأمر، كما تلقي الحامل بحملها عند الشدة، فإذا رأت المرأة الحامل شدة أو أصابها هلع أسقطت حملها من الهول ومن الخوف ومن الرعب، فكذلك الأرض في ذلك اليوم تلقي ما فيها كما تلقي الحامل حملها، فكذلك الأرض ألقت ما فيها، أخرجت الجثث، أخرجت الموتى، أخرجت العظام، أخرجت الكنوز، أخرجت المعادن، أخرجت كل شيء في بطنها استودعها الله إياه، أخرجت كل شيء وأصبحت خاوية تماماً. ﴿وتَخَلَّت﴾: تَخَلَّت عن كل شيء فهي خالية، ألقت ما فيها من أموات وتخلت عما عليها من أحياء. ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ وأَذِنَت: واستمعت للأمر بالامتداد وبالتخلي عما في بطنها وبإلقاء ما على ظهرها، أَذِنَت واستمعت وحُقَّ لها أن تستمع، كيف لا تستمع؟ هي جديرة بالاستماع وهي حقيقة وخليقة بذلك، فقد خلقها الله (تبارك وتعالى) وأمرها بالإتيان وها هو يأمرها بالاندثار،كل ما عليها من ممالك، من قصور، من كنوز، من أناس، من عمارات، من بهجة، من كل شيء، ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أعطاهم الله (تبارك وتعالى) العلم وعَلَّمَهم مالم يعلموا فاستغلوا العلم في معصية الله، استغلوا ما عَلَّمَهُم الله (تبارك وتعالى) في الشرور وفي الحروب وفي التدمير، هاهم يسارعون إلى تدمير بعضهم البعض فسوف يأتي يوم يدمر فيه الله الجميع.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًۭا فَمُلَـٰقِيهِ ﴿6﴾
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ﴿7﴾
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًۭا يَسِيرًۭا ﴿8﴾
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ مَسْرُورًۭا ﴿9﴾
وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهْرِهِۦ ﴿10﴾
فَسَوْفَ يَدْعُوا۟ ثُبُورًۭا ﴿11﴾
وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿12﴾
إِنَّهُۥ كَانَ فِىٓ أَهْلِهِۦ مَسْرُورًا ﴿13﴾
إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴿14﴾
بَلَىٰٓ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرًۭا ﴿15﴾
وبضدها تتميز الأشياء: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾ وقُرِئت (ويَصلَى) (ويُصلَى) (ويُصَلَّى). أَصْلَاهُ وصَلَاه وصَلَّاه لغات كلها بمعنى واحد. مرة يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [سورة الحاقة آية: ٢٥] في سوره أخرى، وفي هذه السورة -والتي نحن بصددها- يقول: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ هل هما فريقان؟ أبداً! هو فريق واحد. قالوا يَمُدُّ يُمنَاه ليَتَلَقَّى كتابه كما رأى من تَلَقُّوا كتبهم بأيمانهم فيَغْتَرُّ، يَمُدُّ يمينه فيمسكها المــَـلَك فيخلعها منه. وقيل بل تُغَلُّ يمينه إلى عنقه فلا يستطيع أن يَمُدَّ يمينه، وأما شماله فلا يستطيع أن يمدها إلى الأمام بل تدور شماله خلف ظهره فيتلقى كتابه بشماله من وراء ظهره، فمن أوتي كتابه بشماله هو الذي أوتي كتابه من وراء ظهره. وقالوا بل تدخل شماله في صدره فتمزق أضلاعه وتخرج شماله من ظهره فيتلقى كتابه بشماله من وراء ظهره. تلك أنواع لتَلَقَّي الكتاب. هؤلاء يتلقون كتبهم بأيمانهم وهؤلاء يتلقون كتبهم بشمالهم. الفريق الأول الذي تلقى كتابه بيمينه وبُشِّر ينقلب إلى أهله مسروراً، والذي تَلَقَّى كتابه من وراء ظهره يدعو هنالك ثبوراً. أما الأول فينقلب -أي يرجع رجوعاً محموداً- إلى أهله، أَهُم أهله في الدنيا؟ قد، قد يرجع إلى أهله وعشيرته من المؤمنين الذين لاقوا مصيره من اليمين والحساب اليسير والبشارة، يرجع إليهم فرحاً مسروراً مستبشراً، ها هو الكتاب، تَلَقَّيتُ كتابي بيميني، فيستبشر إلى أهله في الدنيا، عشيرته، إخوانه في الله، أحبابه في الله من أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) ومن جميع الأمم، كل مؤمن يرجع إلى أهله من أمته. وقيل بل الأهل هنا هم أزواجه من الحور العين ينقلب إليهم مسروراً فيتلقونه بالبِشرِ والحُبُور. وأما الآخرون الذين تلقوا الكتاب بالشمال من وراء ظهورهم فسوف يدعو ثبوراً: أي هلاكاً، يدعو على نفسه، يصرخ ويقول يا ثبوراه يا هلاكاه ياويلاه، هو يدعو على نفسه. هذا يرجع مسروراً وهذا يقف في محله يدعو على نفسه، بل يطلب الهلاك وكأنه ينادي على الهلاك وينادي على الدمار وينادي على الألم والعذاب، ينادي عليه: يا ويلتي، ومنهم من يقول: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(٢٨)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٢٨- ٢٩] وهناك من يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٢٧] ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾ بدلاً من أن ينقلب إلى أهله مسروراً بل يصلى سعيراً، يدخل النار. والسعير: اسم من أسماء جهنم، بل هي طبقة من طِبَاقِها، يصلى حرها ولهيبها ويذوق ذلك، يُشوَى فيها. ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ هذا الذي يصلى سعيراً، الذي تَلَقَّى كتابه وراء ظهره، كان في أهله، في الدنيا مسروراً: أي فَرِحَاً بَطِرَاً أَشِرَاً. ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ ظَنَّ: تَيَقَّن. وكلما تأتي كلمة الظن وتُنسَب للكفار في القرآن تعني اليقين. ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ تَيَقَّن أنه لن يرجع، تَيَقَّن من انعدام البعث، تَيَقَّن من أن هذه هي حياته الدنيا يموت ويحيا وما يهلكه إلا الدهر كما زعموا ذلك، إنه ظن أن لن يرجع إلى الله (تبارك وتعالى) ويُبعَث ويُحاسَب. (بلى) أي ليس الأمر كما ظَنَّ وتَوَقَّعَ وتَيَقَّن. لا والله ليُبعَثَنَّ وليُرْجَعَنَّ وليُسأَلَنَّ. ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ عالماً به من قبل أن يُخلَق، ألا يعلم من خَلَق؟ بلى يعلم، إنه كان به بصيراً من قبل أن يُخلَق، وحين كان في رحم أمه، وحين ولدته أمه، وهكذا إلى أن مات ودُفِنَ في قبره، ثم بُعِثَ بعد ذلك، ثم جاء إلى ربه، إنه كان به بصيراً عالماً به، فكيف يكون عالماً به ولا يبعثه ولا يجازيه ولا يحاسبه؟
أيها الأخ المسلم؛ يُلاحَظ في الآيات أمر وهو السرور، أناس رزقهم الله السرور في الآخرة وأناس كانوا في سرور في الدنيا. من رزقهم الله السرور في الآخرة هم المؤمنون ومن كانوا مسرورين في الدنيا هم الكافرون. إذاً فمن خاف الله (تبارك وتعالى) في الدنيا وكان حزيناً خائفاً رُزِقَ السرور في الآخرة، ومن كان فَرِحَاً أَشِرَاً بَطِرَاً مُتَنَعِّماً مُتَرَفِّهاً في الدنيا جاء في الآخرة فلم يجد لحظة من السرور. ولذا تجد ربنا (تبارك وتعالى) وصف أحوالهم في مواقع أخرى فقال عن المؤمنين حكاية عنهم: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُفِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ(٢٦)فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ(٢٧)﴾ [سورة الطور آية: ٢٦- ٢٧] ويقول عنهم: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٠٧] وإذا تُتلَى عليهم الآيات وَجِلَت القلوب واقشعرت الأبدان، إذا ذكر الله وَجِلَت قلوبهم، إذاً فقد كانوا في الدنيا خائفين وَجِلِين، إن أتتهم الضراء صبروا وإن أتتهم السراء شكروا وعلموا أن الله يُقَلِّب الأحوال فلم يفرحوا ولم يحزنوا ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [سورة الحديد آية: ٢٣] هاهي أوصاف المؤمنين في الدنيا؛ لا يفرح بالنعمة وإنما يحمد الـمُنعِم ولا يفرح، ولا يجزع من المصيبة أو يهلع بل يصبر عند مواقع القدر ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)﴾ [سورة المعراج آية: ١٩-٢١] تلك أوصاف المؤمنين في الدنيا. وأما أوصاف الكفار في الدنيا فربنا يقول عنهم ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾.
أيها الأخ المسلم؛ يروي نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن رب العزة في حديث قدسي حيث يقول: "لا أجمعُ على عبدي خوفين وأمنين أبداً فمن خافني في الدنيا أَمَّنْتُهُ يوم القيامة ومن أَمِنَني في الدنيا خَوَّفتُه يوم القيامة."
بعد أن بَيَّنَ الله (تبارك وتعالى) مصير الناس يُقسِم ويُقسِمُ بأمورٍ عظيمة تدل على قدرته وعلى تدبيره وعلى وحدانيته. يقول الله (عز وجل):
فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ ﴿16﴾
وَٱلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿17﴾
وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ ﴿18﴾
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍۢ ﴿19﴾
ثم يأتي سؤال استنكار، سؤال تعجيب بعد كل ذلك:
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْءَانُ لَا يَسْجُدُونَ ۩ ﴿21﴾
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يُكَذِّبُونَ ﴿22﴾
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴿23﴾
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾
إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۭ ﴿25﴾
أيها الأخ المسلم؛ يحكي لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) مشهداً من مشاهد الآخرة فيقول: في يوم القيامه والكل في فزع والكل في هلع والكل ينتظر الحساب ينادي من قِبَلِ العلي الأعلى في أهل الموقف جميعاً لِيَقُم من كان أجره على الله، فيقوم أناس يعرفون أنفسهم يُلهَمون، فيقوم هؤلاء الناس فيجتمعون فيُؤذَن لهم إلى الجنة، فيتوجهون إلى الجنة، يتوجهون مجموعات، جماعات، زُمَرَاً إلى الجنة، فتقف الملائكه أمامهم -خَزَنَةُ الجنة- إلى أين؟ فيقولوا: إلى الجنة. إلى الجنة؟! كيف إلى الجنة ولم يُنصَب الميزان ولم يُنشَر الديوان؟ فيقول هؤلاء: لقد أُمِرنَا بذلك وأُذِنَ لنا، فتتساءل الملائكة وتقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن الصابرون. فتُفَتَّحُ لهم الأبواب وتقول لهم الملائكة: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنِعمَ عُقبَى الدار. نعم يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.