سورة الانفطار

لقاؤنا مع سورة الانفطار، سورة الانفطار سورة مكية شأنها شأن السور المكية تعالج شأن العقيدة وتصف لنا كيف يدمر ربنا (تبارك وتعالى) الكون والوجود ولا يبقى إلا الذات العلية، يقول الله (عز وجل) واصفاً لذلك اليوم :‬‬

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌۭ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾
‫﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ الانفطار‫:‬ الانشقاق، مصداقاً لقوله (عز وجل): (إذا السماء انشقت) [سورة الانشقاق آية‫:‬ ١] فَطَرَ الشيء‫:‬ شَقَّهُ. تَتَشَقَّقُ السماء لنزول الملائكة، كقول الله (عز وجل): ﴿ويوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام ونُزِّلَ الملائكة تنزيلاً﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٢٥] نعم تتفطر السماوات! ذلك البناء المتين الذي يقول الله (تبارك وتعالى) فيه‫:‬ ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٤٧] ذلك البناء العظيم المتماسك القائم بغير عَمَد يتشقق، وتتفطر هذه السماوات السبع لنزول الملائكة وقيام الساعة‫.‬ ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾: انفرطت وتساقطت وتفرقت ووقعت‫.‬ والتشبيه والتمثيل فيه الإعجاز، لأن الانتثار هو التفريق والتبديل بغير نظام‫.‬ ونَثَرَ الشيء ينثُرُه وينثِرُه نَثْراً: فَرَطَهُ وألقى به وأسقطه متفرقاً. والتعبير في الأصل يُطلَق على العِقد المنظوم من جواهر يربط بينها وبين بعضها سلك رفيع أو خيط دقيق، فإذا قُطِعَ الخيط انتثرت الجواهر فانفرط العقد وتساقطت في كل مكان‫.‬ وذاك التعبير يشعرنا بأن هذه النجوم والتي تتلألأ كالكواكب في السماء، تتلألأ كالجواهر، تتلألأ كاللؤلؤ، كيف وقفت في أماكنها وكيف سبحت في الفضاء؟ هناك رباط يربط هذا النظام، هذه النجوم تُربَط بسِلكٍ خفي ألا وهو الجاذبية‫.‬ جاذبية الأجرام سُنَّة من السُّنَنِ الكونية الذي وضعها رب الأكوان، فإذا أسقط ربنا هذه السُّنَّة أو رفعها أو ألقاها انتثرت النجوم كما تُنثَرُ الجواهر إذا انقطع سِلكُها، لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾. ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ والتفجير يحمل معانٍ كثيرة‫.‬ أصل الفَجْر‫:‬ الشَّقُّ في الشيء شَقَّاً واسعاً. فإذا البحار فُجِّرَت‫:‬ قال بعض العلماء أُزيلَت الشواطئ وأُزيلَ الحاجز –البرزخ- الذي جعله الله بين الملح والعذب فساحت واختلطت وأصبحت البحار والمحيطات والأنهار وكأنها بحر واحد‫.‬ وقيل التفجير بامتلائها وفيضانها فتُغرِقُ اليابس‫.‬ وقيل التفجير أن يجف ماءها وأن تشتعل البحار ناراً ويتحول الماء إلى نار، يحوله الواحد القهار‫.‬ ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ قُلِبَت ظهراً لِبَطن وأصبح أسفلُها أعلاها‫.‬ وبَعثَرْتُ الشيء، بَعْثَرَ الشيء يُبَعثِرُه‫:‬ قَلَبَه وقَلَبَ ظهرَه لِبَطنِه وجعل أسفله أعلاه وجعل أعلاه أسفله ونَكَشَه ونَقَشَه وفَتَّشَ فيه‫.‬ فإذا القبور بُعثِرَت‫:‬ فُتِحَت وقُلِبَت وقُلِّبَت ونُبِشَت وأصبح ما في بطنها فوق ظاهرها فخرجت الأجساد بأمر الخالق، خرجت أجساد الموتى وبُعِثَ الناس‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫جواب ذلك كله إذا حدث هذا وذاك‫:‬ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ عَلِمَت النفوس بأعمالها لأن ذلك يوم الحساب والعلم هنا علم يقيني‫.‬ هل تعلم النفوس بنشر الصحائف؟ هل تعلم النفوس برؤية ماعليها من علامات؛ وجوه يومئذ ناضرة ووجوه أخرى باسرة؟ ويُعرَف المجرمون بسيماهم، يُحشَر المجرمون زُرقَاً، هل يعلمون بمظاهرهم التي بُعِثُوا عليها؟! وجوه مستبشرة ووجوه تظن أن يُفعَل بها فاقرة أم علمت بنشر الصحائف؟ أم ظهرت الحقائق وانعدمت الوسائط؟ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ ما قَدَّمَت في أول عمرها وما أَخَّرَت في آخر عمرها، علمت نفسٌ جميع أعمالها من أول سن التكليف إلى سن الممات‫.‬ أو ما قَدَّمَت من خير وأَخَّرَت من شر، ما قَدَّمَت من طاعة وما أَخَّرَت من معصية، ما أَسلَفَت من خيرٍ وعملٍ صالح وأَخَّرَت أي ابتعدت وتركت وراء ظهرها من طاعات لم تأت بها‫.‬ أو ما قَدَّمَت ليوم القيامة وما أخرت وراءها من سُنَّة، فقد يموت الإنسان ولا ينقطع عمله أبداً ولا تُطوَى صحيفته، فمن سَنَّ سُنَّةً حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ذاك ما أَخَّر، أَخَّرَ سُنَّة حسنة، وَرَّثَ مصحفاً، أجرى نهراً، حفر بئراً، زرع نخلاً، ترك ولداً صالحاً يدعو له، ذاك يجري أجره عليه وهو في قبره‫.‬ ومن سَنَّ سُنَّةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، هو في قبره ولم تُطوَ صحائفه بل لازالت ملائكة الشمال يكتبون سيئات يرتكبها آخرون سَنَّ لهم ذلك وعَلَّمَهُم ذلك‫.‬ ﴿يُنَبَّأُ الأنسان يومئذٍ بما قَدَّمَ وأَخَّر﴾ في سورة القيامة‫.‬ وهنا أيضاً ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ أَخَّرَت من سُنَّة سيئة أو سُنَّة حسنة فعمل بها من بعدها فنالت ثوابها أو حملت وزرها‫.‬ أو بما تَقَدَّم، ما تصدق به لله "خير مالك ما أنفقت وشر مالك ما خلفت" ما قَدَّمْتَ من مالٍ لله وما أَخَّرْتَ تركة للورثة يعملون فيها بطاعة الله أو بمعصية الله وقد شقي هو بجمعها وقد يُثَابُ وقد يُعاقَب، علمت نفس ما قدمت وأخرت‫.‬ ثم يتوجه التوبيخ والعتاب والتقريع والتعجيب :
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ ﴿6﴾ ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِىٓ أَىِّ صُورَةٍۢ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾
الإنسان هنا الكافر، أيضاً المؤمن العاصي وليس الكافر فقط، بل المؤمن الذي يعصي والمسلم الفاسق، فالخطاب موجه لكل هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ﴾: ما خدعك؟ والغُرور‫:‬ الخداع، وغَرَّهُ: خدعه وأطمعه بالباطل، ما الذي جَرَّأَك على عصيان ربك؟ حِلْمُه؟ كَرَمُه؟ عفوه؟ ستره؟ ما الذي غَرَّك؟ ما الذي خدعك حتى اجترأت على معصيته بالليل والنهار؟ ولذا يقول الله (تبارك وتعالى): يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ والرب‫:‬ المـــُرَبِّي‫.‬ التربية‫:‬ إيصال الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً بحسب استعداده، فيُذَكِّرُنا ربنا (تبارك وتعالى) أن ما نحن فيه منه وليس من سواه، فقد وُلِدتَ عارياً ضعيفاً لا تملك شيئاً فمنحك العقل ومنحك الحواس ومنحك الجوارح ومنحك التمييز ومهد لك الأرض ويسر لك السبل فارتزقت من فضله وبفضله، ما أنت فيه من صحة فمنه، ما أنت فيه من قوة فمنه، ما تستعين به على معصيته فمنه، أنت تعصي بعينك وهو الذي جعلك مبصراً، وأنت تعصي بأذنك وهو الذي منحك السمع، وأنت تعصي بيدك وتسعى بقدمك وهو الذي منحك ذلك‫.‬ ﴿بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ وكرم ربنا لا يعد ولا يحصى، هل غَرَّ الإنسان أن الله لا يعاجل بالعقوبة؟ يعصي بالليل فيستره بالنهار ويعصي ويرزقه فيغتر؟ هل غَرَّ الإنسان شيطانه أم غَرَّ الإنسان جهله أم غَرَّ الإنسان حمقه أم غَرَّ الإنسان عفو الله وستره؟ سؤال كل يجاوب لنفسه ويجاوب على نفسه، (ما غرك بربك الكريم). ثم يبين ربنا (تبارك وتعالى) التفصيل لبعض هذا الكرم‫:‬ ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)﴾ خلقك من عدم، لم تكن شيئا مذكوراً، كانت الناس وكانت الدنيا ولم تكن أنت، من ملايين السنين، مَنْ أنت ومن أين أتيت؟ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [سورة الإنسان آية‫:‬ ١] نعم كان الله ولم يكن شيء، وكان مستغنٍ بذاته عما سواه ولا زال في غناه ليس محتاجاً لعبادة أحد، ليس محتاجاً لطاعة أحد، ليس محتاجاً لتسبيح أو تحميد أو تهليل أحد، فقد كان من قبل العرش والفرش، كان من قبل الزمان والمكان، كان من قبل الملائكة وجبريل وإسرافيل ،كان الله ولم يكن شيء‫.‬ ﴿خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ﴾ خلقك من نطفة، خلقك من تراب، خلقك من ماء مهين‫.‬ ﴿فسَوَّاك﴾ سَوَّاك‫:‬ من التسوية، والتسوية بين الشيء أو بين الشيئين‫:‬ جعل الشيء سواء‫.‬ سَوَّاك‫:‬ سَوَّى جوارحك وأعضاءك فجعلها سوية مستوية مؤهلة لمنافعها، فجعل اليدين والقدمين وجعل اللسان والشفتين وجعل الأنف والأذنين، جعل كل ذلك، سَوَّاه وجعله سوياً مستوياً مهيأ للمنافع‫.‬ ﴿فعَدَلَك﴾ وقُرِأَت ﴿فعَدَّلَك﴾. عَدَلَك‫:‬ جعلك معتدلاً قائماً تسير على قدمين، خلقك في أحسن تقويم ولم يجعلك تزحف على أربع أو على بطنك، بل أقامك وعدلك وجعلك معتدل القوام معتدل الأعضاء، جعل أعضاءك معتدلة‫.‬ وانظر إلى يديك أترى إحداها أطول من الأخرى؟ وانظر إلى عينيك أترى واحدة أوسع من الأخرى؟ وانظر إلى أذنيك أترى واحدة مرتفعة عن الأخرى؟ وانظر إلى شفتيك أترى طولها مختلف؟ أنظر إلى أعضائك وجوارحك كيف عدلها الله فصارت معتدلة لا تفاوت بينها‫.‬ أورأيتم إنساناً وجهه أبيض وجسده أسود؟ أرأيت يداً بيضاء ويداً سوداء؟ عَدَلَك‫:‬ جعلك معتدلاً في اللون والصورة والخَلْق وتسوية الأعضاء فعدلك‫.‬ ﴿فعَدَلَك﴾ قراءة التخفيف، عَدَلَ بعض الأعضاء ببعض، من العَدْل وهو التسوية فجعل الأعضاء متساوية في القوة وفي الشكل وفي الهيأة وفي كل شيء‫.‬ وعَدَلَ بمعنى صَرَف، عَدَلَ عن كذا‫:‬ انصرف عن كذا، فعَدَلَك‫:‬ أي صَرَفَك إلى صورة تليق بك ولم يجعلك في صورة الحيوان أو صورة الحمار أو صورة الخنزير والقرد‫.‬ عَدَلَك أي صرفك إلى الصورة التي يشاؤها لك، إلى الصورة اللائقة بك، إلى الصورة الجميلة، إلى الصورة الحسنة، صرفك إلى الصور الجميلة والصور الحبيبة إلى نفسك وإلى نفس الناس ولم يصرفك إلى صورة الحيوان، سَوَّاك فعَدَلَك‫.‬ ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾: بحسب المشيئة، رَكَّبَك في صورة شاءها لك طويلاً أو قصيراً، أبيضاً أم أسود، ذكراً أم أنثى‫.‬ أيضاً يُقال إن الإنسان إذا كان نطفة في رحم أمه أحضر الله (تبارك وتعالى) نسب آبائه من لدن آدم ثم رَكَّبَه في صورة تشبه إحدى هذه الصور من لدن آدم‫.‬ فالنطفة في الرحم تحمل الصفات الوراثية للآباء والأجداد إلى آدم فيختار الله لك صورة أبيك، صورة أمك، صورة خالك، صورة عمك، فيختار صورة لك‫.‬ أهي صورة العم؟ أهي صورة الجد؟ أهي صورة سابع جد؟ ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ ولذا يحرم على الإنسان أن يعيب صورة أخيه فالمصوِّر هو الله ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٦] فإن عِبْتَ صورة أخيك أو عابت امرأة صورة أختها فقد عابت صنعة الصانع وانتقلت بإثمها ووزرها إلى سوء الأدب مع الخالق‫.‬ ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ والإنسان مُرَكَّب من أجزاء تحتاج بعضها إلى البعض الآخر، مَنِ الذي نَسَّقَ هذا الاحتياج والأداء؟ فعينك محتاجة إلى مخك، ويدك محتاجة إلى كتفك لتُعَلَّق فيه، والأعضاء والعضلات والأعصاب كل ذلك محتاج بعضه إلى بعض، فالإنسان ليس جوهراً لا يقبل الانقسام بل هو جسم مرُكَبَّ من أجزاء، هذه الأجزاء التي رُكِّبَت في مواضعها؛ اليد في مكانها والقدم في مكانها والأصابع في مكانها وكل شيء في مكانه مُرَكَّب لا ينفصل، أرأيت إنساناً يمشي فوقع منه ذراعه؟ أرأيت إنساناً يمشي فانفصل عنه قدمه؟ أرأيت إنساناً يطيل النظر في شيء فخرجت عينه؟ هذا الرباط وهذا التركيب وهذا التناسق ثم الوصل بين كل ذلك والاتصال، كُلٌّ محتاج إلى الكل فما من شيء يعمل وحده، بل القلب محتاج والصدر محتاج والبطن محتاج والأمعاء محتاجة، ما من شيء في جسدك إلا هو محتاج لغيره‫.‬ هذا التركيب والتنسيق من الذي فعل ذلك؟ هو الله! إذا كان الأمر كذلك فما غَرَّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك؟
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ ﴿9﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًۭا كَـٰتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12﴾
﴿كَلَّا﴾ أهي ردع وزجر في هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم في عبادتهم لغير الله محقون؟ أهي زجر للإنسان لكيلا يغتر بحلم الله وعفوه؟ فربنا (تبارك وتعالى) يُملِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وإن كان ربنا كريم فهو القهار شديد العقاب، ذو عقاب وذو مغفرة، ذو مغفرة وذو عقاب أليم‫.‬ (كلا) إياك وأن تغتر بالعفو، إياك وأن تغتر بالحِلم، إياك وأن تغتر بالستر، إياك وإياك‫.‬ قد تعني هذا، وهنا تقرأها وتقف "كلا" والوقف هنا‫.‬ أو هي بمعنى "لا" أو هي بمعنى "حقاً" حقاً تأكيد لما هو آت، كلا بل تُكَذِّبون بالدين‫.‬ أهو بيان لوصف السبب فيما غَرَّ الإنسان أنه كَذَّبَ بالبعث فاغتر وغَرَّه الشيطان؟ وكلمه "بل": إضراب، تحويل من كلام سبق إلى كلام آت، هو نفي لأمر سابق وإثبات لغيره‫.‬ إذاً فكلمة ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ﴾ إذاً فهي نفي لما اعتاده الناس، وإثبات للسبب الحقيقي الذي دعا العاصي لعصيانه والكافر لكفره أنه كذب بيوم الدين، لم يصدق بالبعث، أنكر القيامة‫.‬ ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ والدين‫:‬ الجزاء، الدين‫:‬ العقيدة، والدين‫:‬ الشريعة‫.‬ بل تُكَذِّبون بالدين‫:‬ أي بيوم الدين، أي بيوم الجزاء حيث يَدِينُ الله عباده ويحاكمهم ويسألهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي‫.‬ وقد يكون معنى التكذيب هنا التكذيب بالقرآن، التكذيب بالإسلام، التكذيب بمحمد (صلى الله عليه وسلم) أو التكذيب بالجزاء في يوم القيامة، في يوم البعث، ذاك شأنهم‫.‬ ويأتي التقرير للحقيقة التي كَذَّبوا بها، أيضاً يأتي التحذير من أنه لا إهمال أبداً، والعفو أو الحِلم أو الستر لا يعني ذلك إهمالاً من الله أو نسياناً أو غفلة‫:‬ ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ إذاً فكل ما يعمل ابن آدم محصور مكتوب بين دفتين‫.‬ حافظين‫:‬ أي مراقبين يحفظونكم، يراقبونكم، يراقبون أعمالكم ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق آية‫:‬ ١٨] ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ إذاً فإن عمل العبد معصية ولم يعاجله ربنا بالعقوبة ليس ذلك لأن الله لم يراها أو لم تُحسَب عليه، بل كُتِبَت إلى أن يستغفر، وذاك حِلمُ الله وعفوه، أو ينسى ويبقى على غيه فيأتي يوم القيامة حيث علمت نفس ما قدمت وأخرت‫.‬ ثم يصف ربنا (تبارك وتعالى) الرقباء الكتبة فيقول‫:‬ ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ كراماً على الله كاتبين‫.‬ إذاً فهناك كتابة -إي وربي- لأن الله يقول‫:‬ ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١)﴾ هناك كتبة، نؤمن بذلك، أما آلة الكتابة وما يُكتَب فيه فنُفَوِّضُ العلم فيه إلى الله، أيكتبون بقلم؟ أيسطرون في صحائف؟ آلة الكتابة والسطور في أي شيء سُطِر؟ ذاك علمه إلى الله لكن هناك كتابة‫.‬ وعلمنا الحديث يرينا أن هناك أنواع كثيرة من الكتابة في أجهزة حديثة كهربائية وما إلى ذلك، تكتب بالرموز، تكتب على شرائط، فيها فتحات وأشياء وأشياء، لكن الله تبارك وتعالى حين يأمر ملائكته بالكتابة فهو القادر على خلق أداة للكتابة وعلى خلق ما يُكتَب فيه‫.‬ لكن التعبير في هذه الجمل ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ يبين لكل إنسان إن غَرَّهُ حِلمُ الله وستره أنه لا إهمال ولا نسيان ولا سقوط لشيء، كما وأن وصف الكتبة بالحفظ والكرامة والكتابة يدل على عِظَمِ شأن الكاتبين وعِظَمِ شأن ما يكتبون ويترتب عليه عِظَمُ شأن الثواب والعقاب‫.‬ كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون‫:‬ علم يقيني، وهنا تكلم عن الأفعال، فهل ما انطوت عليه النفوس تعلمه الملائكة؟ ما تحدثت به النفوس تعلمه الملائكه أيضاً؟ قال بعض العلماء المحققين نعم، كيف ولم يتلفظ الإنسان بشيء ولم يحرك أعضاءه بشيء؟ قالوا إذا هَمَّ الإنسان بحسنة شَمَّتِ الملائكة منه ريح المسك فعلموا ذلك، وإن هَمَّ الإنسان بسيئة ظهرت منه رائحة النَّتَن فعلمت الملائكة بذلك‫.‬ وقيل بل كل ما انطوت عليه القلوب والنفوس والصدور لا تعلمه الملائكة ولا تكتبه ولكن الله يعلمه، فتسطر الملائكة ما يسطرون ويموت العبد وتصعد الملائكة مستبشرة بصحائفه فقد دَوَّنَت فيها حسنات وأعمال خيرية كثيرة وحب من الناس، يصعدون بها إلى عِلِّيِّين، إلى السماوات، فيقول الله (تبارك وتعالى) لها‫:‬ لا تفتحوا لها أبواب السماء واهبطوا بها وألقوها بعيداً فكل ذلك لم يُبتَغَ به وجهي! النية يعلمها الله (إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئٍ ما نوى) فالملائكة لا تعلم النوايا فتكتب الأفعال لكن الله يعلم النوايا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ يقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "البِرُّ لا يَبلَى والذنب لا يُنسَى والدَّيَّان لا يموت، كما تَدينُ تُدَان"‬‬
‫يتبين المصير بعد ذلك، والناس فريقان وليس هناك فريق ثالث، فريق في الجنة وفريق في السعير‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍۢ ﴿13﴾ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ﴿16﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌۭ لِّنَفْسٍۢ شَيْـًۭٔا ۖ وَٱلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍۢ لِّلَّهِ ﴿19﴾
تقسيم بعد ما قامت القيامة وانفطرت السماء وانتثرت الكواكب وفُجِّرَت البحار وبُعثِرَت القبور ونُشِرَت الصحائف وتبين حقيقة الأمر، وبعد ذلك العتاب والتذكير يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) أن هناك تقسيم، ولا يمكن أن يُفَسَّرَ حِلمُه بالتسوية بين الموالي والمعادي، أو بين الطائع والعاصي، فلابد من التقسيم، وذاك التقسيم يحدث في يوم القيامة، يوم المحكمة، يوم التغابن، يوم الجمع‫.‬ ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ الأبرار‫:‬ جمع بَرّ، والبَرّ: المتصف بالخير‫.‬ وأصل كلمة بَرّ: الواسع من البحر البحر الماء والبر اليابسة‫.‬ والبَرّ: التوسع في كل خير، وربنا هو البَرُّ الرحيم المتوسِّع في إفضاله وإنعامه وخيره وآلائه‫.‬ الأبرار الذين بَرُّوا آباءهم وأمهاتهم، الذين بَرُّوا أبناءهم وبناتهم، الذين بَرُّوا إخوانهم وأخواتهم، الذين توسعوا في كل خير‫.‬ (البِرًّ أمرٌ هَيِّن‫:‬ وجهٌ طليق وكلامٌ لَيِّن) البِرّ: الخير، البِرّ: الصدق، البِرّ: الوفاء، البِرّ: الطاعة، البِرّ: حب الله‫.‬ هؤلاء الأبرار يقول الله عنهم إنهم لفي نعيم، وكلمة "نعيم" نكرة، وهذا التنعيم للتفخيم، إذ هو فوق خيال كل مُتَخَيِّل، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، حتى الظن، حتى الوهم، مهما هُيِّئَ لك ومها هيأت لك أفكارك ومهما تخيلت من سعادة أو نعيم أو متع أو طعام أو حور، لا والله كل ذلك خلاف ذلك، أي أن الظنون -حتى الظنون والأوهام- مهما توسعت فيه لا يقاس بالنعيم الحقيقي، حتى إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "والذي نفسي بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) موضع السوط! السَّوْط‫:‬ العصا، السوط ما يسمونه كرباج، لو وُضِعَ في أرض الجنة ماذا يأخذ من مساحة؟ العصا القصيرة، هذا السوط الذي يضرب به الراكب بعيره إذا وُضِعَ على الأرض، مساحة الأرض التي يأخذها السوط موضعه كم في كم؟ هل يُحسَب هذا الموضع من الجنة خير من الدنيا وما فيها؟ أغلى من الدنيا وما فيها؟ أعظم من الدنيا وما فيها‫.‬ وتخيل ما في الدنيا من قصور وحدائق وأنهار وما إلى ذلك، موضع سوط أحدكم خير من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلَعَتْ واحدة من الحور العين على الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، أي نعيم هذا؟ وكيف يوصَف؟ يكفي أن الله (تبارك وتعالى) قال فيه‫:‬ ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ وحين يقول "نعيم" -وهو الصادق- فهو نعيم، حين يصفه بأنه نعيم في الوقت الذي يصف فيه الدنيا بقوله‫:‬ ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٧] والزينة تقام ثم تُفَضّ. إذاً فحين يقيس الإنسان ذاك يعرف معنى كلمة نعيم‫.‬ إن القائل هو الله، ثم إن النعيم الذي يذكره ربنا (تبارك وتعالى) هو الذي صنعه وأعده، من ذلك أنه خلق جنة عدن بيده وشق فيها أنهارها ودَلَّى فيها ثمارها ثم أذن لها فقال تكلمي فقالت‫:‬ قد أفلح المؤمنون‫.‬ ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ تقسيم، هما فريقان‫.‬ والفُجَّار جمع فاجِر، والفاجِر‫:‬ هو الذي هتك ستر الدين، الفاجر‫:‬ الكافر، الفاجر‫:‬ العاصي المتمادي في عصيانه‫.‬ وهم فَجَرَة وهم فُجَّار، وأصل كلمة الفجرة من الفَجْر، والفَجْر‫:‬ شَقٌّ الشيء، وربنا أخبرنا أنه أنزل علينا لباساً يواري سوءاتنا وريشاً كالأثاث وما إلى ذلك ثم قال‫:‬ ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٦] وكأن العبد حين خُلِق خَلَقَ الله لباساً من التقوى يواريه ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٦] ويُحَذِّر ويقول‫:‬ ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٧] حين نزع الشيطان لباس آدم بمعصيته فبدت له سوأته، هل نرى إنسان يعصي فيتعرى وتسقط ثيابه؟ أبداً! إذا عصى الإنسان الآن ما يسقط عليه ليس من ثيابه بل يسقط عنه لباس التقوى، فإن استغفر عاد إليه لباسه -لباس التقوى- وإن استمر على معصيته تَعَرَّى وفَسَقَ كالرطبة تَفْسُق أي تخرج عن قشرتها فتتعرض للذباب وما إلى ذلك‫.‬ والتعبير بكلمة الفُجَّار تُشعِرُك بأن الفاجر هو الذي شَقَّ لباس التقوى شَقَّاً واسعاً لا يُرتَق أبداً، فهو لا يستغفر ولا يتوب ويستمرئ المعاصي ويسدل في غيه وكأنه شَقَّ لباس التقوى وفَجَّرَه تفجيراً فلا يُرتَق أبداً، لذا سمي فاجراً لأنه شق لباس التقوى‫.‬ ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ والجحيم نكرة، والتنكير للتهويل وللتفظيع‫.‬ جحيم فظيع، هول ما بعده من هول، والقادر على خلق النعيم قادر على خلق الجحيم‫.‬ ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ﴾ يصلونها‫:‬ يُقاسُون حرها ولهيبها‫.‬ صَلَاه‫:‬ شواه‫.‬ وتصلية الشيء‫:‬ إدخاله في النار يُشوَى‫.‬ يَصلَونها‫:‬ يَصلَون الجحيم‫.‬ يوم الدين‫:‬ يوم الجزاء الذي كذب به المكذبون، ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ إذاً فهؤلاء لهم الجحيم يصلونها يوم الدين، يوم الجزاء، يوم المحاكمة، يوم السؤال‫.‬ (وما هم عنها بغائبين) تدل على الخلود لأنه لم يغب عنها‫.‬ وطالما لا يغيبون عنها أبداً فهم ليلاً ونهاراً فهم فيها على التأبيد‫.‬ وما هم بغائبين إذاً فهم ليسوا منها بخارجين أبداً. بل قال بعض العلماء (وما هم عنها بغائبين) ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا وهم في القبور فقد رأوها ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٤٦] فالعبد إذا مات وسئل في قبره وأجاب ولم يتلعثم وأُلهِمَ الصواب وثَبَّتَه الله بالقول الثابت فَتَحَت له الملائكة طاقةً رأى منها مقعده في الجنة يبشرونه ويقولون له‫:‬ قد علمنا إن كنت لموقناً، هذا مقعدك في الجنة انظر إليه حتى تُبعَث إليه‫.‬ وإن كان العبد كافراً أرته الملائكه مقعده من النار وقيل له‫:‬ ذاك مقعدك من النار انظر إليه حتى تُبعَث إليه يوم القيامة‫.‬ ﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ فبموتهم شهدوها وبيوم القيامة دخلوها‫.‬ ثم يأتي السؤال الذي يُشعِرُ بالتهويل‫:‬ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ وكل ما جاء في القرآن من قول الله (عز وجل) "وما أدراك" فقد أدراه، وما جاء "وما يدريك" طُوِيَ عنه ولم يعلمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فإذا قال الله‫:‬ "وما أدراك" أدراه وأعلمه، وإذا قال "وما يدريك" طُوِيَ عنه ولم يعلمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم). هنا قال‫:‬ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ ثم كَرَّرَها للتأكيد والتهويل والتفظيع ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ ما أعلمك بهذا اليوم؟ وما أعلمك بفظاعته وشأنه؟ ثم يفسر ربنا ويُدرِيه‫:‬ ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ نعم في ذلك اليوم لا تملك نَفسٌ لنَفسٍ شيئاً، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يُغنِيه‫.‬ نعم "اعملي يا فاطمة فإني لا أغني عنك من الله شيئاً"، "لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". يقول الله (تبارك وتعالى) يوم القيامة‫:‬ "اليوم أضع أنسابكم وأرفع نسبي" نعم فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا هم يتساءلون‫.‬ يوم لا تملك نَفسٌ لنَفسٍ شيئاً. الخليل يقول‫:‬ نفسي ثم نفسي لا أستطيع أن أقترب من ربي، الخليل! نعم ينادي ربنا تبارك وتعالى‫:‬ (لمن الملك اليوم) فلا يجيبه أحد، فيجيب هو نفسه‫:‬ (لله الواحد القهار). الأمر يومئذٍ لله، هو القاضي، هو الحَكَم ولا مُعَقِّبَ لحُكْمِه، وحُجَّةُ الله على عباده بالغة، والأمر يومئذٍ لله، هو الذي يحكم لا راد لقضائه ولا مُعَقِّبَ لحُكمه‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك اليوم‫:‬ (إن الناس تغرق في عرقها فغارق إلى كعبيه وغارق إلى ركبتيه وغارق إلى حَقوَيه وغارق إلى كتفيه وغارق إلى أذنيه) وهكذا‫.‬ وحين نسمع ذلك تقشعر منا الأبدان، لكنا يطمئننا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك اليوم أيضاً: "إنه ليُخَفَّف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" نعم ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬