
سورة النازعات
مقدمة
لقاؤنا مع سورة النازعات، سورة الساهرة، سورة الطامة الكبرى. سورة النازعات سورة مكية، تُعنَى بأمور التوحيد وإثبات البعث، سورة النازعات شأنها شأن السور المكية تخاطب أهل مكة، تثبت لهم صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالعقل والنظر، تهددهم وتتوعدهم وتثبت قدرة الله تبارك وتعالى على الإعادة. أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بأشياء، ولله (تبارك وتعالى) أن يقسم بما شاء على ما يشاء. يقول الله عز من قائل:
وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرْقًۭا ﴿1﴾
وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشْطًۭا ﴿2﴾
وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبْحًۭا ﴿3﴾
فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبْقًۭا ﴿4﴾
فَٱلْمُدَبِّرَٰتِ أَمْرًۭا ﴿5﴾
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ ﴿6﴾
تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ ﴿7﴾
قُلُوبٌۭ يَوْمَئِذٍۢ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾
أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌۭ ﴿9﴾
يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَافِرَةِ ﴿10﴾
أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰمًۭا نَّخِرَةًۭ ﴿11﴾
قَالُوا۟ تِلْكَ إِذًۭا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌۭ ﴿12﴾
فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌۭ وَٰحِدَةٌۭ ﴿13﴾
فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ ﴿14﴾
ويتوجه الكلام بعد ذلك لتسلية النبي (صلى الله عليه وسلم) ولتهديد كفار مكة وتحذيرهم من أن يحيق بهم ما حاق بمن هو أقوى منهم وأشد؛ قوم فرعون.
هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ﴿15﴾
إِذْ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ﴿17﴾
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ﴿18﴾
وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ﴿19﴾
فَأَرَىٰهُ ٱلْـَٔايَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿20﴾
فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ﴿21﴾
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ﴿22﴾
فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ﴿23﴾
فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿24﴾
فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلْـَٔاخِرَةِ وَٱلْأُولَىٰٓ ﴿25﴾
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةًۭ لِّمَن يَخْشَىٰٓ ﴿26﴾
أيها الأخ المسلم؛ في هذا الكلام والذي قرأناه من سورة النازعات يتبين أمر، وهو أن المؤمن في رعاية الله دنيا وأخرى، في حنانه وفي كلاءته، في عيشه، في يقظته ونومه. حين الموت يأتيه ملك الموت يلقي عليه السلام، لا يفاجئه، لا يخيفه ولا يفزعه، بل يلقي عليه السلام ويقول له، أُقرِئك من ربك السلام، بل ويريه مقعده من الجنة، ويأتيه بلباس البرزخ فضفاضاً جميلاً ناعماً ليناً، وإذا بنفس المؤمن تتشوق إلى الله وتتشوق إلى لقاء الله فَتَهُمُّ خارجةً بنفسها من قبل أن يُخرِجَها الملك، تتلقاها الملائكة بالترحاب: سلام عليكم طِبْتُم ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة النحل آية: ٣٢] تلك نفس المؤمن؛ تسبح وتسعى وتصعد. ها هو الله تبارك وتعالى يبشر ويتوعد، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من أَحَبَّ لقاء الله أَحَبَّ الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه."
تلفت سورة النازعات أنظار الكفار إلى أمر مُشاهَد لتدلل على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث والإيعاد، فيقول الله (عز وجل):
ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُ ۚ بَنَىٰهَا ﴿27﴾
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّىٰهَا ﴿28﴾
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَىٰهَا ﴿29﴾
وَٱلْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ ﴿30﴾
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَىٰهَا ﴿31﴾
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَىٰهَا ﴿32﴾
مَتَـٰعًۭا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ ﴿33﴾
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿34﴾
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ ﴿35﴾
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ﴿36﴾
فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ﴿37﴾
وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿38﴾
فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴿39﴾
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴿40﴾
فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴿41﴾
يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا ﴿42﴾
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَىٰهَآ ﴿43﴾
إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَآ ﴿44﴾
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَىٰهَا ﴿45﴾
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوٓا۟ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَىٰهَا ﴿46﴾
أيها الأخ المسلم؛ سورة النازعات ابتدأت بالقَسَم على قيام البعث، وانتهت أيضاً بتقرير البعث، وقررت أن الدنيا إلى جوار البعث وكأنها ساعة. هَبْ أنك عشتَ عُمرَ نوح، وهَبْ أنك رُزِقتَ بكنوز قارون، وهَبْ أنك أُوتِيتَ مُلكَ سليمان، فما بعد؟ وأي شيء بعد ذلك؟ الموت! وتَفْقِدَ مُلكَك، وتُوَرَّث أموالُك، وينتهي عمرُك، ثم تساق إما إلى جنة وإما إلى نار. الدنيا عمرها قصير وخطرها حقير، فاعملوا للآخرة واسعوا إليها سعياً حثيثاً، والإنسان لا يضمن عمره، بل العمر قصير مهما طال، والموت قريب، قريب جداً، هو نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، هو نَفَسٌ ولكن ساعة الموت -وما أدراك ما ساعة الموت- وساعة الدفن -وما أدراك ما ساعة الدفن- حيث يُوَلِّي الأصحاب والأهل والأقارب ويُترَكُ الإنسان وحدَه، وجَرِّب أن تجلس وحدك في الظلام ساعة لا تكلم أحداً ولا يكلمك أحد، جَرِّب ذلك وتخيل القبر، كم من السنين سوف يكون اللبث فيه؟!!