سورة التكوير

لقاؤنا مع سورة التكوير‫.‬ سورة التكوير سورة مكية نزلت لتعالج قضيتين وتقرر حقيقتين‫.‬ الحقيقة الأولى قيام الساعة، والحقيقة الثانية صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما أبلغ به عن ربه‫.‬ وقد ذُكِرَ في أول السورة اثنتي عشرة صفة لبيان أهوال يوم القيامة؛ سِتٌّ في آخر أيام الدنيا وسِتٌّ في أول أيام الآخرة‫.‬‬‬‬‬‬‬

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿4﴾ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿5﴾ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿6﴾
سِتُّ أمور تحدث في آخر أيام الدنيا يلحقها سِتٌّ في أول أيام الآخرة‫.‬ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ التكوير‫:‬ التلفيف على جهة الاستدارة‫.‬ كَوَّرَ الشيء‫:‬ لَفَّفَه وجعله كالكرة‫.‬ أتُلَفَّفُ الشمس؟ أم يُلَفُّ ضوءها؟ فإذا لُفِّفَ الضوء امتنع عنه الاستطارة والانتشار، وضوء الشمس منتشر في الآفاق، فإذا لُفِّفَ الضوء وكأن الضوء يُلَفُّ حول الشمس ولا ينتشر فتظلم‫.‬ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ أم أن الله (تبارك وتعالى) يلقي بها في الفضاء إلى حيث يريد؟ لأن التكوير الإلقاء إلى الهوي، طَعَنَه فكَوَّرَه‫:‬ أي طعنه فألقاه صرعى، فألقاه فتَكَوَّر على الأرض‫.‬ أَيُلقِي بالشمس؟ يُطَوِّحُ بها في الفضاء وكأنه لا قيمة لها وكأنها لم تشرق على الدنيا في يوم من الأيام؟ ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ طُمِسَ ضوءُها‫.‬ والانكدار‫:‬ الانقضاض بسرعة، أسرع وانقَضَّ: انكَدَر، أتتناثر النجوم في الفضاء؟ تتناثر وتنقض على الأرض؟ يُلقَى بها إلى أي مكان؟ أم أن الانكدار معناه تغير الضوء إلى السواد بعد أن كانت منيرة فيها البريق؟ من الكَدَار، كَدَر الماء وكدر الماء فانكدر، تغير فأصبح يشوبه السواد والعكارة والانكدار، هل هذا كناية عن إظلام النجوم وذهاب ضوءها؟ حتى الاسم؛ فسميت النجوم نجوماً من الظهور؛ نَجَمَ الشيء‫:‬ ظَهَر، لأنها تظهر بضوئها في السماء‫.‬ هذا الضوء ينكدر، يَسْوَدُّ، تُظلِم أم تتناثر؟ يُلقَى بها في كل مكان وينفرط العقد؟ والكون إذا نظرت إلى السماء لوجدت النجوم والكواكب والشموس والأقمار كالعِقدِ المنظوم مرتبط بعضها ببعض، وإن قيل لنا أن الرباط هو الجاذبية، والجاذبية خلقها الله‫.‬ من هنا هي في مجرات وفي أفلاك وتدور في أفلاكها متعلق بعضها ببعض، أيُسقِطُ الله (تبارك وتعالى) الجاذبية ويمحوها من الدنيا فينتثر ويفرط العقد فتهوي؟ انهدام للملك، تحطيم للكون، أي شأن هذا وكيف يكون؟ ﴿وإذا الجبال سُيِّرَت﴾ هذه الجبال الرواسخ الشوامخ تسير في الهواء فتصبح كالهباء المنثور، قُلِعَت من أماكنها وسارت في الفضاء ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ٨٨] يُسَيِّرُ ربنا الجبال؟ تسير هذه الشوامخ فتصبح كالسراب؟ ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ والعِشار جمع عَشْرَاء‫.‬ والعَشْرَاء‫:‬ الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر، فإذا حملت الناقة وانقضى من حملها عشرة أشهر سميت عشراء حتى تضع عند تمام السنة تُسَمَّى عشراء‫.‬ والعشراء من أنفس وأكرم أموال العرب، يعتز العربي بناقته، والإبل هو أعظم مال العرب في ذلك الوقت، وكلما ازداد عدد الإبل كلما ازداد غنى الرجل وازداد مقامه، وأغلى ما في الإبل العشار‫.‬ فإذا العشار عُطِّلَت‫:‬ أي أُهْمِلَت فلا راعي لها ولا صاحب، والكلام يُشعِرُك -هو تمثيل لأن القيامة إذا قامت فلا عشار هناك- لكن الكلام فيه تمثيل يُشعِرُك أن القيامة إذا جاءت أهمل صاحب العشار عِشَارَهُ فعَطَّلَها فهو في شأن يغنيه عن ماله وعن أهله وعن بنيه وعن كل شيء‫.‬ وإذا العشار عُطِّلَت‫:‬ أُهمِلَت وتُرِكَت وتركها صاحبها‫.‬ ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ والوحوش‫:‬ تشمل كل الدواب حتى الذباب، حتى الطيور، حتى الأسماك‫.‬ حُشِرَت‫:‬ جُمِعَت وخرجت عن طبيعتها ومألوفها، فمن طبيعة الوحوش النفار، تنفر من الإنس وتسكن في الصحاري والقفار‫.‬ هذه الطبيعة -طبيعة النفار- تذهب عن الوحوش فإذا بالوحوش تجتمع مع الإنس في هذه الأرض‫.‬ حينما يحدث كل ذلك فإذا بالأسد يرى الطفل الصغير ولا يقترب منه مها كان جوعاناً، هو في أمر يشغله، هو في هلع وفزع، فتتخلص الوحوش ويذهب عنها طبيعتها -طبيعة النفار- وتخرج من أوكارها وأجحارها فإذا بها بين الناس‫.‬ ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ سَجَرَ الحوض‫:‬ ملأه‫.‬ وسَجَرَ التنور‫:‬ أحماه، أوقد ناره‫.‬ وإذا البحار سُجِّرَت تحمل معنيين؛ سُجِّرَت‫:‬ امتلأت، وهي ممتلئة الآن فكيف تُملَأ؟ امتلأت بمعنى أزال الله البرزخ، رفع الله البرزخ ففاض المالح على العذب وفاض العذب على المالح واختلطت المياه كلها فأصبحت بحراً واحداً فأمتلأت‫.‬ وقيل سُجِّرَت‫:‬ بل تحولت إلى نار، أُوقِدَت النار من تحتها فتبخر ماءها فلا يبقى فيها قطرة، لا عذب ولا مالح‫.‬ أو تحولت المياه – نفس المياه- تحولت إلى نار‫.‬ تلك سِتُّ خصال في آخر أيام الدنيا، وتبدأ سِتٌّ أخرى في أول أيام الآخرة
وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿7﴾ وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ ﴿8﴾ بِأَىِّ ذَنۢبٍۢ قُتِلَتْ ﴿9﴾ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴿10﴾ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ ﴿11﴾ وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴿12﴾ وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴿13﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌۭ مَّآ أَحْضَرَتْ ﴿14﴾
‫﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ أُلحِقَت الأرواح بالأبدان‫.‬ أو زُوِّجَت‫:‬ صُنِّفَت، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٧] السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة‫.‬ ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ أي قُرِنَت؛ قُرِنَ الصالح بالصالح وقُرِنَ العاصي بالعاصي وقُرِنَ المنافق بالمنافق وقُرِنَ الكافر بالكافر والفاجر بالفاجر‫.‬ صُنِّفَ الناس وقُرِنَ كل إنسان بشكله، بمثيله، بشاكلته، بصِنْوِه‫.‬ أو قُرِنَت الأرواح بالأبدان‫.‬ أو قُرِنَ كل إنسان بعمله ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [سورة الطور آية‫:‬ ٢١] فزُوِّجَ بعمله‫:‬ أي قُرِنَ به لا يجد منه انفكاكاً في عنقه‫.‬ (وإذا الموءودة سُئِلَت) والموءودة‫:‬ المدفونة حية، وسُمِّيَت موءودة لأن التراب الذي يُهالُ عليها يَؤودُها بثقله، ومنه قول الله (عز وجل): ﴿ولا يَؤوده حفظهما﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٥٥]: يُثْقِلُه‫.‬ فسُمِّيَت الموءودة موءودة لأن التراب الذي يُهالُ عليها يَئِدُها‫.‬ وكانت العرب في الجاهلية تَئِدُ البنات مخافة الإملاء، أو مخافة الاسترقاق‫.‬ وإذا المرأة إذا جاءها المخاض خرجت من بيتها وحفرت حفرة وتمخضت على الحفرة، فإذا ولدت ولداً أخذته وإن ولدت بنتاً ألقتها وهالت عليها التراب‫.‬ ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ وسؤال الموءودة سؤال تبكيت وتوبيخ وتقريع لوائدها‫.‬ ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ والآية دليل على أن أطفال المشركين لا يُعَذَّبون، فلا عذاب بغير ذنب، وغير المكلفين لا يُذنِبون‫.‬ وذاك رد على من زعم أن أطفال المشركين في النار، هاهي الموءودة تُسأَل وأبوها مُشرِك، وطالما سُئِلَت وهي طفلة لمـــُشرِك لِمَ قُتِلَت تبكيتاً لأبيها، إذاً فهي مظلومة ولا تعذيب بغير ذنب‫.‬ ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ صُحُف الأعمال نُشِرَت بعد أن كانت مطوية، فهما نشرتان وطَيَّةٌ. إذا كُلِّفَ الإنسان ببدء التكليف تُنشَر له صحائف تُدَوَّن فيها أعماله، فإذا مات طُوِيَت، فإذا بُعِثَ نُشِرَت، فهما نشرتان وطَيَّةٌ. وإذا الصحف نُشِرَت‫:‬ يراها الناس وفيها الفضائح، وما أدراك ما الفضائح! فيها العار، فيها المعاصي، ظاهرة‫.‬ بل ويُنصَب لكل غادر يوم القيامة لواء فيقال هذه غَدْرَة فلان بن فلان‫.‬ ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ كُشِطَت‫:‬ قُلِعَت ونُزِعَت‫.‬ والكَشْطُ في الأصل‫:‬ هو النَّزْعُ بشدة عن التصاق، كنزع الجلد والإهاب عن الذبيحة ،كيف يُسلَخ الكبش؟ كيف تُسلَخ الذبيحة؟ يُقلَع ويُنزَع عنها إهابها –جلدها– ذاك يُسَمَّى كَشْط‫.‬ كَشَطَ البعير‫:‬ نَزَعَ جلدَه‫.‬ وإذا السماء كُشِطَت‫:‬ وكأن السموات تُكشَط وتُنزَع وتُطوَى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٠٤] فتُقلَع سماء وتُقلَع سماء وهكذا سبع سموات، تُنزَع وتُقلَع فتُطوَى‫.‬ ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ أُوقِدَت مرة ثم مرة ثم مرة، وقيل أنها أُوقِدَت ألف عام حتى احمَرَّت، ثم زِيدَ في إيقادها ألف عام حتى اصفَرَّت، ثم زِيدَ في إيقادها ألف عام حتى اسوَدَّت فهي سوداء ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٤٧]. ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ قُرِّبَت‫.‬ أَتُقَرَّبُ الجنة لأهلها أم يُقَرَّبون هم إليها؟ والكلام على سبيل المبالغة‫.‬ تَزَلَّف فلان لفلان‫:‬ تَقَرَّبَ إليه‫.‬ أُزلِفَت‫:‬ قُرِّبَت‫.‬ هل قُرِّبَت إلى أعينهم فرأوها؟ هل قُرِّبَت هي بذاتها إليهم؟ هل قُرِّبَ المؤمنون إليها؟ إذا الجنة أُزْلِفَت، هنا عَلِمَت نفسٌ ما أَحْضَرَت‫.‬ سِتُّ في آخر أيام الدنيا وسِتُّ في أول أيام الآخرة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أو حشرت-قراءة- وإذا البحار سُجِّرَت أو سجرت -قراءة- سُجِرَت مرة واحدة، سُجِّرَت مرة تلو المرة) (وإذا النفوس زُوِّجَت -أول أيام الآخرة- حيث تُزَوَّج النفوس، يُزَوَّج المؤمنون بالحور العين ويُزَوَّج الكفار بالشياطين، أو تُرَدُّ الأرواح إلى الإبدان، أو تُصَنَّف الناس ويُقرَن الصالح بالصالح والكافر بالكافر، وإذا النفوس زُوِّجَت، ﴿وإذا الموءودة سُئِلَت﴾، ﴿وإذا الموءودة سَأَلَت﴾ فتُبعَث الأم الوائدة وإذا بالموءودة متعلقة تستصرخ وتقول‫:‬ لم قتلتني؟ ﴿سَأَلَت﴾: هي السائلة، تسأل وائدها أباً كان أو أماً. ﴿بأي ذنبٍ قُتِلَت﴾ - ﴿بأي ذنبٍ قتلت﴾ قراءة ، ﴿وإذا الصحف نُشِرَت﴾ - ﴿وإذا الصحف نُشِّرَت﴾ قراءة نُشِرَت مرة واحدة بالبعث، نُشِّرَت مرة تلو المرة وكأنها تُنشَر مرة تلو المرة للطائعين للاستبشار، مرة تنشرها الملائكه ومرة ينشرها المؤمن بنفسه ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه‫.‬ أما صحف الكافرين فتُنشَر مرة تلو المرة أيضاً، تُنشَر بالعار، تُنشَر بالفضيحة وهكذا‫.‬ ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١)وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ قراءة ﴿سعرت﴾ قراءة ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾ عَلِمَت علم اليقين‫.‬ والتعبير بكلمة (أَحضَرَت) تُشعِرُك أيها الإنسان أنك دخلت إلى هذه الدنيا وليس معك شيء، وانظر إلى الوليد يُولَد عارياً قابضاً كفيه على لاشيء، دخل الإنسان إلى هذه الدنيا فارغاً من كل شيء ثم يعود إلى الله (تبارك وتعالى) حاملاً في يمينه أو في شماله أو على ظهره ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٣١] فماذا أحضرت؟ أنت الآن تشبه إنساناً ترك أهله وترك عياله وسافر في رحلة طويلة، وَدَّعَه أبوه ووَدَّعَتْه أمه بالنصائح يا بني إياك والمعاصي، يا بني إياك وأصدقاء السوء، يا بني حافظ على نفسك، يا بني اتق الشرور، يا بني يابني‫.‬ وزُوِّدَ بالنصائح وسافر وارتحل بعيداً ودارت الأيام وعاد الابن إلى أمه وأبيه وأهله، الكل منتظر ينظر في حقائبه متى تُفتَح، تُرَى فيها أي شيء؟ والكل يأمل حين تُفتَح الحقائب أن يرى الهدايا، أن يرى العطايا، والأب يأمل أن يعود ابنه بشهادة، فقد أتم تعليمه ودراسته، يعود برسالة، يعود بشهادة، يعود وقد ابيَضَّ وجهه، والأب منتظر أمله أن يتحقق، والأم كذلك، وتُفتَح الحقائب وبدلاً من الهدايا والعطايا وشهادات الدراسة إذا بالحيات تخرج منها تسعى والعقارب تلدغ، أذاك عَودٌ حميد؟ فإذا بالكل يفر منه، تفر أمه ويفر أبوه‫.‬ فُتِحَت الحقائب وخرج منها مالا يخطر على بال من الشر والأذى ونَتَن الرائحة، ذاك عَوْد‫.‬ والعَودُ الحميد أن يعود وقد نجح وأفلح وعاد محققاً لأمل أبيه وأمه وامتلأت حقائبه بالهدايا والعطايا وكل نفيس لامرأته وبنيه، أَيُّ عَودٍ تختار؟ أنت في هذه الدنيا، كذلك الإنسان خلقه الله (تبارك وتعالى) بيده، وأوقفك أمامه وسألك من ربك؟ ومن خالقك؟ فقلتَ ورددتَ: أنت يا الله أنت ربي وأنت خالقي لا أنكر ذلك، فقال لك إياك أن تنسى، إياك أن تأتي بعد رحلتك إلى الدنيا وتقول كان أبي مشركاً وكان المجتمع منافقاً أو فاسقاً أو نسيت، فقلتَ: أبداً وكيف أنسى وأنا أرى بعيني خالقي ورازقي، وينتظرك حتى تعود، ثم يسألك مرة أخرى‫:‬ بِمَ عُدتَ من الدنيا؟ أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (ما منكم من أحدٍ إلا ويسأله ريه ما بينه وبينه ترجمان فينظر عن أيمنه فلا يجد إلا ما قدمه وينظر عن الشأم فلا يرى إلا ما قدمه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل). تلك صفات أحداث يوم القيامة؛ سِتٌّ في آخر أيام الدنيا وسِتٌّ في أول أيام الآخرة، ونتيجة الثنتي عشرة صفة أن تعلم النفس ما عملت وأن يحاسب الله (تبارك وتعالى) الناس على أعمالهم، (علمت نفس ما أحضرت) تلك كانت معالجة لقضية القيامة وتقرير لحقيقة القيامة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وينتقل الكلام للقضية الثانية ولتقرير الحقيقة الثانية؛ ألا وهي صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما أخبر عن ربه‫.‬ وتبدأ بالقَسَم، يقول الله (عز وجل):
فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ ﴿15﴾ ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ ﴿16﴾ وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿17﴾ وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿18﴾ إِنَّهُۥ لَقَوْلُ رَسُولٍۢ كَرِيمٍۢ ﴿19﴾ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍۢ ﴿20﴾ مُّطَاعٍۢ ثَمَّ أَمِينٍۢ ﴿21﴾ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍۢ ﴿22﴾ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِٱلْأُفُقِ ٱلْمُبِينِ ﴿23﴾ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍۢ ﴿24﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـٰنٍۢ رَّجِيمٍۢ ﴿25﴾ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴿26﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌۭ لِّلْعَـٰلَمِينَ ﴿27﴾ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴿28﴾ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿29﴾
والقَسَم في القرآن كثير وإن لم تدرِ الحكمة منه‫.‬ ولله (تبارك وتعالى) أن يُقسِم بما شاء على ما يشاء، وإن كنا نستشعر من القسم أن الله (تبارك وتعالى) يُقسِم بأشياء لتعظيم شأنها ولرفعة قدرها وللفت الأنظار إليها إذ بها يُستَدَلُّ على قدرته‫.‬ وأقسم ربنا على أشياء لتقرير حقيقتها ووقوعها ورفعة شأنها وجلال قدرها‫.‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أي أُقسِم، والعرب اعتادت في القَسَم أن تبدأه بحرف النفي، وكأن المـُــقسِم ينفي ما سوى المقسوم عليه، كقول الرجل :"فلا وأبيك" هو يُقسِم أي "وأبيك"، فكذلك ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أي أقسم، وحرف "لا" زائدة لمزيد التأكيد، أو هي نفي لما سوى المقسوم عليه، نفي لادعاءات ادعاها المشركون؛ هو كاهن، هو مجنون، هو ساحر، بل أساطير الأولين تُتلَى عليه‫.‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ قد تكون بمعنى النفي أيضاً؛ أي أن الأمر أعظم من أن يُقسَم عليه، وأصدق من أن يحتاج لقسم، وأظهر من أن تنكره عين، فكيف إذاً تم القسم عليه بهذا القسم العظيم‫.‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أي لستُ محتاجاً لقَسَم، أو إن الأمر غير محتاج لأن يُقسَم عليه لكل ذي نظر وبصر‫.‬ ﴿بِالْخُنَّسِ﴾ الخُنَّس، وما أدراك ما الخُنَّس! الخُنَّس جمع خَانِس وخَانِسَة، والخُنُوس‫:‬ الاستخفاء‫.‬ والخُنَّس‫:‬ النجوم، هي موجودة في السماء، إي وربي هي موجودة الآن ولكننا لا نراها، أين ضوءها؟ حجبه ضوء الشمس فانخَنَس ضوء النجوم فسُمِّيَت خُنَّس لخُنُوس ضوءها بالنهار رغم وجودها‫.‬ ﴿الجَوَارِ الكُنَّس﴾ الجَوَارِ جمع جارية لأنها تجري في أفلاكها ومساراتها، يجريها الله (تبارك وتعالى) فهي في أفلاكها وفي أبراجها تتغير مواقعها لكل ذي نظر وبصر، ولذا أقسم بها في مكان آخر حيث قال ربنا‫:‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(٧٥)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(٧٦)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٧٥-٧٦] الجوارِ التي تجري في هذه الأفلاك مسخرة مسيرة‫.‬ الكُنَّس التي تغرب بالليل، لأن النجوم وإن كانت تخنس بالنهار فهي خُنَّس موجودة وضوءها مختفي إلا أنها تجري أيضاً في أفلاكها ومساراتها وتتغير مواقعها يوماً عن يوم، فإذا جاء الليل وظهر ضوؤها بالليل غربت أيضاً، فلها مشارق ولها مغارب وفي غروبها تكنس كما تكنس الظباء‫.‬ الكُنَاس في الأصل‫:‬ البيت من أغصان الشجر تتخذه الظباء فتبيت فيه، وسُمِّيَ كُناساً لأن الظباء حين تدخل في كُنَاسها -أي في بيتها المصنوع من أغصان الشجر- تكنس الرمال، تزحف وتدخل في هذا الكناس‫.‬ تلك الكُنَّس التي صُنِعَت من أغصان الأشجار إذا دخلت إليها الظباء والكباش وما إلى ذلك لتختفي من الصائدين، فإذا أرادت الاختفاء دخلت إلى كُناسها فكَنَسَت الرمل فسُمِّيَ كُنَاساً. من هنا تطلق هذه الكلمة على النجوم ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ وكأنها في غروبها تكنس الفضاء وتذهب إلى كناسها، إلى عُشِّهَا أو إلى مكان غروبها‫.‬ النجوم، وذاك أرجح وأصح الأقوال في هذه الآيات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ عَسْعَس من الأضداد‫.‬ عَسْعَس تعني أقبل، وعَسْعَس تعني أدبر، إذ العَسُّ في الأصل‫:‬ الامتلاء، فإذا أقبل الليل ببدء ظلامه ثم يمتلئ بالظلام، وكذلك إذا أدبر أدبر بكل ظلامه ثم خفت الظلام‫.‬ فعسعس الليل‫:‬ أقبل الليل، عسعس الليل‫:‬ أدبر الليل‫.‬ وكأن القسم بحركة الليل في إقباله وفي إدباره‫.‬ ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ والتمثيل غاية في الإبداع‫.‬ النَّفَس في الأصل‫:‬ خروج الهواء من الجوف ودخوله وذاك يُسَمَّى النَّفَس‫.‬ إذا أقبل الصباح ولو أنت في مكان مغلق قد تشعر بإقبال الصباح من غير رؤية، بماذا؟ بالروح والنسيم، لأن للصباح نسيماً تشعر به، نسيم الصباح ولسعة الصباح، لسعة هوائه والروح الذي يُستَشْعَر إذا أقبل الصباح، ذاك هو نَفَسُ الصباح، وكأن الصبح يتنفس بهذا النسيم، تمثيل وتشبيه غاية في الإبداع﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾: أقبل بنسيمه وبروحه وبنَفَسِه، ذاك كان القَسَم‫:‬ ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥)الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)﴾ إجابة القَسَم؛ (إنه): القرآن ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾: جبريل‫.‬ ونَسَبَ القول إلى جبريل -والقول قول الله والقرآن كلام الله- لكن المبلِّغ عن الله جبريل‫.‬ ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ وقوة جبريل معلومة واضحة، فقد قَلَعَ قُرَى قوم لوط -وكانوا سبع قرى، مدائن- بطرف جناح من أجنحته -وهي ستمائة جناح- وحَرَّكَها حتى سمع أهل الملأ الأعلى صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قَلَبَها، ذاك جبريل حين رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) خَرَّ مغشياً عليه‫.‬ ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ عند ذي العرش‫:‬ الله (جل وعلا). ﴿مَكِينٍ﴾: أي له مكانة عند الله، قوة منحها الله له ومكانة تفضل الله بها عليه‫.‬ ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ﴾: هناك، ظرف زمان؛ (أين). مُؤتَمَن على الوحي يبلغه كما سمعه وكما علمه، جبريل مُطَاع في الملأ الأعلى، ومن طاعته أنه حين أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) وصعد به إلى السموات العُلَى نظر إلى خازن النار –مالِك- وقال‫:‬ افتح ليراها النبي (صلى الله عليه وسلم) ونظر إلى رضوان خازن الجنة وقال‫:‬ افتح ففتح‫.‬ ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ﴾: مُطاع هناك، أمين على الوحي، ذاك وصف جبريل‫.‬ ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾: النبي (صلى الله عليه وسلم). ذاك وصف جبريل لتقرير أن القرآن جاء به جبريل من عند الله فهو مطاع وأمين، مؤتمن على الوحي وذو قوة وقادر على التلقي من الله (جل وعلا). ثم الإلقاء إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) لتقرير حقيقة أن القرآن كلام الله ووحي من الله ونفي الصفات السيئة التي وصفوا بها النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الصادق الأمين‫.‬ ولذا تجد التعبير‫:‬ ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ﴾ عَبَّرَ عنه بكلمة (صاحبكم) -النبي (صلى الله عليه وسلم)- لتشعرك الكلمة وتُشعِر السامع بالصحبة والمصاحبة، هذا الذي بُعِثَ لكم رحمة تكذبونه وقد صاحبكم أربعين عاماً ما جربتم عليه الكذب قط حتى لقبتموه بالصادق الأمين؟! أفيدع الكذب على الناس ويكذب على الله؟! فيُذَكِّرُهم ربنا بصحبتهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) فهو ليس غريباً عنهم، لم ينزل من السماء ولم يأت من كوكب آخر ولم يأت من عالم آخر أو غريباً عنهم، بل هو منهم مصاحب لهم على مدار أربعين عاماً، لذا يقول ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ كما تزعمون وقد علمتم رجاحة عقله، مَنْ كان للأمور الجلائل؟ فهل إذا تكلم هل هناك كلمة لقائل؟ مَنْ وضع الحجر الأسود في مكانه فمنع الناس من الاقتتال؟ مَنْ ومَنْ ومَنْ؟ ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾. ﴿وَمَا هُوَ﴾: النبي (صلى الله عليه وسلم). ﴿عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ الضَّنُّ والضَّين‫:‬ البُخل، فلا يَضِنُّ بالوحي على الناس، بل يُعَلِّمُهم ويرأف بهم ويرحمهم، والكلام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن نفي الصفات، يعترضه كلام لتقرير حادثة وقعت أُنكِرَت عليه ألا وهي رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) لجبريل على صورته الحقيقية، إذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لجبريل كما يروي‫:‬ "دعني أراك على هيأتك التي تكون عليها في الملأ الأعلى" فقال جبريل‫:‬ إنك لا تحتمل ذاك ولا تطيقه، فطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) مرة ثانية فظهر جبريل في جهة المشرق جالساً على كرسي بين السماء والأرض سادَّاً بعِظَمِ خَلْقِهِ ما بين السماء والأرض فَخَرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) مغشياً عليه، فتحول جبريل إلى صورة بشرية ونزل من على كرسيه وضَمَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى صدره وقال له‫:‬ لا تخف، وهَدَّأَه حتى أفاق‫.‬ فحين أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بعضاً بهذا اتهموه بالجنون، فيؤكد ربنا (تبارك وتعالى) هذه الحادثة والواقعة فيقول‫:‬ ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾. وصف ربنا تبارك وتعالى جبريل بالصفات العليا‫:‬ الطاعة له، المكانة عند الله، المكانة على الوحي، وما ذُكِرَ في شأن جبريل‫.‬ ثم قرر ربنا (تبارك وتعالى) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد رأى جبريل، وهذه الرؤية حقيقة واقعة ولا يصح أن يُتَّهَم بالجنون على شئ رآه رأي العين‫.‬ ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ الأفق‫:‬ حين تنظر إلى مشرق الشمس أو مغرب الشمس، إلى آخر ما يراه نظرك وبصرك تجد السماء تكاد تنطبق على الأرض أو هكذا يُهَيَّأ لك، ذاك هو الأفق‫.‬ المبين‫:‬ المـُـوَضَّح‫.‬ إذاً فقد نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) جهة مشرق الشمس لأن جهة مشرق الشمس إذا أشرقت الشمس وضحت الأشياء وظهرت في هذا الاتجاه، وكأن ربنا (تبارك وتعالى) يحدد المكان الذي ظهر فيه جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ﴾ أي رأى محمد (صلى الله عليه وسلم) جبريل بالأفق المبين جهة مشرق الشمس‫.‬ ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ نفيُ هذه الصفة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وتأكيد الرؤية لجبريل‫:‬ ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ الغيب‫:‬ الوحي، الغيب‫:‬ ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ربه‫.‬ فالإنسان لم يكن يعلم شيئاً عن الجنة إلا بإخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) الجنة‫.‬.النار‫.‬.الصراط‫.‬.الميزان‫.‬.الملائكة والجن وصفات الله تبارك وتعالى العليا وأخبار الأمم الماضية والأنباء عن الأمم المقبلة، كل ذلك من الغيب، كل ذلك أُوحِيَ إلي النبي (صلى الله عليه وسلم). ربنا (تبارك وتعالى) يبين أمانة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في الإبلاغ كما بَيَّنَ أمانة جبريل في الإبلاغ‫:‬ ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾، وكذلك النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي على ما أُوحِيَ إليه من الغيبيات ﴿بِضَنِينٍ﴾ يَضِنُّ عليكم‫.‬ الضَّنُّ والضن‫:‬ البُخل، أي لا يَضِنُّ عليكم بما أُوحِيَ إليه، بل كل ما يعرف وكل ما يعلم عن الله ومِنَ الله يخبر به الناس‫.‬ وقُرِئت ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بظنين﴾ بالظاء‫.‬ الظِّنَّة‫:‬ التُّهمة، أي ما هو على الغيب الذي يقوله بمتهم حتى تتهموه بالكذب، ماهو بمجنون وما هو على الغيب بضنين وما هو على الغيب بظنين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ هذا القرآن الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) ليس من أقوال الشيطان الرجيم -أي المرجوم- أي المستَرِق للسمع، لأنهم اتهموا النبي (صلى الله عليه وسلم) -بالإضافة إلى الجنون والكذب وما إلى ذلك- اتهموه بالكهانة‫.‬ الكَهَانة‫:‬ تَسَمُّع من الكاهن لشيطان تَسَمَّعَ إلى الملأ الأعلى فينزل الشيطان بالكلمة يلقيها في أذن الكاهن فيضيف إليها مائة كذبة‫.‬ هذا الشيطان الذي يَتَسَمَّع يُرجَم حتى لا يستمع ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ١٠] فيُسَمَّى الشيطان الذي يَتَسَمَّع يُسَمَّى الرجيم، أي المرجوم، إذا استمع رُجِمَ بالشُّهُب، فربنا (تبارك وتعالى) ينفي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قد تَكَهَّنَ بأن استمع للشياطين التي تُرجَم إذا استمعت إلى السماء‫.‬ ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾. إذاً ليس صاحبكم بمجنون، وليس على الغيب بضنين، أو بظنين، وما هو بقول شيطان رجيم‫.‬ ذاك تقرير لحقيقة الوحي وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم). والسؤال بعد ذلك‫:‬ ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ هذه هي الحقائق تأتي من رب الخلائق، ذاك شأن القيامة وتلك أوصاف أحداثها، وذاك شأن الوحي وتقريرٌ بصدق النبي (صلى الله عليه وسلم)، ليس بقول الشياطين، ليس بالكهانة، ليس بقول مجانين، بل قول جبريل، ورآه النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يتوهم، رآه في صورته البشرية ورآه في صورته الملائكية‫.‬ أين تذهبون بعد ذلك؟ إلى أين؟ أين المهرب من الله؟ أهناك كون آخر أو إله آخر يُلجَأ إليه؟ أهناك قول آخر يُعتَدُّ به؟ ذاك هو قول الله فأين تذهبون؟ والسؤال بلا إجابة، السؤال سؤال تبكيت وتوبيخ وتقريع وتهديد ووعيد وبيان أنه لا ملجأ من الله إلا إليه ولا مهرب ولا مفر، أين تذهبون؟ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ القرآن ماهو إلا ذكر للعالمين، أي ليتذكر الناس المعاد فيعملوا في معاشهم من أجل معادهم‫.‬ والقرآن ذكر للعالمين إذاً فقد بُعِثَ النبي (صلى الله عليه وسلم) للإنس والجن كافة، ولجميع الخلائق أبيض وأسود وأحمر وما هو إلا رحمة للعالمين‫.‬ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ﴾: محمد (صلى الله عليه وسلم). ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ﴾: القرآن، إن هو إلا ذكر للعالمين‫.‬ ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ المشيئة للإنسان والاختيار للإنسان، من شاء أن يستقيم، أن يتحرى الاستقامة، أن يسلك الطريق القويم المؤدي إلى الهدف، ألا وهو رضا الله‫.‬ وحين نزلت الآية قال أبو جهل‫:‬ إذاً فإلينا المشيئة، وكأن الله تركهم لمشيئتهم ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٢٩] ولا يُثِيبُ ذلك ولا يُعاقِب هذا، فقال إن إليه وإليهم المشيئة، فيقول الله (تبارك وتعالى) مبيناً أن الإنسان وإن كان له مشيئة الاختيار إلا أن الله له القرار والاقتدار‫.‬ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فإن كان الإنسان له الاختيار وله مشيئة إلا أن الله هَدَى بالإسلام وأَضَلَّ بالكفر، ومشيئة الإنسان لا تتحقق إلا بمشيئة الله، فأعمال العباد وإن كانت منسوبة لهم على سبيل الاكتساب إلا أنها منسوبة إلى الله على سبيل الخلق والإيجاد، فربنا خلق الإنسان وعَمَلَه، وخلق النمل ودَأَبَه، وخلق النحل وعَسَلَه، وخلق الإنسان وعَمَلَه ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ٩٦] فللإنسان الاختيار وللإنسان المشيئة، ولكن كل ذلك لا يخرج عن مشيئة الواحد القهار، وما هو إلا ذكر للعالمين‫.‬ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ﴾ بمعنى ماهو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فإذا علمتَ أن لك المشيئة والاختيار علمتَ أنك مُحاسَب على عملك، وما ربك بظلام للعبيد‫.‬ وإذا اخترت طريق السلامة فاعلم أنه لايُمَهَّد إلا بفضل الله ولا يُسلَك إلا بتوفيق الله، فعليك باختيار طريق السلامة ثم أن تلجأ إلى الله صاحب المشيئة العليا وصاحب الاقتدار وإليه القرار أن يوفقك لسلوك الطريق وأن يوفقك لاتباع النهج المستقيم والسليم، لأن المشيئة في الأصل وفي النهاية هي مشيئة الله رب العالمين رب الكل، خالق الكل، رازق الكل، مُرَبِّي الكل، مُوصِلُ الكل إلى منتهى الغاية باقتدار وشيئاً فشيئاً بحسب الاستعداد لكل شيء ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٥٠].

أيها الأخ المسلم؛ تلك سورة التكوير تقرر حقيقة القيامة وحقيقة الوحي، وتبين أن الطريق هو طريق الله وأن على الإنسان أن يختار، فإذا اختار فليلجأ إلى العزيز الغفار‫.‬‬‬‬