
القرآن الكريم / سورة الإنسان / التفسير المقروء
سورة الإنسان
مقدمة
لقاؤنا مع سورة الدهر، مع سورة هل أتى، مع سورة الإنسان. سورة الإنسان مكية في بعض الأقوال ومدنية في أقوال أخرى، وأولها مدني وآخرها مكي من قوله (عز وجل) ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (٢٣)﴾. وأرجح الأقوال إن السورة مدنية وإن كان جو السورة هو جو السور المكية. بدأت السوره باستفهام :
هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَـٰنِ حِينٌۭ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًۭٔا مَّذْكُورًا ﴿1﴾
(هل) وإن كانت أداة استفهام إلا إنها هنا تعني الخبر. أو هو استفهام تقريري وتقريبي بمعنى "قد". ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ بمعنى (قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً). و"هل" كما تأتي بصيغة الخبر أو بمعنى الخبر تأتي بمعنى الجحد كقولك: هل يقدر على ذلك أحد؟ أي لا يقدر على ذلك أحد. وهل رأيت كذا؟ وإن كان قد رأى الشيء فأنت تقرره، فهي بمعنى الخبر. هنا "هل" بمعنى "قد"، بمعنى الخبر، يخبرنا ربنا (تبارك وتعالى) بأن الإنسان قد جاءت عليه مدة من الزمان لم يكن شيئاً مذكوراً. والإنسان هنا إما آدم وإما الإنسان الجنس -جنس الإنسان- بل هو آدم. فإن كان المقصود آدم فالمدة التي جاءت عليه وليس له ذكر يُذكَر فهي المدة بين كونه في الطين والصلصال وبين نفخ الروح فيه. قيل هذا الحين هو أربعون عاماً. ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ هل أتى على آدم. ﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ الحين: مدة غير محددة من الزمان وإن كانت محددة. والحين هنا أربعون عاماً بين الطين وبين النفخ في الروح حيث سواه ربنا (تبارك وتعالى) ثم بعد ذلك تركه أربعين عاماً ثم نفخ فيه الروح. قيل أربعين عاماً وقيل مدة غير معينة. والدهر: يطلق على مدة الزمان كله، ويطلق أيضاً الدهر على المدة غير المحددة من الزمان طويلة، طالت، غير محدودة. قد أتى على الإنسان مدة من زمان غير محددة ألا وهو الدهر. ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ لا يذكره أحد، لا يُعرَف اسمه ولا يُعرَف الغرض من خلقه.كان كذلك، خلقه ربنا (تبارك وتعالى) من طين، من صلصال، من حمأ مسنون،ثم تركه مدة من الزمان؛ أربعين عاماً أو ما شاء له أن يتركه، ثم نفخ فيه الروح. وفي هذه المدة لم يكن أحد من الخليقة يعرف عن آدم شيئاً، من هو وأي شئ هذا ولأي شئ خُلِق؟ حتى نفخ فيه الروح وأخبر ربنا ملائكته أنه جعله خليفة في الأرض فأصبح له ذكر، عُرِفَ اسمه، عُرِفَ الغرض من خلقه. والذِّكر: قد يكون بمعنى الخطر والشرف كقول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [سورة الأنبياء آية: ١٠] أي فيه شأنكم وعلو شأنكم. أي لم يكن له خطر أو شأن أو قيمة أو قدر حتى نُفِخَ فيه الروح وأمر أن يجعل خليفة في الأرض، أو جعله الله خليفة في الأرض فأصبح له قدر وله شأن وأصبح له ذِكر وأصبح مفضلاً على كل الخلائق إذ قد حَمَل الأمانة التي عجز عن حملها السماوات والأرض والجبال. قد تكون كلمة الإنسان تعني بني آدم، اسم جنس ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ والحين هنا مدة الحمل؛ تسعة أشهر. ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ لا يُعرَف أَذَكَرٌ هو أم أنثى؟ ما اسمه؟ ما شأنه؟ ما وضعه؟ كامل أم ناقص؟ سَقْطٌ أم مولود؟ والنفي: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ للذِّكر وهو الخبر، أو الذِّكر بمعنى الشأن والخطر. وقد يكون النفي للشيء، بمعنى أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً أصلاً، أي كان معدوماً فقد كانت الأرض ولم تكن أنت عليها، كانت الأرض قروناً وأزمنة ولم نكن نحن عليها، كنا في العدم، بل وكان آدم أيضاً في العدم، فقد خُلِقَت الأرض من قبل آدم فأتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً أصلاً، ما كان شيئاً؛ مذكوراً أو غير مذكور. يذكرنا ربنا تبارك وتعالى بأصل خلقتنا، كنا في العدم فأنشأنا وخلقنا إذاً فهو الرب وهو المالك، هو الخالق، هو الإله. وإن كان كذلك فهو الآمِر وهو الناهي. وان كان قد أوجدنا من العدم فلابد وأنه قد أوجدنا لحكمة، وهذه الحكمة هي حكمة التكليف. وطالما كان هناك تكليف فلابد وأن هناك أمانة ولابد وأن الإنسان مسئول عن هذه الأمانة؛ أمانة التكليف.
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍۢ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا ﴿2﴾
ربنا يكلمنا ويحدثنا محدداً أنه هو الخالق جل شأنه ولا خالق سواه. ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ الإنسان هو الإنسان، اسم جنس لبني آدم بلا خلاف. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ النطفة: الماء القليل الذي يَنطِف أو يَنطُف: يَقطُر فإذا قَطَر الماء من قربة أو من كوب أو من شيء، قطرة قطرة، سُمِّيَ ذلك نطفة. النطفة جمعها نُطَف ونِطاف. يبين ربنا (تبارك وتعالى) لنا أصل خلقتنا ومادة خلقتنا، ماء قليل، نطفة، أمشاج مختلطة بماء آخر، ماء الرجل أبيض ثخين وماء المرأة أصفر رقيق فاختلط الماءان، من هنا نشأ الإنسان. أمشاج: قد تعني أطوار؛ نطفة فعلقة فمضغة فعظام. أمشاج: قد تعني ألوان، إذ لون هذا الماء غير لون هذا الماء. مَشَجتُ الخليط: خَلَطتُه فهو مشيج بمعنى خليط، ممشوج بمعنى مخلوط. والأمشاج جمع مَشَج كَسَبَب، أو مَشِج ككَتِف أو مَشْج أو مِشْج . ﴿أَمْشَاجٍ﴾ أخلاط من ماء الرجل ومن ماء المرأة . ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ أي ذاك سر الخلق، تلك حكمة الخالق (سبحانه وتعالى) خَلَقَ الإنسان من هذه الأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة ليبتليه، يختبره بالتكاليف، بالأمر والنهي، يختبره بالخير والشر، يرى أيصبر حين الضُّر ويشكر حين الخير؟ هل يصبر على الطاعة ويصبر عن المعصية؟ هل يصبر على الطاعات والتكاليف؟ يختبره ربنا (تبارك وتعالى) متدرجاً به، ولكي يكون الإنسان أهلاً للتكليف منحه الله (تبارك وتعالى) الفهم والتمييز، فكَنَى عنهما بالسمع والبصر ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ حتي يصبح أهلاً للتكليف. (سميعاً بصيراً) كنايتان عن الفهم والتمييز، أو هي حقيقة الحواس وخص السمع والبصر بالذكر لشرفهما ولخطرهما. جعله سميعاً ليسمع الآيات التنزيلية، وجعله بصيراً ليبصر ويرى الآيات التكوينية. يسمع القرآن ويرى خلق السماوات والأرض، بذا يصبح أهلاً للتكليف. وحين كلف ربنا العقلاء مكنهم مما كلفهم به وسهل لهم السبل لأدائه. ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
ثم تفضل ربنا (تبارك وتعالى) على الإنسان ولم يتركه هَمْلاً لنفسه، وإن كان قد منحه الفهم المعبر عنه بالبصر أو بالسمع والتمييز المعبر عنه بالبصر، أو منحه الحواس التي ترى وتسمع وتدرك وتميز فجعله مميزاً فاهماً عارفاً، وإن كان منحه كل ذلك لكنه لم يتركه يصل إلى الله بنفسه، أو بما مُكِّنَ فيه من حواس أو بما مُنِحَه من عقل وتمييز وفهم، وإنما أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب، رحمة، دلالة، هُدى. لذا يقول الله (عز وجل):
ثم تفضل ربنا (تبارك وتعالى) على الإنسان ولم يتركه هَمْلاً لنفسه، وإن كان قد منحه الفهم المعبر عنه بالبصر أو بالسمع والتمييز المعبر عنه بالبصر، أو منحه الحواس التي ترى وتسمع وتدرك وتميز فجعله مميزاً فاهماً عارفاً، وإن كان منحه كل ذلك لكنه لم يتركه يصل إلى الله بنفسه، أو بما مُكِّنَ فيه من حواس أو بما مُنِحَه من عقل وتمييز وفهم، وإنما أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب، رحمة، دلالة، هُدى. لذا يقول الله (عز وجل):
إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًۭا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ هديناه إلى السبيل، هديناه للسبيل بمعنى واحد وهي قراءة واحدة. السبيل: الطريق، معرفة النافع من الضار، معرفة الخير من الشر. ألهمه فطرة تميز بين الممكنات والمستحيلات، بين النافعات والمضرات، بين النجاسات وبين المطهرات، فطرة سليمة ثم جاء التنزيل يوافق ما عليه الفطرة. هديناه السبيل: أريناه طريق الخير. أو السبيل: بمعنى الخير والشر كقوله: ﴿هديناه النجدين﴾ [سورة البلد آية: ١٠] والهداية: الدلالة بلطف على البُغية والمقصود. ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ "إما" هنا للتقسيم أو للتفصيل. فإن كانت للتفصيل فالمعنى: إنا هديناه السبيل حال شكره وحال كفره فلا عذر لأحد، فالشاكر هُدِيَ السبيل ومَنَّ الله عليه بالهداية، والكافر دَلَّه الله على السبيل فخذله، وَكَّلَه لنفسه. ففي حالة هداه وفي حالة كفره فقد دَلَّ الله الجميع على السبيل ﴿هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ هديناه وهو شاكر وهديناه وهو كافر، دللناه فلا عذر لأحد ولا حجة لأحد على الله بعد الرسل. وإن كانت الكلمة "إما" للتقسيم فالمعنى إنا هديناه السبيل ودَلَلناه وبَيَّنَّا له وأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل فمنهم من شكر ومنهم من كفر. والآية دليل على الاختيار وأن الإنسان غير مجبر، بل أعطاه الله (تبارك وتعالى) الاختيار ومطلق الحريةكقوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف آية: ٢٩]، ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٨] إلى آخرها، ومن يرد حرث الدنيا نؤته منها ومن يرد حرث الآخرة نؤته منها. إذاً فقد منح الإنسان إرادة واختيار، هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً. وفي الآية لفتة (إما شاكراً) صيغة عادية، (وإما كفوراً) صيغة مبالغة، ولم يقل "إما شاكراً وإما كافراً" أو"إما شكوراً وإما كفوراً" للتجانس، بل قال (إما شاكراً) فجَرَّدَ اللفظ من صيغة المبالغة (وإما كفوراً ) أعطى اللفظ صيغة المبالغة. يشعرك هذا بأنك مهما شكرت فلن تؤدي الله حقه ولن تؤدي النعم حقها، وأعلى الناس مقاماً في الطاعة شاكر. وأما الكفر فيوغل فيه الكافر ويستمرئه فجاء بصيغة المبالغة في الكفر، لأن الإنسان إن كفر وأوغل في كفره وصل إلى أقصى درجات الكفر. أما إن عبد و أطاع فلن يصل إلى أقصى درجات الشكر، إذ مهما شكرنا قَلَّ لله شكرنا ولم نوف النِّعَم حقها فقال ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
ويأتي بعد التقسيم بيان الجزاء لكل نفس ما عملت، فتكلم عن الكفار أولاً فهدد وتوعد وأخبرنا بما أعد الله لهم فقال:
ويأتي بعد التقسيم بيان الجزاء لكل نفس ما عملت، فتكلم عن الكفار أولاً فهدد وتوعد وأخبرنا بما أعد الله لهم فقال:
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَـٰسِلَا۟ وَأَغْلَـٰلًۭا وَسَعِيرًا ﴿4﴾
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا وجهزنا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ الذين كفروا بالله وباليوم الآخر، كفروا برسله وكتبه وملائكته وباليوم الآخر وبالبعث وبالنشور. أعد الله لهم ﴿سَلَاسِلَ﴾ يُقادون بها ﴿وَأَغْلَالًا﴾ يُقَيَّدون بها ﴿وَسَعِيرًا﴾ يُحرَقون بها. ﴿سَلَاسِلَ﴾ تحذف الألف في الوقف قراءة. وفي الوقف يُبقَى على الألف (سلاسلا) قراءة. والسلاسل جاء ذكرها في مواضع أخرى طولها سبعون ذراعاً يُقاد بها الكافر. وأما الأغلال فهي القيود التي تجمع اليد إلى العنق فتُغَلُّ الأيدي إلى الأعناق ثم يُسحَبون بالسلاسل على وجوههم. والسعير: النار المتأججة التي تفوق كل خيال. وبضدها تتميز الأشياء:
إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍۢ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿5﴾
عَيْنًۭا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًۭا ﴿6﴾
الأبرار: جمع بَرّ أو جمع بار. وقيل البَرّ جمعه أبرار والبار جمعه بررة. البَرّ: الطائع لله والمتوسع في فعل الخيرات، لأن كلمة البَرّ تعني أصلاً الواسع الممتد، ومنه البَرّ والبحر. وسُمِّيَ البَرُّ بَرَّاً لاتساعه وامتداده، فالبَرّ: المتوسع في فعل الخير. وقالوا البَرّ: الذي لا يؤذي الذَّرو، والذَّرو: النمل. وقالوا البَرّ الذي لا يؤذي أحداً من خلق الله أبداً. وقالوا البَرّ الذي بَرَّ أباه وبَرَّ ابنه فكما أنت مأمور ببر الوالدين فأنت مأمور ببر الأبناء لأن لابنك عليك حق. البَرّ: المتوسع في فعل الخيرات. والأبرار منزلة ودرجة، والمقربون منزلة ودرجة، والصالحون منزلة ودرجة، والجنة منازل والجنة درجات وما يشربه المقربون خالصاً يأخذ منه الأبرار مزاجاً لشربهم، وما يشربه الأبرار خالصاً يأخذ منه الصالحون مزاجاً لشربهم. فالتسنيم شرب المقربين والكافور شرب الأبرار وهكذا. ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ الكأس: الإناء فيه الخمر، فإذا لم يكن فيه خمر لا يسمى كأساً، يُسَمَّى كوباً، يُسَمَّى قدحاً لكن لا يطلق عليه كأس. وقد يكون الكلام مجازاً وقد تكون حقيقة ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ إناء فيه خمر، أو بمعنى خمر، يشربون من خمر. ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾: خليطها، مخلوطة كافوراً. والكافور طِيب يستخرج من شجر ينبت في الصين والهند، أبيض فيه برودة وله رائحة طيبة لكنه لا يُشرَب، لايشربه الناس وإنما يستروحون به فهو طَيِّب، طِيبُه أفضل وأنفس وأغلى أنواع الطيب. فهل يُخلَط ما يشرب به الأبرار من خمر بالكافور فعلاً؟ أم أن الكافور اسم لعين من عيون الجنة؟ أم أن الكلام معناه أن الخمر رائحتها طيبة كطيب الكافور؟ (عيناً) إذاً فالكافور عين، هي اسم عين، أو عيناً من كافور، أو عين: بدل من كأس؛ يشربون من عين يشربون من كأس، هذه الكأس هي عين. ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ يشرب بها ويشربها ويشرب منها بمعنى واحد، كقولك فلان يتكلم بكلام حسن ويتكلم كلاماً حسناً. أو الباء بمعنى يشرب منها. (عباد الله) وانظر إلى الصفة! الأبرار هم الأبرار لكن الله (تبارك وتعالى) وصفهم بصفة العبودية ونسبهم إلى ذاته (عز وجل) عباد الله، فالعبودية أجل وأعلى مقام في الوجود، ولذا حين خُيِّرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أن يكون ملكاً رسولا أو عبداً رسولا فقال أختار العبودية فكان عبد الله ورسوله. العبودية أشرف مقام، لذا يشرفهم ربهم (تبارك وتعالى) وينسبهم إليه. ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ كما تفجر الأنهار. وقال العلماء والمفسرون في هذه الكلمة أقوال والله أعلم بمراده. قالوا: بيد الواحد منهم قضيب؛ عصا، أينما سار في بيوته وقصوره ودوره إذا أراد الماء أشار بالقضيب فانفجر الماء حيث يقف. وقال بعضهم: بل يشير بالقضيب إلى العين فتجري وراءه حيث سار، صعد الدرج صعدت وراءه، نزل نزلت وراءه، دخل دخلت وراءه، خرج خرجت وراءه، بالقضيب يشير إلى الماء فيسير وراءه. وقالوا ..وقالوا..ولا يعلم حقيقة الأمر إلا الله. وتأتي الصفات التي منحتهم هذا الاستحقاق، ماذا كانوا يفعلون؟
يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًۭا كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيرًۭا ﴿7﴾
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًۭا وَيَتِيمًۭا وَأَسِيرًا ﴿8﴾
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءًۭ وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًۭا قَمْطَرِيرًۭا ﴿10﴾
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ والنَّذْر: ما أوجبه العبد على نفسه من فعل يفعله، وكل أمر أوجبه الإنسان على نفسه؛ صيام يوم أو صلاة ركعتين أو حجاً أو نفقة أو ما إلى ذلك أصبح هذا فرضاً في حقه، هو فرضه على نفسه ولم يفرضه الله عليه. النذر أحكامه أحكام الفرض، إن فاته قضاه وإذا لم يؤده سُئِلَ عنه. والكلام عن وفائهم بالنذر؛ هل الكلام على الحقيقة؟ يوفون بالنذر إذا نذروا؟ إن كان كذلك فالكلام يُشعِر بأنه إذا وفى أحدهم بما أوجبه على نفسه فهو بما أوجبه الله عليه أوفى، إذا كان يفي بما أوجبه هو على نفسه إذاً فما أوجبه الله عليه هو أشد وفاءاً به فتشعرك بهذا. وقال بعضهم: بل المقصود هنا الفرائض. كيف وربنا يقول النَّذْر؟ قال: لأن العبد إذا آمن فقد أصبحت الطاعات كأنه نَذَرَ على نفسه الطاعة، طالما آمن بالله وآمن برسول الله فقد نذر أن يأتي بالطاعات، كقول الله (عز وجل) في مناسك الحج: لِيَطَّوَّفوا، وبعد الطواف: لِيُوفُوا نُذُورَهم، ثم ليَقضوا تَفَثَهُم، وقضاء التَّفَث: الحلق والاغتسال وفك الإحرام، وليوفوا نذورهم: أي يؤدوا المناسك، فكأن الحاج قد فرض على نفسه المناسك ونَذَرَ أن يؤديها بإحرامه بالحج. والمعنى الأرجح: النَّذْر المعهود؛ ما أوجبوه على أنفسهم، من أوجب على نفسه شيئاً وفى، فهو بما أوجبه الله عليه أوفى. ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾ يوم القيامة، أعاذنا الله وإياكم من شروره. ﴿كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ المستطير: المنتشر في كل مكان. استطار الفجر: انتشر ضياؤه، واستطار الحريق: وصل إلى كل مكان. كان شر اليوم مستطيراً: منتشراً واصلاً إلى كل مكان، نعم! وصل إلى السماء فانشقت، وصل إلى الأرض فهُدَّت، وصل إلى البحار فسُجِّرَت، وصل إلى الكواكب فانتثرت. نعم! كان شره مستطيراً الأن العالم كله يُدَمَّر ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾ [سورة التكوير آية: ١-٢] ، ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣)وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾ [سورة الإنفطار آية: ٣-٤] نعم! يوماً كان شره مستطيراً ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ على حب الله، على حب الطعام، على حب إطعام الطعام. فالضمير في (حبه) راجع إلى الإطعام، أو إلى الطعام؛ لا يملك غير قوته وقوت أولاده فيؤثر على نفسه الفقير والمسكين، أو على حب الله؛ يُطعِم من أجل الله، من أجل رضا الله، أو يطعم على حب الإطعام، حُبِّبَ إليه إطعام الطعام. ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ المسكين: الفقير، وكلمة (مسكين) مشتقة من السكون، وكأن الفقير المحتاج أسكنته الحاجة فهو ساكن غير متحرك، سكن إلى الأرض واستكان من حاجته وفقره، ذلك هو المسكين: الفقير المحتاج الذي لا يجد ما يكفيه. وأما اليتيم هو من فقد أباه، واليتيم في الإنسان غير اليتيم في الحيوان، اليُتم في الإنسان فَقْد الأب وليس بفَقدِ الأم ولا يُتم بعد البلوغ، يظل يتيماً حتى إذا بلغ انتفت عنه صفة اليُتم إذ أصبح مكلفاً. وأما اليُتم في الحيوان بفَقد الأم، فالحيوان إذا فقد الأب فليس بيتيم أما إذا فقد الأم فهو يتيم، لأن الحيوان ترعاه أمه والإنسان يرعاه أبوه. كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتيماً، وجعله الله يتيماً حتى يُواسي كل يتيم في أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وقد قال (صلى الله عليه وسلم) -وأشار بيده وقَرَنَ بين إصبعيه المسبحة والوسطى- "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة". وقال (صلى الله عليه وسلم): "من مسح رأس يتيم غُفِرَ له". والأسير: المحبوس في الحرب ولم يكن لهم أسرى إلا المشركون. أسروا المشركين وقد كانت حرب النبي (صلى الله عليه وسلم) مع المشركين، ولكنه كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى أحد المسلمين ويقول له: أحسِن إليه، فكان المسلم يحسن إلى الأسير ولو أنه مشرك ويؤثره على نفسه بالطعام. من هنا قال العلماء: إذا كان الأمر كذلك في عصر النبوة فالأسير المسلم أولى، إذا حدثت الحرب بين المؤمنين. وأطلقوا كلمة الأسير، أطلقوا المعنى وقالوا: المجنون أسير جنونه وخبله فيدخل في الآية، وقالوا المسجون من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) أسير يدخل في الآية. وقالوا: المرأة تدخل في الآية لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عَوَان بينكم" والعوان: جمع عاني، والعاني: الأسير، فهم أسيرات، فإطعام الزوجه يدخل في الآية. أطلقوا كلمة أسير على المخبول والمرأة والمسجون والأسير في الحرب مسلماً كان -أي من أهل القبلة- أو مشركاً كان.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ على إرادة القول. هل قالوا بألسنتهم أو هي نيتهم أخبر الله بها؟ الرأي الراجح أنهم ما قالوها بألسنتهم أبداً وإنما قالوها بقلوبهم فعَلِمَها الله منهم فأخبر عنهم. ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ إبتغاء مرضاته خالصين له. ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾ مكافأة ﴿وَلَا شُكُورًا﴾ ولا شكراً. ولذا ورد عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) أنها كانت ترسل بالصدقة إلى أهل أبيات فقراء فإذا عاد إليها من أرسلته بالصدقه سألته كيف قالوا؟ فإن قيل لها دعوا لك بخير رفعت يديها إلى السماء تدعوا لهم حتى يوازي دعاؤها دعاؤهم ويصبح أجر الصدقة خالصاً بغير مكافأة، لإنك إذا أعطيت المسكين فدعا لك فكأنه قد جازاك شيئاً لذا كانت الصدقة المخفية فلا يعلم المسكين من الذي أرسل إليه الصدقة وإنما الله هو العالم بذلك.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ الخوف، من خاف سلم. إنا نخاف من ربنا يوماً: يوم القيامة. عبوساً: نسب العبوس إلى اليوم، واليوم لا يعبس وإنما العبوس في الإنسان، وهو أن يقبض ما بين حاجبيه أو أن يَزُمَّ فمه أو أن يَكلَحَ وجهُه، لكن العبوس نُسِبَ إلى اليوم مبالغة لبيان شدة ذلك اليوم وهوله. ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ والقمطرير: اليوم الطويل الشديد بلاؤه الذي لايُقارَن طوله بطول شيء، إِقمَطَرّ اليوم فهو مُقْمَطِرّ: طال واشتد بلاؤه فالقَمْطَر والقمطرير: اليوم الشديد الطويل، الشديد بلاؤه العظيم شره. ذلك شأنهم؛ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ إشارة إلى قيامهم بما كُلِّفُوا به وبما أوجبوه على أنفسهم وبما أوجبه الله عليهم من الطاعات. إشارة إلى الإطعام، والإطعام والإنفاق من أهم القُرَب إلى الله، "الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء نار الحطب" هكذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) الصدقة والإنفاق والخوف من الله، خوف اللقاء، خوف الحساب، خوف يوم القيامة. ويحكي لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) عن رب العزة فيقول: "لا أجمع على عبدي أَمْنَين أو خوفين أبداً فمن أَمِنَني في الدنيا خَوَّفتُه يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أَمَّنتُه يوم القيامة."
استجاب لهم الله (تبارك وتعالى) وشكر لهم صنيعهم وبين لهم جزاءهم :
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ على إرادة القول. هل قالوا بألسنتهم أو هي نيتهم أخبر الله بها؟ الرأي الراجح أنهم ما قالوها بألسنتهم أبداً وإنما قالوها بقلوبهم فعَلِمَها الله منهم فأخبر عنهم. ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ إبتغاء مرضاته خالصين له. ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾ مكافأة ﴿وَلَا شُكُورًا﴾ ولا شكراً. ولذا ورد عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) أنها كانت ترسل بالصدقة إلى أهل أبيات فقراء فإذا عاد إليها من أرسلته بالصدقه سألته كيف قالوا؟ فإن قيل لها دعوا لك بخير رفعت يديها إلى السماء تدعوا لهم حتى يوازي دعاؤها دعاؤهم ويصبح أجر الصدقة خالصاً بغير مكافأة، لإنك إذا أعطيت المسكين فدعا لك فكأنه قد جازاك شيئاً لذا كانت الصدقة المخفية فلا يعلم المسكين من الذي أرسل إليه الصدقة وإنما الله هو العالم بذلك.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ الخوف، من خاف سلم. إنا نخاف من ربنا يوماً: يوم القيامة. عبوساً: نسب العبوس إلى اليوم، واليوم لا يعبس وإنما العبوس في الإنسان، وهو أن يقبض ما بين حاجبيه أو أن يَزُمَّ فمه أو أن يَكلَحَ وجهُه، لكن العبوس نُسِبَ إلى اليوم مبالغة لبيان شدة ذلك اليوم وهوله. ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ والقمطرير: اليوم الطويل الشديد بلاؤه الذي لايُقارَن طوله بطول شيء، إِقمَطَرّ اليوم فهو مُقْمَطِرّ: طال واشتد بلاؤه فالقَمْطَر والقمطرير: اليوم الشديد الطويل، الشديد بلاؤه العظيم شره. ذلك شأنهم؛ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ إشارة إلى قيامهم بما كُلِّفُوا به وبما أوجبوه على أنفسهم وبما أوجبه الله عليهم من الطاعات. إشارة إلى الإطعام، والإطعام والإنفاق من أهم القُرَب إلى الله، "الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء نار الحطب" هكذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) الصدقة والإنفاق والخوف من الله، خوف اللقاء، خوف الحساب، خوف يوم القيامة. ويحكي لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) عن رب العزة فيقول: "لا أجمع على عبدي أَمْنَين أو خوفين أبداً فمن أَمِنَني في الدنيا خَوَّفتُه يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أَمَّنتُه يوم القيامة."
استجاب لهم الله (تبارك وتعالى) وشكر لهم صنيعهم وبين لهم جزاءهم :
فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةًۭ وَسُرُورًۭا ﴿11﴾
وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُوا۟ جَنَّةًۭ وَحَرِيرًۭا ﴿12﴾
نعم! خافوه في الدنيا فأَمَّنَهم يوم القيامة. وقاهم شر ذلك اليوم؛ يوم القيامة، بعث الناس فرداً فرداً وبعث المتقون وفداً. كل الناس يفر من أخيه وأبيه وصاحبته وبنيه والمتقون لا يفرون، بل جعل الرحمن لهم وُدَّاً، كل الناس غارق في رشحه فغارق إلى كعبيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه وإلى كتفيه وإلى أذنيه وهؤلاء مستظلون بظل العرش على منابر من نور عن يمين العرش وكلتا يدي الرحمن يمين، المتحابون في جلال الله المجتمعون على كلامه، هؤلاء وقاهم الله شر ذلك اليوم لا يخافون إذا خاف الناس ولا يفزعون إذا فزع الناس. ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [سورة يونس آية: ٦٢] نعم! وقاهم الله شر ذلك اليوم ولَقَّاهم حين قَدِموا عليه نضرة وسروراً، نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم، فظهر أثر التنعيم على وجوههم فأشرقت وأضاءت، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. ﴿وَلَقَّاهُمْ﴾ إذا وقفوا بين يديه انعكس نوره عليهم فأضاءت وجوههم وجعل في قلوبهم السرور، فرحين بلقاء الله (تبارك وتعالى) وفرح الله بلقائهم، من أحب لقاء اللهِ أحب اللهُ لقاءه. وقاهم الله شر ذلك اليوم، لا عبوس لا كلوح ولا إكفهرار ولا قمطريراً ولا حزن ولا خوف ولا وَجَل، وإنما السرور والفرح بلقاء الله. ﴿وَجَزَاهُمْ﴾ أعطاهم وأثابهم ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ والصبر أربعة: الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على المصائب. جزاهم بما صبروا على طاعته وصبروا على المصائب وصبروا على قضائه وقدره وصبروا عن المحرمات، جزاهم بهذا الصبر جنة. ﴿جَنَّةً﴾ نكرة غير معرفة، ما هي الجنة؟ تُرى كيف هي؟ كيف شكلها؟ كيف اتساعها؟ ما الذي فيها؟ والله ما في هذه الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء؛ الكافور والزنجبيل والسلسبيل والجنة والحرير والسندس والإستبرق، أسماء. ذكر الله الأسماء حتى يهدي الناس إليها وذكر لهم ما يعتقدون أنه النعيم في الدنيا. منتهى التنعم أن يخلط شرابك بالكافور أو أن يكون طيبه كطيب الكافور، منتهي التنعم أن تجلس ويؤتى إليك بالطعام، منتهي التنعم أن يخلط شرابك بالزنجبيل، منتهى التنعم أن تجلس في الظل، منتهى التنعم أن يكون الماء متوفراً لديك وهم أهل صحراء. حضهم بكل ذلك حسب مفهومهم، حسب ما اعتادوا عليه، أما الجنة فشيء وراء العقل، واللهِ ما يعرفها أحد وكل ما قيل في أوصافها من أقوال المفسرين لا يصادف أبداً حقيقتها. (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ يحرم على الرجال لبس الحرير في الدنيا مهما قل أو كثر، كان في الثياب الداخلية أو في الثياب الخارجية، ويباح للنساء. ومن لبس الحرير في الدنيا من الرجال لن يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة. لذا جزاهم بالحرير الذي حُرِموه في الدنيا جزاهم به في الآخرة. تُرى أي شكل؟ الحرير في الدنيا تنسجه دود القز، أشرف ما في الأرض من اللباس ينسجه دود! وأشرف ما في الأرض من شراب يخرجه حشرة النحل! فهل عسل الجنة كعسل الدنيا تخرجه نحلة؟ وهل حرير الجنة كحرير الدنيا تخرجه دودة؟ لا واللهِ! وإنما شجر الجنة ينبت حُلَل فتأتي على قدرك ومقاسك فتلبس منها ما شئت. ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.
مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًۭا وَلَا زَمْهَرِيرًۭا ﴿13﴾
الاتكاء: الاستناد. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا لا يتكئ حين يأكل، فمن الناس من يتكئون وهم يأكلون ولكنه كان يجلس جلسة التشهد ويقول: "أنا لا آكل متكئاً وإنما أجلس جلسة العبد وآكل كما يأكل العبد" فالاتكاء في الدنيا حال الأكل مكروه لأنك تتكئ حين الأكل في الجنة ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ والأرائك: جمع أريكة، والأريكة في مفهومنا في هذه الدنيا الزائلة الفانية الحقيرة: السرير في الحَجَلة. الحجال: سرر العرائس؛ ناعم لين مفروش بأفخر الثياب يُنصَب عليه من الأستار ما يشبه القبة ولها أزرار. تلك الحجلة: سرير العروس، يقام عليه قبة من قماش، أنتم تعرفونها، تلك التي تمنع دخول الناموس والحشرات وما إلى ذلك. هذه الأستار المنصوبة على السرير تسمى الحَجَلة وجمعها حِجَال، إذا نصب على السرير هذه الحجلة، وكانت من فاخر الثياب والحرير، سمي السرير أريكة. تُرى الأرائك في الجنة كذلك؟ ونعلم أن السرير في الجنة طوله من الحجاز إلى اليمن أو من المدينة إلى الشام، فهل هو كذلك؟ يتكئون على الأرائك لا تعب ولا نصب ولا تَكَلُّف ولا هم ولا حزن ولا انتظار لموت ولا مرور أيام ولا فقد صديق ولا توقع بلاء ولا خوف النقص ولا خوف الضياع ولا خوف المرض. ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ لا حَرّ ولا قِرّ. والزمهرير في لغة طيئ يعني القَمَر، فقد يكون المعنى لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، أي لا ليل فيه ولا نهار. أو لا حر فيها من الشمس ولا زمهرير: البرد الشديد الذي يدخل من المسام. تُرى كيف يكون؟ هل وصفه النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم! قال فيه: "إن هواء الجنة سجسج لا حر ولا برد" السجسج: هو الجو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ظِلٌّ ممدود بغير شمس، ضياء بغير قمر، ذاك هو جو الجنة، اللهم اجعلنا من أهلها. ما في الدنيا من شيء مما في الجنة إلا الأسماء، وكل ما وُصِفَت به الجنة جعل له شبيهاً في الأرض يسعى الناس من أجله فهو النعيم في عرفهم. وما من شيء في الجنة إلا وله شبيه في الأرض، وشتان ما بين الشبيهين، فما الشبه إلا في الأسماء والأسماء فقط وأما الحقائق فعلمها عند الله. وقد جاء في وصف ما في الجنة، جاء شيء ليس له في الأرض شبيه، ألا وهو الأكواب التي جمعت بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها. تلك هي القوارير؛ قوارير من فضة جمعت بين صفاء الزجاج وشفيفها وبياض الفضة ولينها. وجاءت هذه ليتذكر كل متذكر ويتأمل كل مفكر ويعلم أن كل ما قيل في شأن الجنة وما فيها محض تشبيه والحقيقة فوق كل خيال، وإلا فكيف يمشط أهل الجنة أشعارهم بأمشاط الذهب والفضة وليس في الجنة شعث ولا تفث؟ في الدنيا يمشط الإنسان شعره ليذهب شعثه وينظف تفثه، والجنة ليس فيها شعث ولا تفث! إذا فامتشاط أهل الجنة بأمشاط الذهب والحرير محض تنعم. في الدنيا يأكل الإنسان من جوع ويتوقف عن شبع، فهل في الجنة جوع؟ وهل يتوقف عن شبع؟ في الدنيا يشرب الإنسان عن ظمأ فإن شرب ارتوى فهل في الجنة ظمأ؟ وهل هناك في الجنة رِواء بعد الرِّواء من كأس النبي الأشفى (صلى الله عليه وسلم) وورود حوضه الأوفى؟ في الدنيا ينصرف الأكل والشراب إلى فضلات فيها القذى والقذر والنجاسة. في الجنة أكلهم وشرابهم ينصرف رشحاً كالمسك على أبدانهم! كل ما في الجنة شئ فوق كل خيال، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وتسمع قول الله (عز وجل) في سورة الإنسان والتي نحن بصددها يقول:
وتسمع قول الله (عز وجل) في سورة الإنسان والتي نحن بصددها يقول:
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـٰلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًۭا ﴿14﴾
وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـَٔانِيَةٍۢ مِّن فِضَّةٍۢ وَأَكْوَابٍۢ كَانَتْ قَوَارِيرَا۠ ﴿15﴾
قَوَارِيرَا۟ مِن فِضَّةٍۢ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًۭا ﴿16﴾
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًۭا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ﴿17﴾
عَيْنًۭا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًۭا ﴿18﴾
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌۭ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًۭا مَّنثُورًۭا ﴿19﴾
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًۭا وَمُلْكًۭا كَبِيرًا ﴿20﴾
عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌۭ وَإِسْتَبْرَقٌۭ ۖ وَحُلُّوٓا۟ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍۢ وَسَقَىٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًۭا طَهُورًا ﴿21﴾
إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءًۭ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ﴿22﴾
﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ "دانيةٌ" بالرفع قراءة على أنها خبر (ظلالها)، خبر مقدم. و"دانيةً" منصوبة على الحال. ﴿عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ وهل في الجنة شمس؟ ليس في الجنة شمس ولا حَرُور فلِمَ يكون ظل؟ واحتار فيها المفسرون؛ فمن قائل إن ارتفاع شجر الجنة مسيرة مائة عام فإذا أراد الأبرار أن يقطفوا شيئاً من شجرها تَدَلَّت ودَنَت. ومن قائل إن ظل الجنة ظل ممدود كالظل بين الفجر وطلوع الشمس إذاً فهم غير محتاجين إلى الظلال فلِمَ هذه الظلال؟ أمر لا يعرفه إلا خالق هذه الظلال! ﴿وَدَانِيَةً﴾: قريبة متدلية. (عليهم): على الأبرار. ﴿ظِلَالُهَا﴾. ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ الدنو: القرب. قُرِئت دانيةً ودانيةٌ وقُرِأَت ودانياً عليهم ظلالها. وذُلِّلَت: من الذُّل، والذُّل: ضد الصعب. الذُّل: السهولة. ذُلِّلَت: سُهِّلَت، يُسِّرَت. ﴿قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ تأكيداً لهذا التذليل، لهذا التسهيل، لا يَرُدُّ أيديهم بُعدٌ ولا شوك، فقد يَرُدُّ أيديك في الدنيا بُعدَ الثمار، وقد يَرُدُّ يدك في الدنيا شوك حول الثمار، أما في الجنة فلا بُعد ولا شوك.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ يُطاف عليهم؛ لا تعب ولا نصب في طلب الطعام أو في طلب الشراب، بل هم متكئون على الأرائك. ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وهذا لا ينفي أن هناك آنية من ذهب، إذ جاء في موضع آخر: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ﴾ [سورة الزخرف آية: ٧١] فتارة يُطاف عليهم بصحاف الفضة وتارة يُطاف عليهم بصحاف الذهب. أرأيتم فضة الدنيا؟ تُرى أفضة الآخرة كفضة الدنيا؟ هل يُعقَل ذلك؟ فضة الدنيا فانية وفضة الآخرة باقية، فضة الدنيا يصنعها الناس وإن كان الله خلقها وفضة الآخرة صنعها الله. آنية لم يصنعوها صُنِعَت لهم، هكذا خُلِقَت. ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ كانت، أكواب كانت، كانت في الماضي. ما معنى كانت؟ يُشعِرُك الكلام بأنها كانت في علم الله من الأزل وأن الصانع هو الله . كانت" لأن الله هو الذي خلقها كذلك، خُلِقَت كذلك قوارير. والقوارير: جمع قارورة، والقارورة: الإناء من زجاج شفاف يوضع فيه الشراب ويستقر، تلك هي القارورة. الأكواب: جمع كوب، والكوب: القدح بغير عُروة، بغير أُذُن. ﴿وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ ويدركك الكلام لكي لا تعتقد أنها من زجاج كزجاج الدنيا فيقول: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ جمعت بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضه ولينها، هل لذلك شبيه في الدنيا؟ هل لو اجتمع علماء الدنيا وسُخِّرَت لهم مصانع الدنيا لإنتاج فضة شفافة هل يمكن؟ أبداً والله! قُرِأَت (قوارير) وفي الوقف أيضاً كذلك ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾. وقُرِئت بالتنوين ﴿كانت قواريراً (١٥)قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وحين الوقف لابد من إثبات الألف. وقُرِئت بحذف الألف في الإثبات ﴿كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾. ومن نَوَّن (قوارير) نَوَّن "سلاسل" في أول السورة ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ من نَوَّنَ هناك لابد أن يُنَوِّن هنا، ومن حذف التنوين هناك حذف التنوين هنا على أساس القاعدة التي تقول: إن كل جمع فيه بعد الألف ثلاثة حروف أو حرفان أو حرف مشدد لا يُصَرَّف، ثلاثة حروف كقناديل، قوارير. حرفان كما جاء في القرآن: صوامع ومساجد ﴿ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [سورة الحج آية آية: ٤٠] ليس فيها تنوين. والحرف المشدد كدواب. تلك قاعدة قُرِئ على أساسها بقراءة حفص بغير تنوين، بقوارير. وقرأ بعضهم بالتنوين كما قلنا. ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ من الذي قَدَّرَها؟ قالوا قَدَّرَتها الملائكة. وقالوا قَدَّرَها الشاربون فجاءت وفق تقديرهم. وقيل بل قَدَّرَها الطائفون بها -الولدان المخلدون- قَدَّروها بحسب حجم الأكف، فلا هي كبيرة ثقيلة تثقل كف الشارب ولا هي مفرطة الصغر وبغير آذان وعُرَى حتى لا يضطر إلى تدويرها بل تُمسَك من كل جانب. وقيل قَدَّروها: أي قَدَّروا ما فيها فجاءت على قدر اشتهاء الشاربين فلا يَفضُلُ منهم شيء ولا يشتهون مزيداً، فتأتي الأكواب فيها من الشراب على قدر اشتهاء الشارب لا زيادة ولا نقصان، لايقول أريد مزيداً ولا يترك فيها شيئاً. وقُرِئت ﴿قُدِّرُوها تقديراً﴾ أي قُدِّرَت لهم على وفق اشتهائهم. قيل قُدِّرُوها بحُسنِ عملهم فاستحقوها في الجنة. يطوف عليهم الولدان بهذه الأكواب التي كانت قوارير، تُرى ما الذي في هذه القوارير؟ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا﴾ في هذه الأكواب ﴿كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾ الكأس كما قلنا: الإناء فيه الخمر ولا يطلق على الإناء كأس إلا إن كان فيه خمر ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا﴾ أي يُسقَون فيها خمراً. ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾ خليطها. المزيج والممزوج كالخليط والمخلوط، مزج الشئ بشيء آخر. الزنجبيل: الشراب الصِّرف للمقربين، أما الأبرار فيأخذون منه مزاجاً فقط. خليط هذه الكأس، خليط هذا الشراب زنجبيلاً، وكلنا يعرف الزنجبيل. وكانت العرب تحب أن تخلط شرابها بالزنجبيل لطيب رائحته، لكن الزنجبيل فيه لذعة حريف. من هنا جاء الكلام ينفي عن زنجبيل الآخرة تلك اللذعة فيقول: ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ والسلسبيل لا لذع فيه. فالزنجبيل اسم يوافق ما في الدنيا من هذا الشيء والحقيقة شيء آخر، ولكن الكلام يحض الناس على السعي للنعيم الذي ظنوه في الدنيا منتهى التنعم فيحضهم على ذلك ويأتي لهم بأسماء تشابه أسماء أصناف النعيم في الدنيا فيسعون لذلك، فإذا ذهبوا إلى هناك فوجئوا أن نعيم الآخرة ليس ككل نعيم. ﴿عَيْنًا فِيهَا﴾ في الجنة ﴿تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ عيناً. وكأنهم يُسقَون كأساً أي يُسقَون عيناً بدلاً من كأس، وكأن الأكواب تُملَأ من هذه العين. ولذا قال بعض الناس عن الأكواب التي قَدَّرُوها تقديراً، قالوا إن الأكواب والكلام عن الأكواب هي التي تطير في الجنة وتقترف من العيون على قدر اشتهاء الشاربين وتأتيهم بغير أن يحملها أحد. ماهو السلسبيل؟ السلسبيل: من السلاسة، شراب سَلِس وسَلْسَل وسَلْسال وسلسبيل: سهل الانحدار في الحلق، طيب ولذيذ لا تأتيك منه غُصَّة أبداً، ذاك هو السلسبيل. تلك عين لها اسم، هذا الاسم: تُسَمَّى سلسبيل، من الذي سماها؟ الله. من عرف اسمها؟ الملائكة والمقربون وأهل الجنة والنعيم، هي عندهم بهذا الاسم ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ شرابها ينحدر في الحلق. وكلمة سلسبيل تنفي عن الزنجبيل اللذعة الموجودة في زنجبيل الدنيا، لأن اللذعة تتنافى مع سهولة الانحدار في الحلق. وقال بعضهم: سلسبيلاً ليست مشتقة من السلاسة والسَّلْسَل والسَّلْسال، وإنما هي بمعناها (سل سبيلاً) . سل: أي اسأل، سبيلاً: أي طريقاً. فسُمِّيَت العين سلسبيلاً لأن الناس العاقلون يسألون عنها سبيلاً فيطيعون الله ويسعون إلى رضائه حتى يصلون إلى هذه العين ويتنعمون بشرابها فسميت سلسبيلاً أي: سل عنها سبيلاً حتى تستحق أن تشرب منها.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الآية تدل على أن الطواف بالآنية وبالأكواب بمعرفة الولدان، والولدان: جمع وَلَد، لكن الله (تبارك وتعالى) وصفهم بالخُلد، معناه أنهم يبقون على نضارتهم وصفاء أبشارهم وجمال ألوانهم وإشراق وجوههم على سن واحدة، لا يهرمون ولا يمرضون ولا يتعبون ولا يكلون. ﴿وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الخُلد على هذه السن، على هذه الهيئة. وقال بعضهم التخليد: التحلية، فهم مُسَوَّرون مُقَرَّطون، يلبسون الأقراط في آذانهم ويلبسون الأساور في أيديهم فهم مخلدون. خَلَّدَه: حَلَّاه بالحُلِيِّ. ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ إذا رأيت الولدان. ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ والتشبيه العجيب أن اللؤلؤ إذا نُثِر كان أصفى وأنقى وأجمل منه منظوماً، وجَرِّب ايتِ باللؤلؤ وانظمه في عُقْد وانظر إليه ثم افرطه وانثره على الأرض وانظر إليه تجد أنه منثوراً أجمل وأصفى وأنقى منه منظوماً. فشَبَّه الولدان باللؤلؤ المنثور. والوصف أيضاً يُشعِر بأنهم كثير وأنهم مشرقون مضيئون، ينعكس ضياء أحدهم على ضياء الآخر فهم يتلألؤون كاللؤلؤ فهو كاللولو واللؤلؤ واللؤلو، يتلألئون كالنجوم في السماء وإشراقهم وضياؤهم ينعكس أضواؤه وأطيافه على بعضهم البعض. وحين وصف الحور العين قال كأنهم اللؤلؤ المكنون. واللؤلؤ المكنون لأن نساء الجنة لا تمتهن بالخدمة ولا تتعرض للأبصار فهن قاصرات الطرف. أما الولدان فهم ممتهنون بالخدمة منشرون في الجنة كأنهم لؤلؤ منثور، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ "رأيت" هنا فعل ليس له مفعول ملفوظ أو مُقَدَّر، فهو لفظ عام يعني أينما وقع بصرك. (ثَمَّ) ظرف مكان بمعنى هناك، أي وإذا رأيت هناك في الجنة، أينما وقع بصرك في الجنة ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ ﴿نعيماً﴾ نكرة، ولم يذكر صنف النعيم، ولم يُعَرِّف ذلك النعيم الذي وقع بصرك أينما وقع في الجنة رأيته. إذا ﴿رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ في الجنة؛ في أي موضع، في أي مكان، حيثما وقع بصرك فوجئت بالنعيم، أي نعيم هذا؟! نعيماً وملكاً كبيراً. وهنا توقف المفسرون: ما هو المــُلك الكبير؟ فمن قائل: الملك الكبير سلام الملائكة عليهم، ومن قائل: الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٣] ومن قائل: الملك الكبير تيجان على رؤوسهم كتيجان الملوك في الدنيا ولكن مع الفارق، ومن قائل: أن الملك الكبير مُلكٌ لا يتعقبه هلاك، أي دائم لا تخشى أن يزول منك أو يغصبه غاصب، ومن قائل: لايُعرَف ويُكتَفَى فيه بما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن أدنى الناس منزلة في الجنى من ينظر في مُلكِهِ مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يرى أدناه) لا تحجب رؤيته أشياء بعد، لا تحجب ولا يقلل من الرؤية، يرى أقصي ملكه كما يري أدنى ملكه مسيرة ألفي عام. (عاليهم - عليهم - عاليتهم) ثلاث قراءات. ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾. السندس: ما رَقَّ من الحرير. والإستبرق: ما غَلُظَ من الحرير. فاللباس لباس حرير، والحرير أنواع منه الرقيق الخفيف الشفاف ويُسَمَّى سندس، ومنه الغليظ الثخين المـــُوَشَّى ويسمى إستبرق. ﴿عَالِيَهُمْ﴾ على الأبرار، على أهل الجنة الثياب الخارجية ولم يأتِ ذكر للثياب الداخلية، ولك أن تتخيل عاليهم أو عاليهم أو عاليتهم ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ أي ثياب حرير ﴿سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾ نعت لـــ (ثياب). ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ أي وثياب من إستبرق أيضاً. ونعت لـــ (سندس) إذا قُرِئت بالجر ﴿سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾. ﴿وإستبرق﴾ قُرِئت كذلك بغير صرف. وقُرِئت ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ استفعل من البريق، أي لها بريق، ثياب لها بريق. ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ﴾ هناك حُلِيّ حَلَّاهم الله به. (أساور من فضة) هل هي من فضة أم من ذهب أم من لؤلؤ؟ ففي موضع آخر يقال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [سورة فاطر آية: ٣٣] فقالوا: تارة يلبسون الفضة وتارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون اللؤلؤ. وقيل: بل لهم بين الفضة والذهب واللؤلؤ. وقيل: جاء بذكر الفضة مكتفياً بها عن ذكر الذهب مشيراً إليه. وقيل: بل هم على اشتهائهم، فإذا اشتهى الفضة لبسها وإذا اشتهى الذهب لبسه وإذا اشتهى اللؤلؤ لبسه. وقيل: على حسب أعمالهم. ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ الساقي هو الله. ذاك شراب آخر. ذاك نوع فوق الوصف! فهم يشربون تارة كأساً ممزوجاً بالكافور كما جاء في أول السورة، ويشربون تارة كأساً ممزوجاً بالزنجبيل كما جاء في السورة، وها هنا شراب آخر: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ ولم يذكر نوع الشراب. قالوا فيه ما قالوا وأصح ما قيل فيه أن باب الجنة عيناً تجري من أصل شجرة تُمَدُّ من العرش يشرب منها أهل الجنة، فإن شربوا من هذه العين تنضرت أبشارهم وأضاءت وجوههم وذهب تفثهم وشعثهم وذهب عن جسمهم القذى والأذى والنجس وما إلى ذلك من داخل الجسم، فهي تطهرهم ظاهراً وباطناً وتُذهِب من قلوبهم الغل والغش والحسد والحقد، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ [سورة الحجر آية: ٤٧] فإن شرب ولي الله من هذه العين الطهورة ذهب الغل من صدره والحسد والحقد والطمع كل ذلك ذهب وذهب من أمعائه القذى والأذى، فإن أكل أو شرب خرج كل ذلك كرشح المسك، والصدور ناصعة خالية من كل سوء. حينئذ تقول لهم ملائكة الله: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [سورة الزمر آية: ٧٣] نعم! طابوا من هذا الشراب، طابوا وطابت نفوسهم وطابت أبدانهم وطابت أجوافهم كذلك. ذاك أصح ما قيل في هذه الآية ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ وإن كان بعض الناس قال إن هذا الشراب يُسقَوه بعد الأكل والشراب في الجنة، بعد ما يأكلون ويشربون ويتنعمون يختمون شرابهم بهذا الشراب الطهور حتى يذهب عنهم كل أثر فيحبون ويشتهون الأكل والشراب مرة أخرى، وكل ما أكلوه وشربوه يخرج على هيئة الرشح من أبدانهم كطيب المسك. وقال بعضهم: بل هذا الشراب شراب خاص إذا شربه الولي -لأن أهل الجنة كلهم أولياء، أولياء الله تولاهم في الدنيا ويتولاهم في الآخرة- ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة يونس آية: ٦٢] إذا شربه ولي الله في الجنة انصرف عنه أي اشتهاء لأي نعيم، حتى نعيم الجنة، وخلص واستعد لينعم بلقائه والنظر إلى وجهه الكريم والبقاء ببقائه، فذاك شراب يجهز أهل الجنة للنظر إلى وجه الله (تبارك وتعالى) ولذلك نسب الفعل وأسنده إلى الله ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾. ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي يُقال (إن هذا): هذا النعيم الذي ترونه؛ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ كل ما ذُكِرَ وفوق ما ذُكِرَ، يُقال لهم ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ﴾ جزاء أعمالكم الصالحة. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي مقبولاً، لأن الله (تبارك وتعالى) إذا قبل العمل من العبد شَكَرَه، وإذا شَكَرَه أَثبَتَه وأثابه عليه وأثنى عليه. وقد أثنى ربنا (تبارك وتعالى) على عباده الصالحين، أثنى عليهم في القرآن كثيراً، ذاك الثناء هو شُكرُه لأعمالهم. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي سعيكم إلى الله (تبارك وتعالى) وإلى رضاء الله (تبارك وتعالى) مقبولاً مشكوراً مثاب عليه.
أيها الأخ المسلم هكذا ذُكِرَت أوصاف بعض أنواع وألوان التنعيم للأبرار، وكلنا يعلم أن ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. وقد جاء ذكر بعض أنواع العذاب في أول السورة ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ وها هي أوصاف النعيم والذي أُعِدَّ للأبرار، فاختر لنفسك أيهما تختار.
أوضحت السورة مصير الناس فهم فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير. بَيَّنَت كل ذلك وأصر الكفار على كفرهم وأصر أهل مكة على إيذائهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) فنزلت الآيات تشد أزر النبي (صلى الله عليه وسلم) وهي تسري عنه. يقول الله (عز وجل):
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ يُطاف عليهم؛ لا تعب ولا نصب في طلب الطعام أو في طلب الشراب، بل هم متكئون على الأرائك. ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وهذا لا ينفي أن هناك آنية من ذهب، إذ جاء في موضع آخر: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ﴾ [سورة الزخرف آية: ٧١] فتارة يُطاف عليهم بصحاف الفضة وتارة يُطاف عليهم بصحاف الذهب. أرأيتم فضة الدنيا؟ تُرى أفضة الآخرة كفضة الدنيا؟ هل يُعقَل ذلك؟ فضة الدنيا فانية وفضة الآخرة باقية، فضة الدنيا يصنعها الناس وإن كان الله خلقها وفضة الآخرة صنعها الله. آنية لم يصنعوها صُنِعَت لهم، هكذا خُلِقَت. ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ كانت، أكواب كانت، كانت في الماضي. ما معنى كانت؟ يُشعِرُك الكلام بأنها كانت في علم الله من الأزل وأن الصانع هو الله . كانت" لأن الله هو الذي خلقها كذلك، خُلِقَت كذلك قوارير. والقوارير: جمع قارورة، والقارورة: الإناء من زجاج شفاف يوضع فيه الشراب ويستقر، تلك هي القارورة. الأكواب: جمع كوب، والكوب: القدح بغير عُروة، بغير أُذُن. ﴿وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ ويدركك الكلام لكي لا تعتقد أنها من زجاج كزجاج الدنيا فيقول: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ جمعت بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضه ولينها، هل لذلك شبيه في الدنيا؟ هل لو اجتمع علماء الدنيا وسُخِّرَت لهم مصانع الدنيا لإنتاج فضة شفافة هل يمكن؟ أبداً والله! قُرِأَت (قوارير) وفي الوقف أيضاً كذلك ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾. وقُرِئت بالتنوين ﴿كانت قواريراً (١٥)قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وحين الوقف لابد من إثبات الألف. وقُرِئت بحذف الألف في الإثبات ﴿كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾ ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾. ومن نَوَّن (قوارير) نَوَّن "سلاسل" في أول السورة ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ من نَوَّنَ هناك لابد أن يُنَوِّن هنا، ومن حذف التنوين هناك حذف التنوين هنا على أساس القاعدة التي تقول: إن كل جمع فيه بعد الألف ثلاثة حروف أو حرفان أو حرف مشدد لا يُصَرَّف، ثلاثة حروف كقناديل، قوارير. حرفان كما جاء في القرآن: صوامع ومساجد ﴿ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [سورة الحج آية آية: ٤٠] ليس فيها تنوين. والحرف المشدد كدواب. تلك قاعدة قُرِئ على أساسها بقراءة حفص بغير تنوين، بقوارير. وقرأ بعضهم بالتنوين كما قلنا. ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ من الذي قَدَّرَها؟ قالوا قَدَّرَتها الملائكة. وقالوا قَدَّرَها الشاربون فجاءت وفق تقديرهم. وقيل بل قَدَّرَها الطائفون بها -الولدان المخلدون- قَدَّروها بحسب حجم الأكف، فلا هي كبيرة ثقيلة تثقل كف الشارب ولا هي مفرطة الصغر وبغير آذان وعُرَى حتى لا يضطر إلى تدويرها بل تُمسَك من كل جانب. وقيل قَدَّروها: أي قَدَّروا ما فيها فجاءت على قدر اشتهاء الشاربين فلا يَفضُلُ منهم شيء ولا يشتهون مزيداً، فتأتي الأكواب فيها من الشراب على قدر اشتهاء الشارب لا زيادة ولا نقصان، لايقول أريد مزيداً ولا يترك فيها شيئاً. وقُرِئت ﴿قُدِّرُوها تقديراً﴾ أي قُدِّرَت لهم على وفق اشتهائهم. قيل قُدِّرُوها بحُسنِ عملهم فاستحقوها في الجنة. يطوف عليهم الولدان بهذه الأكواب التي كانت قوارير، تُرى ما الذي في هذه القوارير؟ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا﴾ في هذه الأكواب ﴿كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾ الكأس كما قلنا: الإناء فيه الخمر ولا يطلق على الإناء كأس إلا إن كان فيه خمر ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا﴾ أي يُسقَون فيها خمراً. ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾ خليطها. المزيج والممزوج كالخليط والمخلوط، مزج الشئ بشيء آخر. الزنجبيل: الشراب الصِّرف للمقربين، أما الأبرار فيأخذون منه مزاجاً فقط. خليط هذه الكأس، خليط هذا الشراب زنجبيلاً، وكلنا يعرف الزنجبيل. وكانت العرب تحب أن تخلط شرابها بالزنجبيل لطيب رائحته، لكن الزنجبيل فيه لذعة حريف. من هنا جاء الكلام ينفي عن زنجبيل الآخرة تلك اللذعة فيقول: ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ والسلسبيل لا لذع فيه. فالزنجبيل اسم يوافق ما في الدنيا من هذا الشيء والحقيقة شيء آخر، ولكن الكلام يحض الناس على السعي للنعيم الذي ظنوه في الدنيا منتهى التنعم فيحضهم على ذلك ويأتي لهم بأسماء تشابه أسماء أصناف النعيم في الدنيا فيسعون لذلك، فإذا ذهبوا إلى هناك فوجئوا أن نعيم الآخرة ليس ككل نعيم. ﴿عَيْنًا فِيهَا﴾ في الجنة ﴿تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ عيناً. وكأنهم يُسقَون كأساً أي يُسقَون عيناً بدلاً من كأس، وكأن الأكواب تُملَأ من هذه العين. ولذا قال بعض الناس عن الأكواب التي قَدَّرُوها تقديراً، قالوا إن الأكواب والكلام عن الأكواب هي التي تطير في الجنة وتقترف من العيون على قدر اشتهاء الشاربين وتأتيهم بغير أن يحملها أحد. ماهو السلسبيل؟ السلسبيل: من السلاسة، شراب سَلِس وسَلْسَل وسَلْسال وسلسبيل: سهل الانحدار في الحلق، طيب ولذيذ لا تأتيك منه غُصَّة أبداً، ذاك هو السلسبيل. تلك عين لها اسم، هذا الاسم: تُسَمَّى سلسبيل، من الذي سماها؟ الله. من عرف اسمها؟ الملائكة والمقربون وأهل الجنة والنعيم، هي عندهم بهذا الاسم ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ شرابها ينحدر في الحلق. وكلمة سلسبيل تنفي عن الزنجبيل اللذعة الموجودة في زنجبيل الدنيا، لأن اللذعة تتنافى مع سهولة الانحدار في الحلق. وقال بعضهم: سلسبيلاً ليست مشتقة من السلاسة والسَّلْسَل والسَّلْسال، وإنما هي بمعناها (سل سبيلاً) . سل: أي اسأل، سبيلاً: أي طريقاً. فسُمِّيَت العين سلسبيلاً لأن الناس العاقلون يسألون عنها سبيلاً فيطيعون الله ويسعون إلى رضائه حتى يصلون إلى هذه العين ويتنعمون بشرابها فسميت سلسبيلاً أي: سل عنها سبيلاً حتى تستحق أن تشرب منها.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الآية تدل على أن الطواف بالآنية وبالأكواب بمعرفة الولدان، والولدان: جمع وَلَد، لكن الله (تبارك وتعالى) وصفهم بالخُلد، معناه أنهم يبقون على نضارتهم وصفاء أبشارهم وجمال ألوانهم وإشراق وجوههم على سن واحدة، لا يهرمون ولا يمرضون ولا يتعبون ولا يكلون. ﴿وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الخُلد على هذه السن، على هذه الهيئة. وقال بعضهم التخليد: التحلية، فهم مُسَوَّرون مُقَرَّطون، يلبسون الأقراط في آذانهم ويلبسون الأساور في أيديهم فهم مخلدون. خَلَّدَه: حَلَّاه بالحُلِيِّ. ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾ إذا رأيت الولدان. ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ والتشبيه العجيب أن اللؤلؤ إذا نُثِر كان أصفى وأنقى وأجمل منه منظوماً، وجَرِّب ايتِ باللؤلؤ وانظمه في عُقْد وانظر إليه ثم افرطه وانثره على الأرض وانظر إليه تجد أنه منثوراً أجمل وأصفى وأنقى منه منظوماً. فشَبَّه الولدان باللؤلؤ المنثور. والوصف أيضاً يُشعِر بأنهم كثير وأنهم مشرقون مضيئون، ينعكس ضياء أحدهم على ضياء الآخر فهم يتلألؤون كاللؤلؤ فهو كاللولو واللؤلؤ واللؤلو، يتلألئون كالنجوم في السماء وإشراقهم وضياؤهم ينعكس أضواؤه وأطيافه على بعضهم البعض. وحين وصف الحور العين قال كأنهم اللؤلؤ المكنون. واللؤلؤ المكنون لأن نساء الجنة لا تمتهن بالخدمة ولا تتعرض للأبصار فهن قاصرات الطرف. أما الولدان فهم ممتهنون بالخدمة منشرون في الجنة كأنهم لؤلؤ منثور، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ "رأيت" هنا فعل ليس له مفعول ملفوظ أو مُقَدَّر، فهو لفظ عام يعني أينما وقع بصرك. (ثَمَّ) ظرف مكان بمعنى هناك، أي وإذا رأيت هناك في الجنة، أينما وقع بصرك في الجنة ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ ﴿نعيماً﴾ نكرة، ولم يذكر صنف النعيم، ولم يُعَرِّف ذلك النعيم الذي وقع بصرك أينما وقع في الجنة رأيته. إذا ﴿رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ في الجنة؛ في أي موضع، في أي مكان، حيثما وقع بصرك فوجئت بالنعيم، أي نعيم هذا؟! نعيماً وملكاً كبيراً. وهنا توقف المفسرون: ما هو المــُلك الكبير؟ فمن قائل: الملك الكبير سلام الملائكة عليهم، ومن قائل: الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٣] ومن قائل: الملك الكبير تيجان على رؤوسهم كتيجان الملوك في الدنيا ولكن مع الفارق، ومن قائل: أن الملك الكبير مُلكٌ لا يتعقبه هلاك، أي دائم لا تخشى أن يزول منك أو يغصبه غاصب، ومن قائل: لايُعرَف ويُكتَفَى فيه بما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن أدنى الناس منزلة في الجنى من ينظر في مُلكِهِ مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يرى أدناه) لا تحجب رؤيته أشياء بعد، لا تحجب ولا يقلل من الرؤية، يرى أقصي ملكه كما يري أدنى ملكه مسيرة ألفي عام. (عاليهم - عليهم - عاليتهم) ثلاث قراءات. ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾. السندس: ما رَقَّ من الحرير. والإستبرق: ما غَلُظَ من الحرير. فاللباس لباس حرير، والحرير أنواع منه الرقيق الخفيف الشفاف ويُسَمَّى سندس، ومنه الغليظ الثخين المـــُوَشَّى ويسمى إستبرق. ﴿عَالِيَهُمْ﴾ على الأبرار، على أهل الجنة الثياب الخارجية ولم يأتِ ذكر للثياب الداخلية، ولك أن تتخيل عاليهم أو عاليهم أو عاليتهم ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ أي ثياب حرير ﴿سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾ نعت لـــ (ثياب). ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ أي وثياب من إستبرق أيضاً. ونعت لـــ (سندس) إذا قُرِئت بالجر ﴿سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾. ﴿وإستبرق﴾ قُرِئت كذلك بغير صرف. وقُرِئت ﴿وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ استفعل من البريق، أي لها بريق، ثياب لها بريق. ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ﴾ هناك حُلِيّ حَلَّاهم الله به. (أساور من فضة) هل هي من فضة أم من ذهب أم من لؤلؤ؟ ففي موضع آخر يقال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [سورة فاطر آية: ٣٣] فقالوا: تارة يلبسون الفضة وتارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون اللؤلؤ. وقيل: بل لهم بين الفضة والذهب واللؤلؤ. وقيل: جاء بذكر الفضة مكتفياً بها عن ذكر الذهب مشيراً إليه. وقيل: بل هم على اشتهائهم، فإذا اشتهى الفضة لبسها وإذا اشتهى الذهب لبسه وإذا اشتهى اللؤلؤ لبسه. وقيل: على حسب أعمالهم. ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ الساقي هو الله. ذاك شراب آخر. ذاك نوع فوق الوصف! فهم يشربون تارة كأساً ممزوجاً بالكافور كما جاء في أول السورة، ويشربون تارة كأساً ممزوجاً بالزنجبيل كما جاء في السورة، وها هنا شراب آخر: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ ولم يذكر نوع الشراب. قالوا فيه ما قالوا وأصح ما قيل فيه أن باب الجنة عيناً تجري من أصل شجرة تُمَدُّ من العرش يشرب منها أهل الجنة، فإن شربوا من هذه العين تنضرت أبشارهم وأضاءت وجوههم وذهب تفثهم وشعثهم وذهب عن جسمهم القذى والأذى والنجس وما إلى ذلك من داخل الجسم، فهي تطهرهم ظاهراً وباطناً وتُذهِب من قلوبهم الغل والغش والحسد والحقد، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ [سورة الحجر آية: ٤٧] فإن شرب ولي الله من هذه العين الطهورة ذهب الغل من صدره والحسد والحقد والطمع كل ذلك ذهب وذهب من أمعائه القذى والأذى، فإن أكل أو شرب خرج كل ذلك كرشح المسك، والصدور ناصعة خالية من كل سوء. حينئذ تقول لهم ملائكة الله: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [سورة الزمر آية: ٧٣] نعم! طابوا من هذا الشراب، طابوا وطابت نفوسهم وطابت أبدانهم وطابت أجوافهم كذلك. ذاك أصح ما قيل في هذه الآية ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ وإن كان بعض الناس قال إن هذا الشراب يُسقَوه بعد الأكل والشراب في الجنة، بعد ما يأكلون ويشربون ويتنعمون يختمون شرابهم بهذا الشراب الطهور حتى يذهب عنهم كل أثر فيحبون ويشتهون الأكل والشراب مرة أخرى، وكل ما أكلوه وشربوه يخرج على هيئة الرشح من أبدانهم كطيب المسك. وقال بعضهم: بل هذا الشراب شراب خاص إذا شربه الولي -لأن أهل الجنة كلهم أولياء، أولياء الله تولاهم في الدنيا ويتولاهم في الآخرة- ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة يونس آية: ٦٢] إذا شربه ولي الله في الجنة انصرف عنه أي اشتهاء لأي نعيم، حتى نعيم الجنة، وخلص واستعد لينعم بلقائه والنظر إلى وجهه الكريم والبقاء ببقائه، فذاك شراب يجهز أهل الجنة للنظر إلى وجه الله (تبارك وتعالى) ولذلك نسب الفعل وأسنده إلى الله ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾. ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي يُقال (إن هذا): هذا النعيم الذي ترونه؛ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ كل ما ذُكِرَ وفوق ما ذُكِرَ، يُقال لهم ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ﴾ جزاء أعمالكم الصالحة. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي مقبولاً، لأن الله (تبارك وتعالى) إذا قبل العمل من العبد شَكَرَه، وإذا شَكَرَه أَثبَتَه وأثابه عليه وأثنى عليه. وقد أثنى ربنا (تبارك وتعالى) على عباده الصالحين، أثنى عليهم في القرآن كثيراً، ذاك الثناء هو شُكرُه لأعمالهم. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أي سعيكم إلى الله (تبارك وتعالى) وإلى رضاء الله (تبارك وتعالى) مقبولاً مشكوراً مثاب عليه.
أيها الأخ المسلم هكذا ذُكِرَت أوصاف بعض أنواع وألوان التنعيم للأبرار، وكلنا يعلم أن ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. وقد جاء ذكر بعض أنواع العذاب في أول السورة ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ وها هي أوصاف النعيم والذي أُعِدَّ للأبرار، فاختر لنفسك أيهما تختار.
أوضحت السورة مصير الناس فهم فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير. بَيَّنَت كل ذلك وأصر الكفار على كفرهم وأصر أهل مكة على إيذائهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) فنزلت الآيات تشد أزر النبي (صلى الله عليه وسلم) وهي تسري عنه. يقول الله (عز وجل):
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ تَنزِيلًۭا ﴿23﴾
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًۭا ﴿24﴾
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةًۭ وَأَصِيلًۭا ﴿25﴾
وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُۥ وَسَبِّحْهُ لَيْلًۭا طَوِيلًا ﴿26﴾
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا﴾ الكلام فيه تأكيد بإعادة الضمير ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ أعاد الضمير للتأكيد ليؤكد للنبي (صلى الله عليه وسلم) ويؤكد للناس الشاكِّين في دعوته المتهِمين له في نبوته ويؤكد للجميع أن هذا القرآن كلام الله نزل بعمله وهو الذي أنزله. والتنزيل غير الإنزال، الإنزال دفعة واحدة، والتنزيل على دفعات. ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾ لأن القرآن لم يُنَزَّل جملة واحدة، بل نَزَل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً بحسب المناسبات وبحسب الأسئلة، مُتَدَرِّجاً بالناس من الجاهلية الصِّرف إلى الإيمان والنور، يخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، فنزل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً آية آية، وسورة سورة، بعض الآيات ثم بعض الآيات، هكذا على مدار ثلاث وعشرين سنة ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ يُصَبِّرُه ربنا تبارك وتعالى ويقول له اصبر على قضائي وائتمر بأمري وأدِّ ما عليك و كِلْ أمرَهم إليَّ فأنا السميع البصير. اصبر على تأخير العذاب لأهل مكة والمشركين، اصبر حتى يأتي وعد الله بالنصر، اصبر على الحُكم فهو الحَكَم العدل، واصبر على قضائه. ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ وقال لـــ (ربك) والكلمة تُشعِر بالاهتمام والعناية والرعاية، ولم يقل "واصبر لحكم الله" بل قال "لحكم ربك" ربك أنت، والرب: المربي، الرب: الذي يتولى تربية الشيء، الرب: الذي يتولى إيصال الشيء إلى منتهى كماله بحسب استعداده شيئاً فشيئاً. فكلمة الرب تُشعِر بالاهتمام والعناية والرعاية والهداية والكفاية. ولذا قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ الآثم: كثير الإثم مرتكب المعاصي العاصي لله ولرسوله الله. والكفور: الموغِل في كفره المنكِر لوحدانية الله، أو المنكِر لوجود الله، أو الشرك مع الله شيئاً. وهنا قال: "أو" بدلاً من الواو ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ .قال بعضهم: "أو" هنا بمعني "لا" أي ولا تطع منهم آثماً ولا كفوراً. وقال بعض النحاة -وذاك أصح الأقوال- "أو" هنا آكَد من الواو لأنك لو قلت: لا تأكل اللحم والسمك، فإن أكلتَ لحماً فقط لم تَعصِ القول وإن أكلت سمكاً فقط لم تَعصِ القول. لاتُطِع فلاناً وفلاناً أي لا تُطِع الاثنين معاً، فإن أطعت واحداً لم تَعصِ بهذه الطاعة ما صدر إليك من أمر. فلو قال "لا تطع منهم آثما وكفوراً" لو أطاع الآثم فقط أو لو أطاع الكفور فقط لم يَعصِ، فقال "لا تطع منهم آثما أو كفوراً" بمعنى أن كُلَّاً من الوصفين ينطبق عليه وجوب العصيان، إذاً فلا تطع الآثم ولا تطع أيضاً الكفور، فجاءت بحرف "أو" بدلاً من الواو لتأكيد النهي. أيضاً يُفهَم من الآية أمر آخر؛ أن العصيان المأمور به هنا في الوصفين: في الإثم والكفر، وكل من أَمَرَ بإثم لا يُطاع، وكل من أَمَرَ بكُفر لا يُطاع. أما الطاعة فيما سوى الإثم والكفر فهي جائزة إذا قال لا تطع منهم آثماً أو كفوراً.
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ ذِكرُ الله، ذِكرُ الله في الصلاة وفي خارج الصلاة، الذِّكرُ المطلق سواء في الصلاة أو في خارج الصلاة بالتسبيح والتحميد والتهليل. أَمَرَهُ بالذِّكر بعد الصلاة، تُرى ما علاقة الذكر بالصلاة؟ الذِّكر سلاح الصبر، الذِّكر عدة الصابر، بغير ذكر لا يكون هناك صبر. ولذا تجد في موضع آخر يأمر الله (تبارك وتعالى) المؤمنين الأوائل فيقول لهم: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [سورة البقرة آية: ٤٥] لأن ذكر الله (تبارك وتعالى) يعينك على الصبر، لأنك إذا ذكرتَ الله علمتَ أن الله يرى ويسمع، وعلمتَ أن الله لا يرضى بالظلم، وعلمتَ أن الله (تبارك وتعالى) يثيب الطائع ويعاقب ويجازي العاصي، وعلمتَ أن الله (تبارك وتعالى) وَعدُهُ مفعول، فذِكرُكَ لله يُدخِلُ الطمأنينة على قلبك ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٨]. ذِكرُ الله (تبارك وتعالى) أكبر شيء في الوجود هو ذِكرُ الله، وأحق كلام هو ذِكرُ الله. والذِّكر: القرآن، لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر آية: ٩] ربنا سمى القرآن ذكراً. وقال أيضاً ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل آية: ٤٤]، وسُمِّيَ القرآن ذكراً لأن فيه ذكر الله، ولأن العبد بقراءة القرآن يذكر الله. وربنا (تبارك وتعالى) حين أمر بالطاعة ووَجَّهَ إلى سُبُل الرضا أمر بإقامة الصلاة، والصلاة ذِكر، وقال: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٥]. وذِكرُ الله (تبارك وتعالى) يُطلَق على الصلاة ويُطلَق على قراءة القرآن ويُطلَق على التسبيح. والذِّكرُ منه المطلق ومنه المقيد؛ فالذكر المقيَّد هو الذِّكر في الصلاة، بالتسبيح، بقراءة القرآن، بالحمد، وهكذا. وذِكرُ الله المطلَق هو ذِكرُ العبد بلسانه لله في كل آن وحين، كما قالت عائشة (رضي الله عنها): كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر الله على كافة أحواله. والإنسان وإن كان جُنُباً لا يُمنَع من ذكر الله، فالمؤمن لا ينجس، وإنما يُمنَع من الصلاة ويُمنَع من دخول المساجد ويُمنَع من قراءة القرآن، ولكنه لا يُمنَع من التحميد والتهليل والتكبير والتسبيح وذكر الله، فتسلم عليه ويرد عليك السلام ويسمي قبل الأكل ويحمد الله بعد الأكل وهكذا، فذكر الله لا مانع له، وإن امتنع اللسان لآفة اشتغل القلب بالذكر، فذكر الله (تبارك وتعالى) يكون باللسان ويكون أيضاً بالجنان، وأعلى درجات الذكر ما كان بالقلب، لأن الذكر بالقلب لا يسمعه إلا الله فهو ذكر خالص، فيه الخلوص لا رياء فيه ولا نفاق، ولذلك كان أكبر. كما وأن قراءة القرآن هي أعلى درجات الذكر، لأنك مهما ذكرتَ الله ومهما سبحت فأعلى درجات الذكر أن تذكره بكلامه وأن تناجيه بكلامه، لذا كانت قراءة القرآن مشهودة ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٨]. من هنا حين أَمَرَ الله (تبارك وتعالى) نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالصبر على أذى قريش وعلى أذى الكفار وأَمَرَه بانتظار الفرج -وانتظار الفرج عبادة- حيث قال له: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾. الصبر: انتظار الفرج، والصبر عبادة، والصبر منه الجميل وهو الصبر الذي لا شكوى فيه وإنما شكواك لله ولا يعرف ما بك إلا الله، ذاك هو الصبر الجميل، صبر الرسل والأنبياء، صبر يعقوب حين قال لبنيه: فصبر جميل، صبر لا شكوى فيه، لا تشتكِ الله لأحدٍ من خلقه. أمره ربنا بالصبر وعدم طاعة الآثمين والكافرين ثم أمره بالذكر: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) إن كان الذكر مقصود به هنا الصلاة فالآية في الصلوات الخمس، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً﴾ والبُكرَة: أول النهار -صلاة الفجر- والأصيل: من بعد الزوال إلى قبل الغروب يشمل صلاتي الظهر والعصر. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ و"من" هنا للتبعيض، مِن بعض الليل تشمل صلاتي المغرب والعشاء. ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾ صلاة التهجد؛ قيام الليل. والذكر يُقصَد به الصلاة، وكأن الأمر هنا أَمرٌ بالصلوات الخمس. أو تُقصَد بكلمة الذكر: الذِّكر المطلَق. والذكر المطلق هو ذكرك لله باللسان، بالتسبيح بالتحميد بالتهليل بالتكبير بالاستغفار بقراءة القرآن، وذكرك أيضاً بالقلب، وذكرالله بالقلب أمر غاية في الأهمية وعلو الشأن ولا يقدر عليه كل إنسان ولكن من ذاق عرف، ويقدر عليه من يوفقه الله (تبارك وتعالى) لذلك حيث يتسع القلب لعظمة الله (عز وجل) حيث يرجف القلب ويرتعد بمجرد الذكر ﴿إذا ذُكِرَ الله وجلت قلوبهم ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢] هؤلاء قلوبهم معلقة بذكر الله (تبارك وتعالى) ذاك ذكر مطلق، في كل وقت وحين يتفكر في آيات الله وفي خلق السموات والأرض، في كل شيء تجد القلب يقظاً متفتحاً متفهماً لآلاء الله ونعمه، مؤمناً بقضاء الله وقَدَرِه، مستسلماً يميل مع القضاء والقدر كما تميل خامة الزرع مع الريح، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، ذاك هو ذكر القلب. (وسبحه ليلاً طويلاَ) والأمر بتسبيح الله بالليل صلاة الليل، والآية على الوجوب إذا كان قيام الليل في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) واجباً كما قيل في تفسير سورة المزمل وأنه مُكَلَّف بقيام الليل حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، فالآية على الوجوب خاصة به. وإن كان وجوب القيام في حقه منسوخ كما هو منسوخ في حق الأمة فالآيه على الندب، يُندَب لك ذلك ويُستَحَب لك قيام الليل، لأن قيام الليل نُسِخَ بالصلوات الخمس في حق الأمة، ونُسِخَ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) في بعض الأقوال وبقي واجباً في حقه في أقوال أخرى كما جاء في سورة المزمل. قيام الليل كما وُصِف -وصفته عائشة- كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له: غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "إني أحب أن أكون عبداً شكوراً."
وينتقل الكلام للمكذبين والمعاندين تبكيتاً وتوبيخاً لهم :
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ ذِكرُ الله، ذِكرُ الله في الصلاة وفي خارج الصلاة، الذِّكرُ المطلق سواء في الصلاة أو في خارج الصلاة بالتسبيح والتحميد والتهليل. أَمَرَهُ بالذِّكر بعد الصلاة، تُرى ما علاقة الذكر بالصلاة؟ الذِّكر سلاح الصبر، الذِّكر عدة الصابر، بغير ذكر لا يكون هناك صبر. ولذا تجد في موضع آخر يأمر الله (تبارك وتعالى) المؤمنين الأوائل فيقول لهم: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [سورة البقرة آية: ٤٥] لأن ذكر الله (تبارك وتعالى) يعينك على الصبر، لأنك إذا ذكرتَ الله علمتَ أن الله يرى ويسمع، وعلمتَ أن الله لا يرضى بالظلم، وعلمتَ أن الله (تبارك وتعالى) يثيب الطائع ويعاقب ويجازي العاصي، وعلمتَ أن الله (تبارك وتعالى) وَعدُهُ مفعول، فذِكرُكَ لله يُدخِلُ الطمأنينة على قلبك ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٨]. ذِكرُ الله (تبارك وتعالى) أكبر شيء في الوجود هو ذِكرُ الله، وأحق كلام هو ذِكرُ الله. والذِّكر: القرآن، لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر آية: ٩] ربنا سمى القرآن ذكراً. وقال أيضاً ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل آية: ٤٤]، وسُمِّيَ القرآن ذكراً لأن فيه ذكر الله، ولأن العبد بقراءة القرآن يذكر الله. وربنا (تبارك وتعالى) حين أمر بالطاعة ووَجَّهَ إلى سُبُل الرضا أمر بإقامة الصلاة، والصلاة ذِكر، وقال: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٥]. وذِكرُ الله (تبارك وتعالى) يُطلَق على الصلاة ويُطلَق على قراءة القرآن ويُطلَق على التسبيح. والذِّكرُ منه المطلق ومنه المقيد؛ فالذكر المقيَّد هو الذِّكر في الصلاة، بالتسبيح، بقراءة القرآن، بالحمد، وهكذا. وذِكرُ الله المطلَق هو ذِكرُ العبد بلسانه لله في كل آن وحين، كما قالت عائشة (رضي الله عنها): كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر الله على كافة أحواله. والإنسان وإن كان جُنُباً لا يُمنَع من ذكر الله، فالمؤمن لا ينجس، وإنما يُمنَع من الصلاة ويُمنَع من دخول المساجد ويُمنَع من قراءة القرآن، ولكنه لا يُمنَع من التحميد والتهليل والتكبير والتسبيح وذكر الله، فتسلم عليه ويرد عليك السلام ويسمي قبل الأكل ويحمد الله بعد الأكل وهكذا، فذكر الله لا مانع له، وإن امتنع اللسان لآفة اشتغل القلب بالذكر، فذكر الله (تبارك وتعالى) يكون باللسان ويكون أيضاً بالجنان، وأعلى درجات الذكر ما كان بالقلب، لأن الذكر بالقلب لا يسمعه إلا الله فهو ذكر خالص، فيه الخلوص لا رياء فيه ولا نفاق، ولذلك كان أكبر. كما وأن قراءة القرآن هي أعلى درجات الذكر، لأنك مهما ذكرتَ الله ومهما سبحت فأعلى درجات الذكر أن تذكره بكلامه وأن تناجيه بكلامه، لذا كانت قراءة القرآن مشهودة ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٨]. من هنا حين أَمَرَ الله (تبارك وتعالى) نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالصبر على أذى قريش وعلى أذى الكفار وأَمَرَه بانتظار الفرج -وانتظار الفرج عبادة- حيث قال له: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾. الصبر: انتظار الفرج، والصبر عبادة، والصبر منه الجميل وهو الصبر الذي لا شكوى فيه وإنما شكواك لله ولا يعرف ما بك إلا الله، ذاك هو الصبر الجميل، صبر الرسل والأنبياء، صبر يعقوب حين قال لبنيه: فصبر جميل، صبر لا شكوى فيه، لا تشتكِ الله لأحدٍ من خلقه. أمره ربنا بالصبر وعدم طاعة الآثمين والكافرين ثم أمره بالذكر: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) إن كان الذكر مقصود به هنا الصلاة فالآية في الصلوات الخمس، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً﴾ والبُكرَة: أول النهار -صلاة الفجر- والأصيل: من بعد الزوال إلى قبل الغروب يشمل صلاتي الظهر والعصر. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ و"من" هنا للتبعيض، مِن بعض الليل تشمل صلاتي المغرب والعشاء. ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾ صلاة التهجد؛ قيام الليل. والذكر يُقصَد به الصلاة، وكأن الأمر هنا أَمرٌ بالصلوات الخمس. أو تُقصَد بكلمة الذكر: الذِّكر المطلَق. والذكر المطلق هو ذكرك لله باللسان، بالتسبيح بالتحميد بالتهليل بالتكبير بالاستغفار بقراءة القرآن، وذكرك أيضاً بالقلب، وذكرالله بالقلب أمر غاية في الأهمية وعلو الشأن ولا يقدر عليه كل إنسان ولكن من ذاق عرف، ويقدر عليه من يوفقه الله (تبارك وتعالى) لذلك حيث يتسع القلب لعظمة الله (عز وجل) حيث يرجف القلب ويرتعد بمجرد الذكر ﴿إذا ذُكِرَ الله وجلت قلوبهم ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢] هؤلاء قلوبهم معلقة بذكر الله (تبارك وتعالى) ذاك ذكر مطلق، في كل وقت وحين يتفكر في آيات الله وفي خلق السموات والأرض، في كل شيء تجد القلب يقظاً متفتحاً متفهماً لآلاء الله ونعمه، مؤمناً بقضاء الله وقَدَرِه، مستسلماً يميل مع القضاء والقدر كما تميل خامة الزرع مع الريح، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، ذاك هو ذكر القلب. (وسبحه ليلاً طويلاَ) والأمر بتسبيح الله بالليل صلاة الليل، والآية على الوجوب إذا كان قيام الليل في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) واجباً كما قيل في تفسير سورة المزمل وأنه مُكَلَّف بقيام الليل حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، فالآية على الوجوب خاصة به. وإن كان وجوب القيام في حقه منسوخ كما هو منسوخ في حق الأمة فالآيه على الندب، يُندَب لك ذلك ويُستَحَب لك قيام الليل، لأن قيام الليل نُسِخَ بالصلوات الخمس في حق الأمة، ونُسِخَ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) في بعض الأقوال وبقي واجباً في حقه في أقوال أخرى كما جاء في سورة المزمل. قيام الليل كما وُصِف -وصفته عائشة- كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له: غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "إني أحب أن أكون عبداً شكوراً."
وينتقل الكلام للمكذبين والمعاندين تبكيتاً وتوبيخاً لهم :
إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًۭا ثَقِيلًۭا ﴿27﴾
نَّحْنُ خَلَقْنَـٰهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ۖ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـٰلَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ الإشارة إلى كفار مكة إذا كانت الآيات من أول قوله: (إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) نزلت بمكة كما قلنا في أول السورة، والسورة مدنية في أولها، فإن كان هذا الكلام نزل بمكة فالكلام لكفار مكة. وإن كانت السورة مدنية كما قيل فالكلام توبيخ لليهود الذين كتموا صفة النبي (صلى الله عليه وسلم) في توراتهم؛ فقد كُتِبَ في التوراة اسمه ووصفه فمحوها وكتموها ابتغاء الحياة الدنيا، أخذوا الرش مقابل الكتمان. أو الآيات لتوبيخ وتبكيت المنافقين الذين آثروا العاجلة وأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر حتى يحصلون على ما يحصل عليه المسلمون من أمن وأمان وغنائم. والآيه نعم لليهود والمنافقين وكفار مكة سواءا أنزلت بمكة أم نزلت بالمدينة ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ والإشارة لليهود الذين كتموا صفة النبي (صلى الله عليه وسلم) الإشارة لأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويكتمون الحق وهم يعلمون، والإشارة لكفار مكة؛ أهله وعشيرته وقومه وقبيلته الذي تربى ونشأ وترعرع فيهم وعلموا فيه الصدق والأمانة حتى لقبوه بالصادق الأمين، ثم حين جاءهم بالنبوة كَذَّبوه، كيف يَدَعُ الكذب على الناس ويكذب على الله؟! الكلام توبيخ لهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء. ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ والعاجلة: الدنيا، وسميت الدنيا بالعاجلة لأنها تمضي على عجل، ومضى العمر بنا جميعاً، وكل واحد منا لو نظر إلى الماضي كم من السنين عاش لوجد أنها مرت كلمح البصر، الدنيا كلها تمر كلمح البصر، فسميت عاجلة لأنها تمضي على عجل. هؤلاء يحبون العاجلة، يحبون الدنيا ونعيمها الزائف. ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ﴾ يتركون خلف ظهورهم، يطرحون وراءهم يوماً ثقيلاً؛ يوم القيامة أثقل الأيام على الإطلاق، يوماً ثقيلاً لطوله؛ طوله خمسون ألف سنة. يوماً ثقيلاً لأهواله وكروبه وهمومه، فالكل يقول نفسي ثم نفسي، وتنادي الأم على ولدها: ألم يكن بطني لك وعاءاً وثديي لك غذاءاً وحِجري لك وِطاءاً؟ فيقول: إليكِ عني فإني بذنبي اليوم عنكِ مشغول! يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه. نعم! يوماً ثقيلاً لأن فيه القضاء؛ قضاء الحَكَم العَدل، لا تخفى منهم خافية ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ١٨] فالأقوال والأعمال والهمسات واللمسات والخواطر كل ذلك مسطور، كل ذلك يظهر ويصبح منشوراً على الملأ فمن قائل: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية: ١٩] ومن قائل: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية: ٢٥] نعم! ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً.
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ والآية لا زالت في التوبيخ وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول لهؤلاء كيف أخلقكم وتعبدون غيري؟ كيف أرزقكم وتلجؤون لغيري؟ نحن خلقناكم، نعم! الله (تبارك وتعالى) هو الخالق البارئ المصور، وخلق الإنسان في أحسن صورة. ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ الأَسْر: القوة، الأَسْر: الخَلْق؛ ذاك تفسير المفسرين. شددنا أسرهم: شددنا خَلْقَهم، أي جعلنا الخَلْقَ كاملاً متكاملاً وجعلنا لهم القوى والحركة. فالأَسْر هو القُوى وأصل الكلمة يساعد في فهم المضمون. الأَسْر من الِإسار، والإسار: القَيد، الحبل من الجلد الذي يُشَدُّ به على الأقتاب، على ظهور الجمال، القُتُب يوضع على ظهر الجمل ليَركب عليه الراكب، يُشَدُّ حول وسط الناقة بقيد يُسَمَّى الإسار كما تُشَدُّ السرج على ظهور الخيل. فهذه السيور التي تُشَدُّ بها الأقتاب يسمى الواحد منها إسار، ولذا سمي الأسير أسيراً لأنه يُكَتَّف بالإسار. ذاك أصل الكلمة ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾، من هنا ينطلق العقل متأملاً في خلق الإنسان كيف شُدَّ أسرُه؟ وحين تقول للإنسان أو لأخيك بِعتُكَ هذا الشيء أو خذ هذا الشيء بأسره، بجُملَتِه، وكأنه لا يزال مربوطاً ولم يُفَضّ ولم ينقص منه شيء، خذه بأسره، بكُلِّه، بكُلِّ ما فيه حتى القيود والرباط الذي رُبِطَ به، لم يُفَكّ ولم يُفَضّ. من هنا قد يُقال كما قال الناس رُبِطَ الجسم بعضه ببعض فها هي الأصابع اتصلت بالأكف، وهاهي الأكف اتصلت بالأذرع، وهاهو الذراع اتصل بالكتف، واتصلت الرأس بالعنق، والعنق بالصدر، واتصل الصدر بالبطن، واتصل الجذع بالساق، واتصلت الساق بالرُّكَب، والرُّكَب بالأرجل، والأرجل بالأقدام، والأقدام بالأصابع. كل شيء مترابط، كل شيء متصل بالمفاصل، بالعضلات، بالأعصاب، فكأن خلق الإنسان شُدَّ بعضه إلى بعض ورُبِطَ بعضه ببعض فلا ينفصل ولا ينفصم، لا تشير بذراعك فإذا به طاش في الهواء، هو مربوط بجسمك، ولسانك مربوط بحلقك، مهما تكلمت وحَرَّكْتَه لا يسقط ولا يقع. وقال بعض الناس: الآية تشير أيضا إلى فتحات الجسم التي يخرج منها الفضلات، تنفتح فتخرج الفضلات فإذا خرجت الفضلات انقبضت الفتحات ولم تسمح بخروج شيء آخر، من الذي فتحها؟ من الذي قبضها؟ تنقبض فتحات المخارج بعد خروج الفضلات، تنقبض انقباضاً لا يقوى الإنسان عليه. وتأمل في العيون كيف تُغَطَّى بالجفون، وإذا أغلق الإنسان جفنيه يستحيل أن يدخل إلى العين شيء،كيف وليس هناك أقفال ولا أربطة؟ بل وفي حلقك مدخلان؛ مدخل للهواء ومدخل للطعام، فيضع ربنا تبارك وتعالى قطعة صغيرة من اللحم الطري تسمى اللهاة، إذا أردت أن تأكل وتشرب تحركت تلقائياً فسدت مجاري الهواء والنَّفَس فلا يدخل الطعام والشراب إلى الرئتين فيموت الإنسان، تتحرك تلقائياً وتسد مجاري النَّفَس والإنسان لا إرادة له في ذلك. بل وصمام القلب الذي يسمح بمرور الدم من غرفات القلب العليا إلى غرفات القلب السفلى ولا يسمح بارتداد الدم، كل ذلك من لحم وعصب. ودورة الطعام التي تنتقل من المعدة إلى الإثني عشر ثم إلى الأمعاء الغليظة ثم إلى الأمعاء الدقيقة وما إلى ذلك، ولا يُسمَح بارتداده بلا إرادة من العبد. والأذن وفتحات الأذن، ومجاري النَّفَس التي تسمح بدخول الهواء، وفي أنفك شعيرات أنت لا تبالي بها ولا تعرف عنها شيئاً، تلك الشعيرات تمنع دخول القاذورات والغبار وما إلى ذلك إلى مجال الأنفاس فتسدها، هل رأيتم رجلاً يُسَلِّك مجاري أنفاسه كما تُسَلَّك المواسير؟ وأنت تتنفس الهواء والهواء مليء بكل شيء لكن لا يدخل إلا الهواء والهواء فقط. اللهاة وصمام القلب وحركة الحجاب الحاجز وارتباط الأعضاء بالعضلات بالمفاصل بإرادة الإنسان في الحركة، وكل حركة لها منشأ، منشأها الرغبة، وتنتقل الرغبة من النَّفْس إلى المخ، وينقلها المخ من خلال الأعصاب إلى الأعصاب والعضلات فإذا بالحركة تتأتى لك بسهولة ويسر. بل واقف قائم على قدميك لا تهتز ولا تقع ولا يوقعك الريح وإذا مشيت مشيت في اتجاه مستقيم وكل ذلك ينظمه سائل قليل في الأذن الوسطى أنت لا تراه، هذا السائل يحدث اتزان في الإنسان، ولو حدث التهاب في هذه المنطقه بسيط لحدث فقد للاتزان ورأيت نفسك تريد أن تتجه نحو الباب فإذا بك تتجه إلى مكان آخر، وترى نفسك متجهاً إلى الاتجاه الآخر ولا يمكن أن تمنع نفسك، تتجه خطأ! وكل من درس شيئاً في الطب يعرف ذلك أعاذنا الله وإياكم من هذه الأمراض. بسائل بسيط في الأذن الوسطى! هذا الخَلْق، خَلْقُ الإنسان ورَبْطُ هذا الجسد ببعضه، بل والرباط غير المرئي بين النَّفْس والجسم، بين الروح والجسم، بين القلب والجسم، بين القلب والروح، بين الروح والنَّفْس، بين العقل والمخ، بين المخ والعضلات. كل هذه الارتباطات وكأن الإسار قد شَدَّ كل شيء إلى الشيء الآخر، كأن الله خلق إساراً شد به هذه المخلوقات بالشكل الذي تراه الآن (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) ومهما تقدم العلم يقول علماء الدنيا الذين تخصصوا في جسم الإنسان ما اكتُشِفَ حتى الآن من أسرار الجسم البشري عَشْرٌ بالمئة، وتسعون بالمئة من أسرار الجسم البشري لازال سراً في الغيوب غامضاً على العلماء حتى الآن. ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ تأمل في الآية وتأمل في شَدَّ الإسار وتأمل في جسدك كيف مترابط وأن تعرف أن الله موجود على الحقيقة. ثم يهدد ربنا (تبارك وتعالى) ويتوعد فيقول: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ وجاء بــــــــِـ"إذا" لإفادة إمكان الوقوع والتحقيق. إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً: أهلكناهم وجئنا بأطوع منهم وأَعْبَدَ لله، يهلكهم ويأتي بغيرهم عُبَّاد زُهَّاد. وقال بعض الناس: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ غَيَّرنا الخلق وغيرنا الخِلقة فيصبح أعمى بعد أن كان بصيراً، مشلولاً بعد أن كان متحركاً، سقيماً بعد أن كان سليماً، متفكك الأعضاء فاقداً للذاكرة فاقداً للسيطرة على جسمه، إذا بالشكل الجميل يتحول إلى الشكل القبيح، يحولهم من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين.
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ والآية لا زالت في التوبيخ وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول لهؤلاء كيف أخلقكم وتعبدون غيري؟ كيف أرزقكم وتلجؤون لغيري؟ نحن خلقناكم، نعم! الله (تبارك وتعالى) هو الخالق البارئ المصور، وخلق الإنسان في أحسن صورة. ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ الأَسْر: القوة، الأَسْر: الخَلْق؛ ذاك تفسير المفسرين. شددنا أسرهم: شددنا خَلْقَهم، أي جعلنا الخَلْقَ كاملاً متكاملاً وجعلنا لهم القوى والحركة. فالأَسْر هو القُوى وأصل الكلمة يساعد في فهم المضمون. الأَسْر من الِإسار، والإسار: القَيد، الحبل من الجلد الذي يُشَدُّ به على الأقتاب، على ظهور الجمال، القُتُب يوضع على ظهر الجمل ليَركب عليه الراكب، يُشَدُّ حول وسط الناقة بقيد يُسَمَّى الإسار كما تُشَدُّ السرج على ظهور الخيل. فهذه السيور التي تُشَدُّ بها الأقتاب يسمى الواحد منها إسار، ولذا سمي الأسير أسيراً لأنه يُكَتَّف بالإسار. ذاك أصل الكلمة ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾، من هنا ينطلق العقل متأملاً في خلق الإنسان كيف شُدَّ أسرُه؟ وحين تقول للإنسان أو لأخيك بِعتُكَ هذا الشيء أو خذ هذا الشيء بأسره، بجُملَتِه، وكأنه لا يزال مربوطاً ولم يُفَضّ ولم ينقص منه شيء، خذه بأسره، بكُلِّه، بكُلِّ ما فيه حتى القيود والرباط الذي رُبِطَ به، لم يُفَكّ ولم يُفَضّ. من هنا قد يُقال كما قال الناس رُبِطَ الجسم بعضه ببعض فها هي الأصابع اتصلت بالأكف، وهاهي الأكف اتصلت بالأذرع، وهاهو الذراع اتصل بالكتف، واتصلت الرأس بالعنق، والعنق بالصدر، واتصل الصدر بالبطن، واتصل الجذع بالساق، واتصلت الساق بالرُّكَب، والرُّكَب بالأرجل، والأرجل بالأقدام، والأقدام بالأصابع. كل شيء مترابط، كل شيء متصل بالمفاصل، بالعضلات، بالأعصاب، فكأن خلق الإنسان شُدَّ بعضه إلى بعض ورُبِطَ بعضه ببعض فلا ينفصل ولا ينفصم، لا تشير بذراعك فإذا به طاش في الهواء، هو مربوط بجسمك، ولسانك مربوط بحلقك، مهما تكلمت وحَرَّكْتَه لا يسقط ولا يقع. وقال بعض الناس: الآية تشير أيضا إلى فتحات الجسم التي يخرج منها الفضلات، تنفتح فتخرج الفضلات فإذا خرجت الفضلات انقبضت الفتحات ولم تسمح بخروج شيء آخر، من الذي فتحها؟ من الذي قبضها؟ تنقبض فتحات المخارج بعد خروج الفضلات، تنقبض انقباضاً لا يقوى الإنسان عليه. وتأمل في العيون كيف تُغَطَّى بالجفون، وإذا أغلق الإنسان جفنيه يستحيل أن يدخل إلى العين شيء،كيف وليس هناك أقفال ولا أربطة؟ بل وفي حلقك مدخلان؛ مدخل للهواء ومدخل للطعام، فيضع ربنا تبارك وتعالى قطعة صغيرة من اللحم الطري تسمى اللهاة، إذا أردت أن تأكل وتشرب تحركت تلقائياً فسدت مجاري الهواء والنَّفَس فلا يدخل الطعام والشراب إلى الرئتين فيموت الإنسان، تتحرك تلقائياً وتسد مجاري النَّفَس والإنسان لا إرادة له في ذلك. بل وصمام القلب الذي يسمح بمرور الدم من غرفات القلب العليا إلى غرفات القلب السفلى ولا يسمح بارتداد الدم، كل ذلك من لحم وعصب. ودورة الطعام التي تنتقل من المعدة إلى الإثني عشر ثم إلى الأمعاء الغليظة ثم إلى الأمعاء الدقيقة وما إلى ذلك، ولا يُسمَح بارتداده بلا إرادة من العبد. والأذن وفتحات الأذن، ومجاري النَّفَس التي تسمح بدخول الهواء، وفي أنفك شعيرات أنت لا تبالي بها ولا تعرف عنها شيئاً، تلك الشعيرات تمنع دخول القاذورات والغبار وما إلى ذلك إلى مجال الأنفاس فتسدها، هل رأيتم رجلاً يُسَلِّك مجاري أنفاسه كما تُسَلَّك المواسير؟ وأنت تتنفس الهواء والهواء مليء بكل شيء لكن لا يدخل إلا الهواء والهواء فقط. اللهاة وصمام القلب وحركة الحجاب الحاجز وارتباط الأعضاء بالعضلات بالمفاصل بإرادة الإنسان في الحركة، وكل حركة لها منشأ، منشأها الرغبة، وتنتقل الرغبة من النَّفْس إلى المخ، وينقلها المخ من خلال الأعصاب إلى الأعصاب والعضلات فإذا بالحركة تتأتى لك بسهولة ويسر. بل واقف قائم على قدميك لا تهتز ولا تقع ولا يوقعك الريح وإذا مشيت مشيت في اتجاه مستقيم وكل ذلك ينظمه سائل قليل في الأذن الوسطى أنت لا تراه، هذا السائل يحدث اتزان في الإنسان، ولو حدث التهاب في هذه المنطقه بسيط لحدث فقد للاتزان ورأيت نفسك تريد أن تتجه نحو الباب فإذا بك تتجه إلى مكان آخر، وترى نفسك متجهاً إلى الاتجاه الآخر ولا يمكن أن تمنع نفسك، تتجه خطأ! وكل من درس شيئاً في الطب يعرف ذلك أعاذنا الله وإياكم من هذه الأمراض. بسائل بسيط في الأذن الوسطى! هذا الخَلْق، خَلْقُ الإنسان ورَبْطُ هذا الجسد ببعضه، بل والرباط غير المرئي بين النَّفْس والجسم، بين الروح والجسم، بين القلب والجسم، بين القلب والروح، بين الروح والنَّفْس، بين العقل والمخ، بين المخ والعضلات. كل هذه الارتباطات وكأن الإسار قد شَدَّ كل شيء إلى الشيء الآخر، كأن الله خلق إساراً شد به هذه المخلوقات بالشكل الذي تراه الآن (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) ومهما تقدم العلم يقول علماء الدنيا الذين تخصصوا في جسم الإنسان ما اكتُشِفَ حتى الآن من أسرار الجسم البشري عَشْرٌ بالمئة، وتسعون بالمئة من أسرار الجسم البشري لازال سراً في الغيوب غامضاً على العلماء حتى الآن. ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ تأمل في الآية وتأمل في شَدَّ الإسار وتأمل في جسدك كيف مترابط وأن تعرف أن الله موجود على الحقيقة. ثم يهدد ربنا (تبارك وتعالى) ويتوعد فيقول: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ وجاء بــــــــِـ"إذا" لإفادة إمكان الوقوع والتحقيق. إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً: أهلكناهم وجئنا بأطوع منهم وأَعْبَدَ لله، يهلكهم ويأتي بغيرهم عُبَّاد زُهَّاد. وقال بعض الناس: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ غَيَّرنا الخلق وغيرنا الخِلقة فيصبح أعمى بعد أن كان بصيراً، مشلولاً بعد أن كان متحركاً، سقيماً بعد أن كان سليماً، متفكك الأعضاء فاقداً للذاكرة فاقداً للسيطرة على جسمه، إذا بالشكل الجميل يتحول إلى الشكل القبيح، يحولهم من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين.
إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌۭ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًۭا ﴿29﴾
وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًۭا ﴿30﴾
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِۦ ۚ وَٱلظَّـٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًۢا ﴿31﴾
﴿إِنَّ هَذِهِ﴾: هذه الآيات، هذه السورة، هذه المعاني. ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ تجعل الإنسان يتذكر أن له خالقاً رازقاً قوياً يرى ويسمع وأن إليه المصير. أن يتذكر فيمتنع عن المعصية ويأتي بالطاعة راجياً رحمة ربه. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ تُثبِت الآية حرية اختيار الإنسان، إن هذه تذكرة وأنت وما تشاء، تركك الله (تبارك وتعالى) حراً مختاراً تختار ما تشاء، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، اتخذ رضا الله طريقاً ووسيلة وعملاً صالحاً يصل به إلى رضوان الله (تبارك وتعالى) ويتقي به سخط الله وغضب الله. والآية تثبت حرية اختيار الإنسان وأن الإنسان مُكَلَّف مختار ولا جبر للإنسان في شيء، وكل امرئٍ بما كسب رهين، وكل امرئٍ بعمله مرهون. أيها الأخ المسلم؛ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وباب التوبة مفتوح، وربنا (تبارك وتعالى) يبسط كفه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط كفه بالنهار ليتوب مسيء الليل فتوبوا إلى الله.
لقد مُيِّزَ الإنسان على كافة المخلوقات بكونه مُكَلَّف مختار، ولو نظرت إلى الدنيا وإلى الخلق في الدنيا لوجدت الشمس لا اختيار لها ولا إرادة، ولوجدت الجبال والأنهار والأشجار لا إرادة لها ولا اختيار، والمخلوق الوحيد في هذه الدنيا التي تراها المكلف المختار هو الإنسان. وتلك ميزة تميز بها الإنسان، وإرادة الإنسان النابعة من فكره في وقوع الأفعال هي المتحكمة فيه وفي وقوع فعله، ولكن قد يُحال بين الإنسان وبين تحقيق إرادته، فيريد يفكر ويخطط ويُقَدِّر ويريد ويَهُمُّ بالفعل وإذا بالفعل لا يقع، يقف دون فعله حائل أو أسباب فوق قدرته وإرادته. من هنا نعلم أن هناك إرادة عليا هي إرادة الله، وإرادة الله (تبارك وتعالى) هي التي تَحُولُ بين العبد وبين إنفاذ ما يريد، ومشيئة الله (تبارك وتعالى) هي السلطان الأعلى في وقوع الفعل بإزالة الموانع وتهيئة الأسباب المتممة، أو في الحيلولة بين العبد وبين ما يشتهيه ويريده، تلك مشيئة الله العليا، هي السلطان الأعلى. وقبل أن يخلق ربنا (تبارك وتعالى) الخلق كان الله ولم يكن شيء، وكتب عنده في كتاب ماهو كائن إلى يوم القيامة، وكتابة الله (تبارك وتعالى) كتابة علم وليست كتابة إجبار، كتابة عِلم لأن الله يعلم ما يكون كما يعلم ماقد كان فكتب بعلمه الأزلي كل شيء؛ سقوط الأوراق في كتاب، حركة النمل في كتاب، أنفاسك وأعدادها في كتاب، حركتك وتقلبك من جنب إلى جنب في كتاب، دقات قلبك في كتاب ،كل شيء من حركة أو سكون، وجود أو عَدَم إلا وقد دُوِّنَ من قبل الخليقة في كتاب، كتبه الله بعلمه وليس في العلم شيء سالب للتخيير في الكسب. وافهم واسمع! ما كُتِبَ كتابة علم وليس في العلم شيء بسالب للتخيير في الكسب، بمعنى أن الله (تبارك وتعالى) يعلم أنك تأتي اليوم لتصلي الجمعة، يعلم ذلك من الأزل، لم يجبرك على المجيء، ولم يؤتَ بك هنا محمولاً وإنما جئت بمحض اختيارك ورغبتك تسعى على أقدامك. عَلِمَ ذلك منك أزلاً فكتبه، هذه الكتابة بالعلم لا تسلب اختيارك، أنت حر في أن تختار، فإرادة الله (تبارك وتعالى) لا تَحُولُ بين العبد وإرادته، وإنما قد تحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريد، فأنت تريد أن تصلي الجمعة وتهيئ نفسك لذلك وتتخذ من الأسباب ما يمكنك للمجيء، فإن أراد الله (تبارك وتعالى) أن يتمم إرادتك سخر لك الوسائل والأسباب فحضرت وجئت للصلاة، وإن أراد الله غير ذلك وجدت الموانع والعوائق فيمرض الإنسان أو يقع مغشياً عليه، يحدث في بيته مصيبة، يحدث ما يمنعه عن الإتيان للصلاة. من هنا يتبين أن العبد ليس له نصيب من عمله إلا النية والاختيار والكسب، أما وقوع العمل فبإرادة الله. خرجتَ فجراً من بيتك تسعى لتصلي الفجر، اخترت بمشيئتك وبحُرِّيَتِك وبإرادتك وسعيت واتخذت الأسباب ونويت فجئت إلى المسجد فوجدته مغلقاً. وقوع العمل بإرادة الله، أما النية فللعبد والاختيار للعبد والإرادة للعبد. ذاك نصيبك من العمل؛ الكسب والإختيار، ولذا كان الحساب على النية. من هنا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إنما الأعمال بالنية ولكل امرئٍ ما نوى) فمن خرج من بيته صباحاً لصلاة الفجر في المسجد ونوى ذلك ووجد المسجد مغلقاً فعاد وصلى في بيته منفرداً، الفعل صلاة منفرد في بيته وحقيقة الثواب صلاة رجل للفجر في المسجد جماعة، فالحساب على النية والاختيار. وقد جاء القرآن مصدقاً للنبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله إنما الأعمال بالنية في كثير من المواقف، منها على سبيل المثال: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٢٥] آية تدل على أن الله يعلم ما في النفوس والصدور فيحاسب على ذلك. من هنا نجد أن الله (تبارك وتعالى) أثبت حرية العبد واختياره في القرآن وأثبت أنه مكلف مختار محاسب على عمله فقد اكتسبه بإرادته وفكره ونيته، وفي نفس الوقت أثبت لنفسه إرادة عليا ومشيئة هي السلطان الأعلى، لم ينفِ عن العبد مشيئته ولكنه أثبت لنفسه المشيئة التي لها السلطان الأعلى. لذا تجد ربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [سورة المدثر آية: ٥٥] أثبت مشيئة العبد ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وقال في موضع آخر ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [سورة التكوير آية: ٢٨] فأثبت مشيئته ثم قال: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فأثبت مشيئته وإرادته العليا. وفي سورة الإنسان والتي نحن بصددها تُختَم بهذه الحقيقة ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ فأثبت حرية الاختيار والتكليف وحرية إرادة الإنسان وأن الإنسان مرهون بكسبه واختياره ونيته، ثم قال ﴿وما يشاءون إلا أن يشاء الله﴾ قراءة بالياء. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فأثبت إرادته ولم ينفِ إرادة الإنسان، أنت تريد والله يريد والله يفعل ما يريد، فقد يفعل ما يريد ولا يوافق ما يريد ما تريد. في كل الأحوال أنت محاسَب على ما تريد ليس على مايريد، أنت محاسَب على ما تريد والله يفعل ما يريد، فإن وقع الفعل موافقاً لإرادتك فقد اكتسبتَ أنت العمل حدوثاً ووقوعاً، وإذا لم يقع الفعل كما تريد فقد اكتسبتَ أنت النية والإرادة والاختيار، ووقع الفعل كما يريد الفعال لما يريد. وأنت ترى أن الله (تبارك وتعالى) حين كتب كل شيء بعلمه وقع كل شيء موافق لعلمه، ووقوع المعلومات كما كُتِبَت جاء ذلك من حيث أنه الواقع، والواقع لا يتغير، فربنا حين كتب كتب بعلمه، كتب ما يقع والواقع لا يتغير، كتبه كتابة عِلم. من هنا لا يمكن للإنسان أن ينفي عن نفسه المسئولية وينفي عن نفسه الكسب والاختيار ويقول هكذا أراد الله ولو أراد الله هدايتي لهداني كما قال الكفار: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [سورة النحل آية: ٣٥] كلمة حق أُرِيدَ بها باطل، هو اختار الكفر فأذن الله له وتركه وما اختار، ومن أراد الهدى سخر الله له سبيل الهدى، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (ما من نفس منفوسة إلا وكُتِبَ مقعدها من الجنة أو مقعدها من النار) فقال له بعض الناس: يا رسول الله هل نترك العمل؟ ألا نترك العمل ونَتَّكِل، قال: (لا! اعملوا فكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له) ثم قرأ قول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾ [سورة الليل آية: ٥- ١٠] اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ فإن شئتَ أنت أن تتخذ إليَّ السبيل ونويتَ ذلك بقلبك عازماً مصمماً صادقاً في نيتك واتجهت إلى الله، وجدتَ في سبيل الهداية التسخير. وإن أراد الآخر أو اختار الكفر واختار الضلالة وجد في سُبُلِ الضلال تيسير، وكل ذلك مكتوب أزلاً بعلم الله الأزلي. أنت تختار وهو يحقق لك مشيئتك، فإن كان وقوع مشيئة الإنسان مُتَّسِق مع القضاء والقدر عموماً وقعت، وإن كانت مشيئة الإنسان في وقوعها لا تتفق ولا تتسق مع القضاء والقدر عموماً لا تقع لكن الإنسان في الحالتين مسئول محاسَب على النية، محاسَب على العمل، لأن العبد إذا فَعَلَ فِعلاً فهو مرتبط بغيره، لكي تأتي إلى هذا المسجد لابد أن يكون هناك مسجد، لابد أن يكون هناك بانٍ لهذا المسجد، ولكي تأتي إلى المسجد وتتحقق لك صلاة الجماعة لابد أن يكون هناك مصلون، فعملك مرتبط بغيرك، وقوع العمل مرتبط بالغير، شروق الشمس مرتبط بالقمر، والأرض مرتبطة بالقمر، والإنسان مرتبط بابنه، والابن مرتبط بأبيه، والأخ مرتبط بجاره وهكذا. دنيا، نظام، مُلك نَظَّمَه المالِك، فأنت لستَ وحدك في هذا الوجود، عملك كي يقع يرتبط بأعمال الغير، لكي يموت إنسان لابد أن تصدمه سيارة، والسيارة لابد وأن يكون لها قائد، والقائد لابد أن يغفل أو يكون أرعناً حتى يقتله وحتى يموت، ولكي يموت لابد أن يكون الأولاد مكتوب لهم اليُتم وهكذا، فعملك مرتبط بغيرك. من هنا لا تتحقق مشيئة العبد إلا إذا شاء الله، ومشيئة الله (تبارك وتعالى) المتحكم فيها عِلمُه وحكمته لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فيشاء وقوع الأفعال لحكمة هو يعلمها ونحن لا نعلمها، وربنا عليم فمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً عَلِمَ بنيته ووفقه إليه، ومن لم يشأ أن يتخذ إليه السبيل علم بنيته فسَدَّ السبيل في وجهه وأغلق قلبه وجعل عليه الأغطية والأكنة وأعماه وأصمه. لذا يقول الله (تبارك وتعالى) لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حينما حزن من كفار مكة، حَدَّثَه عن استماعهم: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾ [سورة الإسراء آية: ٤٧] وإذا قرأتَ القرآن-نَبَّهَهُ- فمنهم من يتعظ ومنهم من لم يتعظ، منهم من يتذكر ومنهم من لا يتذكر. من تذكر أراد الذكرى ففتح قلبه وشرح صدره ومن لم يُرِد أغلق قلبه وأغلق صدره. ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا(٤٥)وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٤٥- ٤٦] إذاً هم لا يؤمنون أولاً ﴿جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ -أي لا يريدون الإيمان- فحينما لا يريدون الإيمان يغلق بينهم وبين الإيمان فلا يدخل في قلوبهم إيمان بعلمه. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ عليماً بما في نفوسكم فيوفق كل إنسان لما أراد. ﴿حَكِيمًا﴾ يُجري الأمور بحكمته. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ المشيئة ذات السلطان الأعلى، يدخل من يشاء في رحمته بالتوفيق للهداية، بالتوفيق للإيمان، بالتوفيق للطاعة، لأن الله عَلِمَ من العبد صدق النية. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٤٣] ويستحيل أن يرفع عبد يداه إلى السماء صادقاً وتُرَدّ، ويستحيل أن يطلب عبد من الله الهدى ولا يُهدَى، أمر ممنوع، أمر مستحيل، لأن الله (تبارك وتعالى) يحاسب الناس ويعامل الناس بعدله وعلمه وحكمته. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ مشيئة الله في إدخال أناس في رحمته نابعة من علمه بما انطوت عليه صدورهم، إنسان لا يريد أن يؤمن، لايريد أن يدخل الجنة، لا يريد أن يعبد الله، يوفقه ربنا ويهديه؟ كيف؟ لماذا وهو لا يريد؟ إنسان يريد من الله الهدى، ويريد من الله الستر والسلامة، ويريد من الله الهداية يحجب عنه الهداية؟ لماذا؟ فلِمَن يذهب؟ أنت تريد الهداية وتريد الجنة ولا يملك ذلك إلا واحدٌ أَحَدٌ، رفعت إليه يديك هل يرفضك؟ فلِمَن تذهب؟ لو رفضك وجاء بك يوم القيامة وسألك لقلتَ أنت له سألتُك ولم تجبني، هل هناك إله غيرك أذهب إليه؟ هل هناك جنة أخرى؟ أنت الإله الأوحد لمن ألجأ؟ من هنا لا يرفع عبد يده إلى السماء أبداً وتُرَدُّ صِفراً كما أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) وفُتِحَت الأبواب على مصراعيها لأن الله يقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٠] قرارٌ مِمَّن يملك القرار. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ هم ظلموا أنفسهم أصلاً. (والظالمين) منصوبة بفعل محذوف مُقَدَّر يدل عليه قول الله: ﴿أَعَدَّ لَهُمْ﴾ أي أعد للظالمين أو عَذَّب الظالمين. أما المرفوعة في سورة الشورى ﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ لأن ليس بعدها فعل يدل على الوقوع عليه فتُنْصَب. هنا نُصِبَت. وإن كان هناك قراءة بالرفع على الاستئناف ﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ ولكنها قراءه ضعيفة، "والظالمين" قراءة أصح. إذاً ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾: إعلام. القرآن يُذَكَّر والسورة تُذَكَّر والكلام يُذَكَّر ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ بصدق نية وُفِّقَ لذلك، أدخله الله في رحمته، ومن لم يشأ وأصم أذنيه وأعمى عينيه وقفل قلبه أعد الله لهم عذاباً أليماً لأنهم بذلك قد ظلموا أنفسهم. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠)يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١)﴾.
لقد مُيِّزَ الإنسان على كافة المخلوقات بكونه مُكَلَّف مختار، ولو نظرت إلى الدنيا وإلى الخلق في الدنيا لوجدت الشمس لا اختيار لها ولا إرادة، ولوجدت الجبال والأنهار والأشجار لا إرادة لها ولا اختيار، والمخلوق الوحيد في هذه الدنيا التي تراها المكلف المختار هو الإنسان. وتلك ميزة تميز بها الإنسان، وإرادة الإنسان النابعة من فكره في وقوع الأفعال هي المتحكمة فيه وفي وقوع فعله، ولكن قد يُحال بين الإنسان وبين تحقيق إرادته، فيريد يفكر ويخطط ويُقَدِّر ويريد ويَهُمُّ بالفعل وإذا بالفعل لا يقع، يقف دون فعله حائل أو أسباب فوق قدرته وإرادته. من هنا نعلم أن هناك إرادة عليا هي إرادة الله، وإرادة الله (تبارك وتعالى) هي التي تَحُولُ بين العبد وبين إنفاذ ما يريد، ومشيئة الله (تبارك وتعالى) هي السلطان الأعلى في وقوع الفعل بإزالة الموانع وتهيئة الأسباب المتممة، أو في الحيلولة بين العبد وبين ما يشتهيه ويريده، تلك مشيئة الله العليا، هي السلطان الأعلى. وقبل أن يخلق ربنا (تبارك وتعالى) الخلق كان الله ولم يكن شيء، وكتب عنده في كتاب ماهو كائن إلى يوم القيامة، وكتابة الله (تبارك وتعالى) كتابة علم وليست كتابة إجبار، كتابة عِلم لأن الله يعلم ما يكون كما يعلم ماقد كان فكتب بعلمه الأزلي كل شيء؛ سقوط الأوراق في كتاب، حركة النمل في كتاب، أنفاسك وأعدادها في كتاب، حركتك وتقلبك من جنب إلى جنب في كتاب، دقات قلبك في كتاب ،كل شيء من حركة أو سكون، وجود أو عَدَم إلا وقد دُوِّنَ من قبل الخليقة في كتاب، كتبه الله بعلمه وليس في العلم شيء سالب للتخيير في الكسب. وافهم واسمع! ما كُتِبَ كتابة علم وليس في العلم شيء بسالب للتخيير في الكسب، بمعنى أن الله (تبارك وتعالى) يعلم أنك تأتي اليوم لتصلي الجمعة، يعلم ذلك من الأزل، لم يجبرك على المجيء، ولم يؤتَ بك هنا محمولاً وإنما جئت بمحض اختيارك ورغبتك تسعى على أقدامك. عَلِمَ ذلك منك أزلاً فكتبه، هذه الكتابة بالعلم لا تسلب اختيارك، أنت حر في أن تختار، فإرادة الله (تبارك وتعالى) لا تَحُولُ بين العبد وإرادته، وإنما قد تحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريد، فأنت تريد أن تصلي الجمعة وتهيئ نفسك لذلك وتتخذ من الأسباب ما يمكنك للمجيء، فإن أراد الله (تبارك وتعالى) أن يتمم إرادتك سخر لك الوسائل والأسباب فحضرت وجئت للصلاة، وإن أراد الله غير ذلك وجدت الموانع والعوائق فيمرض الإنسان أو يقع مغشياً عليه، يحدث في بيته مصيبة، يحدث ما يمنعه عن الإتيان للصلاة. من هنا يتبين أن العبد ليس له نصيب من عمله إلا النية والاختيار والكسب، أما وقوع العمل فبإرادة الله. خرجتَ فجراً من بيتك تسعى لتصلي الفجر، اخترت بمشيئتك وبحُرِّيَتِك وبإرادتك وسعيت واتخذت الأسباب ونويت فجئت إلى المسجد فوجدته مغلقاً. وقوع العمل بإرادة الله، أما النية فللعبد والاختيار للعبد والإرادة للعبد. ذاك نصيبك من العمل؛ الكسب والإختيار، ولذا كان الحساب على النية. من هنا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إنما الأعمال بالنية ولكل امرئٍ ما نوى) فمن خرج من بيته صباحاً لصلاة الفجر في المسجد ونوى ذلك ووجد المسجد مغلقاً فعاد وصلى في بيته منفرداً، الفعل صلاة منفرد في بيته وحقيقة الثواب صلاة رجل للفجر في المسجد جماعة، فالحساب على النية والاختيار. وقد جاء القرآن مصدقاً للنبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله إنما الأعمال بالنية في كثير من المواقف، منها على سبيل المثال: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٢٥] آية تدل على أن الله يعلم ما في النفوس والصدور فيحاسب على ذلك. من هنا نجد أن الله (تبارك وتعالى) أثبت حرية العبد واختياره في القرآن وأثبت أنه مكلف مختار محاسب على عمله فقد اكتسبه بإرادته وفكره ونيته، وفي نفس الوقت أثبت لنفسه إرادة عليا ومشيئة هي السلطان الأعلى، لم ينفِ عن العبد مشيئته ولكنه أثبت لنفسه المشيئة التي لها السلطان الأعلى. لذا تجد ربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [سورة المدثر آية: ٥٥] أثبت مشيئة العبد ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وقال في موضع آخر ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [سورة التكوير آية: ٢٨] فأثبت مشيئته ثم قال: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فأثبت مشيئته وإرادته العليا. وفي سورة الإنسان والتي نحن بصددها تُختَم بهذه الحقيقة ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ فأثبت حرية الاختيار والتكليف وحرية إرادة الإنسان وأن الإنسان مرهون بكسبه واختياره ونيته، ثم قال ﴿وما يشاءون إلا أن يشاء الله﴾ قراءة بالياء. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فأثبت إرادته ولم ينفِ إرادة الإنسان، أنت تريد والله يريد والله يفعل ما يريد، فقد يفعل ما يريد ولا يوافق ما يريد ما تريد. في كل الأحوال أنت محاسَب على ما تريد ليس على مايريد، أنت محاسَب على ما تريد والله يفعل ما يريد، فإن وقع الفعل موافقاً لإرادتك فقد اكتسبتَ أنت العمل حدوثاً ووقوعاً، وإذا لم يقع الفعل كما تريد فقد اكتسبتَ أنت النية والإرادة والاختيار، ووقع الفعل كما يريد الفعال لما يريد. وأنت ترى أن الله (تبارك وتعالى) حين كتب كل شيء بعلمه وقع كل شيء موافق لعلمه، ووقوع المعلومات كما كُتِبَت جاء ذلك من حيث أنه الواقع، والواقع لا يتغير، فربنا حين كتب كتب بعلمه، كتب ما يقع والواقع لا يتغير، كتبه كتابة عِلم. من هنا لا يمكن للإنسان أن ينفي عن نفسه المسئولية وينفي عن نفسه الكسب والاختيار ويقول هكذا أراد الله ولو أراد الله هدايتي لهداني كما قال الكفار: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [سورة النحل آية: ٣٥] كلمة حق أُرِيدَ بها باطل، هو اختار الكفر فأذن الله له وتركه وما اختار، ومن أراد الهدى سخر الله له سبيل الهدى، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (ما من نفس منفوسة إلا وكُتِبَ مقعدها من الجنة أو مقعدها من النار) فقال له بعض الناس: يا رسول الله هل نترك العمل؟ ألا نترك العمل ونَتَّكِل، قال: (لا! اعملوا فكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له) ثم قرأ قول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾ [سورة الليل آية: ٥- ١٠] اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ فإن شئتَ أنت أن تتخذ إليَّ السبيل ونويتَ ذلك بقلبك عازماً مصمماً صادقاً في نيتك واتجهت إلى الله، وجدتَ في سبيل الهداية التسخير. وإن أراد الآخر أو اختار الكفر واختار الضلالة وجد في سُبُلِ الضلال تيسير، وكل ذلك مكتوب أزلاً بعلم الله الأزلي. أنت تختار وهو يحقق لك مشيئتك، فإن كان وقوع مشيئة الإنسان مُتَّسِق مع القضاء والقدر عموماً وقعت، وإن كانت مشيئة الإنسان في وقوعها لا تتفق ولا تتسق مع القضاء والقدر عموماً لا تقع لكن الإنسان في الحالتين مسئول محاسَب على النية، محاسَب على العمل، لأن العبد إذا فَعَلَ فِعلاً فهو مرتبط بغيره، لكي تأتي إلى هذا المسجد لابد أن يكون هناك مسجد، لابد أن يكون هناك بانٍ لهذا المسجد، ولكي تأتي إلى المسجد وتتحقق لك صلاة الجماعة لابد أن يكون هناك مصلون، فعملك مرتبط بغيرك، وقوع العمل مرتبط بالغير، شروق الشمس مرتبط بالقمر، والأرض مرتبطة بالقمر، والإنسان مرتبط بابنه، والابن مرتبط بأبيه، والأخ مرتبط بجاره وهكذا. دنيا، نظام، مُلك نَظَّمَه المالِك، فأنت لستَ وحدك في هذا الوجود، عملك كي يقع يرتبط بأعمال الغير، لكي يموت إنسان لابد أن تصدمه سيارة، والسيارة لابد وأن يكون لها قائد، والقائد لابد أن يغفل أو يكون أرعناً حتى يقتله وحتى يموت، ولكي يموت لابد أن يكون الأولاد مكتوب لهم اليُتم وهكذا، فعملك مرتبط بغيرك. من هنا لا تتحقق مشيئة العبد إلا إذا شاء الله، ومشيئة الله (تبارك وتعالى) المتحكم فيها عِلمُه وحكمته لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فيشاء وقوع الأفعال لحكمة هو يعلمها ونحن لا نعلمها، وربنا عليم فمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً عَلِمَ بنيته ووفقه إليه، ومن لم يشأ أن يتخذ إليه السبيل علم بنيته فسَدَّ السبيل في وجهه وأغلق قلبه وجعل عليه الأغطية والأكنة وأعماه وأصمه. لذا يقول الله (تبارك وتعالى) لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حينما حزن من كفار مكة، حَدَّثَه عن استماعهم: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾ [سورة الإسراء آية: ٤٧] وإذا قرأتَ القرآن-نَبَّهَهُ- فمنهم من يتعظ ومنهم من لم يتعظ، منهم من يتذكر ومنهم من لا يتذكر. من تذكر أراد الذكرى ففتح قلبه وشرح صدره ومن لم يُرِد أغلق قلبه وأغلق صدره. ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا(٤٥)وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٤٥- ٤٦] إذاً هم لا يؤمنون أولاً ﴿جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ -أي لا يريدون الإيمان- فحينما لا يريدون الإيمان يغلق بينهم وبين الإيمان فلا يدخل في قلوبهم إيمان بعلمه. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ عليماً بما في نفوسكم فيوفق كل إنسان لما أراد. ﴿حَكِيمًا﴾ يُجري الأمور بحكمته. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ المشيئة ذات السلطان الأعلى، يدخل من يشاء في رحمته بالتوفيق للهداية، بالتوفيق للإيمان، بالتوفيق للطاعة، لأن الله عَلِمَ من العبد صدق النية. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٤٣] ويستحيل أن يرفع عبد يداه إلى السماء صادقاً وتُرَدّ، ويستحيل أن يطلب عبد من الله الهدى ولا يُهدَى، أمر ممنوع، أمر مستحيل، لأن الله (تبارك وتعالى) يحاسب الناس ويعامل الناس بعدله وعلمه وحكمته. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ مشيئة الله في إدخال أناس في رحمته نابعة من علمه بما انطوت عليه صدورهم، إنسان لا يريد أن يؤمن، لايريد أن يدخل الجنة، لا يريد أن يعبد الله، يوفقه ربنا ويهديه؟ كيف؟ لماذا وهو لا يريد؟ إنسان يريد من الله الهدى، ويريد من الله الستر والسلامة، ويريد من الله الهداية يحجب عنه الهداية؟ لماذا؟ فلِمَن يذهب؟ أنت تريد الهداية وتريد الجنة ولا يملك ذلك إلا واحدٌ أَحَدٌ، رفعت إليه يديك هل يرفضك؟ فلِمَن تذهب؟ لو رفضك وجاء بك يوم القيامة وسألك لقلتَ أنت له سألتُك ولم تجبني، هل هناك إله غيرك أذهب إليه؟ هل هناك جنة أخرى؟ أنت الإله الأوحد لمن ألجأ؟ من هنا لا يرفع عبد يده إلى السماء أبداً وتُرَدُّ صِفراً كما أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) وفُتِحَت الأبواب على مصراعيها لأن الله يقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٠] قرارٌ مِمَّن يملك القرار. ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ هم ظلموا أنفسهم أصلاً. (والظالمين) منصوبة بفعل محذوف مُقَدَّر يدل عليه قول الله: ﴿أَعَدَّ لَهُمْ﴾ أي أعد للظالمين أو عَذَّب الظالمين. أما المرفوعة في سورة الشورى ﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ لأن ليس بعدها فعل يدل على الوقوع عليه فتُنْصَب. هنا نُصِبَت. وإن كان هناك قراءة بالرفع على الاستئناف ﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ ولكنها قراءه ضعيفة، "والظالمين" قراءة أصح. إذاً ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾: إعلام. القرآن يُذَكَّر والسورة تُذَكَّر والكلام يُذَكَّر ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ بصدق نية وُفِّقَ لذلك، أدخله الله في رحمته، ومن لم يشأ وأصم أذنيه وأعمى عينيه وقفل قلبه أعد الله لهم عذاباً أليماً لأنهم بذلك قد ظلموا أنفسهم. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠)يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١)﴾.