سورة الطلاق

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة الطلاق، سورة مدنية نزلت لتبين أحكام الطلاق السُّنِّي الحلال وتنهى عن الطلاق الحرام، تبين كيفية الحفاظ على الأسرة وعلى الذرية وعلى العشرة بالمعروف، تبين تقوى الله في أخص ما يخص الإنسان ألا وهو بيته وأهله، تبين وجوب العدة ومقدار العدة وأنواع العدة، تبين النفقة، تبين السُّكنَى، تبين الحدود؛ حدود الله، تضيء الظلمات، تخرج الناس من الظلمات إلى النور، تحفظ الأنساب‫.‬ والطلاق على أربعة أقسام‫:‬ اثنان منه حلال واثنان منه حرام، الحلال من الطلاق أن يطلق الرجل امرأته في طُهْرٍ لم يجامعها فيه، أو أن يطلقها وهي حامل قد استبان حملها‫.‬ وأما الطلاق الحرام فأن يطلقها الرجل وهي حائض، أو يطلقها بعد الجماع دون أن يدري أحاملٌ هي أم لا، طلاق حرام أَيَقَع أم لا؟ ورُوِيَ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) غضب على حفصة بنت عمر، أم المؤمنين، حين أفشت حديثه إلى عائشة فطلقها طلقةً رجعية، فلحقت بأهلها فنزل جبريل يقول له‫:‬ يا محمد إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة، وبَيَّنَ أن لحوقها بأهلها ما كان واجباً وما كان صحيحاً. وأيضاً رُوِيَ أن عبد الله بن عمر طلق امرأته فذهب عمر فحكى ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتغيظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غيظاً شديداً وقال‫:‬ "يا عمر مُرْهُ فليراجعها حتى تَطهُر ثم تحيض ثم تَطهُر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها بغير أن يجامعها". من أجل هذا ومن أجل ما حدث من الناس في أمور طلاق ما أنزل الله به من سلطان نزلت سورة الطلاق تبين الأحكام‫.‬ وافتُتِحَت السورة بتعظيم النبي (صلى الله عليه وسلم) وتشريفه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا۟ ٱلْعِدَّةَ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَـٰحِشَةٍۢ مُّبَيِّنَةٍۢ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُۥ ۚ لَا تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًۭا ﴿1﴾
‫﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الخطاب له وجاء بصيغة الجمع للتعظيم والتشريف‫:‬ ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ولم يقل (إذا طَلَّقْتَ) فبدأ بخطاب النبي (صلى الله عليه وسلم) بصيغة الجمع تقديماً له وتشريفاً له وتعظيماً له وكأن الخطاب له خطاب للأمة فهو إمام الأمة وقائدها وهو الأسوة، وكأن الخطاب له خطاب للأمة جميعها‫.‬ وقيل بل قُدِّمَ ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) للتبريك والتشريف والتعظيم فقط‫:‬ ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ وانتهى الكلام، وبدأت الأحكام والخطاب للناس‫:‬ ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٩٠] فَقَدَّمَ الخطاب للمؤمنين تشريفاً لهم ثم توجه الخطاب لعامة الناس بتحريم الخمر وما إلى ذلك‫.‬ وقيل بل الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة والأحكام عامة له وللأمة‫.‬ ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ أي إذا أردتم تطليق النساء‫.‬ ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ واللام للتوقيت‫.‬ وكل لام جاءت في كلامٍ عن زمان فهي للتوقيت، أي‫:‬ طلقوهن في عدتهن، تحديد الوقت، متى يتم الطلاق، اللام للتوقيت بمعنى تُحَدِّد لك الوقت الذي يتم فيه الطلاق‫.‬ والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده؛ فإذا أُمِرْتَ بفعل شيء في وقتٍ ما إذاً فقد نُهِيتَ عن أن تفعل الفعل في وقتٍ آخر، طالما أُمِرْتَ بشيءٍ معنى ذلك أنك قد نُهِيتَ عن ضده‫.‬ ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي في عدتهن‫.‬ والعِدَّة‫:‬ المدة التي تَحتَبِسُ فيها المرأة لتتبين براءة الرحم من الحمل، تلك هي العِدَّة‫.‬ طلقوهن لعدتهن، إذاً فالعِدَّة بنص الآية من حيث ظاهر اللفظ هي الطُّهر، ثلاثة قُروء (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) القُرْء‫:‬ الطُّهر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ظاهر اللفظ يدل على ذلك، وإن كان بعض الفقهاء قال إن القُرْء‫:‬ الحيض؛ ثلاث حيضات وليس ثلاث طهورات، إن كان كذلك فاللام متعلقة بمحذوف تقديره‫:‬ فطلقوهن مُستَقبِلاتٍ لعدتهن‫.‬ والرأي الأرجح أن القُرء هو الطُّهر فتُحتَسَب العدة بثلاثة طهورات وليس ثلاث حيضات‫.‬ إذاً لكي يطلق الرجل زوجته يطلقها بعد أن تطهر من حيضها وبشرط ألا يمسها قبل الطلاق فتكون طاهراً بغير مسيس فيطلقها، أو تكون حاملاً قد تَبَيَّنَ حملها، إذ عدة المرأة إما ثلاث طهورات بعد أن يطلقها بغير مَسٍّ في طُهْر، أو و هي حامل، وعِدَّةِ الحامل أن تضع حملها‫.‬ ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي لثلاث طهورات، مُستَقبِلاتٍ لطُهر ثم طُهر ثم طُهر، أو لوضع الحمل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾: احسبوا العدة بالحساب‫.‬ والخطاب من حيث الظاهر للرجال‫.‬ وقال بعض الناس بل الخطاب للمسلمين يحصون العدة على المُطَلِّق، أولياء الأمر‫.‬ وقيل بل الخطاب للنساء لأن المرأة هي التي تعلم متى تحيض ومتى تطهر‫.‬ لكن الرأي الأصوب والأرجح أن الخطاب للزوج لأن الماء ماؤه والوَلَدُ وَلَدُه والنَّسَبُ نَسَبُه فعليه أن يحفظ تاريخ الطلاق ويحصي العدة من أجل نفسه، وإن كان الخطاب له إلا أن الأمر متعلق بالزوجة أيضاً.‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ والأمر بالتقوى لأن هذه الأمور تتعلق بالعبد مع ربه، فتلك أمور تتم في البيوت وبين أربعة جدران وتعتمد أساساً على النية، وربنا يريد أن يحفظ الأنساب ويحفظ على الناس حياتهم، فتقوى الله مطلوبة لأن الرجل إذا طَلَّقَ قد يُطَلِّق المرأة في مواجهتها وقد يُطَلِّقها غيابياً والمرأة قد لا تدري وقد لا تعلم، وإحصاء العدة مطلوب فيه تقوى الله لأنه هو الذي طَلَّق وهو الذي يعرف متى طَلَّق، وهي أيضاً تعرف متى تحيض، وأتحيض أم لا، وأَحَامِلٌ هي أم لا، وعليها ألا تكتم ما خلق الله في رَحِمِها إن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر، فالأمر مطلوب فيه التقوى لأنه أمر غير ظاهر للناس بل هو علاقة بين الرجل وامرأته بين أربعة جدران‫.‬ ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ حُكمٌ آخر؛ الحُكمُ الأول أن يتم الطلاق والمرأة مستقبلة لعدتها؛ أن يكون الطلاق في طُهرٍ لم يجامعها فيه‫.‬ الحُكمُ الثاني إحصاء العدة‫.‬ الأمر الثالث إذا طُلِّقَت المرأة وجب أن تبقى في مسكن الزوجية لانتهاء وانقضاء عدتها فإن أخرجها زوجها كان عاصياً لله‫.‬ ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ وإضافة البيت إليها إضافة سُكنَى وليس إضافة مِلْك، كقول الله لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٣٤] وكقوله‫:‬ ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٣٣] والبيوت بيوت النبي (صلى الله عليه وسلم) فإضافة البيت للمرأة إضافة سُكنى وليس إضافة مِلك‫.‬ لكن الله أضاف البيت إليها ليُشعِرُك أيها الرجل أن من حق المرأة أن تبقى في بيت الزوجية بعد الطلاق وكأنها مالكة له‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والأمر للنساء، بعد أن أمر الرجال –الأزواج- أن يبقوا الزوجات في بيت الزوجية بعد الطلاق لفترة العدة، أمر النساء بعدم الخروج فتكرر النهي -نهى الرجال ونهى النساء- للتأكيد‫.‬ (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) والاستثناء (إلا أن يأتين) إذا كان الاستثناء من الأول (لا تخرجوهن) الأمر للرجال إلا في حالة واحدة؛ إذا جاءت المرأة بفاحشةٍ مُبَيِّنة وهي الزنا فلابد أن يُخرِجَها من بيته ليقام عليها الحد‫.‬ وقيل الفاحشة‫:‬ كل جريمة فيها الحد كالسرقة، فتُخرَج حتى يقام عليها الحد‫.‬ وقال بعض الفقهاء‫:‬ أيضاً من الفاحشة البذاء على أحمائها، بذيئة اللسان فتشتم وتَسُبُّ، امرأة ناشز، فتخطئ في حق الأحماء -والد الزوج ووالدة الزوج- قالوا البذاء على الأحماء من الفواحش فتُخرَج حتى لا تحدث وتحصل المشاكل والعداوة والبغضاء‫.‬ وإن كان الاستثناء من قوله‫:‬ (ولا يخرجن) تَغَيَّرُ المعنى؛ معنى ذلك أي‫:‬ لا تخرجوهن أنتم وهُنَّ لا يخرجن إلا إن خرجن تعدياً، وخروج المرأة المطلقة من بيت الزوجية بعد الطلاق وقبل انقضاء العدة يُعَدُّ فاحشة، وكأن المرأة إذا طُلِّقَت طلاقاً رجعياً فخرجت من بيت زوجها بعد الطلاق وقبل انقضاء العدة كانت مرتكبة للفاحشة، حكم خروج المرأة كحكم الزنا والسرقة والخمر وحكم الكبائر التي يقام فيها الحد، إذاً فخروج المرأة يُعَدُّ فاحشة يعد فاحشة إذا كان الاستثناء من الثاني‫.‬ والاستثناء يَعُمُّ الأمرين؛ لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فذاك حُكم للرجل‫:‬ إذا طلق امرأته لا يخرجها من بيت الزوجية إلا في حالة واحدة وهي أن تخرج لإقامة الحد عليها أو للبذاء على الأحماء، والأمر الثاني (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) إذاً فخروج المرأة المطلقة قبل انقضاء العدة من بيت الزوجية يُعَدُّ من الفواحش‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أَتُحبَسُ في البيت؟ قال بعض العلماء‫:‬ لا تخرج مطلقاً لا ليلاً ولا نهاراً. وقال بعضهم‫:‬ بل تخرج نهاراً للضرورة ولا تخرج ليلاً لحفظ ماء الرجل ولصيانة المرأة‫.‬ والحكم فيه رحمة لأن بقاء الزوجة في بيت الزوجية فترة العدة قد يجعل الرجل يلين ويذهب غضبه ويتحول قلبه من البغض فيها إلى الرغبة فيها، ومن العزم على الطلاق إلى النية في الرجوع، وقد وقد وقد‫.‬ من هنا يقول الله‫:‬ (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: أحكامه وقضاؤه‫.‬ ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ ظلم نفسه بأن عرضها للعقاب وعرض نفسه لغضب الجبار‫.‬ أيضاً قد يندم ويريد الرجعة ولا يتمكن من ذلك‫.‬ من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه دنيا وأخرى‫.‬ ﴿لَا تَدْرِي﴾ لا تدري أيها النبي، لا تدري أيها المُطَلِّق، لا تدري أيها المخاطَب، لا تدري أيها السامع، ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ مُقَلِّبُ القلوب والأبصار، يُقَلِّبُ القلب من البغض إلى الحب، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، من يدري؟ الله (تبارك وتعالى) يقلب القلوب والأبصار، لا تدري لعل الله يُحدِثُ بعد ذلك -بعد هذا الطلاق- أمراً فيراجعها فيميل إليها فتعتذر له، هما في بيت الزوجية يراها وتراه‫.‬ ولذا قال العلماء‫:‬ إن طلاق المرأة وهي حائض حرام، واختلفوا أيقع أم لا‫.‬ والرأي الأصوب والأصح والأرجح إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض وقع الطلاق وأَثِمَ هو بمخالفة السنة وعوقب على ذلك‫.‬ وإن كان سعيد بن المسيب وكثير من التابعين قالوا إن الطلاق لا يقع لأنه غير سني؛ طلاق بدعي‫.‬ لكن الأرجح والأصوب -والله أعلم- أن الطلاق يقع لكن الزوج يأثم‫.‬ قالوا حَرَّمَ الله الطلاق في الحيض لأسباب‫:‬ أولاً ينفر الزوج من زوجته وهي حائض -طبيعة الأشياء- فيطلقها في غضبه ولأتفه الأسباب، أما إن كانت طاهراً فهي في فراشه، يأتيها، لا ينفر منها، فقد لا يطلقها لأتفه الأسباب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الأمر الثاني‫:‬ أن الثلاث طلقات في كلمة واحدة حرام، فقال بعضهم أن الطلاق لا يقع إلا واحدة، وقال بعضهم بل تقع الثلاث بكلمة واحدة، وساقوا على ذلك أدلة وهو الأرجح والصواب‫.‬ قالوا إن الله (تبارك وتعالى) أمر بهذا الطلاق‫:‬ ألا يكون في الحيض حتى لا يغضب أو يكون نافراً من زوجته، فلا بد أن تكون طاهراً مستعدة للمباشرة وللفراش‫.‬ الأمر الثاني‫:‬ لو طلقها وهي حائض طالت مدة العدة‫.‬ الأمر الثالث‫:‬ أنه إن طلقها واحدة في طُهر وبقيت في مسكن الزوجية قد يتراجعا، ولها هذه العدة ثلاثة قروء، ثلاثة طهورات، فإن راجعها في العدة فلكي يطلقها مرة ثانية لابد وأن ينتظر حتى تحيض ثم تطهر ثم لا يجامعها ثم يطلقها، أن يكون الطلاق على مراحل؛ مرة ثم مرة ثم مرة فتَبِينَ منه وتَحرُم عليه، هذا الأمر يحافظ على البيت وعلى الزوجية ويجعل الرجل يتروى ويجعل المرأة تحفظ على نفسها بيتها وأولادها وزوجها، أما أن يسارع ويغضب فيطلق ثلاث طلقات في وقت واحد، في كلمة واحدة، لا رجعة لها وقد بانت منه، فإن ندم فكيف يُصلِحُ أمره؟ من هنا يقول الله‫:‬ ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ ظلم نفسه أولاً إذ عاد الضر عليه فقد يطلقها ثلاثاً ويريد أن يعود في كلامه، أنّى له ذلك وقد بانت المرأة منه؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ وَأَشْهِدُوا۟ ذَوَىْ عَدْلٍۢ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًۭا ﴿2﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِۦ ۚ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍۢ قَدْرًۭا ﴿3﴾
‫﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾: انتهت فترة العدة، أوشكت على الانتهاء، لأنه إذا أراد أن يراجعها وجب أن يراجعها قبل أن تنقضي العدة‫.‬ فإذا بلغن أجلهن‫:‬ أي أوشكن على الانتهاء من فترة العدة‫.‬ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والإمساك بمعروف‫:‬ المعاشرة بإحسان، والإنفاق بغير إمساك وبغير بخل، بمودة، بمحبة، بِنِيَّة الاستمرار في العشرة وليس بِنِيَّة الإضرار، لأنه قد تنتهي عدة المرأة وقبل أن تنتهي بيومين يراجعها فتبقى معه فترة ثم يطلقها فَتَحسِب العدة من أول وجديد، ثم يراجعها ثم يطلقها ليطيل فترة العدة، وذاك إضرار لا يرضى الله به‫.‬ من هنا قال‫:‬ ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي بحسن معاشرة، بحسن خلق، بإنفاق دون بخل أو شح أو إمساك، بنية استمرار العشرة وليس بنية الإضرار‫.‬ ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ المفارقة بمعروف‫:‬ أن تُعطَى الزوجة المطَلَّقة حقها من صداق، أن تعطى مؤخر صداقها، النفقة، المتعة، السكنى، أجر الرضاع إن كانت مُرضِع إلى آخر هذه الأحكام‫.‬ ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ ذوَيْ عدل‫:‬ ﴿ذَوَيْ﴾: مُذَكَّر، إذاً فقد تحدد الأمر بالشهود أن يكون الشهود رجالاً ولا مدخل للنساء في هذا‫.‬ ولذا قال بعض الفقهاء‫:‬ إن النساء يشهدن في أمر واحد وهو الأموال فقط‫:‬ (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) في الأموال فقط، أما في الزواج والطلاق والعتاق وما إلى ذلك فلا تصح شهادة النساء لأن الله يقول‫:‬ (فأشهدوا ذوَيْ عدل) رجال‫.‬ وذو العدل من الرجال‫:‬ أن يكون مسلماً، أن يكون بالغاً، أن يكون حراً، أن يكون مشهوراً له بالصلاح غير مشهور بالفسق أو الفساد، أن وأن وأن‫.‬ شروط العدلية يجب أن تتوافر في الشهود‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(أشهدوا ذوَيْ عدل منكم) الأمر هنا على الوجوب أم على الندب؟ قال بعض الناس‫:‬ الأمر للندب وليس الإشهاد مطلوباً أو مأموراً به على الوجوب كقوله الله‫:‬ (وأشهدوا إذا تبايعتم) الأمر على الندب، يُندَب لكن ليس مأموراً به، أنت تشتري السلعة منك إلى البائع ولا يوجد شهود وإلا كانت البيوع جميعها حراماً لأنها بغير إشهاد فأنت تشتري الثوب وتشتري الحذاء بغير شهود، بكم؟ بكذا، تتراضى أنت والبائع فتشتري منه السلعة بغير إشهاد، من هنا قالوا (وأشهدوا إذا تبايعتم) أمرٌ على الندب وليس على الوجوب، وهنا كذلك‫:‬ (وأشهدوا ذوي عدل منكم) على الندب، فقد يُشهِدُ الرجل على الطلاق أو على الرجعة وقد لا يُشهِد فالأمر على الندب‫.‬ وقال بعض الأئمة‫:‬ بل في حالة الرجعة بالذات لابد من الإشهاد، أما في حالة الطلاق فلا شرط في الإشهاد، وإنما الإشهاد يجب في حالة الرجعة لأنه إذا راجعها لابد من الإشهاد لأن الرجعة يترتب عليها أحكام أخرى، منها‫:‬ إذا مات أحدهما ورثه الآخر، فإن راجعها ومات تَرِثُه أما إذا لم يراجعها ومات فلا تَرِثُه، من هنا وجب الإشهاد في الرجعة لما يترتب من أحكام بعد ذلك على الرجعة من نَسَبٍ وأولاد، قد يُنكَرُ النسب، كذلك من حيث المواريث‫.‬ (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) والخطاب للشهداء‫.‬ إن أَشْهَدْتُم، وإن أتينا بالشهود، يخاطبهم ربنا (تبارك وتعالى) هؤلاء الذين سوف يشهدون‫.‬ ورغم أنك تتحرى في الشاهد أن يكون ذا عدل إلا أن الله يؤكد ويخاطب الشاهد ويقول له‫:‬ ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ أي أن تشهد بالحق وبالعدل، لا تتحيز للزوج ولا تتحيز للزوجة، يجب أن تكون شهادتك خالصة لوجه الله الكريم، صادقة، تشهد بما تعلم وتشهد بالحق‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ومن هنا يتبين لك شهود المحاكم الذين يشهدون ويجاملون الزوجة فيقولون‫:‬ لقد اختلى بها فتجب لها النفقة من غير دخول، أو يقولون‫:‬ واللهِ لا ينفق عليها فتجب لها النفقة وقد أنفق من قبل، وهؤلاء الذين يأتون فيشهدون لصالح الزوج يجاملون الزوج، تلك المجاملات لا نتيجة لها إلا جهنم وبئس المصير! شهادة الزور أكبر الكبائر بعد الشرك بالله! "الشرك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور" لا نتيجة لها إلا جهنم وبئس المصير‫.‬ من هنا يحذر ربنا الشهود ويقول‫:‬ ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾. ﴿ذَلِكُمْ﴾: هذه الأوامر وتلك الأحكام وهذا التهديد والتحذير‫.‬ ﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي أن الكلام ينفع المؤمن فيتذكر، لأن المؤمن يريد أن يرضي ربه، ولأن المؤمن يخاف عقاب ربه، ولأن المؤمن يريد أن يعرف الصواب من الخطأ، فيتصرف طبقاً لما أمر به الله وطبقاً لما سَنَّه رسول الله‫.‬ أما غير المؤمن فلا يجدي معه الكلام؛ يرمي أيمان الطلاق، يبيع ويشتري في السلعة ويحلف بالطلاق، يهدد امرأته فيحلف بالطلاق، يطلقها ثم يراجعها دون أن يحصي العدة، مرات ومرات فيعيش هو وهي في الحرام ويأتون بأولاد من حرام، يأتون بنسل من سفاح، هذا الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يطلقها في حيضها، يُضَارَّها، لا ينفق عليها، لا يعاشرها بالمعروف، إن فارقها لا يفارقها بالمعروف‫.‬ إذاً فهذه التعليمات وهذه الأوامر وهذه الأحكام لمن؟ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أما غير ذلك ومن يتعد حدود الله ويفعل بغير ما أمر الله فهو ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر‫.‬ من هنا يقول الله‫:‬ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ الأمر بالتقوى مرة ثانية في صيغة الخبر، بالوعد‫.‬ وجاءت التقوى والأمر بالتقوى في هذه السورة كثيراً؛ مرة بالترغيب ومرة بالترهيب‫.‬ قال العلماء‫:‬ هذا الكلام في شأن الطلاق فقط‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من يتق الله فيطلق كما أمر، يجعل له مخرجاً فيستطيع أن يراجع المرأة، فقد طلقها طلقة واحدة وفي طُهر دون أن يمسها وهي باقية في مسكن الزوجية لم تخرج منه فقد يحدث بينهم المراجعة، وقد يحدث وقد يحدث، حيث قال العلماء‫:‬ لو لمسها بيده لمسة شهوة رجعت ولو لم ينوِ ذلك ولو لم يتكلم‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ لو نظر إليها، مَرَّت أمامه فنظر إليها نظرة شهوة رجعت إليه‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ لابد من أن ينوي الرجعة ولكنهم أجمعوا على أن الوطء رجعة نوى أو لم ينوِ، طالما وطئها -أي جامعها- رَجَعَت نوى ذلك أو لم ينوِ ذلك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫إذاً فبقاء المرأة في بيت الزوجية في فترة العدة لصالحها ولصالحه، لأنه إذا كان هو وهي في مسكن واحد ثلاثة أشهر، شهران، فترة العدة، لابد وأن يسكن غضبه، لابد وأن يذهب غيظه، لابد وأن يشفق عليها، لابد وأن تشعر بالوحدة، لابد وأن تبدي أسفها، لابد وأن يحدث شيء، وذلك الذي وعد به الله حيث يقول‫:‬ (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وكلمة (لعل) وكلمة (عسى) في كلام الناس تفيد الترديد والترجي، قد وقد لا، (عسى أن آتيك غداً) قد آتي وقد لا آتي، (لعلي أراك غداً) قد وقد، أما إذا قال الله (عسى) فهي واجبة لأنه لا يُرَجِّيك ثم يُخَيِّبُ رجاءك أبداً، بل حين وعد المصطفى بالمقام المحمود قال له‫:‬ ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٧٩] فهل المقام المحمود قد وقد لا؟ أم هو واجب؟ واجب متحقق، إذاً فكلمة (عسى) إذا قالها الله تفيد التحقيق والوجوب وكذلك كلمة (لعل)، فإذا قال‫:‬ ﴿لعل الله يُحدِثُ بعد ذلك أمراً﴾ إذاً فذاك وعد بأن الطلاق إذا تم بأمر الله كما أمر ربنا وكما سَنَّ رسول الله وبقيت الزوجة في بيت الزوجية لابد وأن تحدث الرجعة، لأن الله تبارك وتعالى يجعل من كل ضيق مخرجاً، لعل الله يُحدِثُ بعد ذلك أمراً، تبقى البيوت وتبقى العشرة وتتربى الأولاد في ظل الأب وفي ظل الأم، الأب يسعى والأم ترعى والرب من وراء ذلك يكلأ ويعتني، نعم لا تدري لعل الله يُحدِثُ بعد ذلك أمراً.‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ هذا الكلام للمطلِّقْ وللمرأة، أي إذا اتقت ربها فلم تخرج وإذا اتقى ربه فلم يُخرِجها وإذا اتقى الله فطلقها لعدتها، إذا اتقى الله فعاشرها بمعروف، إذا اتقى الله في كل ذلك جعل الله له مخرجاً من كل ضيق فاستطاع أن يُرَاجِعها وكان بيده الفرصة، أما إذا طلقها ثلاثاً فكيف يجد المخرج؟ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(٢)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يُوَسِّع ويبارك له في الرزق، حيث أنفق على امرأته وأسكنها رغم أنه قد طلقها -في فترة العدة- قال بعضهم أن الآية خاصة بهذا الأمر، وقال بعض الناس أن الآية عامة في هذا وفي كل أمر (من يتق الله يجعل له مخرجاً) من كل ضيقٍ فرجاً ومن كل هم مخرجاً إذاً فالآية عامة‫.‬‬‬‬
‫وقد رُوِيَ أن الآية نزلت في شأن سالم بن عمرو بن عوف، فقد ذهب عمرو بن عوف إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حزيناً، قال‫:‬ يا رسول الله أَسَرَ العدو سالماً -سالم بن عمرو بن عوف- أسر العدو سالماً وقد جَزِعَت أمه وهي تبكي فماذا نفعل يا رسول الله؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا عمرو اتق الله واصبر وداوم أنت وهي –هو وامرأته أم الأسير- على قول لا حول ولا قوة إلا بالله" فعاد عمرو إلى بيته وقال لامرأته‫:‬ ذهبتُ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشكو، فقال اتق الله واصبر وداوم على قولك لا حول ولا قوة إلا بالله وأن آمرك أيضاً بذلك، فقالت‫:‬ نِعْمَ ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وظلا يداومان على قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا بالابن الأسير تغفل عنه عيون أعدائه فيَفُكُّ قيده ويجد ناقة فيركب ويسير فيجد إبلاً كثيرة للعدو فيستاق منها مائة من الإبل ويأتي على باب أبيه ويدق الباب، ويخرج الأب فيجد ابنه سليماً معافى ومعه مائة من الإبل، وقال بعضهم بل هي ألف شاة، فنزلت الآية‫:‬ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(٢)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.‬‬‬‬‬‬
‫فقد وعد الله كل تقي أن يجعل له من كل ضيقٍ مخرجاً ومن كل هَمٍّ فرجاً ومن كل عُسرٍ يُسراً، حَقٌّ على الله من توكل عليه كفاه ومن وثق به نجاه ومن آمن به هداه ومن دعاه وسأله لَبَّاه، حَقٌّ على الله من يؤمن بالله يَهْدِ قلبَه، ومن يتوكل على الله فهو حَسْبُه، ما من عبدٍ يلجأ إلى الله ويتق الله إلا ويكون الله معه يرعاه ويهتم بشئونه وييسر له كل عسير، ويُقَنِّعُه بما أعطاه ويُرضيه بما رزقه، من يتق الله يجعل له مخرجاً، مخرجاً من النار إلى الجنة، مخرجاً من الضيق إلى الفرج، مخرجاً من المعصية إلى الطاعة، مخرجاً من الظلمات إلى النور، مخرجاً من الهم إلى السرور، من أي ضيق أياً كان الضيق لأن الله لم يذكر أي ضيق، مخرج من أي شيء أراد الخروج أخرجه الله الذي يُخرِجُ الحي من الميت ويُخرِجُ الميت من الحي‫.‬ يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، يأتيك الرزق من حيث لا يخطر ببالك، يأتيك من حيث لا تتوقع، والله (تبارك وتعالى) هو الرزاق ذو القوة المتين، لا مانع لما أعطى ولا مُعطِي لما مَنَع‫.‬ ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فهو حَسْبُه‫:‬ كافيه، يكفيك شَرَّ كُلِّ ذي شر، لأن ما من شيء إلا وهو آخذ بناصيته، ما من شيء في هذا الوجود إلا والله آخذٌ بناصيته، فأي شيء تخاف؟ الفقر؟ الله خالق الفقر والغنى والله لديه الرزق، تخاف المرض؟ (وإذا مَرِضتُ فهو يشفين) فما من ميكروب، ما من داء، ما من مرض، ما من جرثوم إلا والله آخذ بناصيته، تخاف من سبْع؟ الله آخذ بناصيته، تخاف من حاكم؟ الله آخذ بناصيته، ما من شيء إلا والله آخذ بناصيته، إذاً فالله واحد وهو القهار، هو الأحد، من يتوكل على الله فهو حَسْبُه‫.‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ﴿بالِغٌ أمرُه﴾ ﴿بالِغٌ أمرَه﴾ ﴿بالغاً أمرَه﴾ ﴿بالغُ أمرِه﴾ أربع قراءات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أي إن الأمور بالمقادير، وما من أمرٍ يحدث في هذا الوجود كسقوط ورقة من فرع شجرة أو نبات حبة أو سقوط ريش من طائر أو نبش في أرض، ما من شيء يحدث إلا وقد سَطَرَه القلم من الأزل، فقد كان الله ولم يكن شيء غيره، وأمر القلم أن يكتب، وسأل القلم‫:‬ ما أكتب؟ قال‫:‬ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‫.‬ لكن الله يقول‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ أي أن الله (تبارك وتعالى) يفعل ما يريد ولا يقع في مُلكِهِ إلا ما يريد، وإذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، لا يُعجِزُه شيء ولا يفوته شيء ولا يستحيل عليه شيء‫.‬ (إن الله بالغ أمره) أَمرُ الله نافذ، وقضاؤه حق وواجب ونافذ، ولكن الله جعل لكل شيء قَدَراً: أي جعل له وقتاً، جعل له مقداراً، جعل له توقيتاً، جعل له أجلاً. والكلام يتمشى مع ما فات من الآيات وما هو آت، لأن الله حين تكلم في الآيات مما فات من السورة تكلم عن الطلاق للعدة ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ جعل الله لكل شيء قدراً: أجلاً ووقتاً وتوقيتاً، ثم بعد ذلك في الآيات يقول‫:‬ (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) أيضاً يتكلم عن الأمور في الدنيا وفي الوجود لكل من توكل عل الله، مهما توكلت على الله فلن يكون إلا ما أراد الله، فإن علمتَ أن الفعال على الحقيقة هو الله توكلت إن كنتَ تعقل، أما الذي لا يعقل فلن يتوكل‫.‬ إذا علمتَ أن الله قد جعل لكل شيء قدراً وعلمتَ أن الله بالغ أمره لابد وأن تتوكل عليه لأنه هو بيده المقاليد، بيده المقادير، بيده كل شيء‫.‬ من هنا قال العلماء‫:‬ تَرْكُ الأسباب جهل لأن الله جعل لكل شيء قدراً إذا ًفلابد من الأخذ بالأسباب، وتَرْكُ التوكل فِسْق، خرجتَ عن الطاعة لأنك لم تتوكل على الله، اعتقدتَ أنك يمكن لك أن تُنجزَ أمرَك والله بالغٌ أمرُه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ التوكل على الله نعمة، من رُزِقَ التوكل على الله عاش سعيداً ومات حميداً وبُعِثَ في زمرة الأنبياء والمرسلين والصادقين والصالحين‫.‬ ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يَعِدُ ويقول‫:‬ "واللهِ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً". ويا لرحمة الله وإحسانه؛ يبين للناس طريق سعادتهم في الآخرة ويبين للناس طريق سعادتهم في الدنيا وما فرّط في كتابه من شيء‫.‬ يبين الله (تبارك وتعالى) للناس أن الطلاق رحمة، وإن كان الطلاق رحمة إلا أن الله (تبارك وتعالى) جعل له أسباباً وجعل له سبيلاً وطريقاً يرضيه، ومن حاد عن هذا الطريق أسخط اللهَ عليه وكان ظالماً لنفسه، لأن الله يقول‫:‬ (وتلك حدود الله)، بعد بيانه لكيفية الطلاق يقول‫:‬ (وتلك حدود الله)، بعد بيانه لكيفية الطلاق يقول‫:‬ (وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)، نَعَم الطلاق رحمة فقد تتعذر المعاشرة وتتعذر العشرة بين الرجل وامرأته، وليس من بين الأسباب أن يكره الرجل زوجته، ليس من بين الأسباب المبيحة للطلاق أن يكره الرجل زوجته لأن الله يقول في هذا الشأن‫:‬ ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٩] ربنا (تبارك وتعالى) يبين في سورة الطلاق كيفية الطلاق الذي يرضيه والذي شرعه؛ أن يكون للعدة، أن يكون مستقبلاً العدة، أن يكون في طهر لم يمسها فيه، ألا يضارّها، وأن يكون طلاقاً واحداً، وأن يكون برويّة وحسن فكر، ولا يصح له أن يطلقها وهي حائض، ولا يصح له أن يطلقها وقد جامعها ولا يدري أحملت أم لا، ولا يصح له أن يطلقها ثلاثاً في كلمة واحدة أو في جلسة واحدة بل طلاقاً واحداً، يتربص عدتها ولا يخرجها من بيتها بل تسكن معه في بيته في فترة العدة عسى الله أن يجعل بعد ذلك أمراً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك حدود الله، ذاك بيانه وتلك أحكامه، ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً﴾: يتق الله فيما أمر، يتق الله فيما نهى، يتق الله في علاقته بالخلائق فالخلائق عباد الله خلقهم وأحبهم ورحمهم ولذلك خلقهم، فأن تظلم غيرك أو تظلم من مَكَّنَك الله فيه أمر لا يُقبَل في شرعنا الإسلامي‫.‬ وقد جعل الله الرجال قوامين على النساء بأمره وبما فَضَّل اللهُ بعضَهم على بعض، وقد كان من الممكن أن تُخلَقَ امرأة وأن تُخلَقَ المرأة رجلاً، فالاختيار اختيار الله يخلق ما يشاء ويختار، فإن كنت رجلاً ولك القوامة فلا تستغل ما أنعم الله به عليك لتؤذي الأضعف منك، والنساء ضعاف أوصى بهن رسول الله قبل أن يموت في خطبة الوداع‫:‬ (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عَوَانٌ عندكم استحللتم فروجهن بكلمة الله وسُنَّةِ رسوله لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه) فإن كان قد نهى عن ذلك فالنهي عن التهديد بالطلاق أوْلى، والنهي عن الرعب الذي يسلطه الرجل على زوجته أوْلى وأدعى بالنهي‫.‬‬‬‬‬‬
‫يبين الله بعض الأحكام في أول السورة وكيفية الطلاق، العدة، وعدم إخراج المطلقة من بيتها حتى تنتهي عدتها فيراجعها بمعروف أو يطلقها بمعروف، ندب لنا الإشهاد على ذلك وبَيَّنَ أن تقوى الله تجعل للعبد من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، بعد ذلك بَيَّنَ الله (تبارك وتعالى) عِدَّةَ نساء لم يُذكَرْن، فقد أنزل في سورة البقرة قوله (عز وجل): ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فبَيَّنَ العدة للمطلقة، وبَيَّنَ العدة أيضاً في سورة البقرة للمتوفى عنها زوجها‫:‬ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٣٤] فتساءل الناس‫:‬ يا رسول الله بقي من النساء من لم يذكر في شأنهن شيئاً؛ صغار السن وكبار السن والحوامل‫.‬ فأنزل الله‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱلَّـٰٓـِٔى يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـٰثَةُ أَشْهُرٍۢ وَٱلَّـٰٓـِٔى لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُو۟لَـٰتُ ٱلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مِنْ أَمْرِهِۦ يُسْرًۭا ﴿4﴾ ذَٰلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيْكُمْ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعْظِمْ لَهُۥٓ أَجْرًا ﴿5﴾
بَيَّن الأحكام‫.‬ اللائي يئسن من المحيض من النساء‫:‬ هن كبار السن واللاتي انقطع عنهن دم الحيض فلا تدري أحامل هي أم لا فيحدث الشك في ذلك‫.‬ وأفضل ما قيل في شأن معنى (إن ارتبتم) أن الكلام للأزواج الذين طَلَّقْنَ أزواجهن، إن ارتبتم في نهاية العدة فلا تخرجوهن من بيوتهن حتى تنتهي العدة التي فرضها الله للآيسة؛ التي لا تحيض لكِبَرِ سنها، جعل الله عدتها ثلاثة أشهر لأنها لا تحيض، فليس هناك أقراء، لا تحيض وتطهر وتحيض وتطهر فكيف يَعلَم؟ فجعل العدة ثلاثة أشهر بدلاً من ثلاثة قروء‫.‬ وكذلك اللائي لم يحضن لصغر سنهن، فقد تتزوج الفتاة قبل الحيض، تتزوج صغيرة وقبل أن تحيض، فإن طلقها ولم تحض بعد لا يدري أحامل هي أم لا فتتربص بنفسها ويتربص بها مطلقها ثلاثة أشهر‫.‬ إذا ًفعدة الآيسة التي لا تحيض ثلاثة أشهر وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تَحِض بعد ولم تبلغ سن الحيض بعد ثلاثة أشهر‫.‬ والأشهر هي الأشهر القمرية‫.‬ أما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن، والحكم عام فيمن طُلِّقَت وهي حامل طلقة أو طلقتين أو ثلاث، طالما كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها، وبمجرد الوضع حَلَّ لها النكاح، بمجرد الوضع صَحَّ لها أن تتزوج وبانت من زوجها وانتهت عدتها‫.‬ وكذلك المتوفى عنها زوجها، مات وهي حامل تتربص بنفسها حتى تضع حملها، فإن وضعت حملها انتهت عدتها‫.‬ ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ مطلقة كانت أو أرملة توفي عنها زوجها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتبقى أحكام أخرى وهي الفتاة الصغيرة التي لم تحض بعد، طُلِّقَت ولم تحض بعد، عدتها ثلاثة أشهر، فإن حاضت بعد شهر أو حاضت قبل نهاية العدة -الأشهر الثلاثة- انتقلت من الأشهر إلى الحيض وبدأت في حساب عدتها من جديد بالأقراء، بالحيضات، لأن الحيض أصل والأشهر بدل، فإذا وُجِدَ الأصل امتنع البدل، فهي تعتد بالأشهر إذا لم تحض بعد فإن حاضت تنتقل من حساب الأشهر إلى حساب الحيض‫.‬ وكذلك المرأة الآيسة أو المرأة كبيرة السن طُلِّقَت فاعتَدَّت بالحيض، لم يرتفع حيضها بعد فطُلِّقَت وحاضت حيضة، أو طُلِّقَت وحاضت حيضتان ثم توقف الحيض هنا تنتقل من الحيض إلى الأشهر وتبدأ الحساب من جديد فتَعْتَدُّ بالأشهر، فعدتها ثلاثة أشهر‫.‬ أيضاً هناك أحكام أخرى؛ منها الحكم في المرأة المستحاضة، والمرأة المستحاضة تحيض بصفة مستمرة لمرض فيها أو بسبب الخَلْق، خُلِقَت كذلك فهي امرأة مستحاضة، إن كانت تُمَيِّز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فعدتها بالحيض ثلاثة قروء، وإذا لم تستطع أن تميز بين الحيض والاستحاضة فهي مستحاضة ولا تدري أحيض هو أم استحاضة هذه مرتابة، وذاك أقوال بعض الفقهاء في الآية‫:‬ ﴿إن ارتبتم﴾، قالوا الريبة طالما وُجِدَت لا تنتهي العدة أبداً حتى ترتفع الريبة، فهي مستحاضة والمستحاضة تحمل وينزل عليها الدم فلا يرتفع الدم حتى بالحمل إذاً فهي لا تدري أحامل هي أم لا ولا يدري مطلقها، من هنا حكم الفقهاء أن المستحاضة عدتها سنة تُقَسَّم تسعة أشهر استبراء للرحم، تتربص بنفسها بعد الطلاق تسعة أشهر حتى تتيقن أن الرحم بريء من الحمل، ثم بعد التسعة أشهر تعتد ثلاثة أشهر، فإن كان قد توفي عنها زوجها وهي مستحاضة تربصت بنفسها تسعة أشهر لاستبراء الرحم ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرة أيام عدة المتوفى عنها زوجها‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫أيضاً هناك من النساء من إذا ولدت وأرضعت ارتفع عنها الحيض بالرضاعة، فإن طُلِّقَت وهي ترضع، ترضع طاهرة من غير حيض بعد الفطام تتربص بنفسها ثلاثة أشهر، إن حاضت بعد الفطام تتربص وإن لم تحض بعد الفطام تربصت بنفسها سنة؛ تسعة أشهر لاستبراء الرحم وثلاثة أشهر عدة لأنها لا تحيض‫.‬ وكذلك المريضة التي لا تحيض لمرض عدتها سنة‫.‬ فالعدة ثلاثة أشهر للمرأة الطبيعية التي لا تحيض بسبب صغر السن وسوف تحيض حين تبلغ السن، وكذلك ثلاثة أشهر للمرأة الكبيرة التي انقطع عنها حيضها بسبب كبر السن وليس لسبب آخر‫.‬ أما إذا كان الحيض قد انقطع لمرض أو لرضاع في هذه الحالة إذا انقطع الحيض لمرض أو بسبب رضاع تتربص بنفسها بعد شفائها من مرضها أو بعد فطامها لطفلها سنة كاملة؛ تسعة أشهر لاستبراء الرحم وثلاثة أشهر عدة إن كانت مطلقة، وإن كانت متوفى عنها زوجها تربصت بنفسها تسعة أشهر لاستبراء الرحم وأربعة أشهر وعشرة أيام عدة المتوفى عنها زوجها‫.‬ تلك أحكام عامة في مسألة عدة النساء وإن كان بعض الناس خالفوا في هذا وقالوا في شأن المريضة التي حاضت أصلاً وانتظمت حيضتها فامتنع عنها الحيض في سن لا يجوز فيه أن يمتنع؛ لم تكبر بعد وامتنع من أجل مرض أو خلافه تربصت بنفسها حتى تحيض ولو انتظرت عشرون سنة حتى تحيض، إذ أن عدتها بالحيض وهي تحيض وارتفع الحيض لمرض تربصت بنفسها حتى تبلغ سن اليأس فلا تحيض فتعتد عدة الآيسة ثلاثة أشهر، وإذا لم تبلغ سن اليأس تتربص ولو سنين؛ عشرين سنة، ثلاثين سنة وهكذا، وهذا رأي في هذا الشأن‫.‬ أما الرأي الأغلب والأرجح أن من ارتفع عنها الحيض لمرض كان حكمها حكم المرضع التي يرتفع حيضها أثناء الإرضاع تتربص بنفسها سنة طالما ارتفع عنها الحيض، فإن شُفِيَت وحاضت عادت في احتساب العدة لاحتساب القروء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً) قلنا أن الأمر بتقوى الله تكرر ترغيباً وترهيباً، فيقول الله‫:‬ (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ويقول الله‫:‬ (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً)، ويقول الله‫:‬ (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظِم له أجراً)، ثم يهدد بعد ذلك بضرب الأمثال بالقرى التي عتت عن أمر ربها فحاسبها حساباً شديداً وعذبها عذاباً نُكْراً. نزلت الأحكام‫:‬ (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) حُذِفَ الخبر للعلم به، (واللائي لم يحضن): أي كذلك نفس الحكم عدتهن أيضاً ثلاثة أشهر‫.‬ (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) توفي عنها زوجها أو طلقها زوجها الأجل وضع الحمل، طُلِّقَت طلقة واحدة أو طلقة بائنة أو ثلاث طلقات فعدتها أن تضع حملها‫.‬ وبعد ذلك يقول الله‫:‬ (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً) أي من يتق الله في معاشرة النساء بالمعروف أو مفارقة النساء بالمعروف يجعل الله من أمره يسراً في الرجعة، إن طلقها طلاقاً سُنِّيَّاً كما سَنَّهُ رسول الله وكما أمر به الله كان في أمره اليسر لأنه قادر على أن يسترجعها، فهي في بيته، ينفق عليها، يراها صباح مساء، هي تلوم نفسها، قد تعتذر إليه، هو قد يرغب فيها، هو قد يتحول قلبه لحبها بعد أن كان يبغضها، والنساء ناقصات عقل ودين لا يصبر على معاشرتهن إلا المتقين، لا يصبر على معاشرة النساء إلا من اتقى الله لأنه يعلم أنها ناقصة عقل ودين فيعاملها بهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ "خُلِقَت المرأة من ضلع أعوج إذ ذهبتَ تُقِيمها كسرتَها وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها العِوَج" فمن يتقي الله يصبر على معاشرة ناقصة عقل ودين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيضاً المطَلِّق؛ طَلَّقَ امرأته لكراهة أو لغيظ أو لضيق أو لسببٍ ما، فقد يشوّه صورتها أو يسيء إلى سمعتها فيتحدث عنها بما لا يليق فيكشف سترها أو يفضح سرها، فيقف في طريقها فلا يخطبها خاطب‫.‬ ومن هنا يقول الله اتقوا الله في هذا الشأن‫.‬ وكذلك النساء؛ فقد تُطَلَّق المرأة وحين تُطَلَّق يمتلئ قلبها بالحقد والغيظ فتشيع عن زوجها ما ليس فيه فتَدَّعي أنه بخيل أو إنه كذا وكذا وكذا‫.‬ كل ذلك ينهى عنه الله في قوله (عز وجل): (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً). وكرر الأمر بالتقوى لأن الأمر محتاج فعلاً للتقوى، فتلك قلوب لا يعلم ما فيها إلا الله، وتلك بيوت سترها الله، بيوت فيها ما لا يُعرَف من علاقة، من جِماع من إفضاء، وربنا يعبر عن ذلك كله ويقول‫:‬ ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٢١] فاطلعت المرأة على ما لا يَطَّلِعُ غيرها عليه من أمور زوجها، فقد يُحدِثُ صوتاً وهو نائم، وقد يكون له من العادات القبيحة مالا يمكنه أن يتخلص منها، وكذلك قد يَطَّلِعُ الرجل على ما يُشِين المرأة، قد يَطَّلِعُ على عورتها وقد وقد وقد‫.‬ من هنا كانت تقوى الله واجبة، وكان الأمر بها والتأكيد عليها وتكرير الأمر ترغيباً وترهيباً حتى لا تُكشَف الأستار ولا تُفضَح الأسرار، ويتقي كُلٌّ من الزوج والزوجة ربه فيما أعطاه وفيما خَوَّلَه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾ هذه الأحكام وهذا التفصيل وهذا البيان حُكمُ الله وربنا أدرى بصنعته، فكل صانع أدرى بصنعته ما يُفسِدُها وما يُصلِحُها وما يصونها وما يُتلِفُها، فربنا هو الصانع ونحن صنعة الله، هو أدرى بصنعته، نحن لا نعرف أنفسنا كما يعرفها خالقها، هو أدرى بنفوسنا منا، ففي الإنسان أمور لا يُدرَك كُنْهُها كالقلب والعقل والروح والنفس والمشاعر والعواطف، كل ذلك من الأسرار الذي لا يدري بها الإنسان، فربنا تبارك وتعالى يبين لنا صلاحنا وسعادتنا في هذه الدنيا وفي الآخرة، والسعيد في الدنيا سعيد في الآخرة، والتعيس في الدنيا تعيس في الآخرة، والسعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سَعِدَ بطاعة الله والشقي شَقِيَ بمعصية الله، إي وربي! ما من سعادة إلا بتقوى الله وطاعته وما من شقاوة إلا بمعصية الله، فعصيان الله يأتي بالفقر ويأتي بالمرض ويأتي بالشقاء ويأتي بالمكابدة ويأتي بالعداوة والبغضاء، وطاعة الله تأتي بالرزق وتأتي بالسعادة وتأتي بالرضا وتأتي بالقناعة، وطاعة الله تبدأ من بلوغ الطفل الحُلُم وبلوغ الطفلة سن الحيض‫.‬ ننتهي بإقرار شرع الله والحكم بأحكامه في جميع أمورنا، إذا كان قد حكم بيننا في علاقة الزوجية، في كيفية الطلاق واحتساب العدة وحَسَبَها لنا استبراءً للأرحام وحفظاً للأنساب فكيف نضيعها بالزنا؟ كيف نضيعها بالبعد عن أحكام الله؟ فشرْع الله وأحكام الله واجبة على كل فرد منا ببلوغه سن التكليف، ثم هي واجبة بعد ذلك على المجتمع في المعاملات التجارية والمالية والمادية وما إلى ذلك، هي واجبة أيضاً على الحكام بالحكم بما أنزل الله، يقول الله‫:‬ (ذلك أمر الله أنزله إليكم) هل من مخالِف؟ هل من معانِد؟ هل هناك من يأمر غير ذلك؟ هل هناك من يدري غير الله؟ ها هناك من يعلم غير الله؟ هو الله! ذلك أمر الله أنزله إليكم الخالق المصور العالِم بكل شيء‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ نعم يُكَفِّر عنه سيئاته‫.‬ وكيف يتق الله ثم تكون له السيئات؟ نَعَم لأن العبد مهما تحرى التقوى لابد وأن يخطئ، فليس هناك معصوم إلا المعصوم، هو المعصوم سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم، هو الذي عصمه الله، فالعصمة للأنبياء، أما الناس فقد يخطئ، إن اجتنب الكبائر فقد يقع في الصغائر، وإن لم يقع في الصغائر فقد تسيطر عليه الخواطر، وقد يعصي القلب وإن امتنعت الجوارح، فالحسد من أعمال النفوس، والحقد من أعمال القلوب، والكُرْه من أعمال القلوب، والظن من أعمال القلوب، وقد يخطئ القلب دون أن يدري العبد، من هنا يقول الله‫:‬ (من يتق الله) فيما يُمكِنُه، فيما يستطي، فيما أمر الله به ونهى، في اجتناب الكبائر (اتقوا الله ما استطعتم). (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظِم له أجرا) والآية تفيد التعجب لهذا الأجر العظيم الذي لا يدري كنهه ولا يعلم قَدْرَه! قد يُعظِم الله له أجراً، كيف يُعظِمُ الله له أجراً؟ ذاك شأنه! أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‫.‬ تلك أحكام عامة للمطلقات، والمطلقات طلقة رجعية أمر الله ألا تخرج من بيت، ها ونسب البيت إليها نِسبَة سُكنَى وليست نسبة مِلك‫.‬ فإن طُلِّقَت المرأة طلاقاً بائناً ولا رجعة فيه، إن كانت مبتوتة مُطَلَّقة طلاقاً بائناً ثلاثاً فما هو الأمر الذي يُحدِثُهُ الله؟ فكيف نُسكِنُها في بيتنا؟ ما حكم هذه المرأة؟ وانظر إلى رحمة الله تعالى وتأمل في حنانه ورحمته وعطفه، يقول الله في شأن هؤلاء‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا۟ عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُو۟لَـٰتِ حَمْلٍۢ فَأَنفِقُوا۟ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا۟ بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍۢ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُۥٓ أُخْرَىٰ ﴿6﴾ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا ۚ سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍۢ يُسْرًۭا ﴿7﴾
‫﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ نعم قد يعاشر الرجل المرأة سنيناً؛ يطلقها مرة ثم يراجعها ثم يطلقها، يراجعها ثم يطلقها فتَبِينُ منه بعد عشر سنوات، بعد عشرين من السنين، مات أبوها، ماتت أمها، لا أخ لها، كيف تفعل؟ أتخرج من البيت إلى الشارع؟ أين تذهب؟ هل يبقيها في بيته؟ كيف وقد بانت منه ولا تحل له ولا يحل له النظر إليها؟ إن كانت رجعية فنظرته إليها رجعة، أو لَمْسُهُ لها رجعة، أو كلمة منه رجعة، أما هذه قد بانت منه ولا تحل له فأين تذهب؟ فيقول الله‫:‬ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ فلا تسكن أنت في قصر وتسكنها هي في حجرة، أَسكِنْها من حيث سَكَنْتَ. ويؤكد الأمر فيقول‫:‬ ﴿وُجْدِكُمْ﴾ ﴿من وِجدكم﴾ ﴿من وَجدكم﴾ الواو مثلثة‫:‬ الفتح والكسر والضم، ثلاث قراءات‫.‬ الوَجد‫:‬ السعة والقدرة، الغنى والاقتدار، ذاك هو الوَجد‫.‬ وَجَدْتُ أَجِدُ وَجدةً ووَجداً ووُجداً: اغتنيتُ وتملكتُ وأصبحتُ ذا قدرة في الإنفاق‫.‬ فربنا يقول‫:‬ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ نفس المستوى الذي يسكن فيه الزوج يُسكِن فيه الزوجة‫.‬ ويؤكد ويقول‫:‬ (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من قدرتكم وسعتكم واقتداركم، فلا تسكن أنت في مسكن فاخر وتسكنها هي في مسكن حقير، بل تسكن كما تسكن أنت‫.‬ ولذا قال بعض الفقهاء وعلى رأسهم الإمام مالك‫:‬ إذا طلقها وبانت منه خرج هو من البيت وبقيت هي في البيت لأن الله يقول‫:‬ (أسكنوهن) أما أولئك المطلقات طلاقاً رجعياً يقول الله في شأنهن‫:‬ (لا تخرجوهن من بيوتهن) إذاً فتلك حالة وهي لا تخرجها من بيتها الذي تسكن فيه معك، هنا يقول‫:‬ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ ولم يقل‫:‬ (لا تخرجوهن) إذاً فيخرج هو من السكن وتبقى هي فيه، ذاك رأي للإمام مالك‫.‬ وقال الآخرون‫:‬ (أسكنوهن) يهيئ لها مسكناً سواءً يخرج هو من مسكنه ويتركها فيه أو يهيئ لها مسكناً يوازي المسكن الذي يسكن هو فيه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ واختلف الناس هنا فقال بعض الناس‫:‬ المُضارّة في السكن؛ يضارها في السكن فيأتيها بمسكن غير لائق أو مسكن ليس من حيث سكن فتضطر هي للخروج‫.‬ (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) فيُضَيِّقُ عليها المسكن فتضطر هي للخروج بنفسها‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ أبداً المضارة في النفقة لأن عدم الإنفاق أكبر الإضرار، وذاك قول الإمام الأعظم، من هنا قال‫:‬ التي طُلِّقَت طلاقاً بائناً لها المسكن حتى تنتهي العدة، والعدة شرحناها؛ إن كانت تحيض فعدتهن ثلاثة قروء، إن كانت آيسة فعدتها ثلاثة أشهر، إن كانت صغيرة فعدتها ثلاثة أشهر، إن كانت حامل فعدتها أن تضع حملها، إن كانت مستحاضة فعدتها سنة‫:‬ تسعة أشهر تتربص بالرحم وثلاثة عدة‫.‬ إن كانت متوفى عنها زوجها من يُسكِنُها؟ قالوا‫:‬ تسكن من ماله، الورثة يُسكِنُوها، لأن البائنة لا ترث أما المطلقة الرجعية ترث وهي مطلقة، فإن طلق الرجل امرأته ثم توفي وهي في العدة ورثته ميراث الزوجة، أما التي تُطَلَّق طلاقاً بائناً لا رجعة فيه فلا ترث فمن أين تسكن إذا كان الزوج قد توفي؟ تسكن هذه المرأة من ميراثه، الورثة يسكنونها، قال بعض الناس‫:‬ تسكن من جميع المال قبل التقسيم ثم تقسم التركة يُخصَمُ منها أجر السكن، وقال بعض الناس‫:‬ بل الإسكان من نصيبها في التركة إن كان لها نصيب، عدة المرأة البائنة كما قلنا إما بالقروء وإما بالشهور إما بالسنة وإما بوضع الحمل، تلك هي أنواع العدة، إذاً لابد من إسكان المطلقة طلاقاً بائناً، إما يسكنها زوجها وإما يسكنها الورثة إن كان قد توفي‫.‬ فقالوا‫:‬ إن كانت المطلقة طلاقاً بائناً غير حامل عدتها ثلاثة قروء، تسكن مدة العدة سُكنَى فقط وبغير نفقة، وقال بعضهم‫:‬ بل تسكن سُكنَى وعلى المطَلِّق أيضاً النفقة مدة العدة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫واختلفوا قي قوله‫:‬ (ولا تضاروهن) من قال‫:‬ ولا تضاروهن في السكنى إذاً فلها السكنى فقط، ومن قال‫:‬ ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن قال هذا في النفقة والأكل لأن البسط والتقدير في الرزق (يبسط لمن يشاء ويقدر) إذاً فلا تضاروهن لتضيقوا عليهن، فالضيق لا يكون في المسكن فقط بل الضيق يكون أيضاً في المعايش، إذاً فالمطلقة طلاقاً بائناً لها السكنى ولها أيضاً النفقة‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ أبداً، لا سُكنَى لها ولا نفقة طالما كانت مطلقة طلاقاً بائناً إلا أن تكون حاملاً واستدلوا بقوله عز وجل في الآية‫:‬ ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ فقَيَّد الإنفاق بالحمل، فإن لم يَكُنَّ أولات حمل فلا نفقة إذاً فلها السكنى فقط لقوله‫:‬ (أسكنوهن من حيث سكنتم) أما الذين قالوا لا سكنى لها ولا نفقة قال الكلام عائد على‫:‬ (ولا تخرجوهن من بيوتهن) هذا الكلام في المطلقة طلاقاً رجعياً: (إن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) لأننا قلنا أن عدة الحامل أن تضع حملها‫.‬ فإن طُلِّقَت طلاقاً بائناً وهي حامل أسكنها زوجها وأنفق عليها فترة العدة، وفترة عدتها أن تضع حملها فعليه السكن وعليه النفقة‫.‬ تلك اختلافات الأئمة والفقهاء‫:‬ لا سكنى ولا نفقة للبائن إذا لم تكن حاملاً، لها السكنى وليس لها نفقة إذا لم تكن حاملاً، لها السكنى ولها النفقة إذا لم تكن حاملاً، واجتمعوا جمعياً بلا خلاف على أن لها السكنى والنفقة إذا كانت حاملاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫في عهد رسول الله طُلِّقَت امرأةٌ تدعى فاطمة بنت قيس، وأجرى عليها زوجها نفقة دون، نفقة قليلة، وكانت مطلقة طلاقاً بائناً فقالت‫:‬ والله لأذهبن لرسول الله إن كانت لي نفقة أخذتُ الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة رفضتُ نفقَتَه، فذهبت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحدثته بالخبر فقال‫:‬ "لا نفقة لكِ ولا سُكنى"، حديث، "لا نفقة لكِ ولا سُكنى" حديث شهير يعرفه العاملون بالفقه والدارسون له – حديث فاطمة بنت قيس – وجاء عمر بن الخطاب في خلافته وقال‫:‬ والله لا نعمل بحديث امرأة أبداً، المطلقة طلاقاً بائناً لها السكنى ولها النفقة حاملاً كانت أو غير حاملاً حتى تنتهي عدتها، فإن كانت غير حامل بانتهاء العدة وإن كانت حامل بوضع الحمل ولها السكنى ولها النفقة‫.‬ قضى عمر بذلك وسار عليه الأصحاب، من هنا قال الإمام مالك -وهو إمام دار الهجرة- لها السكنى ولها النفقة لأنه يحكم بحكم أهل المدينة الذي أجراه عمر بن الخطاب ورفض أن يحكم بحديث امرأة في مصالح المسلمين‫.‬ ونحن نرى أن رأي عمر بن الخطاب هو السُّنَّة، فهو الإمام الأواب الناطق بالصواب الموافق حُكمُه حُكمَ الكتاب الذي قال للنبي‫:‬ أُحجُب نساءك فنزلت آية الحجاب والذي قال فيه رسول الملك الوهاب‫:‬ "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب". وذاك أدعى للحفاظ على الأسر، أدعى للحفاظ على الأرواح والأنفس، امرأة طُلِّقَت طلاقاً بائناً في لحظة أتخرج من بيتها بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة تخرج من بيتها إلى الطريق؟ لا أهل لها كيف تفعل؟ لكن السكن لها والنفقة فترة العدة تتيح لها الفرصة؛ قد يخطبها خاطب، قد تجد لها من أمرها يسراً، قد يجعل الله لها مخرجاً، فترة العدة ثلاثة أشهر أو ثلاثة قروء أو فيه فسحة من الوقت يمكن للمرأة فيه أن تجد مخرجاً. من هنا قضى عمر بأن يكون لها السكن ويكون لها النفقة‫.‬ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ أمر الله‫.‬ ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ للتأكيد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾ في السكن، ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾ في الإنفاق‫.‬ ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ والآية تفصيل، ليس تقييداً للإنفاق بالحمل، وإنما يبين ربنا أن الإنفاق لا ينتهي بانتهاء ثلاثة أشهر أو بانتهاء ثلاثة قروء وإنما لا ينتهي الإنفاق حتى تضع حملها‫.‬ ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ تأخذ المرأة المطَلَّقة أجر الرضاع‫.‬ مع أن المرأة غير المطَلَّقة تنجب الأولاد وترضعهم بغير أجر؛ فهي أم وزوجة معززة مكرمة، تسكن حيث يسكن زوجها وتأكل مما يأكل زوجها، يكسوها، ينفق عليها ويطعمها، أما المطَلَّقة فكيف؟ ففرض الله لها أجر الرضاع‫.‬ وإن أبت أن ترضع استرضع هو لوَلَدِه مرضعاً أخرى‫.‬ أحكام‫.‬ ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ حتى لا تحدث المشاكسة والمعاكسة، فيرفض هو أن يستأجر مُرضِع ويرفض أن يعطيها أجر الرضاع، وهي تشتط في طلب الأجر مما هو فوق طاقته، فربنا يأمره ويأمرها‫:‬ ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي تشاوروا بالمعروف، يأمرها بالمعروف وتأمره بالمعروف لصالح الطفل، لصالح الولد، لأن المطَلِّق ينسى في ثورة غضبه وَلَدَه، وتنسى المرأة في ثورة غضبها وفي ثورتها على زوجها وَلَدَها، فيتعاندان ويقع الضر على الوليد‫.‬ فربنا يلفت النظر إلى هذا ويقول‫:‬ (وأتمروا) والأمر جَمْع؛ للزوج وللزوجة وللناس وولي الأمر والقاضي والمجتمع، وأتمروا جميعاً بينكم بمعروف‫.‬ وقالوا المعروف‫:‬ هو الجميل، والجميل في شأنه أن يعطيها وأن ينفق عليها أجر الرضاع، والجميل منها أن ترضع وليدها بغير أجر، فهي تتنازل وهو يتنازل وهكذا يأتمروا بينهم بمعروف‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم يقول‫:‬ ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ إن تعاسرتم‫:‬ تعاكسوا وتعاندوا، عَسَّر كل منهم على صاحبه ولم ييسِّر له‫.‬ (فسترضع له أخرى) خبر لكن معناها الأمر، المقصود الأمر فَلِمَ جاء بصيغة الخبر؟ لِمَ لَمْ يقل‫:‬ وإن تعاسرتم فليرضع لها أخرى أو فليسترضع لها أخرى؟ قال‫:‬ (فسترضع له أخرى) جاء بالخبر للعتاب، وكأنه يعاتب الأم، وكأنه يقول هذا أمر عليك أن تأتيه، فإن رفضتِ فسيقوم به غيركِ ولا حاجة لي إليكِ. إذا كلفتَ إنساناً بأمر فرفض؛ افعَلْ كذا وقال لا، إذا قُلتَ له سيفعله آخر إذاً فلا حاجة لي فيك أو لا حاجة لي إليك‫.‬ فربنا يقول هذا للمرأة للأم يعاتبها، فانتقل من صيغة الأمر إلى صيغة الخبر‫.‬ ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ أي أنتِ أيتها الأم إذا رفضتِ أن ترضعي وليدك ألفٌ من النساء سوف ترضعه‫.‬ تلك أوامر أمرنا الله بها وعاتب فيها الأم، وبدأ بعض الناس يحددوا أجر الإرضاع بحالة المرأة، فابنة الوزير تختلف عن ابنة الفقير وابنة الأمير تختلف عن ابنة الحقير، فبعضهم قال‫:‬ الإنفاق بحسب حال المطَلَّقة، ورد عليهم الآخرون وقالوا‫:‬ أبداً، الإنفاق بحسب حال المنفِق، من أين يأتي وربنا تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ إذاً فالإنفاق والنفقة وأجر الرضاع تزيد أو تنقص، يتحكم فيها عُسْرُ الزوج أو يُسرُه، فإن كان مُعسِراً أنفق مما آتاه الله وإن كان مُوسِراً أنفق مما آتاه الله، تستوي في ذلك ابنة الأمير وابنة الفقير، تستوي في ذلك الغنية والفقيرة، العبرة بحال الزوج؛ لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِرَ عليه رزقُه فلينفق مما آتاه الله‫.‬ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ تأكيد على أن الإنفاق واجب على الوالد وبحسب ماله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ إذاً فالكلام للفقير، بشارة للفقير، إذا أطعتَ أمر الله وأنفقتَ مما آتاك الله ولم يمنعك فقرُك أن تنفق على مُطَلَّقَتِك وابنِها، إذا لم يمنعك ذلك وأطعتَ أمر الله أبشِر بالغِنى، والله سوف يغنيك الله لأن الله يقول واعداً، والله صادق في وعده، ومن أصدق من الله قيلاً؟ لا أحد‫.‬ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ انتهى! قضاء! أمر! حُكمٌ حَكَم به، (السين) ليست للتسويف، هذه السين سِين الوعد (سيجعل الله) سين التأكيد، يؤكد ربنا‫:‬ ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ بشارة للفقير، وبشارة لكل من يتق الله، وبشارة لكل من يطع أمر الله‫.‬‬‬‬‬‬
‫نزلت سورة الطلاق تبين الأحكام وتَفصِل بين الحلال والحرام، نزلت سورة الطلاق تحافظ على الأُسَر والتي هي نواة للمجتمع، نزلت تعطي النساء حقوقهن فقد اعتاد كفار قريش -بل اعتادت العرب- على عقوق الأمهات ووأد البنات ومَنْع وهات‫.‬ نزلت سورة الطلاق تشرح للناس وتُبَيِّن كيف تكون الحياة السعيدة وكيف يكون العدل، نزلت تمنع التظالم وسيطرة القوي على الضعيف، سيطرة الرجل على المرأة، فقد كانت المرأة كالمتاع تُوَرَّث كما يُوَرَّث المتاع، فإذا مات الرجل وَرِثَ ابنُه متاعَه بل وورث نساءه‫.‬ نزلت نورٌ يهدي، وبعد ما بَيَّنَت وأَوضَحَت جاء التهديد والوعيد، فربنا تبارك وتعالى أنزل شَرعَه ليُتَّبَع وأنزل أحكامه ليُحكَم بها، ولم ينزل القرآن ليُتلَى فقط ويُتَعَبَّد بتلاوته فقط، بل نزل القرآن حُكمَاً لما بيننا‫.‬ وجاء التهديد في قوله (عز وجل):
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبْنَـٰهَا حِسَابًۭا شَدِيدًۭا وَعَذَّبْنَـٰهَا عَذَابًۭا نُّكْرًۭا ﴿8﴾ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴿9﴾
‫﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ الكلام مجاز والمقصود أهل القرية، أي وكأين من أهل القرية‫.‬ ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ أي عتى أهُلها‫.‬ كلمة (كأين) في الأصل مركبة من كاف التشبيه وأَيٌّ الاستفهامية المنونة، أصبحت كلمة واحدة بمعنى (كم) الخبرية المفيدة للتكثير يُبنَى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى التمييز بعده، وهي من حيث الإعراب مبتدأ، ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ أي عدد كثير، تخيل ما شاء لك الخيال، عدد كثير من القرى، من المدن، من الأمم، من أهلها، والمقصود أهل القرية كم ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾ عَتَت‫:‬ تَجَبَّرَت، ظَلَمَت‫.‬ والعُتُوّ: التجبر والاستكبار والظلم‫.‬ عتى يعتو عُتِيَّاً فهو عاتي‫:‬ التَّجَبُّر‫.‬ في هذه الآية معناه النُّبُوّ عن الطاعة، البعد عن طاعة الله، عدم الحكم بأحكامه، عدم طاعة رسله، الاستكبار عن طاعة الله‫.‬ عَتَت عن أمر ربها‫:‬ تجاوزت الأمر، لم تنفذ الأوامر، لم تعمل بشرع الله‫.‬ ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي وأوامر الرسل، لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله‫.‬ ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ حاسبناها‫:‬ دوَّنَّا عليها في الصحائف جميع أعمالها صغيرها وكبيرها‫.‬ وعذبناها عذاباً نكراً: في الدنيا‫.‬ والنُّكر‫:‬ المنكَر‫.‬ النُّكْر‫:‬ الذي تُنكِرُهُ العقول والعادات‫.‬ العذاب النُّكر‫:‬ هو العذاب غير المعروف، غير المعهود، فوق التصور وفوق الخيال‫.‬ عذاباً نكراً: عذاباً لا يُتَصَوَّر، عذاباً لا يُتَخَيَّل، لم يُعهَد من قبل‫.‬ حاسبناها‫:‬ دَوَّنَّا عليها‫.‬ عذبناها في الدنيا بالخسف، بالتدبير، بالقحط، بالجوع، بكثير من الآفات التي سلطها الله عليهم‫.‬ وقد يكون الكلام فيه تقديم وتأخير؛ عذبناها عذاباً نكراً وحاسبناها‫:‬ أي عذبناها في الدنيا عذاباً نكراً وحاسبناها يوم القيامة حساباً شديداً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والكلام عن يوم القيامة وأهوال يوم القيامة جاء بصيغة الماضي ويوم القيامة لم يأت بعد، ومعنى ذلك أن ما وصفه الله حاصل وحادث وواقع لا محالة، كأنه قد وقع، كأن الحساب تم وكأن العذاب وقع‫.‬ ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ الوبال‫:‬ الشدة والثِّقَل‫.‬ وَبَلَ المطر فهو وبيل‫:‬ شديد ثقيل‫.‬ ذاقت عاقبة أمرها‫:‬ عاقبة تصرفاتها، عاقبة إصرارها على العصيان، عاقبة بُعدِهَا عن طاعة الله‫.‬ ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ الخُسر أصلاً: انتقاص رأس المال، يعبر عن كل خسارة‫.‬ كان عاقبة أمرها خسراً: أي خسراناً، خسروا الدنيا والآخرة ولا خسران بعد ذلك‫.‬ ويأتي التكرير للوعيد والتهديد‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَابًۭا شَدِيدًۭا ۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ۚ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًۭا ﴿10﴾ رَّسُولًۭا يَتْلُوا۟ عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَـٰتٍۢ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۚ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـٰلِحًۭا يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًۭا ۖ قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُۥ رِزْقًا ﴿11﴾
‫﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ بيان للخسران الذي حاق بهم حيث أعد الله لهم عذاباً في الآخرة، عذاباً شديداً لا يُتَصَوَّر ولا يُحتَمَل ولا يُطَاق‫.‬ وكلنا يرى في الدنيا كثيراً من ألوان العذاب كالمرض والألم والظلم والسجن وفقد الأبناء وفقد المال، كثيراً من الأمور لا يحتملها الإنسان وتراه حزيناً آسفاً يَبكي ويُبكي من حوله، هذه الأمور التي تحدث في الدنيا من مصائب ومن بلاء ولا يحتملها الإنسان ما هي إلا رحمة، رحمة ولطف لأنها إما كفارة عن السيئات وإما رفعة للدرجات، أما في يوم القيامة فليس هناك كفارة وليس هناك رفعة وإنما هناك حساب، هناك جزاء، فتخيل ما تراه من أمور بشعة في هذه الدنيا، في كل شيء، وما تراه من أمور مؤلمة في كل شيء، تُرى كيف يكون الألم والعذاب الذي يُعِدُّه الجبار للعصاة؟ ربنا حين أنزل الأحكام في القرآن أنزلها لمصلحة الناس، أنزلها لسعادة الإنسان، أنزلها للحفاظ على العدل، أنزلها للحفاظ على الأنساب، أنزلها رحمة بالناس، فهؤلاء الذين لم يأخذوا رحمة الله في الدنيا حرمهم منها في الآخرة‫.‬ الشرائع رحمة، نبينا رحمة، وربنا يُقِرُّ ذلك ويقول‫:‬ (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فمن رفض الرحمة في الدنيا فهو مستغنٍ عنها في الآخرة، من رفضها في الدنيا باختياره حُرِمَ منها في الآخرة‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫يهدد ربنا ويتوعد ويُحَذِّر‫:‬ هذه القرى وها هم أهلها أين صاروا؟ وأين تَرِكَتُهُم؟ أين عاد التي لم يُخلَق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود وأين فرعون ذو الأوتاد؟ أين هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء؟ وفي تاريخنا المعاصر أين الجبابرة الذين عاصرناهم؟ أين الذين كبّلوا المؤمنين بالقيود؟ أين أصحاب السجون والمعتقلات؟ أين من كانوا يخطبون في المحافل يفتخرون بأنفسهم؟ أين من كان النظر إليهم يقذف الرعب في القلوب؟ أين هؤلاء وأين الذين حُمِلُوا على الأعناق بل وحُمِلَت مركباتهم على الرؤوس؟ أين هم؟ أَفضُوْا إلى ما قَدَّمُوا من عمل، ضاعت الزعامة وضاعت الرياسة وضاع الجاه وضاع كل شيء ولم يبق إلا العمل، العمل هو الباقي، أحبابهم بالأمس صاروا أعداؤهم اليوم، والذين قالوا الشعر في مديحهم ونظموا القصائد في انتصاراتهم الآن يسبونهم ويلعنونهم، فكيف بيوم القيامة حيث يقول الله‫:‬ (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً)؟ يوم يلعن بعضهم بعضاً؟ لأن ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله قُطِعَ وانفصل‫.‬ لذا يقول الله بعد التحذير عن هؤلاء الذين أعد لهم عذاباً شديداً: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الألباب‫:‬ جمع لُبّ، واللُّب‫:‬ العقل الواعي‫.‬ والعقول في القلوب، مكان العقل في الصدر، (لهم قلوب لا يفقهون بها)، وقال‫:‬ (لهم قلوب لا يعقلون بها). فاتقوا الله يا أولي الألباب‫:‬ أصحاب العقول الواعية الفاهمة عن ربها‫.‬ (الذين آمنوا) بَدَل، وكأن أولوا الألباب هم المؤمنون، ولا يمكن أن يكون مؤمناً إلا إذا كان من أولي الألباب، وما من امريءٍ أُعطِيَ لُبَّاً إلا وأعطاه الله الإيمان، فالمؤمن كَيِّسٌ فَطِن، أما الكافر فهم كالأنعام، بل الأنعام أفضل‫.‬ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تحذير من الله، ودعوة من الله لأولي الألباب أن يتقوا الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫طالما كانوا من أولى الألباب وكانوا من المؤمنين كيف يؤمرون بالتقوى؟ نعم فالإيمان قول وعمل، الإيمان اعتقاد في القلب وإقرار باللسان ولابد وأن يُصَدِّقَه العمل، فكيف تَدَّعي الإيمان وأنت تنحرف عن شرع الله؟ كيف تدعي الإيمان وأنت تحكم بغير حكم الله؟ كيف تدعي الإيمان ولا ترضى بحكم رسول الله وربنا يقول حالفاً ومقسماً لحبيبه المصطفى‫:‬ ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٦٥] فالمؤمن بحق، المؤمن الصادق هو الذي يرضى بحكم الله، هو الذي يرضى بشرع الله، هو الذي لا يرتضي لشريعة الله بديلاً، ذاك هو المؤمن‫.‬ من هنا يحذرنا ربنا ويأمرنا بالتقوى‫:‬ (فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا). أو ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نَعْتٌ لأولي الألباب‫.‬ ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ الذِّكر‫:‬ القرآن‫.‬ الذِّكر‫:‬ جبريل‫.‬ الذِّكر‫:‬ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقوال‫.‬ قد أنزل الله إليكم ذكراً ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ أي قد أنزل إليكم ذكراً: القرآن‫.‬ رسولاً: وأرسل رسولاً؛ محمد (صلى الله عليه وسلم) أو قد أنزل إليكم ذكراً: محمداً (صلى الله عليه وسلم) هو الذِّكر لأنه جاء معه الذِّكر، أو لأنه هو أول الذاكرين وأفضل الذاكرين وأشد الذاكرين لله‫.‬ أو أنزل ذكراً: جبريل؛ هو الذي نَزَل ونَزَل بالذِّكر، رسولاً: أيضاً جبريل‫.‬ هي أقوال وأصحها‫:‬ (أنزل إليكم ذكراً): القرآن، (رسولاً): وأرسل إليكم رسولاً هو محمد (صلى الله عليه وسلم) فمن رحمة الله بنا يَمُنُّ علينا ويقول‫:‬ (قد أنزل الله إليكم ذكراً). والذِّكر أيضاً: الشَّرَف، كقوله‫:‬ ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٠] أي فيه شرفكم ورفعة شأنكم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(قد أنزل الله إليكم ذكراً) القرآن كلام الله، إذا قرأتَهُ كنتَ جليسا ً لله، إذا حكمتَ به كنتَ أَعدَل خَلْقِ الله، القرآن ذِكرٌ يُذَكِّرنا بالله، يُذَكِّرنا باليوم الآخر، فيه الشرف، فيه رفعة الشأن للفرد وللأمة، والرسول خاتم الأنبياء والمرسلين، خاتم الرسل، آخر الرسل، الرحمة المهداة والنعمة المسداة‫.‬ ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ آيات الله‫:‬ القرآن‫.‬ ﴿مبيَّنات﴾ قراءة، مبيَّنات‫:‬ أي بَيَّنَها الله، لقوله‫:‬ ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ١٧] بَيَّنَها الله لنا ووضحها‫.‬ أو مبيِّنات‫:‬ تُبَيِّن لنا طريق النجاة وتُبَيِّن لنا الحلال الحرام، توضح لنا الأحكام‫.‬ ﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ من الضلالة إلى الهدى، من الحكم بالجاهلية إلى الحكم بشرع الله، مما تعارف عليه الناس من أخطاء إلى ما أمر الله به‫.‬ أو يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات في عِلْمِه، فقد عَلِمَهم قبل أن يخلقهم، أو في تقديره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(ليُخرج) ونسب الإخراج لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأن الرسول هو الذي يخرجنا من الظلمات إلى النور، هو المنقذ هو الذي يخرجنا، لأن طاعة رسول الله تؤدي إلى النجاة، فطالما بطاعته ينجو العبد إذا ًفكأنه هو الذي يُخرِجُ العبد من الظلمات إلى النور بأمر الله وبفضل الله وبتوفيق الله، يخرجهم من ظلام الجهل إلى نور العلم، ظلام الحكم بالقوانين الوضعية إلى نور الحكم بأحكام الله تبارك وتعالى، ظلام الظلم -فالظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة- إلى نور العدل، فقد كانوا وكانوا وكانوا؛ خمر وميسر وأنصاب ووأد البنات وعقوق الأمهات وكل ما يخطر على بالك من معاصي وفسوق وجهل وتباغض وتدابر وتباعد، أخرجهم ربنا من هذه الظلمات إلى النور، بنور محمد (صلى الله عليه وسلم) نعم يتلو عليكم آياتٍ مبيناتٍ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور‫.‬ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ قَرَنَ الإيمان بالعمل، فالإيمان بغير عمل كَلَا إيمان‫.‬ وهناك حديث قدسي يقول‫:‬ (عجبتُ لمن طمع في رحمتي وقد بخل بطاعتي) فكيف تدعي الإيمان ولم تعمل له؟ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هؤلاء الكلام عنهم، من يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ والآية فيها التعجب (قد أحسن الله له رزقاً) إذاً فرزق الجنة حَسَّنَهُ اللهُ ووَسَّعَه وطَيَّبَه اللهُ، أنت في الدنيا تنظر في نعم الله العديدة في المطعوم والمشروب والمركوب والمسكون والملبوس، في كل شيء تجد التفاضل في الأغلى والأفخر، تجد التفاضل إلى درجات قد لا تصل إليها بمالك أو بجهدك أو حتى بالنظر إليها، كم وكم من القصور، كم وكم من ملاب، س كم وكم، وكل ذلك صُنْعُ الإنسان وإن كان الله قد ألهمه لكن الإنسان يصنع، فكيف والله هو الصانع؟ هو الذي صنع وهو الذي أعد وهو الذي هيأ وهو الذي طَيَّب، قد أَحسَنَ الله له رزقاً. والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، تجري من تحت قصورها الأنهار، مهما تخيلتَ ومهما تصورتَ من نعيم الدنيا فوالله موضع سوط، موضع سيف، موضع قدم في الجنة أفضل من الدنيا وما فيها! واللهِ صَدَقَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) بجميع نعيمها وبجميع ما فيها‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ إياك وإياك أن تشتري الدنيا بالآخرة، إياك أن تشتري الزائل بالدائم، الدنيا إلى زوال والعمر قصير وكلنا مرتحل عما قليل ولا يدري الإنسان متى يموت، وقد يأتي الموت فجأة وقد يندم الإنسان على عمره كيف ضيّعه في العصيان، فعليك بتقوى الله في السر والعلن، عليك بطاعة الله وبطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلن يغني عنك أحدٌ شيئاً، لا أب ولا ولد، لا يُجزِي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً.‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ اللهَ اللهَ، عُدْ إلى الله وارجع إلى الله، وها أنت تُتلى عليك آياته، تُوَضَّح لك أحكامه فاعمل بها في بيتك إذا لم تستطع أن تُعَمِّم ذلك، وإذا لم يكن ذلك عاماً فينا فكلنا مسئول، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فاعمل بكتاب الله وتحقق بالعمل فيه في بيتك وفي أسرتك وفي كل من ترعاه، في كل من أنت راع له وكلكم مسئول رعيته‫.‬
تُختَتَم سورة الطلاق بعد الأحكام وبعد الإنذار وبعد التذكير وبعد التهديد والوعيد والوعد للمتقين -من يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً- يضرب ربنا مثلاً لنفاذ مشيئته واتساع علمه وعظيم قدرته، فالذي أنزل الأحكام هو الحَكَم، هو الملِك، هو القادر، والذي وعد المتقين بالنعيم قادر على الوفاء بوعده، والذي توعد المجرمين بالجحيم قادر على إنفاذ وعيده ولن يفلت أحد، فعِلمُهُ قد شمل كل شيء‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬
ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿12﴾
‫﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ ونحن لم نر السماوات لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) حدثنا عنها وأوضح لنا أنها مبنية وأن لها أبواب، وأن على الأبواب ملائكة، حراس، وأنها طِباقاً بعضها فوق بعض، وبين كل سماء وسماء خَلْقٌ وأَمْر، حيث عُرِجَ به واستفتح جبريل فقيل‫:‬ من؟ قال‫:‬ جبريل، قيل‫:‬ ومن معك؟ قال‫:‬ محمد، قيل‫:‬ أَوَ أُرسِلَ إليه؟ قال‫:‬ نعم، ففتح وصعد، وهكذا في كل سماء‫.‬ وربنا يتكلم عن السماء ويقول‫:‬ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ١١] ويقول‫:‬ ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ١٢] ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٤٧] بقوة بنيناها إذاً فهي مبنية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا﴾ [سورة النازعات آية‫:‬ ٢٧] إذاً فهي مبنية وهي سبع و فوق بعض، وبين كل سماء وسماء مسافة لا يعلمها إلا الله، ونحن في هذه الدنيا رغم تقدم العلم -ذاك التقدم المذهل- لم نر السماء الدنيا حتى الآن ولم يصل إليها العلم بكل ما أوتي العلماء من أجهزة رصد وأجهزة حساب وصواريخ وما وما، وما وصلوا إليها، كل ما هو ثابت الآن هو الفضاء والنجوم التي لا عد لها ولا حصر، نجوم معلقة في الهواء بغير معلق، أحجامها فوق الخيال، شمسنا هذه التي إن اقتربت منا قليلاً أحرقت الأرض وما عليها، شمسنا هذه التي إن أضاءت اختفى ضوء النجوم، كل ذلك بسبب قربها منا أو قربنا منها، أما هي من حيث ذاتها فهي ضئيلة حقيرة، لو ارتفعت قليلاً وبعدت قليلاً في هذا الفضاء لغابت عن العيون بل لغابت عن أجهزة الرصد لا تُرى ولن تُرى فحجمها ضيئل بالنسبة لحجم النجوم التي نراها في السماء صغيرة لبعدها عنا، فأقرب نجم إلينا يبعد عنا أربع سنين ضوئية -المسافة التي يقطعها الضوء في أربع سنوات- ضوء الشمس يأتينا في مدة ثمان دقائق، هذا النجم الذي تراه أقرب النجوم إليك يصل ضوءه بعد أربع سنوات، ذاك أقرب نجم، وهذه النجوم جميعها التي استطاعوا أن يروها بأجهزة الرصد في هذا الكون ليست وحدها بل استطاعوا أن يرصدوا عوالم أخرى تشبه هذا العالم بنجومه وكواكبه وأرضه وما إلى ذلك ولم يصلوا إلى السماء الدنيا فقط‫.‬ ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وليست سماء واحدة بل سبع سماوات‫.‬ ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ مِثلَهن في العدد، مِثلَهن في الإتقان والإحكام‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫أصح الأقوال أنهن مِثلَهن في العدد، لكن العلماء قالوا سبع أراضين أيضاً طباقاً كما في السموات، أرض داخل أرض داخل أرض، فالأرض كروية داخلها كرة أخرى داخلها كرة أصغر وهكذا، فهي سبع أراضي ترتيب، خلقها كترتيب سبع سموات، وبين كل أرض وأرض مسافة فتوق كما بين السموات السبع، فهي ليست منطبقة بل بين كل سماء وسماء مسافة‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل سبع أراضين بغير فتوق، فهي مُطبَقَة فوق بعضها بغير مسافات بينية‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل سبع أراضي كأرضنا الكروية منفصلة عن بعضها تسبح في الفضاء، (ومن الأرض مثلهن) فهي أراضي متجاورة وليست متطابقة‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل بين كل سماء وسماء أرض، فأرضنا هذه لها سماؤنا الدنيا فإذا اجتزت السماء الدنيا فهناك قمر ونجوم وكواكب تفصل بين السماء الدنيا والسماء الثانية، فهي سبع أراضي في كل سماء أرض أو لكل سماء أرض‫.‬ أقوال ولا يعلم الحقيقة إلا الله‫.‬ ربنا يشير إلى هذه القدرة؛ خَلَقَ سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، أحجام ومساحات ومسافات ومخلوقات‫.‬ ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ يتنزل الأمر من السماء إلى الأرض، من السماء الدنيا إلى أرضنا، ومن كل سماء إلى الأرض التي فيها‫.‬ أو يتنزل الأمر من السماوات السبع إلى الأراضين السبع إن كانت طباقاً. المهم أياً كان الوضع فمهما تخيلتَ في مُلكِ الله فمُلكُ الله بلا حدود‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وربنا يقول‫:‬ ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٤٧] فالاتساع مستمر ولن يتوقف بلا حدود، فإذا كان هناك الملك، الملك بغير حدود، ويتنزل الأمر بين السماء وبين الأرض، أَمرُ الله وقضاء الله وقَدَر الله، لا يُفلِت شيء، لا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر، يري ويسمع ويدبر ويهيمن ويُقَرِّر ويُقَدِّر الأمور، تعرج من السماء إلى الأرض وتعرج من الأرض إلى السماء وإليه يُرجَعُ الأمر كله، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى قادر! ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ هذا هو الذي يحكم، هذا الذي يأمر، هذا الذي أنزل الأحكام في سورة الطلاق، هذا الذي توعد الكفار والمجرمين والعصاة، هذا الذي يبشر المتقين والصالحين، الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن، هل ترى في خَلْقِ الله من تفاوت؟ هل ترى في السماوات من فطور؟ هل ترى خلل في هذا الكون المترامي الذي لا تعرف حدوده؟ هل تأخرت الشمس يوماً أو تأخر القمر ليلة؟ هل تجاوزت الأيام عددها؟ هل وهل وهل؟ و سَلْ نفسَك‫:‬ هل مات حيوان من الجوع؟ هل خرج عصفور من عشه ولم يجد طعاماً؟ هل خرج وحشٌ من كهفه ولم يجد قوتاً؟ ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ١٠] ليتنزل الأمر بين السموات السبع والأرضين السبع، لا يغفل ربنا ولا ينام، لا يسهو ولا ينسى، فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا، أَمْرٌ بالتقوى، الآمر الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن‫.‬ (لتعلموا) عِلَّة الخلق أو عِلَّة الأمر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ إذاً فالمتأمل فيما حوله لابد وأن يصل إلى أن قدرة الله فوق كل خيال وتصور، وأن جميع المقدورات في قدرته سواء، وأن خَلْقَ نملة كإيجاد أمة، وخَلْقُ إنسان كإيجاد كافة الأكوان ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٨٢] بغير أداة، بغير جارحة، بغير آلة، بغير تربص زمان، هو الله! فاعلموا أن الله على كل شيء قدير فيحقق وعده وينجز وعده وينفذ وعيده، وأنه عالِم وعِلْمُ الله أزلي، عِلْمُ الله لا يزول، عِلْمُ الله لا ينقص، عِلْمُ الله يزيد، عِلْمُ الله لا حدود له، يعلم كل شيء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‫.‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم؛ عُدْ إلى الله، عُدْ إلى الله بقلبك وبوجدانك وبجوارحك لأن الله يلوم الناس ويلوم الجهلاء ويقول‫:‬ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة الزمر آية‫:‬ ٦٧] نعم يقبضها بيمينه والسماوات كلها في يمينه ويَرُجُّها رَجَّاً ويقول‫:‬ "أنا الملِك" فاتقوا الله ربكم‫.‬‬‬‬‬‬‬