
سورة المدثر
مقدمة
فاجأ جبريل النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يتحنث في غار حراء وغَطَّه وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، وغطه الثانية والثالثة ثم قال له: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وعاد النبي (صلى الله عليه وسلم) يرجف فؤاده، عاد إلى الحبيبة، إلى الأمينة، إلى سيدة نساء العالمين، إلى الصِّدِّيقة خديجة، هدأته وطمأنته. ومرت الأيام وفتر الوحي وتعجب النبي (صلى الله عليه وسلم) ما هذا الذي جاء؟ ولِمَ جاء؟ ولِمَ امتنع عن المجيء أيام؟ وعاد إلى غار حراء، عاد إليه يتحنث ويتطلع، وخرج من الغار ومشى على الجبل وسمع منادياً يناديه، فالتفت إلى اليمين فلم ير أحداً، والتفت إلى شماله فلم ير أحداً، فرفع رأسه إلى السماء فإذا بالملَك الذي جاء في غار حراء جالساً علي كرسي بين السماء والأرض سادَّاً بعِظَمِ خَلْقِه الأفق، فرعب النبي (صلى الله عليه وسلم) وخَرَّ، فكما يحكي هو عن نفسه ويقول: "فجئِثْتُ ورُعِبت" وعاد مسرعاً إلى خديجة مرة ثانية ويقول: "دثروني دثروني وصُبُّوا عليَّ الماء" فدثرته خديجة وطمأنته، وإذا بالملَك يأتيه وهو في دثاره يقول له:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴿1﴾
قُمْ فَأَنذِرْ ﴿2﴾
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿3﴾
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿4﴾
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ ﴿5﴾
وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿6﴾
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ ﴿7﴾
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ عَظِّمهُ وصِفْهُ بصفة الكبرياء. والرب: هو المرَبِّي، هو المالك. الرب: السيد. الرب: مالك الشئ. الرب: صاحب الشيء. الرب: المهتم والمعتني بالشيء. الرب : خالق الشيء. والرب: من التربية، والتربية: إيصال الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً بحسب استعداده. فربنا هو الرب، ألم تك نطفة؟ ألم تك علقة؟ ألم تك مضغة؟ ألم يخلقنا في الأرحام؟ ألم يشكل صورنا؟ ألم يخرجنا إلى هذه الدنيا ولم نك فيها شيئاً مذكوراً؟ ألم يرزقنا الطعام والكساء؟ ألم يلهمنا الفكر والعقل؟ إذاً فقد ربانا ربنا (تبارك وتعالى) خلقنا وصورنا ورزقنا وهيأ لنا كل شئ. (وربك) وسيدك ومالكك وخالقك ومتولي أمورك وموصلك لما أنت عليه، فكبره عن أن يكون له أنداد، قدسه عن أن يكون له شريكة أو ولد، نَزِّههُ عن كل ما قيل. وحين نزلت ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ نطق النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتكبير، قال: الله أكبر، ونطقت بها خديجة، وصارت كلمة يُتَعَبَّد بها لله عبادة فهي في الصلاه ذِكر وتقديس وتمجيد، بل وتفتتح بها الصلاة وبها تكبيرة الإحرام، وأيضاً بهذه الكلمة تبدأ المناسك، بل وتقال عند الذبح والهدي، وتقال عند التعبد واللجوء إلى الله. وإن كانت الكلمة كلمة عبادة ولها مواقف ولها أحوال تقال فيها، إلا أن الكلام يُشعِر بأن الله (تبارك وتعالى) يقول لنبيه وحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حين قال له: ﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ(٢)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(٣)﴾ قَدِّسهُ فهو الأكبر، وكل كبير في هذه الدنيا مقهور في قبضته، فلا تخشَ الكفار ولا تبالِ بأذاهم، ولا تخف من صناديد قريش ولا تعبأبهم فكلهم في قبضة الكبير. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ والثياب تطلق على الملابس والثياب، يُعَبَّر بها مجازاً عن البدن، فيقال فلان طاهر الثوب أي مبرأ من العيوب، أخلاقه كريمة. وفلان دَنِس الثوب بذيء متخلق بالأخلاق الرذيلة، متصف بالصفات الدنيئة. فيُعَبَّر بالثوب عن الأخلاق، ويُعَبَّر بالثوب عن الدين، ويُعَبَّر بالثوب عن العمل، ويُعَبَّر بالثوب عن الجسم لأن ألصق شيء بجسم الإنسان هي ثيابه، فيُعَبَّر بها عن القلب وعن العمل وعن النفس وعن الجسد وما إلى ذلك. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي وحَسِّن عملك وبَرِّئه من الشرك، وطَهِّر قلبك من أن يحل فيه سوى الله، وطَهِّر أخلاقك وحَسِّن خُلُقَك. ونبينا (صلى الله عليه وسلم) مطبوع على الأخلاق الكريمة، وكأن الأمر له بالمداومة، فهو على الخلق العظيم منذ خُلِق، وهو على الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة منذ خُلِق، فإن كان المعنى: وحَسِّن خُلُقَك وطَهِّر قلبك أي دُم على ذلك، فالأمر بالمداومة لأنه طاهر الذيل أصلاً. وإن كان المقصود بالثياب؛ ثوب البدن، قالوا إن يكون متأنقاً في لباسه. وقيل و﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ بالغسل من النجاسات، وكان المشركون لا يتطهرون، فأُمِرَ بغسل الثياب من النجاسة. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ بالتقصير، فقد كانت العرب تجر أذيالها، فكان الرجل يمشي جاراً لذيله مطولاً لثوبه حتى يجره على الأرض يلوثه بالتراب والنجاسات وكأنه مستغنٍ عن الثوب فلديه أثواب كثيرة، خيلاء واستكبار وبطر، فأُمِرَ بتقصير الثياب ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي فقَصِّرها حتى لا تمس النجاسة في الأرض. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي البس من حلال وإياك أن تلبس من حرام. وكل هذه المعاني تحويها الكلمة (وثيابك فطهر)، تحوي الثياب الظاهرة وتحوي أيضاً الجسد والعمل والقلب والنفس وما إلى ذلك. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ استدل بها الأئمة وعلى رأسهم الشافعي على وجوب طهارة الثوب في الصلاة.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ ﴿والرِّجز فاهجر﴾ قراءتان. ومعنى الرُّجز والرِّجز: العذاب، من قول الله (عز وجل) حكاية عن بني إسرائيل ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٣٤]، وقوله ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٣٤] أي العذاب. ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ أي اهجر الأعمال التي تؤدي إلى العذاب، اهجر الشرك واهجر المعاصي واهجر الأخلاق الدنيئة والأفعال الخسيسة، اهجر ما يؤدي إلى الرجز أي ما يؤدي إلى العذاب. وقال بعض الناس -وهو الأرجح كما نعتقد- الرُّجز –بالضم-: الصنم والوثن، الرِّجز –بالكسر-: المعاصي والعيوب المؤدية إلى العذاب. والرِّجز في الأصل هو العذاب. فبالضم: الصنم والوثن، وبالكسر: العذاب. أي ابتعد عن الأصنام والأوثان وما يؤدي إلى العذاب فاهجره وابتعد عنه. والهجر: التَّرْك إلى الأبد، لأن كلمة تَرَكَ قد تعني العودة، تركه ثم يعود إليه، أما الهجر فتعني الترك وإلى الأبد بلا عودة. لذا قال: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾. ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ ﴿ولا تَمُنّ تستكثر﴾ قراءة. وتستكثرُ بالضم، وقُرِأت "تستكثرْ" بالسكون، و"تستكثرَ" بالفتح. ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ فيها معانٍ كثيرة وكلها تحتملها الكلمة. المـــَنّ: العطاء، والمنة: العطية. والمــَنّ أيضاً قد يكون تعديد النعم على من أنعمتَ عليه. تَمُنُّ عليه: أي تَعُدُّ عليه نِعَمَك، ومنه قول الله (عز وجل): ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [سورة البقرة آية: ٢٦٤] تعدد النعم. مَنَنْتُ عليه: أعطيتُه. مَنَنْتُ عليه: عَدَّدْتُ عليه النعم التي أعطيتُها له. ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ أي لا تعطي عطاءً وأنت تستكثر ما أعطيت، لأن الكريم مهما أعطى لا يستقلل ما أنفقه وأعطاه. (ولا تمنن تستكثر) لا تعطي عطاءً طالباً العوض مستكثراً منه، كأن تهدي لأحد الناس هديى وأنت تتوقع العوض وأن يرد لك أفضل منها، فإن أعطيتَ فالعطاء لله. (ولا تمن تستكثر) لا تَمُنّ على الله بالعبادة مستكثر لأفعالك ولعبادتك، فالله وفقك إليها ولولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، لا تستكثر العبادة فتَمُنّ بها على الله، بل هو الذي هداك لها. ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ أي لا تتحمل الرسالة والنبوة وتَمُنّ على الله بتحملك للرسالة والنبوة، بل ربنا اصطفاك لها وطهرك لها. ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ على الناس بالبلاغ، بأن تبلغهم، بأن تنذرهم، بأن تحذرهم، بأن تعلمهم فتَمُنّ عليهم بالتعليم، تستكثر مجهودك، تستكثر تعليمك وإنذارك، أو تستكثر منهم الأجر، (إن أجري إلا على الله) . ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ أرجح الأقوال فيها: لا تعطي عطاءً وأنت منتظراً للعوض، مستكثراً للمال لديك بأن تعطي وأنت متوقع أن يأتيك مقابل العطية أكثر منها. والآية نهي على التحريم لسيد الخلق عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم. أما لأمته فذاك جائز، جائز لك أن تهادي أخاك وأنت تتوقع بأن يهاديك بمثل ما أهديت أو أكثر. يجوز ذلك للأمة ويحرم على النبي (صلى الله عليه وسلم). فالنهي نهي تحريم بالنسبة له وهي خاصة له، ذاك قول. وقول آخر يقول: بل النهي نهي تنزيه له ولأمته وذاك أرجح، إذ من خلق الكريم أن يعطي غير منتظر جزاءً على عطاياه، ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [سورة الإنسان آية: ٩] هكذا الكريم، فهي نهي تنزيه للنبي (صلى الله عليه وسلم) وللأمة، قولان في الآية. "تستكثرُ" حين قُرِئت بالضم فهي كقولك: جاء الرجل يركضُ أي ركضاً. "تستكثرْ" قيل السكون للتخفيف. وقيل "تستكثرَ" بالفتح مع تَوَهُّم لام (كَي)، أي ولا تمنن لتستكثر، فقُرِئت بالنصب لوجود اللام المقدرة. وقراءتنا -قراءة حفص- بالضم.
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ أي فاصبر على أذى القوم، واصبر على تكذيبهم، واصبر على أذاهم، واصبر على البلوى، واصبر على مشقة الرسالة، واصبر على صعوبة التكليف، واصبر على قضاء الله (عز وجل) ويكون صبرك لله. وكما قال له الله (تبارك وتعالى): (وما صبرك إلا بالله).
تلك الآيات الأولى من سورة المدثر والتي نزلت على النبي (صلى الله عليه وسلم) بمكة، ثم نزلت باقي الآيات وبقية السورة أيضاً بمكة، فالسورة كلها مكية. توجه الخطاب بعد ذلك بالتهديد والوعيد وبوصف يوم القيامة:
فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ ﴿8﴾
فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍۢ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴿9﴾
عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍۢ ﴿10﴾
بُعِثَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وكانت مكة تعج بالكفر والفجور وأصناف المعاصي التي لاتعد ولا تحصى. بُعِثَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان بمكة صناديد قريش، أهل الجاه والزعامة والرياسة، وكثرت أموالهم وأولادهم من التجارة ومن مرور القوافل عليهم. جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) ليحطم الأصنام ويكفل الأيتام، جاء ليأمر ببِرِّ الأمهات ويمنع من وأد البنات، جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) ليغير العادات الذميمة وما اعتادوه، جاء يأمرهم بالصدق وبالصلة والبر وبالوفاء وبمراعاة الجار وباجتناب المحارم وبتوحيد الله (عز وجل). جاءهم بالخير كله، جاءهم بخيرَيِ الدنيا والآخرة فكذبوه وقالوا فيه الأقاويل؛ فمن قائل هو شاعر؛ ومن قائل بل هو كاهن؛ ومن قائل بل هو مجنون؛ ومن قائل بل هو كاذب. ويصبر على الأذى ويخالقهم بأحسن الأخلاق، الحِلم كله والأدب كله والصبر كله. وفي يوم جاء واحد من صناديد قريش، كان يقول عن نفسه: أنا الوحيد ابن الوحيد فليس لمثلي نظير ولأبي نظير - الوليد بن المغيرة – ذا مال وولد، كان له عشرة من الأبناء، وكان له مال ممتد من مكة إلى الطائف، وكان له الزرع والضرع والتجارة. ذاك الرجل كانوا يطلقون عليه ريحانة قريش. جاء يوماً للنبي (صلى الله عليه وسلم) يراوده ويقول له: يا ابن أخي جئتَ بكذا وكذا، جئتَ بما لم يأت به الأوائل، سَفَّهْتَ أحلامنا وسَبَبْتَ آباءنا وكذا وكذا، إن أردتَ كذا فعلنا وإن أردتَ كذا فعلنا، والنبي يسمع ويصبر (عليه الصلاة والسلام) حتى انتهي الوليد بن المغيرة المخزومي - وذاك اسمه - فلما انتهى قال النبي (صلى الله عليه وسلم): هل انتهيت يا وليد؟ قال : نعم. قال: هل تسمع مني؟ قال: أَسمَع، فقرأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) الآيات الأولى من سوره فصلت: ﴿حم(١)تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(٢)﴾ [سورة فصلت آية: ١-٢] قرأ الآيات الأولى من سورة فصلت حتى وصل إلى ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [سورة فصلت آية: ١٣] هنا قام الوليد. في الآيات كلام عن قدرة الله (تبارك وتعالى): ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَفِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(١٠)﴾ [سورة فصلت آية: ٩-١٠]، ثم يأتي الكلام عن السماء: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(١٠)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(١١)فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(١٢)فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(١٣)﴾ [سورة فصلت آية: ١٠- ١٣] وهنا قال الوليد: حسبي، أتنذرنا بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود؟ حسبي حسبي، وقام وخرج والملأ من قريش ينتظرونه، فنظروا إليه وقال أحدهم: لقد جاء الوليد بوجه غير الذي ترككم عليه، ذهبوا إليه: ما الخبر يا وليد؟ قال: تقولون في محمد أقوال ومتفرقون أنتم في شأنه والله لقد سمعت منه كلاماً آنفاً ما هو من كلام الإنس وما هو من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمِر وإن أسفله لمغدِق وإنه يعلو ولا يُعلى عليه. قالوا: صبأ الوليد - صبأ: أي خرج من دينه - صبأ الوليد لتصبُوَنَّ قريش كلها. وذهب الوليد إلى بيته، وصاح الناس: الوليد ريحانة قريش الوحيد بن الوحيد يصبأ، يتبع محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول هذا الكلام في شأن القرآن، كلام ما سمعناه إلا من الوليد. فقال أبو جهل -وهو ابن أخيه-: أنا أكفيكموه، وذهب إلى الوليد وجلس إلى جواره حزيناً تعلوه الكآبة، فقال له الوليد: مالك يا ابن أخي تعلوك الكآبة؟ مالي أراك حزيناً؟ فقال أبو جهل: ومالي ولا أحزن وقد تركتُ قريش يجمعون لك من المال يعينونك به على كِبَرِ سنك، إنهم يقولون إن الوليد صبأ ويزين كلام محمد لأنه يذهب إليه، إلى ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة يأكل من طعامهم، فثار الوليد وغضب غضباً شديداً وقال: كيف ذلك؟ لقد عَلِمَت قريش أني لأكثرهم مالاً وولداً، وهل بقي لمحمد وصاحبه طعاماً حتى آكل منه؟
أنا آكل كِسَرَ هذا الرجل؟ فغضب واستثاره أبو جهل، أثار فيه الحمية والجاهلية بعد أن أوشك أن يرى الحق، ويذكرنا هذا بقوم إبراهيم حين قال لهم: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ(٦٣)فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ(٦٤)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ(٦٥)﴾ [سورة الأنبياء آية: ٦٣- ٦٥] إي وربي! ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [سورة الكهف آية: ١٧] كلام في القرآن: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، أعلاه مثمر، أسفله مغدق، ما هو بكلام الجن ولا بكلام الإنس، ما يقول هذا بشر، يعلو وما يُعلى عليه، كل ذلك يقوله، وجاء أبو جهل فأثار الحمية وأغاظه، فقام وعبس وقَطَّبَ بين عينيه ومشى وأخذ يفكر ويقول: أبداً ما صبوت، ولكن أفكر في كلمة تُجمِع عليها العرب فلا تتفرقوا في شأن محمد وإنما تجتمعون على كلمة واحدة تقولوها في شأنه فتُصَدَّقون فيه، إنكم تقولون كاهن أرأيتموه تَكَهَّن؟ والكهانة فيها سجعاً وخداعاً، أرأيتموه تَكَهَّن؟ قالوا: لا، قال: تقولون شاعر ولقد سمعتم الشعر من الشعراء وما هو بالشعر، أرأيتموه قال شعراً؟ قالوا: لا، قال: تقولون عنه مجنون ،والمجنون يخنق الناس، فهل خنق محمد أحداً؟ قالوا: لا، قال: تقولون عليه كاذب، فهل جربتم عليه كذباً قط؟ قالوا: لا، لم نجرب عليه الكذب، قال: إذاً فكل ذلك لا يصح، وإنما هو ساحر لأنه يفرق بين الأب وابنه ومواليه، يفرق بين الرجل وامرأته، والأخ وأخيه، والأب وابنه ومواليه، وذلك من أفعال السحر، بل هو ساحر وما يقوله سحر يُروى ويؤثَر عن من كان قبله. وارتد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فهو الذي زعم أن نبينا ساحر وأن القرآن سحر، فنزلت الآيات بتهديد ووعيد لا شبيه له ولا مثيل،
يقول الله (عز وجل):
ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًۭا ﴿11﴾
وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالًۭا مَّمْدُودًۭا ﴿12﴾
وَبَنِينَ شُهُودًۭا ﴿13﴾
وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيدًۭا ﴿14﴾
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿15﴾
كَلَّآ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِـَٔايَـٰتِنَا عَنِيدًۭا ﴿16﴾
سَأُرْهِقُهُۥ صَعُودًا ﴿17﴾
إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾
ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾
ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ ﴿23﴾
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا سِحْرٌۭ يُؤْثَرُ ﴿24﴾
إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ ﴿25﴾
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾
وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾
لَا تُبْقِى وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾
لَوَّاحَةٌۭ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾
﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾ المال الممدود: الممتد المبسوط الواسع، وقيل: كان له المال بين مكة والطائف. أو الممدود: الذي لا ينقطع، يُمَدّ بالربح بصفة مستمرة، المال يَمُدُّ بعضه بعضاً، فالمال يأتي بالمال وهكذا، له زرع وضرع وتجارة، كل مال يأتيه بمال آخر فيمد بعضه بعضاً. ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ أي أولاد يشهدون معه ما يشهده، ويقومون بما يباشره، كبروا وبلغوا مبلغ الرجال وصاروا مساوين له يشهدون ما يشهده ويباشرون ما يعمل. ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ حاضرين معه بمكة لا يسافرون للتجارة ولاكتساب الرزق، فالرزق وفير أغناهم عن السفر وعن التعب والمشقة للرزق والسعي على الأرزاق، فهم شهود معه إن شهد، حاضرون معه لا يغيبون عنه لا في سفر ولا في حضر. ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾: هيأت له. والتمهيد: التهيئة والتوطئة، ومنه مَهْدُ الصبي: السرير الذي يتهيأ ويوطأ للصبي الصغير يكون ليناً ناعماً. مهدت له تمهيداً: هيأت له الجاه والسلطان والعز والذكر بين الناس والاحترام. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ "ثم" هنا ليست (ثم) التي للنسق، أي ليست للترتيب، وإنما "ثم" هنا للتعجب والاستبعاد، كأن تقول لأحد الناس: أطعمتُك وكسوتُك وفعلتُ وفعلتُ ثم تشتمني؟ وكقول الله (عز وجل): ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [سورة الأنعام آية: ١]، بعد كل ذلك يكفرون به بعد أن خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور. فــــــــ (ثم) هنا لاستبعاد هذا الفعل والتعجب منه؛ ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾؟ بعد كل ذلك؟ بعد أن مهدت له تمهيداً وأعطيته مالاً ممدوداً وبنين شهوداً يطمع بعد ذلك كله أن أزيده؟ وهل فعل ما يستوجب الزيادة؟ هل شكر النعم؟ هل آمن بالله؟ كيف يكفر ويطمع بعد ذلك؟ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ "كلا" كلمة ردع وزجر وهي متصلة بما سبق، ردع وزجر عن هذا الطمع في الزيادة. أو (كلا) إذا أُلحِقَت بما وراءها من كلام ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ تعني:"حقاً". وكلمة "كلا" إذا ألحقتَها بما سبق من كلام فهي تعني الزجر والردع؛ أي ليس الأمر كذلك. وإن أُلحِقَت بما تبعها من كلام فهي تعني (حقاً) مثل: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ [سورة المدثر آية: ٣٢] أي: حقاً والقمر، أُقسِم بالقمر. (كلا إنه كان لآيتنا عنيدا) المعانِد: المنصرِف عن الحق مع علمه بأنه حق. عَنَدَ يعنُد فهو عانِد وهو عنيد. والعاند جمعه عُنَّد كراكع و رُكَّع. والعنيد جمعه عُنُد كرغيف ورُغُف. والمعانِد والعانِد الذي يرى الحق ومع ذلك لا يسلم ولا يتبعه. ﴿إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ لأنه حين سمع الآيات قال فيها ما قال: ما هو بكلام الإنس وما هو بكلام الجن... رأى الحق ثم بعد ذلك انصرف عن الحق فهو معانِد. والعَندُ أصلاً: الميل، فالعانِد مال عن الحق مع معرفته بالحق إلى الباطل. ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ رَهَقَه يرهقُه. الرَّهَق: الغشيان بقهر. الرَّهَق: حَمْلُ الإنسان على فعل شيء رغماً عن أنفه. الرَّهَق: ما يغشى الإنسان بشدة وبرهق ولا يتحمله. (سأرهقه) سأكلِّفه سأُلجِئُه. (صعودا) عذاباً لا يقوى على احتماله. وقالوا (الصَّعود): جبل من نار جهنم، يُكَلَّف أن يصعد هذا الجبل، يُجذَب من أمامه بالسلاسل ويُدفَع عن خلفه بالمقامع فيتكلف صعود الجبال أربعين سنة أو سبعين خريفاً، ثم يهوي نفس المدة، ثم يصعد، وهكذا دأبه دائماً أبداً. وقيل (الصَّعود): صخرة في نار جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، وإذا رفعوها عادت، يُكَلَّفون الصعود عليها، وهكذا يصعد ثم يهوي ثم يصعد ثم يهوي ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(١٨)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(١٩)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(٢٠)﴾ تعليل للعذاب، أيضاً بيان للعناد. تعليل للعذاب الذي أُعِدَّ له (إنه فكر) فكر في القرآن ماذا يقول فيه (وقدر) وهيأ في نفسه ما يقول من كلام. وقَدَّرتُ الشئ أُقَدِّرُه: هيأتُهُ وأعددتُه. فَكَّرَ ماذا يقول في القرآن وكيف يطعن فيه. (فقتل) أي فلُعِن، قُهِرَ وغُلِبَ، فهي دعاء. (كيف قدر) والسؤال للإنكار، والسؤال للتوبيخ، والسؤال للتعجيب. سمعتَ الكلام وقلتَ فيه ما قلت ثم تَدَّعي بعد ذلك إنه سحر؟ كيف تقول ذلك والسحر خداع والسحر خديعة والسحر إظهار الباطل في صورة الحق؟ ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ تكرير، أي لُعِنَ لعناً بعد لعن، وقُهِرَ قهراً بعد قهر، وغُلِبَ غَلباً بعد غَلب. حيثما قَدَّر، حيثما وأينما قدر، وأينما هيأ وأينما تكلم وأينما أعد وهيأ الكلام فهو مغلوب لا محالة، مقهور لا شك، مقتول والقاتل له هو الله. ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ نظر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أو نظر في القرآن. ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ عَبَسَ يعبِس عَبْساً وعُبُوساً: ضَيَّقَ ما بين حاجبيه، قَطَّبَ جبينه، ذاك هو العبوس. وأصل العبوس: ما يعلق بأذيال البقر والإبل من البعر والبول فتجف وتصبح فيها الانقباض واليبس، كل ما تعلق بذيل البقر وذيل الإبل من البعر والقذارات والنجاسات تيبس، فعُبِّرَ باليبس للصلابة عن كل من يقطب جبينه. (وبسر) بَسَرَ يَبسُرُ بُسراً وبُسُوراً: كَلَحَ وجهُه وتغير واسود وتلون. (ثم نظر) يتأمل ماذا يقول وماذا يفعل. ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ قَطَّبَ جبينه. (وبسر): تأكيد العبوس. وقيل البسور قبل المحاورة والعبوس بعد المحاورة. وقيل البسور بمعنى إتيان الشيء قبل أوانه، ومنه الطفل الذي وُلِدَ قبل أوانه يقال مُبتَسَر، بَسَرَ الشيء: أي طلبه قبل أوانه. فكأنه عبس قبل أوان العبوس، أوان العبوس يوم القيامة ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [سورة القيامة آية: ٢٤]. ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ أدبر عن الحق وابتعد عنه وتولاه الكبر والخيلاء. ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ يؤثَر: يُروَى، يرويه الرجل عن غيره . أَثَرْتَ الحديث: ترويه عن غيرك، ومنه الحديث المأثور: يرويه الخلف عن السلف، فكل مأثور من الحديث معنى ذلك أنه يؤثِر الحديث أي يرويه فلان عن فلان. ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ حين فكر وقدر ونظر وعبس وبسر بعد ذلك كله ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ وجاء بالفاء ليشعرك بأن الكلمة جاءته كخاطر، هو سحر، وبمجرد جاءت الكلمة كخاطر نطق بها دون تلبث، دون تفكر، دون تأمل، فقال إن هذا إلا سحر يؤثَر، وجاء بحرف "الفاء" ليبين أنه قالها بلا تفكير. (إن هذا) بغير واو العطف لتأكيد الكلام أنه سحر. ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ ذاك ما انتهى إليه الوليد، لذا حكى ربنا (تبارك وتعالى) عنه ذلك ثم قال: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(٢٦)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(٢٧)لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(٢٨)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(٢٩)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(٣٠)﴾ قد يتكلم المرء بالكلمة من رضوان الله يُرفَع بها إلى أعلى عليين، وقد يتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها إلى أسفل سافلين. وقد تكلم صنديد من صناديد قريش بكلمة -ذاك هو الوليد بن المغيرة- سمع القرآن ووجد له حلاوة، أوشك أن يُصَدِّق ثم أخذته العزة بالإثم فاستكبر وفكر وقدر ونظر وعبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثَر إن هذا إلا قول البشر، فرد الله (تبارك وتعالى) عليه متوعداً ومهدداً: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(٢٦)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(٢٧)لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(٢٨)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(٢٩)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(٣٠)﴾ سقر: جهنم، سقر: طبقة من طباق جهنم. وأصل الكلمة من سَقَرَتهُ الشمس: أحرقته وسودت جلده ولفحته. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ سؤال للتهويل، سؤال للتفظيع. وكل ما جاء في القرآن "وما أدراك" فقد أدراه الله (تبارك وتعالى) . وكل ما جاء في القرآن "وما يدريك" فما أدراه الله (تبارك وتعالى). ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ ثم بَيَّنها وتكلم عنها فقال: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ لا تبقي لهم لحماً ولا تدع لهم عظماً، لا تبقي منهم أحداً حياً ولاتترك فيهم أحداً ميتاً، كلما أحرقتهم عادت فأحرقتهم، إذ كلما نضجت جلودهم بَدَّلَهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، لا تبقي أحدا حياً ولا تذر أحداً ميتاً، لا يموتون فيها ولا يحيون، لا حياة ولا موت، لا تبقيهم أحياء، تحرقهم وتقضي عليهم وتهلكهم، ثم لا تذرهم أمواتاً بل تعيد حرقهم وتدميرهم وإهلاكهم. ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ التكرار للتأكيد ولنفس المعنى، لا تبقي أحداً منهم ولا تذر ولا تترك منهم أحداً. أو لا تبقي لحماً ولا تذر عظماً. أولا تبقيهم أحياء ولا تتركهم أموات. ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ لواحة: مُغَيِّرة. لاحه ولَوَّحَه: غَيَّرَه. إذ تلفحهم لفحة في أول لقاء تترك وجوههم مسودة، أشد سواداً من الليل. والبَشَر: جمع بشرة. والبشرة: ظاهر الجلد، وجمع البَشَر أَبْشَار. ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ أي مُغَيِّرة للجلود، تُسَوِّدها، تلفحها فتغير لونها. ولواحة أيضاً: بمعنى مُعطشة. لاحه العطش: غَيَّرَه ولَوَّحَه، فهي مُعطشة للبشر أي للناس. ولواحة أيضاً: تلوح لهم من بعيد فتظهر. لاح: لمح، تظهر لهم من على بعد خمسمائة عام يرونها. (لوّاحة) وقُرِئت (لواحة ) لواحة: نَعتٌ لسَقَر. لواحةً بالنصب على الاختصاص لتهويل شأنها. والبشر إما جمع بشر: الجلد، فهي مغيرة للجلود. وإما البشر هم الناس تلوح لهم أو تعطشهم. ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ تسعة عشر مَلَكاً، أو تسعة عشر نقيباً، أو تسعة عشر صنفاً من الملائكة، أقوال. وقُرِأَت (تسعة عشر) بسبع قراءات أصحها: تِسْعَةَ عَشَرْ، تِسْعَةَ عْشَرْ -بإسكان العين والراء- تِسْعَةَ وَعَشَرْ: أي تسعة عشر، تِسْعَةَ أَعْشُر: جمع عشير أو جمع عَشْر فيصبح العدد تسعين. ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ على سقر، وسقر: طَبَقٌ من طِباق جهنم ومُوَكَّل بها تسعة عشر. أو تسعة عشر على جهنم جميعاً - مالك خازن النار ومعه ثمانية عشر- أو تسعة عشر نقيباً، وكل نقيب معه عدد. أو تسعة أَعشُر؛ عشير، والعشير هو النقيب، جماعات. خلاف والله تبارك وتعالى أعلم بعدد جنوده. وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه تكلم عن جهنم فقال: "يُؤتَى بجهنم ولها سبعون ألف زمام على كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرونها" ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ وسمع الكلام أبو جهل فقال لقريش: يا معشر قريش أما لرب محمد من جنود سوى تسعة عشر؟ أيعجز أحدكم وأنتم العدد أن يبطش على عشرة منكم بواحد منهم ويخرجون من النار؟ ورَدَّ كافر من كفارهم وقال: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، وقالوا وقالوا. فَرَدَّ الله (تبارك وتعالى) عليهم فقال:
وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةًۭ ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةًۭ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِيمَـٰنًۭا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ وَٱلْكَـٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلًۭا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴿31﴾
كَلَّا وَٱلْقَمَرِ ﴿32﴾
وَٱلَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿33﴾
وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴿34﴾
إِنَّهَا لَإِحْدَى ٱلْكُبَرِ ﴿35﴾
نَذِيرًۭا لِّلْبَشَرِ ﴿36﴾
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴿37﴾
كُلُّ نَفْسٍۭ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴿38﴾
إِلَّآ أَصْحَـٰبَ ٱلْيَمِينِ ﴿39﴾
فِى جَنَّـٰتٍۢ يَتَسَآءَلُونَ ﴿40﴾
عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾
مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ﴿42﴾
قَالُوا۟ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ ﴿43﴾
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴿44﴾
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلْخَآئِضِينَ ﴿45﴾
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿46﴾
حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلْيَقِينُ ﴿47﴾
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ ﴿48﴾
فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌۭ مُّسْتَنفِرَةٌۭ ﴿50﴾
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍۭ ﴿51﴾
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًۭا مُّنَشَّرَةًۭ ﴿52﴾
كَلَّا ۖ بَل لَّا يَخَافُونَ ٱلْـَٔاخِرَةَ ﴿53﴾
كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذْكِرَةٌۭ ﴿54﴾
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ﴿55﴾
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴿56﴾
يتوجه الخطاب بعد ذلك إلى كفار مكة، بعد هذا التهديد والوعيد يقول الله (عز وجل): ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ أيُّ شيء دفعهم للإعراض عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن القرآن؟ ما لهم عن التذكرة وعن التذكر والتفكر معرضين؟ ويأتي التشبيه للتحقير فيُشَبِّهُهُم ربنا تبارك وتعالى بالحمير؛ بالحُمُر الوحشية. ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ وقرئت "مستنفَرَة" بفتح الفاء وبكسر الفاء. هي نَفَرت -بفتح الفاء- نَفَرَها غيرها: فَرَّت ووَلَّت وأدبرت. شَبَّهَ إعراضهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وانظر إلى التشبيه، التمثيل، يكون التهجين والتحقير، شَبَّهَ إعراضهم عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كلما رأوه فَرُّوا وأدبروا وأسرعوا بعيداً عنه كما تَفِرُّ الحُمُر إذا رأت الأسد. ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ قسورة جمع قَسْوَر. والقَسْوَر: الصائد الرامي، والقسورة: الرماة يصيدون الوحوش، فإذا رأت الحُمُر الصائدين فَرَّت منهم، فَرَّت من جماعة الرماة؛ الرجال الصائدون الذين يصيدون الحُمُر الوحشية. أو قسورة بمعنى الأسد، ويطلق على الأسد قسورة من القَسْر والقهر، لأن الأسد يقهر بقية السباع، فالحُمُر إذا سمعت صوت الأسد فَرَّت وهربت وجرت في كل اتجاه، فشَبَّهَهَم ربنا (تبارك وتعالى) في إعراضهم عن الحق وعن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن القرآن بالحُمُر التي تفر إذا رأت الأسد.
﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ دعك من هذا التشبيه والتمثيل، دعك من إعراضهم هذا الإعراض المستهجَن، وتعالَ واسمع الأدهى والأَمَرَّ، شرطوا لأن يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) أن يُؤتى كل واحد منهم قرآناً كما أوتي محمد قرآناً وقالوا: ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٣] فإما أن ينزل من السماء كتاباً منشوراً يقرؤه الكل يقول إن محمداً نبي الله، وإما أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيصبح كل واحد منهم نبي ورسول. وانظر إلى سفاهة العقول وسفاهة الأحلام! ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ بإسكان الحاء قراءة، وإسكان النون "مُنْشَرة" قراءة، أو ﴿صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ بضم الحاء، أي صحيفة منشورة مفتوحة تُقرَأ ظاهرة للعيان. ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ﴾ "كلا" أبداً لن يحدث! كيف وربنا يصطفي من خلقه ما يشاء؟ وكيف يصبح الناس كلهم أنبياء ورسل؟ "كلا" ردع وزجر. ﴿بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ﴾ الأمر الذي منعهم من الإيمان ليس لأنهم لم تُنَزَّل عليهم الكتب بل لأنهم لا يخافون يوم القيامة. (كلا) زجر وردع، كلا لن يحدث، ولن يُؤتى أحد منهم صحفاً منشرة، كلا لن يجابوا إلى طلبهم، وإنما الأمر أنهم لا يخافون الآخرة، وليس ذلك الذي منعهم من الإيمان أنهم طلبوا الكتب ولم تُنَزَّل عليهم الكتب. أو "كلا": حقاً بل لا يخافون الآخرة، حقاً هم كفار، والذي أودى بهم إلى هاوية الهلاك أنهم لا يخافون الآخرة . ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ تكرار للردع والزجر، أو حقاً إن القرآن تذكرة، حقاً إن النبي (صلى الله عليه وسلم) يُذَكِّر الناس. كلا إن القرآن كلام الله (تبارك وتعالى) (فمن شاء ذكره). ولكن مشيئة العبد متعلقة بمشيئة الخالق سبحانه، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهو الفعال لما يريد، ولذا قال: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(٥٥)وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وقُرِئت ﴿وما تذكرون﴾ بالتاء. فمشيئة العباد متعلقة بمشيئة الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ لكن إذا أراد أن يتذكر لا يحدث هذا التذكر إلا بإرادة الله وبمشيئة الله، كقوله (عز وجل): ﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة التكوير آية: ٢٩]، فمشيئة العبد متعلقة بمشيئة الرب، وربنا (تبارك وتعالى) إذا شاء الهُدى هُدِيَ العبد، وإذا شاء الضلالة ضَلَّ العبد. ورغم ذلك فالعبد مُخَيَّر وليس مَسَيَّر، بل ربنا (تبارك وتعالى) ترك لنا التخيير، أَمَرَنا تخييراً ونهانا تحذيراً، ومع ذلك ما نشاء إلا أن يشاء الله لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد. ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ قرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه الآية ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ فحَدَّثَ وقال عن رب العزة: "يقول الله (عز وجل): أنا أهلٌ أن أُتَّقَى فمن اتَّقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له". (هو أهل التقوى) أي هو أهل أن يُتَّقى وأن يُتَّقى غضبه وأن يُتَّقى عذابه. (وأهل المغفرة) لأن من استغفر الله غفر الله له. هو أهل لأن يغفر لكل من تاب وأناب، بل من اجتنب الكبائر غُفِرَت له الصغائر، وكلما أذنب العبد ثم استغفر غفر الله له ولو أذنب في اليوم ألف مرة. واللهِ ما استغفر عبد إلا وغفر الله له لأنه هو القائل: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءَاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِد الله غَفُوراً رَحِيماً﴾ [سورة النساء آية: ١١٠].