القرآن الكريم / سورة عبس / التفسير المقروء

سورة عبس

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة عَبَسَ. وسورة عَبَسَ وتَوَلَّى سورة مكية نزلت بمكة وفي السنين الأولى للبعثة، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يطمع في إسلام وُجَهَاء قومه؛ زعماء قريش، فكان يتودد إليهم ويدعوهم إلى الله بلطف ورقة‫.‬ وفي يوم من الأيام وقد اجتمعوا حوله -زعماؤهم وأشرافهم- وهو يحدثهم ويدعوهم دخل عليه عمرو بن أم مكتوم، وهو أيضاً يُسَمَّى بعبد الله بن أم مكتوم الأعمى‫.‬ دخل عليه ولم يشعر بوجود أناس عنده فقاطع كلامه وناداه وقال‫:‬ يارسول الله علمني مما علمك الله، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنه، فعاد وكرر النداء‫:‬ أقرئني يارسول الله وعلمني وأرشدني، فعَبَسَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بوجهه وأعرض عنه مكملاً كلامه مع القوم، فنزل جبريل يعاتب النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن كان العتاب شديداً إلا أن الله (تبارك وتعالى) ساقه بأسلوب رقيق يخفف عن حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) شدة العتاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ ﴿1﴾ أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ ﴿2﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ ﴿3﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ ﴿4﴾
‫﴿عَبَسَ وتَوَلَّى﴾ والسياق إخبار عن الغائب بلفظ الإخبار عن الغائب تلطفاً مع الحبيب المصطفى، لأنه لو قال له بصيغة المخاطبة وبتاء الخطاب "عَبَسْتَ وتَوَلَّيت أن جاءك الأعمى" لكان ذلك أشد ما يكون على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فجاء السياق بصيغة الإخبار عن الغائب تلطفاً ورقة ورأفة لحبيب الله رسول الله (صلى الله عليه وسلم). والعُبُوس‫:‬ أن يُقَطِّب الرجل ما بين حاجبيه لضيق في صدره‫.‬ والتَّوَلِّي‫:‬ الإعراض، هذا ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ عَبَسَ وتَوَلَّى‫.‬ وقُرِئت "عَبَّسَ وتولى" ﴿أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ أي‫:‬ لِأَن جاءه الأعمى‫.‬ وقُرِئت ﴿آأن جاءه الأعمى﴾ على صيغة الاستفهام بمعنى‫:‬ أَلَأَن جاءه الأعمى يعبس ويتولى ويُعرِض؟ ويلفت النظر تعبير (الأعمى) والكلمة تُشعِر بأن الداخل عليك يا رسول الله لا يُبصِر ولم يشعر بوجود الناس معك، فهو معذور وأدعى لأن تعذره لأنه لا يبصر، فتُشعِر الكلمه بأنه معذور فيما فعل، وإلا لكان ذلك من سوء الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وتُشعِر الكلمة أيضاً بوجوب الرفق، إذ الأعمى أحق أن يُرفَق به‫.‬ وتُشعِر أيضاً بمبرر العتاب -أو التشديد في العتاب- إذ لا يصح أن يحدث ذلك معه وهو أعمى‫.‬ ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢)﴾ ثم التفت الخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وَوَجَّهَ له الخطاب تأنيساً له ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ أي‫:‬ ما الذي أعلمك أن هذا الأعمى قد يتطهر ويرفع ربُّنا مقامَه بما يتعلمه منك؟ ﴿يَزَّكَّى﴾ يَتَطَهَّر، من الزَّكاة، والَّزكاة‫:‬ الطُّهر والنماء‫.‬ فمن أدراك ومن أعلمك أن هذا الذي جاءك وأعرضت عنه قد يرفع ربُّنا مقامَه ويتطهر وينجو من ظلمة الجهل بتعليمك إياه؟ (لعله) والضمير عائد على الأعمى‫.‬ أو الضمير عائد على الكفار، أو زعيم الكفار الذي انتبه له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معرضاً عن الأعمى متودداً إليه طامعاً في إسلامه‫.‬ من أدراك أن ما طمعت فيه كائن؟ من أعلمك أن جهدك معهم وكلامك معهم واهتمامك بهم قد يؤتي ثماره؟ من يدريك؟ الله يُزَكِّي من يشاء، ما يدريك لعله يزكى؟ ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ أو يَذَّكَّر الأعمى، والكلام عائد على الأعمى، أو عائد على الكفار‫.‬ ﴿أو يَذَّكَّر فتَنْفَعَه﴾ بالنصب جواب "لَعَلَّ"، ﴿فتَنْفَعُهُ﴾ قراءة بالرفع عطف على ﴿يَزَّكَّى﴾. التَّذَكُّر‫:‬ أن يتذكر الإنسان نعم الله عليه، هو أن يتعظ بما يُتلَى عليه من قرآن، هو أن يعمل بأمر الله (جل وعلا).‬
أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ ﴿8﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿9﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿10﴾ كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌۭ ﴿11﴾ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ﴿12﴾
‫﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ أي استغنى بماله وبجاهه عن الله (تبارك وتعالى) وعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعن القرآن وعن التذكر وعن العلم‫.‬ أو استغنى بما عنده من جهل بما عند رسول الله من علم، استغنى وأعرض وتولى، هذا الذي استغنى‫.‬ ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ أي تتعرض وتستمع وتنتبه وتلتفت‫.‬ وأصل الكلمة من الصَّدَد، والصَّدَد‫:‬ ما كان قبالتك، ما كان أمامك، فإذا قلت داره صَدَدُ داري؛ أمام داري مواجهاً له، فكذلك تَصَدَّى‫:‬ أي تواجهه وتتعرض له وتستمع له، هذا الذي استغنى عن الله واستغنى عن القرآن واستغنى عن الذكر أنت له تصدى‫.‬ ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ أي لا يسألك ربنا (تبارك وتعالى) عنه آمن أم كفر، إِنْ عليك إلا البلاغ، فسواءً تطهر أم لم يتطهر، آمن أو لم يؤمن أنت غير مسئول عن ذلك‫.‬ ﴿وَمَا عَلَيْكَ﴾ أي لا تُسأَل ولا جُناحَ عليك ولا إثم عليك إذا لم يتزكى ولم يؤمن ولم يدخل في الإسلام‫.‬ والآيات فيها العتاب الشديد وإن كان في صيغة رقيقة، إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد نزول الآيات ما عَبَسَ في وجه فقير قط، وما تَصَدَّى لغني قط، وكان الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إذا دخل عليه عبد الله بن أم مكتوم رحب به وبسط له رداءه وقال‫:‬ "مرحباً بمن عاتبني فيه ربي" ويستمر العتاب والتوجيه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ ذلك الأعمى الذي جاء ساعياً وهو أعمى وله قائد يقوده أو بغير قائد، يخشى عثرات الطريق ويخشى أذي الكفار، وكان المسلمون في بداية البعثة وفي مكة يؤذيهم الكفار أذىً شديداً، فجاء هذا الأعمى يسعى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ يخشى الله، يرغب في رضاه‫.‬ ويخشى الكفار، ويخشى الطريق، يخشى الكبوة والعثرة‫.‬ ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨)وَهُوَ يَخْشَى (٩)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾ تَلَهَّى‫:‬ تشاغل‫.‬ لَهَيتُ عنه وتَلَهَّيتُ عنه والتَهَيتُ عنه‫:‬ انشغلتُ عنه‫.‬ والتَّلَهِّي‫:‬ التشاغل والإعراض‫.‬ هذا الذي جاءك وهو يسعى فأنت عنه تَلَهَّى‫.‬ (كلا) مبالغة في توجيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونهيه عن أن يعود لمثل ذلك‫.‬ و"كلا" كلمة ردع وزجر، أو تعني "حقاً. "كلا" توجيه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شأن المعاتبة، أي لا تعود لما عوتبت من أجله‫.‬ ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ أو هي بمعنى‫:‬ حقاً إنها تذكرة، آيات القرآن الكريم تذكرة، تُذَكِّرُ الإنسان بمعاده ومعاشه، تبين له أحواله والخلق والدلائل والآيات، وأن الدنيا عمرها قصير، وأن الدنيا مآلها فناء، وأن العَوْدَ إلى الله‫.‬ ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أي ذَكَرَ القرآن واتعظ به‫.‬ وتؤكد الآية الاختيار للعبد، لك أن تختار أي الطريقين تمشي فيه‫.‬ ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أي من شاء من الناس اتعظ بالقرآن، أو فمن شاء الله جعله يَذَّكَّر، فمن شاء ذكره، والكلام عن القرآن بعد ذلك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فِى صُحُفٍۢ مُّكَرَّمَةٍۢ ﴿13﴾ مَّرْفُوعَةٍۢ مُّطَهَّرَةٍۭ ﴿14﴾ بِأَيْدِى سَفَرَةٍۢ ﴿15﴾ كِرَامٍۭ بَرَرَةٍۢ ﴿16﴾
هذا القرآن في صحائف مُكَرَّمة عند الله، وسُمِّيَت مُكَرَّمة لأنها نزلت من الكريم، ونزل بها كرام بَرَرَة، وكرامة الكتاب من كرامة صاحبه، وصاحب الكتاب هو الكريم (جل وعلا) فلابد وأن يكون الكتاب كريماً ومُكَرَّماً. ﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ مرفوعة القدر، مرفوعة فوق السماوات العلى، مرفوعة عند الله‫.‬ مُطَهَّرة من الشياطين أن يصلوا إليها، مُطَهَّرة من أرجاس وأوثان المشركين فلا تنفعهم ولا تنزل عليهم، مُطَهَّرة مُنَزَّهة عن الخلل أو الاختلال أو التبديل أو التعديل‫.‬ (بأيدي سَفَرَة) السَّفَرة‫:‬ جمع سفير، والسفير‫:‬ الرسول‫.‬ وملائكة ربنا تبارك وتعالى سفراء بينه وبين الأنبياء، ينزلون برسائل الله إليهم فسُمُّوا سفراء أو رسل الله إلى خلقه‫.‬ ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ جمع سافر، أي سفير‫.‬ أو سَفَرَة‫:‬ أي كَتَبَة، جمع سافر أيضاً، والمسافر الذي يُسفِر الكتاب يكتبه، وسُمِّيَ الكتاب سِفْرَاً والكُتُب أَسْفَار والكاتب سافر، من السُّفُور‫:‬ وهو الوضوح والكشف، سَفَرَت المرأة‫:‬ كشفت وجهها، وأَسْفَرَ الصباح‫:‬ أضاء، لأن الكاتب –السافر- يبين ويوضح المراد بالكتاب‫.‬ ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ كَتَبَة، أو بأيدي سفرة:سفراء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ كرام عند الله (تبارك وتعالى) لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون،كرام لأنهم طائعين لله (عز وجل) كرام أكرمهم وكَرَّمَهم الله‫.‬ أو كِرَام بمعنى عُطُوف، يعطفون على المؤمنين يحبون من آمن ويستغفرون له‫.‬ ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٧] عَطْف، تكريم منهم على عباد الله المؤمنين، فهم آناء الليل وأطراف النهار يدعون لهم ويستغفرون لهم ويطلبون لهم الجنة ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٨] بل ويدعون لآبائهم كذلك ولذرياتهم ﴿وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٨] ويستعيذون بالله لهم فيقولون ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٩] هؤلاء هم الكرام، كرام مع عباد الله، وكرام عند الله‫.‬ بَرَرَة‫:‬ جمع بَرّ وبار، البَرّ: المتوسع في الخير، البَرّ: الصادق، البَرّ: الطائع، وكل هذه الصفات تتصف بها ملائكة الرحمن (جل وعلا).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫افتُتِحَت السورة بالعتاب، ثم كلام عن القرآن ورفعة شأن القرآن وبأيدي السفرة، وهذا الوصف الكريم للسفرة قد يتشوق الإنسان لهذه الصفات، فأوضح لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطريق، أتريد أن تتصف بهذه الصفات؟ أن تكون من الكرام البررة السفرة؟ أتريد أن تكون معهم؟ الطريق سهل يسير، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "مَثَلُ الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومَثَلُ الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" إذاً فلو حفظ العبد قرآناً ومَهَرَ فيه وفي حفظه وقرأه وهو حافظ له كان في منزلة السفراء الكرام البررة‫.‬‬‬‬
‫يتوجه الكلام بعد ذلك تعجيباً لكل من يسمع ويعقل، أو استفهام توبيخ‫:‬‬‬‬
قُتِلَ ٱلْإِنسَـٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ ﴿17﴾ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ ﴿18﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ ﴿19﴾ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ ﴿20﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقْبَرَهُۥ ﴿21﴾ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ ﴿22﴾ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُۥ ﴿23﴾
‫﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ "ما" كلمة تعجيب، أو هي كلمة استفهام بمعني ﴿أَيِّ شَيْءٍ﴾. ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾ لُعِنَ وعُذِّب وقَتَلَه الله وقاتَلَه وعَذَّبَه، فهو من أشد الدعاء‫.‬ و﴿الْإِنْسَانُ﴾ هنا الكافر، وما من آية فيها هذا الدعاء إلا تعني الكافر‫.‬ ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ يعجب من كُفرِ هذا الإنسان مع مايرى من نعم الله وآياته‫.‬ أو ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾: أي شيء جعله يكفر؟ ما الذي دعا الإنسان للكفر؟ ما الذي جعله يكفر بالنعم ويكفر بوجود الله (تبارك وتعالى)؟ ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ والكلام عن النعم الذاتية، ثم يتلوها النعم الخارجية والتي بالتأمل فيها تعجب لكفر كل كافر‫.‬ ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾ فإذا نظر الإنسان إلى نفسه من أي شيء خُلِق؟ من ماء مهين، النطفة، السائل الذي يُنطَف، أي يَقطُرُ قطرة قطرة، فهو قليل وسائل يقطر إلى الأرض كما تَنْطِف القربة فيتقاطر منها الماء قطرة قطرة، هاهو الشيء الذي خُلِقَ منه الإنسان؛ من نطفة‫.‬ خَلَقَه فقَدَّرَه‫:‬ سَوَّاه ورَكَّب فيه الأعضاء والعضلات والأعصاب والبصر والسمع والأمعاء والشعر والأظفار وكل شيء، سَوَّاه وعَدَلَه ورَكَّبَه، في أي صورة ماشاء رَكَّبَه، في أحسن تقويم، قَدَّرَه في بطن أمه المدة المحدودة المقدرة التي يُقَدِّرُها الله ولا يُقَدِّرُها الأب أو الأم أو الجنين‫.‬ قَدَّرَه أطواراً: نطفة، عَلَقة، مُضغَة، عظام، ثم كُسِيَ العظام لحماً، من نطفة خلقه فقدره‫.‬ ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ يَسَّرَ له الخروج من بطن أمه فهو مضطجع على جنبه في الرحم، فإذا هُيِّئَ للخروج انقلب وأصبح رأسه إلى أسفل وقدمه إلى أعلى، هُيِّئَ للخروج بأسهل وسيلة وبأيسر طريقة‫.‬ ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ الكناية الرقيقة العالية عن الميلاد، يَسَّرَ له وسَهَّلَ له الخروج من بطن أمه‫.‬ أيضاً ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ الطريق؛ طريق الخير وطريق الشر، جعله مهيأ لركوب أحد الطريقين باختياره، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾. أو السبيل‫:‬ بمعنى الإسلام، والطريق إلى الله سهل يسير، بإعمال العقل قليلاً تتيقن من وجود الله، بإعمال العقل قليلاً تتيقن من صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له" أي يَسَّرَ لك الطريق وهداك تنتفع بالدنيا وما فيها من نعم، تنتفع بأعضائك؛ تطيعك العضلات وتطيعك الأعصاب وتطيعك الجوارح تفعل كيف تشاء، طاعة عمياء من جوارحك وأعضائك، وهناك من يعمل دون أمر منك بل دون أن تدري كالمعدة والأمعاء والكبد والطحال وما إلى ذلك‫.‬ ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ في سياق النعم، هل الموت نعمة؟ نعم! من أَجَلِّ النعم لأنها أول الطريق للقاء الله، لأنها أول خطوة لنعيم الله، نَعَم الموت راحة، والموت نعمة، فسيق في تعداد النعم‫.‬ أقبره‫:‬ أَمَرَ بدفنه‫.‬ قَبَرَه يَقْبُرُه ويَقْبِرُه‫:‬ دفنه بيده،. أقبره‫:‬ أَمَرَ بدفنه أو مَكَّنَ له الدفن وهَيَّأَ له أن يُدفَن، ولو شاء ربنا لترك من يموت يُلقَى على الأرض تنهشه السباع وتأكله الطير كما تموت الحيوانات، وأنت ترى الحيوان يموت فيُلقَى في المزابل ويُلقَى في الطرقات تنهشه السباع ويتفسخ وينتن ويعافه الناس، تأكله الطيور وتأكله السباع، لكن الله تكريماً لابن آدم جعله يُقبَر وأَمَرَ بدفنه تكرمة له‫.‬ والآية دليل على وجوب دفن الميت، وأن ما يفعله بعض الوثنيين من حرق جثة الميت أو ذَرِّ الرماد وما إلى ذلك عصيان لله وبُعدٌ عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإهانة للميت، إذ التكريم أن يُدفَن، وإكرام الميت سرعة دفنه‫.‬ ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ إذا شاء ربنا أَنْشَرَه‫.‬ وقُرِأَت نَشَرَه‫.‬ نَشَرَ اللهُ الميت وأَنْشَرَه‫:‬ أحياه، وعَلَّقَ إحياء الميت والبعث بمشيئته لأن يوم القيامة غير متعين وغير محدد ولا يعلم موعده أحد وهو مرهون بمشيئة الله، لذا قال ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ لأن البعث مرهون بمشيئته (جل وعلا). ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ و"كلا" كلمة ردع وزجر لهذا الكافر الذي يستهزئ ويقول‫:‬ ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٥٠] أو ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٣٦] أو منكرو البعث، زجر وردع لهم‫.‬ ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ أي لم ينفذ ويفعل ما أمره الله، لم يعمل بالميثاق الذي أُخِذَ عليه وهو في صلب آدم‫.‬ ﴿لَمَّا﴾ "لَمْ" و"ما" الزائدة عِمَادٌ للكلام كقول الله عز وجل‫:‬ ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٥٩]. أو ﴿كَلَّا﴾: حقاً، حقاً لما يقضِ الإنسان ما أَمَرَه، حقاً لم يقضِ إنسان من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ما أمره الله به، فما من مخلوق إلا وهو مقصر، بما فيهم الرسل والأنبياء‫.‬ ﴿كَلَّا﴾ إذا كانت بمعنى حقاً إذاً فالتقصير في جانب الكل من لدن آدم بالرسل وبالأنبياء‫.‬ هل يمكن أن يوفي أحدٌ ربَّنَا حَقَّه من الإنعام؟ هل يمكن؟ هل يمكن أن يعبد أحدٌ ربَّنا كما يستحق من العبادة؟ هل يمكن أن تشكره كما يجب لجلاله وعظيم سلطانه؟ فما منا إلا مقصر‫.‬ ثم تتوجه الآيات بعد لفت النظر للنعم الذاتية إلى النعم الخارجية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ ﴿24﴾ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّۭا ﴿25﴾ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّۭا ﴿26﴾ فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّۭا ﴿27﴾ وَعِنَبًۭا وَقَضْبًۭا ﴿28﴾ وَزَيْتُونًۭا وَنَخْلًۭا ﴿29﴾ وَحَدَآئِقَ غُلْبًۭا ﴿30﴾ وَفَـٰكِهَةًۭ وَأَبًّۭا ﴿31﴾ مَّتَـٰعًۭا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ ﴿32﴾
‫﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ هل نظرت إلى طعامك ؟ فلينظر الإنسان إلى طعامه، أَيُّ نَظَر؟ كلنا ينظر إلى الطعام حتى يعرف كيف يأكل، حتى يأخذ الطعام ويضعه في فيه، لكن النظر هنا هل هو نظر العين؟ نظر القلب، نظر العقل، نظر التأمل والتفكر‫.‬ لو نظرت إلى الطعام لابد وأن تنظر إلى مصدره أولاً، كيف سِيقَ لك الطعام، ثم لابد وأن تنظر إلى كيفيته، ولابد وأن تنظر إلى أنواعه وتعددها، لابد أن تنظر إلى كيفية صنعه، ومن الذي عَلَّمَك أن تصنع الطعام، هكذا‫.‬ لِمَ تأكل الرُّطَبَة وترمي النواة؟ لِمَ يحدث التقشير لبعض أصناف الخضار ولغيره لا؟ لِمَ تأكل بعض الفواكه بقشرها كالمشمش والأخرى يزال قشرها كالمانجو؟ من الذي عَلَّمَك هذا ؟ الأم، ومن الذي عَلَّمَ الأم؟ أُمُّها، ومن الذي عَلَّم أُمَّها؟ وهكذا‫.‬ كيف تعلمت أن الطعام ينضج بالنار؟ ولم لا تأكل الطعام كما هو وكما تفعل البهائم والوحوش؟ كيف علمت أن تنضج الطعام؟ لم تضع الملح؟ لم تضع التوابل؟ ومن جعل لك الملح ومن جعل لك التوابل محسنات للطعام؟ انظر إلى طعامك كيف اكتسبته وكيف ارتزقت؟ كيف زُرِعَ ومن الذي زرعه؟ وكيف حُصِدَ ومن الذي حصده؟ ومن أين أُتِينا بالحب الذي زرعناه؟ فلينظر الإنسان إلى طعامه‫.‬ ثم بعد ذلك وليس كل ذلك حين أخذت الطعام بيدك كيف طُوِّعَت لك اليد؟ وكيف امتدت وكيف قِستَ المسافة بين يدك وبين الإناء فلم تنحرف بعيداً عن الإناء أو تصطدم بالإناء أو تتكاسل دون الوصول للإناء؟ كيف حَسَبْتَ المسافة ثم حَسَبْتَ مرة أخرى فوُضِعَ الطعام في فمك ولم تخطئ اليد طريقها فتضع الطعام في العين أو الأذن أو الأنف أو الصدر بل أخذته ووضعته في الفم؟ وحين تصل اليد إلى الفم ينفتح الفم تلقائياً فإذا بالطعام في داخل فمك هل يبتلع أم يمضغ؟ منه ما يُشرَب ومنه مالا يُمضَغ -يُبلَع- ومنه ما يُمضَغ، ولسانك يقلب الطعام يمنة ويسرة، فهناك الأسنان؛ القواضم تقضم، وهناك الأنياب القواطع تمزق، وهناك الضروس تطحن، واللسان مجرفة يقلب الطعام، ثم بعد ذلك إذا تمضغ الطعام لا يجف فمك أبداً بل ينساب اللعاب من الغدد مسهلاً العملية مُلَيِّناً لها، إذا باللعاب يُفرَز بقدر الحاجة، لا يقل فيجف الطعام في فمك ويصعب مضغه ولا يزيد فيتهرأ الطعام ويصبح كالسوائل، ثم إذا أردت البلع تَجَهَّزَ البلعوم لذلك وتحركت اللهاة دون أن تدري فَسَدَّت مجاري الأنفاس حتى لا يدخل الطعام في القصبة الهوائية فيختنق الآكل‫.‬ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ بل الطعم مختلف، حلو، حتى ما كان مالحاً فهو حلو، وما كان لاذعاً تستطيبه، فكثيراً ما تضع الحريف من التوابل في طعامك كالشطة والفلفل وما إلى ذلك تستطعمه، وتضع الملح وتستطعمه‫.‬ وتجد في لسانك مواطن وأجزاء؛ فجزء مخصص للحرارة يعرف الساخن من البارد، وجزء مخصص للحلاوة، وجزء مخصص للحريف من الطعام‫.‬ خلايا التذوق في اللسان متعددة ولها مواضع محددة‫.‬ بل ورائحة الطعام، كيف تحرك رائحة الطعام شهوة البطن والجوع؟ وانظر لنفسك، لو لم يكن للطعام رائحة أكنت تستطيبه؟ أكنت تشتهيه؟ أكنت تميزه؟ تميزه بالعين وليس على بُعد، فكيف يميزه الأعمى؟ وكيف تتحرك شهوة الصغير الذي لا يدرك؟ رائحة الطعام تحرك شهوة الجوع، ولو شممت الطعام من بعيد لتحركت الشهوة، ليس تحريكاً للشهوة فقط بل رائحة الطعام تُستَطَاب فتسعد برائحتها وتتهيأ المعدة وتبدأ غددها في إفراز سوائل الهضم طبقاً لما شممته من روائح، فسوائل هضم الفواكه تختلف عن سوائل هضم الخضروات تختلف عن سوائل هضم اللحوم ولكل شيء رائحة، وبمجرد أن يشم العبد رائحة الطعام تتجهز خلايا المعدة لإفراز ما يتلاءم من الطعام من حيث الهضم من سوائل معينة ودرجة الحموضة في هذا السائل‫.‬ (فلينظر الإنسان إلى طعامه) وعليك أن تنظر إلى طعامك من قبل أن تأكل، وأنت تأكل، ثم بعد أن تأكل، أكلت وشبعت وحمدت الله وابتلعت طعامك، من الذي أشعرك بأنه قد امتلأت المعدة وشبعت؟ أتزنها؟ أتقيسها بقياس؟ أنت تأكل ثم تكف عن الأكل، الذي أشعرك بالجوع وأن المعدة خالية هو الذي أشعرك بالشبع كي تَكُفَّ، وإلا لو لم يشعر العبد بالشبع لظل يأكل وانتفخ حتى يموت، إذ لا يدري الإنسان كيف امتلأت معدته، من حيث الشكل لا يظهر وإنما غريزة الشبع، إحساس الجوع وإحساس الشبع مِنَّة ومِنحَة ممن خلقه فقدره‫.‬ وشبعت وحمدت الله وانتهى الطعام وانتهيت أنت وغفلت عن ذلك، لابد وأن تنظر إلى الطعام بعد ذلك، إلى مسراه وإلى مجراه، كيف يسري؟ ماذا يُصنَع به في المعدة؟ كيف ينتقل من المعدة إلى الإثني عشر ثم إلى الأمعاء الغليظة ثم إلى الأمعاء الدقيقة؟ وما عمل الكبد وما عمل الطحال وما عمل البنكرياس وما عمل كذا وكذا وكذا؟ كل الأجهزة والأعضاء في داخل الجسم مهيأة لخدمة إنضاج الطعام مرة ثانية ليتلاءم مع ما هو مطلوب للجسد، فأنت محتاج لكالسيوم تأخذ مما أكلت ما يكفيك فما زاد عن ذلك يُصرَف، أنت محتاج لكذا وكذا وكذا من مواد الطعام من فيتامينات مختلفة ومن أنواع مختلفة للجسد يأخذ حاجته فقط، السكر تأخذ حاجتك وما زاد عن احتياج الجسم يُلفَظ، تلفظه أجهزة خاصة تُنَقِّيه، فإن تلف الجهاز أصيب الإنسان بمرض السكر فارتفعت نسبة السكر في دمه وحدث وحدث وحدث، آية وعبرة كي ترى مرض السكر والمرضى به فتعلم أن الله قد عافاك وأن ما يعمل في جسدك ومن الداخل بفضل الله وبتوفيق الله‫.‬ ثم بعد ذلك (فلينظر الإنسان إلى طعامه) في أمعائه كيف استفادت وأخذت ثم بعد ذلك كيف انقسم الطعام والشراب بعد أن دخل من مدخل واحد فإذا بالزوائد والفضلات تخرج من مخرجين؛ مخرج السوائل ومخرج للجوامد، من الذي وَزَّع وقَسَّم ذلك؟ ثم السبيل يَسَّرَه هو الذي خلقه فقَدَّرَه‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ اعتبر واتعظ، إنه تذكرة فمن شاء ذكره، نَعَم فلينظر الإنسان إلى طعامه، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى طعامه‫.‬ أيها الأخ الكريم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من أراد واعظاً فالموت يكفيه". ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ مشيت مع رحلة الطعام من البداية وربنا يقول‫:‬ ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ(٩٣)أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(٩٤)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٦٣-٦٤] ومشيت مع الماء منذ البداية وربنا يقول‫:‬ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(٦٨)أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(٦٩)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٦٨- ٦٩] ووصلت في رحلتك في طعامك مع أمعائك ثم خرج الطعام بعد ذلك أَتَكُفَّ النظر؟ أبداً، لأنه لازال يوصف بأنه طعامك، طعامك في البداية وطعامك في النهاية‫.‬ إذاً فعليك أن تنظر إلى طعامك بعد أن يخرج من جسدك هل رأيته؟ هل نظرت إليه؟ كيف كانت رائحته قبل أن تأكل وكيف أصبحت رائحته بعد أن أكلت؟ أرأيت الإنسان؟ أرأيت ما فعله جسدُك بالطعام الذي خلقه الله جميلاً حلواً ذا رائحة زكية غضاً طرياً تشتهيه الأنفس؟ أرأيت ما فعله جسدك؟ أعلمت قَدْرَكَ ومَقَامَك؟ ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾ [سورة عبس آية‫:‬ ١٨- ١٩] هاهو ما فعلتُه أنت وفعله جسدُك بالطعام، رائحة الطعام قبل الأكل ورائحة الطعام بعد الخروج من الجسد، أرأيت اللون؟ أرأيت لون الفواكه؟ أرأيت لون فضلات الإنسان بعد ذلك؟ أهذا هو اللون؟ أرأيت قوامه؟ كيف تشتهيه قبل أن تأكله وكيف تعافه بعد أن تلفظه بل وتتقزز منه وتتقذره؟ وهو نجس بحكم الشرع وبما أنبأنا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، نجاسة وقذارة‫.‬ ذاك هو الطعام بعد رحلته في جسدك وذاك هو الشراب، الماء لا طعم له ولا لون ولا رائحة له ومع ذلك سَلِسَاً سلسبيلاً سائغاً، واللبن أبيض ناصع البياض حلو المذاق سائغ شرابه، وغيره وغيره من السوائل‫.‬ وانظر إلى ما خرج منك؛ اللون والرائحة والنجاسة بعد الطهارة، والقذارة بعد النظافة، ويعافه الإنسان بعد ما كان يشتهيه، فلينظر الإنسان إلى طعامه، تلك هي دنياك، مالك الذي كنزته هاهو مصيره، ها هو الجاه الذي سعيت إليه فما من إنسان يسعى في هذه الدنيا إلا ويسعى على رزقه ليأكل ويشرب ويتمتع بهذه الدنيا، يُحَصِّل المال ويكنز المال وما إلى ذلك، آخر هذا المال إلى أين؟ ذاك مثل ضربه الله تبارك وتعالى للدنيا، وصدق القائل‫:‬ "الدنيا جيفة آكِلَتُها كلاب" ذاك حال الدنيا، هاهي البداية وها هي النهاية، حلاوة رضاعها ومرارة فطامها، وبقي الكثير في قوله عز وجل‫:‬ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ حين تشعر بالمغص، حين تشعر بسهوء الهضم، حين تشعر باحتياجك للطعام ولا تجده‫.‬ بل حين يمسك ربنا عنك جرية الماء أو خروج الفضلات كيف يكون حالك؟ أو تطلق تلك الأشياء؛ تطلق المياه وتطلق هذه الجوامد والفضلات بلا تقدير منك وبلا حساب فتفقد الماء في جسدك وتمشي تترنح بعد مرات قليلة وتحتاج إلى طبيب يدركك ويسعفك بالسوائل والملح وما إلى ذلك، وتصاب بالجفاف؛ يجف الجسد ويتمزق الجلد لو نزلت هذه السوائل بغير حساب، تلك هي الدنيا‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، وإذا أردت أن ترى الدنيا على حقيقتها فتوجه إلى دورات المياه، وتوجه إلى المزابل، تلك نهايتها‫.‬ فما من ثوب يُلبَس إلا ويبلى، لابد أن يبلى، ومهما كان جميلاً دقيقاً غالياً فخماً لابد وأن يبلى ثم يصير إلى المزابل‫.‬ والدنيا كساء وطعام، أما الطعام فهذا هو مصيره، وأما الكساء فمصيره إلى المزابل، وأما الجاه فلا يدوم، فما هو الدائم في هذه الحياة الدنيا؟ العمل الصالح ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ١٠] الكلمة الطيبة صدقة، كلمة طيبة أو عمل صالح، ذاك الذي يبقى وذلك الذي يضيء لك الطريق وذاك الذي يدخل معك قبرك، فالإنسان إذا مات تبعه ثلاثة‫:‬ أولهم يتركه على باب داره ألا وهو ماله وجاهه، والثاني يتركه عند باب قبره ألا وهو أهله وعياله، والثالث ينزل معه في قبره ألا وهو عمله‫.‬ من نظر إلى طعامه أمن يريه، من نظر إلى طعامه كيف نَبَت، كيف نما، كيف حُصِد، كيف نضج، كيف حصل عليه، كيف مُضِغ، وكيف هُضِم، كيف فُرِزَ في الجسم، كيف بقي في الجسم النافع وكيف انصرف عنه الضار، كيف دخل وكيف خرج‫.‬ من نظر إلى طعامه عرف ربه‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يبين لنا في سورة عبس كيف خُلِقَ الإنسان وكيف انتهى؛ خُلِقَ من نطفة، من ماء مهين، كيف سُوِّيَ، كيف عُدِل، كيف يُسِّرَ له طريق الخروج، كيف هُدي إلى الطريق المستقيم، كيف هُيِّئَ لاختيار الطريق خيراً كان أو شراً، ثم كيف مات وكيف قُبِر، ثم كيف بُعِثَ وكيف نُشِر‫.‬ وتأتي الآيات تَمُنُّ على العباد بالطعام وبالقوام، لقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان ولم يتركه هُمْلاً بل هَيَّأَ ما به قوامه من طعام وشراب ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ هو الله الذي أنزل الماء من السماء‫.‬ وقُرِئت ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ صَبَّ الماء من السحب، ولتنظر من أين أتى الماء وكيف كانت دورة الماء وكيف سُلِّطَت حرارة الشمس على المياه في البحار والمحيطات فتبخر الماء تاركاً وراءه الملح والقذى والقذر، بخر الماء فأصبح نقياً عذباً طاهراً،كيف جُمِعَ في السماء، كيف تكاثف وكيف تراكم وكيف جاءت الرياح فسيرته أنى شاء الله (تبارك وتعالى) فجمعته، ثم كيف سُلِّطَت عليه البرودة فتكاثف بعد أن كان بخاراً فنزل الماء سلساً سهلاً عذباً، ونزل بِقَدَر ولم ينزل بكثرة فيغرق البلاد، ولم ينزل بِقِلَّة فتهلك البلاد بل نزل بِقَدَر‫.‬ وطريقة نزوله؛ لم ينزل بطريقة تؤذي، وإنما نزل بطريقة لا تؤذي، سهل، قطرات متتالية من الماء صَبَّها ربنا (تبارك وتعالى) صَبَّاً. ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ نعم الأرض مستوية هامدة ميتة‫.‬ أو الأرض واحدة لا فارق بين هذه وتلك، والماء واحد، ثم إذا بالنبات يشق الأرض ليخرج، شَقَّاً بديعاً، وأنت تبذر الحبة في الأرض أنى وُضِعَت وكيف وُضِعَت يخرج منها الجذر والساق، يتجه الجذر إلى الأرض، إلى باطنها، ويخرج الساق إلى أعلى ،كيف كان وضع الحبة لا يمكن أن ينعكس الوضع أبداً، أنى وضعت الحبة تشق الأرض ويشق ساقها الأرض ويخرج منها، وذاك شَقٌّ بحسب الخارج فلا يكون الشَّقُّ كبيراً ولا يكون الشَّقُّ صغيراً يضيق على خروج النبات، شققنا الأرض شَقَّاُ بديعاً. ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ والحَبُّ: القمح، الشعير، الأرز، كل ما يُحصَد ويَقتَات به ويُدَّخَر يُسَمَّى حَبَّاً، نوع من أنواع الطعام الخارج من نفس الأرض والنبات بنفس الماء‫.‬ ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ العِنَب‫:‬ كلكم تعرفونه، أصناف وأنواع وألوان؛ منه الأحمر ومنه الأسود، منه أصفر، أصناف، منه ما فيه بذر ومنه ماهو خالٍ من البذر، طعوم وأنواع وألوان، في خارجه قشر وفي داخله لحم، وهو طري وفيه سائل سُكَّرِيٌّ، ثم فيه البذر الصلب، كل ذلك من نفس الأرض من نفس الماء‫.‬ والقَضْبُ: كل ما يُقضَب أي يُقطَع فيُنبِت أصلُه كالخضروات، فأنت تقطعها وتترك أصولها في الأرض فإذا بها تُنبِت مرة أخرى‫.‬ فكل نبات يُقطَع مرات، يُقطَع ثم يُقطَع وينمو، ويُقطَع وينمو أصله مرات يُسَمَّى القَضْب، من قَضَبَه‫:‬ أي قَطَعَه‫.‬ ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا﴾ أصناف وألوان، أشكال مختلفة الشكل وفي الطعم وفي الرائحه وفي الحجم وفي المكونات وفي كل شيء، من نفس الأرض، من نفس الماء‫.‬ النخل أنواع وأصناف متعددة، تتعدى المائة من الأصناف المختلفة والطعوم المختلفة‫.‬ ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ والحدائق‫:‬ جمع حديقة، والحديقة كل بستان أُحِيطَ أو حَوَّطَه سور أو حَوَّطَه نخل أو حَوَّطَه شجر أو حَوَّطَه زرع، أَحْدَقَ به‫:‬ أحاط به‫.‬ حدائق مختلفة وغابات مختلفة، منها ما تُستَخْدَم أخشابها فقط ومنها ما تُستَخْدَم ثمارها ومنها ما يُستَخْدَم السائل الخارج منها على جذوعها أو أوساطها‫.‬ ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ متكاثفة، عِظامٌ شجرُها، غِلاظٌ جذوعُها‫.‬ والغُلْب‫:‬ جمع أَغْلَب وغَلْبَاء، والغَلْبَاء‫:‬ الشجرة العظيمة الغليظة تُسَمَّى غَلْبَاء‫.‬ وغَلُبَ عنقه‫:‬ أَغْلَظَ عنقه، فالأَغْلَب والغَلْبَاء‫:‬ الغليظ‫.‬ حدائق كثيرة متكاثفة ملتفة الأشجار والأغصان، غابات لا عد لها ولا حصر في بلاد كثيرة وفي مناطق متعددة، منها ما يُخرِج ما يُؤكَل، ومنها ما يُخرِج ما يُصنَع، ومنها ما يُخرِج ما يُستَخدَم ويُستَمتَع به، أنواع وأنواع‫.‬ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ أيضاً الفاكهة ألوان وأنواع، والأَبُّ: طعام البهائم، فالفاكهة لبني الإنسان والأَبُّ للحيوان‫.‬ والكلمة -وإن كانت غير معروفة في العربية- إلا أنه قيل أن أصل الكلمة من أَبَّهُ: قَصَدَهُ وأَمَّهُ لأنه يُؤَمُّ ويُقصَد بالبهائم للرعي‫.‬ وقيل‫:‬ أَبَّ لكذا‫:‬ أي تهيأ له، لأنه هُيِّئَ للرعي، فالأَبُّ ما يُرعَى فيه‫.‬ الأَبُّ كُلُّ طعامٍ للبهائم، كل ما يُنبَت من الأرض ولا يَقتَات به الإنسان يُسَمَّى أَبَّاً. ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ الامتنان من الحَنَّان المـــَـنَّان على الإنسان‫.‬ مَنَّ بهذه الأصناف والطعوم وقد كان من الممكن أن يخلق طعاماً واحداً للإنسان ولا ينوع له طعام، ولكنه نَوَّعَ له الطعام والشراب، أصناف وألوان لاعد لها ولا حصر، حتى الأنعام سخرها لك تأكل من لحمها وتأخذ من شحمها وتشرب من لبنها وتخدم الفلاح في أرضه، ولم يكلفك إطعامها بل أطعمها الله، ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾، ذاك أمر المعاش فكيف بأمر المعاد؟ وتأتي الآيات لتتكلم عن أمر المعاد لتبين لك أن المعاش يؤدي إلى المعاد، وطالما مَنَّ الله عليك وامتن عليك بالخلق والإيجاد والإطعام إذاً فاعمل لمعادك، وما معاشك إلا تمهيد لمعادك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ ﴿33﴾ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿34﴾ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ ﴿35﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ ﴿36﴾ لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍۢ شَأْنٌۭ يُغْنِيهِ ﴿37﴾ وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ مُّسْفِرَةٌۭ ﴿38﴾ ضَاحِكَةٌۭ مُّسْتَبْشِرَةٌۭ ﴿39﴾ وَوُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌۭ ﴿40﴾ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ ﴿42﴾
‫﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ الصاخة‫:‬ يوم القيامة، الصاخة‫:‬ النفخة الثانية، والصاخة أصلاً من الصَّخِّ، صَخَّهُ: حَكَّهُ بشدة‫.‬ أيضاً من أَصَاخَ السمع‫:‬ استمع، أصاخ إليه‫:‬ استمع إليه، لأن الصاخة -أي النفخة الثانية- إذا حدثت صَمَّتِ الآذان عن كل شيء إلا استماع الصاخة، فالصاخة التي تُسمَع فتَصُمُّ عما سواها، لذا سميت صاخة، لأنها إذا حدثت لا يسمع الإنسان سواها، تصم الأذان عن كل شيء، تلك هي الصاخة؛ النفخة الثانية‫.‬ ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ الجواب محذوف معلوم جوابه -جواب الشرط- فإذا جاءت الصاخة قامت القيامة، إذا جاءت الصاخة بُعِثَ الناس، إذا جاءت الصاخة حُشِرَ الناس، إذا جاءت الصاخة حدث فيها مالا يخطر على بال‫.‬ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)﴾ والترتيب في الكلام الأَحَبُّ فالأَحَبُّ، الأكثرُ حناناً وإشفاقاً فالأكثر حناناً وإشفاقاً للمبالغة، وكأن الكلام‫:‬ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ هل يُعقَل أن يفر المرء من أخيه؟! يهرب منه؟! نعم! بل ومن أمه وأبيه! ياستار يارب، حتى الأم؟ حتى الأب؟ بل والأدهى من ذلك‫:‬ ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ لأن الإنسان يُشفِقُ على بنيه أكثر من شفقته على أخيه وأبيه، فأكثر الناس حائزاً لشفقتك أو حنانك هم أبناؤك، فجاء ترتيبهم في آخر الكلام للمبالغة في وصف الهلع والفزع في ذلك اليوم‫.‬ أول من يفر من أبيه يوم القيامة الخليل إبراهيم، وأول من يفر من ابنه يوم القيامة نوح، وأول من يفر من امرأته يوم القيامة لوط، فرار التبرؤ والفرار ألوان وأنواع، فهناك فرار التبرؤ كتبرؤ إبراهيم من أبيه ونوح من ابنه ولوط من امرأته‫.‬ وهناك فرار الخزي والعار حيث يفر الموصوم أسود الوجه المكلل بالعار والحامل لراية الغدر، يفر من أهله حتى لا يروه على هذه الحالة، فرار الخزي‫.‬ وهناك فرار اللجوء، حيث يعلم الفارُّ أنه لا أنساب بينهم يومئذٍ، حيث يرى أنه لا ينفعه أبوه ولا ابنه ولا أمه ولا أخوه ولا بنوه، يتيقن من انقطاع الروابط والفواصل‫.‬ نعمّ حتى إن الأم تنادي على ابنها، الأم الرؤوم الرحيمة الرؤوف، تنادي على إبنها وفلذة كبدها‫:‬ يا بني ألم يكن بطني لك وعاءً وصدري لك غذاءً وحِجري لك وطاءً؟ يابني هلم فاحمل عني، فيقول يا أم إليكِ عني فإني بذنبي اليوم عنك مشغول! لكل إمرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه‫.‬ وقُرِأت ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يعنيه﴾ يعنيه أمره‫.‬ ﴿يُغنِيه﴾: يُغنِيه عن غيره، يشغله عن كل شيء، فهو في غنية بما هو فيه عمن سواه‫.‬ أو يعنيه أمره ويهتم به‫.‬ تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها وأرضاها): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم يقول): "يُحشَر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلاً -أي غير مختونين، على أصل خِلقَتِهم- فقلت‫:‬ يارسول الله الرجال والناس جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" وفي رواية‫:‬ "لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه".أيها الأخ المسلم؛ لو علم الإنسان أن ذلك هو المصير، وأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله، وأن الأنساب تُوضَع وينادي رب العزة (جل وعلا) في ذلك اليوم‫:‬ "اليوم أَضَعُ أنسابكم وأرفع نَسَبي" والنَّسَبُ إلى الله (تبارك وتعالى) بالعمل الصالح وبالإيمان، لو علم الإنسان ذلك في هذه الدنيا لما باع آخرته بدنيا غيره، فكثير من الآباء يرتشون أو يرتزقون من الحرام من أجل أولادهم، يكنزون المال ويجمعونه للأبناء فإن كان الابن صالحاً عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقي الأب بجمعه، وإن كان الابن فاسقاً عمل في المال بمعصية الله فشقي بما جمع الأب له‫.‬ لو علم الأب أن ذاك الابن لن ينفعه يوم القيامة، ولو علم الرجل أن امرأته تفر منه إذ يُوقَف ويُسأَل عن الحرام -وكل لحم نَبَتَ من حرام فالنار أولى به- ويعتذر ويقول ويبرر‫:‬ لقد اكتسبتُ من حرام لأنفق على امرأتي، ويُؤتَى بها وتتبرأ منه وتقول‫:‬ مالي في ذلك من شأن، هو ارتزق من الحرام ومالي عنه سؤال، فتتبرأ منه فتدخل هي الجنة -لأنها غير مسئولة عن مصدر المال الذي يأتي به الزوج- ويدخل هو النار‫.‬ لو علم الرجل بذلك لنجا بنفسه، انجُ بنفسك، فنحن لا ننفي العواطف والمشاعر، اعمل لدنياك واعمل لترتزق من حلال واعمل بما يرضي الله وكن باراً بأبويك وكن حنوناً شفوقاً على أولادك ولكن من حلال، وأَدِّ حق الله في مالك، وأَدِّ حق الفقراء في مالك، وعَلِّمهُم حتى ينفعوك ولا يضروك، فالأبناء تنفع وتضر، نعم تنفع إن كانوا صالحين (ولد صالح يدعو له)، وتضر إن جَمَعْتَ له المال من الحرام فأَهْلَكْتَه وأَهْلَكْتَ نفسك‫.‬ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) مخاطباُ ابنته الحبيبة سيدة من سيدات نساء العالمين الأربع‫:‬ "يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنكِ من الله شيئاً" ويخاطب عشيرته وأهله ويقول‫:‬ "لا يأتي الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يأتي التفصيل بعد ذكر يوم القيامة، وكفى بذكر الفرار عن ذكر الأهوال، وتخيل نفسك في هذه الدنيا وقد شعرت بحظر عظيم يأتي إلى ابنك، كيف تتعرض أنت وتتصدى حامياً ابنك؟ لو رأى أب ابنه في خطر كيف يفعل؟ فهل يصل الأمر بالإنسان أن يضحي بابنه؟ أن يفر من أمه؟ أن يفر من أبيه وأخيه؟ لابد وأن الأمر أشد من كل تخيل وأصعب من كل تفكير، فجاء هذا الفرار -أو جاء ذكر هذا الفرار- ليبين لك ما الذي دعا إلى ذلك الفرار، تُرَى أَكُلُّ الناس كذلك؟ نعم! هي لحظة، والقيامة مواقف، وكل الناس يفر ولكن فرار يختلف عن فرار، ففرار إبراهيم فرار تبرؤ، فهو تبرؤ لَمَّا تَبَيَّنَ له أنه عدو لله تبرأ منه‫.‬ وهناك فرار النجاة وفرار الخوف وفرار الفزع وفرار الخزي، وهناك من هو مشغول بنفسه، حتى الرسل والأنبياء كلهم يقول نفسي ثم نفسي ثم يأتي بعد ذلك الطوفان، الأنبياء أرق الناس أفئدة، أرحم الناس بالناس، الأنبياء يقول النبي منهم نفسي نفسي، تذهب الأمم إلى أنبيائهم يستشفعونهم فيقول النبي منهم والرسول -بل الخليل إبراهيم- نفسي ثم نفسي إليكم عني، الأنبياء! يوم أعاذنا الله وإياكم من شروره‫.‬ لكن بعد ذلك تُتَّخَذ المصائر ويتميز الناس، وتنقسم الناس إلى فريقين؛ فريق السعداء وفريق الأشقياء‫.‬ وتصف لنا الآيات علامات السعادة وعلامات الشقاء والتي يراها أهل الموقف جميعاً ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾ والتعبير بالوجه لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان، بل وهو أكرم شيء في الإنسان، بل وعلى الوجه تظهر علامات الفرح والسرور أو علامات الحزن والغم والكرب‫.‬ وجوهٌ أصحابُها في مواقف الأمن والأمان، فمنهم من هو مُستَظِل بظل العرش، ومنهم من هو جالس على كرسي عن يمين العرش، هناك أناس على منابر من نور يمين العرش -وكلتا يدي الرحمن يمين- يغبطهم الأنبياء والشهداء، وما هم بأنبياء ولا شهداء، وحين سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن هؤلاء قال‫:‬ "هم المتحابون في جلال الله" بل وينادي رب العزة فيقول‫:‬ "أين جيراني؟ أين أهلي؟" فيتساءل ملائكة الله (تبارك وتعالى): يارب أنت رب العزة، أنت ذو الجلال والإكرام، كيف يكون لك أهل؟ وكيف يكون لك جيران؟ من هم هؤلاء؟ فيقول الله (تبارك وتعالى): "أهل القرآن أهلي وجيراني أين قُرَّاُء القرآن؟" وهناك المحبون للمساجد؛ رجل مُعَلَّق قلبه بحب المساجد تحت العرش، رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله ما أنفقت يمينه إذ أخفاها، وهؤلاء السبعة الذين جاء ذكرهم في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم من ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ولو مرة في عمره، ولكن يُشتَرَط أن يكون خالياً، أي لا يراه أحد إلا الله، هؤلاء المستظلون بظل العرش، هؤلاء الجالسون على منابر من نور، هؤلاء المحشورون في جماعات، بل في وفود وكأنهم يُزَفُّون إلى مَلِكِ الملوك، لأن الناس كلهم كما يقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٩٥] لكنه حين يأتي ذكر المؤمنين فيقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٩٦] الوُدُّ المفقود في يوم القيامة إلا للأخلاء ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٦٧]. ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ مضيئة عليها النور، نور لو رأته الشمس لانكسفت ولو رآه القمر لانخسف‫.‬ أَسْفَرَ الصباح‫:‬ أضاء‫.‬ مُسفِرَة‫:‬ مضيئة ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ضاحكة في ذلك اليوم، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يضحك في ذلك اليوم؟ نعم! فكم بكى في دنياه من خشية الله، هل يأمن؟ نعم! كم خاف من الله في دنياه، ضاحكة في ذلك اليوم، الضَّحِك في ذلك اليوم لهذه الوجوه‫.‬ بل مستبشرة‫:‬ أي تتوقع من النعيم مالا يخطر على بال، تتوقع من النعيم ما يملأ وجوهها بالنور والضياء والاستبشار‫.‬ والاستبشار‫:‬ أن يظهر أثر السرور على البشرة، فإذا ظهر أثر السرور على البشرة فأنت مُستَبشِر، والبشارة تُلقَى إليك فتتغير بشرتك وتنفرج أساريرك‫.‬ وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، هؤلاء الذين يُنادُون في الجمع‫:‬ ﴿هاؤم اقرؤوا كتابِيَه﴾ فخور بكتابه يريه للكل ويطمئن ويفرح ويضحك لأنه نظر إلى وجه الله (تبارك وتعالى) فرأي الأمن والأمان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ الغَبَرَة والغُبَار شيء واحد‫.‬ هل هناك غبار في ذلك اليوم؟ قال بعض الناس نعم هناك غبار ناشئ من تحول البهائم والحيوانات إلى تراب بعد القصاص، يقول الله لها كوني تراباً فتكون تراباً فإذا بذاك التراب يغطي وجوه الكفار‫.‬ وقال بعضهم بل الكلام مَجَاز عن السواد الذي يُحدِثُهُ الغبار على الوجه، هؤلاء على وجوههم غَبَرَة‫:‬ أي سواد كسواد الغبار‫.‬ ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ والقَتَرَة‫:‬ السواد والظلمة والذل والخزي‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ القَتَرَة والغَبَرَة شيء واحد ولكن الغَبَرَة ما انحَطَّ من الغبار على الأرض والقَتَرَة ما ارتفع من الغبار إلى السماء، وكأن الوجوه قد غطاها جميع أنواع الغبار؛ القذر والأسود والمظلم‫.‬ تَرْهَقُهَا‫:‬ تغشاها، رَهَقَهُ :غَشِيَه، والرَّهَق‫:‬ الغثيان يَقْهَر أي لا دافع له رغم إرادته، ولا يستطيع إنسان أن يمسحه عن وجهه أو يزيله وإنما على الوجوه قَتَرَة ترهقها وتغشاها رغم أنوفهم‫.‬ وجوه يومئذٍ عليها غَبَرَة ترهقها قَتَرَة، من هؤلاء؟ هؤلاء هم الكفرة الفَجَرَة؛ الكَفَرَة الذين كفروا بالله (تبارك وتعالى) وفجروا في كفرهم، والفجور‫:‬ أشد العصيان، الفجور‫:‬ الفسق، الفجور‫:‬ الكذب على الله، الفجور‫:‬ الافتراء على الله‫.‬ جمعوا إلى كفرهم الفجور فجمع الله على وجوههم القَتَرَة إلى الغَبَرَة، لأنهم جمعوا إلى كفرهم الفجور؛ وهو الكذب والافتراء على الله (تبارك وتعالى).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ تلك هي الوجوه، أي وجه تحب أن تكون وجهك منه؟ الأمر سهل يسير، الطريق إلى الجنه طريق سهل، ورضاء الله أمر يسير، ورضاء الخلق من الأمور التي لا تُدرَك، فأنت إن سعيت في رضا الناس يرضى عنك بعضهم ولا يرضى عنك البعض الآخر، أما إذا سعيت في رضا الله رضي الله عنك وأرضاك‫.‬ ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ (من أرضى اللهَ في سَخَطِ الناس رضيَ اللهُ عنه وأرضى عنه الناس ومن أَسْخَطَ اللهَ في رضا الناس سَخِطَ الله عليه وأَسْخَطَ عليه الناس) الطريق إلى الجنة بالمــــَجَّان والطريق إلى النار بالنقود‫.‬ أنت تأتي للمسجد وتصلي مجاناً، تستغفر الله مجاناً، كل أفعالك بالمجان التي توصلك إلى رضا الله‫.‬ أما طريق النار ففيه الصرف وفيه الإنفاق على المعاصي، فالخمر بالمال والمخدرات بالمال والزنا بالمال وكل عصيان بمال، وكل طاعة من غير مال‫.‬ الطريق إلى الجنة سهل مُيَسَّر، بل وربنا (تبارك وتعالى) لا يكلفنا مالا نطيق، بل كَلَّفَنا القليل وجزانا بالكثير‫.‬ ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يبين الطريق إلى إضاءة الوجوه في الدنيا قبل أن تضيء في الآخرة فيقول‫:‬ (من طال قيامه بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار).‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ غَبِّر وجهك بتراب الدنيا تنجو من غَبَرَة الآخرة، اسجد لله يرفع ربنا شأنك يوم القيامة، من تواضع لله رفعه‫.‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ الدنيا عمرها قصير، وقد رأينا كيف ينمو النبات ثم يُحصَد، كيف يزهو ثم ينتهي، فكذلك الحياة‫.‬ في البدء كان الكلام عن الإنسان؛ خَلَقَه من نطفة فقَدَّرَه، ثم بعد ذلك أماته فأقبره، ثم بعد ذلك لابد أَنْشَرَه‫.‬ كذلك النبات؛ ينمو ويزهو بعد أن لم يكن موجوداً، ثم بعد ذلك ينتهي ويُحصَد، وهكذا الحياة تنتهي، لابد لها من نهاية، ونهاية الحياة وشيكة، وعمر الإنسان قصير، ولا يضمن الإنسان متى يموت، وقد علمنا أن الإنسان لا ينفعه إلا عمله؛ في قبره يؤنسه وفي يوم القيامه يُظِلُّه‫.‬ وقد رُوِيَ عن بعض الناس أنه ظَلَّلَ في ميتٍ له فَمَرَّ به أحد الصالحين وقال له‫:‬ يا بني إنما يُظِلُّه عَمَلُه‫.‬ العمل لا يشعرك بالحر لا في القبر ولا في يوم القيامة، العمل يقربك من الله، والعمل سهل، ومن حافظ على الفرائض الخمس واجتنب الكبائر ضَمِنَ الجنة لا محالة، وربنا يعد ويبشر ويقول‫:‬ ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٣١].