سورة المطففين

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة المطففين‫.‬ وسورة المطففين قيل نزلت في مكة، وقيل بل نزلت بالمدينة‫.‬ وقال بعضهم بل نزلت بمكة إلا ثمان آيات من آخرها؛ من قوله (عز وجل): ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾. وقد قيل سبب النزول إن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين هاجر إلى المدينة كان أهلها يُطَفِّفُون الكيل والميزان وكانوا شَرَّ ناسٍ في هذا الشأن، فأول ما نزل عليهم من قرآن في المدينة هي سورة المطففين فامتنعوا وصاروا أحسن الناس وفاءً إذا كالوا أو وزنوا‫.‬ فالقائلون بنزولها في المدينة قالوا نزلت بالمدينة من أجل ذلك‫.‬ والقائلون إن نزولها بمكة قالوا قرأها عليهم بالمدينة‫.‬ وإن كان الأرجح هو نزولها بمكة لأن سياق السورة شأنه شأن السور المكية‫.‬ في أول السورة يهدد ربنا ويتوعد فئة من الناس تطفف في الكيل وفي الميزان‫.‬ والتطفيف‫:‬ النمس والإنقاص‫.‬ والمطفِّف سمي بذلك لأنه لا يأخذ إلا الطَّفِيف؛ الشيء التافه اليسير، فلا يكاد يسرق ممن وزن له أو كال له إلا شيئاً طفيفاً تافهاً حقيراً. فالطَّفِيف‫:‬ التافه الحقير، والمطَفِّف يأخذ ذلك الطفيف غشاً، يتهددهم ربنا (تبارك وتعالى) ويقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وَيْلٌۭ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُوا۟ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3﴾ أَلَا يَظُنُّ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍۢ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿6﴾
‫﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ويل‫:‬ أهي كلمة تهديد؟ أهي كناية عن عذاب شديد؟ أهو اسم لوادٍ في جهنم يسيل إليه صديد أهل النار؟ ويلٌ للمطففين‫.‬ ثم يصف ربنا (تبارك وتعالى) فعلهم فيقول‫:‬ ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾ اكتالوا على الناس‫:‬ أخذوا ما لديهم كيلاً. و"على" بمعني "مِنَ"، اكتالوا من الناس، و"على" و"مِن" يتعاقبان في هذا‫.‬ اكتال عليه‫:‬ أخذ ما عليه كيلاً، اكتال منه‫:‬ أخذ حقه منه‫.‬ لكنه جاء بكلمة "على" بدلاً من "مِن" هنا ليُضَمِّن الفعل معنى الاستعلاء، وكأنهم أخذوا مالهم احتيالاً عليهم بأن غشوا في وزنهم وكيلهم‫.‬ ﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾: يأخذون حقهم وافياً كاملاً غير منقوص‫.‬"كال له": العاطي كَالَ، والآخذُ اكتالَ، هو يكيل له والآخر اكتال منه‫.‬ ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ أي كالوا لهم المــَكِيل، وحُذِفَ المفعول، كالوا لهم الكيل أو وزنوا لهم الموزون‫.‬ ﴿يُخسِرُون﴾: يُنقِصُون‫.‬ أَخْسَرَ الميزان وخَسَرَه‫:‬ أَنْقَصَهُ. فإذا كان لهم الحق أخذوه وافياً كاملاً غير منقوص، وإذا أدوا ما عليهم من حق بخسوا الميزان ونقصوا المكيال فغشوا وظلموا واعتدوا، وأخذوا بذلك الشيء التافه اليسير الطفيف‫.‬ وقيل كان لبعضهم مكيالان يكيل بهم بأحدهما إذا أخذ لنفسه ويكيل بالآخر إذا أعطى لغيره‫.‬ وقد أهلك ربنا (تبارك وتعالى) قوم شعيب لهذه الخطيئة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ ودخلت همزة الاستفهام على "لا" النافية تعجيباً من هؤلاء وإنكاراً عليهم‫.‬ وجاء بكلمة الظن، والظن بمعنى التردد، وكأن من ظن أن هناك بعث خاف من هذا الفعل وامتنع عن ارتكاب هذه القبائح فكيف بمن يتيقن البعث؟ ولذا قيل إن معنى الظن هنا اليقين‫.‬ وقال بعضهم بل الظن هو التردد، وظنوا‫:‬ ترددوا‫.‬ فإن ظن الإنسان أَلَا يعمل حساباً لظنه؟ أَلَا يعمل حساباً لذلك؟ ألا يظنوا أنهم مبعوثون‫:‬ قائمون بعد الموت، مجموعون ليوم عظيم ووصف اليوم بالعِظَم لعِظَمِ ما فيه من هول وفزع وحساب‫.‬ ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: يقومون للحساب، يقومون للمحاكمة، يقومون للجزاء، ما من مثقال ذرة إلا ومُحصية ومحسوبة ومدونة ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٩] بل وحين يُعرَضُ عليهم الكتاب يقولون‫:‬ ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٩] وفي هذا التعبير بالإنكار والتعجيب وذكر الظن ووصف اليوم بالعظيم وقيام الناس لرب العالمين ووصف نفسه برب العالمين، كل ذلك تهويل وتفظيع لإثم التطفيف وإشعار بفظاعة الجزاء والعذاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
كَلَّآ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍۢ ﴿7﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا سِجِّينٌۭ ﴿8﴾ كِتَـٰبٌۭ مَّرْقُومٌۭ ﴿9﴾ وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿10﴾ ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ كَلَّآ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍۢ لَّمَحْجُوبُونَ ﴿15﴾ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا۟ ٱلْجَحِيمِ ﴿16﴾ ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ﴿17﴾
‫﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر لهؤلاء الذين طففوا الكيل والميزان‫.‬ أو هي بمعنى "حقاً". ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ كتاب الفجار‫:‬ سيئاتهم، أعمالهم، ما كُتِبَ عليهم‫.‬ كتاب الفجار‫:‬ المكتوب، أو نفس الكتاب‫.‬ ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ وسِجِّين‫:‬ وصف لشيء غيرمعلوم، لكن الكلمة تُشْتَقُّ من السَّجن‫:‬ وهو الحبس، والسِّجن‫:‬ وهو الضِّيق‫.‬ سِجِّين سمي بذلك لأن جهنم ضيقة ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ١٣] فيها الحبس‫.‬ سِجِّين في أسفل سافلين، وقيل هو في سابع أرض، اسم مكان في سابع أرض، صخرة سوداء موضوع تحتها كتاب جُمِعَ فيه أعمال الفجار من الثقلين، إذ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ١٠] وصحائف الفجار حين يُصعَد بها تُغلَق أبواب السماء دونها فلا ترتفع أعمالهم فتنزل بها الحفظة إلى الأرض فتأبى الأرض أن تتلقاها فينزلون بها إلى سابع أرض تحت صخرة سوداء حيث إبليس وذريته فيوضع ذاك الكتاب هناك‫.‬ وقيل بل أرواحهم -أرواح الفجار- إذا أخذتها ملائكة العذاب وصعدت بها إلى السماء لا تُفَتَّحُ لهم أبواب السماء كما يقول الله (تبارك وتعالى) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٤٠] فينزلون بأرواح الكفار إلى الأرض فتأبى أن تأخذها أو تستودع فيها فينزلون بها سابع أرض حيث تُسجَن في سِجِّين‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)﴾ سؤال للتشويق، أيضاً للتهويل وكذلك للتفظيع، وكل ما قال فيه‫:‬ "ما أدراك" فقد أدراه، ما قال فيه‫:‬ "ما يدريك" فلم يدريه‫.‬ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولكل من يعقل‫.‬ ثم يفسر ربنا (تبارك وتعالى) سِجِّين فيقول‫:‬ ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ مُبَيِّن، مُوَضِّح، بَيِّنُ الكتابة، لا يجد قارئه اختلافاً أو اختلاطاً. رَقَّمَ الكتاب‫:‬ أعجبه وبَيَّنَه ووضحه‫.‬ أو رَقَّمَ الكتاب‫:‬ جعل فيه علامة، فهو مُعَلَّم يَعْلَمُ كل من رآه أنه لا خير فيه‫.‬ والرَّقَم‫:‬ العلامة، كالرقم في الثوب، تلك التصاوير وتلك الزينة وما إلى ذلك من ألوان مختلفة‫.‬ الرقم‫:‬ العلامة لا تُنسَى ولا تُمحَى، نَعَم الذنب لا يُنسَى‫.‬ كتاب مرقوم وقيل بمعنى المختوم فلا يزيد فيه شيء ولا ينقص منه شيء‫.‬ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ وتتكرر كلمة "ويل"، ويل للمكذبين بذلك، ويل للمكذبين بالبعث، ويل للمكذبين بيوم الدين، ويل للمكذبين ببعثة سيد المرسلين عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم‫.‬ ويأتي الوصف؛ وصف الــمَذَمَّة، وصف التوضيح، ﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء، يوم يدين الله عباده فيجازيهم بما عملوا، يكذبون بيوم القيامة، يكذبون بيوم البعث، يكذبون بيوم الجزاء‫.‬ والدِّين‫:‬ الجزاء‫.‬ ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾، ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وقرئت ﴿إذا يُتلَى﴾. إذا تُتلَى عليه آيات القرآن يتهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالكذب، ويصف آيات القرآن بأنها أساطير الأولين‫.‬ أساطير‫:‬ جمع أسطورة وإسطارة‫.‬ والأساطير‫:‬ ما سطره الأولون في كتبهم من خرافات وخزعبلات وخرافات‫.‬ إذا تُتلَى عليه الآيات البينات الواضحات؛ القرآن ﴿قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾. ﴿كَلَّا﴾ كلمة ردع أخرى وزجر لقولهم ولهؤلاء القائلين والواصفين للقرآن بأنه أساطير الأولين‫.‬ ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ و"بل" نفي لكلام سبق وإثبات غيره، أي الأمر ليس أن القرآن أساطير -أو توهموا أنه أساطير- ليس الأمر كذلك، ليس ما ادَّعُوه وليس ما يزعمون أبداً، وإنما ارتكبوا المعاصي وارتكبوا الذنوب وأحاطت بهم الشرور حتى اسوَدَّ قلبهم، وحين يَسُوَدُّ القلب تعمى البصائر فلا تنفع معها دلالات العقل ولا مشاهدات النقل‫.‬ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي والآثام‫.‬ ويصف نبينا (صلى الله عليه وسلم) هذا الرَّان فيقول‫:‬ "إن العبد إذا ارتكب الخطيئة نُكِتَ في قلبه نُكْتَة سوداء". والنَّكت -بالكاف- الحَفْر‫.‬ والنَّقْط -بالقاف- الرَّسْم‫.‬ نَكَتَ: حَفَر، نُكِتَ في قلبه نُكتَة سوداء، فإذا نزَعَ واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه، فإن عاد زيد فيها؛ أي نُكِتَ نُكتَة أخرى سوداء وهكذا حتى يَسْوَدَّ القلب كله، وذاك هو الرَّان الذي يقول الله (عز وجل) فيه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) إذاً فكثرة المعاصي وكثرة الذنوب تحجب القلب عن رؤية الحق فيعمى عن شواهد النقل ويصم عن دلائل العقل فلا يرى الحق أبداً. من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) ردعاً لهم حين قالوا أساطير الأولين‫:‬ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فعميت منهم البصائر لكثرة المعاصي والذنوب‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ﴿كَلَّا﴾: حقاً. أو هي ردع وزجر، تكرار الردع والزجر، لَيَنْتَهِيَنَّ أقوام يَدَّعُون ذلك‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ﴾: يوم القيامة ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾: محجوبون عن الله (تبارك وتعالى). والآية دليل واضح على رؤية الله (عز وجل) في يوم القيامة، فحين حَجَبَ أناساً عن رؤيته لابد وأنه سَمَحَ لآخرين برؤيته، فطالما حجب الفجار فقد كشف نوره للأبرار‫.‬ ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾ داخلون في الجحيم، أشد دركات النار الجحيم‫.‬ صَلَاها ويَصْلَاها وصلاها‫:‬ دخل فيها يَصلَى حرها ولهيبها‫.‬ ﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
كَلَّآ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ كِتَـٰبٌۭ مَّرْقُومٌۭ ﴿20﴾ يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴿21﴾ إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ﴿22﴾ عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴿23﴾ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ ﴿24﴾ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍۢ مَّخْتُومٍ ﴿25﴾ خِتَـٰمُهُۥ مِسْكٌۭ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَـٰفِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ عَيْنًۭا يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴿28﴾
‫﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر عن اعتقاد التسوية بين الفاجر وبين البار ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [سورة الجاثية آية‫:‬ ٢١] ردع وزجر عن التسوية، لا يمكن أن يكون هناك تسوية ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [سورة السجدة آية‫:‬ ١٨] أَحَسِبَ الإنسان أن الله قد خلقه عبثاً؟ مستحيل! إذاً فلابد أن يكون هناك تمييز ولابد أن يكون هناك تفريق‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ والأبرار‫:‬ جمع بَرٍّ وبَارّ: المتوسع في الخير، الصادق في طاعته‫.‬ ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾: أعمالهم أو ما كُتِبَ لهم‫.‬ ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ عِلِّيُّون‫:‬ لفظ لا مفرد له من لفظه، أو جمع عَلِيّ، من العلو والارتفاع‫.‬ وقيل إن عِلِّيِّين أعلى مكان في الوجود، وكتاب الأبرار في عليين، في أعلى منزلة، أو في أعلي مكانة‫.‬ وقيل إن أرواح الأبرار إذا قُبِضَت وقبضتها الملائكة سَلَّمَت على صاحبها‫:‬ إن الله يُقرِئك السلام ويأخذون روحه يَسِلُّونها سَلَّاً بلا ألم، بل بسعادة واشتياق، فقد اشتاق للقاء ربه وأحب لقاءه، فيصعدون بها فتُفتَح لها أبواب السماء وحين تُفتَح لها أبواب السماء يُشَيِّعُها ملائكة كل سماء؛ سماءً بعد سماءٍ حتى يصلون بها إلى العرش فيخرج لهم رق مرقوم مكتوب فيه النجاة من الحساب والعذاب والنار‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨)وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)﴾ تشويق بالسؤال، وتفخيم وتعظيم لهذه المكانة ولتلك المنزلة‫.‬ ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾: مُعَلَّم يَعلَمُ كل من رآه أن فيه خيراً كثيراً، أو مختوم، أو فيه جمع أعمال الصالحين من الثقلين، مُوَضِّح، مُبَيِّن، مكتوب بحروف من نور‫.‬ ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ الملائكة في كل سماء تشهد هذا الكتاب، بل ويشهد هذا العمل، ذاك الكتاب الذي كُتِبَ فيه أعمال الأبرار والصالحين مرفوع من أعلى بمشاهده ويشهد به ويشهد له المقربون من الملائكة ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ هنيئاً لهم وجعلنا الله وإياكم منهم‫.‬ تُرَى أيُّ نعيم هذا؟ لا نعرفه ولم يُوصَف لنا، وكل ما خطر ببالك فنعيم الله غير ذلك! مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‫.‬ ولذا جيء بالكلمة نكرة للتفخيم والتعظيم‫.‬ إن الأبرار لفي نعيم، ينعمون عند ربهم‫.‬ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ الأرائك‫:‬ جمع أريكة، والأريكة‫:‬ كل ما يُتَّكَأ عليه من سرير أو فراش أو منصة مزينة بالسطور وفاخر الأقمشه كالسُّرُر في الحجال، والحجلة‫:‬ القبة التي تُنصَب على السرير، فتلك الأرائك منصوب عليها قباب من حرير، من لؤلؤ، من زبرجد، من أي شيء؟ من كل شيء، فوق ما في العقول وفوق ما رأته العيون‫.‬ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ولم يخبرنا ربنا إلى أي شيء ينظرون فقالوا‫:‬ ينظرون إلى أهل النار الذين عذبوهم في الدنيا واستهزأوا بهم‫.‬ ينظرون إلى مُلكِهِم، فأقل الناس وأدنى الناس منزلة في الجنة من ينظر إلى مُلكِه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه‫.‬ هل ينظرون إلى مُلكِهم أم ينظرون إلى وجه الجلال والجمال؟ (تعرف في وجوهم نضرة النعيم) وقُرِئت ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أنت لا تدري إلى أي شيء ينظرون لكن الله (تبارك وتعالى) يبين لك أثر النظر، هم ينظرون فإذا نظرتَ إلى وجوههم رأيت عليهم أثر النظر الذي نظروه‫:‬ نضره النعيم‫.‬ النَّضرة‫:‬ الجمال، النضرة‫:‬ الفرح، النضرة‫:‬ النور، النضرة‫:‬ الإشراق‫.‬ أنضر النبات‫:‬ أزهر وتَنَوَّر‫.‬ على وجوهم تعرف فيها نضرة النعيم الذي نظروا إليه، أو نتيجة مانظروا إليه ظهر أثره على وجوههم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ يُسقَون، من الساقي؟ في موضع آخر يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ [سورة الإنسان آية‫:‬ ٢١]. الرحيق‫:‬ أرقى وأصفي أنواع الخمر‫.‬ ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ وكلنا يعرف أن الناس حين يضعون طعاماً أو شراباً يريدون أن يخزنوه ولا يخرج منه شيء ولا يدخل إليه شيء من ذباب أو غبار أو غيره يختمون الإناء، وإذا ختموا الإناء ختموه بالطين كما نفعل في ريفنا هذا‫.‬ ربنا يقول إن هذا الختام مسك وليس طين، ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ (خاتمه) قراءة‫.‬ الخاتم الذي يُختَم به مسك‫.‬ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ آخر طعمه، آخر الشرب، يَشْتَمُّون منه ريح المسك، ومن المعلوم أن الأشربة عموماً في بدايتها وفي أعلاها الصفاء، والكدورة والكدر في آخر الإناء، أي شراب تشربه يتبقي في آخره شيء من الكدر، فربنا ينفي الكدر عن شرابهم ويقول‫:‬ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾: رائحته، وقيل بل طعمه‫.‬ وقيل في الجنة أنهار من خمر، هذه الخمر ليست من الأنهار بل هي شيء آخر في أوانٍ مختومة لا يفتحها ولا يفض خاتمها إلا صاحبها إذا دخل الجنة‫.‬ الأبرار يشربون من هذه الكأس المختومة، من ذاك الرحيق المختوم، وخاتمه مسك، هو يفضه ولم يُفَضّ من قبل‫.‬ ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾: في ذلك النعيم، في هذا الذي وُصِفَ لك، في ذاك الرحيق، فليتنافس‫:‬ يتسابق، يتصارع المتنافسون‫.‬ والتنافس في الأصل هو التسارع إلى الشيء النفيس‫.‬ والشيء النفيس ما تشتهيه النفوس وتتمنى كل نفس أن تحصل عليه، فكل نفيس هو ما تتمناه النفوس، والتنافس هو التصارع والتسابق للحصول على الشيء الذي تتمناه كل نفس‫.‬ ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ الرحيق الذي يُسقَونه مخلوط، مِزاجُه‫:‬ خليطه، مَزَجَ الشيء‫:‬ خَلَطَهُ، مخلوط بشيء يُسَمَّى التسنيم، ما هو التسنيم؟ التسنيم من حيث اللغة‫:‬ الارتفاع‫.‬ سَنَمَه‫:‬ رَفَعَه، ومنه سَنَام البعير لارتفاعه عن باقي ظهره، فالتسنيم‫:‬ الرفع والارتفاع‫.‬ التسنيم شراب، أهو مرفوع شأنه عظيم قدره؟ أم هو في علو ينزل إليهم في الآنية دون أن يصبه أحد؟ ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ وتُوصَف التسنيم بأنها ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ عَلَم على عين، عيناً هي تسنيم، اسمها تسنيم‫.‬ ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ إذاً فالمقربون أعلى مقاماً من الأبرار‫.‬ المقربون يشربون من تسنيم صافياً صفواً شراباً خالصاً، أما الأبرار فيُمزَج شرابهم من تسنيم، فالأبرار يُمزَج رحيقهم بشيء من التسنيم أما المقربون فيشربون التسنيم خالصاً. التسنيم شراب المقربين ثم يؤخذ منه مِزاج وخليط للأبرار، لأصحاب اليمين، لباقي أهل الجنة‫.‬ ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾: أي يشرب منها، وجيء بالباء بدلاً من "مِن" للإشعار بأنهم يشربون بها أي يشربون منها ملتذين بها سعداء‫.‬ أو هي ممزوج بها يشربونها هؤلاء الأبرار من تسنيم الذي هو شراب المقربين صِرفاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ ذاك وصف لحال الناس‫:‬ الأبرار والفجار، ولك أن تختار‫.‬ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (خمسٌ بخمسٍ ما نقص قوم من عهد إلا سُلِّطَ عليهم عدوهم ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا ظهر فيهم الطاعون -وفي رواية وما فشت فيهم الفاحشة-إلا فشا فيهم الموت وما طففوا الكيل إلا مُنِعُوا النبات وأُخِذُوا بالسنين وما منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر‫.‬) ويقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في قول الله (عز وجل): ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يقول‫:‬ "يوم يقوم الناس لرب العالمين في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه ومنهم من يصل إلى ركبتيه ومنهم من يصل إلى حَقوَيه ومنهم من يصل إلى صدره ومنهم من يصل إلى أذنيه ومنهم من يَرْشَحُ في عرقه كما يرشح الضفدع وإنه ليهون على المؤمن حتى يكون كصلاة الفريضة يصليها في الدنيا).‬‬‬‬‬‬
‫كان المؤمنون مستضعفين في الأرض، فقد آمن به الفقراء وآمن به العبيد وآمنت به الإماء واستعصى الإيمان على المستكبرين، أؤلئك المترفين في كل زمان ومكان الذين إذا جاءهم رسول من الله بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، المترفون في كل زمان ومكان الذين أبطرتهم النعمة والذين تمسكوا بما لديهم من مال أو جاه أو سلطان واستنكفوا أن يتبعوا غيرهم من البشر، صناديد قريش الذين طغوا وتجبروا في مكة وتسلطوا على رقاب العباد فكان المؤمنون إذا مروا بهم يتغامزون واستهزأوا وسبوهم وآذوهم ولم ينجُ من العذاب أحد، حتى سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) يسجد لله (تبارك وتعالى) في الكعبة ويأتي هؤلاء الكفار غلاظ القلب يأتون ببقايا جمل ذبيح جزور، يأتون بِسَلَى هذا الجذور – أمعاؤه – وقذره ويضعوها على ظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو ساجد في الحرم، في بيت الله، ويظل ساجداً حتى تأتي ابنته فاطمة فتُمِيطُ الأذى عن ظهره‫.‬ يبين ربنا (تبارك وتعالى) أفعال هؤلاء ثم يبين مصيرهم فيقول :
إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا۟ كَانُوا۟ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا۟ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿30﴾ وَإِذَا ٱنقَلَبُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِينَ ﴿31﴾ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَضَآلُّونَ ﴿32﴾ وَمَآ أُرْسِلُوا۟ عَلَيْهِمْ حَـٰفِظِينَ ﴿33﴾ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴿34﴾ عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴿35﴾ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ ﴿36﴾
‫﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ يضحكون منهم، يستهزئون بهم‫.‬ ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ والغَمْزُ قد يكون باليد، والغمز قد يكون بالعين، والغمز قد يكون باللسان‫.‬ وهدف الغمز باليد للتنبيه، إذا غمزتَ شخصاً بيدك وأردتَ التنبيه كما تقول عائشة كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي في فراشه فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت قدمي حتى يسجد، أي غمزها بيده‫.‬ والغمز أيضاً قد يكون بالعين ولكن فيه السخرية والاستهزاء بالغير، وهذا الغمز لا يكون للصالحين أبداً، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) حين دخل مكة فاتحاً وقد أهدر دم رجال فاستغاث أحدهم واستجار بعثمان بن عفان وجاء به عثمان ملثماً حتى لايراه المسلمون فيقتلونه واستأمن له رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودخل عليه وقال يارسول الله‫:‬ إني أَجَرْتُ فلاناً، فسكت النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى كرر عثمان الكلام ثلاث مرات، فأَمَّنَه النبي (صلى الله عليه وسلم) وعفا عنه بعد المرة الثالثة، فخرج عثمان وخرج الرجل معه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) للجالسين من أصحابه‫:‬" لقد سَكَتُّ حين طلب مني عثمان ذلك كي يقوم أحدكم فيطيح برقبة هذا المنافق" فقال أحدهم‫:‬ يارسول الله هلا غمزت إلى أحدنا بعينك؟ قال‫:‬ "لا! ما يكون لنبي -أو ما يصح-أن يكون لنبي خائنة الأعين" ذاك هو خُلُقُ المصطفى (صلى الله عليه وسلم). الغمز بالعين؛ تلفت نظر أحد الناس إلى آخر مستهزئاً أو لافتاً نظر أحد إلى عيب أو إلى كلمة أو إلى سلوك أو إلى تصرف، ذاك هو الغمز‫.‬ ربنا يصف فعلهم القبيح بالمؤمنين، كانوا منهم يضحكون وإذا مروا بهم -أي إذا مَرَّ المؤمنون عليهم-يتغامزون‫:‬ يستهزئون بهم، أو يغمزون بعيونهم، أو يشيرون إليهم، أو يعيبونهم باللسان‫.‬ ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ قراءة، ﴿فاكهين﴾ قراءة‫.‬ أي إذا انقلب الكفار وعادوا إلى بيوتهم انقلبوا فَكِهِين، فرحين، أَشِرِين، بَطِرِين، متلذذين باستهزائهم بالمؤمنين، فيرجع الكافر إلى بيته ويُحَدِّثُ أهل بيته عما فعل بفلان وفلان، لقد مَرَّ بنا فلان وفعلنا به كذا وكذا، ويتضاحك مع أهله ويُسَرُّ بذلك الفعل‫.‬ قيل الفاكِه‫:‬ المتنَعِّم‫.‬ والفَكِه‫:‬ البَطِر الأَشِر‫.‬ وقيل‫:‬ بل هما لغتان بمعنى واحد كالطامِع والطَّمِع‫.‬ ﴿انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾: أَشِرِين بَطِرِين، أو فاكهين‫:‬ متنعمين متلذذين بما فعلوا بالمؤمنين من استهزاء وسخرية‫.‬ ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ﴾: ولو من بعيد ﴿قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾: اتهموا المؤمنين بالضلال، الذين هم على الصراط المستقيم اتهموهم بالضلال‫.‬ والضلال‫:‬ البُعد عن الحق، الضلال‫:‬ التِّيه، الضلال‫:‬ الغيبوبة، الضلال‫:‬ الكفر‫.‬ ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ ما أُرسِلُوا عليهم رقباء شهداء على أعمالهم مسئولون عنهم، كُلٌّ مسئول عن نفسه، ما بالهم يهتمون بشئون الآخرين ويصفونهم بالضلال؟ هلا نظروا إلى أنفسهم؟ هل أرسلهم الله عليهم رقباء؟ ربنا يقول لسيد الخلق‫:‬ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية آية‫:‬ ٢٢] ويقول ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٠٧] ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ هذه بتلك، ومن يضحك آخراً؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(على الأرائك ينظرون) هنا ينظرون إلى الكفار، وقيل بين الجنة والنار كُوَى، كل كُوَّة يُرَى من خلفها أهل النار، كقوله في موضع آخر‫:‬ ﴿قال هل أنتم مُطَّلِعون(٥٤)فاطَّلَع فرآه في سواء الجحيم(٥٥)﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ٥٤- ٥٥] إذا أراد أهل النعيم أن ينظروا إلى أهل الجحيم فُتِحَت لهم الكُوَى فنظروا ورأوا‫.‬ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ينظرون إلى الكفار الذين استهزأوا بهم، فترى بلالاً ينظر إلى أبي جهل، وترى صهيباً ينظر إلى أبي لهب، وهكذا ينظرون‫.‬ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ سؤال للتقرير لا يحتاج للإجابة‫.‬ أي هل جُوزِي‫.‬ ثُوِّبَ: جُوزِي‫.‬ أَثَابَهُ وثَوَّبَهُ: جازاه‫.‬ والثَّوب أصلاً: الرجوع‫.‬ ثَابَ يَثُوبُ: رَجَع‫.‬ فالثَّوَاب ما يرجع على العبد من جزاء في مقابلة عمله، ذاك هو الثواب‫.‬ ويُطلَق في الخير والشر وإن غلب استعماله في الخير‫.‬ هنا يقول‫:‬ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾ إذاً هو يتهكم بهم، لأن كلمة ثُوِّبَ أي جوزي بالخير إذ غلب استخدام الكلمة في الخير‫.‬ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ نعم! جازاهم الله (تبارك وتعالى) بفعلهم، ألم يكونوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؟ الله يستهزئ بهم‫.‬ ألم يكونوا يضحكون من المؤمنين في الدنيا؟ المؤمنون اليوم يضحكون منهم‫.‬ وفي تفسيرهم قال ستُفتَح أبواب جهنم فيسارعون إلى أبواب جهنم وحين يهمون بالخروج تُغلَق الأبواب في وجوههم، وذاك قول الله‫:‬ ﴿الله يستهزئ بهم﴾كما كانوا يستهزئون، وهنا يراهم المؤمنون -وهم على الأرائك- فيضحكون منهم كيف سارعوا إلى الأبواب مُؤَمِّلين في الخروج ثم تُغلَق الأبواب في وجوههم‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ السورة تهتم بشأن الكيل والوزن، المكيال والميزان أداتان خلقهما الله (تبارك وتعالى) حيث قال‫:‬ ﴿ووضع الميزان﴾ عليها جُلُّ تعامل الناس، وأهم شيء في تعامل الناس هو العدل والحق، ولا يتحقق العدل إلا بالوزن وبالكيل، فكل التعامل أصله ومنشؤه وأساسه كيلاً أو وزناً. فإذا خسر الناس الميزان وطففوا الكيل ظلموا غيرهم، وحقوق العباد لا تُمحَى ولا تُنسَى، ومن ظلم أحداً في الدنيا الله وكيله، ويحذر نبينا (صلى الله عليه وسلم) من الظلم ويقول‫:‬ (اتقوا دعوة المظلوم فوالذي نفسي بيده ليس بينها وبين الله حجاب يرفعها الله فوق الغمام ويقول وعزتي وجلالي لأَنْصُرَنَّكِ ولو بعد حين) بل حرم الله (تبارك وتعالى) الظلم على نفسه وهو يقول‫:‬ "حَرَّمتُ الظلم على نفسي فلا تظالموا."

أيها الأخ المسلم؛ يصف ربنا (تبارك وتعالى) هذا المطفف بأنه إن سرق سرق الشيء الطفيف الخفيف التافه القليل، فكيف تبيع آخرتك بالحقير من الدنيا؟ وقال بعض الناس‫:‬ التطفيف في كل شيء؛ في الكيل والميزان كما جاء في السورة، أيضاً في الصلاة وفي الصيام وفي الذكر وفي الكلام وفي كل شيء، والتطفيف في الصلاة أن تؤديها سريعاً لا تُتِمُّ ركوعها أو سجودها، والوفاء في الصلاة أن تؤدي أركانها كما أدى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلكل شيء تطفيف ووفاء، فإياك وإياك أن تكون من المطففين لأن الله هددهم وتوعدهم‫:‬ ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾.