سورة النازعات

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة النازعات، سورة الساهرة، سورة الطامة الكبرى‫.‬ سورة النازعات سورة مكية، تُعنَى بأمور التوحيد وإثبات البعث، سورة النازعات شأنها شأن السور المكية تخاطب أهل مكة، تثبت لهم صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالعقل والنظر، تهددهم وتتوعدهم وتثبت قدرة الله تبارك وتعالى على الإعادة‫.‬ أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بأشياء، ولله (تبارك وتعالى) أن يقسم بما شاء على ما يشاء‫.‬ يقول الله عز من قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬

وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرْقًۭا ﴿1﴾ وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشْطًۭا ﴿2﴾ وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبْحًۭا ﴿3﴾ فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبْقًۭا ﴿4﴾ فَٱلْمُدَبِّرَٰتِ أَمْرًۭا ﴿5﴾
وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الأشياء؛ فمن قائل إنها النجوم؛ تَنزِعُ النجوم، أو تَنْزَعُ النجوم في سيرها من المشرق إلى المغرب فتغرب وكأنها تغرق‫.‬ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ إغراقاً في الغروب‫.‬ ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ تنشط في السعي من المشرق إلى المغرب بين المطالع المختلفة‫.‬ ﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ إذ تسبح كالشمس والقمر ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٣٣]. ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾ إذ يسبق بعضها البعض الآخر‫.‬ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ إذ بالمشارق والمغارب يحدث تدبير الأمور من مطر وتقلب للفصول، صيف شتاء وخريف وربيع وهكذا‫.‬ ومن قائل إن الكلام عن المجاهدين في سبيل الله؛ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ أي النازعات للأسهم من القِصِيِّ مُغرِقين في النَّزْع ناشطين في الجهاد في سبيل الله‫.‬ سابحين براً وبحراً للجهاد في سبيل الله‫.‬ والسابقين سبقاً إلى الجهاد وإلى إعلاء كلمة الله (تبارك وتعالى). فالمدبرات أمراً لأنهم لنشرهم للحلال والحرام قد دبروا أمور الممالك على أكمل وجه‫.‬ ومن قائل إنها النفوس؛ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١)وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢)﴾ نفس المؤمن إذا جاء الموت اشتاقت إلى لقاء الله (تبارك وتعالى) ورأت ما أُعِدَّ لها من النعيم فنَزَعَت وخرجت من أجسادها ونشطت في السعي وسبقت إلى الجنة‫.‬ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ هي الملائكة‫.‬ وقيل بل هذا الكلام عن المؤمن في هذه الدنيا، النفوس المؤمنة المتيقنة الراضية المرضية نازعات غرقاً عن المعاصي والشهوات أي مبتعدات ابتعاداً كاملاً، أغرق في الشيء‫:‬ استغرق فيه‫.‬ ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ تنشط النفس في طاعة الله (تبارك وتعالى). (فالسابقات) النفوس سابقة إلى رضوان الله (تبارك وتعالى)، سابحات في جلاله وكماله والتأمل في آياته، مرتفعات إلى الكمالات حتى تصبح من المكملات‫.‬ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ عاد ذلك على الملائكة‫.‬ وأرجح الأقوال فيما نرى -والله أعلم- أن الأوصاف أوصاف الملائكة، والكلام عن الموت وعن نزع النفوس من الأجساد إذ السورة تحدث كفار مكة الذين أنكروا البعث وقالوا ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً﴾ وقالوا ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا﴾، قالوا وقالوا، والسورة نزلت لهم تُبَكِّتهم وتتوعدهم وتثبت لهم قدرة الله (تبارك وتعالى) وأن البعث حق والموت قادم لا محالة‫.‬ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ الملائكة تقبض أرواح الكفار فتنزعها، إغراقاً في النزع‫.‬ والنَّزْع‫:‬ جذب الشيء من مقره بشدة وعنف، فملائكة العذاب تنزع أرواح الكفار نزعاً مُغرِقَةً في هذا النزع، إذ تأخذ وتسيل أرواحهم من تحت أظفارهم ومن تحت أشعارهم بل ومن آخر ومنتهى أقدامهم، تنزعها نزعاً مُغرِقَةً في هذا النزع، أي واصلة إلى منتهاه‫.‬ أغرق في الشيء‫:‬ استغرق فيه ووصل إلى منتهى الشيء، فملائكة العذاب تنزع نفوس الكفار نزعاً شديداً وجذباً عنيفاً من أجسادهم، أو تنزعها ثم تُغرِقها في الأجساد فيموت في المرة ألف مرة، يذوق الموت مرات ومرات، تنزع أرواحهم ثم تقذفها فيهم مغرقة لها في أجسادهم ثم تنزعها وهكذا‫.‬ ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ ملائكة الرحمة تُنْشِط أرواح المؤمنين‫.‬ والنَّشْط‫:‬ الجذب بسهولة ويسر ولين ولطف، والعرب تتكلم عن البئر قريبة القاع والتي يأخذ الرجل دلوه منها بجذبة واحدة لا يحتاج إلى بَكَرَة ولا يحتاج إلى قوه ولا يحتاج إلى مجهود، بل ينزع الدلو نزعة واحدة فإذا به مليئاً بالماء، يقولون عن هذا البئر‫:‬ بئر أنشاط أو بئر نشيط‫.‬ فالنَّشْط‫:‬ الجذب بسهولة، ملائكة الرحمة تنشط أرواح المؤمنين نشطاً فتسلبها منهم برفق ولين ولطف وسهولة‫.‬ ﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ الملائكة تسبح في نزع الأرواح كالسابح في الماء يظهر تارة ويختفي تارة، وكأن نزع الأرواح هكذا كالسبح في الماء، تخرج الروح رويداً رويداً فتختفي ثم تخرج منها القليل وهكذا‫.‬ أو السابحات‫:‬ الملائكة تسبح بأمر الله (تبارك وتعالى) مسرعة في تنفيذ أمره ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ٦]. أو هي أرواح المؤمنين تسبح إلى ملكوت الله (عز وجل) وإلى ما أُعِدَّ لها‫.‬ ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾ الملائكة تسبق بأرواح الكفار إلى سِجِّين وتسبق بأرواح المؤمنين إلى أعلى عِلِّيِين‫.‬ ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ الملائكة، أوكل الله إليها تدبير أمر العوالم من مطر ورزق وجفاف ورياح وسحاب وأعمار وهكذا، فهي تدبر الأمر بأمر الله، فنُسِبَ إليها التدبير مجازاً وإن كان المدبر هو الله‫.‬ فهي أوصاف الملائكة والكلام عن نزع الروح ويختلف خروج روح المؤمن عن خروج روح الكافر ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٥٠] وأما المؤمنون فتتوفاهم الملائكة قائلين لهم سلام عليكم‫.‬ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١)وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢)وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣)فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤)فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾ قَسَم جوابه محذوف تقديره "لَتُبْعَثُنَّ"دل على ذلك ما جاء بعد ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾.‬
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ ﴿6﴾ تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ ﴿7﴾ قُلُوبٌۭ يَوْمَئِذٍۢ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾ أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌۭ ﴿9﴾ يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَافِرَةِ ﴿10﴾ أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰمًۭا نَّخِرَةًۭ ﴿11﴾ قَالُوا۟ تِلْكَ إِذًۭا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌۭ ﴿12﴾ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌۭ وَٰحِدَةٌۭ ﴿13﴾ فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ ﴿14﴾
‫﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ ترجف‫:‬ تضطرب، والرجفة‫:‬ الاضطراب الشديد مع حدوث الصوت، فقد يضطرب الشيء بلا صوت، فإذا اضطرب وأحدث صوتاً في اضطرابه فذاك هو الرجف‫.‬ والرجفة‫:‬ الأرض إذ تهتز، لقول الله (عز وجل) ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ [المزمل آية‫:‬ ١٤]: ترتجف وتضطرب وتهتز وتتزلزل‫.‬ ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ أي التالية، من رَدِفَه‫:‬ إذا تَبِعَه‫.‬ والتالية‫:‬ انشقاق السماوات وانتثار الكواكب والنجوم‫.‬ أو هي النفختان؛ النفخة الأولى الراجفة ترجف بها الأرض وتتزلزل بها السماوات، تتبعها الرادفة‫:‬ نفخة القيام، فهما النفختان، الراجفة‫:‬ النفخة الأولى حيث يموت كل شيء بإذن الله، تتبعها الرادفة‫:‬ أي التالية لها، نفخة القيام حيث يقوم كل شيء بأمر الله‫.‬ ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ ألا وهي قلوب الكفار، والكلام فيه التهديد والوعيد‫.‬ وَجَفَ يَجِفُ وَجْفَاً ووَجيفاً: القلب اضطرب وأسرعت دقاته، من الإيجاف‫:‬ الإسراع‫.‬ أَوْجَفَ البعير‫:‬ أَسرَعَ سيرُه، فتسرع القلوب في دقاتها ويشتد خفقان القلب من الفزع والاضطراب والهلع، قلوب يومئذ واجفة‫:‬ ألا وهي قلوب الكفار، أما قلوب المؤمنين فهي مطمئنة بفضل الله مستظلة بظل الله‫.‬ ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ أي أبصار أصحابها خاشعة، وأضيفت الأبصار للقلوب لأن الخوف قد ملأ القلب، (أبصارها) أي أبصار أصحابها، (خاشعة): ذليلة منكسرة من الهوان ومن الذل بالإضافة للخوف والرعب‫.‬ (يقولون) والكلام عنهم حين كانوا في هذه الدنيا، لِمَ أصبحت قلوبهم واجفة؟ ولِمَ صارت أبصارهم خاشعة؟ لأنهم كانوا في الدنيا يقولون أئنا لمردودون في الحافرة؟ وقُرِئت (الحَفِرَة). الحافرة‫:‬ تعبير عن الدنيا‫.‬ أو الحافرة‫:‬ تعبير عن الأرض‫.‬ أو الحافرة‫:‬ تعبير عن القبر‫.‬ وأصل الكلمة من قولهم‫:‬ رجع في حافرته، أو رجع على حافرته، أو رجع إلى طريقه الذي مشى فيه وحفر الأرض بأقدامه، فإذا مشى الماشي حفر الأرض بمشيته، فإذا قيل رجع في حافرته أي رجع في طريقه الذي أتى منه‫.‬ فهم يقولون أئنا لمردودون في الحافرة؟ أي إلى حالتنا الأولى؟ إلى حيث كنا؟ من حيث جئنا؟ مردودون إلى الدنيا مرة أخرى؟ مردودون أحياء بعد الموت؟ أو في الحافرة‫:‬ بمعنى الأرض وسميت الحافرة حافرة لأن الحوافر تمشي عليها، أو الحافرة بمعنى المحفورة؛ القبور حيث حُفِرَت، أي يُرَدُّون إلى الحياة بعد أن يُدفَنون في القبور‫.‬ ثم يستمر كلامهم في التصعيب وتعجيز الله (تبارك وتعالى) والاستهزاء فيقولون‫:‬ ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً﴾ وقُرِأَت ﴿إذا كنا﴾ على الخبر، ليس على السؤال‫.‬ وقُرِئت ﴿ناخِرة﴾ أي إذا كنا عظاماً نَخِرَة كيف يكون ذلك؟ كيف يكون العودة؟ كيف يكون الإحياء بعد أن تتحول الأجساد إلى عظام نخرة بالية؟ نَخِرَ العظم‫:‬ بَلِيَ وتفتت‫.‬ ناخِرة‫:‬ مُجَوَّفة‫.‬ النَّخِرة‫:‬ المتفتتة والبالية‫.‬ الناخرة‫:‬ المجوفة التي مر منها الريح، خرج وله نَخْرٌ: له صوت‫.‬ ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١)قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢)﴾ قالوا مستهزئين‫:‬ إن صح قول محمد بأن هناك رجوع وبعث بعد الموت تلك كَرَّة‫:‬ رَجْعَةٌ. والكَرَّات‫:‬ الرجعات‫.‬ (تلك كَرَّة) أي رجعة‫.‬ (خاسرة) أي خاسرة أصحابها، أي أصحابها خاسرون، كقولك تجاره رابحة‫:‬ أي رابح أصحابها، أو تجارة خاسرة‫:‬ خاسرٌ صاحبُها‫.‬ فهم يستهزئون ويقولون‫:‬ أئذا كنا عظاماً نَخِرَة أيحدث ذلك؟ تلك إذاً -إن حدث ذلك- كَرَّةٌ خاسرة، مستهزئين لأنهم مُبَشَّرين بالنار وبجهنم وهم يعلمون ذلك، فيستهزئون ويُكَذِّبون ويقولون إذا كان ذلك وإذا حدث ذلك فهي لاشك رجعة خاسرة يخسر صاحبها‫.‬ ويرد الله (تبارك وتعالى) عليهم؛ يا مَن تستصعبون البعث وتُعجِزون الله (تبارك وتعالى) في ذلك، ما بعثكم إلا أمر يسير، بصيحة واحدة، بل بنفخة واحدة ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ والزَّجْر‫:‬ الصياح‫.‬ زَجَرَ الفرس‫:‬ صاح به‫.‬ فإنما هي زجرة واحدة‫:‬ أي صيحة واحدة، أي هي النفخة الثانية‫.‬ ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ الساهرة‫:‬ قيل إنها الأرض المستوية التي لا نبات فيها ولا زرع ولا بناء، وسميت ساهرة لأن السراب فيها يمشي ويسعى ويتحرك ويجري، لقولهم "عين ساهرة" من عين امتلأت بالماء، فإذا امتلأت البئر بالماء أو جرى ماؤها سُمِّيَت عين ساهرة، فسميت الأرض المستوية البيضاء ساهرة لأن السراب يجري فيها‫.‬ أو الساهرة‫:‬ اسم من أسماء جهنم، وسميت جهنم بالساهرة لأنه لا نوم فيها‫.‬ أو الساهرة‫:‬ هي أرض بيضاء يخلقها الله (تبارك وتعالى) للمحشر، أرض لم يُعصَ الله عليها قط، ما تمت عليها معاصي، هي أرض جديدة لقوله (يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض) تلك أرض المحشر، ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾. أو أرضنا هذه تُبَدَّل وتُبسَط وتُعَدُّ للحشر، وتسمى ساهرة لأن فيها سَهَرُ الإنسان ونومه، أو في السفر فيها يسهر الإنسان من خوفه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويتوجه الكلام بعد ذلك لتسلية النبي (صلى الله عليه وسلم) ولتهديد كفار مكة وتحذيرهم من أن يحيق بهم ما حاق بمن هو أقوى منهم وأشد؛ قوم فرعون‫.‬‬‬‬
هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ﴿15﴾ إِذْ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾ ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ﴿17﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ﴿19﴾ فَأَرَىٰهُ ٱلْـَٔايَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿20﴾ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ﴿21﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ﴿22﴾ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ﴿23﴾ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿24﴾ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلْـَٔاخِرَةِ وَٱلْأُولَىٰٓ ﴿25﴾ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةًۭ لِّمَن يَخْشَىٰٓ ﴿26﴾
‫﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ والكلام تشويق‫.‬ صيغة الكلام بهذا السؤال فيه التشويق والترغيب للسامع كي يسمع وينتبه ويلتفت‫.‬ ربنا يُسَلِّي الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)؛ ﴿هَلْ أتَاكَ﴾: أي قد أتاك وقد علمت وقد أخبرناك حديث موسى‫.‬ ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ طُوَى‫:‬ اسم للوادي المقدس، ذلك الوادي الذي رأى فيه موسى ناراً وظن أنها نار، وحين أتاها سمع النداء من العلي الأعلى‫:‬ (إني أنا ربك) ذاك هو الوادي المـــُطَهَّر الـمُنَزَّه وسُمِّيَ طُوَى‫.‬ وطُوِى فيه ثلاث قراءات‫:‬ طُوَى بغير تنوين، طُوَىً بالتنوين كقراءة حفص، طِوَىً بكسر الطاء والتنوين، ثلاث قراءات‫.‬ ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أي ناداه وقال له اذهب إلى فرعون إنه طغى‫.‬ والطغيان‫:‬ تجاوز الحد‫.‬ طغى في الدنيا بأن تكبر على الحق وتَجَبَّر على الخلق‫.‬ ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨)وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)﴾ والكلام يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، وربنا يقول في موضع آخر‫:‬ ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٤٤] هل هناك أَلْيَن من هذا الكلام؟ جبار في الأرض يَدَّعِي الألوهية، وانظر إلى أمر الله (تبارك وتعالى) لموسى كيف يخاطبه (هل لك) دعوة فيها الرفق واللين واللطف، كما تدعو أنت صاحبك وحبيبك إلى بيتك فتقول هل لك أن تزورنا؟ هل لك أن تبيت عندنا؟ منتهي اللطف، منتهى الرفق‫.‬ ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ وقُرِأَت ﴿تَزَّكَّى﴾ لأن الأصل فيها (تَتَزَكَّى) أي تَتَطَهَّر من الشرك بالتوحيد، وتَتَطَهَّر من الكبر بالتواضع، وتَتَطَهَّر من المعاصي بالطاعة‫.‬ ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ أَهدِيَك‫:‬ أَدُلُّك، أُعَرِّفُك بالله فتخشاه وتتقي غضبه‫.‬ والخشية لا تأتي إلا بعد المعرفة، إِنَّ من عرف الله خشي عقابه‫.‬ أَهدِيَك‫:‬ أُعَرِّفُك أولاً وأَدُلُّك على الله (تبارك وتعالى) على صفاته وجلاله وكماله، على قدرته وعظمته، على ما أعده لعباده الطائعين وما توعد به المجرمين ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾. وجاء الكلام مختصراً، وكأن فرعون لم يُصَدِّق بذلك ولم ينتبه وطلب الدليل وطلب الآية ﴿فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى﴾ العصا كيف تحولت إلى حية، واليد البيضاء كيف بَرُقَت كبروق الشمس، كيف أضاءت من غير سوء‫.‬ الآية‫:‬ كناية عن الآيات كلها أراه إياها‫.‬ ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ أي فكذب فرعون موسى، وعصى فرعون ربه، كذب موسى وعصى الله‫.‬ ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ أدبر‫:‬ تولى، أعطى موسى ظهره، أعطى الحق ظهره‫.‬ أدبر يسعى في الأرض بالفساد، في النكاية بمن آمن بموسى، في الإعداد لموسى، في تكذيبه وفي السعاية ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ حَشَرَ الناس فنادى‫.‬ ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ربهم الأعلى، لأنه قد أعد لهم أصناماً يقدمون إليها القرابين وكهنة ومعابد، وادَّعَى هو أنه رب هذه الأرباب‫.‬ أو أنا سيد أسيادكم باعتبار ولاة الأمر -الوزراء والأمراء وما إلى ذلك- هم أسيادهم وأربابهم وهو رب الجميع‫.‬ نادى في القوم‫:‬ أنا ربكم الأعلى، لا أعلى منه ولا أكبر منه ولا أَجَلُّ منه‫.‬ ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ أخذه الله، وأَخذُ الله أَخذُ عزيزٍ مُقْتَدِر‫.‬ النَّكال‫:‬ مصدر بمعنى التنكيل، وهو اسم أيضاً لكل عقوبة تُوقِعُها على شخص فيمتنع غيره، تُخَوِّف بها غيره‫.‬ من النِّكْل، النِّكْل‫:‬ القَيْد، والقَيْد يمنع الحركة، فالنِّكْل يمنع الحركة، والعقوبة التي تُحدِثُها بإنسان شديدة فظيعة تمنع كل من رآها وسمع بها عن ارتكاب نفس العقوبة يُسَمَّى ذلك نَكَالاً وتنكيلاً. نَكَّلَ به‫:‬ أوقع به من العقوبة ما يجعل غيره يمتنع تماماً عن التصرف بمثله أو الإتيان بمثلها‫.‬ ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ﴾ بالإحراق، ﴿وَالْأُولَى﴾: بالإغراق‫.‬ أو أخذه الله نكال الآخرة‫:‬ الكلمة الآخرة؛ الأخيرة (والأولى) الكلمة الأولى‫.‬ قد قال فرعون كلمتين؛ الأولى‫:‬ ﴿ما عَلِمْتُ لكم من إلهٍ غيري﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٣٨] والثانية‫:‬ ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، فأخذه الله نكال‫:‬ أي تنكيلاً به للكلمة الأولى والآخرة، أو في الدنيا بالإغراق وفي الآخرة بالإحراق‫.‬ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ عبرة وعظة وتَذَكُّر لمن يخشى الله (تبارك وتعالى)، ولمن يخشى أن يحيق به ما حاق بفرعون‫.‬ والكلام فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وسلم) وفيه تهديد لقريش، تهديد لكفار مكة، أأنتم أقوى من فرعون؟ هل سمعتم بما حدث لفرعون؟ هل جاءكم ما حاق به وبقومه؟ سوف يحيق بكم ذلك إن استمررتم على الكفر والتكذيب، فهو تهديد شديد ووعيد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ في هذا الكلام والذي قرأناه من سورة النازعات يتبين أمر، وهو أن المؤمن في رعاية الله دنيا وأخرى، في حنانه وفي كلاءته، في عيشه، في يقظته ونومه‫.‬ حين الموت يأتيه ملك الموت يلقي عليه السلام، لا يفاجئه، لا يخيفه ولا يفزعه، بل يلقي عليه السلام ويقول له، أُقرِئك من ربك السلام، بل ويريه مقعده من الجنة، ويأتيه بلباس البرزخ فضفاضاً جميلاً ناعماً ليناً، وإذا بنفس المؤمن تتشوق إلى الله وتتشوق إلى لقاء الله فَتَهُمُّ خارجةً بنفسها من قبل أن يُخرِجَها الملك، تتلقاها الملائكة بالترحاب‫:‬ سلام عليكم طِبْتُم ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٣٢] تلك نفس المؤمن؛ تسبح وتسعى وتصعد‫.‬ ها هو الله تبارك وتعالى يبشر ويتوعد، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من أَحَبَّ لقاء الله أَحَبَّ الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه."‬‬‬‬‬
‫تلفت سورة النازعات أنظار الكفار إلى أمر مُشاهَد لتدلل على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث والإيعاد، فيقول الله (عز وجل):‬‬
ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُ ۚ بَنَىٰهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّىٰهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَىٰهَا ﴿29﴾ وَٱلْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَىٰهَا ﴿31﴾ وَٱلْجِبَالَ أَرْسَىٰهَا ﴿32﴾ مَتَـٰعًۭا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ ﴿33﴾
‫﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ والكلام لمنكري البعث؛ هل خلقكم أصعب أم خلق السماء؟ ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٥٧] فإذا كان الله (تبارك وتعالى) قادراً على خلق العالم الأكبر فهو على خلق العالم الأصغر أقدر‫.‬ ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾ ثم بين كيف خلقها فقال‫:‬ (بناها) إذاً فهي بناء بغير عَمَد، بناء بغير وتد، بناء بغير أداة وبغير آلة، بناء محكم، بناها بغير مساعدة، بناها من قبل الخلق، بناها وهو وحده، بناها وكيف بناها؟ ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ والسَّمْك‫:‬ الارتفاع‫.‬ والبناء المسموك‫:‬ المرتفع ارتفاعاً شاهقاً. سَمَكَ الشيء‫:‬ ارتفع ارتفاعاً شاهقاً. رفع سَمْكَها‫:‬ أي رفع بناءها ورفع سقفها فهي مرتفعة عن الأرض بمسافات فوق الخيال وفوق كل تقدير لأي عقل، فهي مبنية وهي مرتفعة بغير عَمَد‫.‬ ﴿فَسَوَّاها﴾ مستوية، لا ترى فيها عِوَجاً، لا ترى فيها شقوقاً أو فطوراً، بل هي كاملة متكاملة بالشرف والعلو والجمال والجلال، وجَمَّلَها بالكواكب الدرية وبالنجوم، وكل ذلك مُعَلَّق في الفضاء بقدرة الله (عز وجل). ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أظلمه‫.‬ غَطَشَ الليل‫:‬ أَظْلَم، وأَغْطَشَه الله‫:‬ أَظْلَمَه‫.‬ ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ نسب الليل إلى السماء ونسب الضحى إلى السماء -وهو النهار- لأن الليل والنهار يحدثان بحركة الشمس شروق وغروب، والشمس منسوبة إلى السماء لوجودها فيها‫.‬ ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أي ليل السماء، أي ليل الدنيا بغروب الشمس‫.‬ ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ وكأن النور يخرج من الظلمة‫.‬ وإذا أردت أن تتأمل في هذه الآية فانتظر بزوغ الفجر وانظر إلى الأفق وقد أظلمت الدنيا كي ترى كيف يخرج الفجر من الظلام‫.‬ الضحى من وقت شروق الشمس إلى الزوال، ذاك هو الضحى، عِزُّ النهار ومتاعه وضياؤه‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) هو الذي بنى السماء ورفعها ورفع سَمْكَها، وجدتم كل ذلك ليس من صنع إنسان وذاك أمر مُشاهَد لابد له من صانع‫.‬ إن كان هذا الصانع قد قَدَرَ على ذلك ألا يكون على البعث أقدر؟ ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ بعد ذلك‫:‬ أي مع ذلك، لأن الأرض خُلِقَت قبل السموات في أغلب الأقوال‫.‬ الأرض بعد ذلك دحاها‫:‬ سَوَّاها وهَيَّأَها وجعلها مُعَدَّة للإثبات وللعيش عليها وللزرع ولبقاء الماء فيها، ودل على ذلك ما جاء بعد ذلك‫.‬ ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ الأرض بسطها وهيأها ومَدَّها ومَكَّنَكُم من العيش عليها وأخرج منها ماءها بعد أن دحاها‫.‬ وإخراج الماء والمرعى يدل على إخراج كل شيء، وما من شيء في هذه الدنيا إلا وهو من الماء ومن المرعى‫.‬ أو المرعى‫:‬ النبات بجميع أنواعه ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ فهو لكم وللأنعام‫.‬ الملح من أين هو؟ من الماء، النار من أين هي؟ من الحطب، والحطب من أين؟ من النبات، اللباس من النبات، كل شيء في هذه الدنيا من الماء والمرعى فعَبَّر بالكلمتين عن كل ما يُنتَفَع به في هذه الأرض‫.‬ ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا﴾ العيون والآبار والأنهار‫.‬ ﴿وَمَرْعَاهَا﴾ الشجر والحَبُّ والثمر والنبات والكلأ، أخرجه من الأرض ربنا تبارك وتعالي ووجدتموه‫.‬ وأنت حين تحرث وتبذر الحب فإنما تحصل على الحب من الشجر، والشجر زارعه هو الله‫.‬ ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ ثَبَّتَها وأَقَرَّها في أماكنها كي لا تميد بكم الأرض، لأن الأرض في جوفها غازات ومياه جوفية ومعادن وما إلى ذلك، ولولا الجبال لمادت واهتزت وما استقر عليها شيء‫.‬ ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وقرئت ﴿والأرضُ﴾ على الاستئناف‫.‬ ﴿وَالْجِبَالَ﴾ قُرِئت ﴿والجبالُ﴾ أيضا على الابتداء والاستئناف، الجبال أرساها‫:‬ ثَبَّتَها وأَقَرَّها ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ رحمة، نعمة لك ولأنعام الناس‫.‬ والأنعام أيضاً رحمة ونعمة‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) خلق الأنعام لك تركبها ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٧] تخدم وتأخذ منها لحم أو بيض أو لبن أو سمن أو جلد أو شعر أو أصواف ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٨٠] وهكذا ومع ذلك لم يكلفك أن ترزقها بل هو رزقها لك، أعطاك الأنعام وذَلَّلَها لك، خلقها وذَلَّلَها وطَوَّعَها لك، والطفل الصغير يسحب الجمل الكبير، والطفلة الصغيرة تحلب البقرة الكبيرة وتستسلم لها، طَوَّعَها لك وذَلَّلَها لك وتَكَفَّل هو برزقها متاعاً لكم ولأنعامكم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ ﴿34﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ﴿36﴾ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ﴿37﴾ وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿38﴾ فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴿39﴾ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴿40﴾ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴿41﴾
ويعود الكلام مرة أخرى بعد التدليل على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث بِسَوْقِ أمور مُشَاهَدة للجميع لا ينكرها إلا جاحد‫.‬ يعود الكلام مره أخرى للبعث والساعة والقيامة لتُختَم السورة بما بدأت به ليتواءم البدء والختام‫.‬ الطامة‫:‬ اسم من أسماء يوم القيامة، الطامة‫:‬ النفخة الثانية، الطامة‫:‬ التي تفرق كل شيء وتغطي كل شيء‫.‬ طَمَّ يَطُمُّ. طَمَّ الماءُ الأرضَ: غَمَرَها وغطاها وأتلفها‫.‬ الطامة‫:‬ التي تَطُمُّ كل شيء، أي تغطي كل شيء، الهول فيها يهون إلى جواره كل هول، ويتضاءل في جواره كل فزع، وكل الدواهي تتضاءل إلى جوار هذه الداهية‫.‬ (والطامة) هذا اللفظ كان يكفي وحده لبيان الهول لكنه قال‫:‬ "الكبرى" لبيان أنه لا أكبر منها‫.‬ ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾ بعد أن غفل عنه، أو بطول المدة إذا بكل شيء محسوب مكتوب مرصود مُدَوَّن في الصحائف، نسيه الإنسان‫.‬ وأنت الآن لو تذكرتَ أو حاولت أن تتذكر كل ما عصيتَ به الله لم تقدر على ذلك، لذا كان الدعاء (اللهم اغفر لنا ما نعلم ومالا نعلم وما أنت به أعلم) لأن العبد قد يغفل عن المعصية وقد ينساها بطول المدة أو بذاكرته الضعيفة، هنالك يوم تأتي الطامة يتذكر الإنسان ما سعى‫.‬ ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ وقُرِأَت "وتَبَرَّزَت": ظهرت لكل رائ ولكل ذي بصر‫.‬ بُرِّزَت‫:‬ أُظهِرَت وأُخرِجَت أو بَرَزَت بنفسِها‫.‬ ﴿الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ وقُرِئت ﴿لمن رأى﴾ وقُرِئت ﴿لمن ترى﴾ أي لمن تراه الجحيم، لأنها تراهم ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ١٢] بُرِّزَت لمن ترى، لمن تراه الحجيم، أو لمن ترى أنت يا محمد، هؤلاء الملتفون حول البيت العابدون للأصنام المكذبون لك برزت لهم الجحيم‫.‬ ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى﴾ تجاوز الحد وعصى ربه وكفر‫.‬ ﴿وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ لم يعمل للآخرة بل عمل للدنيا فقط ونسي الآخرة وظن أنه مُخَلَّد في هذه الدنيا‫.‬ ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ المأوى، ولم يقل (مأواه) -فإن الجحيم هي مأواه- جاء بالألف واللام عوضاً عن الإضافة ليبين لك أن (المأوى) لا مأوى غيره لمن طغى، مأواه، منزله، مستقره، مرجعه هي الجحيم‫.‬ ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أي خاف عظمة الله وجلال الله‫.‬ أو خاف وقوفه ومقامه بين يدي الله للحساب‫.‬ ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ الهوى‫:‬ مُطلَق الميل، ميل النفس، ويُعَبَّرُ بالهوى عن كل ميل للشهوات‫.‬ وسُمِّيَ الميل للشهوات هوى لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية‫.‬ فمن نهى النفس عن الهوى وخاف مقام الله تبارك وتعالى يوم القيامة فإن الجنة هي المأوى‫.‬ المأوى‫:‬ أي لا منزل له سواها ولا مكان له إلا هذه الجنة‫.‬ إذاً فمفتاح الجنة نَهْيُ النفس عن الهوى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا ﴿42﴾ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَىٰهَآ ﴿43﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَآ ﴿44﴾ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَىٰهَا ﴿45﴾ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوٓا۟ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَىٰهَا ﴿46﴾
‫﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ والكلام للمصطفى صلى الله عليه وسلم‫.‬ (عن الساعة) يوم القيامة، ذلك الذي كذبوا به‫.‬ ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي متى مُرسَاها‫.‬ أَيَّان‫:‬ ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام بمعنى "متى". مُرسَاها‫:‬ استقرارها وثباتها‫.‬ أرسى الشيء‫:‬ أَقَرَّهُ وأَثْبَتَه‫.‬ أو مُرساها‫:‬ مُنتَهاها، من مرسى السفينة ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٤١]. أَيَّان مُرسَاها‫:‬ أين وقتها ومتى تحدث؟ ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ في أي شيء أنت من تَذَكُّر أو ذِكر هذا الأمر؟ والذكرى بمعنى الذكر، كيف تذكر لهم أمراً أنت لا تعلمه ولست مسئولاً عنه وليس موكولاً إليك؟ بل هو موكول إلى الله (تبارك وتعالى)،. كيف يسألونك عما لا تعلمه ولست مبعوثاً لأجله؟ أو"فِيم" وَقْف، ﴿أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ "فيم": رَدْعٌ لهم وزَجْرٌ، فِيمَ هذا السؤال؟ ولماذا السؤال؟ إن كنتم تسألون عن الساعة؛ هو من علامات الساعة لأنه خاتم الأنبياء وطالما كان خاتماً للأنبياء -ولا نبي بعده- فلابد أنه أمارة من أمارات الساعة، أنت من ذكراها، أنت من علاماتها‫.‬ أو الكلام هو مستمر؛ هو كلامهم حيث قالوا كما يحكي ربنا عنهم، يسألونك عن الساعة فيما أنت من ذكراها‫:‬ أي لِمَ لا تُحَدِّثُنا عنها؟ عن موعدها؟ متى تقوم؟ فهي من كلامهم، وهي رد من الله (تبارك وتعالى): فيم أنت من ذكراها؟ ليس من شأنك أن تذكرها لهم كموعد قيام‫.‬ ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ أي منتهى أمرها ومستقرها لا يعلمها إلا الله متى تقوم، والله عنده علم الساعة‫.‬ ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ وقرأت "مُنذِرٌ" بالتنوين، هل هو مُنذِر لمن يخشى فقط؟ بل هو مُنذِرٌ للكل، هو مُنذِرٌ لكل الناس، وإنما اختص من يخشى بالذكر لأنه المنتفع، نحن المنتفعون بتذكيره والحمد لله‫.‬ أما من لا ينتفع فهو كأنه لم يُنذَر، أَنْذَرَه ولم يَتَّعِظ‫.‬ ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ يخشى الساعة ويخاف لقاء الله ويخشى مقامه بين يدي ربه‫.‬ ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ نعم! كأنه لم يلبث إلا ساعة من نهار‫.‬ العَشِيَّة‫:‬ من وقت العصر إلى الغروب‫.‬ والضُّحَى‫:‬ من شروق الشمس إلى الزوال‫.‬ أي كأنهم لم يلبثوا إلا وقتاً يسيراً في الدنيا أو في القبر، لكنهم لبثوا في القبر آلاف آلاف السنين لكنهم استصغروا المدة واستَقَلُّوها إلى جانب الهول الذي رأوه في يوم القيامة، كأنهم لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها‫:‬ في القبر أو في الدنيا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم؛ سورة النازعات ابتدأت بالقَسَم على قيام البعث، وانتهت أيضاً بتقرير البعث، وقررت أن الدنيا إلى جوار البعث وكأنها ساعة‫.‬ هَبْ أنك عشتَ عُمرَ نوح، وهَبْ أنك رُزِقتَ بكنوز قارون، وهَبْ أنك أُوتِيتَ مُلكَ سليمان، فما بعد؟ وأي شيء بعد ذلك؟ الموت! وتَفْقِدَ مُلكَك، وتُوَرَّث أموالُك، وينتهي عمرُك، ثم تساق إما إلى جنة وإما إلى نار‫.‬ الدنيا عمرها قصير وخطرها حقير، فاعملوا للآخرة واسعوا إليها سعياً حثيثاً، والإنسان لا يضمن عمره، بل العمر قصير مهما طال، والموت قريب، قريب جداً، هو نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، هو نَفَسٌ ولكن ساعة الموت -وما أدراك ما ساعة الموت- وساعة الدفن -وما أدراك ما ساعة الدفن- حيث يُوَلِّي الأصحاب والأهل والأقارب ويُترَكُ الإنسان وحدَه، وجَرِّب أن تجلس وحدك في الظلام ساعة لا تكلم أحداً ولا يكلمك أحد، جَرِّب ذلك وتخيل القبر، كم من السنين سوف يكون اللبث فيه؟!!