
سورة القيامة
لقاؤنا مع سورة القيامة. سورة القيامة سورة مكية نزلت كلها بمكة. وسميت سورة القيامة لأنها فيها ذكر أحوال يوم القيامة وأهوال ذلك اليوم وشدائده، فيها وصف أحوال المتقين ووصف وسِمَات المكذبين. افتُتِحَت سورة القيامة بقَسَم:
لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ ﴿1﴾
وَلَآ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ ﴿2﴾
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ اتفق العلماء على قراءتها كذلك. أما من نَفَى (لا) النافية وقرأ (لأقسم) قال ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ أي لا أقسم بها لأنها لا تستحق أن يُقسَمَ بها، فأقسم بالقيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، وفسر كلمة اللوامة بمعنى الملومة المذنبة التي تُلامُ على أفعالها يوم القيامة وتُؤاخَذ على ما كسبت، تلك نفس مذمومة، والصفة صفة ذم فلا يقسم بها الله. وأما الآخرون فقالوا -وهو الأرجح- أن الله أقسم بالنفس اللوامة وهي صفة مدح، واللوامة ليست بمعنى الملومة التي تُلامُ، وإنما اللوامة بمعنى اللائمة؛ النفس اللائمة، أقسم بها الله؛ النفس اللوامة. و(لا أقسم) كلمة "لا" يقال فيها ما قيل في ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لتأكيد القَسَم، أو لرد مزاعمهم أيضاً. والنفس اللوامة هنا هي آدم (عليه السلام) إذ ما برح يلوم نفسه على معصيته التي أخرجته من الجنة. أو النفس اللوامة هي كل نفس، فما من مؤمن ولا كافر إلا ويلوم نفسه بعد الموت، إلا ويلوم نفسه يوم القيامة، فإن كان محسناً لام نفسه لِمَ لَمْ يزدد من الإحسان، وإن كان مسيئاً لام نفسه لِمَ لَمْ يقصر في الإساءة ولِمَ لَمْ يمتنع عن الإساءة. فما من نفس إلا وتلوم صاحبها يوم القيامة، فهي كلمة عامة يُقصَد بها كل نفس. أو -وهو الأرجح- النفس اللوامة: هي نفس المؤمن في الدنيا، ترى المؤمن لا يرضى عن نفسه أبداً، مهما صلى وصام تجده يَعُدُّ نفسه من المقصرين، مهما أنفق ومهما تصدق يقول لِمَ لَمْ أنفق أكثر من ذلك، لِمَ لَمْ أصلي أكثر من ذلك ... وهكذا دائماً يلوم نفسه، يلوم نفسه إن أحسن على التقصير ويلوم نفسه إن أساء على الإساءة، فهو مُحاسِب لنفسه أبداً تنفيذاً لوصية النبي (صلى الله عليه وسلم): ( حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ). وهو من الذين قيل فيهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٦٠] تُرى أيُقبَل مني العمل؟ تُرى أكنتُ مخلصاً فيه؟ تُرى أكنتُ صادقاً فيه؟ تُرى أَبَرِأَ عملي من الرياء؟ تُرى أحببت مديح الناس؟ وهكذا دائماً أبداً يلوم نفسه ويبكي على خطيئته، ذاك هو المؤمن. أقسم الله بنفسه، أقسم بنفس المؤمن التي تلوم صاحبها دائماً أبداً، وجواب القَسَم محذوف تقديره (لتُبْعَثُنَّ ولتُسأَلُنَّ) والدليل عليه قول الله (عز وجل):
أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ ﴿3﴾
بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُۥ ﴿4﴾
بَلْ يُرِيدُ ٱلْإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُۥ ﴿5﴾
يَسْـَٔلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ ﴿6﴾
فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ ﴿7﴾
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ ﴿8﴾
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴿9﴾
يَقُولُ ٱلْإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ ﴿10﴾
كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾
يُنَبَّؤُا۟ ٱلْإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍۭ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾
بَلِ ٱلْإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌۭ ﴿14﴾
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ﴿15﴾
﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾ "كلا" كلمة ردع وزجر يقولها الله عز وجل لذلك الباحث عن الفرار، كلا لافرار ولا ملجأ ولا محيص. لاوزر: أي لا ملجأ ولا منجى ولا حصن. وكلمة وزر تعني الجبل المنيع الراسخ من الوِزر: الثِّقَل، فأُطلِقَ الوَزَر على الجبل الثقيل الراسخ المنيع، لأن الناس فيما مضى من أزمنة كانوا إذا أرادوا أن يتحصنوا من عدو تحصنوا بالجبال، فأُطلِقَ الوَزَر على الجبل باعتباره حصناً منيعاً ثم أطلق اللفظ بعد ذلك على كل حصن وعلى كل ملجأ يَلجَأ إليه الإنسان ويتحصن فيه. ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾ أي لا مهرب ولا مكان يلجأ إليه. ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ المستقر: أي القرار حيث يقر الناس تبعاً لمشيئة الله؛ فريق في الجنة وفريق في السعير. (إلى ربك) أي إلى مشيئة ربك، فمن شاء ربنا أدخله الجنة ومن شاء ربنا أدخله النار. (إلى ربك) إلى حكمه؛ الحكم العدل الملك، لمن الملك اليوم؟ إلى حكمه وإلى ملكه، إليه المصير وإليه المنتهى وإليه المرجع وإليه المآب. ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ والإنسان هنا كل إنسان مؤمن وفاجر، تقي وكافر، يُنَبَّأ ويُخبَر بما قدم من عمل وبما أخر من عمل. أما التقديم والتأخير بما قَدَّم بأول عمله منذ سن التكليف وبما أخر في آخر عمره، بما قدم من طاعات وأعمال أو معاصي قدمها لنفسه وبما أخر بما لم يعمل، يقدم بما عمل وبما لم يعمل وكان من الواجب عليه أن يعمل، بما قدم من نفقة وأموال وبما أخر من ميراث ورثه غيره. وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول: "يا ابن آدم خير مالك ما أنفقتَه وشر مالك ما خَلَّفتَه" يُنَبَّأ الإنسان بما قدم وأخر، أو بما قدم: من أعمال طوال عمره؛ أعمال حسنة أو أعمال سيئة، وبما أخر: ما تركه وراءه من سُنَّة حسنة أو سُنَنٍ سيئة. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". بما قدم: بما عمل في حياته. وبما أخر: ما سَنَّه من سُنَن، ما ابتدعه، إن ابتدع صالحاً وقلده الناس كُتِبَ له، وإن ابتدع شيئاً وعمل به الناس كُتِبَ عليه، ذاك هو ما أخر. والإنسان ينتهي عمله بموته الذي أداه بيديه واكتسبه بجوارحه وبقلبه وبلسانه، أما بعد الموت فيضاف إلى صحيفة حسناته ويضاف لصحيفة سيئاته، ولا تظن أيها المرء أن بموتك انتهت صحائفك وأُغلِقَت، أبداً! فمن الكلمات ما تقوله في حياتك يظل أثرها بعد مماتك، من الكلام ليس من الأفعال فقط بل أيضاً من الكلام.
أيها الأخ المسلم؛ سبع يجري أجرهم لابن آدم بعد موته وهو في قبره: من عَلَّمَ عِلماً أو أجرى نهرا أو حفر بئراً أو غَرَس نخلاً أو بنى مسجداً أو وَرَّثَ مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته، هكذا قال الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) .
يحشر الناس لرب العالمين ويقوم الكافر بين يدي ربه فيحلف، يحلف بالله ما كان من مشركاً، ويكذب على الله كما كان يكذب على الناس في الدنيا وهو بين يديه. وانظر إلى الفتنة، وانظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، نعم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين! انظر كيف كذبوا على أنفسهم! ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [سورة المجادلة آية: ١٨] يكذب وتُؤتَى بالصحائف وتُقرَأ عليه فيطعن فيها بالتزوير! أبداً ليست صحائفي ولا أدري عنها شيئاً، من كَتَبَها؟ ملائكة، أين هم؟ ولِمَ لَمْ يظهروا لي؟ ولِمَ لَمْ يخبروني؟ ويجادل ويحلف ويكذب، فيختم الله تبارك وتعالى على فمه فلا ينطق، ويأمر الجوارح والجلود فتنطق، ثم يلوم جوارحه وجلده:لِمَ شهدتم علينا؟ وترد الجلود وترد الجوارح: أنطقنا الله كما أنطق كل شيء. لذا يقول الله (عز وجل): ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ الإنسان شاهد على نفسه؛ يشهد عليه جلده وتشهد عليه جوارحه، ولذا يقول "بصيرة" بالتأنيث، لأن المقصود الجوارح. (بل الإنسان) مُذَكَّر (على نفسه بصيرة) أُنِّثَت لأن المقصود هو الجوارح. أو الهاء ليست هاء التأنيث بل هي هاء المبالغة، كقولك رواية وداهية وعَلَّامة للرجل العالم ونَسَّابة، فهي هاء المبالغة. ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ شاهد على نفسه. ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٤] تنطق الجوارح ماذا تقول؟ ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ والمعاذير: جمع مِعذار، والمِعذار: السِّتر، والمعاذير: الستائر والأستار. وكأن المعنى يستشعره المرء: أيها العاصي لله مهما أرخيت الستور وأسدلت الأستار واختبأت من الناس يراك الله وتشهد عليك جوارحك التي عصيت بها، أنت شاهد على نفسك فيما تعمل ولو أرخيت الأستار بينك وبين الناس، جلدك يشهد عليك كيف تستتر من يدك؟ كيف تستتر من رجلك؟ كيف تستتر من بطنك وقد أكلت الحرام؟ كيف تستتر من جلدك؟ ذاك معنى. والمعنى الآخر وأظنه أرجح والله أعلم ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ أي شاهد على نفسه بعمله وبما اكتسب، ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ أي ولو اعتذر. والمعاذير هنا جمع معذرة. عَذَرَه يَعذُرُه عُذراً: قَبِلَ عُذرَه. والمعاذير والمعذرة: جمع مِعذار بمعنى العُذر. ويصبح المعنى أن الإنسان شاهد على نفسه، شاهد على عمله، تشهد عليه جوارحه. ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ ها هي الجنود قد نطقت ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [سورة يس آية: ٦٥] هنا يبدأ الاعتذار، في أول الأمر يكذب ويكابر ويحلف وينفي عن نفسه التهم، يتبجح، فإذا خُتِمَ على فمه ونطقت جوارحه ماذا يفعل؟ هنا لا يستطيع أن يكذب، هنا لا يستطيع أن ينفي فقد نطقت الجوارح، ونُطقُ الجوارح لا يعلمه إلا الله، هل تنطق باللسان؟ ربما تنطق بلسان، هل تنطق بكلام؟ ربما، هل تنطق بوجود حقيقي لها في أفعالها في الدنيا؟ ربما. وأنت الآن أيها الإنسان الضعيف بالضغط على زر من الأزرار تأتي بصورة شخص يغني ويضحك ويتحرك ويتكلم وقد مات من خمسين أو ثلاثين أو عشر سنوات، وإليكم الأفلام التي تضيعون بها أوقاتكم؛ الأفلام القديمة وشرائط التسجيل تسمع الأغاني من ذاك؟ ذاك مات منذ عشرين عاماً وترى الصورة يتحرك ويتكلم وقد مات منذ زمن بعيد. أنت استطعت أن تحتفظ بالصورة والصوت، أنت أيها الضعيف فكيف بالقوي القادر؟ أيقف الكافر فيرى نفسه عياناً يفعل المعاصي ويتحرك أتكون تلك الشهادة؟ أيكون ذلك هو المنطق؟ يرى نفسه واقعاً ملموساً يُمسَك ويُحَس؟ نعم! لِمَ لا يكون كذلك؟ والصور لا تنتهي إلى الأبد، وأثبت العلم الحديث ذلك أن الصورة لا تنتهي إلى الأبد، ولو سافرت أنت الآن بسرعة تفوق سرعة الضوء ووصلتَ إلى كوكب آخر لوَصَلتَ بالأمس، لوَصَلتَ يوم الخميس الماضي، ولو زادت سرعتك لوصلتَ وأنت طفل صغير. ثبت ذلك قطعاً لأن الصور تنتقل من مسافات، وضوء الشمس يصل إلينا في ثمان دقائق، بزغت الشمس وأشرقت وأنت لا تراها، تراها بعد ذلك بثمان دقائق وكلما زادت المدة كلما جاءك الضوء بعدها بمسافات، وهناك من النجوم التي تراها الآن غير موجودة في الوجود، انتهت وتلاشت منذ ملايين السنين، حين وصل إليك الضوء وصل الآن أما هي فقد ذهبت وتلاشت. هنا حين يتأكد الإنسان من ذلك ويرى عمله ظاهراً ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾ [سورة الزلزلة آية: ٧- ٨] هنا يبدأ في الاعتذار، فيقول الله (تبارك وتعالى): ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ أي مهما اعتذر لا يُقبَل عذر حيث يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ويقول ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾. أيها الأخ المسلم؛ هل ينفع الاعتذار مع الله؟ هل ينفع؟ هل يجدي؟ نعم ولا! أما في الدنيا فأبواب الاعتذار مفتوحة وأبواب التوبة مفتوحة ورحمة الله وسعت كل شيء، واعتذارنا في الدنيا مقبول وجائز ويُسمَح لنا بالاعتذار. أما في الآخرة وبعد الموت فلا اعتذار ولا استعتاب أبداً. أما في الدنيا يُسمَح لك بالاعتذار. وربنا (تبارك وتعالى) لا يمل من الاعتذار ولا يمل من الغفران، وإن أذنبتَ في الصباح فاعتذرتَ قَبِلَ عذرك، فإن عدت إلى الذنب وإلى نفس الذنب في الظهر ثم اعتذرت قَبِلَ عذرك، ولو عدت إليه مرة ثالثة في العصر فاعتذرت قَبِلَ عذرك، ولو عدت في المغرب فاعتذرت قَبِلَ عذرك، ولو عدت إليه في العشاء فاعتذرت قَبِلَ عذرك، ولو أصبحت فارتكبت نفس الذنب فإن اعتذرت قَبِلَ عذرك، إي وربي! ما استغفر عبد إلا غفر له، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٠] نعم! من يَغفِر إن لم يَغفِر؟!
كان (صلى الله عليه وسلم) يعالج من التنزيل شدة، فكان يجيئه جبريل يقرأ عليه الوحي فيحرك لسانه وشفتيه معه بالقراءة خشية أن يتفلت منه حريصاً على حفظه مستمتعاً بحلاوته، فأنزل الله (عز وجل) عليه توجيهاً وإرشاداً ينهاه عن العجلة ويحبب إليه التأني والتروي ويطمئنه ويقول له:
لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ ﴿16﴾
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ ﴿17﴾
فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ ﴿18﴾
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ ﴿19﴾
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ﴾ نجمعه في صدرك كاملاً فلا تنسى منه شيئاً ثم تقرأه بلسانك كما أُنزِل. ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ بيانه على لسانك. أو بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، نبين لك ما أُشكِلَ عليك منه أو من معانيه. أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يستمع وينصت، إذا جاء جبريل وقرأ عليك القرآن فاستمع، وأول درجات العلم الاستماع، استمع وأنصت وألقِ بنفسك كلية للقرآن، واستمع قراءة جبريل ولا تخشى النسيان، نحن كفيلون بجمعه في صدرك ونحن كفيلون بقراءته على لسانك ونحن كفيلون بأن نبينه بعد ذلك، فاستمع فقط. ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾ فتتبع واستمع وانصت. وقيل: (فاتبع قرآنه) أي فاتبع أحكامه؛ أَحِلَّ حلاله وحَرِّم حرامه. والمعنى الأول أرجح. (فاتبع قرآنه) فتتبع واستمع وأنصت ثم إن علينا بيانه.
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ ﴿20﴾
وَتَذَرُونَ ٱلْـَٔاخِرَةَ ﴿21﴾
ويأتي وصف الأحوال فالناس فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير:
وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ نَّاضِرَةٌ ﴿22﴾
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌۭ ﴿23﴾
وَوُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۭ بَاسِرَةٌۭ ﴿24﴾
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌۭ ﴿25﴾
كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ ﴿26﴾
وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍۢ ﴿27﴾
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ ﴿28﴾
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ﴿29﴾
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ ﴿30﴾
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ﴿31﴾
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿32﴾
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ﴿33﴾
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ﴿34﴾
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰٓ ﴿35﴾
﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ والنظر بالعيون وليس بالوجوه، وعَبَّر بالوجوه عن العيون. أو قد يكون النظر يوم القيامة بالوجه وليس بالعين، كما يمشي الكافر على وجهه وليس على رجله، ومن أمشاه على رجله في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة، فقد تكون الرؤية بالوجه وقد تكون الرؤية بالعيون وعَبَّر عن العيون بالوجوه. ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ولم يقل "ناظرة إلى ربها" فقدم المفعول في الجملة ليُشعِر بأن النظر في وجه الكريم يستغرق كل شيء فلا يلتفت الإنسان إلى غيره. حصر النظر كله في الله وإلى الله. والنظر إلى الله (تبارك وتعالى) يوم القيامة حق وحقيقة، نظر بلا تكييف، بلا إثبات لمسافة، بلا تحديد لجهة، نظر على الوجه الذي يليق بجلاله (عز وجل) وكمال صفاته، نظر على الوجه الذي يريده هو ويعلمه هو دون تشبيه ودون تقييد ودون تكييف ودون تمثيل. يقول جرير بن عبد الله: "كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جلوساً فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن إستطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا ثم قرأ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ [سورة ق آية: ٣٩] ويقول (صلى الله عليه وسلم): (إن أدنى رجلاً منزلة في الجنة يوم القيامة أو إن أدناكم منزلة في الجنة لَمَن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسُرُرِه سيرة ألف سنة وإن أكرمكم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾. أعظم مِنَّة وأَجَلُّ عطية لأهل الجنة النظر إلى وجه الكريم.
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤)تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥)﴾ وجوه أخرى -أعاذنا الله وإياكم منها- باسرة. من البسر. بَسَرَ يَبسُرُ بَسراً بُسوراً: قَطَّبَ ما بين عينيه كراهية لما يراه، عَبَسَ وقَطَّبَ وتكرمش وجهه وكَلَح واسوَدَّ من الكراهية لما يراه. وجوه باسرة (تظن): تتوقع وتتيقن، والظن هنا بمعنى اليقين. ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ أي بأصحابها. والفاقرة: الداهية الشديدة العظيمة التي تكسر فقار الظهر. وقعت به أو فقرته الفاقرة: وقعت له مصيبة كسرت فقار ظهره. تلك هي الفاقرة: الداهية العظيمة
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ "كلا" كلمة ردع وكلمة زجر لكفار مكة الذين أنكروا البعث. يصف ربنا لهم الموت؛ كيف هو، كيف يكون، وقد رأوه عياناً فيمن مات منهم وعاينوه، فيصف لهم ربنا الموت رادعاً لهم زاجراً لهم عن إنكار البعث، والموت دليل ويقين على البعث. أو "كلا" بمعنى حقاً، والمعنى: كلا إلى ربك المساق إذا بلغت أرواحهم التراقي. والتراقي جمع تُرقُوة، والتُّرقُوة: العظام المحيطة والمكتنفة لثغرة النحر، لنقرة النَّحْر في مقدم الحلق أعلى الصدر، أعلى عظام الصدر تجد نقر، ثغرة، تلك تسمى ثغرة النَّحْر، حولها عظام هذه العظام المكتنفة لهذه النقرة هي الترقوة، وجمعها تراقي وهي موضع الحشرجة وموضع خروج الروح. ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ أي الروح، ولم يأت ذكر لها لعلم المخاطَب بها. ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ "من راقي" من الرُّقية وكأن المحيطين بالمحتضر يبحثون عن طبيب أو صالح يرقيه، يفعل به شيء لينجيه، كيف ينجيه من الموت؟ برَقْيِه، بكلام طيب أو بطِبٍّ يُطَببه، كأن المحيطين يقولون في هذه اللحظه إذا بلغت التراقي: من راق؟ والسؤال فيه استبعاد بمعنى أنه لا يمكن أن ينفعه شيء؛ لا رُقية ولا طِبّ، نعم للطبيب علماً يُدلي به ما دام في أجل الإنسان تأخير، فإذا انقضت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقير. ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ بالوقف والسَّكْت إذا كانت القراءة قراءة مد المنفصل. وإذا كانت القراءة قراءة قصر المد المنفصل فتُدغَم (من راق). وقيل (من راق) من الرُّقية، أو راق: من الرُّقِيّ أي من يرقى بروحه إلى السماء؟ من رَقِيَ يَرقَى. السائل هنا مَلَك الموت –عزرائيل- يسأل ملائكة قبض الأرواح: من منكم يقبض هذه الروح ويرقى ويصعد بها؟ ولِمَ يسأل؟ لأنهم يرفضون قبضها، فالجسد جسد نجس والروح خبيثة كريهة، وكأن ملائكة القبض تكره أن تصعد بروحه، فيقول: "من راق" وكأنهم يرفضون أن يمسوها فيأمر أحدهم بالرقي بها؛ اصعد بها يا فلان. أما روح الطيب الذي تتوفاه الملائكه طيبين يتسابقون إليه؛ من مِنَّا يصعد بهذه الروح الجليلة العظيمة أولاً؟ ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ الميت المحتضر تَيَقَّن. أو ظَنَّ بمعنى الظن لأن الإنسان طالما لم يَمُت بعد ولم تصعد روحه لا يزال لديه الأمل، يتعلق بالدنيا وعنده الأمل أن يبقى. أو ظَنَّ بمعنى اليقين. ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ فراق روحه لجسده وفراقه هو لدنياه وأحبابه وماله وولده. ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ التفت ساقه بساقه الأخرى من شدة الموت وسكرات الموت وكرب الموت التفت ساقه على ساقه. أو التفت الساق بالساق بالتكفين. أو التفت الساق بالساق كناية عن الشدة، والعرب لا تذكر كلمة الساق إلا في الشدائد والمحن العظام فيقولون قامت الحرب على ساق. التفت الساق بالساق: اجتمعت شدة فراقه للدنيا مع شدة إقباله على العذاب، آخر أيام الدنيا وأول أيام الآخرة، اجتمعت الشدائد عليه، أهله يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، اجتمعت شدة فراق الدنيا وشدة سكرات الموت مع شدة التقائه بملائكة العذاب ينزعون روحه نزعاً من جسده ،كل شعرة من جسده تحس بخروج الروح، إي وربي كل شعرة! ويبدأ طلوع الروح من أظافر القدمين وتنسحب حتى تصل إلى التراقي. التفت الساق بالساق. ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ إلى ربك: أي إلى حُكمه وقضائه وإلى المصير الذي أعده لصاحب هذه الروح. إلى ربك: إلى خالقك وموجدك ومربيك ومنسئك. ﴿يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ مصدر ميمي من السَّوق، سَاقَهُ يَسُوقُه، فهو يُساقَ إلى الله، يُساقَ إلى المصير، إلى الحُكم، إلى القضاء. ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ والكلام وكأنه معطوف على قوله عز وجل "يسأل أيان يوم القيامة" يسأل عنها ولم يستعد لها، فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى، فكيف تسأل عن يوم القيامة ولم تُعِدّ له العُدَّة. وقد سأل يوماً رجلٌ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: يارسول الله متى الساعة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "وماذا أعددت لها؟" فلا صَدَّق: أي فلا صَدَّقَ بالقرآن وببعثه سيد الأنام (عليه الصلاه والسلام). ولا صَلَّى: لله، لم يركع، لم يسجد، لم يقف بين يدي الله، قطع الصلة بينه وبين ربه، والصلاة صِلَة بين العبد وبين ربه، الصلاة تفتح لك باباً في السماء تصعد منه كلمك الطيب. ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سورة فاطر آية: ١٠] فمن صَلَّى فُتِحَ له باب في السماء يصعد منه دعاؤه وسؤاله واستغاثته وعمله الطيب. ومن لم يُصَلِّ ليس بينه وبين السماء باب، حبله مقطوع فكيف تصل أعماله وكيف يصل دعاؤه؟ أنى يُستَجَاب له؟ ﴿فَلَا صَدَّقَ﴾ أي صَدَّقَ القرآن، صَدَّقَ ببعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) صَدَّقَ بوجود الله، صَدَّقَ بوجود القيامة ﴿وَلَا صَلَّى﴾ لله ركعة ولا سجد لله سجدة. ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ كَذَّبَ بالبعث وكَذَّب بالقيامة وكَذَّبَ ببعثة النبي (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض عن الحق. (فلا صدق) بمعنى صَدَّقَ ماله فلا أنفق ولا صَلَّى، لا زَكَّى ولا صَلَّى ولكن كَذَّبَ وتولى.
﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ يتمطى: من المـــَطّ، والأصل فيها يَتَمَطَّط. والمـــــَطّ: الـمَدّ، فهو يتمطى أي يلوي ظهره فيمشي مختالاً متبختراً يميل يمنة تارة ويسرة تارة، متبختراً مختالاً فخوراً بنفسه. (يمتطى) أي يَتَمَطَّط. أو يتمطى من المطي: الظَّهر، والمطايا: الركائب. وقيل أن الآيات نزلت في أبي جهل وكانت تلك شينة ومشية بني مخزوم؛ إذا مشى أبو جهل مشى يتبختر مختالاً لاوياً ظهره إلى الخلف، فربنا يصف مشيته ويتوعده بأربع جزاء ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾ وعيد بعد وعيد ثم تهديد بعد تهديد، أربع جزاء أربع؛ ﴿فَلَا صَدَّقَ﴾ واحدة ﴿وَلَا صَلَّى﴾ ثانية ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ﴾ ثالثة ﴿وَتَوَلَّى﴾ رابعة. أربع أفعال: لم يُصَلِّ ولم يُصَدِّق وكَذَّب وأعرض، فتوعده ربنا بأربع: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾ أولى: كلمة تهديد ووعيد شديدة وهي اسم فعل. يُقال إنها اسم فعل من وَلِيَ: قَرُبَ، من قوله (عز وجل): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ﴾ [سورة التوبة آية: ١٣٣] يَقرُبُون منكم. ﴿أَوْلَى لَكَ﴾ أي قَرُبَ منك الهلاك ثم قَرُبً منك العذاب. أو أولى لك من المقلوب بمعنى ويل لك، أي ويل لك يوم تموت فويل لك اليوم تُبعَث فويل لك يوم تُحاسَب فويل لك يوم تدخل النار. أو ﴿أَوْلَى لَكَ﴾ أي أولى بك الذم دون المدح والعذاب أولى بك من غيرك. في كل المعاني كلمة تفيد التهديد والوعيد وتوقع الهلاك وتوقع العذاب وتفيد الذم. ذاك كان تهديد لأبي جهل كما قال بعض المفسرين إذ نزلت فيه الآيات. وقال بعضهم بل التهديد للناس الذين اتصفوا بصفات أبي جهل وبصفات فراعين الأمم المختلفة. هذا الكلام عائد على أول السورة ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥)يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦)﴾ ها هو يوم القيامة يحدث فيه ذلك، والكلام عن الموت، ثم تهديد ووعيد لمن كان هذا دأبه مكذباً بالبعث منكراً ليوم القيامة غير مصدق للنبي (صلى الله عليه وسلم) لايصلي، لا يصوم، لايزكي. أيها الأخ العبد؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لو كان بباب أحدكم نهر يجري يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات هل يبقي من درنه شئ؟ قالوا: لا. قال: فكذلك الصلوات الخمس يكفر الله بها الخطايا ويغفر الله بها الذنوب ومن الصلاة إلى الصلاة كفارة" وربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [سورة هود آية: ١١٤] ويقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "أول ما يُسأَل عنه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله"
بدأت سورة القيامة بإثبات البعث والكلام عنه: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ وجاءت خاتمة السورة تسوق الدلائل العقلية والبراهين النظرية على إمكانية البعث وعلى حدوثه وعلى أنه حق، يقول الله (تبارك وتعالى):
أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴿36﴾
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةًۭ مِّن مَّنِىٍّۢ يُمْنَىٰ ﴿37﴾
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةًۭ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿38﴾
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ ﴿39﴾
أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحْـِۧىَ ٱلْمَوْتَىٰ ﴿40﴾
بعد كل ذلك يا مَن تَعقِل ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ الذي فعل كل ذلك ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قرأها عَقَّبَ قائلاً: "سبحانك اللهم وبلى" لأن إجابة السؤال إذا كان فيه نفي: بلى، "ألست بربكم" قالوا بلى، ولو قالوا نعم لكفروا لأن كلمة "نعم" تؤكد النفي، أما كلمة "بلى" تزيل النفي. (أليس) الهمز همز استفهام، و"ليس" نفي، فأنت تزيل النفي بقولك "بلى". ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ أي أليس الله الذي فعل كل ذلك (بقادر)؟ بلى قادر على كل شيء، سبحانك اللهم وبلى. ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ سبحانك اللهم وبلى. وهكذا خُتِمَت السورة بسَوْقِ الدلائل على قدرة الله على البعث كما افتُتِحَت السورة بذكر البعث وبيان أحوال البعث.
أيها الاخ المسلم؛ لم يكن الإنسان شيئاً فخُلِقَ، فإذا مات الإنسان كان شيئاً. المادة موجودة، اللحم موجود والعظم موجود وكل شيء فيه موجود، نعم يبلى ثم يتحول إلى التراب، نعم يتحول إلى أبخرة وغازات وما إلى ذلك لكن المادة موجودة. فإذا كانت موجودة أليس إعادة تركيب المادة أسهل من خلق وإنشاء المادة من العدم؟ بلى! فإن كان الله قد خلقك من عدم، من لا شيء، فالإعادة أهون وأيسر من البداية، بالعقل البداية أصعب من الإعادة، البداية من لا شيء أما الإعادة فالإعادة لشيء موجود. من هنا كانت الدلائل القوية (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) سبحانك اللهم وبلى.
أيها الأخ المسلم؛ من يهدِ اللهُ فهو المهتد ومن يُضلِل فلن تجد له ولياً مُرشِداً. الأمر واضح، الأمر بَيِّن، الأمر جَلِيّ. هذا لإيمان في قلوبنا والحمد لله بفضل الله هو الذي هدانا للإيمان، هو الذي زينه في قلوبنا وحببه إلينا، هو الذي كَرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، هو الذي جعلنا من الراشدين، فلا تَمُنَّ على الله بإيمانك أو بإسلامك بل الله يَمُنَّ علينا أن هدانا للإيمان. أما الآخرين لم يوفقهم الله (تبارك وتعالى) للإيمان مع وضوح الدلائل، مع سطوع البراهين. أيُّ إنسان يترك لنفسه وينظر لابد وأن يؤمن بالله، إي وربي! ما من لفتة، ما من همسة إلا وتُنبِئ بوجود الواحد القهار الذي أنطقك وجعلك تتكلم، الذي جعلك تتحرك، الذي جعلك تتنفس. أنت الآن تتنفس أتدري كيف تتنفس؟ أنت الآن تجلس وتنظر أتدري تُطبَع الصورة في عقلك أو في مخك ثم تعود إليك مفصلة؟ أنت الآن يجري الدم في عروقك هل أنت تجريه؟ أنت الآن قلبك يدق أتشعر بدقات قلبك؟ ألك سيطرة عليها؟
هل بدأتَها أنت وتستطيع أن تنهيها؟ أتشعر بحركة الحجاب الحاجز؟ أنت تحركه؟ أنت تثبته؟ أأنت تفرز إفرازات المعدة لتهضم الطعام؟ كل ما يدور داخل جسمك أخطر مما يدور في خارج الجسم، من الذي يفعل كل ذلك؟ الله!