القرآن الكريم / سورة النبأ / التفسير المقروء

سورة النبأ

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة النبأ‫.‬ بُعِثَ النبي (صلى الله عليه وسلم) والقوم في جهالة وشرك، أنبأهم بأن الأصنام لا تنفع ولا تشفع وأن النافع والضار هو الواحد القهار، حذرهم من يوم البعث وأنبأهم عن يوم الفصل فكانوا بين مكذب ومنكر وبين شاك ومتردد، ترددوا بين الإنكار والإقرار فمنهم من قال إِنْ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين فأنكروا البعث على الإطلاق، ومنهم من قال ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين فهم في شك وتردد‫.‬ ترددوا بين الإقرار والإنكار، وتساءلوا بينهم وسألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) استهزاء أئذا كنا عظاماً ورفاتا أئنا لمبعوثون؟ تساءلوا بينهم وسألوه وسألوا المؤمنين واستهزأوا فنزلت سورة النبأ، سورة عَمَّ يتساءلون‫.‬ نزلت تهدد وتتوعد هؤلاء المستهزئين الشاكين المترددين المنكرين المكذبين، وساقت السورة من الأدلة على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث عشرة أدلة لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر، فهي مما هو مُشاهَد لا يسع الإنسان فيها إلا الإقرار‫.‬ وتحدثت السورة في ذلك اليوم وعن نتائج هذا اليوم، وتحدثت عن النار ومصير أهلها، وعن الجنة ونعيم أهلها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫افتُتِحَت السورة بتساؤل، وليس الغرض منه السؤال وإنما الغرض منه التوعد والتهديد والإشعار بعظمة شأن ذلك اليوم الذي ترددوا في شأنه

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ﴿1﴾ عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ ﴿2﴾ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿5﴾
‫﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ وصيغة الاستفهام بهذا الشكل والمستفهم عنه بِعَمَّ و"ما" يُسأَل بها عن ماهية الشيء، وكأن المستفهَم عنه غير معروف، عن أي شيء يسأل هؤلاء الناس؟ و"عَمَّ" أصلها "عن ما" وأُدغِمَت النون في الميم وحُذِفَت الألف تخفيفاً فأصبحت "عَمَّ". وقُرِئت "عَمَّه". ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾: عن أي شيء يتساءل هؤلاء الناس وهم بين مكذب ومنكر، بين شاك ومتردد؟ عن أي شيء؟ يُشعِرُك الاستفهام بفخامة شأن ما يُسأَل عنه‫.‬ ثم أخبرنا ربنا (تبارك وتعالى) عن هذا الذي يتساءلون عنه؛ ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ وكأن المعنى‫:‬ يسألون عن النبأ العظيم‫.‬ تكرر السؤال مرة أخرى مع حذف أداة الاستفهام تقديرها ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾ أو ﴿عم يتساءلون أَعَنِ النبأ العظيم﴾. والنبأ العظيم‫:‬ الخبر الكبير‫.‬ والنبأ‫:‬ الخبر الصادق، إذ الخبر قد يحتمل الصدق ويحتمل الكذب فهناك خبر صادق وهناك خبر كاذب، والأخبار تحتمل التصديق والتكذيب، أما الأنباء فهي الأخبار الصادقة‫.‬ ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ الخبر عظيم الشأن الكبير، ذاك هو الذي يتساءلون عنه، هل يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟ اختلفوا فيه بين الإقرار وبين الإنكار، فمن أقر قال إن الأصنام تشفع له، ومن أنكر قال أئذا كنا تراباً وعظاماً ذلك رجع بعيد، الذي هم فيه مختلفون‫.‬ ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ "كلا" ردع وزجر، وعيد وتهديد لهؤلاء المتساءلين المكذبين‫.‬ ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ أي سيعلمون هذا النبأ العظيم، سيعلمونه ويرونه ويتحققون من صدقه‫.‬ أو "كلا" بمعنى "حقاً" حقاً سيعلمون‫.‬ "كلا" وقف ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ إن كان المقصود بها الردع والزجر‫.‬ وإن كنت تقصد بها "حقاً" فالوصل أولى؛ ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾: حقاً سيعلمون‫.‬ ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ تكرير، كما قال بعض العلماء للتأكيد‫.‬ وقال البعض الآخر كلمة "ثم" تُشعِر بأن التهديد الثاني غير التهديد الأول‫.‬ ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ تهديد ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ تهديد آخر أشد وأخطر وأهم‫.‬ وقال بعضهم ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ عند الموت حيث يتبين لهم، حين تأتيهم ملائكة الموت يقولون لهم أخرجوا أنفسكم اليوم تُجزَون عذاب الهُون، ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ حين البعث يعلمون مرة أخرى‫.‬ يعلمون أولاً حين الموت ثم يعلمون ثانياً حين البعث‫.‬ أو يعلمون أولاً حين البعث ثم يعلمون ثانياً حين الجزاء، حين يدخلون جهنم جزاءاً وفاقاً. وقُرِئت بالتاء ﴿كَلَّا سَتَعْلَمُونَ (٤)ثُمَّ كَلَّا سَتَعْلَمُونَ (٥)﴾ أي أخبرهم يا محمد وقل لهم كلا ستعلمون ثم كلا ستعلمون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتُساقُ الأدلة شاهد وكل الناس يراها وكل الناس يعرفها، أدلة على الخلق والإيجاد، أدلة على وجود الواحد القهار المهيمن، عشرة أدلة لا يملك الإنسان إزاءها إلا الإقرار، فمن جحد وأنكر كان مكابراً.‬‬
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلْأَرْضَ مِهَـٰدًۭا ﴿6﴾ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَادًۭا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَـٰكُمْ أَزْوَٰجًۭا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًۭا ﴿9﴾ وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاسًۭا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشًۭا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًۭا شِدَادًۭا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًۭا وَهَّاجًۭا ﴿13﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَٰتِ مَآءًۭ ثَجَّاجًۭا ﴿14﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِۦ حَبًّۭا وَنَبَاتًۭا ﴿15﴾ وَجَنَّـٰتٍ أَلْفَافًا ﴿16﴾
‫﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ ذاك أول دليل، والسؤال لا يحتاج إلى إجابة بل هو سؤال تقريري يقررهم فيه ألم نجعل الأرض مهاداً؟ وقُرِئت (مَهداً) ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾، والمهد‫:‬ الفراش، المهد‫:‬ ما يُوَطَّأ للصبي ليُنَوَّم عليه‫.‬ هذه الأرض ممهدة لكم تتقلبون فيها وتقضون مصالحكم، سهلة فيها السهول، فيها الأراضي المزروعة، فيها كل شئ ممهد وسهل، لا يجد الإنسان فيها صعوبة للمعيشة، للعيش فيها، للمشي عليها، للتقلب عليها، عليها تبنون، فيها تزرعون، وعليها تنامون، وفيها تُدفَنون، هذه الأرض ممهدة لكل شيء، سهلة مُيَسَّرة، مَنِ الذي أوجدها؟ من الذي مهدها؟ من الذي سهلها؟ وُجِدتُم في هذا الكون ووجدتموها قائمة من قبل أن تُخلَقوا، من قبل أن تُولَدوا، هاهي الأرض منذ قرون بل منذ دهور بل منذ زمن لا يعرف مداه إلا الله إلى الآن وإلى ما شاء الله ممهدة، من الذي فعل ذلك؟ ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ الدليل الثاني‫.‬ الوتد‫:‬ ما يُثَبَّت به البيت‫.‬ وإذا أنشأت بيتاً من شَعْر أو من قماش كالخيام لابد من الأوتاد، حتى المباني الحديثة لابد لها من أساس في الأرض يثبتها حتى لا تذهب بها الرياح، حتى لاتدمرها الأعاصير‫.‬ وكذلك الأرض، أربعة أخماس الأرض مياه؛ بحار ومحيطات وأنهار، أربعة أخماس المساحة مياه والخُمس يابسة، بل وفي بطن الأرض غازات منطلقة وسوائل كالمنتجات البترولية ومياه جوفية وفيها وفيها، فهي خفيفة لو تُرِكَت بغير تثبيت لمادت واهتزت وما ثبت عليها شيء، فجعل الجبال فيها رواسي، أرساها أن تميد بكم، جعل الجبال أوتاداً، ذاك دليل آخر مُشاهَد بالأعين‫.‬ والدليل الثالث‫:‬ ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ ذكراً وأنثى ليتأتى التناسل وحفظ النوع وتمضي الحياة ويتناسل الناس أزواجاً ذكراً وأنثى‫.‬ أو أزواجاً بمعنى أصنافاً وألواناً، اختلاف ألوانكم، اختلاف ألسنتكم، اختلاف اللغات، الغني والفقير، الخطير والحقير، الطويل والقصير، الطيب وغير الطيب، طبائع، ألوان، أصناف، أنواع، مَنِ الذي نَوَّعَ الخلائق ولم يجعلهم كالنمل؟ أتميز نملة عن نملة أو بقرة على بقرة أو شاة على شاة؟ هاهي البهائم، هاهي الطيور، صنف واحد، شيء واحد غير مميز، تعالى إلى الناس تجد فيهم الطيب الصالح وتجد فيهم الشرير القاسي غليظ القلب، تجد فيهم الغني وتجد فيهم الفقير، تجد الطويل، تجد القصير، تجد الأبيض، تجد الأسود، اختلاف اللغات واختلاف الألوان، مَنِ الذي نَوَّع؟ أنت تتزوج وتنجب -لا بإرادتك لكن بإرادة الله- ولا تدري مافي الرحم، ويُنجَب الولد أبيض أو أسمر أتختار؟ ذكر أو أنثى ألك الخيار؟ سعيد أم شقي أبيدك ذلك؟ ذاك التنويع من الذي نَوَّعَه؟ الواحد الأحد‫.‬ ويأتي الدليل الرابع وهو من أخطر الأدلة على وجود الحي القيوم‫:‬ ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ السُّبات‫:‬ من السَّبْت‫.‬ والسَّبْت‫:‬ القَطْع، سَبَتَ الرجل رأسه‫:‬ حَلَقَ شعرَه‫.‬ والسَّبتُ أيضاً من التمدد‫.‬ والسَّبت بمعنى القطع وبمعنى الراحة، جعلنا نومكم سباتاً: قَطْعاً لأعمالكم فتنقطع الأعمال، بل وتنقطع الحواس عن العمل للراحة‫.‬ فالسبت بمعنى الراحة، النوم الخفيف الذي نستيقظ بعده، لاتنام ولا تقوم بل تنام وتقوم‫.‬ والسبت‫:‬ الراحة، وسَبَتَ الرجل‫:‬ تَمَدَّد، وسَبَتَت المرأة شعرها‫:‬ أطالته وأرسلته‫.‬ فالسَّبت بمعنى الراحة وبمعنى القطع، جعلنا نومكم سباتاً للراحة، وجعلنا نومكم سباتاً: قطعاً لأعمالكم وكَدِّكُم وجريكم على المعاش، والنوم أخو الموت، ربنا ينبئنا عن سر النوم فيقول‫:‬ ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٤٢] أين تذهب حين تنام؟ أين أنت وأنت نائم؟ كيف لا تسمع وأذنك فيك؟ كيف لا تشعر وجسدك فيك؟ أين أنت؟ أُخِذَت نفسُك، قُطِعَت عنك وبقي في جسمك أشياء متيقظة عاملة ناصبة، فأمعاؤك تعمل وقلبك يدق ومعدتك تهضم ورئتاك تأخذان الهواء وتزفران الزفير، هناك في الجسد دورة تنفسية عاملة، ودورة دموية غير متوقفة، وحركة للحجاب الحاجز ودقات للقلب، جهاز يعمل دون أن تدري، دون أن تحس، وهناك أجهزة تتوقف تماماً كالسمع والفهم والعقل والنظر والرؤية وما إلى ذلك، كيف؟ من الذي جعل النوم كذلك؟ وهل يملك الإنسان ألا ينام؟ بل وهل يملك الإنسان أن ينام وقتما شاء؟ أبداً! وجعلنا نومكم سباتاً. ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ الظلام الذي يلبسكم‫.‬ أو يلبسكم‫:‬ يغطيكم كما تُغَطِّي الثياب لابسها، فجعل الليل لباساً كاللباس يستر والليل ستار‫.‬ الظلمة تخفي الأشياء وتخفي كل شيء وتعطيك الهدوء وتعطيك السكون وتجبر الإنسان على الراحة وعلى السكون وعلى الاطمئنان‫.‬ ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ أي وقتاً للمعاش، وقتاً للجري على المعايش إذ تُحَصِّل فيه ما تعيش به، النهار جعله ربنا مبصراً مضيئاً حتى تبصر طريقك وتتبين سبيلك فتعرف كيف تسعى على المعاش‫.‬ ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ مَنِ الذي جعل النهار معاشاً والليل سباتاً؟ من الذي قَلَّبَ الليل والنهار؟ من الذي أتى بالنهار ثم ذهب به وأتى بالليل ثم ذهب به وأتى بالنهار؟ ذلك التقليب أَمِن صُنعِ الإنسان هو أم من صُنعِ الواحد القهار؟ ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ سبع سموات محكمة الخلق، متقنة، شديدة الإحكام، شديدة الإتقان، لا يَقرُبها شقوق ولا فطور على مر الأزمان والدهور‫.‬ أرأيتم السماء؟ هكذا هي منذ خُلِقَت، أرأيتم فيها الشقوق؟ أرأيتم فيها التهدم والتصدع؟ أرأيتم فيها الفطور؟ ارجع البصر ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [سورة الملك آية‫:‬ ٤] ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ السراج‫:‬ المصباح المضيء‫.‬ الوَهَّاج‫:‬ من الوَهْج أو الوَهَج‫.‬ والوَهْج والوَهَج‫:‬ الحرارة من بعيد‫.‬ تَوَهَّجَت النار‫:‬ اتَّقَدَت وازداد لهيبها‫.‬ لكن الوهج‫:‬ الحرارة من بُعد وليس من قُرب، وكأن الكلام عن الشمس يُشعِر بوظيفتين لها‫:‬ الضوء والدفء، فهو دفء لا يحرق، حرارة من بعيد، ولو كانت من قريب لأحرقت الأخضر واليابس‫.‬ وسراج إذ هي مضيئة على الأبد لا تنطفئ أبداً منذ خُلِقَت، لا يقل ضوءها‫.‬ سراجاً وَهَّاجاً: سراجاً متوهجاً مضيئاً متلألئاً. ذاك معنى من تَوَهَّج الكوكب‫:‬ أضاء‫.‬ أو سراجاً مضيئاً مدفئاً، حرارته تأتيك من بعيد فلا تؤذيك ولا تضرك‫.‬ من أين أتت الشمس؟ ألنا دخل في شروقها أو غروبها؟ أيمكن للناس أن يؤجلوا الشروق أو يؤخروا الغروب؟ هل لها أن تطلع أو لا تطلع؟ من أين تطلع؟ وهل لها أن تغير المطالع أو تبدل المغارب؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ الثَّجَّاج‫:‬ الــمُنصَبُّ بكثرة‫.‬ ثَجَّ الماء‫:‬ انصَبَّ وانصَبَّ بكثرة‫.‬ والمعصِرات‫:‬ السحائب التي أَعصَرَت، أي تَعصرُ المطر شيئاً فشيئاً ولا تَصُبُّه مرة واحدة، بل يأتيك المطر قطرات متتابعة فتنفع وتنبت الزرع وتسقي الضرع‫.‬ هذا المطر المنصَبُّ وكأن السحائب تَعصِرُ نفسها فتنزل المياه قطرات متتابعة كثيرة مفيدة نافعة‫.‬ أو المعصِرات‫:‬ الرياح، إذ الرياح تَعصِرُ السحائب فتُنزِلُ منه المطر‫.‬ وأَعصَرَتِ السحائب‫:‬ أوشكت على المطر‫.‬ أو الرياح المعصِرات‫:‬ أي المثيرة للأعاصير‫.‬ أَعصَرَتِ الرياح‫:‬ أثارت الأعاصير، والرياح المعصِرات‫:‬ المثيرة للأعاصير، تحرك السحائب فتعصرها فينزل من ذلك المطر‫.‬ وأرجح الأقوال المعصِرات‫:‬ السحائب كما جاء في الصحاح، السحائب أَعصَرَتِ بالمطر‫:‬ أي امتلأت بالمطر وأوشكت أن تنزله، من أصل استخدام الكلمة أعصرت الفتاة إذا أوشكت على المحيض وقاربت‫.‬ ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ وقرئت (ثَجَّاحاً) بالحاء، والمثاجِح‫:‬ مَصَابُّ المياه‫.‬ (ثَجَّاجاً): مُنْصَبَّاً متتابعاً كثيراً نافعاً. المعصِرات والسحائب لو نظرت إليها لوجدت حركة دائبة، الشمس بحرارتها البعيدة غير الضارة تتسلط أشعتها على مياه البحار والمحيطات فتتبخر وبهذا البخر تتخلص المياه من ملوحتها، يبقى الملح ويصعد العذب، هذا البخار حين يتصاعد لا يتشتت في الأجواء، بل تأتي الرياح المـــُسَخَّرة بأمر المولى (عز وجل) فتجمع السحائب فتتكاثف وتتراكم، فإذا تكاثفت وتراكمت صعدت بها الرياح إلى الأجواء العليا، والأجواء العليا باردة، وحين تصعد السحائب بحرارتها إلى الأجواء الباردة تأتي الرياح المسخرة أيضاً فتسوقها إلى حيث يريد الله ثم تعصرها أو تعتصر فينزل المطر عذباً طاهراً طهوراً نقياً نافعاً، ينفع الناس وينفع الأرض وينفع المخلوقات، منه الشراب ومنه الشجر الذي فيه تُسِيمُون‫.‬ الماء واحد والأرض واحدة ولكن الخارج من الأرض مختلف، منه الفاكهة ومنه الأَبُّ، منه الحلو ومنه المر، منه طعامكم ومنه طعام بهائمكم، لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤)لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥)﴾ حَبَّاً لكم؛ القمح والشعيرة والأذرة وكل ما هو من صنف الحبوب كالعدس والفول وما إلى ذلك، حَبَّاً هو طعامكم‫.‬ (ونباتاً) للأنعام، لبهائمكم، للخيل والبغال والحمير، للبقر والغنم، فأخرج من نفس الماء ومن نفس الأرض المختلف، ما هو طعام لكم وما هو طعام لأنعامكم‫.‬ ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ الجنات‫:‬ جمع جَنَّة، والجَنَّة‫:‬ البستان المتكاثف شجره الملتف أغصانه فيستر من يمشي فيه أو يستر الأرض، أو تحجب الأغصان والفروع ضوء الشمس عنها فتظللها، من الجَنِّ وهو السَّتر والإخفاء، ومنه الجِنُّ لأننا لا نراهم، واسم الجِنِّ يُشعِر بأنه لا يمكن لإنسان أن يرى الجن، اسمه الجن أي مختفي، والجنة اختفت عن الشمس أو ظُلِّلَت بالأشجار‫.‬ ﴿أَلْفَافًا﴾ اسم جمع لا مفرد له، ملتفة الأغصان‫.‬ أو هو جمع لِفّ ولُفّ ولَفِيف كشريف وأشراف‫.‬ ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ ملتفة الأغصان متشابكة.لم تُنبِت لكم الحَبَّ فقط بل أنبت لكم الفاكهة أيضاً للتفكه والتنعم، هل في الفاكهه غذاء؟ كان من الممكن أن يكتفي بغذاء للإنسان كالفول والعدس، كالحب فقط، لِمَ جعل الحب وأنبت الخضروات أيضاً؟ لنتويع هذا الطعام، ثم بعد ذلك فاكهة أيضاً، وانظر إلى البهائم لها صنف واحد من الطعام، منها ما يأكل اللحم كالوحوش، ومنها ما يأكل الخضروات كالبهائم، لكن الإنسان له حَبٌّ وله خضار وله فواكه وله أصناف وألوان وأنواع لا عد لها ولا حصر، والأرض واحدة والماء واحد والرب الخالق واحد‫.‬ نعم أنت تحرث، أنت تبذر حب الشعير فتنبت الأرض شعيراً، وأنت تحرث الأرض وتبذر القمح فتنبت الأرض قمحاً وهكذا، ولكن من أين أتيتَ ببذر الشعير؟ من أين أتيتَ ببذر القمح؟ من أين أتيتَ بذاك الذي تبذره في الأرض؟ من أين أتيتَ به؟ من شجره، مَنِ الذي أنبت شجره؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫عشرة أدلة هل ينكرها أحد؟ كلنا يبصرها، كلنا يراها، لا نملك إزاءها إلا الإقرار بوجود الواحد القهار، فالمنكرون الجاحدون الكفار أنكروا وكذبوا وجحدوا حسداً وكِبراً وعُلُوَّاً لا لعدم وجود الأدلة، بل الأدلة موجودة، لذا يَعقُب سَوْقُ الأدلة القرار الحق والقول الفصل والتهديد والوعيد لكل منكر لهذه الأدلة‫.‬‬‬‬
إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَـٰتًۭا ﴿17﴾ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًۭا ﴿18﴾ وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَٰبًۭا ﴿19﴾ وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿20﴾ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًۭا ﴿21﴾ لِّلطَّـٰغِينَ مَـَٔابًۭا ﴿22﴾ لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًۭا ﴿23﴾ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًۭا وَلَا شَرَابًا ﴿24﴾ إِلَّا حَمِيمًۭا وَغَسَّاقًۭا ﴿25﴾ جَزَآءًۭ وِفَاقًا ﴿26﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ لَا يَرْجُونَ حِسَابًۭا ﴿27﴾ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا كِذَّابًۭا ﴿28﴾ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ كِتَـٰبًۭا ﴿29﴾ فَذُوقُوا۟ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴿30﴾
‫﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ وسُمِّيَ يوم القيامة بيوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين الخلائق، فريق في الجنة وفريق في السعير، يفصل بين المحق والمبطل، يفصل بين الحق والباطل‫.‬ والميقات‫:‬ الموعد المحدد لنهاية الشيء أو بلوغ الشيء نهايته، ميقاتاً لجمع الخلائق، ميقاتاً لنهاية الدنيا، ميقاتاً: أي مؤقتاً محدداً، موعداً لنهاية هذه الدنيا الزائلة الفانية التي تَسعَون وراءها‫.‬ (إن يوم الفصل كان ميقاتاً) متى ذلك وأين يكون ومتى يكون؟ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ والصُّور يعلمه الله‫.‬ قيل‫:‬ هو البوق‫.‬ قيل‫:‬ هو شيء ينفخ فيه إسرافيل النفخى الأولى فيُصعَق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون‫.‬ يوم ينفخ نفخة البعث، نفخة القيام، القيام لرب العالمين فتأتون أفواجاً: جمع فَوج، جماعات‫.‬ أو أفواجاً: كل أمة ونبيها يتقدمها‫.‬ ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٧١] نعم! ترى كل أمة جاثية، كل أمة تُدعَى إلى كتابها‫.‬ ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ تشبيهات غاية في البلاغة، غاية في الغرابة! فُتِحَت السماء فكانت أبواباً: أي فكانت كالأبواب‫.‬ هل فُتِحَت أبوابها لنزول الملائكة؟ هل فُتِحَت أبوابها لصعود الخلائق أو الأعمال؟ هل فُتِحَت أبوابها بمعنى أنها تشققت وانفطرت فكانت كالأبواب بعد أن كانت بناءاً شامخاً ثابتاً محكماً شديداً؟ سبعاً شداداً، هذه السبع الشداد إذا بها تصبح كالأبواب متشققة‫.‬ ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ السَّراب‫:‬ التَوَهُّم‫.‬ السَّراب‫:‬ ماتراه في الصحراء وتظنه ماء وليس بماء‫.‬ تصبح الجبال كالسراب كيف ذلك؟ قيل‫:‬ تُقتَلَع الجبال من أماكنها وتتفتت وتصبح كالغبار وتسير في الأجواء، تُحمَل وتطير فتطير وهي متفتتة كالغبار على هيئتها وصورتها، يراها الرائي فيظنها جبال وماهي بجبال، كالسراب يظنه الرائي ماء وما هو بماء، فكذلك الجبال تُحمَل ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ٨٨] تلك الجبال الشوامخ الرواسي الصلبة الصلدة تصبح تراباً، تتفتت وتُنسَف وتُزال وتُقتَلَع وإذا بها في الأجواء يظنها الرائي جبالاً وما هي بجبال‫.‬ ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أعاذنا الله (تبارك وتعالى) وإياكم منها‫.‬ جهنم وما أدراك ما جهنم! نار الدنيا إذا وُضِعَت في جهنم استغاثت من جهنم، بل جهنم تستغيث من نفسها وتستصرخ وتقول أكل بعضي بعضاً. عشرة أدلة سيقت لهؤلاء المتساءلين المتشككين ثم جاء التأكيد بالبعث المكذَّب به المختَلَف في شأنه، وحدد موعده وضربت لنا أمارات وتبينت معالمه بعد ذلك ليس هناك طريق إلا جنة أو نار‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ المرصاد‫:‬ الكلمة تحمل معان عدة‫.‬ رَصَدَه‫:‬ راقبه‫.‬ أَرْصَدَه‫:‬ تَرَقَّبَه، تَرَصَّدَ له‫:‬ استعد وأعد له‫.‬ والمـــَــرصَد‫:‬ مكان الرَّصد، أي المكان الذي يُراقِب فيه الرَّاصِد‫.‬ والرَّصَد‫:‬ الطريق أمامك يُسَمَّى رَصَد، فكل ما هو أمامك يسمى رصداً. ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ فقالوا مرصاداً: أي مُعَدَّة مهيأة لاستقبال نزلائها، من التَرَصُّد وهو الإعداد والاستعداد‫.‬ وقالوا مرصاداً: مَعبَرَاً وطريقاً لابد وأن يمر عليه الناس، فأهل الجنة يمرون آمنون سالمون فذاك مَعبَر، كانت مرصاداً: مَعبَرَاً لابد من اجتيازها للوصول إلى الجنة، فالسالمون من سَلَّمَهُم الله، والمنكرون الكافرون واقعون فيها لا محالة‫.‬ فقالوا مرصاداً: تَتَرَصَّدُ هي وتَرصُد، فتَرصُدُ المؤمنين، فحين يجوزون عليها تتخافت وتكون برداً وسلاماً، وتراقبهم حتى يمرون عليها بسلام، وترصد الكفار –فهي تعرفهم- فإذا جاءوا للمرور عليها التهمتهم، أخذتهم على غِرَّة كالمترصد للعدو‫.‬ وقالوا بل الرَّاصِد‫:‬ خَزَنَتُها ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي مكاناً للرَّصد وخَزَنَةُ جهنم هم الراصدون، يرصدون الكفار حتى إذا جاءوا لاجتيازها قذفوهم فيها بالمقامع‫.‬ والكلمة تحمل كل هذه المعاني فهي ترصد الكفار لتأخذهم، وهي مترصدة بهم، وهي مرصودة لهم، أعدها الله لهم‫.‬ وهي ترصد المؤمنين فلا تؤذيهم فيجوزون على الصراط بأمان وسلام، وترصد الكفار فتأخذهم وهكذا، إن جهنم كانت مرصاداً. ﴿لِلطَّاغِينَ مَآَبًا﴾ الطغيان‫:‬ تجاوز الحد‫.‬ والطاغون هنا من طغى في دينه بكفر أو طغى في دنياه بظلم‫.‬ كانت لهؤلاء الطاغين -الذين طغوا في دينهم بالكفر أو طغوا في الدنيا بالظلم- مآباً: مرجعاً يرجعون إليه، آب يؤوب‫:‬ رَجَع يَرجِع‫.‬ ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ وقُرِئت لَبِثِين‫.‬ اللَّبِث واللابِث بمعنى واحد كالطَّمِع والطَّامِع بمعنى واحد، لغة واحدة وقراءتان‫.‬ لابثين فيها‫:‬ ماكثين فيها، من اللَّبث وهو المـــُكث‫.‬ (أحقاباً) والأحقاب‫:‬ الدهور، جمع حُقْب وحُقُب‫.‬ الحُقْب والحُقُب‫:‬ الدهر‫.‬ وقالوا الحقب ثمانون سنة، والسنه ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم بألف سنة‫.‬ وقالوا الحقب سبعون ألف سنة‫.‬ وقال بعضهم -وهو أصح الأقوال- الحقب في كلام العرب الدهر الطويل الذي لاحد له ولانهاية، وخاطبهم ربهم بما أَلِفُوه، فهم يطلقون كلمة الحُقُب والأحقاب على الدهور الممتدة التي لا نهاية لها كناية عن الخُلد، أي هم لابثين فيها أحقاباً لا نهاية له، إذا انتهى حُقب تلاه حُقب آخر، لابثين فيها أحقاباً بلا نهاية كناية عن الخُلد‫.‬ ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ لا يذوقون فيها‫:‬ في جهنم‫.‬ أو (فيها): في الأحقاب، في هذه المدد والأزمنة والدهور، لا يذقون فيها برداً، البَرْد‫:‬ النوم‫.‬ والبَرد أيضاً: الراحة‫.‬ والبَرْد أيضاً: الرَّوح‫.‬ ويُطلَق البرد على كل شيء إذا كان في أحسن حال، يفيد وينفع ويلذ ويمتع، فيقال‫:‬ بَرْد العيش، ويقال‫:‬ برد الماء، ويقال‫:‬ برد النوم، فالبرد‫:‬ الرَّوح، البرد‫:‬ الراحة، كل مايريح الإنسان، برد الظل، برد الماء، برد العيش وهكذا‫.‬ ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾: أي لاراحة هناك ولا رَوْح، بل ولانوم لأن البرد يعني النوم، ويقال في أمثال العرب‫:‬ "مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ" البَرْدُ: أي شدة الجو، البَرْد‫:‬ النوم، فيطلق كلمة البرد على النوم أيضاً. وقد سئل المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "يارسول الله أفي الجنة نوم؟ قال‫:‬ لا، النوم أخو الموت والجنة لاموت فيها". وكذلك النار لأن الله (تبارك وتعالى) يقول في شأنها‫:‬ ﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ٣٦]. ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ يطفئ غُلَّةَ عطشهم، يطفئ الظمأ الذي يشعرون به في جهنم‫.‬ ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ الحميم‫:‬ البالغ النهاية في الحرارة، ومنه الحُمَّى لأن الإنسان ترتفع فيه درجة حرارته، ومنه الحَمَّام لأن فيه المياه الساخنة‫.‬ والحميم واليحموم‫:‬ البالغ النهاية في الحرارة، فهؤلاء في جهنم لابثين فيها أحقاباً لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغَسَّاقاً –بالتشديد- وقُرِئت بالتخفيف، غسق يغسق ويغسق الجرح‫:‬ سال منه الصديد‫.‬ هذا الغَسَّاق هو صديد أهل النار السائل من جروحهم وقروحهم، يُجمَع فيُسقَون به‫.‬ ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤)إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥)﴾ الحميم‫:‬ الماء البالغ الدرجة في الحرارة ولايعرف حرارته ولا تعرف شدة هذه الحرارة‫.‬ الماء في جهنم كيف شكله؟ الصديد في جهنم كيف شكله؟ كيف تكون درجة حرارته؟ وقد عرفنا في هذه الدنيا درجات من الحرارة فوق كل خيال كأفران الصلب المنصهر، درجات حرارة فوق ما يمكن أن يفعله الإنسان من درجات الحرارة‫.‬ درجة حرارة الشمس كيف هي؟ لو اقتربت الشمس من الأرض بمقدار عشرة أمتار ما بقي حي يُرزَق على الأرض، عشرة أمتار فقط! مابقي حي، لانصهرت الجبال والشمس، شمس الدنيا وليست نار الآخرة! هؤلاء لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً جزاءاً وِفَاقاً أي جزاءاً موافقاً لأعمالهم ..لا ذنب أعظم من الكفر، ولا عذاب أخطر وأعظم من جهنم، فجوزي بالجزاء الموافق لأعمالهم‫.‬ ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أي جزيناهم جزاءاً موافقاً لأعمالهم، وماربك بظلام للعبيد‫.‬ جهنم، شدة جهنم وخطورة جهنم وأوصاف جهنم، تلك الأوصاف التي ترتعد لها الفرائص، وهذا التكرير المستمر على هذه الأوصاف في القرآن قد يجعل الإنسان في بعض اللحيظات يتساءل‫:‬ الخلد في هذا العذاب المرير وهذه الأوصاف لذنب الكفر؟ نعم الذنب الكفر، وهل الكفر بهذه الخطورة؟ نعم بهذه الخطورة لأن الكفر عمى مع وجود البصر، وصَمَم مع وجود السمع، إنكار للنعمة، جحود بها، سوء خلق وسوء ظن، بعد ماترى كل النعم التي أنعم بها عليك الخالق لا تعد ولا تحصى، تمشي وتجلس وتقوم وتأكل وتشرب، منها ما تفعله بيدك التي خلقها لك ومنحها القوى والقدرات، ومنها ماتجده جاهزاً لك إما خارج الجسم وإما داخل الجسم، كالتخلص من الأذى، كالتخلص من الفضلات، كيف يخلق لك الفم، وانظر في فمك‫:‬ الذَّوق والمضغ والأسنان؛ القواطع والأنياب والضروس للطحن، واللسان ليُقَلِّب كالمجرشة الطعام من يمنة إلى يسرة، يُقَلِّب الطعام، واللهاة لتسد مجاري الأنفاس فلا تدخل فيها المياه أو الطعام، كل ذلك في هذا الفم! كيف تمضغ هذا الطعام؟ كل ذلك ولاتذكر الله في مضغة مرة في عمرك؟ تأكل من الطعام وتشرب من الشراب والكل يدخل من مدخل واحد ثم إذا به في داخل جسدك دون إرادة منك، فيه نافع وفيه ضار، يتكون منه الدم ويتكون منه اللحم ويتكون منه الماء ويتكون منه العظم ويتكون منه الغدد ويتكون منه الأجزاء ويتكون منه الشعر، ينبت الشعر والأظفار، أشياء وأصناف تتكون في جسدك من هذا الطعام ثم تخرج الفضلات، ولك مخرجان مخرج للسوائل والموائع ومخرج للجوامد، والداخل داخل من مدخل واحد، مَنِ الذي قَسَّمَ كل ذلك بغير إرادة منك؟ ثم تنكر وجود الإله؟ ترى الشمس وترى القمر وترى السماء والجبال، جبال كالأوتاد، أرض كالمهاد، الناس مخلوقة أزواج وأصناف وألوان، وبلاد ونبات وماء وسحاب وبحار ومياه، كل شيء يدل على وجود الله، حتى الأنفاس التي تدخل إلى صدرك وتخرج بغير إرادة منك، نعم إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيها أحقاباً، لايذقون فيها برداً ولاشراباً، إلا حميماً وغساقاً، جزاءاً وفاقاً. ويؤكد الجزاء‫:‬ (إنهم كانوا لا يرجون حساباً) لا يتوقعون يوم البعث ولا يرجون ثواب من الله، فلا يعملون الصالحات، ولا ينفقون الأموال، ولا يتصدقون على الفقراء، ولا يُصَلُّون، ولا يأتون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، لأنهم لا يتوقعون الثواب من الله، ولا ينتظرون جنة، ويُعجِزون الله عن الإعادة، يتهموه بالنقص، وينكرون البعث ولا يتوقعون حساباً على أعمالهم السيئة فيسرقون ويقتلون وينهبون ويزنون ويأتون بالفواحش ماظهر منها وما بطن ويظلمون الناس ويؤذون الخلائق‫.‬ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ كَذَّبوا بالآيات، آيات الله، الكتب السماوية، الدلائل المساقة في القرآن، المعجزات المساقة على أيدي الأنبياء‫.‬ ﴿وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ أي تكذيباً شديداً، وقُرِئت بالتخفيف ﴿كِذَاباً﴾. والكِذَّاب مصدر الكَذِب‫:‬ أي كَذَبوا في تكذيبهم، كَذَّبوا بالساعة وهم كاذبون في تكذيبهم لأن الساعة حق‫.‬ وقُرِئت كُذَّاباً: البالغ في الكذب، أو جمع كاذب، أو مصدر يفيد الشدة في التكذيب، كذبوا بآياتنا تكذيباً شديداً لا تكذيب وراءه ولا فوقه‫.‬ وتأتي آية معترضة الكلام لتفيد أنه لن يفلت مجرم بجرمه ولن يفلت خاطئ بخطيئته ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أي أحصيناه إحصاءاً، لأن الإحصاء والكتابة بمعنى واحد‫.‬ أصل الإحصاء من الحصى، وكانت العرب تعتمد في العد على الحصى كما نعتمد نحن على الأصابع، أنت تعد على أصابعك، هم كانوا يعدون بالحصى، يستخدمون الحصى في العدد، فجاءت كلمة الإحصاء في العدد‫.‬ ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أحصيناه إحصاءً ؛كتبناه كتاباً. أو دَوَّنَّاه في اللوح المحفوظ‫.‬ أو دَوَّنَتْهُ الملائكة، كراماً كاتبين يكتبون كل الأعمال، كل شيء أحصيناه كتاباً، فلن يفلت مجرم بجرمه ولن يفلت خاطئ بخطيئته لأن كل شيء محسوب‫.‬ وانتهى الاعتراض وعاد الكلام إلى مجراه الطبيعي ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ أي إنهم كذبوا بآياتنا كذاباً فذوقوا‫:‬ الجواب‫.‬ وجاء الاعتراض "كل شيء أحصيناه كتاباً" ليبين أن كل شيء محسوب مكتوب مرصود، لن يفلت أحد، ﴿فَذُوقُوا﴾ وتَغَيَّر الخطاب، الخطاب على الغَيبة، وإذا بالخطاب يتوجه للالتفات، وكأنه يلتفت إليهم فجأة ﴿فَذُوقُوا﴾ ولم يكن الخطاب موجه إليهم بهذا الالتفات‫.‬ التفت الكلام فجأة ﴿فَذُوقُوا﴾. وهذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار، أشد آية هذه الآية ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ وكأن عذاب جهنم لا يُخَفَّف أو يضعف فقط، بل يشتد، وكأن عذاب جهنم كلما مرت الأيام والشهور والدهور اشتد العذاب وزاد، كلما خبت زدناهم سعيراً، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، فإذا استغاثوا أُغيثوا بما هو أشد، إذا استغاثوا من العذاب الذي هم فيه أُغيثوا بعذاب أشد لون أنكى وأدهى وأَمَرّ، أشد آية على أهل جهنم‫.‬ إذاً فعذاب جهنم في ازدياد وكلما استغاثوا أُغيثوا بما هو أشد وأنكى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫كما ساقت آيات سورة النبأ بيان لمصير الكفار يوم القيامة، حذرت وتوعدت وأوعدت وهددت هؤلاء المكذبين للبعث المعجزين لله (تبارك وتعالى) المسيئون الأدب مع الله، حذرتهم وتوعدتهم وأوعدتهم وهددتهم، تأتي الآيات وتبين ألوان النعيم للمصدقين المحبين المطيعين لله ولرسوله، وكعادة القرآن في الترغيب والترهيب، وبضدها تتميز الأشياء، يقول الله عز من قائل‫:‬‬‬‬
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ حَدَآئِقَ وَأَعْنَـٰبًۭا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًۭا ﴿33﴾ وَكَأْسًۭا دِهَاقًۭا ﴿34﴾ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًۭا وَلَا كِذَّٰبًۭا ﴿35﴾ جَزَآءًۭ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًۭا ﴿36﴾
المتقون أهل الله، أحباب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين أضاءت شمس حبيبهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حياتهم فساروا في نهارهم متبعين نهجه، وقاموا ليلهم متبعين سُنَّتَه‫.‬ هؤلاء الذين اتقوا الشرك ماظهر منه وما خفي، اتقوا الشرك بجميع صنوفه وألوانه فهم لا يشركون بالله (عز وجل) بل يوحدون الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم بل وفي سلوكهم وتصرفاتهم، فهناك من الشرك شرك خفي، كأن يقول الرجل لولا الكلب لسُرِقنا البارحة، فجعل للكلب إرادة وجعل الكلب مانعاً للقضاء والقدر وأشرك كلبه مع الله‫.‬ وقد يقول الرجل لولا الطبيب أو لولا الدواء لمات المريض، فأشرك مع الله دون أن يدري‫.‬ هؤلاء الذين اتقوا الشرك ثم اتقوا المعاصي اتقوا غضب الرب جل وعلا، ثم زاد تقواهم فاتقوا أن يحل في قلوبهم غير الله فلم يملأ قلوبهم إلا ذكر الله، فهم الذاكرون لله قعوداً وقياماً وعلى جنوبهم‫.‬ هؤلاء المتقين يبشرهم ربهم بقوله‫:‬ (إن للمتقين مفازاً) أي فوزاً، والفوز‫:‬ الظفر بالخير مع حصول السلامة‫.‬ إذاً فقد فازوا بالنجاة من العذاب ﴿فمن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنةَ فقد فَاز﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٨٥] وفازوا بالنعيم المقيم، فازوا بالنظر إلى وجه الله الكريم، فازوا بمطلبهم وظفروا بأمنياتهم‫.‬ أو المفاز‫:‬ موضع الفوز، أي فازوا بموضع فوزهم ألا وهو الجنة ففُسِّرَت بقوله‫:‬ ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ أي هاهو المفاز، أي موضع الفوز‫.‬ والحدائق‫:‬ جمع حديقة، والحديقة‫:‬ البستان فيه الثمار وفيه الأشجار وفيه الأنهار تشبيهاً له بحدقة العين لما فيها من ماء ولدائرة السواد وما حولها من بياض كأن الأنهار تجري من حولها‫.‬ وسميت الحديقة حديقة من أَحدَقَ به‫:‬ إذا أحاط به، ويشترط في الحديقة لكي ينطبق عليها هذا الاسم أن يكون البستان مسوراً بسور أَحدَقَ عليه -أي أحاط به- سور، فالحديقة بستان حُوِّطَت وأُحيطَت وأُحدِقَت بسور، أَحدَقَ بها السور، تلك هي الحديقة‫.‬ والأعناب‫:‬ جمع عِنَب، أي أشجار عنب كروم بها الأعناب المختلفة وأعناب الجنة شيء وأعناب الدنيا شيء آخر، الاشتراك في الاسم والاسم فقط وما في الجنة من دنياكم إلا الأسماء‫.‬ حدائق وليست حديقة واحدة، بل حدائق وأعناب‫.‬ ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ الكواعب من النساء جمع كاعب، والكاعب‫:‬ الفتاة إذا بلغت المحيض وتَكَعَّب ثديها.كَعَبَت تَكَعُّب كُعُوباً: أي خرج ثديها واستدار مع ارتفاع يسير، تلك هي الكاعب، العذراء إذا برز ثديها فكان في استداره كاملة مع إرتفاع‫.‬ والأتراب‫:‬ جمع تُرُب أي متساوين في السن، أقران في السن تشبيهاً لهم بترائب الصدر، الترائب‫:‬ الضلوع‫.‬ والترائب‫:‬ هذه الضلوع متشابهة في الحجم، فسميت الحور أتراباً تشبيهاً بترائب الصدر إذ هن متساويات في كل شيء، متساويات في السن، متساويات فيما أعطاهن الله من حُسن بحيث لو اطَّلَعَت واحدة منهن على أهل الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، لا يَحِضْن وهُنَّ عذارى دائماً أبداً، كلما أتاها صاحبها وجدها بكراً ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٣٥- ٣٦] أبكار إلى الأبد، أبكار بصفة مستمرة، بل وهن متغيرات يزداد حسنهن يوماً بعد يوم، لا يكبرن في السن، لا يمرضن، لا يتغوطن، لا يعرقن، لا يَحِضن، لا يَملَلْن حبهن لأزواجهن، من الأزل مخلوق فيهن مع خلقهن، قاصرات الطرف بل هن الآن منتظرات لا يشغلهن إلا الانتظار وما منهن واحدة إلا وهي عالمة بمن تنتظر شكلاً واسماً وحجماً ورائحة، تعرفه من بعيد وهي في انتظاره، وهُنَّ كاللؤلؤ المكنون، لم تقع أبصارهن على أحد، على مخلوق، لا مَلَك ولا إنسان ولا نبي ولا رسول، لم تقع أبصارهن على مخلوق، بل في قلوبهن وأبصارهن صورة من قُسِمنَ له، بل ولم يطلع عليهن أحد، لا نبي ولا مُقَرَّب ولا مَلَك، لم يرهن أحد إلا الخالق سبحانه الذي خلقهن خصيصاً للمتقين ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾. ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ الدِّهاق‫:‬ المملوءة‫.‬ دَهَقَ الحوض يَدهَقه وأَدهَقَه‫:‬ ملأه‫.‬ والكأس‫:‬ الكوب فيها الخمر، ولا يطلق على الكوب كأساً إلا إذا كانت مملوءة بالخمر‫.‬ كأساً دهاقاً: كأساً مملوءة، فإن شربها أتصبح دهاقاً؟ أبداً، فَرَغَت، فحين يقول ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ يُشعِرُك بأن الكؤوس لا تفرغ أبداً بل جاءتهم على حسب حاجتهم، ﴿قَدَّروها تقديراً﴾ [سورة الإنسان آية‫:‬ ١٦] فإن شربوا مافيها عادت وامتلأت كما كانت فهي دائماً وأبداً مملوءة‫.‬ أو دهاقاً: بمعني معصورة، مُصَفَّاة طُيِّبَت وجُهِّزَت للمتقين، خمر صنعها الله ولم يعتصرها عاصر‫.‬ ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ وقُرِأَت ﴿كِذاباً﴾ أي مُكاذَبَة‫.‬ الجنة دار سلام، ولما كانت الجنة دار سلام إذاً فقد سَلِمَت من الباطل، وسَلِمَت من النقص، وسَلِمَت من كل عيب‫.‬ كأس الدنيا تُذهِبُ العقل وتجعل صاحبها يلغو في الكلام، واللغو في الكلام ما يُلغَى وما يُطرَح، كل كلام لا طائل وراءه، كل كلام فارغ، وكل باطل وكل قبيح وكل ناقص من الكلام يسمي لغواً. كأس الآخرة لاتؤدي بك إلى اللغو، ولاتؤدي بغيرك إليه فلا تقول لغواً ولاتسمع لغواً. خمر الدنيا تدعك تكذب وتتباهى وتتفاخر، خمر الآخرة لا تدع شاربها يكذب أو يسمع الكذب، لذا يقول‫:‬ ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ ولا كذباً أو مكاذبة، فلا يكذب بعضهم بعضاً، نعم كيف يكذبون؟ وما ترى قفا المؤمن في الجنة أبداً، بل هم على سرر متقابلين، فلو دار بك سريرك لدار سريره حتى لا توليه ظهرك ولايوليك ظهره بل هم متقابلون دائماً وأبداً. فإذا كانوا لا يُوَلُّون بعضهم ظهور بعض، هم متحابون، نُزِعَ الغل من صدورهم، سقاهم ربهم شراباً طهوراً، طُهِّرَت به أبدانهم وطُهِّرَت به قلوبهم وطُهِّرَت به نفوسهم فلا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً. ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ جزاءً: وفاء لوعده سبحانه وتعالى حيث وعد، ولا يُخلِفُ الله وعده، وَعَدَ المتقين وهاهو يعدهم‫:‬ ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١)حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢)﴾ إذاً فقد تحقق لهم ذلك جزاءاً بمقتضى وعده ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ والتعبير بكلمة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ تُشعِر بالعناية، لأن الجزاء كما تعلمه في الدنيا قد يكون مقابل عمل دون مشاعر، بمعنى إذا جاءك رجل صَنَّاع فصنع لك شيئاً فأعطيتَه أجره، أنت تعطيه الأجر مقابل العمل دون مشاعر تربطك به من حب أو وفاء أو ولاء أو غير ذلك، بل عمل وأجر مقابل للعمل‫.‬ هنا حين يقول الله تبارك وتعالى "جزاءً" يصرف عنك هذا الإحساس ويبين لك أن هنا الجزاء بمقتضى وعده، فيه الرحمة وفيه الحب وفيه العناية وفيه الرعاية فيقول‫:‬" مِن ربك" لأن الرب‫:‬ المــُرَبِّي، والمـــــُرَبِّي لابد وأن يحب ما يُرَبِّيه، والمـــُـرَبِّي يصل بالشيء إلى كماله وفق استعداده شيئاً فشيئاً، ففي التربية عناية‫.‬ وأنت حين تربي ابنك تحمله على كتفك، وتجوع ليشبع، وتغطيه ولو تبرد، وتراعيه وتعتني به وتعطيه الحلوى وتعطيه كل ما يشتهي، وتراقبه ليل نهار حتى ينمو ويشب ويكبر ويعتمد على نفسه، ففي التربية حب، في التربية عناية، في التربية رعاية، في التربية مشاعر، من هنا يقول‫:‬ ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ لم يقل (جزاء من الله) لأنه لو قال (جزاء من الله) لشعر السامع أن الجزاء مقابل عمل، مجرد الجزاء، أما لما قال ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ يُشعِرُك بكيف أعد لك ما تحب، كيف هيأ لك ما تشتهي نفسك، كيف اعتنى بك وعنايته لا تنتهي أبداً. جزاء من ربك ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي ليس باستحقاق أحد، فلن يدخل أحدُكم الجنةَ بعمله، بل هو عطاء من العاطي، والعاطي (سبحانه وتعالى) يعطي بلا سبب، فحين يقول ﴿عَطَاءً﴾ يبين لك أن كل ما أعد لك في الجنة ماهو إلا محض فضل من الله جزاءً، أي تحقيقاً لوعده، لأنه وعد فجازى على العمل لكن العطاء عطاء الله، هذا العطاء الذي أعطاه لهؤلاء المتقين محض فضل وتَفَضُّل من الله لأنه لا يجب على الله شيء، وإن كان قد وعدك فإنه يحقق الوعد ويجازيك بعملك ولكن ذلك لا يجب عليه، بل كل ما أعده الله عطاءً من الله‫.‬ حساباً: أي حساباً على أعمالهم كما وعد، فمن الناس من يُجازَى بعشر حسنات على الحسنة، ومن الناس من يُجازَى بسبعمائة ضِعف، ومن الناس من يُجازَى بغير حد ولا نهاية، إنما يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب‫.‬ حساباً على أعمالهم، حساباً على وفق تقدير الله لهم‫.‬ أو حساباً: بمعنى كافياً، وقُرِئت ﴿حَسَّاباً﴾ ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ فإذا قلنا أَحسَبَهُ أي أعطاه حتى قال‫:‬ حسبي، أي كافياً لهم حتى قالوا حَسْبُنا أي كفانا هذا، فإذا أَعطَيتَ الرجل، حَسَّبَه وأَحْسَبَه‫:‬ أعطاه وأعطاه وأعطاه حتى قال الرجل‫:‬ حسبي، أي كفاني ذلك، فأخذ أكثر مما يشتهي وأكثر مما يتمنى فقال حسبي‫.‬ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى ربنا (تبارك وتعالى) أهل الجنة‫:‬ "ياأهل الجنة هل رضيتم؟" فيقولوا‫:‬ يارب رضينا رضينا، فيقول‫:‬ "يا أهل الجنة سَلُوني" فيقولوا‫:‬ يارب نسألك رضاك، فيقول الله (عز وجل): "رضائي أسكنكم جنتي" -أي قد تَحَقَّق- "يا أهل الجنة سَلُوني" فيقولوا‫:‬ يارب وما نسألك؟ فيقول الله (عز وجل): "سلوني المزيد" فيقولوا‫:‬ يارب نسألك المزيد، فيُكشَف الحجاب فينظرون من الله (تبارك وتعالى) ماشاء‫.‬ تَحَقَّق الجزاء وتَحَقَّق العطاء وكفاهم وأعطاهم وأكرمهم حتى قالوا رضينا فأعطاهم المزيد، نعم جزاءً من ربك عطاءً حساباً.
رَّبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًۭا ﴿37﴾ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ صَفًّۭا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًۭا ﴿38﴾ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مَـَٔابًا ﴿39﴾ إِنَّآ أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَابًۭا قَرِيبًۭا يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرَٰبًۢا ﴿40﴾
‫﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قُرِئت هكذا بالجر نعتاً لكلمة "رَبِّك" ﴿جزاءً من رَبِّك﴾. وقُرِأَت بالرفع (رَبُّ السموات والأرض‫.‬. الرحمنُ)مبتدأ وخبر على الابتداء‫.‬ وقُرِئت الأولى بالرفع والثانية بالرفع، وقُرِئتا بالجر، وقُرِئت الأولى بالجر والثانية بالرفع استئنافاً. ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ﴾ أي هو الرحمن‫.‬ أو الرحمن مبتدأ خبرها ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خالق السماوات والأرض، مُنشِئهُما من العَدَم‫.‬ ﴿الرَّحْمَنِ﴾ والرحمن تكلمنا فيها من قبل، والرحمن كلمة تُشعِر بمنتهى الرحمة، الرحمة التي لا يساويها أو يدانيها أو يماثلها رحمة، رحمة الله (تبارك وتعالى) التي من مظاهرها ماتراه في هذه الأكوان من تراحم‫.‬ ترى كيف ترحم الذئبة وليدها مهما جاعت أتأكله أم ترضعه؟ ترى اللبؤ تخرج وتبذل الجهد وتصيد ولا تمس صيدها أبداً رغم جوعها بل تعود به إلى وكرها حتى تطعم صغارها‫.‬ ترى الطيور تطوف وتطير وتحط وتلتقط الحب ولا تهضمه بل تعود إلى عشها فتلقمه صغارها، ترى الحية تطعم صغارها، ترى العقرب يطعم صغاره، ترى البقرة ترفع حافرها عن وليدها خشية أن تؤذيه، ترى القط والوحش، حين تلد القطة كيف تأكل الكيس الذي أحاط بوليدها وتنظفه بلسانها دون أن تتأفف أو تتأذى، هاهي تلعق ما عليه من أذى تنظفه وتنظف عينيه وفمه وأنفه ثم تأخذه وتضعه على ضرعها ليرضع، ترى الدجاجة كيف ترقد على بيضها كي تخرج منه الأفراخ، ترى الرحمة في كل شيء، كل ما تراه من رحمة في هذا الوجود ما هو إلا عُشر رحمة الله بخلقه، ليس رحمة الله على الإطلاق، بل رحمة الله على الإطلاق فوق العقول وإنما نحن نتحدث عن رحمة الله بالخلق، ما تراه في هذا الوجود عُشر رحمة الله بخلقه وتسعة أعشار الرحمة يرحم بها عباده يوم القيامة، وأرحم ما يكون الله بعبده حين يوضع في قبره يتركه أهله وأصحابه وإخوانه ويترك هو ماله وداره وأهله، هنا تتجلى رحمة الله به حيث لايجد إلا الله‫.‬ ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ في ذلك اليوم، يوم البعث الذي كانوا يتساءلون عنه، وأخبرتنا السورة عنهم في أولها ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾ في ذلك اليوم لا يملكون منه خطاباً، لا يملكون كلاماً، لا تسمع إلا همساً، لا يتكلمون، سكت الكل، لا يعترضون عليه في ثواب أو عقاب، لا يملكون خطاباً لدفع عذاب أو رفع عقاب، الكل في سكون، لا يتكلم إلا الله سائلاً ومجيباً، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار! لا يملكون منه خطاباً، عَنَتِ الوجوه للحي القيوم في ذلك اليوم‫.‬ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ الآية الأولى ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ الكل عن أهل السماوات والأرض، كل أهل السماوات والأرض؛ ملائكة وإنس وجن وكل ما في السماوات وما في الأرض، من يملك الكلام أو من كان يملك الكلام في ذلك اليوم لا يملكون منه خطاباً، الكلام لا يخاطبوه ولا يكلموه ولا يقتربون منه حتى الرسل والأنبياء‫.‬ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ والروح‫:‬ جبريل (عليه السلام). الروح‫:‬ قالوا أشراف الملائكة، الروح‫:‬ الحفظه على الملائكة، كما أن للناس حفظة من الملائكة فعلى الملائكة أيضاً حفظة ألا وهم الروح‫.‬ الروح‫:‬ أرواح بني آدم بين النفختين حيث يُصعَق من في السموات ومن في الأرض، تُبعَث الأرواح وتُوقَف الأرواح صفاً كما خلقهم أول مرة، كما خلقهم الله وأشهدهم على أنفسهم فتقوم الروح -أي أرواح بني آدم ذوو الروح- صفاً والملائكة صفاً، وذاك يكون بين النفختين‫.‬ أو الروح‫:‬ مَلَكٌ قيل فيه أعظم من السماوات السبع والأراضين السبع، أعظم خلق الله على الإطلاق بعد العرش، فأكبرخلق الله وأعظم خلق الله العرش، العرش الذي السماوات والأرض بما فيها إلى جواره كالحصى أو حبة الرمل في الفلاة‫.‬ بعد العرش ذاك الروح، ذاك الملك يقف وحده صفاً وجميع الملائكة تقف صفاً فيساوي صفه صف الملائكة‫.‬ أقوال عن الروح، حتى أنهم قالوا الروح‫:‬ القرآن، لأن الله يقول ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٥٢] أي القرآن، أي كلام الله‫.‬ هي أقوال أرجحها الروح‫:‬ جبريل (عليه السلام). وقالوا‫:‬ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً واحداً، الكل في صف‫.‬ وقالوا‫:‬ بل الروح صف والملائكة صف، يوم يقوم الروح صفاً والملائكة صفاً، بهذا المعنى‫.‬ وقالوا‫:‬ بل (صفاً) مصدر بمعنى صفوف، أي قاموا صفوفاً لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سورة الفجر آية‫:‬ ٢٢] إذاً صفاً بمعنى الصفوف‫.‬ ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ فإذا كان الروح لا يتكلم، رغم إنه إذا تكلم قال صواباً وكذلك الملائكة إذا تكلموا قالوا صواباً، فهؤلاء الذين إذا تكلموا قالوا صواباً لا يتكلمون فكيف بسائر الخلق؟ لا يملكون منه خطاباً. يوم يقوم الروح -وهو أعظم خلق الله على الإطلاق بعد العرش- أعظم من جبريل ومن الملائكة، أو هو جبريل، أو كما قيل في شأن الروح، الروح والملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، كل ذلك صفاً لا يتكلمون إلا بإذن، فإن أَذِنَ لهم تكلموا، وإن تكلموا قالوا صواباً، وقفت الملائكة صفاً ووقف الروح في صفه والكل في صمت والكل في سكوت، فيأذن الجبار للمقربين من الملائكة بالكلام، فإن أَذِنَ لهم قالوا‫:‬ لا إله إلا الله، ذاك هو الصواب‫.‬ وأَذِنَ للمؤمنين فشفعوا، وأَذِنَ للأنبياء وهكذا، إلا من أَذِنَ له الرحمن في الشفاعة وقال صواباً: شفع لمن يستحق الشفاعة‫.‬ ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ إذاً فأيام الدنيا ليست بأيام لأن الله يقول‫:‬ ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ بالألف واللام مُعَرَّف‫.‬ ذاك هو اليوم -اليوم الحق- أيام الدنيا باطلة لأنها ذاهبة ولا تدوم، بل هي من صنع دوران الأرض حول الشمس، ولو توقفت الأرض ما كان هناك أيام، ولو انصرفت الشمس ما كان هناك أيام، وإنما ذاك هو اليوم الحق‫.‬ الحق‫:‬ الكائن لا محالة، الذي تساءلوا عنه وقالوا أئنا لمبعوثون؟ ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا﴾: مرجعاً إلى الله، وكأن العبد إذا عمل صالحاً رجع إلى الله وقرب من الله وقربه الله إليه، وإن عصى وإن كفر ابتعد عن الله، لأن المآب‫:‬ الرجوع، آب يؤوب أوبة‫:‬ رجع، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً إلى ثوابه، لأن الله لا يحده مكان ولا يحويه زمان، فالمآب إلى الله أي إلى ثواب الله‫.‬ ما تَقَرَّبَ العبد من الله إلا وتقرب الله إليه، فكأن العبد بالطاعة يقترب من الله وبالمعصية يبتعد عن الله، وهاهو الأمر بين أيديكم، هل أنتم مغلوبون على أمركم؟ هل الإنسان مُرغَم على المعاصي؟ هل الإنسان مُكرَه على شرب الخمر؟ هل الإنسان مُجبَر على القتل والزنا والسرقة؟ هل الإنسان مُخَيَّر في مجيئه إلى بيت الله أم هو مُسَيَّر؟ أنت مُخَيَّر في النية، أن تنوي وأن تسعى وأن تكتسب عملك الصالح بتوفيق الله إذا صدقت منك النية، لأنه على قدر التفويض يأتي التوفيق، وعلى قدر التوكل تأتي الإعانة، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويأتي الإنذار بختام السورة مشيراً إلى أولها‫:‬ ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أنذرناكم هذا اليوم، وقد أعذر من أنذر، وسمي العذاب قريباً لأن كل آت قريب، أو سمي قريباً لأن أوله الموت‫.‬ أنذرناكم عذاباً قريباً، والموت قريب، كل امرئٍ مصبحاً في أهله والموت أقرب من شراك نعله، كم من أصحابك وكم من معارفك كنت تكلمه أو كنت تزوره وتركته وإذا بهم يخبرونك لقد مات؟ كيف؟ لقد مات، كان معي بالأمس! لقد كنت عنده البارحة! كم وكم؟ ولا تضمن نفسك، والموت أول اللقاء بين العبد وربه، أو بين العبد ولقاء ربه، سبع عقبات أهونها الموت وأصعبها جواز الصراط‫.‬ ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾: يوم القيامة، وكل آت قريب‫.‬ أو الموت، والموت أقرب من شراك نعلك‫.‬ ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ المرء المؤمن، لأن بعدها يقول‫:‬ ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ﴾ المرء الكافر، لأنه يقول‫:‬ إنا أنذرناكم، والإنذار للكفار والبشاره للمؤمنين‫.‬ فالمرء الكافر في قول، والمرء المؤمن في قول آخر‫.‬ المرء‫:‬ الإنسان على إطلاقه، مؤمنه وكافره، وذاك أرجح الأقوال‫.‬ يوم ينظر المرء:كل مرء، لأن المؤمن يرى أعماله الصالحه ويرى كتابه ويأخذ بيمينه ويقول‫:‬ ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ١٩] والكافر يأخذ كتابه بشماله ويقول ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٢٥] ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ الكافر، قالوا‫:‬ الكافر إبليس، لأنه حين أُمِرَ بالسجود لآدم قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، وحين يرى النعيم الذي فيه آدم وبنوه يتمنى أن يكون تراباً، أو خُلِقَ من تراب ولم يخلق من النار حتى لا يتكبر‫.‬ وقالوا الكافر‫:‬ الكافر من الناس، يقول الكافر -كل كافر في كل زمان وفي كل عصر وأوان- ياليتني كنت تراباً، لم أُخلَق أصلاً. أو ياليتني كنت تراباً: أي لم أُبعَث‫.‬ وأرجح الأقوال أن ذلك يحدث في يوم القيامة حيث تُمَدُّ الأرض كالأديم ويُحشَر الناس والجن والطيور والوحوش والدواب، وحين تُحشَر الدواب والوحوش والطيور والحيوانات ﴿وإذا الوحوش حُشِرَت﴾ يوضع بينهم القصاص حتى يُقتَصُّ للشاه الجلحاء من الشاة القرناء بنطحتها‫.‬ الذنب لا يُنسى أبداً، كلبٌ عَضَّ كلباً آخر، شاة نطحت شاة وتعدت عليها، خطف طائر حبة من طائر آخر، كل ذلك تَظَالُم وربنا لا يرضى بالظلم، ورغم أن البهائم غير مكلفة إلا أنها عارفة بربها ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٤٤]، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٣٨] فيقتص للشاه الجلحاء -أي التي من غير قرون- من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص قيل لكل ذلك‫:‬ كونوا تراباً، فتتحول الطيور والوحوش وكل ما هو غير مُكَلَّف من المخلوقات إلى تراب، حينئذ يقول الكافر ياليتني كنت تراباً، أي ياليت مصيره كان كمصير الحيوان‫.‬ وربنا يخاطبهم في الدنيا عن عدم إيمانهم ويشبههم بالأنعام ﴿أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٧٩] فإذا حُشِرَت الأنعام قال الكافر يا ليتني كنت تراباً، أي يتمني أن يكون من الأنعام، يتمنى أن يكون من الوحوش فيُقضَى عليه ويقال له كن تراباً بعد القصاص بدلاً من أن يخلد في جهنم‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ في يوم القيامة الحساب ألوان وأنواع، فمن المؤمنين من يُحاسَب حساباً يسيراً ألا وهو العرض كما قال سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) لأن من نوقش الحساب هلك، لأن السائل في الدنيا لايعلم، يسألك أين كنت بالأمس؟ يطلب منك الإجابة حتى يعلم ما لا يعلم‫.‬ أما السائل يوم القيامة فهو العالم علام الغيوب، فإن سأل أيسأل ليعلم؟ بل يسأل ليعاقب، لذا من نوقش الحساب هلك‫.‬ أما المؤمنون فيُعرَضون فقط ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٧١] والعرض هو الجواز على الصراط، وحين يجوز المؤمن ترصده جهنم فتطأطئ له ولا يصل إليه شررها ولا لهيبها بل ولا دخانها، بل هو آمن‫.‬ ويجوز الناس على الصراط بحسب أعمالهم، وهناك من المؤمنين من يدنيهم الله منه كما بَيَّنَ لنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يُدني ربنا منه المؤمن ويبسط عليه كَنَفَه فلا يراه أحد، ويقول‫:‬ عبدي تَذْكُرُ ذنب كذا؟ فيقول يارب أذكره، فيقول الله (تبارك وتعالى): قد سترتُك في الدنيا وأنا الآن أغفر لك، ثم يقول‫:‬ تَذْكُرُ ذنب كذا؟ ويقول يارب أذكره، فيقول الله (جل وعلا): سترتُك في الدنيا واليوم أغفره، حتى يُقَرِّرُه بذنوبه كلها، ذاك من يُقَرَّر‫.‬ وهناك من تُمحَى سيئاته بغير حساب، وهناك من يجوز الصراط ويدخل الجنة ويطمئن وإذا بالمــــَلَك يأتيه بورقة ويقول‫:‬ هذه من الله أنظر إليها، فينظر إليها فيصفر وجهه وترتعد فرائصه، فقد سطر فيها كل ذنوبه وقد تجاوز الصراط ولم يُسأَل ولقي كتابه بيمينه وكله حسنات في حسنات وغفل عن سيئاته ونسيها لكن الله لا ينسى، فتأتيه هذه الصحيفة فإذا اصفَرَّ وجهه وارتعدت فرائصه يقول له المـــَلَك‫:‬ لقد أمرني الله أن أعطيك هذه الصحيفة فإذا رأيت وجهك قد اصفر أخبرتك أن الله قد استحيا أن يسألك عما فيها وقد غفرها لك بشيبتك في الإسلام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬