
سورة المرسلات
مقدمة
لقاؤنا مع سورة المرسلات. سورة المرسلات سورة مكية نزلت بمكة، وشأنها شأن السور المكية تعالج قضية التوحيد، وهي من أشد السور على الكفار تغليظاً وتنكيراً وتهديداً. عالجت السورة مشكلة التوحيد والبعث، وساقت الأدلة، الدليل تلو الدليل، على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث والإعادة وهددت وتوعدت. وأقسم الله (تبارك وتعالى) في صدرها على أن البعث حق. أقسم ربنا (تبارك وتعالى) بخمسة أشياء عظيمة من خلقه، جاء وصفها ولم تُبَيَّن ما هي. جيء بالوصف فقط، جيء بوصف هذه الأشياء الخمسة وتُرِكَ للناس أن يستدلوا على المراد منها أو تعيينها بما ذُكِرَ من أوصافها فاختلف فيها المفسرون إختلافاً كبيراً.
وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْفًۭا ﴿1﴾
فَٱلْعَـٰصِفَـٰتِ عَصْفًۭا ﴿2﴾
وَٱلنَّـٰشِرَٰتِ نَشْرًۭا ﴿3﴾
فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ فَرْقًۭا ﴿4﴾
فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ ذِكْرًا ﴿5﴾
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴿6﴾
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ عُرْفاً: أي متتابعة؛ أُرسِلَت تباعاً. مأخوذ اللفظ من عُرفِ الفَرَس وعُرفِ الديك، في تتابع الريش وتتابع الشَّعر. ومنه يقول العرب: طارت الطيور عُرفاً، أي متتابعة، جماعة تلو جماعة. أو عُرفاً: من العُرف وهو المعروف، من قول الله (عز وجل): ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٩٩]. أو مأخوذة من المعرفة. أُرسِلَت متتابعة، أُرسِلَت تباعاً، أُرسِلَت عارفة بما هي مرسَلة من أجله، أُرسِلَت وعُرِفَ بالعقول الغرض من إرسالها، أُرسِلَت بالمعروف والإحسان. ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ العَصْف: قِشرُ الحَبِّ، التِّبن، ورق الشجر اليابس. وتسمى الريح عاصفاً لأنها تشتد، فإذا اشتدت عصفت بالأشجار، عصفت بكل شيء، طارت بالعصف. والعَصفُ أيضاً الإهلاك، عَصَفَ الجيش بالعدو: أباده وأهلكه. فالعصف شدة، أو العصف إهلاك، أو العصف إبادة أو العصف سرعة. ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ المسرعات بما أُرسِلَت به أو بما أُرسِلَت إليه. أو العاصفات: المـــُهلِكات المـــُـدَمِّرات. أو العاصفات: الشديدات. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ من نَشَرَ الثوب إذا بسطه للشمس ليجف. فالنشر: البسط والتوزيع. أو النشر: الإحياء، نَشَرَ الله الموتى: أحياهم. الناشرات نشراً: المفرِّقات لشيء، الباسطات لشيء، أو المحيِيَات التي تحيي. ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾ والفرق: بالفصل بين الشيئين، بين النفع والضر، بين الحق والباطل، بين المحق والمبطل. أو التفريق. ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ والذكر: الوحي. أو الذكر: ما يدعو الإنسان للتذكر، فالمحدثات لشيء يجعل الإنسان يتذكر. أو الملقيات ذكراً من الله. ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ العُذر من عَذَرَهُ: أزال شكواه. أو عَذَرَهُ: قَبِلَ عُذرَه. والعُذر: ما يعتذر به الإنسان ليمحو ذنبه. أو العذر: من الإعذار. عُذراً من الله إلى خلقه كي لا يكون للناس على الله حُجة بعد الرسل وقد أَعذَرَ من أَنذَر. (أو نذراً) من الإنذار، أَنذَرَهُ: خَوَّفَهُ. تلك مدلولات الألفاظ، تلك معاني الألفاظ، صفات، تُرى مَنِ الموصوف بهذه الصفات؟ ما الذي أقسم الله به؟ قال المفسرون: الملائكة ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ الملائكة تُرسَل بالمعروف وتُرسَل بالإحسان وتُرسَل بالوحي إلى الأنبياء. ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ سارعت في تنفيذ ما أُمِرَت به ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سورة التحريم آية: ٦] وهم كالريح العاصف في سرعتهم لتنفيذ أمر الله بالوحي. أو العاصفات عصفاً: الملائكة تعصف بأرواح الكفار عصفاً، أو تعصف بالمدائن والدور للأمم المكذبة فتهلكهم الملائكة كما فعل جبريل بقُرى لوط، عصف بها، حملها ثم قَلَبَها. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ الملائكة تنشر الوحي، تنشر العلم، تنشر الذكر، أو تنشر صحائف الناس للحساب يوم القيامة، أو تنشر أرواح المؤمنين نشراً فهي تعصف بأرواح الكفار وتنشر أرواح المؤمنين بيسر وسهولة وليونة، أو تنشر كلام الله، أو تنشر أرواح الموتى يوم البعث. ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾ الملائكة تُفَرِّق بما أُنزِلَت به من ذكر بين الحق والباطل، تفريق بين المحق والمبطل. ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ الملائكة تلقي الذكر على الرسل والأنبياء ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر آية: ٩]. ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ إعذاراً من الله لخلقه، وإنذاراً للناس بدلاً من ذكرى، ذاك قول. وقال آخرون: بل الرُّسُل؛ المرسلات: الرسل أُرسِلَت بالعُرف، أُرسِلَت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أُرسِلَت بالإحسان رحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء آية: ١٠٧] ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ تعصف الرسل بالباطل فتبيده وتُظهِر الحق. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ الرسل تنشر الدين والأحكام وبيان الحلال والحرام. ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾ تفرق بين المحق والمبطل وبين الحق والباطل. (فالمــُـلَقَّيَات ذكراً) تُقرَأ هكذا من قوله (عز وجل): ﴿وإنك لتُلَقَّى القرآن من لدن حكيم عليم﴾ [سورة النمل آية: ٦] ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ وقُرِئت (عُذُراً أو نُذُراً ) وقُرِئت (عُذُراً ونُذُراً) وإذا تغيرت القراءة لتصبح بالضم فهي جمع عاذِر وناذِر أو جمع عذير ونذير. وقال آخرون: بل الكلام كله عن الرياح؛ (والمرسلات عرفاً) الرياح أُرسلت عرفاً متتابعة ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ الرياح الشديدة العاصفة المهلكة المدمرة التي سلطها الله (تبارك وتعالى) على الأمم المكذبة. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ الرياح تنشر السحاب في السماء وتبسطه وتوجهه وتسوقه نشراً بين يدي رحمة الله، تنشر الرحمة وتنشر السحاب. (فالمــُـلَقَّيَات ذكراً) لأن الرياح تلقي المطر من السحاب، تسوق السحاب وتجمعه حتى تسوقه حيث يريد الله (تبارك وتعالى) وتُنزِل منه المطر، فإذا نزل المطر على الأرض فحَيَت وحَيَا به أهلها تذكر المتذكرون وتأمل المؤمنون. (فالملقيات ذكراً) أي الرياح تسببت في إيجاد التذكر في قلوب المؤمنين والعارفين. ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ كذلك الرياح، لأن الإنسان إذا قال: مُطِرنا بنَوء كذا كَفَر، وإذا قال: مُطِرنا برحمة الله (تبارك وتعالى) فهو مؤمن. وجاء آخرون وقالوا: لو تأملنا في حروف العطف لوجدنا أن المقسَم به صنفان: الملائكة والرياح، وقالوا ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١)فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾ العطف بالفاء فهو عطف صفات، إذاً فذاك يختص بالرياح والرياح فقط. المرسلات عرفاً: الرياح تُرسَل متتابعة، (فالعاصفات) عطف للصفة، فالرياح تعصف بالنبات، تعصف بالدور، تعصف بقرى الأمم المكذبة. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ الواو العاطفة لاستئناف القَسَم يُشعِر بالمغايرة، إذاً فالمرسلات غير الناشرات لأنه جاء بالواو ولم يأت بالفاء. ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١)فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾ شيء. ﴿وَالنَّاشِرَاتِ﴾ استئناف قَسَم جديد بشيء جديد ألا وهو الملائكة. الناشرات: الملائكة تنشر دين الله وتنشر أمر الله وتنشر الذكر. (فالفارقات فرقاً) الفارقات بين الحق والباطل بما نزلت به من ذكر وقرآن وفرقان. ﴿فَالْفَارِقَاتِ﴾ إذاً عطف الفاء يفيد أنه عطف صفات، والشيء شيء واحد؛ الناشرات: الملائكة تنشر الذكر وتلقي الذكر إلى الأنبياء وتفرق بين الحق والباطل، عذراً أو نذراً. تلك أقوال العلماء في تعيين ما أقسم الله به ولم يعينه بل جاء بالوصف فقط، ولله (تبارك وتعالى) أن يقسم بما شاء على ما يشاء. والقَسَم في القرآن ليُشعِرَ السامع بجلال قدر ما أقسم الله به وعِظَم شأن ما أقسم الله عليه، فيُشعرنا القَسَم بأن الله أقسم بشيء عظيم جليل القدر؛ رياح أو ملائكة أو رسل، كل ذلك عظيم قدره جليل شأنه. أقسم الله (تبارك وتعالى) على ماذا؟ أقسم على أن البعث حق. فأقسم بأشياء إجلالاً لقدرها تفخيماً لشأنها، وأقسم على أشياء تهويلاً وتفظيعاً أوتعظيماً لشأنها.
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌۭ ﴿7﴾
فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ ﴿8﴾
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ ﴿9﴾
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴿10﴾
وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴿11﴾
لِأَىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴿12﴾
لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴿13﴾
وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴿14﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿15﴾
أيها الأخ المسلم؛ في سورة الإنسان جاءت الآيات فيها إطناب عن أحوال المؤمنين في الجنة، آيات كثيرة عن المؤمنين وعن أحوالهم وعن نعيمهم، وجاءت آيات قليلة عن أحوال الكفار في جهنم. ولو نظرنا في سورة المرسلات وهي التالية مباشرة لسورة الانسان لوجدنا الإطناب في وصف أحوال الكفار المعذَّبين والإيجاز في وصف أحوال المؤمنين، وكأن الله (تبارك وتعالى) تارة يبشر ويحبب إلى الناس الجنة ويذكر صفات المؤمنين في الجنة، وتارة يحذر وينذر ويطنب في ذكر أحوال الكافرين في جهنم كي يتعظ الناس.
أيها الأخ المسلم؛ ما أقسم الله (تبارك وتعالى) في صدر السورة قَسَمٌ عظيم، قَسَم خطير الشأن -وربنا غير محتاج للقسم- فإذا أقسم إذاً فالأمر جد خطير، يُعَظِّم شأن ما أقسم به ويُشعِر بأن هذا هذا الشيء العظيم الذي كان موصفاً للقَسَم أوجده المــًـقسِم -ألا وهو الله- فإن كانت الرياح فكلنا يرى الرياح وأثر الرياح، وهي رياح تارة وريح تارة، هي نعمة تارة وهي نقمة تارة، وإذا نظر الناس إلى الرياح حددوا مساراتها وحددوا اتجاهاتها وحددوا شدتها وضعفها، وجاء ذلك في بيان علماء الأرصاد من المتابعة، ليس علماً بالغيب وإنما هي متابعة لأحوال الرياح فهي تارة شمالية شرقية، تارة جنوبية غربية، وتارة ممطرة، وتارة غير ممطرة، مِنَ المتابعة والتأمل المستمر سنوات عرفوا مواعيدها وعرفوا أحوالها، من المتابعة وليس علماً بالغيب. ولكن هل أجابوا على السؤال الأساسي كيف تهب الريح؟ عرفوا المواعيد نعم، عرفوا الأحوال نعم، تابعوا الآثار نعم، ولكن الأرض كرة معلقة في الفضاء مغلفة بغلاف من الهواء، وبعد غلاف الهواء هذا لا هواء ولا شيء، كيف تتحرك هذه الرياح ومن الذي يحركها؟ ولِمَ هذه الاتجاهات بالذات؟ ورغم البحث ورغم المتابعة ورغم الإحصاء سنوات، عرفوا أنها ممطرة في يوم كذا وفي وقت كذا في مكان كذا بالمتابعة، ومع ذلك تأتي في مواعيدها أو لا تأتي وتمطر تارة ولا تمطر تارة، وأنتم أهل الإسكندرية تعلمون ذلك من النَّوَّات المختلفة؛ نَوَّة الغِطاس مثلاً ممطرة بالمطر الشديد ولها مواعيد من المتابعة، ومع ذلك تأتي غير ممطرة فيقولون فسدت أو تلفت، مَنْ أفسدها؟ من أتلفها؟ كيف تهب الرياح؟ أهناك ملائكة تنفخ في الهواء فتحركه؟ كيف تُحَرَّك هذه الدوامات؟ لِمَ تهب أصلاً الرياح؟ هذا هو مسجدكم فيه هواء هل يتحرك؟ من الذي حركه؟ تلك المراوح؟ أو أن تنفخ بفمك؟ أو تأتي بشفاط يشفط؟ أو بدافع يدفع؟ فهواء الدنيا ما الذي يحركه؟ كيف تنشأ الرياح أصلاً؟ لذا أقسم الله بها لعظم شأنها ولأنها تدل على أنه المحرك والمرسل، وصدق حيث يقول: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ [سورة الروم آية: ٤٨].
تُساقُ الآيات والدلائل لهؤلاء المكذبين والتي يتضح منها أن تكذيبهم كان للجدال فقط ،كان للمكابرة، كان حسداً منهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكابرون ويجحدون ويجادلون والحق أبلج. يقول الله (عز وجل):
أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿16﴾
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلْـَٔاخِرِينَ ﴿17﴾
كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ ﴿18﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿19﴾
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍۢ مَّهِينٍۢ ﴿20﴾
فَجَعَلْنَـٰهُ فِى قَرَارٍۢ مَّكِينٍ ﴿21﴾
إِلَىٰ قَدَرٍۢ مَّعْلُومٍۢ ﴿22﴾
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ ﴿23﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿24﴾
تذكرنا آيات سورة المرسلات بالخلق ومن نظر إلى أوله عرف آخره؛ أول الإنسان نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو فيما بينهما يحمل العذرة .
يذكرنا ربنا (تبارك وتعالى) بذلك ويلزم الكفار الحجة فيقول: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠)فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١)إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)﴾ ثم تأتي الآيات وتذكرنا بالأرض التي جعلها الله (تبارك وتعالى) لنا مهاداً وقراراً، فيها رزقنا وفيها حياتنا وعليها متقلبنا ومعاشنا وفيها مدفننا ومماتنا يقول الله (عز وجل):
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلْأَرْضَ كِفَاتًا ﴿25﴾
أَحْيَآءًۭ وَأَمْوَٰتًۭا ﴿26﴾
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَٰسِىَ شَـٰمِخَـٰتٍۢ وَأَسْقَيْنَـٰكُم مَّآءًۭ فُرَاتًۭا ﴿27﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿28﴾
ٱنطَلِقُوٓا۟ إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ﴿29﴾
ٱنطَلِقُوٓا۟ إِلَىٰ ظِلٍّۢ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍۢ ﴿30﴾
لَّا ظَلِيلٍۢ وَلَا يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ ﴿31﴾
إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍۢ كَٱلْقَصْرِ ﴿32﴾
كَأَنَّهُۥ جِمَـٰلَتٌۭ صُفْرٌۭ ﴿33﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿34﴾
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ المكذبين بجهنم والمكذبين للعذاب، يتكرر لهم الوعيد والتهديد. وفي يوم القيامة هناك ظل، وهناك ظل حين تقترب الشمس من الرءوس وليس للناس يومئذ لباس ولا كفن، ويعرق الناس ويغرقون في عرقهم، يُقَاد ويُسَاق المتقون إلى ظل العرش ويقال للكفار ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ فينطلقوا إلى ظل جهنم، يخرج من جهنم عُنُقٌ عظيم من اللهب فيتشعب ثلاث شُعَب فيظلل المنافقين والكفار وبظله الأسود وترميهم جهنم من غضبها لغضب الله بشَرَرِها إذ تجيء جهنم ولها تَغَيُّظ تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ، وغيظها وغضبها لغضب الله عز وجل. وحين خُلِقَت جهنم خُلِقَت صفراء كالنار -نار الدنيا تضيء ولونها أصفر- وحين خُلِقَت جهنم خُلِقَت كذلك مع اختلاف الشدة، صفراء مضيئة كأي نار، ولكن الله سلط عليها غضبه فاسودت من غضب الله واسود لهيبها من سلطانه. تلك نار سوداء وظلها أسود وشررها أسود تظلهم بشرارها ودخانها، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾.
هَـٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ﴿35﴾
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴿36﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿37﴾
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ۖ جَمَعْنَـٰكُمْ وَٱلْأَوَّلِينَ ﴿38﴾
فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌۭ فَكِيدُونِ ﴿39﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿40﴾
أيها الأخ المسلم تكررت هذه الآية ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في السورة عشر مرات، في كل مرة تبين لوناً من العذاب لا يعلمه إلا الله لهؤلاء الذين كذبوا وجحدوا بوجود الله (تبارك وتعالى) جحدوا بقدرة الله (تبارك وتعالى) كذبوا بالقيامة،كذبوا بالبعث، أنكروا نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وكل هذا التهديد وكل هذا الوعيد لهؤلاء الكفار يُشعِر الموحدين بالاطمئنان وأن الموحِّد في أمان يوم القيامة وفي ظل العرش يوم القيامة، وهناك في يوم القيامة ظلال؛ منها ظل العرش للمتحابين في جلال الله (تبارك وتعالى) وظلال أخرى كالغمام الذي جاء ذكره ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [سورة البقرة آية: ٢١٠] فقال بعض الناس أن الغمام المذكور هو ما يظلل الله (تبارك وتعالى) به عباده المتقين.
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـٰلٍۢ وَعُيُونٍۢ ﴿41﴾
وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿42﴾
كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ هَنِيٓـًٔۢا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ ﴿44﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿45﴾
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أي بهذا الجزاء يجازي ربنا (تبارك وتعالى )كل محسن في كل زمان وكل مكان. والمــُحسِن الذي أتقن عمله، المحسن الذي آمن بالله (تبارك وتعالى) وملائكته وكتبه ورسله، المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراك. وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سُئِلَ عن الإحسان فقال: "إن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" والإحسان أيضاً إتقان العمل، والإحسان أيضاً الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين. ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أي بهذا الجزاء؛ الظلال والعيون والفواكه مما يشتهون، ذلك جزاء أيضاً لكل محسن. ويعود الكلام بالتهديد مرة أخرى ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾.
كُلُوا۟ وَتَمَتَّعُوا۟ قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ﴿46﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿47﴾
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُوا۟ لَا يَرْكَعُونَ ﴿48﴾
وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿49﴾
فَبِأَىِّ حَدِيثٍۭ بَعْدَهُۥ يُؤْمِنُونَ ﴿50﴾
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ أي صلوا. وسُمِّيَت الصلاة بركن من أركانها كما تسمى قياماً وتسمى سجوداً ويُعَبَّر بالجزء عن الكل. (إذا قيل) إذا قيل لهم صَلُّوا لا يُصَلُّون. وإذا كان المعنى كذلك؛ مُخاطَبون بالفروع مسئولون عنها، يُسأَل الكافر عن كفره ويُسأَل أيضاً عن الصلاة والزكاة وعن فروع الدين. وقيل المعنى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾: أي اخضعوا لله (عز وجل) والركوع خضوع، إذا قيل لهم اركعوا، اخضعوا وتواضعوا لعظمة الله (عز وجل) استكبروا وأبوا أن يخضعوا لله وأن يخضعوا للحق. وقال بعض الناس: بل الكلام عن يوم القيامة حيث يتجلى الله (تبارك وتعالى) لأهل الموقف، وهنا يخر من سجد لله في الدنيا ساجداً، كل من سجد لله في الدنيا يخر ساجداً حينئذ، ومن لم يسجد لله في الدنيا يَهُمُّ بالسجود ويحاول فإذا بظهره طبقاً واحداً، يحاول ويبذل المستحيل كي ينحني، كي يسجد ولا يطيق، لا يطيعه ظهره ولا ينحني أبداً، فإذا بالخُشَّعِ الرُّكَّع السجود في الدنيا ساجدون لله (عز وجل) علامة الأمن، علامة الاطمئنان، وسيد الساجدين في ذلك اليوم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث يخر ساجداً حول العرش، وإذا بالكفار والمنافقين ومن لم يسجدوا لله واقفون في ذلك اليوم، أي عار وأي فضيحة وأي ذل؟! استكبرتم عن السجود لله في الدنيا ها أنتم الآن تريدون السجود ولا تسجدون. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ قيل هذا عنهم في يوم القيامة. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ التهديد الأخير، فإن كان المقصود الصلاة فهو تهديد يشمل تارك الصلاة، وإن كان التهديد مُوَجَّه للكفار موجه للمكذبين بالبعث. إلا أن الإنسان يستشعر أن ذلك الرجل أو تلك المرأة التي أبت أن تصلي لربها في دنياها تشبهت بهؤلاء الكفار. ولذا رُوِيَ عن الإمام مالك -إمام دار الهجرة (رضي الله عنه)- أنه دخل المسجد يوماً بعد صلاة العصر -وكان يرى في ذلك الوقت أنه لا يصح الركوع بعد صلاة العصر- فدخل المسجد -مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)- وجلس فإذا بغلام صغير لا يعرفه يقول له يا شيخ قم واركع ركعتين، فقام الإمام مالك وصَلَّى ركعتين، فقال له أتباعه: كيف تقوم وتصلي ركعتين لقول الصبي وأنت ترى أنه لا ركوع بعد العصر؟ قال: والله خشيت أن أكون من الذين قيل لهم اركعوا لا يركعون! وانظر وتأمل! خَشيتُ أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فعلمنا ذلك أن الإنسان لو أُمِرَ بصلاة أو أُمِرَ بركوع -وإن كان قد ركع- فعليه أن يقول نعم إن شاء الله ولا يقول لا أبداً حتى لا يكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، مع تباعد المعنى ولكن انظر إلى الإمام كيف تَأَمَّل في الآية!
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون؟ القرآن المــُـعجِز من حيث اللغة، المــُـعجِز من حيث المعنى، المــُــعجِز من حيث السياق والنَّسَق، لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، لا تجد في القرآن اختلافاً أبداً من حيث اللغة، من حيث المعنى، من حيث القصص -قصص الأولين- أخبار الأمم السابقة والأنبياء، أسماء الأنبياء، ما حدث عند الخَلْق، الحوار الذي حدث بين الله وبين آدم، بين الله وبين الملائكة، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحُكمُ ما بينكم، لا تجد فيه خللاً أبداً لا في اللفظ ولا في المعنى، إعجاز نزل على الأُمِّيِّ الذي لم يقرأ ولم يكتب، لم يكن على دين قبل ذلك فيقال أخذ من دينه وقال،لم يقرأ التوراة أو الإنجيل فيقال قرأ منها وأخذ، لم يكن شاعراً، لم يكن خطيباً ومتكلماً، لم يعرف القراءة والكتابة، قالوا عنه الصادق والأمين قبل البعثة فكيف يدع الكذب على الناس ولا يدع الكذب على الله؟ يصدق مع الناس ويكذب على الله؟ عرفوا أمانته وعرفوا صدقه وجاءهم بقرآن، نور، برهان يُتلَى عليهم ومع ذلك جحدوا به! هل جحدوا به لنقص المعجزة؟ هل كفروا به لنقص الدليل؟ هل كذبوه لانعدام البرهان؟ أبداً والله! بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، يكتمون الحق وهم يعلمون، حسدوه لما نزل القرآن عليه، بل قالوها صراحة -كفار مكة- لولا أُنزِلَ هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، قالوها صراحة حسداً، وكذلك أهل الكتاب حسدوه وحسدوا المؤمنين وأنبأنا ربنا بذلك في قوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٠٩].
أيها الأخ المسلم؛ الحسد في الدين أشد وأخطر من الحسد في الدنيا، وإن حسدك الكافر دعاك للكفر، وإن حسدك الفاسق دعاك للفسق، وإن حسدك العاصي دعاك للمعصية، فاتقوا العصاة! اتقوا شرورهم لأنهم يدعونكم إلى المعاصي حسداً من عند أنفسهم، وقد اتسعت دائرتهم وعلت أصواتهم و هُيِّئَت لهم الوسائل من شرائط وأفلام وأجهزة ودور لهو ومسارح، ويذكرني ذلك بقول الله (تبارك وتعالى) عن عاد حين حذرهم نبيهم: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ [سورة الشعراء آية: ١٢٨] (كل رِيع): مكان فاض متسع يتخذون فيه المسارح. وهاهي المسارح الرومانية ليست بعيدة عنكم، مسارح القرون الوسطى ومسارح الفراعين لا زالت موجودة، ها نحن اتخذنا المسارح والأماكن والمباني للهو والعبث. وانظر إلى الناس وإلى القِيَم وإلى المعايير اختَلَّت! والكل يجري يَعُبُّ من شهوات الدنيا غافلاً عن الموت وكأنه مُخَلَّد، وأقرب شيء إلينا الموت وأبعد شيء عن تَذَكُّرِنا وفِكرِنا! أتظن أنك مُخَلَّد؟ قد يأتيك الموت في أي لحظة فاعمل لمستقبلك فالدنيا إلى زوال، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، اعمَل لمستقبلك وخذ من نفسك لنفسك وإياك ودُعاةٌ على أبواب جهنم وَصَفَهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لنا وقال عنهم: "دُعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها تَعرِفُ منهم وتُنكِر يقولون مالا يفعلون". هؤلاء في عصرنا هذا تراهم في كل مكان يتكلمون في وسائل الإعلام؛ أغاني وأفلام ومسلسلات، لو وُجِّهَ هذا المجهود للزرع والإنتاج لأكلنا من صنع أيدينا وما تَكَفَّفْنا الكفار فأكلنا من فضلات موائدهم، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.