
سورة المزمل
مقدمة
لقاؤنا مع سورة المزمل. سورة المزمل سورة مكية في أرجح الأقوال وهناك رأي يقول إن آخر السورة مدني من قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾. والأرجح أن السورة بكاملها سورة مكية .
وقيل في سبب نزولها أن النبي صلي الله عليه وسلم في بدء الوحي حين كان في حراء ورأي جبريل في صورته الملائكية، بعد المرة التي جاءه فيها وغَطَّه فيها وكان على صورة بشرية، وقال له اقرأ... وفَتُرَ الوحي فترة. وحين ذهب مرة أخري إلي حراء فوجئ بالمــَلَك على كرسي بين السماء والأرض سادَّاً بعِظَم خلقه الأفق، فارتعد وعاد إلي بيته خائفاً مذعوراً يقول: زملوني زملوني ... دثروني دثروني، فنزلت: (ياأيها المدثر) إلى قوله: (و الرجز فاهجر) ثم نزل على إثرها: (يا أيها المزمل ).
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾
قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًۭا ﴿2﴾
نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾
إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًۭا ثَقِيلًا ﴿5﴾
﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(٣)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا(٤)﴾ نصفه: أي أو نصفه. قُمِ الليل إلا قليلاً من الليل لراحتك ولنومك أو قم نصف الليل. ﴿أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴾ انقص من النصف حتى تصل إلى الثُّلُث.
﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ زِد على النصف حتى تصل إلى الثلثين. إذاً فقد أُمِرَ أن يقوم الليل كله إلا قليلاً من الليل للراحة. وخُيِّر بين قيام النصف أو قيام ثلثي الليل أو قيام ثلث الليل، لأن ما زاد على النصف وصل إلى الثلثين، وما قل عن النصف وصل إلى الثلث. وقد يكون كلمة (نصفه) بدلاً من الليل. (قم الليل إلا قليلاً نِصفَه ) أي قُم نصفَه، فإذا كان كذلك (إلا قليلا): إلا النصف، لم سُمِّيَ النصف قليلاً والنصف ليس بقليل بل مساوٍ؟ قُم الليل أي قُم نصف الليل، إذا كانت نِصفَه بدلاً من الليل ليست بمعنى (أو نِصفَه)، بدل من الليل، أي قم نصف الليل إلا قليلاً من النصف، في هذه الحالة يصبح التعبير: " إلا قليلاً " بمعنى أن النصف الذي ينام فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن كان مساوياً للنصف الذي يقوم فيه من حيث المدة والزمن إلا أنه قليل إذا اعتبر بأنه للنوم والنصف الاخر للقيام و الصلاة والقراءه فكان كثيراً بثوابه، كثيراً بأجره، كثيراً بالاجتهاد والقيام فيه. (قم الليل إلا قليلا نصفه ) بدل من الليل، أي قم نصفه. (أو انقص منه ) انقص من النصف الذي تنام فيه فيكفيك نوم الثلث. ( أو زد عليه ) أي زِد علي مدة النوم فتنام الثلثين وتقوم الثلث. وعليه يتغير المعنى من حيث الإعراب: نِصفَه بدل من الليل، "نصفه" بمعنى "أو نصفه"، نِصفَه بدل من (قليلاً)، قم الليل إلا قليلاً، نِصفَه أي: إلا نِصفَه، يتغير الإعراب بحسب وضع الكلمة، لكن في النهاية المعنى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خُيِّرَ في القيام بين الثلث والنصف والثلثين. الأمر الثاني: هل كان القيام فرضاً في حقه (صلى الله عليه وسلم) بهذا الأمر؟ قالوا نعم كان فرضاً في حق النبي (صلي الله عليه وسلم) فقط. وقال آخرون بل كان حقاً، هو فرض فى حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي حق الأمة كذلك، فقد قام هو وأصحابه ورُوِيَت أحاديث تفيد ذلك أنهم قاموا حتى تورمت أقدامهم وانتفخت سيقانهم. وقال بعض الناس بل كان فرضاً في حقه وحق الأنبياء من قبله ولم يكن فرضاً في حق الأمة. ثلاث أقوال: فرضاً في حقه فقط، فرضاً في حقه وحق الأنبياء من قبله، فرضاً في حقه وحق الأمة. وقد نُسِخَ هذا الفرض في آخر السورة، فهذه السورة هي السورة التي نَسَخَ آخرُها أَوَّلَها، كان بين الآخر والأول حولاً كاملاً، سنة قام هو وأصحابه ثم نزل التخفيف. قال بعض الناس نُسِخَ الفرض بالكلية؛ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي حق الأمة بآيات آخر السورة. وقال بعضهم بل نُسِخَ القيام في حق الأمة فقط وبقي القيام فرضاً في حقه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى لأن الله (تبارك وتعالى) قال له بعد ذلك: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) أي زيادة علي الفريضة التي فُرِضَت على الأمة ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٩] فبقي الفرض -فرض القيام- في حقه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. وقال بعض الناس إن النسخ جاء بعد عشر سنين وجاء بالمدينة على قول إن آخر السورة نزل بالمدينة. والأرجح أن النسخ جاء بعد سنة كما جاء في صحيح مسلم من أحاديث عائشة وغيرها، ذلك من حيث الفرض. وهناك رأي يقول فُرِضَ قيام الليل على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى الأمة بالتحديد: الثلث أو الثلثين أو النصف، ذاك كان التخفيف لأنهم لم يُقَدِّروا الليل والنهار فكانوا يقومون خشية أن يُقَصِّروا حتى يبزغ الفجر فتورمت أقدامهم وانتفخت سيقانهم، فبَيَّنَ الله لهم الثلث والنصف أو الثلثين ثم خَفَّف ذلك بقوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ في آخر السورة، إذاً فآخر السورة لم ينسخ الفرض البتة، بل نسخ فرضاً بفرض، نسخ قيام الثلث وهو أدنى قيام وجعل القيام فرض في حق كل مسلم ولو على قدر حَلْبِ شاه، ولو ركعة، ولو ركعتان، لكن القيام فريضة ولا يزال فريضة. والرأي مرجوح، والأرجح أن الفريضة نُسِخَت بالصلوات الخمس، لأن الأعرابي الذي سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أركان الإسلام وأخبره عن الصلاة والصلوات الخمس قال: هل عَلَيَّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تَطَّوَع" فظهر من ذلك أن قيام الليل منسوخ في حق الأمة. أما في شأن النسخ في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ففيه خلاف. ﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾ الترتيل: القراءة على مهل وتبيين للحروف وتدبر للمعاني. من قولهم ثَغْرٌ رَتِل أو رَتَل إذا كان مُفَلَّج الاسنان، إذا كانت الأسنان مُفَلَّجة – بين الأسنان مسافات – يُقال عن الفم: ثَغرٌ رَتِل أي فُلِّجَت أسنانه. فالترتيل: التفريق، أي اقرأ القرآن على مهل وهدوء وتبيين للحروف حتى يستطيع السامع أن يعد حروفه. فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ولو شاء الصحابة أن يعدوا الحروف عَدَّاً لعدوها، وكان يمد القراءة ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾.
تلك كانت أوامر في بداية السورة بعد الخطاب الذي آنسه فيه ولاطفه؛ (قُمِ الليل): أُمِرَ بالقيام إلا قليلاً، وأُمِرَ بترتيل القرآن وأُمِرَ بالصلاة، أُمِرَ بإطراح النوم وأُمِرَ بالصلاة، وأُمِرَ بقراءة القرآن. ذلك الأمر كان في أول السورة التي خوطب بها النبي (صلى الله عليه وسلم). واختلف الناس في قيام الليل، أي ليل؟ وأي جزء من الليل؟ قال بعضهم أول الليل، وقال بعضهم بل الليل كله، وقال بعضهم بل آخر الليل. والخُلْف جاء من قوله: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾ وسنأتي إليها .
بعد هذا الخطاب وبعد هذا الأمر التمهيدي، جاء أمر آخر أو خبر آخر، ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ ما هو القول الثقيل؟ قالوا القول الثقيل: الأمر بقيام الليل، لأن الليل للراحة والاستجمام والنوم فإذا أُمِرَ العبد أن يطرح النوم ويقوم كان ذلك ثقيلاً عليه . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً: أي أمر إليك بنفض النوم عنك والقيام للصلاة. وقالوا: القول الثقيل هو القرآن، الوحي، فما هو الثقل في القرآن؟ قالوا ثقيلاً على الناس للعمل بأحكامه؛ حلاله وحرامه، ثقيلاً بوعده ووعيده، ثقيلاً بشرائعه، فالعمل بالقرآن وبأحكام القرآن كاملة أمر يثقل على النفوس التي اعتادت الراحة. الجهاد أمر ثقيل على النفوس. القيام بالليل أمر ثقيل على النفوس، الحلال والحرام والأحكام والوعد والوعيد لذا سُمِّيَ ثقيلاً. وذاك الرأي مرجوح لأن الله تبارك وتعالى يقول فى شأن الشرع الإسلامي: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج آية: ٧٨]، ويقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): (بُعِثتُ بالحنيفية السمحاء). وهناك رأي آخر يقول: قولاً ثقيلاً على الكافرين والمنافقين، لأنه سب آلهتهم وسَفَّهَ أحلامهم وقارعهم الحجة، وثقيلاً على أهل الكتاب لأنه كشف تزويرهم للإنجيل والتوراة. وقال بعضهم بل ثقيل هو في الميزان؛ ثوابه وأجره ثقيل في يوم القيامة. وقالوا الثقيل هنا بمعني الرزين، ليس بالسفساف، ليس بالقول الخفيف وإنما هو رزين، لأنه كلام رب العالمين. وقالوا ثقيلاً أي ثابتاً ثبوت الجبال الثقيلة لا ينتهي إعجازه ولا يختل، يبقى إعجازه إلى الأبد، فهو قول ثقيل أي ثابت راسخ رسوخ الجبال الثقيلة. وقال بعضهم إنَّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً: القرآن، نفس القرآن، كلماته. وذاك أرجح الأقوال لقول عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يأتيه الوحي في اليوم الشديد البرد فيُفصِم عنه و جبينه يتفصد عرقاً، في اليوم الشَّات الشديد البرد يأتيه الوحي فإذا انتهى وسُرِّيَ عنه تفصد جبينه بالعرق من ثقل الوحي. بل وكان الوحي إذا جاءه وهو على ناقته لمس صدر الناقة الأرض من ثِقَل الوحي عليه وعلى الناقة. هذا القرآن الذي لو نزل على الجبال ﴿لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الحشر آية : ٢١] فالقرآن نفسه ثقيل لأنه كلام الله، فالثقل ثقل الوحي. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) عن الوحي حين سُئِلَ كيف يأتيك الوحي قال: "يأتيني أحياناً كصلصلة الجرس وهو أشده عليّ فإذا فُصِمَ عني وَعِيتُ ما قال وأحياناً يأتيني المـــَــلَك على هيئة الرجل فيكلمني فأعي ما يقول". وكأن قوله (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) تعليل للأمر بالقيام (قم الليل إلا قليلا)، لماذا؟ لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، ذاك هو التعليل للأمر بالقيام. وكأن الأنسان يستشعر أن الله (تبارك وتعالى) يقول إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، هذا القرآن شرع جديد، ذاك الدين جاء على فترة من الأديان، وجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أمة أنتشر فيها الشرك والمعاصي والفجور، أَلِفوا عادات الآباء وسجدوا للأوثان والأصنام ولا يميزوا بين الحلال والحرام .جاء القرآن يأمرهم وينهاهم، فالشرع تكاليف للقيام بها والقيام بأعبائها سواءً للنبي (صلى الله عليه وسلم) كرسول يقوم بأعباء الدعوة، يلقي الأذى من قومه والتكذيب، و لأصحابه الذين يؤمنون به حيث يلقون العَنَت والتعذيب ثم يؤمرون بعد ذلك بالجهاد، فالأمر جَدُّ خطير والأمر شديد قوي يحتاج لنفوس صافية وأجساد قوية، فإذا أخذ المؤمن نفسه بقيام الليل فترك الدِّعَة والراحة والنوم، عَوَّد جسمه على المشقى، وصَفَت نفسه بالقيام وصَفَا فِكرُه وذهنه بقراءة القرآن، كان مستعدا لتحمل مشاق التكاليف بالقرآن. وإذا فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك كان ذلك إعداداً له حتى يصبح أهلاً لتبليغ الرسالة، قوياً علي أدائها. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً يحتاج لإعداد وتمهيد للجسم والنفس والروح.
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـًۭٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾
إِنَّ لَكَ فِى ٱلنَّهَارِ سَبْحًۭا طَوِيلًۭا ﴿7﴾
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًۭا ﴿8﴾
رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلًۭا ﴿9﴾
وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْرًۭا جَمِيلًۭا ﴿10﴾
وَذَرْنِى وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُو۟لِى ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴿11﴾
فقد أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وأُمِرَ أصحابه بقيام الليل وترتيل القرآن وترك النوم والدِّعة والراحة، وخصص ربنا (تبارك وتعالى) وقت الليل بالثبات، وقراءة القرآن فيه أَقْوَم وأَبْيَن وأدعى للتأمل والتدبر والتفكر. ثم عَمَّمَ بعد تخصيص فقال عز مِن قائل: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ الذِّكر: ذِكْرُ الله (تبارك وتعالى)، يدخل فيه أمور كثيرة: الصلاة ذِكر، قراءة القرآن ذِكر، الدعاء ذِكر، القيام بالليل ذِكر. وقال بعضهم ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي ادعوه بأسمائه الحسنى وسَلْهُ يعطيك. وقالوا ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي قل بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة تَحدُث لك بركتها. وقيل ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي بالنهار. بعد أن جاء بذكر الليل جاء بذكر النهار. ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أي نهاراً كما قمتَ له ليلاً. وقال بعضهم بل هو تعميم ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ في كل أوقاتك ليلاً ونهاراً فهو تعميم بعد تخصيص. (وتبتل إليه تبتيلاً ) تَبَتَّل: انقطِع لعبادته بالكلية، أخلِص العمل له. بَتَّلَ الشئ: قَطَعَه، والتَبَتُّل: الانقطاع لذكر الله ولعبادته، ومنه مريم البتول لأنها انقطعت عن الناس واتخذت لنفسها مكاناً شرقياً تعبد الله في المحراب وابتعدت عن الناس واعتزلت. فالبَتول: المنقطِع، مُتَبَتِّل: مُنقَطِع. (وتبتل إليه) إلى الله، انقطع لعبادته بالكلية، أخلِص الصلاة له، أخلِص القيام له، لا تشرك مع الله في عبادته أحداً ولا تشرك مع الله في الدعاء أحداً ولا في السؤال أحداً، فهو الخالق الرازق القادر على كل شيء. ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ ولم يقل (تَبَتُّلاً) لمراعاة الفواصل على المعنى، لأن تَبَتَّل بمعنى بَتَّل؛ بَتَّل نفسه تبتيلاً، فجاء على المعنى ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾.
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ "رَبِّ" بالجر، قراءة نَعْت لقوله (عز وجل): ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ رَبِّ المشرق. وقُرِأت بالرفع (رَبُّ المشرق ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو رَبُّ المشرق. أو مبتدأ مرفوع "رَبُّ المشرق" "والمغرب" خبره. ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ هو رب المشارق والمغارب. والمشرق والمغرب: مشرق الشمس ومغرب الشمس. مشرق القمر ومغرب القمر، مشرق النجوم ومغرب النجوم، المشارق والمغارب. (لا إله إلا هو ) إذاً فهو (سبحانه وتعالى) هو المعبود الحق، القيوم الحق، الملك الحق، قوله الحق ووعده الحق، هو النافع وهو الضار، هو المبدئ المحصي المعيد، هو الله لا إله إلا الله المستحق لصفات الألوهية، لا يتصف بصفات الألوهية سواه ولا يستحق الربوبية غيره. (فاتخذه وكيلا) تعليل للتهليلة. طالما لا إله إلا الله إذاً فهو الوكيل، نِعمَ الوكيل. فاتخذه وكيلاً: أي متولياً لأمورك أو كافياً يكفيك أو محققاً لما وعدك من الأجر والثواب.
بعد الأوامر بقيام الليل وبعد التعليل بإلقاء القول الثقيل، بعد الحض على ترتيل القرآن وبيان أن قيام الليل لا يَعدُلُه عبادة، وإتاحة الفرصة للنبي (صلى الله عليه وسلم) للتفرغ لهمومه وأمور الدعوة بالنهار والخلوص لله (تبارك وتعالي) بالليل، بعد كل ذلك يأتي الكلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) يأمره بالصبر، الصبر على الأذى. قالوا شاعر وقالوا ساحر وقالوا مجنون وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً. والخطاب و إن كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) إلا أن الخطاب يُشعِر بأن الكل مُخاطَب، إذ حين قال له: (يا أيها المزمل) وخاطبه بالحالة التي كان عليها، نستشعر من هذا الخطاب أنه لنا أيضاً، لأن كل من فَعَلَ فِعلَ النبي (صلى الله عليه وسلم) في لحظة الخطاب سُمِّيَ بنفس الاسم وخوطب بنفس الخطاب، (يا أيها المزمل) فكل مُتَزَمِّل دخل في الخطاب وكأن الكلام لنا جميعاً، لأنك إذا قلتَ لرجل: يا نَومان، يمكن لك أن تخاطب كل نائم بنفس اللفظ، ينطبق اللفظ على كل من عَمِلَ عَمَلَه أو فَعَلَ فِعلَه أو كان على نفس الحالة. (يا أيها المزمل ) للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولنا، إشعاراً لنا جميعاً بأن الليل وقت الهدوء وقت السكون هو أجدر للقيام والعبادة والتفرغ والإخلاص في الدعاء، لأن الله (تبارك وتعالى) لا يرد دعوة داعٍ بالليل أبداً، بل هو ينادي: من ذا الذي يسألني فأعطيه. بعد كل ذلك، وبعد كل تلك التوجيهات يقول الله (تبارك وتعالى) للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿ واصبر علي ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ﴾ الهجر الجميل: هو الاعتزال بغير عتاب، هجر لا عتاب فيه، لا يشوبه أذى ولا شَتْم، ذلك هو الهجر الجميل الذي أُمِرَ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وأُمِرَ به الصحابة. وإن كانت الآية يقال إنها نُسِخَت بآية القتال.
أيها الأخ المسلم، بالنهار الإنسان يسعى على رزقه، ينشغل بهمومه، يخالط الناس، منهم الصالح ومنهم الطالح، يخطئ في الكلام، يخطئ في الحركة، فإذا كان الليل واستيقظتَ من ليلك وقمتَ لربك غفر لك ما كان منك في ساعات النهار، لأن الله يفتح أبواب الرحمة وينزل إلى سماء الدنيا ويقول: من يستغفرني فأغفر له. قيام الليل ولو قدر حَلْب شاه، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا نام ابن آدم عقد الشيطان على قفاه ثلات عُقَد يقول في كل عقدة منها عليك ليل طويل فإذا استيقظ من نومه انحلت عقدة فإذا توضأ انحلت عقدة أخرى فإذا صلى انحلت عُقَدُه الثلاث فقام واستيقظ طيب النفس نشيطاً. أما إذا لم يقم وبقي نائماً حتى أصبح قام خبيث النفس كسلان" وقد رُوِيَ أن أحد الصحابة رضي الله عنه رأى ابناً له نائماً بعد شروق الشمس فأيقظه بعنف وقال: أتنام في وقت تُقَسَّم فيه الأرزاق؟ وكما قيل البركة في البُكُور.
أيها الأخ المسلم نَم مبكراً وقُم بعضاً من الليل، واستيقظ لعملك مبكراً فالبركة في البُكُور، واعمل وثِق أن العمل عبادة، بل الارتزاق من حلال يعادل الجهاد في سبيل الله، وسيأتي هذا في آخر هذه السورة.
أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) بالصبر على أذى المشركين؛ قالوا ساحر قالوا شاعر قالوا مجنون قالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً، قالوا وقالوا في شأنه الكثير، كَذَّبوه وآذوه. أمره ربُّه (تبارك وتعالى) بالصبر: ﴿ واصبر علي ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ﴾ذاك هو الهجر، الهجر الجميل لا عتاب فيه ولا أذى ولا شَتْم. ثم أمره أن يَكِلَ أمرَهم إلى القوي الجبار حيث قال: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ ذرني: أتركني، أي اترك أمرهم إليّ، وَكِّل أمرهم إليّ فأنا كفيل بمعاقبتهم. وفي الكلام تعظيم لشأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأنه يقول له: لا تشفع فيهم ولاتعتذر عنهم ولا تعاقبهم، أنا كفيل بذلك، ذرني والمكذبين أولي النَّعمة: هم أصحاب التنعم في الدنيا، المرفهين البطرين الأشرين الفرحين بغير حق. وما من رسول إلا وكذبه المترفون لأن المترَف ينسى الله (تبارك وتعالى) ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(٦)أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(٧)﴾ [سورة العلق آية: ٦-٧] يتلذذ بنِعَمِ الدنيا غافلاً عن الله وعن الآخرة، ماله أعماه وجاهه أعماه. من هنا كان المكذبون في كل الأمم هم المترَفين. ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ أي أمهلهم زماناً قليلاً. أو أمهلهم إمهالاً قليلاً. وصدق الله (تبارك وتعالى) وعده لرسوله، فلم يمضِ إلا قليل وهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصابهم ربُّنا بالسنين حتى أكلوا الميتة وأكلوا العظام وأكلوا الكلاب والقطط، ولم يمضِ إلا القليل حتى كانت غزوة بدر فأصابهم العذاب الخاص بعدما أصابهم العذاب العام بالسنين، أصابهم عذاب خاص بقتل صناديد قريش في بدر. ثم يقول الله (تبارك وتعالي) محذراً متوعداً:
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالًۭا وَجَحِيمًۭا ﴿12﴾
وَطَعَامًۭا ذَا غُصَّةٍۢ وَعَذَابًا أَلِيمًۭا ﴿13﴾
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلْأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيبًۭا مَّهِيلًا ﴿14﴾
يقول أحد الصحابة: أترون أن الله (تبارك وتعالى) جعل الأنكال في أرجل الكفار في جهنم خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم كلما أرادوا الخروج وصعدوا باللهب استفلت الأنكال بهم فأوصلتهم إلى قعر جهنم ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا(١٢)وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(١٣)﴾.
﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ﴾ أي ذاك العذاب في هذا اليوم، يوم ترجف الأرض. وكلمة "يوم" منصوبة على الظرفية، أو بنزع الخافض، بمعنى "في يوم". والرجفة: الزلزلة الشديدة و الاضطراب و الحركة. ترجف الأرض: تهتز بمن عليها وبما عليها وتتزلزل هي والجبال. ﴿ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ الكثيب: التل من الرمال. الكثيب: الرمل المتجمع، كل رمل تجمع في مكان يقال كثيب، وأصل الكلمة: كَثَبَ الشيء يُكْثُبُه ويَكْثِبُه: جَمَعَه من قريب وصَبَّه. (كثيبا مهيلا) أي المهيول، كالمدين أي المديون والمكيل بمعنى المكيول. مهيلاً: هِلْتُ التراب أَهيلُهُ هَيلاً. هذا الوصف يبين لك أن الجبال الصلبة الضخمة المتحجرة التي يصعب تفتيتها من الزلزلة في ذلك اليوم تتحول إلى رمل، والرمل نفسه مُهال، بمعنى إذا وطئتَه بالقدم زَلَّ من تحت القدم، وإذا أَخَذتَ من أسفله انهال من أعلاه، ذاك هو المهيل إذا وطئتَه بالقدم لا يثبت، يَزِلّ من تحت القدم، وإذا أخذت أسفله انهال من أعلاه. تلك هي حالة الجبال فى ذلك اليوم، تُرى كيف يكون حال الناس؟ الجبال الصلبة، الصخر الصلد، جبال من المنجنيز وجبال من الحديد وجبال من النحاس، جبال ألوان وأشكال، صلبة، صلدة، صماء تتحول إلى الكثيب المهيل.
حذرهم ربنا (تبارك وتعالى) وأنذرهم بيوم، ووصف بعض شأنه، ثم ذكرهم بحال الأمم السابقة والتفت الخطاب على وجه التقريع والتوبيخ:
إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولًۭا شَـٰهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًۭا ﴿15﴾
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَـٰهُ أَخْذًۭا وَبِيلًۭا ﴿16﴾
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًۭا يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيبًا ﴿17﴾
ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌۢ بِهِۦ ۚ كَانَ وَعْدُهُۥ مَفْعُولًا ﴿18﴾
إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌۭ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا ﴿19﴾
﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ﴾ السماء: السقف، وكل سقف يسمى سماء. والكلام عن السماء المبنية؛ السماوات السبع. ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ﴾ذَكَّرَ اللفظ؛ لم يقل منفطرة به، لأن التأويل على السقف؛ السماء أي السقف منفطر فَذَكَّر اللفظ. أو السماء اسم جنس يُذَكَّر ويُؤَنَّث، واحدها سماوة. مُنفَطِرٌ به: مُتَشَقِّق. "به" أي فيه، أي منفطر في هذا اليوم. أو منفطر له لأن "به" بمعنى "له" ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [سورة الأنبياء آية: ٤٧] أي في يوم القيامة. الباء واللام و"في" يحل بعضها محل بعض في مثل هذه المواضع. أو بسبب اليوم، بسبب شدة هذا اليوم وبسبب ما فيه. (السماء منفطر) متشقق. الانفطار: التشقق، انفطر الشيء: تشقق وذهب كل مَذْهَب، كل جزء في مكان. إذا كانت السماء المبنية، السماء ذات الأبراج تتفطر والجبال تتفتت، فكيف بحال الناس؟ تُرى أتقوم الساعة على الصالحين؟ أيأتي ذلك اليوم الموصوف بهذه الأوصاف على أناس رُكَّع أو على رجال يذكرون الله آناء الليل وأطراف النهار؟ أبداً! لا تقوم الساعة وفي الأرض رجل يقول لا إله إلا الله. فتلك أوصاف تحدث في يوم الأرض كلها كُفْر وجحود، فكيف بالصالحين في ذلك الزمان؟ علمنا أن الله تبارك وتعالى يرسل ريحاً كالنسيم خفيفة لطيفة تمر على الأرض فلا تدع مؤمناً أو مسلماً أو صالحاً إلا وأخذت روحه إلى السماء، فلا يبقى في الأرض مسلم أو موحد، لا يبقى فيها إلا الكفار، هنا تحدث هذه الأوصاف على هؤلاء إذ هم يستحقون ذلك، ولذا كان الإنذار والتحذير ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا﴾ للكفار ﴿ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(١٣)يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا(١٤)﴾ نعم لأولئك، (فكيف تتقون ) والتحذير تحذير شديد من القادر، (فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا ) ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴾ وعد الله بقيام الساعة قائم لا محالة، واقع لاشك. (كان وعده) بقيام الساعة وبهذه الأوصاف وبهذا العذاب مفعولاً حادثاً واقعاً لا محالة، لأن الواعد قادر ولأن الواعد مالك، وطالما كان مالكا وقادراً لابد وأن ينفذ وعده. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ هذه الآيات أو هذه السورة أو آيات القرآن كله أو هذا التحذير. إن هذه تذكرة، يذكر ربنا (تبارك وتعالى) الغافلين عَلَّهم يتذكرون، عَلَّهم يرجعون، عَلَّهم يتوبون، وقد أعذر من أنذر. ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ أي من شاء أن ينجو اتخذ إلى ربه سبيلاً، اتخذ الطريق إلى رضوان الله، إلى عفوه، إلى مغفرته، إلى رحمته. وقد بين لنا ربنا (تبارك وتعالى) السبيل إليه ﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [سورة النساء آية : ٨٠] وقال جل شأنه: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [سورة النساء آية : ١٤٧].
لقد كان المسلمون في أوائل الإسلام قلة مستضعَفين فأمرهم الله (تبارك وتعالى) بالصبر على الأذى، وأمرهم بتقوية الإرادة والعزيمة وأمرهم بقيام الليل حتى يشتد العود وتقوى الأجساد وتقوى الإرادة، حتى إذا استعدت أجسادهم بالمشقة وبقيام الليل وبالصبر على الوقوف ساعات طويلة و القيام، أصبحوا أكفاء لمواجهة الأعداء. اشتد عودهم وصلبت عزيمتهم وكثر عددهم. بعد ذلك أمرهم الله بالقتال، لكن الناس في ذلك الوقت شق عليهم الأمر إذ لم يكن لديهم آلة تحدد الوقت، و قد أمرهم ربنا (تبارك و تعالى) بقيام الليل و حدد لهم الوقت؛ نصفه أو يزيدون عن النصف حتى يصلوا إلى الثلثين أو ينقصون من النصف حتى يصلوا الى الثلث، فكان أدنى وقت للقيام الثلث وأكثر وقت للقيام الثلثين كما جاء في أول السورة، وكان ذاك فرضاً على النبي (صلي الله عليه وسلم) وعلى الصحابة وعلى الأمة، حين نزلت الآيات في أرجح الأقوال كان فرضاً علي الجميع . قام النبي (صلى الله عليه وسلم) وقامت الصحابة معه حتى انتفخت أقدامهم وتورمت سيقانهم وشق عليهم لأنهم لم يُقَدِّروا الوقت –وقت القيام – فكان الرجل منهم يقوم حتى يبزغ الفجر ليست لديه آلة أو ساعة يُقَدِّر بها الوقت، فكان يقوم بعد صلاة العشاء ويظل قائماً يصلي ويقرأ ويخاف ألا يؤدي ما عليه فيقوم الليل بطوله، فخفف الله عنهم وأمرهم بالقيام بغير تقدير، وأصبح القيام فيه التخيير، وأقل القيام ركعتان كما قال بعض العلماء، وحدث الخلاف هل نُسِخَ القيام أم بقي القيام واجباً مع نسخ المدة -الوقت- وهو الثلث والنصف والثلثين وأصبح القائم مُخَيَّراً ولو لركعتين؟ وبأي شئ نُسِخ؟ بآخر السورة، وكانت المدة بين الأمر والنسخ حولاً كاملاً، سنة. أم نُسِخَ بعد ذلك بالمدينة وكانت مدة القيام عشر سنوات؟ أقوال وكل قائل استدل بدليل. ربنا (تبارك وتعالى) يقول:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٌۭ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَٱقْرَءُوا۟ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ٱلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ وَءَاخَرُونَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ فَٱقْرَءُوا۟ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقْرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍۢ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرًۭا وَأَعْظَمَ أَجْرًۭا ۚ وَٱسْتَغْفِرُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۢ ﴿20﴾
بعد ذلك ننظر في الآيات ويلفت نظرنا أمر بالغ الأهمية، سَوَّى الله (تبارك وتعالى) في الآية بين ثلاث فئات ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ فقال ابن مسعود (رضي الله عنه): من جلب طعاماً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء واقرأوا إن شئتم: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) فسَوَّى بين المسافرين للتجارة وبين المجاهدين والمقاتلين في سبيل الله، ذاك رأي ابن مسعود، بل ورأي طاووس ورأي كثير من العلماء، يقولون جميعاً إن العبد إذا ضرب في الأرض يبتغي من فضل الله، أي عمل من أجل التكسب الحلال يسعى على رزقه ورزق عياله، فأجره كأجر الشهداء يوم القيامة.
وقالوا الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله لأن الله سَوَّى بينهم. وكذلك المريض، أتعلمون أن المريض إذا دعا ربه لا يرد له الدعاء إذا كان صابراً محتسباً؟ إذا مرض العبد فصبر واحتسب لا يرفع يديه إلى الله إلا ويُجاب، ولا بد وأن يُجاب المريض حتى يُشفى، والمسافر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر، كل أولئك دعائهم مقبول. من هنا كان السعي على الرزق والعمل للاكتساب من حلال والأكل من رزق الله حلالاً، بل والعمل للآخرين، خاصة تجارة الطعام لأن الناس إذا لم يتاجر طائفة منهم في الطعام جاعوا، فالأرض لا تكفي وزراعة الارض قد تُنبِت بعض الأصناف ولا تُنبِت البعض الآخر، فيضطر المسلمون إلى التجارة و المقايضة -والمقايضة بعض سلعهم مقابل سلع أخرى- من هنا قالوا إن المسافر لجلب الطعام أجره كأجر الشهيد، وشرطوا له أن يكون محتسباً، أن يكون من حلال، أن يبتغي وجه الله، ألا يحتكر الطعام لأن من احتكر طعام المسلمين برئت منه ذمة محمد (صلى الله عليه وسلم) فإذا لم يحتكر الطعام ولم يحبس الطعام حتى يشتد سعره أو يغلو سعره أو يعلو سعره، بل باعه بسعر يومه له أجر الشهداء. فضل الله واسع والعبرة بالنية، وإنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى. أيها الأخ المسلم؛ قراءة القرآن ليلاً وقيام الليل والسؤال بالليل والدعاء بالليل كل ذلك مستحب ومطلوب، وقد علمتم أن الله (تبارك وتعالى) ينادي إذا مضى ثلث الليل أو شطره هل من مستغفِر فأغفرُ له؟ هل من تائب فأتوبُ عليه. هل من سائل فأعطيه؟
أيها الأخ المسلم؛ وإن كان القيام قد نُسِخَ عن الأمة في أرجح الأقوال إلا أنه مستحب لكل إنسان، وفي زماننا هذا يسهر الناس فى اللهو وفي اللعب، وكان الآباء ينامون بعد صلاة العشاء فيستيقظون قبل الفجر فتتاح لهم الفرصة للصلاة قبل الفجر، أما الآن فالناس أمام وسائل الإعلام متسمرون متصلبون عيونهم مشدودة وعقولهم مأخوذة حتى ينتصف الليل ويزيد، أُمِرَت الأمة بقيام الليل؛ نصفه أو يزيدون عليه، ونحن نسهر نصفه ونزيد عليه في اللهو وفى اللعب.
أيها الأخ المسلم؛ إذا سهرت كذلك قبل أن تنام توضأ وصلِّ ركعتين عَلَّ هذه تغفر تلك، وعَلَّ هذه تزيل تلك، فإن سهرت لاهياً لاعباً متسلياً بخزعبلات و خيالات و تأليفات فلا أقل من أن تتؤضأ قبل أن تنام وتصلي ركعتين أو تقرأ ثلاث أيات أو تقرأ سورة تبارك، فمن نام بعد أن يقرأ سورة تبارك كل يوم إذا دُفِنَ لا يُسأَل في قبره أبداً، تمنع تبارك الملَكَين من السؤال، سورة لا تتجاوز الصفحتين. وقال بعض العلماء عليه أن يقرأ ثلاث آيات على الأقل، ومن قرأ مائة آية لم يُكتَب من الغافلين.
أيها الأخ المسلم؛ القرآن كلام الله، عليك أن تُمضي بعض وقتك مع الله بقراءة كلامه، بصلاة ركعتين بالليل خير من الدنيا وما فيها، هكذا أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).