
سورة عبس
مقدمة
لقاؤنا مع سورة عَبَسَ. وسورة عَبَسَ وتَوَلَّى سورة مكية نزلت بمكة وفي السنين الأولى للبعثة، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يطمع في إسلام وُجَهَاء قومه؛ زعماء قريش، فكان يتودد إليهم ويدعوهم إلى الله بلطف ورقة. وفي يوم من الأيام وقد اجتمعوا حوله -زعماؤهم وأشرافهم- وهو يحدثهم ويدعوهم دخل عليه عمرو بن أم مكتوم، وهو أيضاً يُسَمَّى بعبد الله بن أم مكتوم الأعمى. دخل عليه ولم يشعر بوجود أناس عنده فقاطع كلامه وناداه وقال: يارسول الله علمني مما علمك الله، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنه، فعاد وكرر النداء: أقرئني يارسول الله وعلمني وأرشدني، فعَبَسَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بوجهه وأعرض عنه مكملاً كلامه مع القوم، فنزل جبريل يعاتب النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن كان العتاب شديداً إلا أن الله (تبارك وتعالى) ساقه بأسلوب رقيق يخفف عن حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) شدة العتاب.
عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ ﴿1﴾
أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ ﴿2﴾
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ ﴿3﴾
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ ﴿4﴾
أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾
فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ ﴿8﴾
وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿9﴾
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿10﴾
كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌۭ ﴿11﴾
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ﴿12﴾
فِى صُحُفٍۢ مُّكَرَّمَةٍۢ ﴿13﴾
مَّرْفُوعَةٍۢ مُّطَهَّرَةٍۭ ﴿14﴾
بِأَيْدِى سَفَرَةٍۢ ﴿15﴾
كِرَامٍۭ بَرَرَةٍۢ ﴿16﴾
﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ كرام عند الله (تبارك وتعالى) لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون،كرام لأنهم طائعين لله (عز وجل) كرام أكرمهم وكَرَّمَهم الله. أو كِرَام بمعنى عُطُوف، يعطفون على المؤمنين يحبون من آمن ويستغفرون له. ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [سورة غافر آية: ٧] عَطْف، تكريم منهم على عباد الله المؤمنين، فهم آناء الليل وأطراف النهار يدعون لهم ويستغفرون لهم ويطلبون لهم الجنة ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ﴾ [سورة غافر آية: ٨] بل ويدعون لآبائهم كذلك ولذرياتهم ﴿وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ [سورة غافر آية: ٨] ويستعيذون بالله لهم فيقولون ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [سورة غافر آية: ٩] هؤلاء هم الكرام، كرام مع عباد الله، وكرام عند الله. بَرَرَة: جمع بَرّ وبار، البَرّ: المتوسع في الخير، البَرّ: الصادق، البَرّ: الطائع، وكل هذه الصفات تتصف بها ملائكة الرحمن (جل وعلا).
افتُتِحَت السورة بالعتاب، ثم كلام عن القرآن ورفعة شأن القرآن وبأيدي السفرة، وهذا الوصف الكريم للسفرة قد يتشوق الإنسان لهذه الصفات، فأوضح لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطريق، أتريد أن تتصف بهذه الصفات؟ أن تكون من الكرام البررة السفرة؟ أتريد أن تكون معهم؟ الطريق سهل يسير، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "مَثَلُ الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومَثَلُ الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" إذاً فلو حفظ العبد قرآناً ومَهَرَ فيه وفي حفظه وقرأه وهو حافظ له كان في منزلة السفراء الكرام البررة.
يتوجه الكلام بعد ذلك تعجيباً لكل من يسمع ويعقل، أو استفهام توبيخ:
قُتِلَ ٱلْإِنسَـٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ ﴿17﴾
مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ ﴿18﴾
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ ﴿19﴾
ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ ﴿20﴾
ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقْبَرَهُۥ ﴿21﴾
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ ﴿22﴾
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُۥ ﴿23﴾
فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ ﴿24﴾
أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّۭا ﴿25﴾
ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّۭا ﴿26﴾
فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّۭا ﴿27﴾
وَعِنَبًۭا وَقَضْبًۭا ﴿28﴾
وَزَيْتُونًۭا وَنَخْلًۭا ﴿29﴾
وَحَدَآئِقَ غُلْبًۭا ﴿30﴾
وَفَـٰكِهَةًۭ وَأَبًّۭا ﴿31﴾
مَّتَـٰعًۭا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ ﴿32﴾
﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ هو الله الذي أنزل الماء من السماء. وقُرِئت ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ صَبَّ الماء من السحب، ولتنظر من أين أتى الماء وكيف كانت دورة الماء وكيف سُلِّطَت حرارة الشمس على المياه في البحار والمحيطات فتبخر الماء تاركاً وراءه الملح والقذى والقذر، بخر الماء فأصبح نقياً عذباً طاهراً،كيف جُمِعَ في السماء، كيف تكاثف وكيف تراكم وكيف جاءت الرياح فسيرته أنى شاء الله (تبارك وتعالى) فجمعته، ثم كيف سُلِّطَت عليه البرودة فتكاثف بعد أن كان بخاراً فنزل الماء سلساً سهلاً عذباً، ونزل بِقَدَر ولم ينزل بكثرة فيغرق البلاد، ولم ينزل بِقِلَّة فتهلك البلاد بل نزل بِقَدَر. وطريقة نزوله؛ لم ينزل بطريقة تؤذي، وإنما نزل بطريقة لا تؤذي، سهل، قطرات متتالية من الماء صَبَّها ربنا (تبارك وتعالى) صَبَّاً. ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ نعم الأرض مستوية هامدة ميتة. أو الأرض واحدة لا فارق بين هذه وتلك، والماء واحد، ثم إذا بالنبات يشق الأرض ليخرج، شَقَّاً بديعاً، وأنت تبذر الحبة في الأرض أنى وُضِعَت وكيف وُضِعَت يخرج منها الجذر والساق، يتجه الجذر إلى الأرض، إلى باطنها، ويخرج الساق إلى أعلى ،كيف كان وضع الحبة لا يمكن أن ينعكس الوضع أبداً، أنى وضعت الحبة تشق الأرض ويشق ساقها الأرض ويخرج منها، وذاك شَقٌّ بحسب الخارج فلا يكون الشَّقُّ كبيراً ولا يكون الشَّقُّ صغيراً يضيق على خروج النبات، شققنا الأرض شَقَّاُ بديعاً. ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ والحَبُّ: القمح، الشعير، الأرز، كل ما يُحصَد ويَقتَات به ويُدَّخَر يُسَمَّى حَبَّاً، نوع من أنواع الطعام الخارج من نفس الأرض والنبات بنفس الماء. ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ العِنَب: كلكم تعرفونه، أصناف وأنواع وألوان؛ منه الأحمر ومنه الأسود، منه أصفر، أصناف، منه ما فيه بذر ومنه ماهو خالٍ من البذر، طعوم وأنواع وألوان، في خارجه قشر وفي داخله لحم، وهو طري وفيه سائل سُكَّرِيٌّ، ثم فيه البذر الصلب، كل ذلك من نفس الأرض من نفس الماء. والقَضْبُ: كل ما يُقضَب أي يُقطَع فيُنبِت أصلُه كالخضروات، فأنت تقطعها وتترك أصولها في الأرض فإذا بها تُنبِت مرة أخرى. فكل نبات يُقطَع مرات، يُقطَع ثم يُقطَع وينمو، ويُقطَع وينمو أصله مرات يُسَمَّى القَضْب، من قَضَبَه: أي قَطَعَه. ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا﴾ أصناف وألوان، أشكال مختلفة الشكل وفي الطعم وفي الرائحه وفي الحجم وفي المكونات وفي كل شيء، من نفس الأرض، من نفس الماء. النخل أنواع وأصناف متعددة، تتعدى المائة من الأصناف المختلفة والطعوم المختلفة. ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ والحدائق: جمع حديقة، والحديقة كل بستان أُحِيطَ أو حَوَّطَه سور أو حَوَّطَه نخل أو حَوَّطَه شجر أو حَوَّطَه زرع، أَحْدَقَ به: أحاط به. حدائق مختلفة وغابات مختلفة، منها ما تُستَخْدَم أخشابها فقط ومنها ما تُستَخْدَم ثمارها ومنها ما يُستَخْدَم السائل الخارج منها على جذوعها أو أوساطها. ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ متكاثفة، عِظامٌ شجرُها، غِلاظٌ جذوعُها. والغُلْب: جمع أَغْلَب وغَلْبَاء، والغَلْبَاء: الشجرة العظيمة الغليظة تُسَمَّى غَلْبَاء. وغَلُبَ عنقه: أَغْلَظَ عنقه، فالأَغْلَب والغَلْبَاء: الغليظ. حدائق كثيرة متكاثفة ملتفة الأشجار والأغصان، غابات لا عد لها ولا حصر في بلاد كثيرة وفي مناطق متعددة، منها ما يُخرِج ما يُؤكَل، ومنها ما يُخرِج ما يُصنَع، ومنها ما يُخرِج ما يُستَخدَم ويُستَمتَع به، أنواع وأنواع. ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ أيضاً الفاكهة ألوان وأنواع، والأَبُّ: طعام البهائم، فالفاكهة لبني الإنسان والأَبُّ للحيوان. والكلمة -وإن كانت غير معروفة في العربية- إلا أنه قيل أن أصل الكلمة من أَبَّهُ: قَصَدَهُ وأَمَّهُ لأنه يُؤَمُّ ويُقصَد بالبهائم للرعي. وقيل: أَبَّ لكذا: أي تهيأ له، لأنه هُيِّئَ للرعي، فالأَبُّ ما يُرعَى فيه. الأَبُّ كُلُّ طعامٍ للبهائم، كل ما يُنبَت من الأرض ولا يَقتَات به الإنسان يُسَمَّى أَبَّاً. ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ الامتنان من الحَنَّان المـــَـنَّان على الإنسان. مَنَّ بهذه الأصناف والطعوم وقد كان من الممكن أن يخلق طعاماً واحداً للإنسان ولا ينوع له طعام، ولكنه نَوَّعَ له الطعام والشراب، أصناف وألوان لاعد لها ولا حصر، حتى الأنعام سخرها لك تأكل من لحمها وتأخذ من شحمها وتشرب من لبنها وتخدم الفلاح في أرضه، ولم يكلفك إطعامها بل أطعمها الله، ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾، ذاك أمر المعاش فكيف بأمر المعاد؟ وتأتي الآيات لتتكلم عن أمر المعاد لتبين لك أن المعاش يؤدي إلى المعاد، وطالما مَنَّ الله عليك وامتن عليك بالخلق والإيجاد والإطعام إذاً فاعمل لمعادك، وما معاشك إلا تمهيد لمعادك.
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ ﴿33﴾
يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿34﴾
وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ ﴿35﴾
وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ ﴿36﴾
لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍۢ شَأْنٌۭ يُغْنِيهِ ﴿37﴾
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ مُّسْفِرَةٌۭ ﴿38﴾
ضَاحِكَةٌۭ مُّسْتَبْشِرَةٌۭ ﴿39﴾
وَوُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌۭ ﴿40﴾
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾
أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ ﴿42﴾
يأتي التفصيل بعد ذكر يوم القيامة، وكفى بذكر الفرار عن ذكر الأهوال، وتخيل نفسك في هذه الدنيا وقد شعرت بحظر عظيم يأتي إلى ابنك، كيف تتعرض أنت وتتصدى حامياً ابنك؟ لو رأى أب ابنه في خطر كيف يفعل؟ فهل يصل الأمر بالإنسان أن يضحي بابنه؟ أن يفر من أمه؟ أن يفر من أبيه وأخيه؟ لابد وأن الأمر أشد من كل تخيل وأصعب من كل تفكير، فجاء هذا الفرار -أو جاء ذكر هذا الفرار- ليبين لك ما الذي دعا إلى ذلك الفرار، تُرَى أَكُلُّ الناس كذلك؟ نعم! هي لحظة، والقيامة مواقف، وكل الناس يفر ولكن فرار يختلف عن فرار، ففرار إبراهيم فرار تبرؤ، فهو تبرؤ لَمَّا تَبَيَّنَ له أنه عدو لله تبرأ منه. وهناك فرار النجاة وفرار الخوف وفرار الفزع وفرار الخزي، وهناك من هو مشغول بنفسه، حتى الرسل والأنبياء كلهم يقول نفسي ثم نفسي ثم يأتي بعد ذلك الطوفان، الأنبياء أرق الناس أفئدة، أرحم الناس بالناس، الأنبياء يقول النبي منهم نفسي نفسي، تذهب الأمم إلى أنبيائهم يستشفعونهم فيقول النبي منهم والرسول -بل الخليل إبراهيم- نفسي ثم نفسي إليكم عني، الأنبياء! يوم أعاذنا الله وإياكم من شروره. لكن بعد ذلك تُتَّخَذ المصائر ويتميز الناس، وتنقسم الناس إلى فريقين؛ فريق السعداء وفريق الأشقياء. وتصف لنا الآيات علامات السعادة وعلامات الشقاء والتي يراها أهل الموقف جميعاً ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾ والتعبير بالوجه لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان، بل وهو أكرم شيء في الإنسان، بل وعلى الوجه تظهر علامات الفرح والسرور أو علامات الحزن والغم والكرب. وجوهٌ أصحابُها في مواقف الأمن والأمان، فمنهم من هو مُستَظِل بظل العرش، ومنهم من هو جالس على كرسي عن يمين العرش، هناك أناس على منابر من نور يمين العرش -وكلتا يدي الرحمن يمين- يغبطهم الأنبياء والشهداء، وما هم بأنبياء ولا شهداء، وحين سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن هؤلاء قال: "هم المتحابون في جلال الله" بل وينادي رب العزة فيقول: "أين جيراني؟ أين أهلي؟" فيتساءل ملائكة الله (تبارك وتعالى): يارب أنت رب العزة، أنت ذو الجلال والإكرام، كيف يكون لك أهل؟ وكيف يكون لك جيران؟ من هم هؤلاء؟ فيقول الله (تبارك وتعالى): "أهل القرآن أهلي وجيراني أين قُرَّاُء القرآن؟" وهناك المحبون للمساجد؛ رجل مُعَلَّق قلبه بحب المساجد تحت العرش، رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله ما أنفقت يمينه إذ أخفاها، وهؤلاء السبعة الذين جاء ذكرهم في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم من ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ولو مرة في عمره، ولكن يُشتَرَط أن يكون خالياً، أي لا يراه أحد إلا الله، هؤلاء المستظلون بظل العرش، هؤلاء الجالسون على منابر من نور، هؤلاء المحشورون في جماعات، بل في وفود وكأنهم يُزَفُّون إلى مَلِكِ الملوك، لأن الناس كلهم كما يقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [سورة مريم آية: ٩٥] لكنه حين يأتي ذكر المؤمنين فيقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [سورة مريم آية: ٩٦] الوُدُّ المفقود في يوم القيامة إلا للأخلاء ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٦٧]. ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ مضيئة عليها النور، نور لو رأته الشمس لانكسفت ولو رآه القمر لانخسف. أَسْفَرَ الصباح: أضاء. مُسفِرَة: مضيئة ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ضاحكة في ذلك اليوم، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يضحك في ذلك اليوم؟ نعم! فكم بكى في دنياه من خشية الله، هل يأمن؟ نعم! كم خاف من الله في دنياه، ضاحكة في ذلك اليوم، الضَّحِك في ذلك اليوم لهذه الوجوه. بل مستبشرة: أي تتوقع من النعيم مالا يخطر على بال، تتوقع من النعيم ما يملأ وجوهها بالنور والضياء والاستبشار. والاستبشار: أن يظهر أثر السرور على البشرة، فإذا ظهر أثر السرور على البشرة فأنت مُستَبشِر، والبشارة تُلقَى إليك فتتغير بشرتك وتنفرج أساريرك. وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، هؤلاء الذين يُنادُون في الجمع: ﴿هاؤم اقرؤوا كتابِيَه﴾ فخور بكتابه يريه للكل ويطمئن ويفرح ويضحك لأنه نظر إلى وجه الله (تبارك وتعالى) فرأي الأمن والأمان.
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ الغَبَرَة والغُبَار شيء واحد. هل هناك غبار في ذلك اليوم؟ قال بعض الناس نعم هناك غبار ناشئ من تحول البهائم والحيوانات إلى تراب بعد القصاص، يقول الله لها كوني تراباً فتكون تراباً فإذا بذاك التراب يغطي وجوه الكفار. وقال بعضهم بل الكلام مَجَاز عن السواد الذي يُحدِثُهُ الغبار على الوجه، هؤلاء على وجوههم غَبَرَة: أي سواد كسواد الغبار. ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ والقَتَرَة: السواد والظلمة والذل والخزي. وقال بعضهم: القَتَرَة والغَبَرَة شيء واحد ولكن الغَبَرَة ما انحَطَّ من الغبار على الأرض والقَتَرَة ما ارتفع من الغبار إلى السماء، وكأن الوجوه قد غطاها جميع أنواع الغبار؛ القذر والأسود والمظلم. تَرْهَقُهَا: تغشاها، رَهَقَهُ :غَشِيَه، والرَّهَق: الغثيان يَقْهَر أي لا دافع له رغم إرادته، ولا يستطيع إنسان أن يمسحه عن وجهه أو يزيله وإنما على الوجوه قَتَرَة ترهقها وتغشاها رغم أنوفهم. وجوه يومئذٍ عليها غَبَرَة ترهقها قَتَرَة، من هؤلاء؟ هؤلاء هم الكفرة الفَجَرَة؛ الكَفَرَة الذين كفروا بالله (تبارك وتعالى) وفجروا في كفرهم، والفجور: أشد العصيان، الفجور: الفسق، الفجور: الكذب على الله، الفجور: الافتراء على الله. جمعوا إلى كفرهم الفجور فجمع الله على وجوههم القَتَرَة إلى الغَبَرَة، لأنهم جمعوا إلى كفرهم الفجور؛ وهو الكذب والافتراء على الله (تبارك وتعالى).
أيها الأخ المسلم؛ تلك هي الوجوه، أي وجه تحب أن تكون وجهك منه؟ الأمر سهل يسير، الطريق إلى الجنه طريق سهل، ورضاء الله أمر يسير، ورضاء الخلق من الأمور التي لا تُدرَك، فأنت إن سعيت في رضا الناس يرضى عنك بعضهم ولا يرضى عنك البعض الآخر، أما إذا سعيت في رضا الله رضي الله عنك وأرضاك. ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من أرضى اللهَ في سَخَطِ الناس رضيَ اللهُ عنه وأرضى عنه الناس ومن أَسْخَطَ اللهَ في رضا الناس سَخِطَ الله عليه وأَسْخَطَ عليه الناس) الطريق إلى الجنة بالمــــَجَّان والطريق إلى النار بالنقود. أنت تأتي للمسجد وتصلي مجاناً، تستغفر الله مجاناً، كل أفعالك بالمجان التي توصلك إلى رضا الله. أما طريق النار ففيه الصرف وفيه الإنفاق على المعاصي، فالخمر بالمال والمخدرات بالمال والزنا بالمال وكل عصيان بمال، وكل طاعة من غير مال. الطريق إلى الجنة سهل مُيَسَّر، بل وربنا (تبارك وتعالى) لا يكلفنا مالا نطيق، بل كَلَّفَنا القليل وجزانا بالكثير. ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يبين الطريق إلى إضاءة الوجوه في الدنيا قبل أن تضيء في الآخرة فيقول: (من طال قيامه بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار).
أيها الأخ المسلم؛ غَبِّر وجهك بتراب الدنيا تنجو من غَبَرَة الآخرة، اسجد لله يرفع ربنا شأنك يوم القيامة، من تواضع لله رفعه.
أيها الأخ المسلم؛ الدنيا عمرها قصير، وقد رأينا كيف ينمو النبات ثم يُحصَد، كيف يزهو ثم ينتهي، فكذلك الحياة. في البدء كان الكلام عن الإنسان؛ خَلَقَه من نطفة فقَدَّرَه، ثم بعد ذلك أماته فأقبره، ثم بعد ذلك لابد أَنْشَرَه. كذلك النبات؛ ينمو ويزهو بعد أن لم يكن موجوداً، ثم بعد ذلك ينتهي ويُحصَد، وهكذا الحياة تنتهي، لابد لها من نهاية، ونهاية الحياة وشيكة، وعمر الإنسان قصير، ولا يضمن الإنسان متى يموت، وقد علمنا أن الإنسان لا ينفعه إلا عمله؛ في قبره يؤنسه وفي يوم القيامه يُظِلُّه. وقد رُوِيَ عن بعض الناس أنه ظَلَّلَ في ميتٍ له فَمَرَّ به أحد الصالحين وقال له: يا بني إنما يُظِلُّه عَمَلُه. العمل لا يشعرك بالحر لا في القبر ولا في يوم القيامة، العمل يقربك من الله، والعمل سهل، ومن حافظ على الفرائض الخمس واجتنب الكبائر ضَمِنَ الجنة لا محالة، وربنا يعد ويبشر ويقول: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١].