
القرآن الكريم / سورة التحريم / التفسير المقروء
سورة التحريم
لقاؤنا مع سورة النبي، مع سورة التحريم. تسمى سورة التحريم وتسمى سورة النبي، وهي سورة مدنية نزلت بأحكام وتشريع، نزلت تبين مقام النبي ورفعة قدره، نزلت السورة وافتُتِحَت بخطاب لسيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم)
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿1﴾
قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ ۚ وَٱللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ ۖ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ﴿2﴾
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ والخطاب يُشعِر بقدر النبي ورفعة شأنه، فلم يخاطبه الله (تبارك وتعالى) باسمه العَلَمْ كما خاطب الأنبياء: (يا إبراهيم) بالاسم ناداه، (يا نوح) بالاسم ناداه، يا (عيسى)، يا (موسى)، نادى الأنبياء بأسمائهم ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ [سورة المائدة آية: ١١٦] ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٤٤] ﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ﴾ [سورة هود آية: ٤٨] ﴿يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ [سورة هود آية: ٧٦] وهكذا، أما المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فقد خاطبه بالصفة: (يا أيها النبي) رفعة شأن، إجلال لمقامه الشريف. ورغم أن الخطاب في مجال العتاب إلا أنه تلطف به فخاطبه بالصفة؛ يا أيها الموحَى إليه، يا من تُنَبَّأ، يا من نزل عليك جبريل ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ عتاب فيه رفق، فيه لطف، بل بهذا الخطاب نوّه ربنا بقدره الشريف وخاطبه بهذا الخطاب إجلالاً لمنصبه العظيم. ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ وكأنه يقول له: كيف تَشُقُّ على نفسك وتمنع نفسك من الاستمتاع بما أحله الله لك من أجل أن ترضي أزواجك؟ والواجب أن يسعى الزوجات في رضائك فكيف تسعى أنت في إرضائهن؟ ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ الرفق واللطف والحنان بمقام النبوة، فقد حَرَّمَ النبي شيئاً على نفسه إرضاءً لبعض أزواجه وربنا تبارك وتعالى لا يرضى له بذلك إذ الكل يسعى لإرضائه، فمن أرضى رسول الله فقد أرضى الله، لا يسعى هو في إرضاء أحد بل يسعى الكل في إرضائه. ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة، منتهى التلطف.
والقصة عن غيرة النساء، والنساء فيهن الغيرة مهما كُنَّ صالحات، وكلما أحبت المرأة زوجها كلما اشتدت غيرتها عليه. وكانت نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) يَغَرْنَ عليه، وكان يحب أن يشرب عند زينب ابنة جحش عسلاً -وقد كان يحب الحلواء والعسل- فكان يجلس عندها فيشرب عندها العسل فتمتعه بذلك وتسترضيه بذلك، فعرفت عائشة وغارت، فلم تكن تُسَاميها من نسائه إلا زينب؛ زَوَّجَها الله له من فوق سبع سموات بغير صداق وبلا شهود، ابنة عمته وزَوَّجَها الله ولم يُزَوِّجها وَلِيُّها، كانت عائشة تغار منها فتواطأت مع حفصة -وكانت حفصة تسترضي عائشة لمعرفتها بمنزلتها عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاتفقت عائشة مع حفصة: إذا دخل عليكِ النبيُّ وقد جاء من عند زينب فقولي له هل أكلتَ مغافير؟ أشم من رائحة فمك رائحة المغافير -والمغافير صمغ يشبه العسل تنضح به أشجار العُرْفُد، هو حلو الطعم لكنه كريه الرائحة، تشبه رائحته رائحة الخمر- فحين دخل على حفصة قالت كما قالت لها عائشة فقال: لا بل شربتُ عسلاً عند زينب، قالت: ربما جَرَسَت نَحلُهُ العُرْفُد -أي ربما رَعَتْ النحلة في شجر العُرْفُد فخرج عسلاً به رائحة العرفد؛ شجر ينبت أو ينضح صمغاً حلواً كريه الرائحة- فقال: لا أشربه بعد ذلك أبداً ولقد حَلَفْتُ على ذلك فلا تخبري أحداً بذلك. فأخبرت حفصةُ عائشةَ وأنبأتها بأن المؤامرة قد تمت وأنهما قد خدعتا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد حلف ألا يأكل العسل عند زينب ولا يشربه، وهكذا تلك المزية في زينب بنت جحش ذهبت عنها، فقد كان دائماً يمر عليها لشربة العسل والآن لن يشرب عندها عسلاً، وسُرَّتَا بذلك.
ونزل جبريل ليفضح أمرهما ويقص على المصطفى (صلى الله عليه وسلم) نبأهما، فأوشك النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يطلق حفصة أو طلقها، فنزل جبريل يقول له: لا إنها صوامة وإنها قوامة وهي زوجتك في الجنة، وتلك رحمة من الله إذ لا يعاجل بالعقوبة ويغفر الصغائر وربنا أعلم بخلقه ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [سورة النجم آية: ٣٢] وهو القائل: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية: ٢٨] رحمته وسعت كل شيء. ونزلت السورة تؤدب نساء النبي وتشتد في العتاب حتى يصل العتاب إلى درجة التهديد والوعيد. يقول الله معاتباً بلطف حبيبه: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ ذاك خطأ، هُنَّ يبتغين مرضاتك، هُنَّ يسعين إلى رضاك، أما أنت فلا. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ شرع لكم تحليل اليمين، التَّحِلَّة: مصدر، وأصل الكلمة: حَلَّلَ الشيء وتَحَلَّل من الشيء تَحْلِلَةُ الأيمان، تلك أصل الكلمة. (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي تَحْلِلَة أيمانكم. واليمين كأنه عَقْد والكفارة حَلٌّ لهذا العَقد، ولذا سُمِّيَت الكفارة تَحِلَّة اليمين وكأن اليمين عَقد ﴿ولكن يؤاخذكم بما عَقَّدْتُم الأيمان﴾ وكأن الكفارة التي فرضها ربنا تُحِلُّ العَقْد. أو التحلة لأن الكفارة تُحِلُّ للحالف ما قد حَرَّمَ على نفسه باليمين.
وتَحِلَّة اليمين بَيَّنَها ربنا في سورة المائدة: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) ولا يصح الصيام مطلقاً في الكفارة للقادر على الإطعام أو القادر على الكسوة، فبعض الناس يحلف ثم يقول: أُكَفِّرُ عن يميني بالصيام، أبداً! لا يصح الكفارة بالصيام مطلقاً إلا إذا كنتَ غير قادر على الإطعام أو على الكساء أو على عتق الرقبة، لأن الله يقول: (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) أنت مخير بين الثلاثة، (فمن لم يجد) أي من لم يجد مالاً ليطعم أو لم يجد مالاً ليكسو أو لم يجد مالاً ليعتق الرقبة أو لم يجد الرقبة، هنا -وهنا فقط- يصح له الصيام، تلك كفارة اليمين. ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ وقد يكون تحليل اليمين أيضاً بالاستثناء، فإذا استثنى العبد في يمينه ولم يُوَفِّ باليمين فلا إثم عليه، كأن يقول: والله لأفعلن كذا غداً إن شاء الله، فإذا قال: (إن شاء الله) حَلَّلَ اليمين، فإن لم يفعل فلا تجب عليه الكفارة لأنه استثنى، أما إذا قال: والله لأفعلن كذا، فقد نسب الفعل وعدم الفعل إلى نفسه فإن لم يفعل وجبت عليه الكفارة، أو فعل ما حلف على ألا يفعل وجبت عليه الكفارة، أما إذا قال: إن شاء الله، إذاً فالأمر متعلق بمشيئة الله، فإذا لم يفعل ما حلف على فعله أو فعل ما حلف على عدم فعله كان الأمر بسبب مشيئة الله وليس بسببه. ﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ مولاكم: يتولى أموركم بما يصلحها، يُشَرِّع لكم ما يأتي لكم بالسعادة دنيا وأخرى، الله ناصركم ومعينكم ومتولي أموركم. وهو العليم بمصالح عباده، الحكيم فيما شرع لهم.
وهناك معنى آخر؛ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم: أي تَحِلَّةَ ما ملكت أيمانكم، وإن كان المعنى كذلك فهو خاص بقصة أخرى تروى وإن كانت لا تروى في الصحاح لكن غالبية المفسرين يعتبروها سبباً في نزول السورة وهي: حين أهدى المقوقس عظيم مصر مارية إلى رسول الله قَبِلَها النبي وأصبحت سَرِيَّة من السراري أو مِلكُ يمين، وفي يوم استأذنت حفصة في زيارة أبويها فأذن لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخرجت لزيارة أبويها، واستدعى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ إبراهيم مارية فجاءته في بيت حفصة، وجاءت حفصة فوجدت مارية في بيتها فغضبت وغارت وقالت: في بيتي وعلى فراشي؟ والله ما فعلتَ هذا إلا لهواني عليك، وبكت فغارت غيرة شديدة، فأراد أن يسترضيها الإلفُ الأَلُوف المحَبَّب إلى النفوس سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا حفصة مارية حرام عَلَيَّ، قالت: كيف تُحَرَّمُ عليك وهي مِلْكُ يمينك؟ قال: قد حَلَفْتُ لا تخبري بذلك أحداً، فحين خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) نادت على عائشة وخبطت عليها الجدار وكانتا متصافيتان متصافتان؛ الحجرتان متجاورتان، كانتا متصافيتان ودائماً وأبداً يتظاهران على نسائه، عائشة وحفصة، وأخبرتها رغم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استكتمها الخبر، فنزل جبريل فأخبره بإفشاء السر، والسورة تُعَنِّف تعنيفاً شديداً على إفشاء السر، خاصة ما تفشيه الزوجة من سر زوجها، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة وأمهات المؤمنين قدوة، فكان العتاب الشديد على إفشاء السر إذ بإفشاء السر تفسد الحياة الزوجية ولا يأمن الرجل على نفسه مع تلك التي أفشت سره، إذ يجب على الزوجة أن تحمي زوجها وأن تحفظ سره، حتى المحاكم في كثير من البلاد لا تأخذ بشهادة الزوجة ضد زوجها إذ لا يجب عليها ذلك من أجل الحفاظ على سره.
تلك قصة معظم المفسرين يعتبرونها سبباً في نزول السورة، أما المحَدِّثون -علماء الحديث- يعتبرون أن السبب هو قصة العسل إذ رُوِيَت قصة العسل في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، أما قصة مارية فقد رُوِيَت في كتب أخرى كالدارقطني وسندها ليس بالدرجة التي بها سند القصة الأخرى. إذا كان كذلك فالمعنى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي قد حَلَّلَ الله لكم مِلْكَ اليمين، فكيف تُحَرِّم مارية على نفسك وقد أَحَلَّها الله لك؟ (والله مولاكم وهو العليم الحكيم).
وتَشْرَعُ السورة في الحكاية عن القصة:
والقصة عن غيرة النساء، والنساء فيهن الغيرة مهما كُنَّ صالحات، وكلما أحبت المرأة زوجها كلما اشتدت غيرتها عليه. وكانت نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) يَغَرْنَ عليه، وكان يحب أن يشرب عند زينب ابنة جحش عسلاً -وقد كان يحب الحلواء والعسل- فكان يجلس عندها فيشرب عندها العسل فتمتعه بذلك وتسترضيه بذلك، فعرفت عائشة وغارت، فلم تكن تُسَاميها من نسائه إلا زينب؛ زَوَّجَها الله له من فوق سبع سموات بغير صداق وبلا شهود، ابنة عمته وزَوَّجَها الله ولم يُزَوِّجها وَلِيُّها، كانت عائشة تغار منها فتواطأت مع حفصة -وكانت حفصة تسترضي عائشة لمعرفتها بمنزلتها عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاتفقت عائشة مع حفصة: إذا دخل عليكِ النبيُّ وقد جاء من عند زينب فقولي له هل أكلتَ مغافير؟ أشم من رائحة فمك رائحة المغافير -والمغافير صمغ يشبه العسل تنضح به أشجار العُرْفُد، هو حلو الطعم لكنه كريه الرائحة، تشبه رائحته رائحة الخمر- فحين دخل على حفصة قالت كما قالت لها عائشة فقال: لا بل شربتُ عسلاً عند زينب، قالت: ربما جَرَسَت نَحلُهُ العُرْفُد -أي ربما رَعَتْ النحلة في شجر العُرْفُد فخرج عسلاً به رائحة العرفد؛ شجر ينبت أو ينضح صمغاً حلواً كريه الرائحة- فقال: لا أشربه بعد ذلك أبداً ولقد حَلَفْتُ على ذلك فلا تخبري أحداً بذلك. فأخبرت حفصةُ عائشةَ وأنبأتها بأن المؤامرة قد تمت وأنهما قد خدعتا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد حلف ألا يأكل العسل عند زينب ولا يشربه، وهكذا تلك المزية في زينب بنت جحش ذهبت عنها، فقد كان دائماً يمر عليها لشربة العسل والآن لن يشرب عندها عسلاً، وسُرَّتَا بذلك.
ونزل جبريل ليفضح أمرهما ويقص على المصطفى (صلى الله عليه وسلم) نبأهما، فأوشك النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يطلق حفصة أو طلقها، فنزل جبريل يقول له: لا إنها صوامة وإنها قوامة وهي زوجتك في الجنة، وتلك رحمة من الله إذ لا يعاجل بالعقوبة ويغفر الصغائر وربنا أعلم بخلقه ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [سورة النجم آية: ٣٢] وهو القائل: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية: ٢٨] رحمته وسعت كل شيء. ونزلت السورة تؤدب نساء النبي وتشتد في العتاب حتى يصل العتاب إلى درجة التهديد والوعيد. يقول الله معاتباً بلطف حبيبه: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ ذاك خطأ، هُنَّ يبتغين مرضاتك، هُنَّ يسعين إلى رضاك، أما أنت فلا. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ شرع لكم تحليل اليمين، التَّحِلَّة: مصدر، وأصل الكلمة: حَلَّلَ الشيء وتَحَلَّل من الشيء تَحْلِلَةُ الأيمان، تلك أصل الكلمة. (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي تَحْلِلَة أيمانكم. واليمين كأنه عَقْد والكفارة حَلٌّ لهذا العَقد، ولذا سُمِّيَت الكفارة تَحِلَّة اليمين وكأن اليمين عَقد ﴿ولكن يؤاخذكم بما عَقَّدْتُم الأيمان﴾ وكأن الكفارة التي فرضها ربنا تُحِلُّ العَقْد. أو التحلة لأن الكفارة تُحِلُّ للحالف ما قد حَرَّمَ على نفسه باليمين.
وتَحِلَّة اليمين بَيَّنَها ربنا في سورة المائدة: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) ولا يصح الصيام مطلقاً في الكفارة للقادر على الإطعام أو القادر على الكسوة، فبعض الناس يحلف ثم يقول: أُكَفِّرُ عن يميني بالصيام، أبداً! لا يصح الكفارة بالصيام مطلقاً إلا إذا كنتَ غير قادر على الإطعام أو على الكساء أو على عتق الرقبة، لأن الله يقول: (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) أنت مخير بين الثلاثة، (فمن لم يجد) أي من لم يجد مالاً ليطعم أو لم يجد مالاً ليكسو أو لم يجد مالاً ليعتق الرقبة أو لم يجد الرقبة، هنا -وهنا فقط- يصح له الصيام، تلك كفارة اليمين. ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ وقد يكون تحليل اليمين أيضاً بالاستثناء، فإذا استثنى العبد في يمينه ولم يُوَفِّ باليمين فلا إثم عليه، كأن يقول: والله لأفعلن كذا غداً إن شاء الله، فإذا قال: (إن شاء الله) حَلَّلَ اليمين، فإن لم يفعل فلا تجب عليه الكفارة لأنه استثنى، أما إذا قال: والله لأفعلن كذا، فقد نسب الفعل وعدم الفعل إلى نفسه فإن لم يفعل وجبت عليه الكفارة، أو فعل ما حلف على ألا يفعل وجبت عليه الكفارة، أما إذا قال: إن شاء الله، إذاً فالأمر متعلق بمشيئة الله، فإذا لم يفعل ما حلف على فعله أو فعل ما حلف على عدم فعله كان الأمر بسبب مشيئة الله وليس بسببه. ﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ مولاكم: يتولى أموركم بما يصلحها، يُشَرِّع لكم ما يأتي لكم بالسعادة دنيا وأخرى، الله ناصركم ومعينكم ومتولي أموركم. وهو العليم بمصالح عباده، الحكيم فيما شرع لهم.
وهناك معنى آخر؛ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم: أي تَحِلَّةَ ما ملكت أيمانكم، وإن كان المعنى كذلك فهو خاص بقصة أخرى تروى وإن كانت لا تروى في الصحاح لكن غالبية المفسرين يعتبروها سبباً في نزول السورة وهي: حين أهدى المقوقس عظيم مصر مارية إلى رسول الله قَبِلَها النبي وأصبحت سَرِيَّة من السراري أو مِلكُ يمين، وفي يوم استأذنت حفصة في زيارة أبويها فأذن لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخرجت لزيارة أبويها، واستدعى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ إبراهيم مارية فجاءته في بيت حفصة، وجاءت حفصة فوجدت مارية في بيتها فغضبت وغارت وقالت: في بيتي وعلى فراشي؟ والله ما فعلتَ هذا إلا لهواني عليك، وبكت فغارت غيرة شديدة، فأراد أن يسترضيها الإلفُ الأَلُوف المحَبَّب إلى النفوس سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا حفصة مارية حرام عَلَيَّ، قالت: كيف تُحَرَّمُ عليك وهي مِلْكُ يمينك؟ قال: قد حَلَفْتُ لا تخبري بذلك أحداً، فحين خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) نادت على عائشة وخبطت عليها الجدار وكانتا متصافيتان متصافتان؛ الحجرتان متجاورتان، كانتا متصافيتان ودائماً وأبداً يتظاهران على نسائه، عائشة وحفصة، وأخبرتها رغم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استكتمها الخبر، فنزل جبريل فأخبره بإفشاء السر، والسورة تُعَنِّف تعنيفاً شديداً على إفشاء السر، خاصة ما تفشيه الزوجة من سر زوجها، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة وأمهات المؤمنين قدوة، فكان العتاب الشديد على إفشاء السر إذ بإفشاء السر تفسد الحياة الزوجية ولا يأمن الرجل على نفسه مع تلك التي أفشت سره، إذ يجب على الزوجة أن تحمي زوجها وأن تحفظ سره، حتى المحاكم في كثير من البلاد لا تأخذ بشهادة الزوجة ضد زوجها إذ لا يجب عليها ذلك من أجل الحفاظ على سره.
تلك قصة معظم المفسرين يعتبرونها سبباً في نزول السورة، أما المحَدِّثون -علماء الحديث- يعتبرون أن السبب هو قصة العسل إذ رُوِيَت قصة العسل في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، أما قصة مارية فقد رُوِيَت في كتب أخرى كالدارقطني وسندها ليس بالدرجة التي بها سند القصة الأخرى. إذا كان كذلك فالمعنى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي قد حَلَّلَ الله لكم مِلْكَ اليمين، فكيف تُحَرِّم مارية على نفسك وقد أَحَلَّها الله لك؟ (والله مولاكم وهو العليم الحكيم).
وتَشْرَعُ السورة في الحكاية عن القصة:
وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثًۭا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٍۢ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَـٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِىَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴿3﴾
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ أَسَرَّ إليها، إذاً فالكلام سر، ونبينا صلى الله عليه وسلم يحذّر ويقول: (إذا حَدَّثَ الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) أي أمانة على السامع ألا يفشي سره ولا يعيد حديثه. وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه –حفصة- حديث قصة العسل أو قصة مارية. ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ قراءة ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ أي أخبرت عائشة. ﴿وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ أي أَعْلَمَه الله بإفشائها بالسر وبإخبارها عائشة بالكلام. والظهور على الشيء: الاطلاع عليه، أَظْهَرَه: أي أَطْلَعَه، ظَهَرَ على الشيء: اطَّلَع عليه، أَطْلَعَهُ الله على إفشائها للسر. ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ مراعاة لها وحياءً، فقد كان أشد حياءً من العذراء في خِدْرِها. ولذا قالوا: الكريم لا يستقصي، إذا عاتب الكريم شخصاً لا يُمسِكُ له على كل شيء ويعاتبه في الصغيرة والكبيرة، بل يعاتب على بعض الأمور ويُعرِض عن البعض الآخر كخُلُقِ النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يستقصي ولا يُعاتِب في كل شيء بل يُعاتِب على البعض ويُعرِض عن الآخر. من هنا يصف ربنا ذاك الخلق العظيم في سيد الخلائق فيقول: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ عَرَّفَ: بمعنى أخبرها وبَيَّنَ لها أنه قد علم من الله، وبَيَّنَ لها أنه قد عرف كل شيء، وما خفى عليه شيء لكنه أعرض عن بعض الحديث. أما إذا كانت القراءة: ﴿عَرَفَ﴾ بمعنى عَرَفَ: أي عاقب، من قولهم: لأَعْرِفَنَّ لك ذلك الأمر: أي لأجازينك عليه. عَرَفَ بعضه: أي جازى وعاقب على بعضه وأعرض عن بعض. واعتُبِرَ الجزاء أنه هَمَّ بطلاق حفصة أو طلقها فعلاً طلقة رجعية، فالأمر فيه خلاف، إن كان قد طلقها فعلاً وأمر بمراجعتها أو هَمَّ بطلاقها وأُمِرَ بعدم الطلاق. عَرَفَ بعضه: جازى على بعضه، عَرَّف بعضه وأعرض عن بعض.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ جاء بحفصة وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته لعائشة. ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾ اتجه تفكيرها للبشر، الفكر البشري، نعم فقد كانت نساء النبي يعاملن سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) معاملة الزوجة للزوج، ولو عَرَفْنَ مقامه على الحقيقة ما كَشَفَت إحداهن كَنَفَها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكانت تستطيع أن تخاطبه أو تعاتبه أو تنام في فراشه أو تخلع ثيابها؟ أكانت لو عرفت مقامه؟ أبداً! وإنما أخفى الله عنهن المقام العالي بقدْر حتى تستطيع الزوجة أن تعاشر صاحب المقام الموهوب، صاحب اللواء المعقود، سيد البشر جميعاً، الساجد تحت العرش إذ الكل وُقُوف، كيف تعاشره امرأة إلا أن تغفل عن ذلك المقام فتعامله معاملة المرأة للرجل؟ من هنا عاتبها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأخبرها فظنت أن عائشة قد أوقعت بها وأخبرته عن إفشائها لِسِرِّه، واتجه تفكيرها للبشرية فقد غفلت عن أنه يُوحَى إليه أمر الماضي وأمر المستقبل وقد رأى ما فات وعَلِمَ بما هو آت، ورأى الجنة وأهلها ورأى النار وأهلها، وصعد إلى فوق سبع سماوات حيث سدرة المنتهى حيث توقف جبريل ولم يتقدم، غفلت عن كل ذلك وقالت: من أنبأك هذا؟ فتلطف في الإجابة: ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ لم يقل أنا كذا وأنا كذا وكيف تسألين هذا السؤال، ألا تدرين أني يوحى إِلَيَّ وأن وأن وأن، أبداً! تَلَطَّفَ في الإجابة وقال: نبأني العليم الخبير؛ العليم بالأمور الخبير ببواطنها، العليم بالظواهر الخبير بما خفي، يعلم السر وأخفى، العليم بأقوالكم وأعمالكم الخبير بما انطوت عليه قلوبكم ونفوسكم.
وفجأة يتحول النسق والسياق في السورة للالتفات؛ ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ﴾: حكاية، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾: حكاية، ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾: حكاية، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ﴾: حكاية، حوار، ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾. تحول الخطاب إلى الالتفات؛ التفت إلى مخاطبة الزوجات، يبين لك شدة العتاب بالالتفات المفاجئ في الخطاب وتغير النسق والسياق في السورة:
﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ جاء بحفصة وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته لعائشة. ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾ اتجه تفكيرها للبشر، الفكر البشري، نعم فقد كانت نساء النبي يعاملن سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) معاملة الزوجة للزوج، ولو عَرَفْنَ مقامه على الحقيقة ما كَشَفَت إحداهن كَنَفَها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكانت تستطيع أن تخاطبه أو تعاتبه أو تنام في فراشه أو تخلع ثيابها؟ أكانت لو عرفت مقامه؟ أبداً! وإنما أخفى الله عنهن المقام العالي بقدْر حتى تستطيع الزوجة أن تعاشر صاحب المقام الموهوب، صاحب اللواء المعقود، سيد البشر جميعاً، الساجد تحت العرش إذ الكل وُقُوف، كيف تعاشره امرأة إلا أن تغفل عن ذلك المقام فتعامله معاملة المرأة للرجل؟ من هنا عاتبها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأخبرها فظنت أن عائشة قد أوقعت بها وأخبرته عن إفشائها لِسِرِّه، واتجه تفكيرها للبشرية فقد غفلت عن أنه يُوحَى إليه أمر الماضي وأمر المستقبل وقد رأى ما فات وعَلِمَ بما هو آت، ورأى الجنة وأهلها ورأى النار وأهلها، وصعد إلى فوق سبع سماوات حيث سدرة المنتهى حيث توقف جبريل ولم يتقدم، غفلت عن كل ذلك وقالت: من أنبأك هذا؟ فتلطف في الإجابة: ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ لم يقل أنا كذا وأنا كذا وكيف تسألين هذا السؤال، ألا تدرين أني يوحى إِلَيَّ وأن وأن وأن، أبداً! تَلَطَّفَ في الإجابة وقال: نبأني العليم الخبير؛ العليم بالأمور الخبير ببواطنها، العليم بالظواهر الخبير بما خفي، يعلم السر وأخفى، العليم بأقوالكم وأعمالكم الخبير بما انطوت عليه قلوبكم ونفوسكم.
وفجأة يتحول النسق والسياق في السورة للالتفات؛ ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ﴾: حكاية، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾: حكاية، ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾: حكاية، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ﴾: حكاية، حوار، ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾. تحول الخطاب إلى الالتفات؛ التفت إلى مخاطبة الزوجات، يبين لك شدة العتاب بالالتفات المفاجئ في الخطاب وتغير النسق والسياق في السورة:
إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَـٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ﴿4﴾
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ شرط جزاؤه محذوف تقديره: فهو خير لكما، أو فإن الله يقبل توبتكما. ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ليست جواباً! عليكما التوبة بسبب أن القلوب قد صَغَت: مالت. صَغَى يصْغَى وصَغَى يصغُو صَغْوَاً وصَغِيَ يَصْغَى صُغَىً وصُغِيَّاً: مال. وأصغى الرجل الإناء: أماله، أصغى الشيءَ: أماله، وصغى: مال. فربنا (تبارك وتعالى) يقول ملتفتاً لهم بالخطاب مهدداً متوعداً: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ أي قد أتيتما ما يوجب العقوبة وما يوجب عليكما التوبة، فإن تتوبا يكن خير لكما. وقال: (قلوبكما) جَمْع، ولم يقل: قلباكما، لأن في اللغة يُكرَه أن تجتمع تثنيتان في كلمة واحدة أو فيما يشبه الكلمة الواحدة فيؤتى بالجمع، والتثنية أول الجمع، المفرد مفرد والتثنية تعتبر أول درجات الجمع. ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ أي تتظاهرا عليه، تتعاونا عليه وتتحزبا عليه كما حدث وتتفقان سوياً. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ المتولي أموره، الناصر والمعين، الحافظ هو الله. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ معطوف؛ أي الله مولاه وجبريل أيضاً مولاه وصالح المؤمنين مواليه.
وصالح إن كانت كلمة مفردة إنما معناها الجمع؛ أي صالحوا المؤمنين، كما يقول الله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [سورة النساء آية: ٦٩] مفرد ولكن يراد به الجمع، فكذلك (وصالح المؤمنين): أبو بكر وعمر، قالوا ذلك لأن الحادثة حينما حدثت وقف أبو بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووقف عمر معه كذلك، وكل منهما أراد أن يَجَأَ عُنُقَ ابنته، وقام أبو بكر على عائشة وقام عمر على حفصة يَجَآن أعناقهما مرضاة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكان عمر وكان أبو بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذهب عمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول له: يا رسول الله عسى إن طَلَّقْتَ هؤلاء أن يبدلك الله خيراً منهن، فنزلت الآية بكلام عمر، وقال له: يا رسول الله إن تظاهرا عليك فإن الله مولاك وجبريل مولاك وأنا وأبو بكر مواليك وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، ونزلت الآية مصداقاً لقول عمر، وقلما تكلم عمر بكلام ولم ينزل فيه وحي مصدقاً له. ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ وقْفْ؛ الله مولاه. ثم تفتتح القراءة وتقول: ﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ أي جبريل وصالح المؤمنين والملائكة مظاهرون له، والله مولاه. أو ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ﴾ ثم نقف؛ أي جبريل أيضاً مولاه. ثم تقول: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ أي المؤمنون والصحابة وأحبابه والملائكة مظاهرون له. أو ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والوقف هنا، فالله وليه، أيضاً مواليه المؤمنون، وأيضاً جبريل مولاه.
ثم: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ كلها تنفع والإعراب يسمح بذلك، فجبريل معطوف، أو جبريل وصالح المؤمنين معطوف، أو ليس هناك عطف، فإن الله هو مولاه، واستفتاح الكلام: (جبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير). وفي الآية، لو تأملت لوجدت رفعة القدر وجلال الشأن في سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) (فإن الله هو مولاه) حصرٌ وتأكيد، والمتكلم القادر، الله هو القائل عن نفسه، هو الواعد: (فإن الله هو مولاه) وجاء باسم جبريل مفرداً تعظيماً لشأن جبريل وتخويفاً لمن يتظاهر على النبى (صلى الله عليه وسلم) جبريل وكفى بجبريل! صاحب ستمائة جناح، جناح واحد يكفي لحمل الأرض ودكها دكاً. وصالح المؤمنين تَوَسُّط بين جبريل وبين الملائكة، وكأن المؤمنون مُقَدَّمون (وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة) ودخل جبريل في الملائكة مرة أخرى، فكأن جبريل قد ذُكِرَ مرتين؛ مرة مفرداً بالتسمية ومرة ضمن العموم لأنه مَلَك من الملائكة، والملائكة منهم جبريل وإسرافيل وميكائيل وهكذا، فتوسط الكلام (صالح المؤمنين) جاءت متوسطة لرفعة شأن المؤمنين ولبيان عظمة الصلاح وقدر الصلاح، من هنا قال: (وصالح المؤمنين) في درجة تعلو درجة الملائكة وقُدِّمُوا في الذكر: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) ظهير: مفرد يراد به الجمع، أي ظهراء. وتنظر إلى الآية وتتخيل ذاك المؤيد بالله إذا مشى على الأرض فالله مولاه، إذا تحرك فالله معه وجبريل يحميه يمشي بين يديه ويحفه المؤمنون من كل جانب يحمونه ويفدونه بالمهج والأرواح، وتأتي الملائكة كالجيش العرمرم تمشي خلفه، والملائكة بعد ذلك. وقال: (بعد ذلك) لبيان ورفعة شأن مظاهرة الملائكة، بعد كل ذلك؛ بعد تولية الله، بعد ربنا (تبارك وتعالى) مولاه وصالح المؤمنين يأتي بعد ذلك الملائكة ظهير، وكأن الملائكة قد أتت بجيش عرمرم واصطفت صفوفاً وسارت خلفه تحمي ظهره.
وصَدَقَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث كان يقول لأصحابه حين يمشي ويمشون خلفه كان يقول لهم: "امشوا أمامي وخلُّوا ظهري للملائكة" أو كما قال.
ويأتي بعد العتاب وبعد الأمر بالتوبة لزوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) أمهات المؤمنين يأتي التهديد والوعيد:
وصالح إن كانت كلمة مفردة إنما معناها الجمع؛ أي صالحوا المؤمنين، كما يقول الله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [سورة النساء آية: ٦٩] مفرد ولكن يراد به الجمع، فكذلك (وصالح المؤمنين): أبو بكر وعمر، قالوا ذلك لأن الحادثة حينما حدثت وقف أبو بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووقف عمر معه كذلك، وكل منهما أراد أن يَجَأَ عُنُقَ ابنته، وقام أبو بكر على عائشة وقام عمر على حفصة يَجَآن أعناقهما مرضاة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكان عمر وكان أبو بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذهب عمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول له: يا رسول الله عسى إن طَلَّقْتَ هؤلاء أن يبدلك الله خيراً منهن، فنزلت الآية بكلام عمر، وقال له: يا رسول الله إن تظاهرا عليك فإن الله مولاك وجبريل مولاك وأنا وأبو بكر مواليك وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، ونزلت الآية مصداقاً لقول عمر، وقلما تكلم عمر بكلام ولم ينزل فيه وحي مصدقاً له. ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ وقْفْ؛ الله مولاه. ثم تفتتح القراءة وتقول: ﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ أي جبريل وصالح المؤمنين والملائكة مظاهرون له، والله مولاه. أو ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ﴾ ثم نقف؛ أي جبريل أيضاً مولاه. ثم تقول: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ أي المؤمنون والصحابة وأحبابه والملائكة مظاهرون له. أو ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والوقف هنا، فالله وليه، أيضاً مواليه المؤمنون، وأيضاً جبريل مولاه.
ثم: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ كلها تنفع والإعراب يسمح بذلك، فجبريل معطوف، أو جبريل وصالح المؤمنين معطوف، أو ليس هناك عطف، فإن الله هو مولاه، واستفتاح الكلام: (جبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير). وفي الآية، لو تأملت لوجدت رفعة القدر وجلال الشأن في سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) (فإن الله هو مولاه) حصرٌ وتأكيد، والمتكلم القادر، الله هو القائل عن نفسه، هو الواعد: (فإن الله هو مولاه) وجاء باسم جبريل مفرداً تعظيماً لشأن جبريل وتخويفاً لمن يتظاهر على النبى (صلى الله عليه وسلم) جبريل وكفى بجبريل! صاحب ستمائة جناح، جناح واحد يكفي لحمل الأرض ودكها دكاً. وصالح المؤمنين تَوَسُّط بين جبريل وبين الملائكة، وكأن المؤمنون مُقَدَّمون (وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة) ودخل جبريل في الملائكة مرة أخرى، فكأن جبريل قد ذُكِرَ مرتين؛ مرة مفرداً بالتسمية ومرة ضمن العموم لأنه مَلَك من الملائكة، والملائكة منهم جبريل وإسرافيل وميكائيل وهكذا، فتوسط الكلام (صالح المؤمنين) جاءت متوسطة لرفعة شأن المؤمنين ولبيان عظمة الصلاح وقدر الصلاح، من هنا قال: (وصالح المؤمنين) في درجة تعلو درجة الملائكة وقُدِّمُوا في الذكر: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) ظهير: مفرد يراد به الجمع، أي ظهراء. وتنظر إلى الآية وتتخيل ذاك المؤيد بالله إذا مشى على الأرض فالله مولاه، إذا تحرك فالله معه وجبريل يحميه يمشي بين يديه ويحفه المؤمنون من كل جانب يحمونه ويفدونه بالمهج والأرواح، وتأتي الملائكة كالجيش العرمرم تمشي خلفه، والملائكة بعد ذلك. وقال: (بعد ذلك) لبيان ورفعة شأن مظاهرة الملائكة، بعد كل ذلك؛ بعد تولية الله، بعد ربنا (تبارك وتعالى) مولاه وصالح المؤمنين يأتي بعد ذلك الملائكة ظهير، وكأن الملائكة قد أتت بجيش عرمرم واصطفت صفوفاً وسارت خلفه تحمي ظهره.
وصَدَقَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث كان يقول لأصحابه حين يمشي ويمشون خلفه كان يقول لهم: "امشوا أمامي وخلُّوا ظهري للملائكة" أو كما قال.
ويأتي بعد العتاب وبعد الأمر بالتوبة لزوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) أمهات المؤمنين يأتي التهديد والوعيد:
عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرًۭا مِّنكُنَّ مُسْلِمَـٰتٍۢ مُّؤْمِنَـٰتٍۢ قَـٰنِتَـٰتٍۢ تَـٰٓئِبَـٰتٍ عَـٰبِدَٰتٍۢ سَـٰٓئِحَـٰتٍۢ ثَيِّبَـٰتٍۢ وَأَبْكَارًۭا ﴿5﴾
(عسى) في القرآن كله واجبة، لأن الله لا يُرَجِّيك ثم يخيب رجاءك. (عسى) في كلام البشر تفيد الترجي، قد وقد، (عسى أن آتيك غداً) فقد آتي وقد لا آتي، فهي رجاء. أما مع الله فإن قال ربنا (عسى) وَجَبَت. ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٩] ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [سورة التحريم آية: ٨] تحقق كل ذلك، فعسى واجب. هنا في هذه الآية اختلف العلماء فقالوا: هنا ليست واجبة -وهي الوحيدة في القرآن- وقال بعضهم: بل هنا أيضاً واجبة، فهي واجبة في كل القرآن. والخلاف بسبب (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) هل حدث؟ هل طلقهن؟ هل أبدله خيراً منهن؟ لم يحدث. من هنا قالوا ليست بواجبة في هذا الموضع فقط. وذاك رأي مرجوح، أما الرأي الراجح فهي واجبة ولكنها مُعَلَّقة؛ إن طلقكن، وقد علم ربنا أنه لا يطلقهن فهي واجبة أيضاً ولكنها مُعَلَّقة على شرط لم يقع، والمعَلَّق على ما لم يقع لا يوجِب وقوعه، فهي لا تقع لأنها معلقة على أمر لا يقع لكنها واجبة.
الأمر الثاني: هل هناك نساء خير من أمهات المؤمنين؟ أبداً والله! وربنا يقول: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٣٢] ولكن الآية من قبيل الوعيد والبيان لقدرة الله، إن شاء فعل، كقول الله (تبارك وتعالى) للمؤمنين حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للإنفاق: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [سورة محمد آية: ٣٨] ربنا (تبارك وتعالى) حين خلق أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) جعلهم له وزراء وأنصار، ولن يوجد في الوجود من هو خير من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث هو القائل: "خير القرون قرني" "أصحابي أصحابي لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما ملأ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه" إذا ً فحين يقول: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ ليس معنى ذلك أن هناك من هو خير منهم لكن الله يحدثنا عن قدرته، فإن كان قد خلق الأصحاب بهذا المقام فهو قادر على أن يخلق من هو خير منهم، وإن كانت نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا المقام من الرفعة؛ أمهات المؤمنين، زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا والآخرة، إن كُنَّ كذلك لكن الله قادر على أن يأتي بخير منهن، فالآية على سبيل التهديد، أيضاً لبيان قدرة الله، وليس هناك من هن خير من نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد كُنَّ كما وصف فيما يأتي بهن: ﴿أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ كُنَّ أمهات المؤمنين مسلمات، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ كُنَّ كذلك، ﴿قَانِتَاتٍ﴾ كُنَّ كذلك، ﴿تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ كُنَّ كذلك، هُنَّ خير النساء على الأرض، بل فيهن سيدة نساء العالمين على وجه الإطلاق –خديجة- وإن كان الخطاب لا يشملها فقد كانت في رفقة الأنبياء والصديقين، كانت قد لحقت بالرفيق الأعلى والخطاب لا يشملها، لكنها من أمهات المؤمنين. من هنا يهدد ربنا ويتوعد ويقول: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ وقد عَلِمَ أنه لن يطلقهن، ﴿أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ مستسلمات لأمر الله، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ مصدقات بأمره ونهيه، ﴿قَانِتَاتٍ﴾ لازمات للطاعة مع الخضوع، ﴿تَائِبَاتٍ﴾ عن ذنوبهن، أو تائبات: عائدات إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمحبة والمودة والإرضاء، ﴿عَابِدَاتٍ﴾ يواظبن على العبادة ليلاً ونهاراً حتى تصبح العبادة وكأنها سجية لهن، ﴿سَائِحَاتٍ﴾ صائمات، من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "سياحة أمتى الصيام" وسمي الصائم سائحاً لأنه بالنهار بغير زاد، والسائح: المهاجر في الأرض، سائحات: مهاجرات، معنى آخر. سائحات: صائمات، سائحات: مهاجرات، ذاهبات في طاعة الله؛ من: ساح الماء إذا ذهب، وكأنهن في طاعة الله لا يدرين بشيء وكل وقتهن وكل ذكرهن لله، فهن سائحات ذاهبات في طاعة الله كل مذهب. ﴿ثَيِّبَاتٍ﴾ الثَّيِّب: المرأة التي طُلِّقَت أو مات زوجها، وسميت ثيباً لأنها ثابت إلى بيت أبويها، ثاب يثوب ثَوْباً: عاد ورجع، فالثيب حين يموت زوجها أو يطلقها تعود إلى بيت أبويها، من أجل ذلك سميت ثيباً. ﴿وَأَبْكَارًا﴾ جمع بِكْر، والبِكْر سميت بِكْراً لأنها على خِلْقَتِها التي خلقها الله عليها لم تُفَضّ بعد. وقال: (ثيباتٍ وأبكاراً) ووَسَطَ بالواو للتفريق والتمييز، لأن الثيب لا تكون بِكراً، ثَيِّب وبكر في وقت واحد، لذا لزم أن يقول ثيبات وأبكاراً، أي من الصنفين: ثيبات وأبكار.
أيها الأخ المسلم؛ في السورة أحكام خطيرة، وإن كانت من أجل قصة حدثت إلا أنها تبين لنا أمور خطيرة؛ أيصح للعبد أن يُحَرِّم على نفسه حلالاً؟ أيصح للعبد أن يقول لامرأته: أنت عَلَيَّ حرام؟ وإن فعل فما الحكم؟
استخلص العلماء من سورة التحريم أحكام منها ما اتفقوا عليه ومنها اختلفوا فيه، أما ما اتفقوا عليه فهو أنه لا يجوز لإنسان أن يُحَرِّم ما أحل الله له، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام سواء بسواء، وأن من حَرَّمَ حلالاً لا يصير بتحريمه حرام وأنه يأثم بتحريم الحلال حتى لو حَرَّمَه على نفسه ولم يُلزِم به الناس ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [سورة يونس آية: ٥٩] ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [سورة المائدة آية: ٨٧] إذاً فقد نهى ربنا عن تحريم الحلال كما نهى عن تحليل الحرام. ولذا كان الفقهاء حريصين جداً على الإفتاء بالحرام وبالحلال وما لم يَرِد فيه نص صريح بالتحريم توقفوا عنده، وقالوا إن الأشياء كلها مباحة ما لم يَرِد نَصٌّ بالحظر، والأشياء على حِلِّها ما لم يَرِد نَصٌّ بالتحريم، وإذا خَلَتِ النصوص لجؤوا لسُنَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) الظاهرة المؤكدة.
وفي أول سورة التحريم يعاتب ربنا حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّم ما أحل الله لك﴾ عتاب، وإن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد حَرَّمَ على نفسه وحَرَّمَ ذلك سراً ولم يَبُح بهذا إلا لزوجة من أزواجه ولم يأمر الأمة بذلك فذاك شيء يختص بنفسه إلا أن الله (تبارك وتعالى) عاتبه على ذلك، من هنا كان تحريم الحلال حرام كما هو تحليل الحرام، ومن حَرَّمَ حلالاً أو حَلَّلَ حراماً فقد افترى على الله الكذب، ومن افترى على الله الكذب كان مأواه جهنم وبئس المصير، وكذلك من كَذَبَ على النبي (صلى الله عليه وسلم) متعمداً كان مأواه جهنم وبئس المصير لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (يا أيها الناس إن كذباً علي ليس ككذبٍ على أَحَد، من كَذَبَ عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) فإياك أن تفتي بغير علم، أو أن تجيب بغير علم، أو أن تُحَرِّم حلالاً أو أن تُحِلَّ حراماً. وهناك أمرٌ اختلف فيه العلماء وهو: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ عَلَيَّ حرام. وسِرُّ اختلافهم أنه ليس في كتاب الله نَصٌّ ولا في سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَصٌّ ظاهر صريح في هذا الشأن. اختلف العلماء فقالوا: إذا قال الرجل لزوجته: أنتِ عَلَيَّ حرام فليس عليه شيء لأنه قال كذباً وربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [سورة النحل آية: ١١٦] من هنا فإن قالها فليس عليه شيء. وقال بعضهم: بل هي يمين وعليه أن يكفرها بكفارة اليمين؛ إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وقالوا: إن الله أمر نبيه بتحليل اليمين: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فهي يمين، إن قال: أنتِ عَلَيَّ حرام، هي يمين يجب فيها الكفارة.
وقال بعضهم: هي ليست بيمين ولكن الكفارة واجبة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين حرّم على نفسه العسل أمر بالتكفير ولم يحلف. وقال آخرون: بل هو ظِهار؛ إذا قال لها: أنتِ عَلَيَّ حرام فقد ظاهر منها وعليه ألا يمسّها قبل كفارة الظهار، وكفارة الظهار صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة. وقال بعضهم: بل هي طلقة رجعية؛ أنتِ عَلَيَّ حرام، طُلِّقَت طلقة رجعية. وقال آخرون: بل هي طلقة بائنة ولا يتمكن من استرجاعها، فليس له أن يراجعها إلا بعَقدٍ جديد ومَهرٍ جديد. وقال بعضهم: بل هي ثلاث تطليقات وقد حَرُمَت عليه أبداً إلا أن تنكح زوجاً غيره. وقال بعضهم: العبرة بنيته؛ فإن نوى طلاقاً كان طلاقاً وإن نوى ظهاراً كان ظهاراً وإن لم ينوِ شيء يمينٌ يُكَفِّرُها. وقال بعضهم: إن قيلت الكلمة لزوجة لم يدخل بها طُلِّقَت طلقةً بائنة وإن كانت للمدخول بها طُلِّقَت ثلاثاً وحَرُمَت عليه. ولكلٍّ منهم حُجَّتَه، فالذين قالوا ليس عليه شيء قالوا: ذاك قولٌ باللسان، قولٌ لا يؤخِّر ولا يُقَدِّم ولا يُحَرِّم حلالاً كأن يقول الرجل: هذا الطعام عَلَيَّ حرام أو هذا الشراب عَلَيَّ حرام، لا يصير بتحريمه حراماً، فهو لغو من القول ولاشيء عليه، وليس هناك في كتاب الله نَصٌّ وليس في سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَصٌّ أو ظاهر صريح في هذه المسألة فنتوقف عندها ونقول ليس فيها شيء، إنما هو لغو من الكلام. أما الذين قالوا إنها يمين وعليه أن يكفرها قالوا: إن الله سماها يمين في كتابه حيث قال: (لِمَ تُحَرِّمُ ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزوجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فسماها يمين، ولو لم يحلف فهي يمين وعليه كفارة اليمين. والذين قالوا عليه كفارة وهي ليست بيمين قالوا: إن الله أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتحليل اليمين لأنه قد حلف، واختلفوا هل حلف النبي (صلى الله عليه وسلم) على تحريم العسل أو مارية.
في قول آخر بعضهم قالوا إنه حلف وأُمِرَ بتكفير اليمين وليس من أجل التحريم. وقال بعضهم: لم يحلف وإنما قال: هي عَلَيَّ حرام، أو لن أشرب العسل بعد ذلك، أو هو عَلَيَّ حرام ولم يحلف، فالكفارة كفارة القول، كفارة تحريم الحلال، ولم يحلف وليس هناك يمين واختلفوا، الذين قالوا إنه حلف اختلفوا هل كفّر عن يمينه؟ فقال بعضهم: نعم كفّر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن يمينه، وقال بعضهم: أبداً لم يُكَفِّر لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. والقول الأول أصح لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إني أحلف على الشيء فأجد الآخر خيراً منه فأُكَفِّر عن يميني وآتي الذي هو خير إن شاء الله" فإذاً قد كَفَّر عن يمينه وليس الأمر للأمة كما قالوا: لم يُكَفِّر فقد غُفِرَ له وإنما الأمر للأمة، (قد فرض الله لكم): للناس، أما له فقد غُفِرَ له. ويأتي قول القائلين إنها طلقة رجعية قالوا: طالما قال الرجل: أنتِ عَلَيَّ حرام إذاً فقد حَرَّمَ وطء امرأته على نفسه فأخذوا بأقل ظاهر اللفظ، متى تَحرُم؟ إذا طُلِّقَت، أقل درجة من درجات التحريم الطلقة الرجعية، فإنها تَحرُم عليه حتى يراجعها. والذين قالوا إنها طلقة بائنة قالوا: إن الطلاق الرجعي لا يُحَرِّم وطء المرأة لأن له أن يطأها بعد طلاقها بثانية فترجع بهذا الوطء، فإن جامعها رجعت إليه فلا تَحرُم بالطلاق الرجعي، من هنا إن قال: أنتِ عَلَيَّ حرام طُلِّقَت طلقة بائنة، بينونة صغرى، أي لا تحل له حتى يراجعها بمهرٍ جديد، بموافقتها، بصداقٍ جديد وعقدٍ جديد. ومن قالوا إنه ظهار أخذوا بأقل درجات التحريم، لأن المظاهِر من امرأته لا يرفع بالظهار النكاح، أي لا يبطل عقد الزواج فليس الظهار طلاق، وإنما يَحرُم عليه مجامعتها فقط، يَحرُم عليه أن يمسها قبل أن يُكَفِّر، فخذوا بأقل درجات التحريم وهو الظهار الذي لا يرفع النكاح.
ومن قال إن الطلاق ثلاثاً قالوا: لا تَحرُم إلا بثلاث تطليقات، فهو تطليق يُحَرِّم التحريم الأبدي الذي لا يجوز معه نكاح حتى تنكح زوجاً غيره. وهكذا اختلفوا وساقوا الحجج، منهم من رَخَّصَ أو سَهَّل أو يَسَّر، ومنهم من شَدَّدَ وعَنَّف، ومنهم من قال إن الأمر ليس بشيء وهذا قول مردود؛ طالما قال الرجل لامرأته: أنتِ عَلَيَّ حرام فقد حَرُمَت عليه، إما حَرُمَت بطلقة رجعية، وإما حَرُمَت بثلاث تطليقات، المهم أنه حَرَّمَ على نفسه حلالاً فعليه التوبة وقد ارتكب إثماً وعليه كفارة، ولابد أن ينظر أتحل له بعد ذلك أم لا، ذاك هو المعتَمَد في هذه المسألة. من هنا وجب على الرجل أن يراعي الله وأن يتقي الله فيما يقول وألا ينطق زوراً، فالكلام زور، وقد كان الناس في الجاهلية يُحَرِّمون نساءهم عليهم كتحريم الأمهات وربنا سمى ذلك زوراً وقال: (إنهم يقولون منكراً من القول وزوراً الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللاتي ولدنهم) وقد درج بعض الناس على تحريم أشياء كثيرة أو على الحلف بكلمة الحرام فيقول: عَلَيَّ الحرام من كذا من دينه، فإن قالها خرج من دين الإسلام! إن قالها من امرأته فقد طُلِّقَت. وإن كان البعض يقول العبرة بالنية، فإن كان يقصد بقوله عَلَيَّ الحرام من امرأته الطلاق طُلِّقَت باتفاق العلماء، الخلاف فيما إذا كانت طُلِّقَت طلقة أم طُلِّقَت ثلاث، فإن نوى بها ثلاثاً فقد وقع الطلاق ثلاثاً باتفاق، وإن نوى واحدة قال بعضهم: تقع واحدة، وقال الآخرون: بل تقع ثلاث ولو نوى واحدة، وإن نوى بها الظهار حدث الظهار وعليه كفارة الظهار، وقال بعضهم: حتى ولو نوى الظهار طُلِّقَت المرأة طلاقاً بائناً.
كل ذلك أمر خطير لا يعلمه الناس ويجب علينا أن نتنبه له، في الأسواق يحلفون بالحرام على السلعة والسلعة زائلة، وكل نعيم لا محالة زائل، يحلفون على أمور تافهة، ومنهم من يُحَرِّم على نفسه دِينَه إذاً فدِينُهُ عليه حرام، ودينه الإسلام، إذاً فقد خرج من الإسلام بهذه المقولة ويلزمه توبة، وهو في الحكم مرتد عن الإسلام تلزمه توبة العودة مرة أخرى إلى الإسلام فيدخل الإسلام من جديد. أمور غاية في الخطورة وتجري على ألسنة الناس هذه الكلمات دون وعي ودون تنبيه. أيها الأخ المسلم؛ اتق الله فيما تقول وربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(٧٠)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٧٠- ٧١] إذاً فمن قال القول السديد أصلح الله أعماله وأصلح حياته وأصلح أحواله وأصلح أبناءه وأصلح له كل شيء، أما من قال قولاً غير سديد فَسَدَت أحواله وتشتت أمره وضاعت منه السعادة. فسورة التحريم التي تبين لنا مثل هذه الأمور وإن لم تبينها صراحة إلا أنها أشارت إليها وأتاحت الفرصة لعلماء أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) كي يبينوا لنا النافع من الضار والحلال من الحرام ويوضحوا لنا الأحكام. أيها الأخ المسلم؛ الحلال ما أحله الله والحرام ما حَرَّمَه الله، وإياك أن تصف بلسانك الكذب فتقول هذا حلال وهذا حرام، وإن سئلتَ عن شيء لا تعلمه فإن من العلم أن تقول: لا أعلم.
وقد أمر ربنا نبيه (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال له: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [سورة ص آية: ٨٦] أي المتكلفين للكلام فأقول بغير علم، لذا نهى نبينا (صلى الله عليه وسلم) ونهى الصحابة عن التكلف في الإجابة، فإن سئلتَ عن شيء لا تعرفه فمن العلم أن تقول: لا أعلم، ومن قال لا أعلم فقد أفتى، واتقوا الله في قولكم، واتقوا الله في نسائكم فإنه بكلمة تَحرُم عليك امرأتك، وبكلمة وأنت لا تدري يصبح جماعك لها زنا، وإذا بك تعيش عمرك كله في سفاح وفي زنا، وتأتي بأولاد من سفاح ومن زنا لا يبارك الله فيهم ولا يكونون بارِّين بك أبداً، وإذا خُضتَ مخاضة ليس لك بها طاقة. أيها الأخ المسلم؛ اتق الله ولا تقل إلا قولاً سديداً.
فقد نزلت سورة التحريم تعالج قضايا وأحكاماً خاصة ببيت النبوة وبأزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) أمهات المؤمنين الطاهرات. وإن كانت نزلت من أجل ذلك إلا أن ذلك كله قد نزل في إطار توجيه المسلم وتصحيح البيت المسلم حتى تتحقق السعادة الزوجية، بَيَّنَت لنا أن إفشاء الزوجة لسر زوجها أمر عند الله عظيم، بَيَّنَت لنا أموراً وعاتبت نساء الأمة من خلال العتاب لأمهات المؤمنين، ووعظت أمهات المؤمنين وهددت وتوعدت: إن طلقكن يبدله الله خيراً منكن. وبعد توجيه الموعظة الخاصة لأمهات المؤمنين توجهت الموعظة إلى سائر الأمة، فعَمَّمَ ربنا (تبارك وتعالى) النصيحة والتوجيه فقال:
الأمر الثاني: هل هناك نساء خير من أمهات المؤمنين؟ أبداً والله! وربنا يقول: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٣٢] ولكن الآية من قبيل الوعيد والبيان لقدرة الله، إن شاء فعل، كقول الله (تبارك وتعالى) للمؤمنين حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للإنفاق: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [سورة محمد آية: ٣٨] ربنا (تبارك وتعالى) حين خلق أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) جعلهم له وزراء وأنصار، ولن يوجد في الوجود من هو خير من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث هو القائل: "خير القرون قرني" "أصحابي أصحابي لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما ملأ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه" إذا ً فحين يقول: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ ليس معنى ذلك أن هناك من هو خير منهم لكن الله يحدثنا عن قدرته، فإن كان قد خلق الأصحاب بهذا المقام فهو قادر على أن يخلق من هو خير منهم، وإن كانت نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا المقام من الرفعة؛ أمهات المؤمنين، زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا والآخرة، إن كُنَّ كذلك لكن الله قادر على أن يأتي بخير منهن، فالآية على سبيل التهديد، أيضاً لبيان قدرة الله، وليس هناك من هن خير من نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد كُنَّ كما وصف فيما يأتي بهن: ﴿أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ كُنَّ أمهات المؤمنين مسلمات، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ كُنَّ كذلك، ﴿قَانِتَاتٍ﴾ كُنَّ كذلك، ﴿تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ كُنَّ كذلك، هُنَّ خير النساء على الأرض، بل فيهن سيدة نساء العالمين على وجه الإطلاق –خديجة- وإن كان الخطاب لا يشملها فقد كانت في رفقة الأنبياء والصديقين، كانت قد لحقت بالرفيق الأعلى والخطاب لا يشملها، لكنها من أمهات المؤمنين. من هنا يهدد ربنا ويتوعد ويقول: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ وقد عَلِمَ أنه لن يطلقهن، ﴿أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ مستسلمات لأمر الله، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ مصدقات بأمره ونهيه، ﴿قَانِتَاتٍ﴾ لازمات للطاعة مع الخضوع، ﴿تَائِبَاتٍ﴾ عن ذنوبهن، أو تائبات: عائدات إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمحبة والمودة والإرضاء، ﴿عَابِدَاتٍ﴾ يواظبن على العبادة ليلاً ونهاراً حتى تصبح العبادة وكأنها سجية لهن، ﴿سَائِحَاتٍ﴾ صائمات، من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "سياحة أمتى الصيام" وسمي الصائم سائحاً لأنه بالنهار بغير زاد، والسائح: المهاجر في الأرض، سائحات: مهاجرات، معنى آخر. سائحات: صائمات، سائحات: مهاجرات، ذاهبات في طاعة الله؛ من: ساح الماء إذا ذهب، وكأنهن في طاعة الله لا يدرين بشيء وكل وقتهن وكل ذكرهن لله، فهن سائحات ذاهبات في طاعة الله كل مذهب. ﴿ثَيِّبَاتٍ﴾ الثَّيِّب: المرأة التي طُلِّقَت أو مات زوجها، وسميت ثيباً لأنها ثابت إلى بيت أبويها، ثاب يثوب ثَوْباً: عاد ورجع، فالثيب حين يموت زوجها أو يطلقها تعود إلى بيت أبويها، من أجل ذلك سميت ثيباً. ﴿وَأَبْكَارًا﴾ جمع بِكْر، والبِكْر سميت بِكْراً لأنها على خِلْقَتِها التي خلقها الله عليها لم تُفَضّ بعد. وقال: (ثيباتٍ وأبكاراً) ووَسَطَ بالواو للتفريق والتمييز، لأن الثيب لا تكون بِكراً، ثَيِّب وبكر في وقت واحد، لذا لزم أن يقول ثيبات وأبكاراً، أي من الصنفين: ثيبات وأبكار.
أيها الأخ المسلم؛ في السورة أحكام خطيرة، وإن كانت من أجل قصة حدثت إلا أنها تبين لنا أمور خطيرة؛ أيصح للعبد أن يُحَرِّم على نفسه حلالاً؟ أيصح للعبد أن يقول لامرأته: أنت عَلَيَّ حرام؟ وإن فعل فما الحكم؟
استخلص العلماء من سورة التحريم أحكام منها ما اتفقوا عليه ومنها اختلفوا فيه، أما ما اتفقوا عليه فهو أنه لا يجوز لإنسان أن يُحَرِّم ما أحل الله له، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام سواء بسواء، وأن من حَرَّمَ حلالاً لا يصير بتحريمه حرام وأنه يأثم بتحريم الحلال حتى لو حَرَّمَه على نفسه ولم يُلزِم به الناس ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [سورة يونس آية: ٥٩] ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [سورة المائدة آية: ٨٧] إذاً فقد نهى ربنا عن تحريم الحلال كما نهى عن تحليل الحرام. ولذا كان الفقهاء حريصين جداً على الإفتاء بالحرام وبالحلال وما لم يَرِد فيه نص صريح بالتحريم توقفوا عنده، وقالوا إن الأشياء كلها مباحة ما لم يَرِد نَصٌّ بالحظر، والأشياء على حِلِّها ما لم يَرِد نَصٌّ بالتحريم، وإذا خَلَتِ النصوص لجؤوا لسُنَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) الظاهرة المؤكدة.
وفي أول سورة التحريم يعاتب ربنا حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّم ما أحل الله لك﴾ عتاب، وإن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد حَرَّمَ على نفسه وحَرَّمَ ذلك سراً ولم يَبُح بهذا إلا لزوجة من أزواجه ولم يأمر الأمة بذلك فذاك شيء يختص بنفسه إلا أن الله (تبارك وتعالى) عاتبه على ذلك، من هنا كان تحريم الحلال حرام كما هو تحليل الحرام، ومن حَرَّمَ حلالاً أو حَلَّلَ حراماً فقد افترى على الله الكذب، ومن افترى على الله الكذب كان مأواه جهنم وبئس المصير، وكذلك من كَذَبَ على النبي (صلى الله عليه وسلم) متعمداً كان مأواه جهنم وبئس المصير لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (يا أيها الناس إن كذباً علي ليس ككذبٍ على أَحَد، من كَذَبَ عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) فإياك أن تفتي بغير علم، أو أن تجيب بغير علم، أو أن تُحَرِّم حلالاً أو أن تُحِلَّ حراماً. وهناك أمرٌ اختلف فيه العلماء وهو: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ عَلَيَّ حرام. وسِرُّ اختلافهم أنه ليس في كتاب الله نَصٌّ ولا في سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَصٌّ ظاهر صريح في هذا الشأن. اختلف العلماء فقالوا: إذا قال الرجل لزوجته: أنتِ عَلَيَّ حرام فليس عليه شيء لأنه قال كذباً وربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [سورة النحل آية: ١١٦] من هنا فإن قالها فليس عليه شيء. وقال بعضهم: بل هي يمين وعليه أن يكفرها بكفارة اليمين؛ إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وقالوا: إن الله أمر نبيه بتحليل اليمين: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فهي يمين، إن قال: أنتِ عَلَيَّ حرام، هي يمين يجب فيها الكفارة.
وقال بعضهم: هي ليست بيمين ولكن الكفارة واجبة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين حرّم على نفسه العسل أمر بالتكفير ولم يحلف. وقال آخرون: بل هو ظِهار؛ إذا قال لها: أنتِ عَلَيَّ حرام فقد ظاهر منها وعليه ألا يمسّها قبل كفارة الظهار، وكفارة الظهار صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة. وقال بعضهم: بل هي طلقة رجعية؛ أنتِ عَلَيَّ حرام، طُلِّقَت طلقة رجعية. وقال آخرون: بل هي طلقة بائنة ولا يتمكن من استرجاعها، فليس له أن يراجعها إلا بعَقدٍ جديد ومَهرٍ جديد. وقال بعضهم: بل هي ثلاث تطليقات وقد حَرُمَت عليه أبداً إلا أن تنكح زوجاً غيره. وقال بعضهم: العبرة بنيته؛ فإن نوى طلاقاً كان طلاقاً وإن نوى ظهاراً كان ظهاراً وإن لم ينوِ شيء يمينٌ يُكَفِّرُها. وقال بعضهم: إن قيلت الكلمة لزوجة لم يدخل بها طُلِّقَت طلقةً بائنة وإن كانت للمدخول بها طُلِّقَت ثلاثاً وحَرُمَت عليه. ولكلٍّ منهم حُجَّتَه، فالذين قالوا ليس عليه شيء قالوا: ذاك قولٌ باللسان، قولٌ لا يؤخِّر ولا يُقَدِّم ولا يُحَرِّم حلالاً كأن يقول الرجل: هذا الطعام عَلَيَّ حرام أو هذا الشراب عَلَيَّ حرام، لا يصير بتحريمه حراماً، فهو لغو من القول ولاشيء عليه، وليس هناك في كتاب الله نَصٌّ وليس في سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَصٌّ أو ظاهر صريح في هذه المسألة فنتوقف عندها ونقول ليس فيها شيء، إنما هو لغو من الكلام. أما الذين قالوا إنها يمين وعليه أن يكفرها قالوا: إن الله سماها يمين في كتابه حيث قال: (لِمَ تُحَرِّمُ ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزوجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فسماها يمين، ولو لم يحلف فهي يمين وعليه كفارة اليمين. والذين قالوا عليه كفارة وهي ليست بيمين قالوا: إن الله أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتحليل اليمين لأنه قد حلف، واختلفوا هل حلف النبي (صلى الله عليه وسلم) على تحريم العسل أو مارية.
في قول آخر بعضهم قالوا إنه حلف وأُمِرَ بتكفير اليمين وليس من أجل التحريم. وقال بعضهم: لم يحلف وإنما قال: هي عَلَيَّ حرام، أو لن أشرب العسل بعد ذلك، أو هو عَلَيَّ حرام ولم يحلف، فالكفارة كفارة القول، كفارة تحريم الحلال، ولم يحلف وليس هناك يمين واختلفوا، الذين قالوا إنه حلف اختلفوا هل كفّر عن يمينه؟ فقال بعضهم: نعم كفّر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن يمينه، وقال بعضهم: أبداً لم يُكَفِّر لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. والقول الأول أصح لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إني أحلف على الشيء فأجد الآخر خيراً منه فأُكَفِّر عن يميني وآتي الذي هو خير إن شاء الله" فإذاً قد كَفَّر عن يمينه وليس الأمر للأمة كما قالوا: لم يُكَفِّر فقد غُفِرَ له وإنما الأمر للأمة، (قد فرض الله لكم): للناس، أما له فقد غُفِرَ له. ويأتي قول القائلين إنها طلقة رجعية قالوا: طالما قال الرجل: أنتِ عَلَيَّ حرام إذاً فقد حَرَّمَ وطء امرأته على نفسه فأخذوا بأقل ظاهر اللفظ، متى تَحرُم؟ إذا طُلِّقَت، أقل درجة من درجات التحريم الطلقة الرجعية، فإنها تَحرُم عليه حتى يراجعها. والذين قالوا إنها طلقة بائنة قالوا: إن الطلاق الرجعي لا يُحَرِّم وطء المرأة لأن له أن يطأها بعد طلاقها بثانية فترجع بهذا الوطء، فإن جامعها رجعت إليه فلا تَحرُم بالطلاق الرجعي، من هنا إن قال: أنتِ عَلَيَّ حرام طُلِّقَت طلقة بائنة، بينونة صغرى، أي لا تحل له حتى يراجعها بمهرٍ جديد، بموافقتها، بصداقٍ جديد وعقدٍ جديد. ومن قالوا إنه ظهار أخذوا بأقل درجات التحريم، لأن المظاهِر من امرأته لا يرفع بالظهار النكاح، أي لا يبطل عقد الزواج فليس الظهار طلاق، وإنما يَحرُم عليه مجامعتها فقط، يَحرُم عليه أن يمسها قبل أن يُكَفِّر، فخذوا بأقل درجات التحريم وهو الظهار الذي لا يرفع النكاح.
ومن قال إن الطلاق ثلاثاً قالوا: لا تَحرُم إلا بثلاث تطليقات، فهو تطليق يُحَرِّم التحريم الأبدي الذي لا يجوز معه نكاح حتى تنكح زوجاً غيره. وهكذا اختلفوا وساقوا الحجج، منهم من رَخَّصَ أو سَهَّل أو يَسَّر، ومنهم من شَدَّدَ وعَنَّف، ومنهم من قال إن الأمر ليس بشيء وهذا قول مردود؛ طالما قال الرجل لامرأته: أنتِ عَلَيَّ حرام فقد حَرُمَت عليه، إما حَرُمَت بطلقة رجعية، وإما حَرُمَت بثلاث تطليقات، المهم أنه حَرَّمَ على نفسه حلالاً فعليه التوبة وقد ارتكب إثماً وعليه كفارة، ولابد أن ينظر أتحل له بعد ذلك أم لا، ذاك هو المعتَمَد في هذه المسألة. من هنا وجب على الرجل أن يراعي الله وأن يتقي الله فيما يقول وألا ينطق زوراً، فالكلام زور، وقد كان الناس في الجاهلية يُحَرِّمون نساءهم عليهم كتحريم الأمهات وربنا سمى ذلك زوراً وقال: (إنهم يقولون منكراً من القول وزوراً الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللاتي ولدنهم) وقد درج بعض الناس على تحريم أشياء كثيرة أو على الحلف بكلمة الحرام فيقول: عَلَيَّ الحرام من كذا من دينه، فإن قالها خرج من دين الإسلام! إن قالها من امرأته فقد طُلِّقَت. وإن كان البعض يقول العبرة بالنية، فإن كان يقصد بقوله عَلَيَّ الحرام من امرأته الطلاق طُلِّقَت باتفاق العلماء، الخلاف فيما إذا كانت طُلِّقَت طلقة أم طُلِّقَت ثلاث، فإن نوى بها ثلاثاً فقد وقع الطلاق ثلاثاً باتفاق، وإن نوى واحدة قال بعضهم: تقع واحدة، وقال الآخرون: بل تقع ثلاث ولو نوى واحدة، وإن نوى بها الظهار حدث الظهار وعليه كفارة الظهار، وقال بعضهم: حتى ولو نوى الظهار طُلِّقَت المرأة طلاقاً بائناً.
كل ذلك أمر خطير لا يعلمه الناس ويجب علينا أن نتنبه له، في الأسواق يحلفون بالحرام على السلعة والسلعة زائلة، وكل نعيم لا محالة زائل، يحلفون على أمور تافهة، ومنهم من يُحَرِّم على نفسه دِينَه إذاً فدِينُهُ عليه حرام، ودينه الإسلام، إذاً فقد خرج من الإسلام بهذه المقولة ويلزمه توبة، وهو في الحكم مرتد عن الإسلام تلزمه توبة العودة مرة أخرى إلى الإسلام فيدخل الإسلام من جديد. أمور غاية في الخطورة وتجري على ألسنة الناس هذه الكلمات دون وعي ودون تنبيه. أيها الأخ المسلم؛ اتق الله فيما تقول وربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(٧٠)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة الأحزاب آية: ٧٠- ٧١] إذاً فمن قال القول السديد أصلح الله أعماله وأصلح حياته وأصلح أحواله وأصلح أبناءه وأصلح له كل شيء، أما من قال قولاً غير سديد فَسَدَت أحواله وتشتت أمره وضاعت منه السعادة. فسورة التحريم التي تبين لنا مثل هذه الأمور وإن لم تبينها صراحة إلا أنها أشارت إليها وأتاحت الفرصة لعلماء أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) كي يبينوا لنا النافع من الضار والحلال من الحرام ويوضحوا لنا الأحكام. أيها الأخ المسلم؛ الحلال ما أحله الله والحرام ما حَرَّمَه الله، وإياك أن تصف بلسانك الكذب فتقول هذا حلال وهذا حرام، وإن سئلتَ عن شيء لا تعلمه فإن من العلم أن تقول: لا أعلم.
وقد أمر ربنا نبيه (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال له: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [سورة ص آية: ٨٦] أي المتكلفين للكلام فأقول بغير علم، لذا نهى نبينا (صلى الله عليه وسلم) ونهى الصحابة عن التكلف في الإجابة، فإن سئلتَ عن شيء لا تعرفه فمن العلم أن تقول: لا أعلم، ومن قال لا أعلم فقد أفتى، واتقوا الله في قولكم، واتقوا الله في نسائكم فإنه بكلمة تَحرُم عليك امرأتك، وبكلمة وأنت لا تدري يصبح جماعك لها زنا، وإذا بك تعيش عمرك كله في سفاح وفي زنا، وتأتي بأولاد من سفاح ومن زنا لا يبارك الله فيهم ولا يكونون بارِّين بك أبداً، وإذا خُضتَ مخاضة ليس لك بها طاقة. أيها الأخ المسلم؛ اتق الله ولا تقل إلا قولاً سديداً.
فقد نزلت سورة التحريم تعالج قضايا وأحكاماً خاصة ببيت النبوة وبأزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) أمهات المؤمنين الطاهرات. وإن كانت نزلت من أجل ذلك إلا أن ذلك كله قد نزل في إطار توجيه المسلم وتصحيح البيت المسلم حتى تتحقق السعادة الزوجية، بَيَّنَت لنا أن إفشاء الزوجة لسر زوجها أمر عند الله عظيم، بَيَّنَت لنا أموراً وعاتبت نساء الأمة من خلال العتاب لأمهات المؤمنين، ووعظت أمهات المؤمنين وهددت وتوعدت: إن طلقكن يبدله الله خيراً منكن. وبعد توجيه الموعظة الخاصة لأمهات المؤمنين توجهت الموعظة إلى سائر الأمة، فعَمَّمَ ربنا (تبارك وتعالى) النصيحة والتوجيه فقال:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًۭا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌۭ شِدَادٌۭ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴿6﴾
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فِعل أمر، من وَقَى يقي: حَمَى يحمي. ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ الأهل: الزوجة فقط، والأولاد دخلوا في كلمة (قوا أنفسكم) فأنت وابنك شيء واحد، فالولد بِضعة من أبيه وجزء من أبيه، واستدلوا بقول الله (تبارك وتعالى): ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [سورة النور آية: ٦١] إلى آخر الآية، و (أنفسكم) هنا تعني أنتم وأولادكم. وقال بعضهم: بل الأهل: الزوجة والولد وكل ما لحق بكلمة (أهل)، يدخل فيه الزوجة والأبناء والبنات. حين نزلت الآية سأل عمرُ بن الخطاب رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف بأهلينا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمركم به الله". واختلف العلماء عن مسئولية الزوج عن زوجته وأبنائه؛ فمِن قائل: قوا أنفسكم بالطاعة والبعد عن المعصية والعمل بما جاء في كتاب الله وأما أهليكم فقالوا: قوا أنفسكم وأهليكم: يقوا أنفسهم كذلك، فهو غير مسئول عن أهله، وذاك قول ضعيف مردود بالأحاديث وبالآيات. وقال الآخرون: (قوا أنفسكم) بالطاعة، (وأهليكم) بالنصح، بالأمر والنهي، بالتعليم. وقال بعضهم: بل المفروض على الرجل أن يقي نفسه بفعله وكذلك يقي أهله بفعله وليس بالأمر والنهي والنصيحة فقط، وقالوا على الرجل قبل أن يتزوج أن يختار الزوجة (اظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك)، وحق الولد على الوالد أن يختار له الرحم التي يُخلَق فيها، وحذّر النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: "إياكم وخضراء الدِّمَن" قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء."
وقال: "تَخَيَّروا لنُطَفِكُم فإن العِرقَ دَسَّاس" إذاً فكي تقِ أهلك النار أولاً تتخير الصالحة الحافظة لعِرضِك ومالك، الأمر الثاني أن الله (تبارك وتعالى) يأمر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ويقول له: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [سورة طه آية: ١٣٢] إذا ً فقد أُمِرَ الرجل أن يأمر أهله بالصلاة، ليس نصيحة ولكن أمر، وقال في محكم كتابه مثنياً على إسماعيل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا(٥٤)وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا(٥٥)﴾ [سورة مريم آية: ٥٤- ٥٥] ورُوِيَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا قام من بعض الليل وصلى وأوتر أيقظ عائشة وقال: "قومي يا عائشة فأوتري"، وقد ورد في صحيح مسلم ذاك الحديث: "قومي يا عائشة فأوتري". وورد عنه أنه كان يقول: "أيقظوا صواحب الحُجَر، رُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ورب عارية في الدنيا كاسية يوم القيامة" فكان يوقظ نساءه بالليل للصلاة. وقالوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "مُرُوا أبناءكم، عَلِّمُوا أبناءكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعَشْر وفَرِّقُوا بينهم في المضاجع" إذاً فكيف تقي أهلك النار؟ بأن تأمر ابنك وتُعَلِّمه الحلال والحرام من صغره، فتُعَلِّمَه الصلاة في سن سبع سنوات فإذا بلغ عشر سنوات ولم يصلِّ كان عليك بالضرب رغم أنه لم يصبح مُكَلَّف بعد، فالتكليف بالبلوغ ولكنك تضربه على الصلاة في سن العشر حتى يتعود عليها، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم.
والرعاية معناها: إذا كنتَ راعٍ على أحد فأنت مسئول، والمسئولية تتحدد يوم القيامة فيؤتى بالرجل ويُسأَل عن أبنائه، فالأبناء أمانة وكل راعٍ مسئول عن رعيته. ومعنى (مسئول) أنه يُسأَل ويُوقَف يوم القيامة فيُسأَل كيف فعل في أحوال الرعية، إذاً فمعنى قول الله تبارك وتعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) أن الأمر للقوّام ألا وهو الرجل (الرجال قوامون على النساء)، فأنت مسئول عن امرأتك، مسئول عن أبنائك؛ تُعَلِّمهم وتُفَهِّمهم وتنصحهم وتُبَيِّن لهم وتكون قدوة لهم بفعلك لا بالقول فقط، فإن فعلتَ ذلك أديتَ ما عليك، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما نَحَلَ -أي أعطي ووهب- ما نَحَلَ والدٌ ولداً أفضل من أدبٍ حَسَن" فأنت تسعى وتَكِدُّ وتجري في هذه الدنيا تُحَصِّل المال وتجمع المال وتهيئ لأبنائك الحياة السعيدة الرغدة في نظرك فتجمع لهم المال وتَهَب، وإن مِتَّ تركتَ لهم ميراثاً وهكذا، ذاك ليس بأفضل الأشياء! وإنما أفضل الأشياء أن تُوَرِّثَهم الخُلُق والدِّين، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إذ مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له" ولم يقل: ولد غني، وإنما قال: ولد صالح، من أين يرث الولد الصلاح؟ من أبيه، من هنا كانت دعوة الولد لأبيه مستجابة لأن الولد من صُنْعِ أبيه، من عَمَلِه، لا ينقطع عمله هذا لأنه هو الذي رباه وعَلَّمَه وفَهَّمَه وبَيَّنَ له الأحكام ووَضَّحَ له الحلال والحرام. أيها الأخ المسلم؛ أنت مسئول وستقف بين يدي الله يسألك عن امرأتك وعن ابنك وابنتك، أين أنت؟ أديتَ ما عليك؟ سعدتَ دنيا وأخرى، وإلا لم تؤدِّ ما عليك شقيتَ دنيا وأخرى. فإذا لم تُرَبِّ أبناءك على الدين لم يعرفوا البر بالوالدين، لم يتبينوا الحلال من الحرام، شَبُّوا عُصَاة، وإن كانوا عُصَاة لله فهم لك أعصى وعليك أشد، أما إن كانوا طائعين لله عرفوا مقامك وعرفوا الواجب نحوك فكانوا بك بارِّين وعليك مشفقين.
وكذلك امرأتك اخترتَها، أحسنتَ اختيارها وأوصيتَها وأَمَرتَها كانت لك زوجة صالحة ترعاك، إن غِبتَ حَفِظَتْك، تحفظ مالك، تربي أبنائك وبناتك، لا تكذب عليك، لا تفشي سرك، نلتَ سعادة الدنيا ثم نلتَ بعد ذلك سعادة الآخرة بدعاء أبنائك وبصلاح أولادك وبرفقة زوجتك وأبنائك وبناتك لك في الجنة، ورفع الأعلى منكم الأدنى، فقد يرفع الوالدُ ابنَه إلى منزلته العليا، وقد يرفع الابنُ أباه إلى منزلته العليا. ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ و (نار) نكرة، والنكرة هنا تدل على الشدة والفظاعة التي لا يُعرَف مداها، وقود هذه النار الناس والحجارة. وتخيل إذا كان الإنسان هو وقود النار كيف يكون؟ والوقود أشد لهيباً من النار الناتجة عنه، فأنتَ إذا أوقدتَ ناراً بخشب فدرجة حرارة الخشب أقوى من درجة حرارة اللهب، هو الوقود فكيف يكون الحال؟ ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ أرأيتم حجارة تُوقَد؟ هل حاولتَ مرة أن توقد النار في حجر؟ حاول مرة، أيُّ حجر، حاول أن توقد فيه النار هل يوقَد؟ هل يصلح الحجر أن يكون وقوداً للنار كالخشب أو الفحم أو القماش أو الورق؟ هل يصلح؟ أبداً! فكيف يوقَد هذا الحجر في جهنم؟ لابد أن درجة حرارة هذه النار تجعل الحجر كالفحم، شيء مذهل! شيء فوق التصور! هذه النار التي يحذرنا الله منها توقَد بالناس وبالحجارة. ليس ذلك فقط، بل عليها زبانية، وإن كان الله قد سماهم ملائكة: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ﴾ لكنه حين وصفهم قال: ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ غلاظ الخَلْق شداد الجسم، غِلَاظ الأقوال شداد الأفعال، غلاظ في أخذهم لأهل النار شداد في دفعهم إلى قعرها، حتى أنه رُوِيَ أنه مابين مَنْكَبَي المَلَك مسيرة سنة، وقال بعضهم: أبداً، بين منكبي الملك ما بين المشرق والمغرب.
(عليها تسعة عشر) تُجَرُّ جهنم يوم القيامة بالسلاسل: (وجيء يومئذٍ بجهنم) تُجَرُّ بالسلاسل وكأنها تَعقِل وتمشي، يجرها الزبانية بالسلاسل فتكاد أن تُفلِتَ منهم لأنها اشتد نارها وتغيظها ورأت الناس وعرفتهم، أهلها، وجاعت وأصابتها المخصمة فأرادت أن تلتهمهم، فتتَفَلَّت وأوشكت أن تَفلِت كما يخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول: "والله لو تَفَلَّتَتْ منهم لأحرقت أهل الموقف جميعاً" تلك جهنم؛ عليها ملائكة غلاظ شداد يعذبون الناس. قال العلماء: أتعرفون من أي شيءٍ خُلِقَت هذه الملائكة؟ ملائكة الرحمة وملائكة الجنة، الملائكة عموماً خُلِقَوا من النور وكلنا يعلم ذلك، ملائكة جهنم خُلِقُوا من الغضب، فتخيل إذا خلق الله من غضبه شيئاً كيف يكون؟!! لذتهم تعذيب الناس، لذتهم بتعذيب أهل جهنم كلذة الإنسان للطعام والشراب والجماع. بل قالوا لذتهم بتعذيب أهل النار كلذة أهل الجنة بالجنة، خُلِقُوا من أجل ذلك. ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ لا يعصون الله ما أمرهم فيأتون بالأمر دون نقص أو زيادة. ويفعلون ما يؤمرون فيأتون بالأمر في وقته دون تقديم ودون تأخير. إذاً فأوامر الله لهم نافذة مُنَفَّذة على وجه الدقة طبقاً للأمر دون خلل، دون نقص، دون زيادة، دون تقديم ودون تأخير. هؤلاء ملائكة جهنم؛ غلاظ شداد، والخطاب لك أنتَ ولنا جميعاً، الخطاب للمؤمنين، ليس للكفار، بل الخطاب للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً).
ثم يتوجه الخطاب للكفار، والخطاب للكفار ليس الآن بل الخطاب لهم في يوم القيامة حين تُفتَح لهم أبواب جهنم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، ينادون ويستصرخون ويستغيثون، وحين يتملكهم اليأس يقولون لمالك -خازن جهنم وزعيم الزبانية- (يا مالك لِيَقْضِ علينا ربُّك قال إنكم ماكثون) يقال لهم حين يروا جهنم وحين يحاولون الاعتذار والاستعتاب إذ لا يُستَعتَبون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، يقال لهم حينئذٍ:
وقال: "تَخَيَّروا لنُطَفِكُم فإن العِرقَ دَسَّاس" إذاً فكي تقِ أهلك النار أولاً تتخير الصالحة الحافظة لعِرضِك ومالك، الأمر الثاني أن الله (تبارك وتعالى) يأمر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ويقول له: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [سورة طه آية: ١٣٢] إذا ً فقد أُمِرَ الرجل أن يأمر أهله بالصلاة، ليس نصيحة ولكن أمر، وقال في محكم كتابه مثنياً على إسماعيل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا(٥٤)وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا(٥٥)﴾ [سورة مريم آية: ٥٤- ٥٥] ورُوِيَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا قام من بعض الليل وصلى وأوتر أيقظ عائشة وقال: "قومي يا عائشة فأوتري"، وقد ورد في صحيح مسلم ذاك الحديث: "قومي يا عائشة فأوتري". وورد عنه أنه كان يقول: "أيقظوا صواحب الحُجَر، رُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ورب عارية في الدنيا كاسية يوم القيامة" فكان يوقظ نساءه بالليل للصلاة. وقالوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "مُرُوا أبناءكم، عَلِّمُوا أبناءكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعَشْر وفَرِّقُوا بينهم في المضاجع" إذاً فكيف تقي أهلك النار؟ بأن تأمر ابنك وتُعَلِّمه الحلال والحرام من صغره، فتُعَلِّمَه الصلاة في سن سبع سنوات فإذا بلغ عشر سنوات ولم يصلِّ كان عليك بالضرب رغم أنه لم يصبح مُكَلَّف بعد، فالتكليف بالبلوغ ولكنك تضربه على الصلاة في سن العشر حتى يتعود عليها، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم.
والرعاية معناها: إذا كنتَ راعٍ على أحد فأنت مسئول، والمسئولية تتحدد يوم القيامة فيؤتى بالرجل ويُسأَل عن أبنائه، فالأبناء أمانة وكل راعٍ مسئول عن رعيته. ومعنى (مسئول) أنه يُسأَل ويُوقَف يوم القيامة فيُسأَل كيف فعل في أحوال الرعية، إذاً فمعنى قول الله تبارك وتعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) أن الأمر للقوّام ألا وهو الرجل (الرجال قوامون على النساء)، فأنت مسئول عن امرأتك، مسئول عن أبنائك؛ تُعَلِّمهم وتُفَهِّمهم وتنصحهم وتُبَيِّن لهم وتكون قدوة لهم بفعلك لا بالقول فقط، فإن فعلتَ ذلك أديتَ ما عليك، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما نَحَلَ -أي أعطي ووهب- ما نَحَلَ والدٌ ولداً أفضل من أدبٍ حَسَن" فأنت تسعى وتَكِدُّ وتجري في هذه الدنيا تُحَصِّل المال وتجمع المال وتهيئ لأبنائك الحياة السعيدة الرغدة في نظرك فتجمع لهم المال وتَهَب، وإن مِتَّ تركتَ لهم ميراثاً وهكذا، ذاك ليس بأفضل الأشياء! وإنما أفضل الأشياء أن تُوَرِّثَهم الخُلُق والدِّين، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إذ مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له" ولم يقل: ولد غني، وإنما قال: ولد صالح، من أين يرث الولد الصلاح؟ من أبيه، من هنا كانت دعوة الولد لأبيه مستجابة لأن الولد من صُنْعِ أبيه، من عَمَلِه، لا ينقطع عمله هذا لأنه هو الذي رباه وعَلَّمَه وفَهَّمَه وبَيَّنَ له الأحكام ووَضَّحَ له الحلال والحرام. أيها الأخ المسلم؛ أنت مسئول وستقف بين يدي الله يسألك عن امرأتك وعن ابنك وابنتك، أين أنت؟ أديتَ ما عليك؟ سعدتَ دنيا وأخرى، وإلا لم تؤدِّ ما عليك شقيتَ دنيا وأخرى. فإذا لم تُرَبِّ أبناءك على الدين لم يعرفوا البر بالوالدين، لم يتبينوا الحلال من الحرام، شَبُّوا عُصَاة، وإن كانوا عُصَاة لله فهم لك أعصى وعليك أشد، أما إن كانوا طائعين لله عرفوا مقامك وعرفوا الواجب نحوك فكانوا بك بارِّين وعليك مشفقين.
وكذلك امرأتك اخترتَها، أحسنتَ اختيارها وأوصيتَها وأَمَرتَها كانت لك زوجة صالحة ترعاك، إن غِبتَ حَفِظَتْك، تحفظ مالك، تربي أبنائك وبناتك، لا تكذب عليك، لا تفشي سرك، نلتَ سعادة الدنيا ثم نلتَ بعد ذلك سعادة الآخرة بدعاء أبنائك وبصلاح أولادك وبرفقة زوجتك وأبنائك وبناتك لك في الجنة، ورفع الأعلى منكم الأدنى، فقد يرفع الوالدُ ابنَه إلى منزلته العليا، وقد يرفع الابنُ أباه إلى منزلته العليا. ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ و (نار) نكرة، والنكرة هنا تدل على الشدة والفظاعة التي لا يُعرَف مداها، وقود هذه النار الناس والحجارة. وتخيل إذا كان الإنسان هو وقود النار كيف يكون؟ والوقود أشد لهيباً من النار الناتجة عنه، فأنتَ إذا أوقدتَ ناراً بخشب فدرجة حرارة الخشب أقوى من درجة حرارة اللهب، هو الوقود فكيف يكون الحال؟ ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ أرأيتم حجارة تُوقَد؟ هل حاولتَ مرة أن توقد النار في حجر؟ حاول مرة، أيُّ حجر، حاول أن توقد فيه النار هل يوقَد؟ هل يصلح الحجر أن يكون وقوداً للنار كالخشب أو الفحم أو القماش أو الورق؟ هل يصلح؟ أبداً! فكيف يوقَد هذا الحجر في جهنم؟ لابد أن درجة حرارة هذه النار تجعل الحجر كالفحم، شيء مذهل! شيء فوق التصور! هذه النار التي يحذرنا الله منها توقَد بالناس وبالحجارة. ليس ذلك فقط، بل عليها زبانية، وإن كان الله قد سماهم ملائكة: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ﴾ لكنه حين وصفهم قال: ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ غلاظ الخَلْق شداد الجسم، غِلَاظ الأقوال شداد الأفعال، غلاظ في أخذهم لأهل النار شداد في دفعهم إلى قعرها، حتى أنه رُوِيَ أنه مابين مَنْكَبَي المَلَك مسيرة سنة، وقال بعضهم: أبداً، بين منكبي الملك ما بين المشرق والمغرب.
(عليها تسعة عشر) تُجَرُّ جهنم يوم القيامة بالسلاسل: (وجيء يومئذٍ بجهنم) تُجَرُّ بالسلاسل وكأنها تَعقِل وتمشي، يجرها الزبانية بالسلاسل فتكاد أن تُفلِتَ منهم لأنها اشتد نارها وتغيظها ورأت الناس وعرفتهم، أهلها، وجاعت وأصابتها المخصمة فأرادت أن تلتهمهم، فتتَفَلَّت وأوشكت أن تَفلِت كما يخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول: "والله لو تَفَلَّتَتْ منهم لأحرقت أهل الموقف جميعاً" تلك جهنم؛ عليها ملائكة غلاظ شداد يعذبون الناس. قال العلماء: أتعرفون من أي شيءٍ خُلِقَت هذه الملائكة؟ ملائكة الرحمة وملائكة الجنة، الملائكة عموماً خُلِقَوا من النور وكلنا يعلم ذلك، ملائكة جهنم خُلِقُوا من الغضب، فتخيل إذا خلق الله من غضبه شيئاً كيف يكون؟!! لذتهم تعذيب الناس، لذتهم بتعذيب أهل جهنم كلذة الإنسان للطعام والشراب والجماع. بل قالوا لذتهم بتعذيب أهل النار كلذة أهل الجنة بالجنة، خُلِقُوا من أجل ذلك. ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ لا يعصون الله ما أمرهم فيأتون بالأمر دون نقص أو زيادة. ويفعلون ما يؤمرون فيأتون بالأمر في وقته دون تقديم ودون تأخير. إذاً فأوامر الله لهم نافذة مُنَفَّذة على وجه الدقة طبقاً للأمر دون خلل، دون نقص، دون زيادة، دون تقديم ودون تأخير. هؤلاء ملائكة جهنم؛ غلاظ شداد، والخطاب لك أنتَ ولنا جميعاً، الخطاب للمؤمنين، ليس للكفار، بل الخطاب للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً).
ثم يتوجه الخطاب للكفار، والخطاب للكفار ليس الآن بل الخطاب لهم في يوم القيامة حين تُفتَح لهم أبواب جهنم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، ينادون ويستصرخون ويستغيثون، وحين يتملكهم اليأس يقولون لمالك -خازن جهنم وزعيم الزبانية- (يا مالك لِيَقْضِ علينا ربُّك قال إنكم ماكثون) يقال لهم حين يروا جهنم وحين يحاولون الاعتذار والاستعتاب إذ لا يُستَعتَبون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، يقال لهم حينئذٍ:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَا تَعْتَذِرُوا۟ ٱلْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿7﴾
يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم: يوم القيامة، أي الاعتذار لا يصلح ولا ينفع ولا يجدي في ذلك اليوم وقد كانت الدنيا فسيحة وعمرك فيها مديد والفرصة لك متاحة، عصيتَه فرزقك، عصيتَه فلم يعاقبك، عصيتَه لم يعاجلك بالعقوبة بل جعلك في دنياك وحياتك في دائرة حلمه، حليم ستار، يسترك بالليل فتصبح أنت فتكشف سِترَ الله عليك، كم من مستورٍ بالليل يفضح ويكشف سِترَ الله عليه بالنهار، ومع ذلك هو الحليم يرزقهم، ولولا حِلمُه لأكلوا من المزابل، لكنه رزقهم وسترهم وأعطاهم الصحة والعافية والجسد والأعضاء والمفاصل، وهيأ لهم المخارج والمداخل والأبناء والحلائل، أعطاهم وأعطاهم لعل العاصي يتوب. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وصَدَقَ ربي (وما ربك بظلامٍ للعبيد). أيها الأخ المسلم؛ أنت الآن في فسحة من الوقت، أنت الآن في الدنيا تحيا وتعيش، كامل العقل، كامل البنيان، مرزوق مستور، فُتِحَت لك أبواب التوبة وربنا بسط يده لك: هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائلٍ فأعطيه، هل رفعتَ يديك بالسؤال؟ هل لجأتَ إلى ربنا (تبارك وتعالى) وسألته الهدى والعفو؟ أم إنك نسيتَ أنك إلى الموت صائر؟ حفرة في الأرض ضاقت بمرقدك وظلمة تطفئ شمس دنيانا، بها التراب بأيدي أحبتنا وخفق النعال على الأديم يغشانا، وأبياتاً تركناها بلا رجعة والصحب والآل تركانا، ويقظة في سكون القبر تفجأنا وسؤال من الملكين يلقانا، عن الإله والدين وعن ذاك الذي حذّرنا وذَكَّرنا بأخرانا.
أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أُوحِيَ إليّ أنكم تُفتَنُون في قبوركم قريباً أو مثل فتنة الدجال" فيجلس الرجل بعد الدفن ويأتيه ملكان فيسألان: من ربك وما دينك وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ فإن كان مؤمناً صالحاً أجاب: هو الله ربي وديني الإسلام وهو محمد (صلى الله عليه وسلم) أتانا بالهدى والحق فصَدَّقناه واتبعناه، فتقول له الملائكة: نَمْ صالحاً قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لموقناً، ويُعرَض عليه مقعده من الجنة ويقال له: انظر إليه حتى تُبعَث إليه، وإن كان غير ذلك -والعياذ بالله- لم يدرك المسكين ما يقول وتلعثم وقال: سمعتُ الناس يقولون شيئاً فقلتُ مثلما يقولون، فتضربه الملائكة ضربةً يهوي بها في الأرض سبعين سنة، ضربة واحدة يصرخ منها صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان -الإنس والجان-.
إن الله بعد أن حذرنا وأنذرنا يؤملنا في التوبة، يُرَجِّينا في رحمته ويُطَمِّعُنا في مغفرته. أمرنا أن نقي أنفسنا وأهلنا النار، ووصف لنا زبانية جهنم، وفتح أبواب توبته على مصراعيه فقال عَزَّ مِنْ قائل:
أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أُوحِيَ إليّ أنكم تُفتَنُون في قبوركم قريباً أو مثل فتنة الدجال" فيجلس الرجل بعد الدفن ويأتيه ملكان فيسألان: من ربك وما دينك وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ فإن كان مؤمناً صالحاً أجاب: هو الله ربي وديني الإسلام وهو محمد (صلى الله عليه وسلم) أتانا بالهدى والحق فصَدَّقناه واتبعناه، فتقول له الملائكة: نَمْ صالحاً قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لموقناً، ويُعرَض عليه مقعده من الجنة ويقال له: انظر إليه حتى تُبعَث إليه، وإن كان غير ذلك -والعياذ بالله- لم يدرك المسكين ما يقول وتلعثم وقال: سمعتُ الناس يقولون شيئاً فقلتُ مثلما يقولون، فتضربه الملائكة ضربةً يهوي بها في الأرض سبعين سنة، ضربة واحدة يصرخ منها صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان -الإنس والجان-.
إن الله بعد أن حذرنا وأنذرنا يؤملنا في التوبة، يُرَجِّينا في رحمته ويُطَمِّعُنا في مغفرته. أمرنا أن نقي أنفسنا وأهلنا النار، ووصف لنا زبانية جهنم، وفتح أبواب توبته على مصراعيه فقال عَزَّ مِنْ قائل:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ تُوبُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةًۭ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ يَوْمَ لَا يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴿8﴾
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا﴾ أمر من الله، إذاً فالتوبة فرض على كل مسلم وهي فرض عين تتعين على كل مسلم ومسلمة في كل حال وفي كل زمان، فما من عبدٍ إلا وتجب عليه التوبة مهما كان صالحاً، حتى الأنبياء أُمِرُوا بذلك وأُمِرُوا بالاستغفار وأُمِرَ سيدهم (صلى الله عليه وسلم) بذلك: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(١)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(٢)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(٣)﴾ [سورة النصر آية: ١ - ٣] نعم التوبة فرض عين في كل حال وفي كل زمان لأن الإنسان لا يخلو من المعاصي ولا يخلو من الذنوب ولا يخلو من الغفلة ولا يخلو من خواطر السوء. (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) وقُرِئت: (توبةً نُصوحاً) بضم النون، التوبة النصوح: أي توبة تنصحون بها أنفسكم للكف عن المعاصي والإقلاع عنها. أو هي من النَّصاحة، والنَّصاحة: الخياطة، وكأن التوبة ترفو الخروق التي خرقتها الذنوب في لباس التقوى ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [سورة الأعراف آية: ٢٦] فمن عصى ربه وأذنب فكأنه خرق خرقاً في لباس التقوى، فالتوبة ترفو هذا الخرق وتخيط التمزيق. نَصَحَ الثوب: خَاطَهُ، توبوا توبة نصوحا تخيط وترفو خروق الذنوب. أو التوبة النصوح: التوبة الخالصة، من قولهم عَسَلٌ ناصح: أي عسل خالص من الشمع، فالتوبة النصوح توبة خالصة، توبة صادقة، التوبة النصوح توبة ينصح العبد بها نفسه، التوبة النصوح توبة ترقع الخروق التي حدثت في لباس التقوى من الذنوب. أما إذا قُرِئت (نُصوحاً) أي ذات نُصح، توبة غاية في الإخلاص والصدق تنصح صاحبها فلا يعود بعد الذنب أبداً.
والتوبة النصوح لها تعريف ولها شروط، قال فيها العلماء أقوال كثيرة، قالوا إن التوبة النصوح: الاستغفار باللسان والكف عن الذنوب بالأبدان والندم على الذنب بالجنان، فهي يشترط فيها الندم على الذنب، الندم بالقلب، أن يمتلئ قلبك ندماً على الذنوب، وأن يتحرك لسانك دائماً بالاستغفار وبطلب التوبة والمغفرة والرحمة، وأن تكف جوارحك عن المعاصي وألا تعود إلى الذنب بعد ذلك أبداً، تلك هي التوبة النصوح، قالوا فيها أقوالاً كثيرة هذه خلاصتها وأرجحها، ولكن ينقص شرط رابع لأن الذنب إما أن يكون متعلقاً بحق الله وإما أن يكون متعلقاً بحق العباد، فإذا كان الذنب متعلقاً بحق الله فهو أمر بينك وبين ربك، وإن كان الذنب متعلقاً بحقٍّ من حقوق العباد فتلك مظالم يجب التخلص والتحلل منها، فإن كان العبد قد تكاسل عن الصلاة -والصلاة حقٌّ من حقوق الله- فالتوبة تعني أن يواظب على الصلاة وأن يندم على عمره الذي قضاه من غير صلاة وأن يعيد الفرائض التي فاتته في عمره الماضي، وإن كان صياماً -ذاك الذي فاته أو تركه- فعليه أيضاً أن يعيد الصيام، وإن كان الأمر متعلقاً بالزكاة فعليه أن يُخرِجَ زكاة أمواله عن السنين الماضية.
فعلامة التوبة الصادقة لها شرط رابع بعد الندم في القلب والاستغفار باللسان والعزم على عدم العود وكف الجوارح عن المعاصي، لابد من شرط رابع وهو إصلاح الفساد أو تعويض ما فات، فإن كانت صلاة صَلَّى مما عليه، وإن كان صيام صام مما عليه، وإن كانت زكاة أخرج مما يجب عليه، أما إن كانت المظالم أو الذنوب متعلقة بحقوق العباد وجب فيها الإصلاح؛ فإن كان سارقاً لمال فيشترط لقبول التوبة أن يَرُدَّ ما سرق من مال لصحابه، وإن كانت شهادة ضاع بها حق وجب عليه أن يعيد الشهادة وهكذا، حتى لو اغتاب إنساناً فالذنب متعلق بآخر ولا يكفي في التوبة الاستغفار والندم وعدم العَوْد بل لابد من مسامحة صاحب الحق، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار وإنما يؤخذ من حسناته لصاحبه فإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فطُرِحَت عليه) من هنا وجب على الإنسان أن ينظر في ذنبه الذي يتوب عنه. وقد جاء القران بآيات عن التوبة، اختلفت الآيات طبقاً لكل حال، فمن الآيات ما يأمر فيها ربنا بالإيمان مع التوبة: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ [سورة الفرقان آية: ٧٠] إذاً فالذنب متعلق بالعقيدة، بالتوحيد، أخطأ فأشرك أو ارتد فلابد من الإيمان. وهناك توبة متعلقة بالعمل الصالح: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٧١] تلك في ذنوب تتعلق بالله؛ الحسنات يُذهِبْنَ السيئات، كالزاني إن زنا ثم تاب لا إصلاح لخطئه إلا بالتوبة والعمل الصالح، الحسنات يُذهِبْنَ السيئات، وكذلك شارب الخمر، كيف يُصلِح خطأَه من شرب خمراً أو مخدراً ثم تاب؟ يلزم له عمل صالح يُذهِب به السيئات، أما من سرق فربنا يقول في شأن السارق: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ إذاً فلابد من رد المظالم، لابد من رد المال.
وقال إن العبد إذا أذنب ذنباً فيه الحدود كقطع اليد وكَجَلْدِ الظهر في الغِيبَة وفي الرمي وما إلى ذلك، والقتل في القصاص، إذا أذنب ذنباً فيه الحد فإن رُفِعَ إلى الحاكم لابد من إقامة الحد وإن تاب، أما إذا ارتكب ذنباً فيه حَدٌّ من حدود الله ثم تاب قبل أن يُقدَرَ عليه، قبل أن يُقبَضَ عليه، قبل أن يُرفَعَ للحاكم، قبل أن يَقدِرَ وليُّ الأمر عليه قُبِلَت توبته وسقط عنه الحد ستراً من الله، يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(٣٣)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٣٤)﴾ [سورة المائدة آية: ٣٣ –٣٤] إذاً فمن تاب من قبل أن يُقدَرَ عليه سقط عنه الحد. هذا في شأن الحدود كقطع اليد وجَلْدِ الظهر وما إلى ذلك يسقط الحد، ومن ستره الله في الدنيا علامة على ستره في الآخرة. لكن المظالم المتعلقة بحقوق العباد لابد وأن تُعَاد إلى أصحاب الحقوق، تطلب منه السماح فإن كان طَلَبُكَ للسماح قد يُعَرِّضُك لضررٍ أشد كأن يكون المستسمَح مُتَقَصِّياً؛ تقول له: سامحني فقد تكلمتُ عنك بما لا يليق، فإن كان كريماً قال: سامحك الله وسامحني معك، وإن كان غير كريم، كان متقصياً: متى؟ وماذا قلت؟ ومن كان حاضراً؟ وما إلى ذلك، وقد يصبح اعترافك له مضرة ويأتي بالمضرة، هنا لا داعي لهذا وإنما عليك أن تتصدق عنه دون أن يدري، وأن تدعو له دائماً وأبداً وأن تستغفر له في غيبته فلعل استغفارك له وصدقتك عنه تُكَفِّر ما قلتَه أنتَ عنه.
ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يحذرنا من البداية من الغيبة والنميمة والفحش والتفحش والسباب حتى أنه يقول: (إذا عَيَّرَك أخاك بأمرٍ يعلمه فيك فلا تُعَيِّره بأمرٍ تعلمه فيه يَكُن وباله عليك وجزاؤه لك) والمتسابان شيطانان يتعارجان ويتعاركان ويتعاويان، ويقول: "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" ويحذرنا من الغِيبة: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "الغيبة ذِكْرُكَ أخاك بما يكره" فقال قائل: يا رسول الله أرأيتَ إن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه" والبهتان أشد إثماً من الغيبة، وإفشاء السر نميمة، وليست النميمة كما يعتقد البعض الإيقاع بين اثنين فقط بل الإيقاع بين الناس أشد ظلماً ونوع من أنواع النميمة الشديدة، لكن النميمة بمجرد أن تفشي سر أخيك، تلك هي النميمة، إفشاء السر من النميمة، كَشْفُ ما يكره كَشْفُهُ من النميمة، إذا تكلم معك الرجل في سِرٍّ فأفشيتَه فأنت نمام والنمام لا يدخل الجنة. أيها الأخ المسلم؛ أنت في فسحةٍ من دينك، وما بينك وبين الله يُكَفِّرُه التوبة، بالاستغفار واللجوء إلى رحمة الله، وربنا يأتي بالآيات بصيغة الإطماع: (توبوا الى الله توبة نصوحاً) ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ "عسى" وإن كانت صيغة إطماع فإن الله لا يُطَمِّعُ العبدَ ثم يُخَيِّبُه أبداً وإنما إذا أطمعك أجابك وأعطاك، و (عسى) من الله واجبة تفيد التحقيق ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وتكفير السيئات إخفاؤها، الكُفر: الإخفاء، والكافر: الزارع، يُطلَق عليه اسم كافر لأنه يَكفُرُ الحَبَّ، يخفيه في الأرض. والكافر بالله سمي كافراً لأنه أخفى الإيمان في فطرته وأظهر الجحود والكفران، فالتكفير: الإخفاء.
يُكَفِّر عنكم سيئاتكم: يخفيها فتُمحَى من الصحائف ويُنسِي الحفظةَ هذه السيئات، بل ويُنسِي جوارحَك ما ارتكبتَه من ذنوب فتأتي يوم القيامة وليس هناك عليك شاهد بذنب. (توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) (عسى) واجبة التحقيق وكأنه يقول: يُكَفِّر، وقد تحقق التكفير. ﴿ويدخِلَكم﴾ ﴿ويُدْخِلْكم﴾ (جنات تجري من تحتها الأنهار) أي تجري من تحت قصورها الأنهار المختلفة التي وُصِفَت لنا، الأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من لبن وأنهار من ماءٍ غير آسن. ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ﴾ أي في ذلك اليوم حيث الخزي الفضيحة، حيث التغابن، حيث تُعرَض الصحائف فيراها الخلائق، فمهما ارتكب الإنسان من شرور في هذه الدنيا وأخفاها يؤتى به يوم القيامة فيُفضَح على رءوس الخلائق وتُنشَر صحائفُه وتُرَى ذنوبُه للكل، ذاك يوم الخزي العظيم، الفضيحة والعذاب.
في ذلك اليوم لا يخزي الله النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا يخزي الذين آمنوا، لا يعذبهم ولا يفضحهم، حتى أن الله (تبارك وتعالى) يأتي بالعبد المؤمن الذي ارتكب بعض الذنوب والمعاصي يأتي به أمامه ويَبسُطُ عليه كَنَفَه فلا يراه أحد ويقول له: عبدي تَذكُرُ ذنبَ كذا؟ فيقول: يا رب أَذْكُرُه، فيقول: قد سَتَرْتُكَ في الدنيا وأنا اليوم أغفره لك، ويُقَرِّرُه بذنوبه جميعاً قد سُتِرَت ومُحِيَت من الصحائف ولكنه يَبْسُطُ عليه كَنَفَه حتى لا يرى ولا يسمع أحدٌ ذاك العتاب، فإن كان ذاك المعاتَبُ صالحاً ولكنه شاب في الإسلام وأعطاه الله طول العمر: (خيركم من طال عمره وحَسُنَ عَمَلُه) لا يعاتبه الله أمام الناس، وتُخفَى السيئات، بل ولا يأتي به ولا يبسط عليه كنفه، يأمر به إلى الجنة، فإن دخل أتاه جبريل بصحيفة وقال: إن الله أمرني أن أعطيك هذه الصحيفة، فإذا فتحها وجد فيها الذنوب والمعاصي التي غُفِرَت وسُتِرَت ونسيها، فيَتَلَوَّن وجهُه ويَصْفَرُّ لونُه فيقول له الملَك: إن الله يقول لك إنه قد استحى أن يحاسبك على ما في هذه الصحيفة وقد غفرها لك. ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ لا يخزيهم ولا يفضحهم ويضيف عليهم رحمة، نور.
﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ يسعى في يوم ظلمة، جهنم مظلمة، سواد الليل أشد بياضاً منها، نار مظلمة لا ضياء فيها، والصراط منصوب على حافتيها، ومطلوب من كل عبد أن يجتاز هذا الصراط، فالصراط في ظلام وهو أدق من الشَّعْر وأَحَدُّ من السيف، كيف تمر عليه وهو أدق من الشعر وأحد من السيف وفي ظلام دامس لا ترى مواضع قدميك؟ من هنا يمنح الله (تبارك وتعالى) الصالحين نوراً يسعى بين أيديهم فينير لهم الطريق، وبأيمانهم كُتُبُهم، أو بأيمانهم نور، أو في أيمانهم نور، والباء بمعنى (في)، فإذا بهم يرون مواضع الأقدام ويمرون على الصراط مَرَّ البرق فلا تنالهم كلابيب جهنم ولا تأخذهم ولا تَهْمِشُهُم. ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ نورهم هو عملهم الصالح. (وبإيمانهم) قُرِئت (إيمان)، أي إيمانهم في القلوب وهذا الإيمان والعمل الصالح إذا به يوم القيامة نور يسعى. ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا، لِمَ يقولون ذلك؟ ألا يكفيهم النور؟ نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون نوره كما بين المدينة وعدن، وكما بين المدينة وصنعاء، ومنهم من يكون نوره في إبهام قدمه فقط، يضيء له موضع القدم فقط، كُلٌّ على حسب عمله، فمن رأى نوره قليل قال: ربنا أتمم لنا نورنا.
وقيل كلهم يدعو بذلك حتى من كان نوره كالجبال لأن الله في يوم القيامة يعطي هؤلاء الصالحين نوراً ويعطي المنافقين نوراً فيجتاز المؤمنون ويأتي المنافقون والنور يسعى معهم وفجأة يُذهِبُ الله نورهم فتُظلِمُ الأماكن حولهم ويُظلِمُ الصراط، فحين يرى المؤمنون ذلك يخشون ذهاب نورهم فيلجئون إلى الله: (أتمم لنا نورنا) أي ثبته وأبقيه لنا، وقد فعل الله ذلك بالمنافقين لأنهم خدعوا المؤمنين في الدنيا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:٩) يخادعون الله وهو خادعهم، فيأتي بهم يوم القيامة فيفعل بهم ذلك حيث يُخدَعون بالنور، فإذا خُدِعُوا بالنور أُذهِبَ النور عنهم. ويتوجه الخطاب لسيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) يأمره ربنا بالجهاد، والجهاد لا ينقطع إلى أن تقوم الساعة.
والتوبة النصوح لها تعريف ولها شروط، قال فيها العلماء أقوال كثيرة، قالوا إن التوبة النصوح: الاستغفار باللسان والكف عن الذنوب بالأبدان والندم على الذنب بالجنان، فهي يشترط فيها الندم على الذنب، الندم بالقلب، أن يمتلئ قلبك ندماً على الذنوب، وأن يتحرك لسانك دائماً بالاستغفار وبطلب التوبة والمغفرة والرحمة، وأن تكف جوارحك عن المعاصي وألا تعود إلى الذنب بعد ذلك أبداً، تلك هي التوبة النصوح، قالوا فيها أقوالاً كثيرة هذه خلاصتها وأرجحها، ولكن ينقص شرط رابع لأن الذنب إما أن يكون متعلقاً بحق الله وإما أن يكون متعلقاً بحق العباد، فإذا كان الذنب متعلقاً بحق الله فهو أمر بينك وبين ربك، وإن كان الذنب متعلقاً بحقٍّ من حقوق العباد فتلك مظالم يجب التخلص والتحلل منها، فإن كان العبد قد تكاسل عن الصلاة -والصلاة حقٌّ من حقوق الله- فالتوبة تعني أن يواظب على الصلاة وأن يندم على عمره الذي قضاه من غير صلاة وأن يعيد الفرائض التي فاتته في عمره الماضي، وإن كان صياماً -ذاك الذي فاته أو تركه- فعليه أيضاً أن يعيد الصيام، وإن كان الأمر متعلقاً بالزكاة فعليه أن يُخرِجَ زكاة أمواله عن السنين الماضية.
فعلامة التوبة الصادقة لها شرط رابع بعد الندم في القلب والاستغفار باللسان والعزم على عدم العود وكف الجوارح عن المعاصي، لابد من شرط رابع وهو إصلاح الفساد أو تعويض ما فات، فإن كانت صلاة صَلَّى مما عليه، وإن كان صيام صام مما عليه، وإن كانت زكاة أخرج مما يجب عليه، أما إن كانت المظالم أو الذنوب متعلقة بحقوق العباد وجب فيها الإصلاح؛ فإن كان سارقاً لمال فيشترط لقبول التوبة أن يَرُدَّ ما سرق من مال لصحابه، وإن كانت شهادة ضاع بها حق وجب عليه أن يعيد الشهادة وهكذا، حتى لو اغتاب إنساناً فالذنب متعلق بآخر ولا يكفي في التوبة الاستغفار والندم وعدم العَوْد بل لابد من مسامحة صاحب الحق، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار وإنما يؤخذ من حسناته لصاحبه فإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فطُرِحَت عليه) من هنا وجب على الإنسان أن ينظر في ذنبه الذي يتوب عنه. وقد جاء القران بآيات عن التوبة، اختلفت الآيات طبقاً لكل حال، فمن الآيات ما يأمر فيها ربنا بالإيمان مع التوبة: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ [سورة الفرقان آية: ٧٠] إذاً فالذنب متعلق بالعقيدة، بالتوحيد، أخطأ فأشرك أو ارتد فلابد من الإيمان. وهناك توبة متعلقة بالعمل الصالح: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٧١] تلك في ذنوب تتعلق بالله؛ الحسنات يُذهِبْنَ السيئات، كالزاني إن زنا ثم تاب لا إصلاح لخطئه إلا بالتوبة والعمل الصالح، الحسنات يُذهِبْنَ السيئات، وكذلك شارب الخمر، كيف يُصلِح خطأَه من شرب خمراً أو مخدراً ثم تاب؟ يلزم له عمل صالح يُذهِب به السيئات، أما من سرق فربنا يقول في شأن السارق: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ إذاً فلابد من رد المظالم، لابد من رد المال.
وقال إن العبد إذا أذنب ذنباً فيه الحدود كقطع اليد وكَجَلْدِ الظهر في الغِيبَة وفي الرمي وما إلى ذلك، والقتل في القصاص، إذا أذنب ذنباً فيه الحد فإن رُفِعَ إلى الحاكم لابد من إقامة الحد وإن تاب، أما إذا ارتكب ذنباً فيه حَدٌّ من حدود الله ثم تاب قبل أن يُقدَرَ عليه، قبل أن يُقبَضَ عليه، قبل أن يُرفَعَ للحاكم، قبل أن يَقدِرَ وليُّ الأمر عليه قُبِلَت توبته وسقط عنه الحد ستراً من الله، يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(٣٣)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٣٤)﴾ [سورة المائدة آية: ٣٣ –٣٤] إذاً فمن تاب من قبل أن يُقدَرَ عليه سقط عنه الحد. هذا في شأن الحدود كقطع اليد وجَلْدِ الظهر وما إلى ذلك يسقط الحد، ومن ستره الله في الدنيا علامة على ستره في الآخرة. لكن المظالم المتعلقة بحقوق العباد لابد وأن تُعَاد إلى أصحاب الحقوق، تطلب منه السماح فإن كان طَلَبُكَ للسماح قد يُعَرِّضُك لضررٍ أشد كأن يكون المستسمَح مُتَقَصِّياً؛ تقول له: سامحني فقد تكلمتُ عنك بما لا يليق، فإن كان كريماً قال: سامحك الله وسامحني معك، وإن كان غير كريم، كان متقصياً: متى؟ وماذا قلت؟ ومن كان حاضراً؟ وما إلى ذلك، وقد يصبح اعترافك له مضرة ويأتي بالمضرة، هنا لا داعي لهذا وإنما عليك أن تتصدق عنه دون أن يدري، وأن تدعو له دائماً وأبداً وأن تستغفر له في غيبته فلعل استغفارك له وصدقتك عنه تُكَفِّر ما قلتَه أنتَ عنه.
ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يحذرنا من البداية من الغيبة والنميمة والفحش والتفحش والسباب حتى أنه يقول: (إذا عَيَّرَك أخاك بأمرٍ يعلمه فيك فلا تُعَيِّره بأمرٍ تعلمه فيه يَكُن وباله عليك وجزاؤه لك) والمتسابان شيطانان يتعارجان ويتعاركان ويتعاويان، ويقول: "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" ويحذرنا من الغِيبة: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "الغيبة ذِكْرُكَ أخاك بما يكره" فقال قائل: يا رسول الله أرأيتَ إن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه" والبهتان أشد إثماً من الغيبة، وإفشاء السر نميمة، وليست النميمة كما يعتقد البعض الإيقاع بين اثنين فقط بل الإيقاع بين الناس أشد ظلماً ونوع من أنواع النميمة الشديدة، لكن النميمة بمجرد أن تفشي سر أخيك، تلك هي النميمة، إفشاء السر من النميمة، كَشْفُ ما يكره كَشْفُهُ من النميمة، إذا تكلم معك الرجل في سِرٍّ فأفشيتَه فأنت نمام والنمام لا يدخل الجنة. أيها الأخ المسلم؛ أنت في فسحةٍ من دينك، وما بينك وبين الله يُكَفِّرُه التوبة، بالاستغفار واللجوء إلى رحمة الله، وربنا يأتي بالآيات بصيغة الإطماع: (توبوا الى الله توبة نصوحاً) ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ "عسى" وإن كانت صيغة إطماع فإن الله لا يُطَمِّعُ العبدَ ثم يُخَيِّبُه أبداً وإنما إذا أطمعك أجابك وأعطاك، و (عسى) من الله واجبة تفيد التحقيق ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وتكفير السيئات إخفاؤها، الكُفر: الإخفاء، والكافر: الزارع، يُطلَق عليه اسم كافر لأنه يَكفُرُ الحَبَّ، يخفيه في الأرض. والكافر بالله سمي كافراً لأنه أخفى الإيمان في فطرته وأظهر الجحود والكفران، فالتكفير: الإخفاء.
يُكَفِّر عنكم سيئاتكم: يخفيها فتُمحَى من الصحائف ويُنسِي الحفظةَ هذه السيئات، بل ويُنسِي جوارحَك ما ارتكبتَه من ذنوب فتأتي يوم القيامة وليس هناك عليك شاهد بذنب. (توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) (عسى) واجبة التحقيق وكأنه يقول: يُكَفِّر، وقد تحقق التكفير. ﴿ويدخِلَكم﴾ ﴿ويُدْخِلْكم﴾ (جنات تجري من تحتها الأنهار) أي تجري من تحت قصورها الأنهار المختلفة التي وُصِفَت لنا، الأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من لبن وأنهار من ماءٍ غير آسن. ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ﴾ أي في ذلك اليوم حيث الخزي الفضيحة، حيث التغابن، حيث تُعرَض الصحائف فيراها الخلائق، فمهما ارتكب الإنسان من شرور في هذه الدنيا وأخفاها يؤتى به يوم القيامة فيُفضَح على رءوس الخلائق وتُنشَر صحائفُه وتُرَى ذنوبُه للكل، ذاك يوم الخزي العظيم، الفضيحة والعذاب.
في ذلك اليوم لا يخزي الله النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا يخزي الذين آمنوا، لا يعذبهم ولا يفضحهم، حتى أن الله (تبارك وتعالى) يأتي بالعبد المؤمن الذي ارتكب بعض الذنوب والمعاصي يأتي به أمامه ويَبسُطُ عليه كَنَفَه فلا يراه أحد ويقول له: عبدي تَذكُرُ ذنبَ كذا؟ فيقول: يا رب أَذْكُرُه، فيقول: قد سَتَرْتُكَ في الدنيا وأنا اليوم أغفره لك، ويُقَرِّرُه بذنوبه جميعاً قد سُتِرَت ومُحِيَت من الصحائف ولكنه يَبْسُطُ عليه كَنَفَه حتى لا يرى ولا يسمع أحدٌ ذاك العتاب، فإن كان ذاك المعاتَبُ صالحاً ولكنه شاب في الإسلام وأعطاه الله طول العمر: (خيركم من طال عمره وحَسُنَ عَمَلُه) لا يعاتبه الله أمام الناس، وتُخفَى السيئات، بل ولا يأتي به ولا يبسط عليه كنفه، يأمر به إلى الجنة، فإن دخل أتاه جبريل بصحيفة وقال: إن الله أمرني أن أعطيك هذه الصحيفة، فإذا فتحها وجد فيها الذنوب والمعاصي التي غُفِرَت وسُتِرَت ونسيها، فيَتَلَوَّن وجهُه ويَصْفَرُّ لونُه فيقول له الملَك: إن الله يقول لك إنه قد استحى أن يحاسبك على ما في هذه الصحيفة وقد غفرها لك. ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ لا يخزيهم ولا يفضحهم ويضيف عليهم رحمة، نور.
﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ يسعى في يوم ظلمة، جهنم مظلمة، سواد الليل أشد بياضاً منها، نار مظلمة لا ضياء فيها، والصراط منصوب على حافتيها، ومطلوب من كل عبد أن يجتاز هذا الصراط، فالصراط في ظلام وهو أدق من الشَّعْر وأَحَدُّ من السيف، كيف تمر عليه وهو أدق من الشعر وأحد من السيف وفي ظلام دامس لا ترى مواضع قدميك؟ من هنا يمنح الله (تبارك وتعالى) الصالحين نوراً يسعى بين أيديهم فينير لهم الطريق، وبأيمانهم كُتُبُهم، أو بأيمانهم نور، أو في أيمانهم نور، والباء بمعنى (في)، فإذا بهم يرون مواضع الأقدام ويمرون على الصراط مَرَّ البرق فلا تنالهم كلابيب جهنم ولا تأخذهم ولا تَهْمِشُهُم. ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ نورهم هو عملهم الصالح. (وبإيمانهم) قُرِئت (إيمان)، أي إيمانهم في القلوب وهذا الإيمان والعمل الصالح إذا به يوم القيامة نور يسعى. ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا، لِمَ يقولون ذلك؟ ألا يكفيهم النور؟ نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون نوره كما بين المدينة وعدن، وكما بين المدينة وصنعاء، ومنهم من يكون نوره في إبهام قدمه فقط، يضيء له موضع القدم فقط، كُلٌّ على حسب عمله، فمن رأى نوره قليل قال: ربنا أتمم لنا نورنا.
وقيل كلهم يدعو بذلك حتى من كان نوره كالجبال لأن الله في يوم القيامة يعطي هؤلاء الصالحين نوراً ويعطي المنافقين نوراً فيجتاز المؤمنون ويأتي المنافقون والنور يسعى معهم وفجأة يُذهِبُ الله نورهم فتُظلِمُ الأماكن حولهم ويُظلِمُ الصراط، فحين يرى المؤمنون ذلك يخشون ذهاب نورهم فيلجئون إلى الله: (أتمم لنا نورنا) أي ثبته وأبقيه لنا، وقد فعل الله ذلك بالمنافقين لأنهم خدعوا المؤمنين في الدنيا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:٩) يخادعون الله وهو خادعهم، فيأتي بهم يوم القيامة فيفعل بهم ذلك حيث يُخدَعون بالنور، فإذا خُدِعُوا بالنور أُذهِبَ النور عنهم. ويتوجه الخطاب لسيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) يأمره ربنا بالجهاد، والجهاد لا ينقطع إلى أن تقوم الساعة.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴿9﴾
جاهِد الكفار بالسيف، بالسنان، وجاهِد المنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافق يُظهِرُ الإسلام ويُبطِنُ الكفر فيَحْرُم قتلُه، وقد كان مع النبي (صلى الله عليه وسلم) منافقون كثير في المدينة منهم عبد الله بن أبي بن سلول، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرفهم بأسمائهم وأحسابهم حين أعملهم الله بهم ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة محمد آية: ٣٠] لكنه لم يقتلهم، وحين أُشِيعَ عنه أنه سوف يَقتُل ابنَ سلول جاءه ابنه وقال: يا رسول الله إن كنت عازماً على قتل أبي فمُرْني أنا بقتله، فقال: "لا وإنما نُحسِنُ معاشرته ونرفق به حتى لا يصبح الناس يتحدثون ويقولون محمد يقتل أصحابه" فقد أظهر الإسلام، فمن نطق الشهادة بلسانه حَرُمَ دمه وإن كان كافراً بقلبه، حَرُمَ دمه لأنه نطق بالشهادة، أما القلوب فعلمها عند علاّم الغيوب. من هنا جهاد الكفار بالسيف والسنان وجهاد المنافقين بالحجة والبرهان. ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ الغِلْظة ضد الرفق، والغِلْظة على الكفار بالضرب بالسيوف ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [سورة الأنفال آية: ١٢] والغلظة على المنافقين بإظهار الحجة والبرهان والتشديد في اللوم والعتاب، وأما الرحمة فمع المؤمنين ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة الفتح آية: ٢٩]. ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مصيرهم ومرجعهم ومنتهى مستقرهم. (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي مصير أبأس من ذلك؟ ثم يضرب ربنا مثلاً للكفار الذين لم تنفعهم قرابتهم بالصالحين حيث يضع الله يوم القيامة نَسَبَ الناس ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ١٠١] وينادي ربنا يوم القيامة: "اليوم أضع أنسابكم وأرفع نسبي" ولا نسب بين العبد والله إلا بطاعته. يقول الله (تبارك وتعالى):
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًۭا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱمْرَأَتَ نُوحٍۢ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍۢ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًۭٔا وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ ﴿10﴾
ذاك المثل وكأن الله يخاطب كفار قريش -وقد استهزءوا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً وقالوا: اشفع لنا طالما أنت منا ونحن قومك فلن يعذبنا الله من أجلك- فيرد الله عليهم وعلى كل من تحدثه نفسه أن نسبه ينفعه أو قرابته تنفعه أو حتى بُنُوَّته لرسولٍ من الرسل تنفعه، ها هو نوح لم يستطع أن ينفع ابنَه، غرق أمامه. فضرب الله المثل بامرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾ وصف نوح ولوط بالعبادة تشريفاً لهما (كانتا تحت عبدين) ولم يقل (رسولين) إنما قال (عبدين) لأن العبادة أعلى مقام وأعلى شرف، وحين خُيِّرَ سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) أن يكون مَلِكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: "لا، بل أختار العبودية، أن أكون عبداً رسولاً" فالعبودية شرف. من هنا شَرَّفَهم الله ووصفهم بالعبودية (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) الخيانة في الدين وليست الخيانة في العِرض، ويقول ابن عباس: ما بَغَتِ امرأة نبيٍّ قط، فقد عصم الله نسل الأنبياء من السفاح، والخيانة خيانة في الدين، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٧] فهناك خيانة لله وهناك خيانة للرسول وهناك خيانة للأمانة. (خانتاهما) حيث كانت امرأة نوح تزعم أنه مجنون وتمشي مع كفار قومه وتقول إنه مجنون كما يقولون، وأما امرأة لوط فكانت تخبر عن أضيافه، إذا جاءه الأضياف أخبرت قومها عن أضيافه.
﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ بالشرك، خانتاهما بالكفر، خانتاهما كما قومهما عليهما. (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) رغم قُربَ نوحٍ من الله إلا أنه لم يُغنِ عن امرأته شيئاً، ورغم قُربَ لوطٍ من الله فلم يُغنِ عن امرأته شيئاً. ﴿وَقِيلَ﴾: يوم القيامة، أو عند الموت للمرأتين. ﴿ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ إذاً فلم ينفع النسب. ولذا حذر نبينا (صلى الله عليه وسلم) فاطمة بنت محمد، قال: "يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً". فبضدها تتميز الأشياء، تَبَيَّن لنا أن قرابة الصالح لا تنفع الفاسق، وأن العبد لا ينفعه إلا عمله، ويبين ربنا لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تضره، كما بين لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تنفع الكافر، يبين لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تضر الصالح فيقول:
﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ بالشرك، خانتاهما بالكفر، خانتاهما كما قومهما عليهما. (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) رغم قُربَ نوحٍ من الله إلا أنه لم يُغنِ عن امرأته شيئاً، ورغم قُربَ لوطٍ من الله فلم يُغنِ عن امرأته شيئاً. ﴿وَقِيلَ﴾: يوم القيامة، أو عند الموت للمرأتين. ﴿ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ إذاً فلم ينفع النسب. ولذا حذر نبينا (صلى الله عليه وسلم) فاطمة بنت محمد، قال: "يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً". فبضدها تتميز الأشياء، تَبَيَّن لنا أن قرابة الصالح لا تنفع الفاسق، وأن العبد لا ينفعه إلا عمله، ويبين ربنا لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تضره، كما بين لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تنفع الكافر، يبين لنا أن علاقة الصالح بالكافر لا تضر الصالح فيقول:
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًۭا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿11﴾
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَٰنَ ٱلَّتِىٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَـٰنِتِينَ ﴿12﴾
امرأة فرعون ملكة، بل زوجة إله، يَدَّعي زوجها الألوهية، يسجد الناس له، في هذا العز والسلطان والغنى والمال وكل شيء، تركت كل ذلك ولجأت إلى الله وآمنت بموسى واتبعته، تركت المال وتركت كل شيء ابتغاء رضوان الله وآمنت بموسى، بل حين علم زوجها بإيمانها ونما إليه ذلك خرج فرعون على الملأ وقال: ما تعلمون وما تقولون عن آسيا بنت مزاحم؟ فأثنوْا عليها خيراً، فقال: إنها تعبد رباً غيري، فقالوا: اقتلها، فأوتد لها أوتاداً في الأرض وشد إلى الأوتاد يديها وقدميها وطرحها في حر الشمس والظهيرة وتركها تتعذب ظناً منه أن عذابه سوف يعود بها إلى الإيمان به أو يصرفها عن الإيمان بموسى، صَبَرَت واحتَسَبَت فكانت الملائكة تُظِلُّها بأجنحتها، ولجأت إلى ربها واختارت الجار قبل الدار فقالت: رب ابْنِ لي عندك بيتاً إلى جوارك، فاختارت الجوار قبل أن تختار الدار، اختارت جوار الله، أما البيت فأمر ثانوي والأصل الجوار، من هنا لم تقل: ابن لي بيتاً عندك وإنما قالت: (ابن لي عندك بيتاً) فالجوار أولاً، اختارت جوار الله وتنازلت عن قصر فرعون وقصوره وكنوزه وسألت الجوار (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) من كفره وظلمه حتى لا تكون مسئولة عن أعماله السيئة وتعذيبه لبني إسرائيل. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الظالمين على الإطلاق، فإذا بربنا (تبارك وتعالى) يُجَلِّي لها بيتها في الجنة فتراه وهي مُصَلَّبة في حر الشمس، فحين اطَّلَعَت على قصرها في الجنة ضحكت، وجاء فرعون ورآها تضحك فقال: أرأيتم جنونها؟ نعذبها وتضحك، وأراد أن يَهُمَّ بها فقبض الله روحَها راضيةً مرضية حميدة محمودة، ولم يُسَلِّط عليها فرعون ولم يعذبها ولم ينل منها شيئاً.
تلك امرأة فرعون، يضرب ربنا بها المثل وكأنه يُعَرِّض بالكلام لعائشة وحفصة حيث عُوتِبَتا في أول السورة: (إن تتوبا فقد صغت قلوبكما) وكأنه يقول لعائشة وحفصة ولأزواج النبي أمهات المؤمنين: لا تَكُنَّ أقل من آسيا، كيف كانت آسيا؟ أنتن زوجات سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) لا عذر لَكُنَّ في الخطأ، وهذه زوجة جبار في الأرض تابت ولجأت إلى الله ولم تخطئ، هي المثل والمثل الأعلى، وكأنه يخاطب الرجال: لا تكونوا أقل شأناً من امرأة، وكأنه يخاطب أصحاب الحق ويخاطب ألسنة الحق كي لا تُشَلّ أمام الظلم، يخاطب العلماء كي ينطقوا بكلمة الحق أمام الجبابرة، لا تخف ولا تخشَ ولا تكن أقل من امرأة صبرت أمام جبار يُعبَد في الأرض من دون الله، يسجد له الناس، صمدت وآمنت وأعلنت إيمانها ولجأت إلى الله فنجاها ﴿وكذلك ننجِ المؤمنين﴾ ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ ﴿فنفخنا فيها﴾ قراءة. ﴿بكلمة ربها وكتابه﴾ قراءة. (وكُتْبِه﴾ قراءة. الفَرْج: جيب الجلباب، وكل فتحة تُسَمَّى فَرْج وفُرْجَة. وربنا (تبارك وتعالى) يقول: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فُرُوج): من شقوق، من فتحات، فكل شَقٍّ في جلباب أو في قميص يسمى جيباً ويسمى فَرْجاً. وقد جاء جبريل فنفخ في جيبها، في فتحة قميصها، نفخ بأمر الله. من هنا قرأ أُبَيُّ هذه الآية: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا في جيبها من روحنا) لأن الآية تقول: (فنفخنا فيه) والنفخ لم يكن في الفرج العورة، المكان، وإنما كان في جيب القميص، من هنا قُرِئت: (فيها)، ومن هنا قُرِأَ: (في جيبها)، ومن هنا فُسِّرَت كلمة الفَرْج بمعنى الجيب والشق، كما وصف ربنا (تبارك وتعالى) السماء: (وما لها من فروج).
وإن كان الفَرْج المقصود به العضو المعروف إذاً فالكلام: أحصنت فرجها فنفخنا فيه –فَرْجَها- فنفخنا فيه، والضمير عائد على الجيب، فنفخنا في جيبها. ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾: حَفِظَتْه. وإحصان الفرج كناية عن العفة، وإحصان الفرج للمرأة أمر غاية في الرقي والأهمية وبه تدخل الجنة إن آمنت، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من صَلَّت فرضها وصامت شهرها وحَفِظَت فرجها وأطاعت زوجها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) عفة النساء هي تاج صلاحهن وهي علامة إيمانهن. ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ أو (فيها)؛ في جيبها، أي أمرنا جبريل فنفخ بأمرنا. (مِنْ رُوحِنَا) أي نفخنا فيه روحاً من أرواحنا ألا وهي روح عيسى ابن مريم، نَفَخَ الروح في جيبها فدخل إليها فحملت بعيسى. ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ صَدَّقَت بكلمات جبريل، صَدَّقَت بكلمات الله حين جاء جبريل وقال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [سورة مريم آية: ١٩] أو صَدَّقَت بكلمة ربها -عيسى ابن مريم- أول من آمن به مريم، آمنت به من قبل أن يولد لأن الله أنبأها: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(٤٥)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ(٤٦)﴾ [سورة آل عمران آية: ٤٥- ٤٦] صَدَّقَت بكلمات ربها؛ عيسى كلمة الله وروحه، وكُتُبه: كتابه الإنجيل، وكُتُبه: اسم جنس؛ جميع الكتب السماوية. ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ والقانتين جمع مذكر وهي أنثى، وكان القياس أن يقال: وكانت من القانتات، فلِمَ قال: وكانت من القانتين؟ (من القانتين) أي من القوم القانتين.
و "مِن" ليست للتبعيض ولكن "مِن" للابتداء، أي وكانت من نسل قوم قانتين، فهي من نسل امرأة عمران ومن نسل الأنبياء، فكانت من القانتين: أي من نسل قوم قانتين، و (مِن) الابتداء، لابتداء الغاية. أو (مِن) للتبعيض أي كانت من القوم القانتين، لذا لم يقل من القانتات. أو (من القانتين) للتغليب حيث تَغْلِب الذكورة على الأنوثة. وهناك رأي جميل ومُقنِع يقول: قال ربنا في شأنها (وكانت من القانتين) وكأنه يُشعِر السامع أن أعمال مريم لا تَقصُر عن أعمال الرجال فهي في مستوى الرجال، لأنه من المعلوم أن عمل الرجل أكثر من عمل المرأة؛ يحج كل عام ويغزو ويجاهد ويعتمر ويفعل ويفعل، والمرأة ناقصة في دينها حيث تحيض فلا تصوم ولا تصلي، تُعِيد الصيام ولا تعيد الصلاة فينقص دينها بنقص الصلاة، والرجل يغزو والمرأة لا تغزو، والمرأة إن حَجَّت حَجَّت مرة والرجل يحج مرة ومرة، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) عن مريم: (وكانت من القانتين) أي لم يكن عملها يَقصُر عن عمل الرجال، فشُبِّهَت ووُضِعَت في ميزان القانتين الرجال، وكأنه يُشعِرُنا بذلك ويقول أيها الرجال ها هي امرأة وأنتم رجال، فكيف أنتم وكيف تكونون؟ من هنا نعلم بضرب الأمثال أن الكافر لا تنفعه شفاعة قريبه المؤمن وإن كان أبوه وإن كان أخوه أو ابنه أو كان زوجها، وأن المؤمن لا يضره كفر الكافر وإن كان الكافر أبوه كإبراهيم، مهما كان الكافر قريب أب أو ابن أو زوج لا يضر المؤمن (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعاً). أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "كَمُلَ من الرجال كثير -والكمال في الرجال درجة النبوة- ولم يَكمُل من النساء سوى آسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" أربع نساء فقط على مدار عمر الدنيا، أربع نساء هن سيدات نساء أهل الجنة.
وقد زَوَّجَ الله (تبارك وتعالى) حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من ثلاث: آسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى التي قالت أمها لها قُصِّيه فبَصُرَت به عن جُنُبٍ وهم لا يشعرون، وحين جاء جبريل يخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الله سوف يقبض روح خديجة وجاء مَلَكُ الموت يستأذن، نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة الحبيبة، الأم الرءوم، سيدة الدنيا بأسرها وقال: "يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من الله" فقالت: وعلى جبريل السلام، قال: "يا خديجة يُبَشِّرُكِ ببيتٍ في الجنة من قَصَب لا صَخَب فيه ولا نَصَب يا خديجة بالكُرْه مني ما أبشرك يا خديجة وقد يجعل الله في الكُره خيراً كثيراً، أشَعُرْتِ يا خديجة أن الله زَوَّجَني معكِ في الجنة بآسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران؟ " قالت: أو قد فعل يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قالت: فبالرفاء والبنين يا رسول الله، قال: "يا خديجة إذا قَدِمْتِ على ضراتك فأقرئيهن مني السلام" أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
تلك امرأة فرعون، يضرب ربنا بها المثل وكأنه يُعَرِّض بالكلام لعائشة وحفصة حيث عُوتِبَتا في أول السورة: (إن تتوبا فقد صغت قلوبكما) وكأنه يقول لعائشة وحفصة ولأزواج النبي أمهات المؤمنين: لا تَكُنَّ أقل من آسيا، كيف كانت آسيا؟ أنتن زوجات سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) لا عذر لَكُنَّ في الخطأ، وهذه زوجة جبار في الأرض تابت ولجأت إلى الله ولم تخطئ، هي المثل والمثل الأعلى، وكأنه يخاطب الرجال: لا تكونوا أقل شأناً من امرأة، وكأنه يخاطب أصحاب الحق ويخاطب ألسنة الحق كي لا تُشَلّ أمام الظلم، يخاطب العلماء كي ينطقوا بكلمة الحق أمام الجبابرة، لا تخف ولا تخشَ ولا تكن أقل من امرأة صبرت أمام جبار يُعبَد في الأرض من دون الله، يسجد له الناس، صمدت وآمنت وأعلنت إيمانها ولجأت إلى الله فنجاها ﴿وكذلك ننجِ المؤمنين﴾ ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ ﴿فنفخنا فيها﴾ قراءة. ﴿بكلمة ربها وكتابه﴾ قراءة. (وكُتْبِه﴾ قراءة. الفَرْج: جيب الجلباب، وكل فتحة تُسَمَّى فَرْج وفُرْجَة. وربنا (تبارك وتعالى) يقول: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فُرُوج): من شقوق، من فتحات، فكل شَقٍّ في جلباب أو في قميص يسمى جيباً ويسمى فَرْجاً. وقد جاء جبريل فنفخ في جيبها، في فتحة قميصها، نفخ بأمر الله. من هنا قرأ أُبَيُّ هذه الآية: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا في جيبها من روحنا) لأن الآية تقول: (فنفخنا فيه) والنفخ لم يكن في الفرج العورة، المكان، وإنما كان في جيب القميص، من هنا قُرِئت: (فيها)، ومن هنا قُرِأَ: (في جيبها)، ومن هنا فُسِّرَت كلمة الفَرْج بمعنى الجيب والشق، كما وصف ربنا (تبارك وتعالى) السماء: (وما لها من فروج).
وإن كان الفَرْج المقصود به العضو المعروف إذاً فالكلام: أحصنت فرجها فنفخنا فيه –فَرْجَها- فنفخنا فيه، والضمير عائد على الجيب، فنفخنا في جيبها. ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾: حَفِظَتْه. وإحصان الفرج كناية عن العفة، وإحصان الفرج للمرأة أمر غاية في الرقي والأهمية وبه تدخل الجنة إن آمنت، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من صَلَّت فرضها وصامت شهرها وحَفِظَت فرجها وأطاعت زوجها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) عفة النساء هي تاج صلاحهن وهي علامة إيمانهن. ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ أو (فيها)؛ في جيبها، أي أمرنا جبريل فنفخ بأمرنا. (مِنْ رُوحِنَا) أي نفخنا فيه روحاً من أرواحنا ألا وهي روح عيسى ابن مريم، نَفَخَ الروح في جيبها فدخل إليها فحملت بعيسى. ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ صَدَّقَت بكلمات جبريل، صَدَّقَت بكلمات الله حين جاء جبريل وقال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [سورة مريم آية: ١٩] أو صَدَّقَت بكلمة ربها -عيسى ابن مريم- أول من آمن به مريم، آمنت به من قبل أن يولد لأن الله أنبأها: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(٤٥)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ(٤٦)﴾ [سورة آل عمران آية: ٤٥- ٤٦] صَدَّقَت بكلمات ربها؛ عيسى كلمة الله وروحه، وكُتُبه: كتابه الإنجيل، وكُتُبه: اسم جنس؛ جميع الكتب السماوية. ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ والقانتين جمع مذكر وهي أنثى، وكان القياس أن يقال: وكانت من القانتات، فلِمَ قال: وكانت من القانتين؟ (من القانتين) أي من القوم القانتين.
و "مِن" ليست للتبعيض ولكن "مِن" للابتداء، أي وكانت من نسل قوم قانتين، فهي من نسل امرأة عمران ومن نسل الأنبياء، فكانت من القانتين: أي من نسل قوم قانتين، و (مِن) الابتداء، لابتداء الغاية. أو (مِن) للتبعيض أي كانت من القوم القانتين، لذا لم يقل من القانتات. أو (من القانتين) للتغليب حيث تَغْلِب الذكورة على الأنوثة. وهناك رأي جميل ومُقنِع يقول: قال ربنا في شأنها (وكانت من القانتين) وكأنه يُشعِر السامع أن أعمال مريم لا تَقصُر عن أعمال الرجال فهي في مستوى الرجال، لأنه من المعلوم أن عمل الرجل أكثر من عمل المرأة؛ يحج كل عام ويغزو ويجاهد ويعتمر ويفعل ويفعل، والمرأة ناقصة في دينها حيث تحيض فلا تصوم ولا تصلي، تُعِيد الصيام ولا تعيد الصلاة فينقص دينها بنقص الصلاة، والرجل يغزو والمرأة لا تغزو، والمرأة إن حَجَّت حَجَّت مرة والرجل يحج مرة ومرة، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) عن مريم: (وكانت من القانتين) أي لم يكن عملها يَقصُر عن عمل الرجال، فشُبِّهَت ووُضِعَت في ميزان القانتين الرجال، وكأنه يُشعِرُنا بذلك ويقول أيها الرجال ها هي امرأة وأنتم رجال، فكيف أنتم وكيف تكونون؟ من هنا نعلم بضرب الأمثال أن الكافر لا تنفعه شفاعة قريبه المؤمن وإن كان أبوه وإن كان أخوه أو ابنه أو كان زوجها، وأن المؤمن لا يضره كفر الكافر وإن كان الكافر أبوه كإبراهيم، مهما كان الكافر قريب أب أو ابن أو زوج لا يضر المؤمن (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعاً). أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "كَمُلَ من الرجال كثير -والكمال في الرجال درجة النبوة- ولم يَكمُل من النساء سوى آسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" أربع نساء فقط على مدار عمر الدنيا، أربع نساء هن سيدات نساء أهل الجنة.
وقد زَوَّجَ الله (تبارك وتعالى) حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من ثلاث: آسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى التي قالت أمها لها قُصِّيه فبَصُرَت به عن جُنُبٍ وهم لا يشعرون، وحين جاء جبريل يخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الله سوف يقبض روح خديجة وجاء مَلَكُ الموت يستأذن، نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة الحبيبة، الأم الرءوم، سيدة الدنيا بأسرها وقال: "يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من الله" فقالت: وعلى جبريل السلام، قال: "يا خديجة يُبَشِّرُكِ ببيتٍ في الجنة من قَصَب لا صَخَب فيه ولا نَصَب يا خديجة بالكُرْه مني ما أبشرك يا خديجة وقد يجعل الله في الكُره خيراً كثيراً، أشَعُرْتِ يا خديجة أن الله زَوَّجَني معكِ في الجنة بآسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران؟ " قالت: أو قد فعل يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قالت: فبالرفاء والبنين يا رسول الله، قال: "يا خديجة إذا قَدِمْتِ على ضراتك فأقرئيهن مني السلام" أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).