سورة الانشقاق

لقاؤنا مع سورة الانشقاق‫.‬ سورة الانشقاق سورة مكية، أي نزلت بمكة، وشأنها شأن السور المكية تُحَدِّثُ عن القيامة وأهوالها، تؤكد على وحدانية الله (تبارك وتعالى)، وتحذر وتنذر وتبين مصير الناس‫.‬ يقول الله (عز وجل):

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾ وَإِذَا ٱلْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿5﴾
التدمير، تدمير العالم، فالعالم لا يساوي عند الله جناح بعوضة، تدمير كل ما تراه الأعين أو وصل إليه علم الإنسان‫.‬ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ تصدعت وتهدمت وتشققت بالغمام كقوله (عز وجل): ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٢٥] إذا حدث ذلك وتشققت السماء فتلك علامة كبرى من علامات الساعة، أو هي بوادر قيام الساعة‫.‬ (وأَذِنَت لربها وحُقَّت) أَذِنَت‫:‬ استمعت‫.‬ أَذِنَ للشيء‫:‬ استمع، ومنه حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول‫:‬ (ما أَذِنَ الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) أي ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن‫.‬ أَذِنَ إذناً: استمع‫.‬ أي استمعت السماء لأمر الله بالانشقاق‫.‬ ﴿وَحُقَّتْ﴾ أي وحُقَّ لها أن تطيع وأن تسمع‫.‬ حُقَّ له فهو حَقِيقٌ به ومَحقُوق‫:‬ أي جدير به وخليق به‫.‬ أي حُقَّ للسماء أن تطيع وكيف لا تطيع ربها الذي خلقها وهي تعرفه؟ وحين خلقها وأمرها هي والأرض ﴿ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ١١] حُقَّ لها أن تطيع، أي وجب عليها ذلك، ومالها لا تطيع؟ وكيف لا تطيع؟ بل جدير بها وخليق بها أن تطيع أمر ربها‫.‬ والآية إما على الحقيقة وإما على المجاز‫.‬ فإن كانت على المجاز فالكلام معناه أن السماء إذا أمر الله (تبارك وتعالى)، أو تعلقت إرادته بانشقاقها وانهدامها تهدمت وأسرعت في الانهدام إسراع المأمور المطيع إذا جاءه أمر الآمِر المطاع‫.‬ أو خلق الله (تبارك وتعالى) فيها عقلاً وسمعاً فسمعت فأطاعت إطاعة العاقل كما أطاعت هي والأرض حين قالتا ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾: بُسِطَت‫.‬ وكما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) الأرض فقال عنها‫:‬ "تُمَدُّ كَمَدِّ الأديم –البساط-" إذا مُدَّ البساط هل ترى فيه ثني أو اعوجاج؟ فكذلك الأرض تُمَدُّ، تُمَدُّ فتُدَكُّ الجبال دكاً فلا ترى في الأرض عوجاً ولا أَمْتَاً، ليس فيها حُفَر وليس فيها انخفاضات وليس فيها ارتفاعات، بل هي مسطحة ممدودة كما يُمَدُّ البساط‫.‬ ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ كناية عن شدة الأمر، كما تلقي الحامل بحملها عند الشدة، فإذا رأت المرأة الحامل شدة أو أصابها هلع أسقطت حملها من الهول ومن الخوف ومن الرعب، فكذلك الأرض في ذلك اليوم تلقي ما فيها كما تلقي الحامل حملها، فكذلك الأرض ألقت ما فيها، أخرجت الجثث، أخرجت الموتى، أخرجت العظام، أخرجت الكنوز، أخرجت المعادن، أخرجت كل شيء في بطنها استودعها الله إياه، أخرجت كل شيء وأصبحت خاوية تماماً. ﴿وتَخَلَّت﴾: تَخَلَّت عن كل شيء فهي خالية، ألقت ما فيها من أموات وتخلت عما عليها من أحياء‫.‬ ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ وأَذِنَت‫:‬ واستمعت للأمر بالامتداد وبالتخلي عما في بطنها وبإلقاء ما على ظهرها، أَذِنَت واستمعت وحُقَّ لها أن تستمع، كيف لا تستمع؟ هي جديرة بالاستماع وهي حقيقة وخليقة بذلك، فقد خلقها الله (تبارك وتعالى) وأمرها بالإتيان وها هو يأمرها بالاندثار،كل ما عليها من ممالك، من قصور، من كنوز، من أناس، من عمارات، من بهجة، من كل شيء، ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أعطاهم الله (تبارك وتعالى) العلم وعَلَّمَهم مالم يعلموا فاستغلوا العلم في معصية الله، استغلوا ما عَلَّمَهُم الله (تبارك وتعالى) في الشرور وفي الحروب وفي التدمير، هاهم يسارعون إلى تدمير بعضهم البعض فسوف يأتي يوم يدمر فيه الله الجميع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًۭا فَمُلَـٰقِيهِ ﴿6﴾
الكلام فيه شرط وجواب الشرط محذوف للتهويل والتفظيع؛ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)﴾ ماذا يحدث في هذه الحالة؟ أين الإجابة؟ ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾ ماذا يحدث؟ لك أن تتخيل‫:‬ عَلِمَ الإنسان مصيرَه، لقي الإنسانُ ربَّه، وجد الإنسانُ عملَه، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ قد تكون الإجابة، يؤتى أناسٌ كُتُبَهم بأيمانهم وآخرون يؤتون الكتب بشمالهم‫.‬ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ والخطاب عام لكل إنسان‫.‬ ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ الكَدْح‫:‬ الجهد، جهد النفس في العمل والعناء‫.‬ وأصل الكلمة من كَدَحَ جِلدَه‫:‬ خَدَشَهُ. فكذلك كَدْحُ الإنسان‫:‬ الجهد، الجهد المبذول في هذه الحياة الدنيا، العناء، الشدة، المشقة، السَّقَم، المرض بعد الصحة، الفقر بعد الغِنَى وهكذا‫.‬ الإنسان منذ وُلِدَ يسعى في هذه الأرض في شقاء، في كَدْح، يَكِدُّ ويكدح ويتعب في هذه الدنيا، فكَادِحٌ من أجل الآخرة وكَادِحٌ من أجل الدنيا، الكل يتعب، الكل يَكِدّ، الكل يجهد‫.‬ من يريد الدنيا كادح فيها ومن يريد الآخرة عامل لها‫.‬ (إنك كادح إلى ربك كدحاً فمُلاقيه) فملاقي الله (تبارك وتعالى)، أو ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ ملاقي كَدْحَك، أي نتيجة عملك، أي الثواب أو العقاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًۭا يَسِيرًۭا ﴿8﴾ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ مَسْرُورًۭا ﴿9﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهْرِهِۦ ﴿10﴾ فَسَوْفَ يَدْعُوا۟ ثُبُورًۭا ﴿11﴾ وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿12﴾ إِنَّهُۥ كَانَ فِىٓ أَهْلِهِۦ مَسْرُورًا ﴿13﴾ إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴿14﴾ بَلَىٰٓ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرًۭا ﴿15﴾
الكتاب‫:‬ صحائف الأعمال، والإنسان إذا كان نطفة في رحم الأم تولى أمره مَلَك، مَلَك الأرحام يتوجه إلى الله العلي القدير ويقول‫:‬ يارب نطفة، يارب علقة، يارب مضغة، يارب مُخَلَّقة أم غير مُخَلَّقة، فإذا قضى الله (تبارك وتعالى) أن تكون مُخَلَّقَة أمر المــَـلَك فكتب، كتب أَجَلَه وكتب رزقه وكتب أثره، الحركة والسكون، أنفاس معدودة في أماكن محدودة، خطوات الإنسان، كل شيء، كتب أثره وشقي أم سعيد‫.‬ فإذا وُلِدَ الإنسان تولى أمره مَلَكٌ آخر بأمر الله يكلؤه ويرعاه ويحميه ويراعيه حتى يَشُبَّ وحتى يبلغ الحُلُم ويُدرِك، فيتركه الـمَلَك الثاني وينزل إليه مَلَكان؛ مَلَك اليمين ومَلَك الشمال لكتابة أعماله فقد أصبح مُكَلَّفاً، لا يفارقانه أبداً إلا حين يختلي مع زوجته فتستحي الملائكة وتتركه، أو يكشف عن عورته في حَمَّامه فتتركه الملائكة حياءً، لذا أمرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن نستحي من الله حق الحياء وأمرنا بعدم كشف عوراتنا حتى في الخلوة إلا أن يكون هناك ساتر‫.‬ فإذا مات الإنسان طَوَى الملكان صحيفته وصعدا بها وجاءه ملك الموت فقبض روحه وبقي قابضاً لها حتى يُغَسَّل ويُكَفَّن ويُدفَن في قبره فينزل إليه فيرد إليه روحه ثم ينزل مَلَكَان آخران؛ ملائكة القبر للسؤال‫:‬ مَنْ رَبُّك؟ وما دينك؟ وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ -يعنيان به محمد (صلى الله عليه وسلم)- ثم بعد ذلك يتركانه لمصيره إما طاقة من الجنة ينظر إليها ويقال له ذلك مقعدك من الجنة فانظر إليه حتى تُبعَث إليه، أو طاقة من السعير والعياذ بالله ويقال له هذا موقعك ومقعدك من النار فانظر إليه حتى تُبعَث إليه ثم يتركانه لمصيره، القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حُفَرِ النار، ويصعدان فإذا قامت القيامة نزل المـَلَكان اللذان كانا يكتبان ويحصيان، نزلا إليه مرة أخرى وأنشطا -أي فَكَّا أُنشُوطةً أو عُقدَة في عنقه فأخرجا منه الكتاب ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(١٣)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(١٤)﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ١٣- ١٤] يُخرِجَان الكتاب؛ كتاب حسناته وسيئاته، صحيفة أعماله من عنقه ثم يأخذاه إلى المحشر، أحدها سائق والآخر شهيد‫.‬ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)﴾ ماهو الحساب اليسير؟ أولاً اليمين يعبر عن القوة، واليمين يُعَبَّر به عن الخير، واليمين والتفاؤل واليُمن يُعَبَّر به عن السعادة والنعيم، فمن مَدَّ يمينه فتَلَقَّى كتابه كانت هذه بشرى‫.‬ وأما الحساب اليسير فقد عَلِمَنا شأنه من أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، منها ما ترويه عائشة (رضي الله عنها) فتقول‫:‬ قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (من حُوسِبَ عُذِّب) قالت‫:‬ فقلت يارسول الله أليس الله قد قال‫:‬ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)﴾ -أي كيف من حُوسِبَ عُذِّب وربنا يقول ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا عائشة ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض ومن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّب). إذاً فمعنى ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾: أي تُعرَض أعماله، صحائفه، ولا يُعرَض إلا الطيب ولا يُعرَض إلا الخير، ولا يخلو الإنسان من معصية ولا يخلو من إثم ولا يخلو إنسان من ذنب، فأين الذنوب وأين المعاصي في الصحائف؟ يخفيها الله (تبارك وتعالى) ويسترها ويمحوها فلا تظهر إلا الحسنات، فتُعرَض هذه الأعمال بل ويُفاخِر بها صاحبها، وقد مُنِعنا من الفخر والاختيال بأعمالنا في هذه الدنيا، ومُنِعَ الإنسان من أن يَغْتَرَّ بعمله، لكن في يوم القيامة يبيح الله (تبارك وتعالى) للصالحين ولأحبائه أن يباهي الناس وأن يفتخر بأعماله وأن ينشروا صحائفهم ويعرضوها على الناس ويقول‫:‬ ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ١٩] ذاك هو الحساب اليسير؛ العرض والعرض فقط‫.‬ ومن ألوان الحساب اليسير أيضاً ما يرويه لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول‫:‬ "إن الله (تبارك وتعالى) يُدنِي العبد المؤمن منه ويبسط عليه كَنَفَه -أي يستره، يغطيه، يمنعه عن العيوب فلا يراه أحد- ثم يقول‫:‬ عبدي تَذْكُرُ ذنب كذا فيُفاجَأ العبد فقد خلت صحيفته من الذنوب ومُحِيَت وليس فيها إلا الحسنات لكن الله يُذَكِّره تَذْكُرُ ذنب كذا؟ فيقول يارب أذكره، فيقول الله (تبارك وتعالى): سَتَرْتُكَ في الدنيا واليوم أغفره لك، ثم يقول له عبدي تَذْكُرُ ذنب كذا؟ فيقول يارب أذكره، فيقول الله (تبارك وتعالى): سَتَرْتُكَ في الدنيا واليوم أغفره لك، وهكذا حتى يُقَرِّرَه بذنوبه جميعاً"، ذاك لون من ألوان الحساب اليسير بين الله وبين أحبابه، يبسط عليه كَنَفَه، يسترهم فلا يكشف عيوبهم، يستر قبائحهم كما سترهم في الدنيا‫.‬ ومن ألوان الحساب اليسير أيضاً أولئك الذين شابوا في الإسلام وعَمَّروا فيه -وخيركم من طال عمره وحَسُنَ عَمَلُه- فمن طال عمره وحَسُنَ عَمَلُه وشاب في الإسلام ينسى -والكِبَرُ يُنسِي- هاهو قد بُعِثَ ورأى صحيفة حسناته ولم يرَ فيها ما يسيء، وافتخر وتفاخر وفُتِحَت له الجنة ودخل، وفجأة يأتيه مَلَكٌ بصحيفة مطوية فيقول له‫:‬ هذه صحيفة يرسلها الله إليك ويقول لك اقرأ، فيفتح الصحيفة فيُفَاجَأ بجميع ذنوبه ومعاصيه قد خُطَّت فيها، فيتغير لونه وترتعد فرائصه، فيقول له المـَلَك‫:‬ اهنأ واطمئن إن الله أمرني إذا رأيتُك قد ارتَعَدَت فرائصك وتغير لونك أن أقول لك لقد استحى الله أن يسألك عنها فغفرها لك‫.‬ تلك ألوان من الحساب اليسير، وفضل الله واسع ورأفته ورحمته بعباده لا حدود لها‫.‬ ذلك هو الحساب اليسير‫:‬ العرض‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وبضدها تتميز الأشياء‫:‬ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾ وقُرِئت (ويَصلَى) (ويُصلَى) (ويُصَلَّى). أَصْلَاهُ وصَلَاه وصَلَّاه لغات كلها بمعنى واحد‫.‬ مرة يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٢٥] في سوره أخرى، وفي هذه السورة -والتي نحن بصددها- يقول‫:‬ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ هل هما فريقان؟ أبداً! هو فريق واحد‫.‬ قالوا يَمُدُّ يُمنَاه ليَتَلَقَّى كتابه كما رأى من تَلَقُّوا كتبهم بأيمانهم فيَغْتَرُّ، يَمُدُّ يمينه فيمسكها المــَـلَك فيخلعها منه‫.‬ وقيل بل تُغَلُّ يمينه إلى عنقه فلا يستطيع أن يَمُدَّ يمينه، وأما شماله فلا يستطيع أن يمدها إلى الأمام بل تدور شماله خلف ظهره فيتلقى كتابه بشماله من وراء ظهره، فمن أوتي كتابه بشماله هو الذي أوتي كتابه من وراء ظهره‫.‬ وقالوا بل تدخل شماله في صدره فتمزق أضلاعه وتخرج شماله من ظهره فيتلقى كتابه بشماله من وراء ظهره‫.‬ تلك أنواع لتَلَقَّي الكتاب‫.‬ هؤلاء يتلقون كتبهم بأيمانهم وهؤلاء يتلقون كتبهم بشمالهم‫.‬ الفريق الأول الذي تلقى كتابه بيمينه وبُشِّر ينقلب إلى أهله مسروراً، والذي تَلَقَّى كتابه من وراء ظهره يدعو هنالك ثبوراً. أما الأول فينقلب -أي يرجع رجوعاً محموداً- إلى أهله، أَهُم أهله في الدنيا؟ قد، قد يرجع إلى أهله وعشيرته من المؤمنين الذين لاقوا مصيره من اليمين والحساب اليسير والبشارة، يرجع إليهم فرحاً مسروراً مستبشراً، ها هو الكتاب، تَلَقَّيتُ كتابي بيميني، فيستبشر إلى أهله في الدنيا، عشيرته، إخوانه في الله، أحبابه في الله من أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) ومن جميع الأمم، كل مؤمن يرجع إلى أهله من أمته‫.‬ وقيل بل الأهل هنا هم أزواجه من الحور العين ينقلب إليهم مسروراً فيتلقونه بالبِشرِ والحُبُور‫.‬ وأما الآخرون الذين تلقوا الكتاب بالشمال من وراء ظهورهم فسوف يدعو ثبوراً: أي هلاكاً، يدعو على نفسه، يصرخ ويقول يا ثبوراه يا هلاكاه ياويلاه، هو يدعو على نفسه‫.‬ هذا يرجع مسروراً وهذا يقف في محله يدعو على نفسه، بل يطلب الهلاك وكأنه ينادي على الهلاك وينادي على الدمار وينادي على الألم والعذاب، ينادي عليه‫:‬ يا ويلتي، ومنهم من يقول‫:‬ ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(٢٨)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٢٨- ٢٩] وهناك من يقول‫:‬ ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٢٧] ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾ بدلاً من أن ينقلب إلى أهله مسروراً بل يصلى سعيراً، يدخل النار‫.‬ والسعير‫:‬ اسم من أسماء جهنم، بل هي طبقة من طِبَاقِها، يصلى حرها ولهيبها ويذوق ذلك، يُشوَى فيها‫.‬ ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ هذا الذي يصلى سعيراً، الذي تَلَقَّى كتابه وراء ظهره، كان في أهله، في الدنيا مسروراً: أي فَرِحَاً بَطِرَاً أَشِرَاً. ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ ظَنَّ: تَيَقَّن‫.‬ وكلما تأتي كلمة الظن وتُنسَب للكفار في القرآن تعني اليقين‫.‬ ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ تَيَقَّن أنه لن يرجع، تَيَقَّن من انعدام البعث، تَيَقَّن من أن هذه هي حياته الدنيا يموت ويحيا وما يهلكه إلا الدهر كما زعموا ذلك، إنه ظن أن لن يرجع إلى الله (تبارك وتعالى) ويُبعَث ويُحاسَب‫.‬ (بلى) أي ليس الأمر كما ظَنَّ وتَوَقَّعَ وتَيَقَّن‫.‬ لا والله ليُبعَثَنَّ وليُرْجَعَنَّ وليُسأَلَنَّ. ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ عالماً به من قبل أن يُخلَق، ألا يعلم من خَلَق؟ بلى يعلم، إنه كان به بصيراً من قبل أن يُخلَق، وحين كان في رحم أمه، وحين ولدته أمه، وهكذا إلى أن مات ودُفِنَ في قبره، ثم بُعِثَ بعد ذلك، ثم جاء إلى ربه، إنه كان به بصيراً عالماً به، فكيف يكون عالماً به ولا يبعثه ولا يجازيه ولا يحاسبه؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ يُلاحَظ في الآيات أمر وهو السرور، أناس رزقهم الله السرور في الآخرة وأناس كانوا في سرور في الدنيا‫.‬ من رزقهم الله السرور في الآخرة هم المؤمنون ومن كانوا مسرورين في الدنيا هم الكافرون‫.‬ إذاً فمن خاف الله (تبارك وتعالى) في الدنيا وكان حزيناً خائفاً رُزِقَ السرور في الآخرة، ومن كان فَرِحَاً أَشِرَاً بَطِرَاً مُتَنَعِّماً مُتَرَفِّهاً في الدنيا جاء في الآخرة فلم يجد لحظة من السرور‫.‬ ولذا تجد ربنا (تبارك وتعالى) وصف أحوالهم في مواقع أخرى فقال عن المؤمنين حكاية عنهم‫:‬ ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُفِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ(٢٦)فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ(٢٧)﴾ [سورة الطور آية‫:‬ ٢٦- ٢٧] ويقول عنهم‫:‬ ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ١٠٧] وإذا تُتلَى عليهم الآيات وَجِلَت القلوب واقشعرت الأبدان، إذا ذكر الله وَجِلَت قلوبهم، إذاً فقد كانوا في الدنيا خائفين وَجِلِين، إن أتتهم الضراء صبروا وإن أتتهم السراء شكروا وعلموا أن الله يُقَلِّب الأحوال فلم يفرحوا ولم يحزنوا ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ٢٣] هاهي أوصاف المؤمنين في الدنيا؛ لا يفرح بالنعمة وإنما يحمد الـمُنعِم ولا يفرح، ولا يجزع من المصيبة أو يهلع بل يصبر عند مواقع القدر ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)﴾ [سورة المعراج آية‫:‬ ١٩-٢١] تلك أوصاف المؤمنين في الدنيا‫.‬ وأما أوصاف الكفار في الدنيا فربنا يقول عنهم ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ يروي نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن رب العزة في حديث قدسي حيث يقول‫:‬ "لا أجمعُ على عبدي خوفين وأمنين أبداً فمن خافني في الدنيا أَمَّنْتُهُ يوم القيامة ومن أَمِنَني في الدنيا خَوَّفتُه يوم القيامة."‬‬
‫بعد أن بَيَّنَ الله (تبارك وتعالى) مصير الناس يُقسِم ويُقسِمُ بأمورٍ عظيمة تدل على قدرته وعلى تدبيره وعلى وحدانيته‫.‬ يقول الله (عز وجل):
فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ ﴿16﴾ وَٱلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿17﴾ وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ ﴿18﴾ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍۢ ﴿19﴾
‫﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ الشَّفَق‫:‬ الحُمرة التي تكون في مغرب الشمس، بعد الغروب بقليل، وتستمر حتى وقت العِشاء‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل هو البياض الذي يأتي بعد الحمرة‫.‬ والرأي الأول أرجح؛ هي الحمرة التي تكون في الأفق الغربي بعد غروب الشمس‫.‬ وأصل مادة الكلمة تعني الرِّقَّة، شَفَقَ الشيء‫:‬ رَقَّ، ومنه الشَّفَقَة، أشفق عليه‫:‬ رَقَّ قلبه إليه، فالشَّفَق رِقَّة ضوء الشمس أو ما تبقى من ضوء الشمس بعد الغروب، يقسم ربنا بالشفق، بذلك الوقت‫.‬ ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ وسق‫:‬ جَمَع، الوَسَق‫:‬ الجَمْعُ والضَّمُّ، وَسَقَ الشيء وَسْقَاً يَسِقُه وَسْقَاً: جَمَعَهُ وضَمَّهُ، فاتَّسَق‫:‬ فاجتمع واستوثق وانضم‫.‬ (والليل): أقسم ربنا بالليل‫.‬ أقسم بالشفق -وهو بقية ضوء النهار-ثم أقسم بالليل وأقسم بما حواه الليل ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾: وما جَمَع، وكلنا يعرف أن النهار انتشار للطيور والوحوش والناس ولكل شيء، فإذا جلل الليل الجبال والوهاد والأودية والدور والبلاد فكأنه جمعها بعباءته السوداء فجمع الكل في ظلامه، أيضاً ارتدت الطيور إلى أوكارها والوحوش إلى جحورها فجُمِعَ الكل‫.‬ وكأن الله (تبارك وتعالى) قد أقسم بكل شيء كقَسَمِه في قوله‫:‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(٣٨)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(٣٩)﴾. ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ اتَّسَق‫:‬ اكتمل‫.‬ وَسَقَهُ فاتَّسَق‫:‬ جَمَعَهُ فاجتَمَع، فإذا القمر اتَّسَق‫:‬ أي أكتمل ضوءه واكتمل نوره واجتمع، أصبح بدراً. فأقسم بالقمر حين التكامل في الليالي البيضاء، حين يصير بدراً فيتكامل نوره وتجتمع أجزاؤه‫.‬ وذاك هو القَسَم؛ ثلاثة أشياء تُشعِر بالتغير؛ النهار يتلوه الشفق، والشفق يتلوه الليل وما وَسَق‫:‬ ما جمع بعد انتشار، ما ضم بعد تَفَرُّق، ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾: اكتمل بعد أن كان هلالاً، بعد أن كان محاقاً، فإذا به يتغير‫.‬ هذه المتغيرات التي أقسم الله بها تدل على أنه يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، يدل على وجود المدبر‫.‬ أنت اليوم في حال وأنت غداً في حال‫.‬ تَحَوُّل الأحوال يدل على أن تدبيرك لغيرك، كيف كنتَ في المساء وكيف كان حالك؟ وكيف أنتَ في الصباح وكيف حالك؟ أتدري كيف يكون حالك في المساء؟ هل تدري؟ التحول والتغير في كل شيء في الوجود يدل على أن التدبير لله‫.‬ هذا هو القَسَم، ولله أن يقسم بما شاء لكن يشعرنا القسم بوجود المدبر المهيمن المحَوِّل الذي لا يتحول، والمغَيِّر والذي لا يعتريه تغيير‫.‬ ثم ما هو جواب القسم؟ ﴿لَتَركَبُنَّ طَبَقَاً عن طَبَق﴾ الركوب‫:‬ بمعنى التعرض للشيء‫.‬ والركوب بمعنى السلوك، ركب طريق الشر‫:‬ سَلَكَه، فركوب الشيء التعرض له وسلوك سبيله، ذاك هو الركوب‫.‬ ﴿لَتَركَبُنَّ﴾: والخطاب للناس‫.‬ وقُرِئت ﴿لَتَرْكَبَنَّ﴾ والخطاب للإنسان؛ ( يا أيها الإنسان). وقُرِأَت ﴿لَتَرْكَبِنَّ﴾ والخطاب للنفس البشرية‫.‬ وقُرِئت ﴿لَيَرْكَبَنَّ﴾ الإنسان‫.‬ فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بالشمال لَيَرْكَبَنَّ. ﴿لَتَركَبُنَّ طَبَقَاً عن طَبَق﴾ الطَّبَق‫:‬ الحالة‫.‬ الطَّبَق‫:‬ كل ما يُطابِق غيره يُساويه، فما يطابق غيره وما يتفق مع غيره يسمى طَبَق، ويُطلَق الطَّبَق على الحالة‫.‬ و(عن) بمعنى "بَعْد" لتركبن طبقاً عن طبق‫:‬ أي لتسلكن طريقاً بعد طريق، لتعاني أيها الإنسان حالاً بعد حال، وهذه الأحوال متشابهة لذا سميت طَبَقَاً، أحوال متشابهة متطابقة ولكن في الشدة‫.‬ أي لَتَتَغَيَّرُ بكم الأحوال‫.‬ منهم من أخذ الآية على الدنيا فقال‫:‬ طفولة، رضاعة، حبو ثم مشي ثم صحة ثم شباب ثم كِبَر ثم هِرَم وهكذا، مرض بعد صحة، فقر بعد غنى، شدة بعد رخاء، أحوال، تأكيد لقوله‫:‬ ﴿كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾ . ومنهم من قال‫:‬ أبداً، بل الكلام عن الآخرة؛ من أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه وراء ظهره، هذه الأحوال بعد الموت، أولها الموت وتبدأ الشدائد، بين العبد وربه سبع عقبات أهونها الموت والقبر وسؤال الملكين والبعث والنشور والحساب والعرض والصراط والميزان، عقبات فوقها عقبات (لتركبن طبقاً عن طبق): أهوال‫.‬ إما شدائد الدنيا وإما أهوال يوم القيامة‫.‬ أهوال يوم القيامة وأهواله التي وصفها ربنا ويقول‫:‬ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ وبقوله‫:‬ ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ الأهوال، علامات الساعة، وإما الشدائد بعد الموت أو ببداية الموت وذلك أرجح الأقوال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم يأتي سؤال استنكار، سؤال تعجيب بعد كل ذلك‫:‬‬‬‬
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْءَانُ لَا يَسْجُدُونَ ۩ ﴿21﴾ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يُكَذِّبُونَ ﴿22﴾ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴿23﴾ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۭ ﴿25﴾
لِمَ لا يؤمن هؤلاء الكفار؟ ذاك هو السؤال، يُعَجِّب ربُّنا السامعَ، فيُعَجِّب حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ويُعَجِّب كل مؤمن وينكر عليهم ذلك، مالهم لا يؤمنون؟ ما الذي منعهم من الإيمان؟ ألم يروا السماء كيف رُفِعَت؟ ألم يروا الجبال كيف نُصِبَت؟ ألم يروا الأرض كيف بُسِطَت؟ ألم يروا الجِمال كيف خُلِقَت؟ ألم يروا كل ذلك؟ ألم يروا تغير الأحوال؟ ألم يروا كيف كانوا أطفالاً ثم شباباً ثم كهولاً؟ ما لهم لا يؤمنون؟ وتأتي آية السجدة‫.‬ وآية السجدة إذا قُرِئت على المنبر نزل الإمام وسجد وسجد المصلون وهي من عزائم السجود، لأن الله ينكر على الذين لم يسجدوا إذا سمعوا القرآن في هذه السجدة، وكذلك إذا قرأها المصلي في صلاته هوى للسجود ثم قام وأكمل صلاته، إما أن يكمل القراءة ويركع وإما أن يقف ثم يركع بغير استئناف للقراءة، ويأتي بها الساجد من قيام وبتكبيرة الإحرام ويسجد ثم يجلس ويسلم تسليمتين‫.‬ وقال بعض الناس يجوز أن يأتي بها من قعود فيسجد كما يسجد عند التشهد قبل التشهد أو بين السجدتين يجلس ثم يسجد‫.‬ إذاً فيجوز له السجود من قعود وليس من قيام، وقد سجد أبو هريرة حين قرأها وقال‫:‬ والله لو لَمْ أَرَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسجد حين قرأها ما سجدت‫.‬ يسأل ربنا (تبارك وتعالى) سؤال استنكار وسؤال تعجيب‫:‬ ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)﴾ وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول في سجدة التلاوة‫:‬ "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته اللهم احطط بها عني وزراً واجعلها لي عندك ذخراً واكتب لي بها عندك أجراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوود -حين خر لربه وسجد وأناب فغفر له-" و رُوِيَ أيضاً أنه كان يقول‫:‬ "سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي وأَقَرَّ بك لساني وها أنا ذا بين يديك يا عظيم يا من تغفر الذنب العظيم" يأتي الجواب على السؤال ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ولماذا إذا قُرِئَ عليهم القرآن لا يطيعون الله (تبارك وتعالى) ويخرون له سُجَّدَاً، و أَوَّلَ بعضهم الكلام بالطاعة‫.‬ السجود‫:‬ الطاعة‫.‬ إذا قُرِئَ عليهم القرآن لماذا لا يطيعون الله (تبارك وتعالى) ويؤمنون به؟ فعُبَّرَ عن ذلك بالسجود‫.‬ وبعضهم قال‫:‬ بل الآية تختص بالسجود والسجود الحقيقي، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قرأ آية سجود في الكعبة -والسوره مكية- لم يسجد الكفار وسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) فنزل قول الله (تبارك وتعالى) مُعَجِّباً مُبَكِّتا لماذا لم يسجدوا معك يا محمد حين سجدت لله وأنت تقرأ القرآن؟ قال بعضهم ذلك‫.‬ فالآية سواء كانت ذلك أو كذلك فالسجود فيها مطلوب وهو سُنَّة مؤكدة‫.‬ يأتي الجواب بعد ذلك‫:‬ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ هذا هو الذي منعهم، منعهم من الخضوع لله والإيمان بالقرآن وبمحمد (عليه الصلاه والسلام). والسجود لله تواضعاً، ومن تواضع لله رَفَعَه، والعز كله في الذل لله، إي وربي! ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ يُكَذِّبُون بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، يُكَذِّبون بالبعث، يُكَذَّبون بالقرآن، يُكَذِّبون بوجود الواحد الأحد‫.‬ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ أوعى الشيء‫:‬ جَعَلَه في الوعاء، أَوْعَاهُ يُوعِيه‫.‬ والله أعلم بما يوعون‫:‬ أي بما يصنعون ويجمعون ويُضمِرُون في صدورهم، وكأن صدر الإنسان وعاء فيه النية، فيه إضمار الشر، كانوا يُضمِرون الشر للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ يُثبِتوه أو يقتلوه أو يُخرِجوه، كانوا يُضمِرُون الكفر، كانوا يُضمِرون ويُضمِرون ويُضمِرون ويُضمِرون، فربنا (تبارك وتعالى) يُنَبِّه‫:‬ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ وطالما علم بما يوعون لابد وأن يحاسبهم عليه مصداقاً لقوله (عز وجل): ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٤] فربنا يحاسب على الأعمال ويحاسب على النية ويحاسب على ما انطوى عليه الصدر، فيحاسب على الحسد، والحسد لا يخرج من الصدر، يحاسب على الحقد، يحاسب على البغضاء، يحاسب على ما في الصدر إن شاء، وإن شاء غفر‫.‬ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)فَبَشِّرْهُمْ﴾ والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بَشِّرِ الكفار، البشارة ما يَسُرُّ، وسُمِّيَ الخبر السار بشارة لأنك إذا سمعت خبراً ساراً ظهر أثر السرور على البشرة، انفرجت الأسارير واستنار الوجه فظهر الفرح والسرور على بشرة الوجه‫.‬ من هنا يُعَبَّر بالتبشير عما يَسُرُّ، والإنذار والتخويف عما يخيف‫.‬ هنا يقول الله (تبارك وتعالى) ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ﴾ وهل يُبَشَّرُ الإنسان بالمصائب؟ هل يُبَشَّرُ الإنسان بالبلاوي؟ هل يُبَشَّر الإنسان بعذاب الجبار؟ وإنما المقصود التَّهَكُّم، يتهكم ربنا بهم كما تهكموا بالمؤمنين ويستهزئ بهم كما استهزأوا بالمسلمين‫.‬ ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤)إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ استثناء‫.‬ (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) جعلنا الله وإياكم منهم‫.‬ (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هو استثناء، متصل أو منفصل، هؤلاء لهم أجر غير ممنون‫.‬ ﴿أَجْرٌ﴾ نكرة، إذاً فهو غير معروف، نُكِّرَ للتفخيم والتعظيم، مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‫.‬ ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: غير مقطوع أو غير مُنتَهٍ أو غير ممنوع أو لا يَمُنُّ عليهم به‫.‬ مَنَنْتُ الحبل‫:‬ قَطَعْتُه‫.‬ مَنَّ الشيء‫:‬ قَطَعَه‫.‬ لهم أجر غير ممنون‫:‬ غير مقطوع‫.‬ إذاً فهو أجر دائم أبداً لا يُقطَع ولا يَقِلُّ بل يتضاعف ويزيد‫.‬ ومنه أيضا المـــَنُّ على الإنسان بالنعمة، أن تَمُنَّ عليه ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٤] أن تَمُنَّ عليَّ فتقول‫:‬ لولا أن أعطيتُك لحدث وحدث، ولولا أن فعلتُ بك كذا لجرى ولحدث كذا‫.‬ المــَنُّ أن تحسب عليه نِعَمَك أو تحسب عليه عطاءك وتحسب عليه جمائلك أو ما فعلت‫.‬ فهذا الأجر بغير حساب، فهؤلاء لهم أجر لا يُقطَع ولا يُمنَع ولا يُمَنُّ عليهم به، يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم؛ يحكي لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) مشهداً من مشاهد الآخرة فيقول‫:‬ في يوم القيامه والكل في فزع والكل في هلع والكل ينتظر الحساب ينادي من قِبَلِ العلي الأعلى في أهل الموقف جميعاً لِيَقُم من كان أجره على الله، فيقوم أناس يعرفون أنفسهم يُلهَمون، فيقوم هؤلاء الناس فيجتمعون فيُؤذَن لهم إلى الجنة، فيتوجهون إلى الجنة، يتوجهون مجموعات، جماعات، زُمَرَاً إلى الجنة، فتقف الملائكه أمامهم -خَزَنَةُ الجنة- إلى أين؟ فيقولوا‫:‬ إلى الجنة‫.‬ إلى الجنة؟! كيف إلى الجنة ولم يُنصَب الميزان ولم يُنشَر الديوان؟ فيقول هؤلاء‫:‬ لقد أُمِرنَا بذلك وأُذِنَ لنا، فتتساءل الملائكة وتقول‫:‬ من أنتم؟ فيقولون‫:‬ نحن الصابرون‫.‬ فتُفَتَّحُ لهم الأبواب وتقول لهم الملائكة‫:‬ سلامٌ عليكم بما صبرتم فنِعمَ عُقبَى الدار‫.‬ نعم يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬