سورة المزمل

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة المزمل‫.‬ سورة المزمل سورة مكية في أرجح الأقوال وهناك رأي يقول إن آخر السورة مدني من قوله‫:‬ ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾. والأرجح أن السورة بكاملها سورة مكية .‬‬‬‬
‫وقيل في سبب نزولها أن النبي صلي الله عليه وسلم في بدء الوحي حين كان في حراء ورأي جبريل في صورته الملائكية، بعد المرة التي جاءه فيها وغَطَّه فيها وكان على صورة بشرية، وقال له اقرأ‫.‬.. وفَتُرَ الوحي فترة‫.‬ وحين ذهب مرة أخري إلي حراء فوجئ بالمــَلَك على كرسي بين السماء والأرض سادَّاً بعِظَم خلقه الأفق، فارتعد وعاد إلي بيته خائفاً مذعوراً يقول‫:‬ زملوني زملوني ... دثروني دثروني، فنزلت‫:‬ (ياأيها المدثر) إلى قوله‫:‬ (و الرجز فاهجر) ثم نزل على إثرها‫:‬ (يا أيها المزمل ).

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًۭا ﴿2﴾ نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًۭا ثَقِيلًا ﴿5﴾
المزمل في الأصل‫:‬ المتزمِّل‫.‬ المتزمِّل‫:‬ المتحمِّل أو المتلفِّف‫.‬ زَمَلَ الشئ‫:‬ حَمَلَه . فالمتزمل هو من يحمل شيئاً، يحمل حملاً. والمتزمل‫:‬ المتلفف في ثيابه وغطائه‫.‬ وزَمَّلَه غيرُه‫:‬ لفَّفَه وغَطَّاه ولَفَّه بالغطاء والثياب‫.‬ و المتزمل قُرِئت بثلاث قراءات؛ قُرِأَت (يا أيها المتزمل) على الأصل، وقُرِأَت (يا أيها المــُـزَّمِّل ) كما نقرأها بقراءة حفص‫.‬ وقُرِئت (يا أيها المـــُــزَمَّل ) أي المحَمِّل نفسَه أو المحَمِّله غيرُه‫.‬ وإذا كانت الكلمة على المجاز، إذا حُمِلَت على المجاز، يا أيها المزمل بالنبوة، المتحمل للرسالة‫.‬ وإذا حُمِلَت الكلمة على حقيقتها (يا أيها المزمل ) أي يا أيها النائم المتلفف بالثياب و الغطاء، قُم، والخطاب للنبي (صلي الله عليه وسلم) والمزمل ليس من أسمائه (صلى الله عليه وسلم) ولم يُدعَ بهذا الاسم أبداً، ومن زعم أن ذلك من أسمائه فقد أخطأ خطأً فاحشاً، لأن المزمل كان صفة لحالة كان عليها (صلى الله عليه وسلم) حين الخطاب، حين خاطبه ربه كان على هذه الحالة وعلى هذه الصفة؛ كان متزملاً متغطياً فلا يصح أن يسمى بهذا الاسم‫.‬ وخوطب بهذا الخطاب تلطفاً وتأنيساً خطاباً لطيفاً خفيفاً رقيقاً (يا أيها المزمل ). والعرب اعتادت في الخطاب، إذا أراد الرجل أن يخاطب أحداً مشعِراً إياه أنه لا عتاب ولا تأنيب، بل يلاطفه ويؤانسه، خاطبه بالحالة التي هو عليها، كما حدث من النبي (صلى الله عليه وسلم) حين ذهب إلى علي بن أبي طالب، وكان علي مغاضِباً لفاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان نائماً بالمسجد والتصق جنبه بالتراب، فأراد أن يخاطبه ويلاطفه مشعِراً إياه أنه لا يعاتبه ولا يؤنبه على مغاضبته لابنته فقال له‫:‬ "قُم أبا تراب، قُم أبا تراب" وكان علي رضي الله عنه يعتز بهذه الكُنية أيما اعتزاز‫.‬ وكما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) لحذيفة -وكان نائماً- مؤنساً له ملاطفاً: "قم يا نَومان" . هكذا عادة العرب، تخاطب الإنسان بالحالة التي هو عليها لإشعاره بأنه مهما حدث فلا عتاب ولا تأنيب ولا لوم ولا تقريع‫.‬ من هنا كان الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ( يا أيها المزمل ) إذاً فلم يعاتبه ربه على هذا التزمل ولم يؤنبه، بل لاطفه وأشعره بأنه لا عتاب ولا تأنيب‫.‬ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢)﴾ (قُمِ الليل) بكسر الميم تخفيفاً لالتقاء الساكنَين‫.‬ وقُرِئت بالضم (قُمُ الليل) إتباعاً لضمة القاف، والقراءتان صحيحتان‫.‬ والغرض الهروب من التقاء الساكنَين ولذا قيل قد تُقرأ بالفتح أيضاً. (قم الليل إلا قليلا ) إذاً فقد أُمِرَ بقيام الليل إلا قليلاً للنوم والراحة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(٣)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا(٤)﴾ نصفه‫:‬ أي أو نصفه‫.‬ قُمِ الليل إلا قليلاً من الليل لراحتك ولنومك أو قم نصف الليل‫.‬ ﴿أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴾ انقص من النصف حتى تصل إلى الثُّلُث‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ زِد على النصف حتى تصل إلى الثلثين‫.‬ إذاً فقد أُمِرَ أن يقوم الليل كله إلا قليلاً من الليل للراحة‫.‬ وخُيِّر بين قيام النصف أو قيام ثلثي الليل أو قيام ثلث الليل، لأن ما زاد على النصف وصل إلى الثلثين، وما قل عن النصف وصل إلى الثلث‫.‬ وقد يكون كلمة (نصفه) بدلاً من الليل‫.‬ (قم الليل إلا قليلاً نِصفَه ) أي قُم نصفَه، فإذا كان كذلك (إلا قليلا): إلا النصف، لم سُمِّيَ النصف قليلاً والنصف ليس بقليل بل مساوٍ؟ قُم الليل أي قُم نصف الليل، إذا كانت نِصفَه بدلاً من الليل ليست بمعنى (أو نِصفَه)، بدل من الليل، أي قم نصف الليل إلا قليلاً من النصف، في هذه الحالة يصبح التعبير‫:‬ " إلا قليلاً " بمعنى أن النصف الذي ينام فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن كان مساوياً للنصف الذي يقوم فيه من حيث المدة والزمن إلا أنه قليل إذا اعتبر بأنه للنوم والنصف الاخر للقيام و الصلاة والقراءه فكان كثيراً بثوابه، كثيراً بأجره، كثيراً بالاجتهاد والقيام فيه‫.‬ (قم الليل إلا قليلا نصفه ) بدل من الليل، أي قم نصفه‫.‬ (أو انقص منه ) انقص من النصف الذي تنام فيه فيكفيك نوم الثلث‫.‬ ( أو زد عليه ) أي زِد علي مدة النوم فتنام الثلثين وتقوم الثلث‫.‬ وعليه يتغير المعنى من حيث الإعراب‫:‬ نِصفَه بدل من الليل، "نصفه" بمعنى "أو نصفه"، نِصفَه بدل من (قليلاً)، قم الليل إلا قليلاً، نِصفَه أي‫:‬ إلا نِصفَه، يتغير الإعراب بحسب وضع الكلمة، لكن في النهاية المعنى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خُيِّرَ في القيام بين الثلث والنصف والثلثين‫.‬ الأمر الثاني‫:‬ هل كان القيام فرضاً في حقه (صلى الله عليه وسلم) بهذا الأمر؟ قالوا نعم كان فرضاً في حق النبي (صلي الله عليه وسلم) فقط‫.‬ وقال آخرون بل كان حقاً، هو فرض فى حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي حق الأمة كذلك، فقد قام هو وأصحابه ورُوِيَت أحاديث تفيد ذلك أنهم قاموا حتى تورمت أقدامهم وانتفخت سيقانهم‫.‬ وقال بعض الناس بل كان فرضاً في حقه وحق الأنبياء من قبله ولم يكن فرضاً في حق الأمة‫.‬ ثلاث أقوال‫:‬ فرضاً في حقه فقط، فرضاً في حقه وحق الأنبياء من قبله، فرضاً في حقه وحق الأمة‫.‬ وقد نُسِخَ هذا الفرض في آخر السورة، فهذه السورة هي السورة التي نَسَخَ آخرُها أَوَّلَها، كان بين الآخر والأول حولاً كاملاً، سنة قام هو وأصحابه ثم نزل التخفيف‫.‬ قال بعض الناس نُسِخَ الفرض بالكلية؛ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي حق الأمة بآيات آخر السورة‫.‬ وقال بعضهم بل نُسِخَ القيام في حق الأمة فقط وبقي القيام فرضاً في حقه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى لأن الله (تبارك وتعالى) قال له بعد ذلك‫:‬ (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) أي زيادة علي الفريضة التي فُرِضَت على الأمة ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٧٩] فبقي الفرض -فرض القيام- في حقه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى‫.‬ وقال بعض الناس إن النسخ جاء بعد عشر سنين وجاء بالمدينة على قول إن آخر السورة نزل بالمدينة‫.‬ والأرجح أن النسخ جاء بعد سنة كما جاء في صحيح مسلم من أحاديث عائشة وغيرها، ذلك من حيث الفرض‫.‬ وهناك رأي يقول فُرِضَ قيام الليل على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى الأمة بالتحديد‫:‬ الثلث أو الثلثين أو النصف، ذاك كان التخفيف لأنهم لم يُقَدِّروا الليل والنهار فكانوا يقومون خشية أن يُقَصِّروا حتى يبزغ الفجر فتورمت أقدامهم وانتفخت سيقانهم، فبَيَّنَ الله لهم الثلث والنصف أو الثلثين ثم خَفَّف ذلك بقوله‫:‬ ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ في آخر السورة، إذاً فآخر السورة لم ينسخ الفرض البتة، بل نسخ فرضاً بفرض، نسخ قيام الثلث وهو أدنى قيام وجعل القيام فرض في حق كل مسلم ولو على قدر حَلْبِ شاه، ولو ركعة، ولو ركعتان، لكن القيام فريضة ولا يزال فريضة‫.‬ والرأي مرجوح، والأرجح أن الفريضة نُسِخَت بالصلوات الخمس، لأن الأعرابي الذي سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أركان الإسلام وأخبره عن الصلاة والصلوات الخمس قال‫:‬ هل عَلَيَّ غيرها؟ قال‫:‬ "لا إلا أن تَطَّوَع" فظهر من ذلك أن قيام الليل منسوخ في حق الأمة‫.‬ أما في شأن النسخ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ففيه خلاف‫.‬ ﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾ الترتيل‫:‬ القراءة على مهل وتبيين للحروف وتدبر للمعاني‫.‬ من قولهم ثَغْرٌ رَتِل أو رَتَل إذا كان مُفَلَّج الاسنان، إذا كانت الأسنان مُفَلَّجة – بين الأسنان مسافات – يُقال عن الفم‫:‬ ثَغرٌ رَتِل أي فُلِّجَت أسنانه‫.‬ فالترتيل‫:‬ التفريق، أي اقرأ القرآن على مهل وهدوء وتبيين للحروف حتى يستطيع السامع أن يعد حروفه‫.‬ فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ولو شاء الصحابة أن يعدوا الحروف عَدَّاً لعدوها، وكان يمد القراءة ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك كانت أوامر في بداية السورة بعد الخطاب الذي آنسه فيه ولاطفه؛ (قُمِ الليل): أُمِرَ بالقيام إلا قليلاً، وأُمِرَ بترتيل القرآن وأُمِرَ بالصلاة، أُمِرَ بإطراح النوم وأُمِرَ بالصلاة، وأُمِرَ بقراءة القرآن‫.‬ ذلك الأمر كان في أول السورة التي خوطب بها النبي (صلى الله عليه وسلم). واختلف الناس في قيام الليل، أي ليل؟ وأي جزء من الليل؟ قال بعضهم أول الليل، وقال بعضهم بل الليل كله، وقال بعضهم بل آخر الليل‫.‬ والخُلْف جاء من قوله‫:‬ ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾ وسنأتي إليها .‬‬‬‬‬
‫بعد هذا الخطاب وبعد هذا الأمر التمهيدي، جاء أمر آخر أو خبر آخر، ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ ما هو القول الثقيل؟ قالوا القول الثقيل‫:‬ الأمر بقيام الليل، لأن الليل للراحة والاستجمام والنوم فإذا أُمِرَ العبد أن يطرح النوم ويقوم كان ذلك ثقيلاً عليه . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً: أي أمر إليك بنفض النوم عنك والقيام للصلاة‫.‬ وقالوا‫:‬ القول الثقيل هو القرآن، الوحي، فما هو الثقل في القرآن؟ قالوا ثقيلاً على الناس للعمل بأحكامه؛ حلاله وحرامه، ثقيلاً بوعده ووعيده، ثقيلاً بشرائعه، فالعمل بالقرآن وبأحكام القرآن كاملة أمر يثقل على النفوس التي اعتادت الراحة‫.‬ الجهاد أمر ثقيل على النفوس‫.‬ القيام بالليل أمر ثقيل على النفوس، الحلال والحرام والأحكام والوعد والوعيد لذا سُمِّيَ ثقيلاً. وذاك الرأي مرجوح لأن الله تبارك وتعالى يقول فى شأن الشرع الإسلامي‫:‬ ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٧٨]، ويقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): (بُعِثتُ بالحنيفية السمحاء). وهناك رأي آخر يقول‫:‬ قولاً ثقيلاً على الكافرين والمنافقين، لأنه سب آلهتهم وسَفَّهَ أحلامهم وقارعهم الحجة، وثقيلاً على أهل الكتاب لأنه كشف تزويرهم للإنجيل والتوراة‫.‬ وقال بعضهم بل ثقيل هو في الميزان؛ ثوابه وأجره ثقيل في يوم القيامة‫.‬ وقالوا الثقيل هنا بمعني الرزين، ليس بالسفساف، ليس بالقول الخفيف وإنما هو رزين، لأنه كلام رب العالمين‫.‬ وقالوا ثقيلاً أي ثابتاً ثبوت الجبال الثقيلة لا ينتهي إعجازه ولا يختل، يبقى إعجازه إلى الأبد، فهو قول ثقيل أي ثابت راسخ رسوخ الجبال الثقيلة‫.‬ وقال بعضهم إنَّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً: القرآن، نفس القرآن، كلماته‫.‬ وذاك أرجح الأقوال لقول عائشة رضي الله عنها‫:‬ رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يأتيه الوحي في اليوم الشديد البرد فيُفصِم عنه و جبينه يتفصد عرقاً، في اليوم الشَّات الشديد البرد يأتيه الوحي فإذا انتهى وسُرِّيَ عنه تفصد جبينه بالعرق من ثقل الوحي‫.‬ بل وكان الوحي إذا جاءه وهو على ناقته لمس صدر الناقة الأرض من ثِقَل الوحي عليه وعلى الناقة‫.‬ هذا القرآن الذي لو نزل على الجبال ﴿لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الحشر آية : ٢١] فالقرآن نفسه ثقيل لأنه كلام الله، فالثقل ثقل الوحي‫.‬ وقد قال (صلى الله عليه وسلم) عن الوحي حين سُئِلَ كيف يأتيك الوحي قال‫:‬ "يأتيني أحياناً كصلصلة الجرس وهو أشده عليّ فإذا فُصِمَ عني وَعِيتُ ما قال وأحياناً يأتيني المـــَــلَك على هيئة الرجل فيكلمني فأعي ما يقول". وكأن قوله (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) تعليل للأمر بالقيام (قم الليل إلا قليلا)، لماذا؟ لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، ذاك هو التعليل للأمر بالقيام‫.‬ وكأن الأنسان يستشعر أن الله (تبارك وتعالى) يقول إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، هذا القرآن شرع جديد، ذاك الدين جاء على فترة من الأديان، وجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أمة أنتشر فيها الشرك والمعاصي والفجور، أَلِفوا عادات الآباء وسجدوا للأوثان والأصنام ولا يميزوا بين الحلال والحرام .جاء القرآن يأمرهم وينهاهم، فالشرع تكاليف للقيام بها والقيام بأعبائها سواءً للنبي (صلى الله عليه وسلم) كرسول يقوم بأعباء الدعوة، يلقي الأذى من قومه والتكذيب، و لأصحابه الذين يؤمنون به حيث يلقون العَنَت والتعذيب ثم يؤمرون بعد ذلك بالجهاد، فالأمر جَدُّ خطير والأمر شديد قوي يحتاج لنفوس صافية وأجساد قوية، فإذا أخذ المؤمن نفسه بقيام الليل فترك الدِّعَة والراحة والنوم، عَوَّد جسمه على المشقى، وصَفَت نفسه بالقيام وصَفَا فِكرُه وذهنه بقراءة القرآن، كان مستعدا لتحمل مشاق التكاليف بالقرآن‫.‬ وإذا فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك كان ذلك إعداداً له حتى يصبح أهلاً لتبليغ الرسالة، قوياً علي أدائها‫.‬ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً يحتاج لإعداد وتمهيد للجسم والنفس والروح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـًۭٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾ إِنَّ لَكَ فِى ٱلنَّهَارِ سَبْحًۭا طَوِيلًۭا ﴿7﴾ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًۭا ﴿8﴾ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلًۭا ﴿9﴾ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْرًۭا جَمِيلًۭا ﴿10﴾ وَذَرْنِى وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُو۟لِى ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴿11﴾
‫﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ قُرِئت ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ هنا حدث الخلاف‫:‬ متى نقوم؟ وكيف نحسب الثلث؟ أهو الثلث الأول أم الثلث الآخر؟ هل نقوم النصف من أول الليل؟ أم ننام ونقوم النصف من آخر الليل؟ جاء الخلاف من كلمة "ناشئة". ناشئة الليل‫:‬ ساعات الليل وأوقات الليل، لأن الليل ينشأ بعد النهار.ونشأ الشيء‫:‬ ابتدأ وجاء قليلاً قليلاً وشيئاً بعد شيء، ومنه قول الله (عز وجل): ﴿ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [سورة الزخرف آية : ١٨]، يُنَشِّأ في الحلية‫:‬ يُرَبَّى تدريجياً ويكبر درجة درجة بالتدريج‫.‬ فناشئة الليل‫:‬ ساعاته على طول الليل‫.‬ والناشئة أيضا الابتداء، نشأ الشيء‫:‬ ابتدأ‫.‬ إذاً فناشئة الليل‫:‬ أول الليل، ويصبح القيام المطلوب في أول الليل بين المغرب والعشاء، إذ حَدُّ الليل من المغرب حتى الفجر، ذاك حد الليل‫.‬ فإذا كان الناشئة بمعنى الابتداء، فالقيام المطلوب هو أول الليل‫.‬ وإذا كانت ناشئة بمعنى ساعات الليل كله فالقيام مطلوب في أي ساعة من ساعات الليل‫.‬ وقال آخرون بل ناشئة هي النفس القائمة للصلاة، مصدر كخاطئة وكاذبة، (إن ناشئة الليل) أي النفس القائمة للصلاة بالليل‫.‬ (أشد وطئاً ) أي أشد ثباتاً. (وأقوم قيلاً ) أفصح قراءة وأبين قراءة وأكثر استقامة، النفس الناشئة‫:‬ القائمة‫.‬ وقيل ( إن ناشئة الليل ) أي عبادة الليل لأنها تنشأ بالليل‫.‬ وقال بعضهم بل يُشتَرَط في قيام الليل من هذه الكلمة أن تنام ثم تقوم من نومك فتصلي، هذا هو ناشئة الليل، فلا ناشئة إلا بعد نوم‫.‬ أما إن كنت يقظاً وصليت قبل أن تنام مهما صليت فليس ذلك بقيام، ذاك رأي آخر‫.‬ فهَلُمَّ بنا إلى الأحاديث لنُرَجِّح‫:‬ روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (رضي الله عنه) يقول‫:‬ "ينزل الله (عز وجل) إلى سماء الدنيا كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملِك أنا الملِك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر". إذاً فالناشئة بعد مضي الثلث الأول‫.‬ وجاء أيضاً في الصحاح من رواية لأبي هريرة أيضاً وغيره‫:‬ "إذا مضى شطر الليل ينزل ربنا (تبارك وتعالى)" وحديث البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) الذي يقول فيه‫:‬ "بِتُّ ليلة عند خالتي ميمونة فبِتُّ في عرض الوسادة وبات الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأهله في طولها حتى إذا مضى نصف الليل أو قبل ذلك بقليل أو بعد ذلك بقليل استيقظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمسح النوم عن عينيه وقرأ العشر الأواخر من آل عمران ثم قام إلى شِنٍّ معلق فتوضأ" إلى آخر الحديث‫.‬ من هذه الأحاديث يتضح لنا أن معنى (إنَّ ناشئة الليل ) هي ساعات الليل كله ولا يُشتَرَط النوم ثم الاستيقاظ، وقد تكون الصلاة في أول الليل كصلاة القيام في شهر رمضان، التي صلاها النبي (صلى الله عليه وسلم) وصلاها أصحابه‫.‬ لكن المفضل دائماً هو إذا انقضى الثلث الأول من الليل، إذ الأحاديث‫:‬ "إذا انقضى الثلث الأول"، و مرة‫:‬ "إذا مضى الشطر"، و مرة‫:‬ "حتى إذا كان شطر الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله". إذاً فالقيام بعد انقضاء الثلث الأول من الليل هو أفضل من القيام فى أول الليل‫.‬ وكَونُ القيام فرضا أو تطوعاً آراء، لكن الأرجح أن قيام الليل تطوع لا محالة‫.‬ ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ أقوى وأثبت‫.‬ وَطِئتُ الأرض بقدمي‫:‬ وقفتُ ثابتاً عليها‫.‬ إذاً فقيام الليل أثبت للقلب وأشد على الجسم لأن عبادة النهار سهلة، أما عبادة الليل فصعبة لأنك تقوم في وقت النوم والراحة‫.‬ أشد وطئاً: أصعب وأقوى وأثقل على الإنسان‫.‬ إذا قُرِأت "أشد وِطاءً" إذاً فهي أكثر موافقة‫.‬ واطأه‫:‬ وافَقَه‫.‬ ومنه قول الله عز وجل ﴿ لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ [سورة التوبة آية : ٣٧]. فالمواطأة‫:‬ الموافقة‫.‬ ناشئة الليل‫:‬ أي قيام الليل، أشد وِطاءً: أي أشد موافقة، إذ يوافق القلب اللسان لهدوء الأصوات وسكون الحركات، فإذا رتلتَ القرآن بلسانك ليلاً كان القلب مع اللسان لانعدام الشواغل وهدوء الأصوات وسكون الحركة، فهو أشد موافقة بين القلب واللسان‫.‬ أو أشد موافقة للإخلاص في العبادة ولطاعة الله والخلوص له، لأنك في الليل لا يراك أحد إلا الله‫.‬ وكان بعض الصحابة إذا انتصف الليل قام وتوضأ وناجى ربه وقال‫:‬ نامت العيون وغارت النجوم وأنت حي قيوم‫.‬ فقيام الليل إذا لم يكن فرضاً، فهو من أعظم النوافل ومن أعظم القربات‫.‬ ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ أقوم‫:‬ أكثر استقامة، وقيلاً: قولاً. بمعنى أن قارئ القرآن بالليل لا يخطئ في القراءة لأنه متفرغ للقراءة، قلبه يواطئ لسانه فلا يخطئ، ويرتل ويتدبر في المعاني فهو أكثر استقامة للقول‫.‬ أما قارئ القرآن بالنهار فيسمع أصوات ويتحرك أمامه المتحركات، فقد ينشغل فيخرج من سورة إالى سورة، يخطئ، يختلط عليه الأمر‫.‬ أما قراءة القرآن بالليل فلا خطأ فيها‫.‬ أقوم قيلاً: يقل الخطأ فيها ويستقيم القول وتستقيم القراءة وتستمر على الصواب‫.‬ ﴿ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ السَّبْح‫:‬ الحركة والدوران والذهاب والمجيء‫.‬ السَّبْح أصلاً: السير بسرعة في الماء أو الهواء‫.‬ السَّبْح : العوم على وجه الماء، ذاك هو السَّبْح‫.‬ إن لك في النهار سبحاً طويلاً: أي تحركاً؛ ذهاباً ومجيئاً في أمورك واهتماماتك وأشغالك ودعوتك للناس فأنت مشغول بالنهار‫.‬ إن لك في النهار سبحاً طويلاً: أي لك فى النهار انشغالات واهتمامات وتحرك وذهاب ومجيء ولقاء وكلام وأناس، فتَفَرَّغ بالليل لعبادتي ولمناجاتي ولذكري لأنك بالنهار لست متفرغاً. والسَّبْح أيضاً بمعنى الراحة وبمعنى النوم، تَسَبَّح‫:‬ تَمَدَّد ومَدَّ جسده، أي لك في النهار فُسحة، نَمْ كيف شئت بالنهار واستيقظ لي بالليل‫.‬ وقُرِأَت ﴿ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْخًا طَوِيلًا ﴾ بالخاء‫.‬ والسَّبْخ قد تفيد الراحة، وقد تفيد الحركة أيضاً، فهو من الأضداد‫.‬ من قولهم سَبَّخ القطن وسَبَّخ الصوف إذا نَفَشَه، نَفَشَه وفَكَّ خيوطه، وكذلك القطن‫.‬ فإن لك في النهار سبخاً طويلاً؛ حركة وانشغال وذهاب ومجيء، أو بمعنى الراحة‫.‬ نتيجة الكلام‫:‬ ﴿ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ أي دع النهار لأشغالك واهتماماتك ونَمْ إن شئت فيه، أما الليل فاجعله للعبادة والتفرغ لله (تبارك وتعالى). وقد ورد في الخبر أن الله (تبارك وتعالى) قد أوحى إلى بعض أنبيائه فقال له‫:‬ (إن لي عباداً أحبهم ويحبونني وأنظر إليهم وينظرون إلي وأشتاق إليهم ويشتاقون إلي إن حذوت طريقهم – أي سرت على نهجهم- أحببتُك وإن عَدَلْتَ عن ذلك مَقَتُّك- أي انصرفت عن هذا الاتجاه والنهج والسبيل مَقَتُّك –) فقال ذلك النبي متسائلاً: يارب وما علاماتهم؟ فقال الله (عز وجل): (يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه - إذاً هم يتتبعون مواقيت الصلاة وينتظرون الصلاة بعد الصلاة لأن الظلال تحدد مواقيت الصلاة- يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه -أي يخاف على غنمه من الشتات يخاف عليها من الذئب كيف يراعيها ويهتم بها فهؤلاء يراعون مواقيت الصلاة كما يراعي الراعي غنمه- ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها -ينتظرون الليل بفروغ صبر يحنون إليه كما تحن العصافير والطيور إلى أوكارها- فإذا جَنَّهَمُ الليل – غطاهم – واختلط الظلام وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إليَّ أقدامهم وفرشوا إليَّ جباههم وناجوني بكلامي وتملقوا إليَّ بإنعامي فهم بين صارخ وباكٍ وبين متأوه وشاكٍ بعيني ما يتحملون من أجلي وبِسَمْعي ما يشتكون من حبي أول ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم والثاني لو وُضِعَت السموات السبع والأراضين السبع في موازينهم لاستقللتُها لهم والثالث أني أُقبِلُ عليهم بوجهي تُرى من أقبلتُ عليه بوجهي أيعلم أحدٌ ما أريد أن أعطيه؟" وقد رُوِيَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله‫:‬ "يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة فيوقَف في أول دَرَجِ الجنة ويقال له اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنتَ ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرأُها"‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فقد أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وأُمِرَ أصحابه بقيام الليل وترتيل القرآن وترك النوم والدِّعة والراحة، وخصص ربنا (تبارك وتعالى) وقت الليل بالثبات، وقراءة القرآن فيه أَقْوَم وأَبْيَن وأدعى للتأمل والتدبر والتفكر‫.‬ ثم عَمَّمَ بعد تخصيص فقال عز مِن قائل‫:‬ ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ الذِّكر‫:‬ ذِكْرُ الله (تبارك وتعالى)، يدخل فيه أمور كثيرة‫:‬ الصلاة ذِكر، قراءة القرآن ذِكر، الدعاء ذِكر، القيام بالليل ذِكر‫.‬ وقال بعضهم ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي ادعوه بأسمائه الحسنى وسَلْهُ يعطيك‫.‬ وقالوا ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي قل بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة تَحدُث لك بركتها‫.‬ وقيل ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي بالنهار‫.‬ بعد أن جاء بذكر الليل جاء بذكر النهار‫.‬ ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي نهاراً كما قمتَ له ليلاً. وقال بعضهم بل هو تعميم ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ في كل أوقاتك ليلاً ونهاراً فهو تعميم بعد تخصيص‫.‬ (وتبتل إليه تبتيلاً ) تَبَتَّل‫:‬ انقطِع لعبادته بالكلية، أخلِص العمل له‫.‬ بَتَّلَ الشئ‫:‬ قَطَعَه، والتَبَتُّل‫:‬ الانقطاع لذكر الله ولعبادته، ومنه مريم البتول لأنها انقطعت عن الناس واتخذت لنفسها مكاناً شرقياً تعبد الله في المحراب وابتعدت عن الناس واعتزلت‫.‬ فالبَتول‫:‬ المنقطِع، مُتَبَتِّل‫:‬ مُنقَطِع‫.‬ (وتبتل إليه) إلى الله، انقطع لعبادته بالكلية، أخلِص الصلاة له، أخلِص القيام له، لا تشرك مع الله في عبادته أحداً ولا تشرك مع الله في الدعاء أحداً ولا في السؤال أحداً، فهو الخالق الرازق القادر على كل شيء‫.‬ ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ ولم يقل (تَبَتُّلاً) لمراعاة الفواصل على المعنى، لأن تَبَتَّل بمعنى بَتَّل؛ بَتَّل نفسه تبتيلاً، فجاء على المعنى ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ "رَبِّ" بالجر، قراءة نَعْت لقوله (عز وجل): ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ رَبِّ المشرق‫.‬ وقُرِأت بالرفع (رَبُّ المشرق ) خبر مبتدأ محذوف، أي‫:‬ هو رَبُّ المشرق‫.‬ أو مبتدأ مرفوع "رَبُّ المشرق" "والمغرب" خبره‫.‬ ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ هو رب المشارق والمغارب‫.‬ والمشرق والمغرب‫:‬ مشرق الشمس ومغرب الشمس‫.‬ مشرق القمر ومغرب القمر، مشرق النجوم ومغرب النجوم، المشارق والمغارب‫.‬ (لا إله إلا هو ) إذاً فهو (سبحانه وتعالى) هو المعبود الحق، القيوم الحق، الملك الحق، قوله الحق ووعده الحق، هو النافع وهو الضار، هو المبدئ المحصي المعيد، هو الله لا إله إلا الله المستحق لصفات الألوهية، لا يتصف بصفات الألوهية سواه ولا يستحق الربوبية غيره‫.‬ (فاتخذه وكيلا) تعليل للتهليلة‫.‬ طالما لا إله إلا الله إذاً فهو الوكيل، نِعمَ الوكيل‫.‬ فاتخذه وكيلاً: أي متولياً لأمورك أو كافياً يكفيك أو محققاً لما وعدك من الأجر والثواب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫بعد الأوامر بقيام الليل وبعد التعليل بإلقاء القول الثقيل، بعد الحض على ترتيل القرآن وبيان أن قيام الليل لا يَعدُلُه عبادة، وإتاحة الفرصة للنبي (صلى الله عليه وسلم) للتفرغ لهمومه وأمور الدعوة بالنهار والخلوص لله (تبارك وتعالي) بالليل، بعد كل ذلك يأتي الكلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) يأمره بالصبر، الصبر على الأذى‫.‬ قالوا شاعر وقالوا ساحر وقالوا مجنون وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً. والخطاب و إن كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) إلا أن الخطاب يُشعِر بأن الكل مُخاطَب، إذ حين قال له‫:‬ (يا أيها المزمل) وخاطبه بالحالة التي كان عليها، نستشعر من هذا الخطاب أنه لنا أيضاً، لأن كل من فَعَلَ فِعلَ النبي (صلى الله عليه وسلم) في لحظة الخطاب سُمِّيَ بنفس الاسم وخوطب بنفس الخطاب، (يا أيها المزمل) فكل مُتَزَمِّل دخل في الخطاب وكأن الكلام لنا جميعاً، لأنك إذا قلتَ لرجل‫:‬ يا نَومان، يمكن لك أن تخاطب كل نائم بنفس اللفظ، ينطبق اللفظ على كل من عَمِلَ عَمَلَه أو فَعَلَ فِعلَه أو كان على نفس الحالة‫.‬ (يا أيها المزمل ) للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولنا، إشعاراً لنا جميعاً بأن الليل وقت الهدوء وقت السكون هو أجدر للقيام والعبادة والتفرغ والإخلاص في الدعاء، لأن الله (تبارك وتعالى) لا يرد دعوة داعٍ بالليل أبداً، بل هو ينادي‫:‬ من ذا الذي يسألني فأعطيه‫.‬ بعد كل ذلك، وبعد كل تلك التوجيهات يقول الله (تبارك وتعالى) للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿ واصبر علي ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ﴾ الهجر الجميل‫:‬ هو الاعتزال بغير عتاب، هجر لا عتاب فيه، لا يشوبه أذى ولا شَتْم، ذلك هو الهجر الجميل الذي أُمِرَ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وأُمِرَ به الصحابة‫.‬ وإن كانت الآية يقال إنها نُسِخَت بآية القتال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، بالنهار الإنسان يسعى على رزقه، ينشغل بهمومه، يخالط الناس، منهم الصالح ومنهم الطالح، يخطئ في الكلام، يخطئ في الحركة، فإذا كان الليل واستيقظتَ من ليلك وقمتَ لربك غفر لك ما كان منك في ساعات النهار، لأن الله يفتح أبواب الرحمة وينزل إلى سماء الدنيا ويقول‫:‬ من يستغفرني فأغفر له‫.‬ قيام الليل ولو قدر حَلْب شاه، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا نام ابن آدم عقد الشيطان على قفاه ثلات عُقَد يقول في كل عقدة منها عليك ليل طويل فإذا استيقظ من نومه انحلت عقدة فإذا توضأ انحلت عقدة أخرى فإذا صلى انحلت عُقَدُه الثلاث فقام واستيقظ طيب النفس نشيطاً. أما إذا لم يقم وبقي نائماً حتى أصبح قام خبيث النفس كسلان" وقد رُوِيَ أن أحد الصحابة رضي الله عنه رأى ابناً له نائماً بعد شروق الشمس فأيقظه بعنف وقال‫:‬ أتنام في وقت تُقَسَّم فيه الأرزاق؟ وكما قيل البركة في البُكُور‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم نَم مبكراً وقُم بعضاً من الليل، واستيقظ لعملك مبكراً فالبركة في البُكُور، واعمل وثِق أن العمل عبادة، بل الارتزاق من حلال يعادل الجهاد في سبيل الله، وسيأتي هذا في آخر هذه السورة‫.‬‬‬‬
‫أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بالصبر على أذى المشركين؛ قالوا ساحر قالوا شاعر قالوا مجنون قالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً، قالوا وقالوا في شأنه الكثير، كَذَّبوه وآذوه‫.‬ أمره ربُّه (تبارك وتعالى) بالصبر‫:‬ ﴿ واصبر علي ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ﴾ذاك هو الهجر، الهجر الجميل لا عتاب فيه ولا أذى ولا شَتْم‫.‬ ثم أمره أن يَكِلَ أمرَهم إلى القوي الجبار حيث قال‫:‬ ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ ذرني‫:‬ أتركني، أي اترك أمرهم إليّ، وَكِّل أمرهم إليّ فأنا كفيل بمعاقبتهم‫.‬ وفي الكلام تعظيم لشأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأنه يقول له‫:‬ لا تشفع فيهم ولاتعتذر عنهم ولا تعاقبهم، أنا كفيل بذلك، ذرني والمكذبين أولي النَّعمة‫:‬ هم أصحاب التنعم في الدنيا، المرفهين البطرين الأشرين الفرحين بغير حق‫.‬ وما من رسول إلا وكذبه المترفون لأن المترَف ينسى الله (تبارك وتعالى) ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(٦)أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(٧)﴾ [سورة العلق آية‫:‬ ٦-٧] يتلذذ بنِعَمِ الدنيا غافلاً عن الله وعن الآخرة، ماله أعماه وجاهه أعماه‫.‬ من هنا كان المكذبون في كل الأمم هم المترَفين‫.‬ ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ أي أمهلهم زماناً قليلاً. أو أمهلهم إمهالاً قليلاً. وصدق الله (تبارك وتعالى) وعده لرسوله، فلم يمضِ إلا قليل وهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصابهم ربُّنا بالسنين حتى أكلوا الميتة وأكلوا العظام وأكلوا الكلاب والقطط، ولم يمضِ إلا القليل حتى كانت غزوة بدر فأصابهم العذاب الخاص بعدما أصابهم العذاب العام بالسنين، أصابهم عذاب خاص بقتل صناديد قريش في بدر‫.‬ ثم يقول الله (تبارك وتعالي) محذراً متوعداً:
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالًۭا وَجَحِيمًۭا ﴿12﴾ وَطَعَامًۭا ذَا غُصَّةٍۢ وَعَذَابًا أَلِيمًۭا ﴿13﴾ يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلْأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيبًۭا مَّهِيلًا ﴿14﴾
أمهلهم وذرهم ودعهم ودع شأنهم لي‫.‬ وقيل إن الآية منسوخة بآية القتال، فقد كان المسلمون في ضعف وقلة فأُمِروا بالصبر، ثم بعد ما كثر المسلمون واشتد عودهم أُمِروا بالقتال‫.‬ (إن لدينا أنكالا وجحيما) الأنكال‫:‬ جمع نِكْل‫.‬ والنِّكْل‫:‬ القيد الشديد يوضع في الرِّجل فيمنع الحركة‫.‬ وسُمِّيَ نِكْلاً لأنه يُنْكَلُ به أي يُمنَع به‫.‬ إن لدينا أنكالاً: قيوداً شديدة توضع في أرجل الكفار‫.‬ ( وجحيما ) والجحيم‫:‬ النار المستعِرة، النار المتأججة‫.‬ ﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾ الطعام ذو الغصة‫:‬ هو الطعام الذي يقف في الحلق لا ينزل ولا يخرج‫.‬ وغَصَّ بالطعام‫:‬ اختنق به، وَقَفَ في حلقه‫.‬ وغَصَّ المكان بالناس‫:‬ امتلأ‫.‬ طعام ذا غصة، ووُصِفَ في مواضع أخري في القرآن وهو الضَّريع ﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾ [سورة الغاشية آية : ٦]، وهو الزقوم ﴿ إن شجرة الزقوم(٤٣)طعام الأثيم﴾ [سورة الدخان آية : ٤٣-٤٤]، وهو الغِسلين ﴿ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [سورة الحاقة آية : ٣٦]، ثلاث أنواع من الطعام ذُكِرَت في القرآن للكفار‫:‬ الزقوم والضريع والغِسلين، يصفه ربنا تبارك وتعالى هنا فيقول‫:‬ (وطعاماً ذا غُصَّة ) يَغُصُّ به الآكل، يقف في حلقه كالشوك، لا ينزل إلى البطن ولا يخرج من الحلق‫.‬ (وعذابا أليما) وجاءت كلمة العذاب نكرة، إذاً فهو عذاب لا يعرف كنهه إلا الله، شدة هذا العذاب فوق كل تصور‫.‬ أربع أنواع من العذاب أنذرهم الله بها‫:‬ الأنكال والحجيم والطعام ذا الغصة والعذاب الذي لم يذكر نوعه، ألوان لا تخطر على بال في شدتها وألمها، وكأن ذاك هو تعليل للأمر بالهجر (واهجرهم هجرا جميلا) (وذرني) الأمر بالترك وتفويض للأمر‫.‬ (والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا) إن لدينا تعليلاً للأمر ( إن لدينا أنكالا وجحيما) تلك الأنكال التي توضع في أرجل الكفار في النار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول أحد الصحابة‫:‬ أترون أن الله (تبارك وتعالى) جعل الأنكال في أرجل الكفار في جهنم خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم كلما أرادوا الخروج وصعدوا باللهب استفلت الأنكال بهم فأوصلتهم إلى قعر جهنم ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا(١٢)وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(١٣)﴾.‬‬‬
‫﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ﴾ أي ذاك العذاب في هذا اليوم، يوم ترجف الأرض‫.‬ وكلمة "يوم" منصوبة على الظرفية، أو بنزع الخافض، بمعنى "في يوم". والرجفة‫:‬ الزلزلة الشديدة و الاضطراب و الحركة‫.‬ ترجف الأرض‫:‬ تهتز بمن عليها وبما عليها وتتزلزل هي والجبال‫.‬ ﴿ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ الكثيب‫:‬ التل من الرمال‫.‬ الكثيب‫:‬ الرمل المتجمع، كل رمل تجمع في مكان يقال كثيب، وأصل الكلمة‫:‬ كَثَبَ الشيء يُكْثُبُه ويَكْثِبُه‫:‬ جَمَعَه من قريب وصَبَّه‫.‬ (كثيبا مهيلا) أي المهيول، كالمدين أي المديون والمكيل بمعنى المكيول‫.‬ مهيلاً: هِلْتُ التراب أَهيلُهُ هَيلاً. هذا الوصف يبين لك أن الجبال الصلبة الضخمة المتحجرة التي يصعب تفتيتها من الزلزلة في ذلك اليوم تتحول إلى رمل، والرمل نفسه مُهال، بمعنى إذا وطئتَه بالقدم زَلَّ من تحت القدم، وإذا أَخَذتَ من أسفله انهال من أعلاه، ذاك هو المهيل إذا وطئتَه بالقدم لا يثبت، يَزِلّ من تحت القدم، وإذا أخذت أسفله انهال من أعلاه‫.‬ تلك هي حالة الجبال فى ذلك اليوم، تُرى كيف يكون حال الناس؟ الجبال الصلبة، الصخر الصلد، جبال من المنجنيز وجبال من الحديد وجبال من النحاس، جبال ألوان وأشكال، صلبة، صلدة، صماء تتحول إلى الكثيب المهيل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫حذرهم ربنا (تبارك وتعالى) وأنذرهم بيوم، ووصف بعض شأنه، ثم ذكرهم بحال الأمم السابقة والتفت الخطاب على وجه التقريع والتوبيخ‫:‬‬‬‬
إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولًۭا شَـٰهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًۭا ﴿15﴾ فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَـٰهُ أَخْذًۭا وَبِيلًۭا ﴿16﴾ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًۭا يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيبًا ﴿17﴾ ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌۢ بِهِۦ ۚ كَانَ وَعْدُهُۥ مَفْعُولًا ﴿18﴾ إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌۭ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا ﴿19﴾
‫﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾ والخطاب لمشركي مكة وصناديد قريش‫.‬ ﴿شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ شاهداً عليكم بأعمالكم، يشهد عليكم يوم القيامة مَن أجاب الدعوة ومَن رفضها، ومَن آمن ومَن كفر، مَن أسلم ومَن فسق‫.‬ ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ﴾ وهو موسى، من أولي العزم من الرسل، واختص فرعون بالذكر وموسى كذلك لأن فرعون ازدرى موسى لأنه رُبِّيَ فيهم ونشأ فيهم وقال، كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى حاكياً عنه‫:‬ ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ١٨]. وكذلك صناديد قريش وكفار مكة ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه نشأ فيهم ورُبِّيَ بينهم، فجاء بذكر موسى وفرعون للتشابه في هذا الشأن‫.‬ ﴿ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴾ عَرَّفَ الرسول لأنه قد جاء ذِكرُه من قبل ليبين لك أنه هو نفس الرسول – هو موسى – عصى فرعونُ موسى وكفر به‫.‬ ﴿ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴾ أخذه الله أخذاً شديدا‫.‬ الوبيل‫:‬ الشديد‫.‬ الوابل‫:‬ المطر الشديد الثقيل، وَبَلَ المطر‫:‬ اشتد وثقل على الناس‫.‬ فكذلك العذاب الوبيل‫:‬ العذاب الشديد القوي الذي لا قِبَلَ لإنسان به ولا تَحَمُّل له ولا طاقة لاستقباله‫.‬ ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ والكلام فيه إضمار، أي (عذاب يوم) أي كيف تتقون إن كفرتم عذابَ يوم‫.‬ وأيضاً فيه تقديم وتأخير، أي فكيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم، أي إن استمررتم على كفركم، بأي شيء تتقي عذاب هذا اليوم؟ بصلاة؟ بزكاة؟ بفعل خيرات؟ بإيمان؟ باتقاء؟ بأي شيء؟ الولدان‫:‬ الصبيان‫.‬ يتحول الصبي يوم القيامة إلى أَشيَب، يشيب شعره‫.‬ قال العلماء‫:‬ هذا مثال ضربه الله (تبارك وتعالى) لهم لبيان شدة اليوم وهول ما فيه، حتى أن الصبي لو كان شاهداً لشاب من غير كِبَر‫.‬ فهو مجاز ومثال لبيان شدة اليوم‫.‬ وقال بعضهم بل الشيب حقيقة‫.‬ ومتى يشيب الصبي في ذلك اليوم؟ قالوا حين ينادي ربنا (تبارك وتعالى) آدم في ذلك اليوم يقول‫:‬ ياآدم أَخرِج بَعثَ النار، فيقول‫:‬ يارب وما بَعثُ النار؟ فيقول الله (تبارك وتعالى): من ذريتك من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون! هنا يشيب الصغير‫.‬ وقال بعض الناس بل الكلام عن اليوم، ويشيب الصغير فيه لطول اليوم، يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فإذا بُعِثَ الصبي في أوله لا بد وأن يشيب، تمثيل لطول اليوم‫.‬ وقال بعض الناس ليس في يوم القيامة صبيان ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ (يجعل): الفاعل هنا لليوم؛ أي اليوم يجعل الولدان شيباً. وقال بعضهم الفاعل هو الله، وإذا كان الأمر كذلك لزم التقدير‫:‬ ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾. والأرجح أن الكلام عن اليوم، شدة اليوم، هي التي تحول الصغير إلي أشيب، يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يتمنى الناس لو ينصرفون ولو إلى النار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ﴾ السماء‫:‬ السقف، وكل سقف يسمى سماء‫.‬ والكلام عن السماء المبنية؛ السماوات السبع‫.‬ ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ﴾ذَكَّرَ اللفظ؛ لم يقل منفطرة به، لأن التأويل على السقف؛ السماء أي السقف منفطر فَذَكَّر اللفظ‫.‬ أو السماء اسم جنس يُذَكَّر ويُؤَنَّث، واحدها سماوة‫.‬ مُنفَطِرٌ به‫:‬ مُتَشَقِّق‫.‬ "به" أي فيه، أي منفطر في هذا اليوم‫.‬ أو منفطر له لأن "به" بمعنى "له" ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ٤٧] أي في يوم القيامة‫.‬ الباء واللام و"في" يحل بعضها محل بعض في مثل هذه المواضع‫.‬ أو بسبب اليوم، بسبب شدة هذا اليوم وبسبب ما فيه‫.‬ (السماء منفطر) متشقق‫.‬ الانفطار‫:‬ التشقق، انفطر الشيء‫:‬ تشقق وذهب كل مَذْهَب، كل جزء في مكان‫.‬ إذا كانت السماء المبنية، السماء ذات الأبراج تتفطر والجبال تتفتت، فكيف بحال الناس؟ تُرى أتقوم الساعة على الصالحين؟ أيأتي ذلك اليوم الموصوف بهذه الأوصاف على أناس رُكَّع أو على رجال يذكرون الله آناء الليل وأطراف النهار؟ أبداً! لا تقوم الساعة وفي الأرض رجل يقول لا إله إلا الله‫.‬ فتلك أوصاف تحدث في يوم الأرض كلها كُفْر وجحود، فكيف بالصالحين في ذلك الزمان؟ علمنا أن الله تبارك وتعالى يرسل ريحاً كالنسيم خفيفة لطيفة تمر على الأرض فلا تدع مؤمناً أو مسلماً أو صالحاً إلا وأخذت روحه إلى السماء، فلا يبقى في الأرض مسلم أو موحد، لا يبقى فيها إلا الكفار، هنا تحدث هذه الأوصاف على هؤلاء إذ هم يستحقون ذلك، ولذا كان الإنذار والتحذير ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا﴾ للكفار ﴿ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(١٣)يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا(١٤)﴾ نعم لأولئك، (فكيف تتقون ) والتحذير تحذير شديد من القادر، (فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا ) ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴾ وعد الله بقيام الساعة قائم لا محالة، واقع لاشك‫.‬ (كان وعده) بقيام الساعة وبهذه الأوصاف وبهذا العذاب مفعولاً حادثاً واقعاً لا محالة، لأن الواعد قادر ولأن الواعد مالك، وطالما كان مالكا وقادراً لابد وأن ينفذ وعده‫.‬ ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ هذه الآيات أو هذه السورة أو آيات القرآن كله أو هذا التحذير‫.‬ إن هذه تذكرة، يذكر ربنا (تبارك وتعالى) الغافلين عَلَّهم يتذكرون، عَلَّهم يرجعون، عَلَّهم يتوبون، وقد أعذر من أنذر‫.‬ ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ أي من شاء أن ينجو اتخذ إلى ربه سبيلاً، اتخذ الطريق إلى رضوان الله، إلى عفوه، إلى مغفرته، إلى رحمته‫.‬ وقد بين لنا ربنا (تبارك وتعالى) السبيل إليه ﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [سورة النساء آية : ٨٠] وقال جل شأنه‫:‬ ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [سورة النساء آية : ١٤٧].‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫لقد كان المسلمون في أوائل الإسلام قلة مستضعَفين فأمرهم الله (تبارك وتعالى) بالصبر على الأذى، وأمرهم بتقوية الإرادة والعزيمة وأمرهم بقيام الليل حتى يشتد العود وتقوى الأجساد وتقوى الإرادة، حتى إذا استعدت أجسادهم بالمشقة وبقيام الليل وبالصبر على الوقوف ساعات طويلة و القيام، أصبحوا أكفاء لمواجهة الأعداء‫.‬ اشتد عودهم وصلبت عزيمتهم وكثر عددهم‫.‬ بعد ذلك أمرهم الله بالقتال، لكن الناس في ذلك الوقت شق عليهم الأمر إذ لم يكن لديهم آلة تحدد الوقت، و قد أمرهم ربنا (تبارك و تعالى) بقيام الليل و حدد لهم الوقت؛ نصفه أو يزيدون عن النصف حتى يصلوا إلى الثلثين أو ينقصون من النصف حتى يصلوا الى الثلث، فكان أدنى وقت للقيام الثلث وأكثر وقت للقيام الثلثين كما جاء في أول السورة، وكان ذاك فرضاً على النبي (صلي الله عليه وسلم) وعلى الصحابة وعلى الأمة، حين نزلت الآيات في أرجح الأقوال كان فرضاً علي الجميع . قام النبي (صلى الله عليه وسلم) وقامت الصحابة معه حتى انتفخت أقدامهم وتورمت سيقانهم وشق عليهم لأنهم لم يُقَدِّروا الوقت –وقت القيام – فكان الرجل منهم يقوم حتى يبزغ الفجر ليست لديه آلة أو ساعة يُقَدِّر بها الوقت، فكان يقوم بعد صلاة العشاء ويظل قائماً يصلي ويقرأ ويخاف ألا يؤدي ما عليه فيقوم الليل بطوله، فخفف الله عنهم وأمرهم بالقيام بغير تقدير، وأصبح القيام فيه التخيير، وأقل القيام ركعتان كما قال بعض العلماء، وحدث الخلاف هل نُسِخَ القيام أم بقي القيام واجباً مع نسخ المدة -الوقت- وهو الثلث والنصف والثلثين وأصبح القائم مُخَيَّراً ولو لركعتين؟ وبأي شئ نُسِخ؟ بآخر السورة، وكانت المدة بين الأمر والنسخ حولاً كاملاً، سنة‫.‬ أم نُسِخَ بعد ذلك بالمدينة وكانت مدة القيام عشر سنوات؟ أقوال وكل قائل استدل بدليل‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٌۭ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَٱقْرَءُوا۟ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ٱلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ وَءَاخَرُونَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ فَٱقْرَءُوا۟ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقْرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍۢ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرًۭا وَأَعْظَمَ أَجْرًۭا ۚ وَٱسْتَغْفِرُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۢ ﴿20﴾
‫﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾إن ربك يعلم أنك تقوم‫:‬ أي تصلي، وعُبِّرَ عن الصلاة بالقيام، وعُبِّرَ عن الصلاة بالقرآن ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٧٨] وعُبِّرَ عن الصلاة بالركوع، وعُبِّرَ عن الصلاة بالسجود، وعُبِّرَ عن الصلاة بكلمة الصلاة‫.‬ وعُبِّرَ عن الكل بالجزء، عُبِّرَ عن الصلاة بأركانها المختلفة‫.‬ (إن ربك يعلم أنك تقوم): تصلي‫.‬ "أدنى": أقل – استعارة لأدنى – دنا الشيء‫:‬ قَرُب‫.‬ وعُبِّرَ بالقُرب عن القلة لأن الشيء إذا قَرُب من الشيء قَلَّت المسافة بينهما وقَلَّت الأحياز فعُبِّرَ عن القلة بالدُّنُو‫.‬ ربك يعلم أنك تقوم"أدنى" أي أقل‫.‬ "من ثلثي الليل ونصفه" أي تقوم الثلثين مرة، وتقوم النصف مرة وثلثه‫.‬ وقرأت (ثُلْثَي) بإسكان اللام، (ونصفِه وثلثِه) بالجر‫.‬ (نِصفَه وثُلُثَه) عطف على أدنى، أي إن ربك يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من النصف وأقل من الثلث‫.‬ أو هي عطفاً على (ثلثي). ﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ ربنا (تبارك وتعالى) حين قال ﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ قال العلماء‫:‬ طالما قامت طائفة معه إذاً فقد كان الآخرون يقومون في المنازل، قام البعض معه بالمسجد وقام البعض معه بالبيوت، قيل ذلك‫.‬ وقيل إن البعض قام والبعض لم يقم وتلك حجة للذين قالوا إن الفرض كان على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقط، (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) الفرض عليه ولم يكن على الأمة وقامت طائفة معه بغير افتراض عليهم‫.‬ (والله يقدر الليل والنهار) هو الذي يعلم عدد ساعات الليل على الحقيقة أما أنتم فتعلمون عدد ساعات الليل بالاجتهاد والظن والاحتمال والترجيح، وقد تخطئون في هذا التقدير، ولم يكن لديهم آلات أو أجهزة لتقدير الساعات‫.‬ من هنا كان تقديرهم للقيام المطلوب واقع تحت الاحتمال، تُرى هل مضى نصف الليل؟ تري هل مضى ثلث الليل؟ تُرى هل مضى الثلثان؟ يُقَدِّرون احتمالاً وظناً، أما الله فيعلم الليل والنهار تقديراً إذ هو الذي يُقَدِّر الساعات، يعلمها على الحقيقة‫.‬ ﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أي تحصوا عدد ساعات القيام المطلوب‫.‬ المطلوب الثلث أو النصف أو الثلثان، هل يستطيعون التقدير؟ لا يستطيعون التقدير ولا يستطيعون عد الساعات فتاب عليكم‫.‬ كلمة "فتاب عليكم" فسرها القائلون بأن القيام كان فرضاً على الأمه بهذه الكلمة‫.‬ أي تاب عن تقصيركم في القيام، ولا تأتي التوبه إلا على تقصير في فريضة وليس تطوعاً. إذاً فقد كان القيام مفروضاً بدليل قوله "فتاب عليكم".وقال البعض الآخر التوبة بمعنى الرجوع، تاب عليكم‫:‬ أي رجع عليكم من التثقيل إلى التخفيف ومن العسر إلى اليسر فقط، وقد قاموا وأنفذوا‫.‬ ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ وهنا نشأ الخلاف مرة أخرى (فاقرأوا) فعل أمر ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ﴾إذاً فقد نُسِخَ قيام الثلث والنصف والثلثان بالقيام مطلقاً، وأصبح القيام واجباً ولو كحَلْبِ شاة، ولو بركعتين‫.‬ ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ﴾ أي القراءة في الصلاة، أي قوموا وصلوا واقرأوا ما تيسر لكم، وبعد أن كان القيام مفروضاً ومحدداً بالثلث على الأقل وبالثلثين على الأكثر أصبح القيام مفروضاً متروكاً لاختيار المصلي، أن يقوم ساعة، نصف ساعة، أن يقوم نصف الليل، يقوم بحسب ما يتيسر له‫.‬ إذاً نُسِخَ الفرض بفرض آخر، نُسِخَ الفرض على تحديد الوقت وبقي الفرض على الإطلاق، فهل بقي إلى يومنا هذا أم نُسِخَ؟ الفرض الثاني؟ قال بعضهم‫:‬ بقي فرض القيام إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة وذلك رأي مرجوح‫.‬ والأرجح أنه نُسِخَ بافتراض الصلوات الخمس وبالسُّنَّة المبيِّنة حيث بَيَّنَ النبي (صلى الله عليه وسلم) أن العبد ليس عليه إلا الصلوات الخمس وما زاد فهو تطوع‫.‬ وقال بعض الناس ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ﴾ليس مقصوداً به الصلاة والقراءة في الصلاة بل المقصود به القراءة، قراءة القرآن خارج الصلاة، وأوجبوا على المسلم أن يقرأ كل ليلة من القرآن واختلفوا في المقدار؛ بعضهم قال تجب قراءة القرآن كله، بعضهم قال الثلثان، والبعض قال النصف، والبعض قال الثلث، بعضهم قال مائة آية، أقلهم افتراضاً قال ثلاث آيات وهي أقل سورة- سورة الكوثر ثلاث آيات- أي القراءة مطلقة خارج الصلاة‫.‬ ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ﴾ويأتي التعليل للتخفيف والحكمة في رفع الحرج ونسخ الفرض‫:‬ ﴿ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ أعاد للتأكيد ثلاث فئات خفف الله عن الأمة بسببهم‫:‬ المرضى؛ إذ يشق على المريض أن يقوم ليلة‫.‬ والضاربون في الأرض‫:‬ أي المسافرون للتجارة وتحصيل العلم والكسب الحلال، (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ يبتغون من فضل الله بالتجارة الحلال أو بطلب العلم‫.‬ ﴿ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهنا استدل القائلون بأن النسخ كان بالمدينة بعد عشر سنوات، لأن القتال لم يُفرَض إلا في المدينة، فإذا كانت السورة كلها مكية فكيف يقول ﴿ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؟ وقال بعضهم بل السورة مكية والكلام باعتبار ما سوف يكون ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ أي من القرآن، ما سهل عليكم وما تمكنتم منه‫.‬ (وأقيموا الصلاة) الصلاة المفروضة (وآتوا الزكاة) والزكاة لم تفرض إلا في المدينة فذاك يرجح قول القائلين أن القيام كان مفروضاً لمدة عشر سنوات ونُسِخَ بالمدينة‫.‬ أما القائلون إن القيام كان سنة والسورة كلها مكية قالوا‫:‬ الزكاة فُرِضَت بمكة مطلقة، أما ما فُرِضَ بالمدينة فهو تحديد الأنصبة ولمن كذا ولمن كذا، تحديد الزكاة بالأنصبة والمستحقين بالمدينة، أما الفرض العام فكان بمكة‫.‬ وقال بعضهم الزكاة مطلق الصدقة بغير فرض‫.‬ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾الصلاة عماد الدين وهي أساس الصلة بين العبد وربه‫.‬ والزكاة أيضاً عماد الدين بين العبد وإخوانه، وأساس حسن الصلة وصلة الأرحام بين الفقير و بين الغني ﴿ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ والقرض الحسن‫:‬ كل فعل يُبتَغَى به وجه الله، القرض الحسن : النفقة من مال حلال طيب بغير أذى ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [سورة البقرة آية : ٢٦٤] بغير أذى وبغير مَنّ ومِن أطيب ما كسبت، وأن تضعها في موضعها، وأن تبتغي بها وجه الله، وأن تتقي الرياء والسمعة وما إلي ذلك، ذاك هو القرض الحسن‫.‬ ﴿ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ وما تقدموا لأنفسكم من خير‫:‬ بكل الأعمال الصالحة؛ إماطة الأذى عن الطريق لك صدقة، أن تلقى أخاك بوجه باش لك صدقة‫.‬ ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر﴾لأن الله ليس محتاجاً للطاعات، هو غني عنا لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية‫.‬ ﴿ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): "يا ابن آدم خير مالك ما أنفقته وشر مالك ما خَلَّفتَه" ما تنفقوا من خير وما تقدموا من خير تجدوه عند الله خيراً مما أبقيتموه، خيراً مما شححتم به‫.‬ وأعظم أجراً: أجراً عظيماً، هذا الأجر العظيم لا يعرفه إلا الله، فوق كل تصور، أعددت لعبادي المتقين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‫.‬ (واستغفروا الله) الأمر بالاستغفار لمن؟ لهؤلاء الذين قاموا ليلهم وصاموا نهارهم، الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً، الذين قدموا الخير لأنفسهم يُقال لهم (استغفروا الله) بمعنى أن الأنسان لا يخلو من تفريط مهما عمل ومهما فعل لا يخلو من تفريط‫.‬ وقد أُمِرَ سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم، الذي غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أُمِرَ بالاستغفار في آخر أيام حياته‫:‬ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(١)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(٢)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(٣)﴾ [سورة النصر آية : ١-٣]، إذا كان هو قد أُمِرَ بالاستغفار فكيف بنا؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور لما ارتكبه الإنسان من تفريط قبل التوبة‫.‬ رحيم بكل تائب وبكل مستغفر بعد التوبة‫.‬ فهو غفور لما فَرَطَ من أمرك، رحيم بك بعد توبتك إليه‫.‬ أيها الأخ المسلم في هذه الآيات رغم الخلافات، والخلافات تتلخص في اقوال محدودة معدودة، كان القيام فرضاً في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وبقي فرضاً في حقه إلى أن لقي الرفيق الأعلى، كان القيام فرضاً في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ونُسِخَ عنه الفرض بالثلث والنصف والثلثين وبقي الفرض والوجوب فيما تيسر له‫.‬ ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ﴾ [سورة الإسراء آية : ٧٩] أي زيادة على ما فُرِضَ على الأمة بعد النسخ عن الأمة وبقاء الفرضية في حقه‫.‬ نافلة لك على حقيقة اللفظ أي تطوعاً منك وقد رُفِعَ الفرض عنه كما رُفِعَ عن الأمة‫.‬ ذاك فيما يتعلق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والرأي فيما يتعلق بالأمة‫:‬ كان فرضاً علي النبي وحده ولم يكن فرضاً على الأمة من أول نزول السورة؛ (ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا) الكلام له على الخصوص‫.‬ الرأي الثاني كان فرضاً عليه وعلى الأمة، فإذا خوطب بأمر فقد خوطبت الأمة من خلاله، فهو فرض على الأمة‫.‬ نُسِخَ هذا الفرض في تحديد المدة وبقي الفرض في حق الأمة حسبما تيسر لهم، الرأي الآخر‫.‬ بعد ذلك رأي يقول بل نُسِخَ القيام في حق الأمة مطلقاً وقالوا إن السُّنَّة تبين أن قيام الليل مستحب، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو بن العاص‫:‬ "نِعمَ الرجل لو كان يقوم من الليل". ولقوله (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو بن العاص‫:‬ "يا عبد الله لا تَكُن مثل فلان كان يقوم الليل ثم ترك القيام"، فقيل إن القيام مستحب للأمة وذاك أرجح الأقوال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫بعد ذلك ننظر في الآيات ويلفت نظرنا أمر بالغ الأهمية، سَوَّى الله (تبارك وتعالى) في الآية بين ثلاث فئات ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ فقال ابن مسعود (رضي الله عنه): من جلب طعاماً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء واقرأوا إن شئتم‫:‬ (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) فسَوَّى بين المسافرين للتجارة وبين المجاهدين والمقاتلين في سبيل الله، ذاك رأي ابن مسعود، بل ورأي طاووس ورأي كثير من العلماء، يقولون جميعاً إن العبد إذا ضرب في الأرض يبتغي من فضل الله، أي عمل من أجل التكسب الحلال يسعى على رزقه ورزق عياله، فأجره كأجر الشهداء يوم القيامة‫.‬‬‬‬‬
‫وقالوا الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله لأن الله سَوَّى بينهم‫.‬ وكذلك المريض، أتعلمون أن المريض إذا دعا ربه لا يرد له الدعاء إذا كان صابراً محتسباً؟ إذا مرض العبد فصبر واحتسب لا يرفع يديه إلى الله إلا ويُجاب، ولا بد وأن يُجاب المريض حتى يُشفى، والمسافر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر، كل أولئك دعائهم مقبول‫.‬ من هنا كان السعي على الرزق والعمل للاكتساب من حلال والأكل من رزق الله حلالاً، بل والعمل للآخرين، خاصة تجارة الطعام لأن الناس إذا لم يتاجر طائفة منهم في الطعام جاعوا، فالأرض لا تكفي وزراعة الارض قد تُنبِت بعض الأصناف ولا تُنبِت البعض الآخر، فيضطر المسلمون إلى التجارة و المقايضة -والمقايضة بعض سلعهم مقابل سلع أخرى- من هنا قالوا إن المسافر لجلب الطعام أجره كأجر الشهيد، وشرطوا له أن يكون محتسباً، أن يكون من حلال، أن يبتغي وجه الله، ألا يحتكر الطعام لأن من احتكر طعام المسلمين برئت منه ذمة محمد (صلى الله عليه وسلم) فإذا لم يحتكر الطعام ولم يحبس الطعام حتى يشتد سعره أو يغلو سعره أو يعلو سعره، بل باعه بسعر يومه له أجر الشهداء‫.‬ فضل الله واسع والعبرة بالنية، وإنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ قراءة القرآن ليلاً وقيام الليل والسؤال بالليل والدعاء بالليل كل ذلك مستحب ومطلوب، وقد علمتم أن الله (تبارك وتعالى) ينادي إذا مضى ثلث الليل أو شطره هل من مستغفِر فأغفرُ له؟ هل من تائب فأتوبُ عليه‫.‬ هل من سائل فأعطيه؟‬‬‬‬‬‬‬

أيها الأخ المسلم؛ وإن كان القيام قد نُسِخَ عن الأمة في أرجح الأقوال إلا أنه مستحب لكل إنسان، وفي زماننا هذا يسهر الناس فى اللهو وفي اللعب، وكان الآباء ينامون بعد صلاة العشاء فيستيقظون قبل الفجر فتتاح لهم الفرصة للصلاة قبل الفجر، أما الآن فالناس أمام وسائل الإعلام متسمرون متصلبون عيونهم مشدودة وعقولهم مأخوذة حتى ينتصف الليل ويزيد، أُمِرَت الأمة بقيام الليل؛ نصفه أو يزيدون عليه، ونحن نسهر نصفه ونزيد عليه في اللهو وفى اللعب‫.‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ إذا سهرت كذلك قبل أن تنام توضأ وصلِّ ركعتين عَلَّ هذه تغفر تلك، وعَلَّ هذه تزيل تلك، فإن سهرت لاهياً لاعباً متسلياً بخزعبلات و خيالات و تأليفات فلا أقل من أن تتؤضأ قبل أن تنام وتصلي ركعتين أو تقرأ ثلاث أيات أو تقرأ سورة تبارك، فمن نام بعد أن يقرأ سورة تبارك كل يوم إذا دُفِنَ لا يُسأَل في قبره أبداً، تمنع تبارك الملَكَين من السؤال، سورة لا تتجاوز الصفحتين‫.‬ وقال بعض العلماء عليه أن يقرأ ثلاث آيات على الأقل، ومن قرأ مائة آية لم يُكتَب من الغافلين‫.‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ القرآن كلام الله، عليك أن تُمضي بعض وقتك مع الله بقراءة كلامه، بصلاة ركعتين بالليل خير من الدنيا وما فيها، هكذا أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).