سورة التغابن

لقاؤنا مع واحدة من المسبحات، مع سورة التغابن‫.‬ سورة التغابن بدأت بالتسبيح كما بُدِأَت به المسبحات‫.‬ بُدِأَت المسبحات بالتسبيح وجاءت الصيغة في سورة التغابن صيغة مضارعة لبيان أن التسبيح لله (تبارك وتعالى) في كل الأوقات ومن كل المخلوقات‫.‬‬‬‬‬‬

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ﴿1﴾
جاء التسبيح في صيغة المضارعة كما هو في سورة الجمعة، وجاء بصيغة الماضي كما في سورة الحديد وسورة الصف، وجاء بصيغة الأمر كما في سورة الأعلى (سبح اسم ربك الأعلى)، وجاء بصيغة المصدر كما في سورة الإسراء (سبحان الذي أسرى بعبده). نَعَم، الله هو المستحق للتنزيه، هو المُنَزَّه عن كل النقائص والعيوب المتصف بكل الكمالات‫.‬ ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ما من شيء عاقل أو غير عاقل، ناطق أو غير ناطق، الناطق يسبح باللسان وغير الناطق يسبح بالحال، فدوران الأرض وظهور النبات وكل ما يحدث في هذا المكان يدل على وجود الواحد القهار، فذاك تسبيح بلسان الحال‫.‬ وقال بعض العلماء‫:‬ لا واللهِ بل تسبيح بلسان المقال (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ينزهه عن كل عيب ويبرؤه من كل نقص‫.‬ ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ قدّم الجار والمجرور لإفادة الاختصاص، فالله (تبارك وتعالى) مختص بالملك مختص بالحمد، لا مُلكَ إلا له ولا حمد إلا له، فالصيغة تفيد الاختصاص‫.‬ ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ نَعَم، فقد كان والكون عدم، ومن حَكَمَ فيما مَلَكَ فما ظلم‫.‬ هو الله كان ولم يكن شيء غيره وكل الموجودات من خلقه ومن إبداعه وإنشائه، إذاً فهو يملكها إنشاءاً وخلقاً وإيجاداً بل واستمراراً، وما من موجود وإلا وهو مستمد وجوده من الله‫.‬ (وَلَهُ الْحَمْدُ) نَعَم له الحمد فهو المستحق للحمد، هو الله حمد نفسه بنفسه من قبل أن يكون هناك خَلْق، حمده الحامدون أو لم يحمده أحد فهو المحمود بحق‫.‬ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وسورة التغابن فيها التوحيد، وفيها الأمر بالإيمان بالقضاء والقدر، والأمر بطاعة الرسول، وفيها بيان لأمر غاية في الخطورة وقع فيه كثير من الناس وهو الإيمان والكفر‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌۭ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌۭ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿2﴾
‫﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ بيان لبعض آثار القدرة، خَلَقَ الإنسان، خَلَقَ السموات والأرض‫.‬ ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ قال بعض الناس‫:‬ الفاء للتفصيل، تفصيل الإجمال‫.‬ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) إجمال، والتفصيل‫:‬ ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ قدَّم الكافر على المؤمن لكثرة عدد الكفار في هذه الدنيا ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١١٦] وربنا (تبارك وتعالى) يقول على لسان داوود‫:‬ ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ١٦] فالكثرة كفار والقلة مؤمنون، من هنا قدّم الكافر على المؤمن‫.‬ (خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وتعني الآية أن فرعون خُلِقَ في بطن أمه كافر ويحيى خُلِقَ في بطن أمه مؤمن، وربنا خلق الكافر فيولد كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً وخلق المؤمن فيولد مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، إذاً فقد خلق الكافر وخلق كُفرَه وخلق المؤمن وخلق إيمانه‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل الفاء للترتيب وليست للتفصيل كقوله‫:‬ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٤٥] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٤٥] خلقهم والمشي فِعْلُهُم، أو كقول الله‫:‬ ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ٢٦] فالفاء إما للترتيب وإما للتفصيل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعض الناس‫:‬ بل تمام الكلام عند قوله (عز وجل): (هو الذي خلقكم) وتم الكلام، ثم يأتي التفصيل بعد ذلك‫:‬ (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي خلق الله الخَلْقَ ثم اختار الكافرُ كُفرَه واختار المؤمنُ إيمانَه، ومع ذلك فقد خلق الله (تبارك وتعالى) الكفر وخلق الإيمان، خلق المؤمن وخلق الإيمان، والإيمان من خَلْقِ الله وفي نفس الوقت من كَسْبِ العبد وفِعْلِه، والله خَلَقَ الكفر والكفر من كَسْبِ الكافر وفِعْلِه، إذاً فالفاء للترتيب؛ خَلَقَ ثم بعد ذلك منكم من آمن ومنكم من كفر‫.‬ ويستدل القائلون بهذا بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يقول فيه‫:‬ "كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" إذاً فالكفر اختيار الكافر والإيمان اختيار المؤمن، وكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له، ووقوع غير المقدور مستحيل كما أن وقوع غير المعلوم مستحيل، لأن وقوع غير المقدور عَجْز، ووقوع غير المعلوم جَهْل، والعجز والجهل يستحيلان على الله‫.‬ إذاً فقد قدّر الله على الكافر كُفرَه وعَلِمَه منه، وقدّر للمؤمن إيمانه وعَلِمَه منه‫.‬ والحديث القدسي يقول‫:‬ "خَلَقْتُ الخير وقدّرتُه وخَلَقْتُ الشر وقَدَّرتُه فطوبى لمن قدّرتُ له الخير وأجريتُ الخير على يديه وويلٌ لمن قَدَّرتُ له الشر وأجريتُ الشر على يديه". من هنا جمهور أهل السنة وجُلُّ العلماء يقولون‫:‬ إن الله خلق الناس وخلق الإيمان وخلق الكفر فقدّر للمؤمن إيمانه ويسره له ووجهه إليه وخلق الكفر وقدّر على الكافر كفره فوجهه إليه ويسره له، فالإيمان من خَلْقِ الله وهو في نفس الوقت من كَسْبِ العبد وفِعْلِه، والكفر من خَلْقِ الله وهي في نفس الوقت من كَسْبِ العبد وفِعْلِه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ إذا ًطالما قال (سبحانه وتعالى): (والله بما تعملون بصير) إذاً فكل إنسان مرهون بعمله ولا يمكن للكافر أن يقول قُدِّرَ عليه الكفر وخُلِقَ كافراً فكيف يُحاسَب، ولا يمكن للمؤمن أن يقول آمنت بفعلي وبكسبي وبإرادتي فأستحق الثواب، وإنما على المؤمن أن يقول إيماني بفضل الله، والكافر كَفَرَ بتقدير الله وبكسبه وشؤم فعله‫.‬ والله بصير بما تعملون إذاً لابد وأن يجازيكم على هذه الأعمال‫.‬‬‬‬‬
خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴿3﴾ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴿4﴾
‫﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ بيان آخر لآثار القدرة؛ خلق السموات والأرض بالحق‫:‬ أي خلقهما بالحكمة، خلقهما حقاً وصدقاً فلا خالق سواه‫.‬ أو خلق السماوات والأرض بالحق‫:‬ أي للحق، أي لإقامة الحق، لإثابة المطيع وعقاب العاصي‫.‬ خلق السموات والأرض بالحق وما خلقهما عبثاً وهو القائل (سبحانه وتعالى): ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٦] نعم ما خلقهما إلا بالحق، خلقهما لأنه الخالق ومن حقه أن يخلق ما يشاء ويختار، خلق السموات والأرض بحقه في الإيجاد والإنشاء فهو الموجد والمبدع والمنشئ‫.‬ ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ والتصوير‫:‬ التخطيط، التشكيل حتى يكون الشيء المخطط والمشكل على صورة تخالف صورة غيره، ذاك هو التصوير‫.‬ صَوَّرَكُم فأحسَنَ صُوَرَكم، نعم وانظر إلى كل المخلوقات هل تتمنى وترجو أن تكون على صورة مخلوق آخر من المخلوقات من الحيوانات أو الطيور أو الزواحف؟ والإنسان يسعى قائماً معتدلاً غير مُنْكَب على وجهه لا يمشي على أربع ولا يزحف على بطنه ولا يتعلق بغصون الأشجار، وإنما الإنسان قائم معتدل الخلقة معتدل القوام في أحسن صورة، ولا يسأل سائل عن قبح بعض الناس في شكلهم ربنا يتكلم عن الصورة الإجمالية للإنسان منه الجميل ومنه القبيح، وأقبح الناس شكلاً لو قورن بالمخلوقات الأخرى لكان في أحسن تقويم، وهذا التصوير منه الظاهر ومنه الباطن، منه الظاهر كاعتدال الجسم وكتناسق الأعضاء؛ كوجود العينين في مقدمة الوجه كاليدين وحجم اليدين بالنسبة للجسم والرجلين كذلك والأقدام والأصابع، تلك الصورة الظاهرة في أحسن ما يكون ولا يمكن أن يتخيل العبد صورة أخرى أجمل من هذه الصورة وأكمل منها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والتصوير أيضاً منه ما هو داخل وباطن فقد ستر الأمعاء ولم يجعل جسد الإنسان شفافاً فيُرَى ما بداخل العروق من دم أو ما في المعدة من فَرْث أو في الأمعاء من قَذَى وقَذَر بل جعل الجسم مستوراً، وفي كل شيء في هذا الجسم ظاهراً كان أو باطناً تجد الإتقان ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [سورة السجدة آية‫:‬ ٧] تجد الإحسان، تجد الكمال، تجد الجمال‫.‬ نعم صَوَّرَكُم فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم‫.‬ ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وإذا عرفتَ أن الله هو الذي أنشأك وصورك على أحسن صورة وأن إلى الله المصير حرصتَ على أن تلقى الله على الصورة التي خلقك عليها ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سورة التين آية‫:‬ ٤] وحرصتَ على ألا تمسخ الصورة بالعذاب، فالناس حين يُبعَثون يٌبعَثون على أعمالهم؛ فالصالحون في نور وضياء وجمال وكمال، والكفار والمنافقون في أقبح صورة فقد مَسَخُوا خلق الله وبدلوا فطرة الله‫.‬ يحرص المؤمن على أن يلقى الله دون تشويه لهذه الصورة بالأفعال القبيحة والسيئات‫.‬ ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ تفصيل لعلم الله بعد تفصيل لقدرة الله، ذكر من آثار قدرة الله خلق الإنسان وخلق السماوات وخلق الأرض والبعث، ثم جاء بالعلم لأن الخلق أول ما يدل يدل على القدرة ثم بعد ذلك يتصرف الخلائق فيعلم الخالق بكل شيء من تصرفاتهم العلم الشامل‫.‬ ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ذاك علم شامل‫.‬ ثم العلم بالجزئيات كما علم الكليات، بِسِرِّ العبد وعلانيته ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ ثم العلم بكامل النفس وهواجس الضمير (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) جميع أنواع العلوم، العلم الشامل، يعلم الكليات ويعلم الجزئيات ويعلم ما تخفي الصدور‫.‬ وطالما عَلِمَ فلابد وأن يُحاسِب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والآية تُشعِر بالوعيد لأنك إذا علمتَ أن الله يراك ويسمعك ويعلم ما تخفيه في نفسك حرصتَ على أن يطلع الله عليك في كل طاعة وخشيت أن يطلع الله عليك وأنت في معصية‫.‬ ويأتي الخطاب لكفار مكة مهدداً ومتوعداً، سائلاً وموبخاً ومقرراً:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن قَبْلُ فَذَاقُوا۟ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ ﴿5﴾
‫﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ سؤال توبيخ وسؤال تقرير، فقد قَصَّ عليهم‫.‬ والسورة وإن كان البعض يقول إنها مدنية والبعض يقول إنها مكية فيها خلاف، والبعض يقول السورة مكية إلا بعض آيات في آخرها من أول قول الله‫:‬ (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم). والقول الأرجح أن السورة مدنية وإن كانت في نسيجها تشبه السور المكية، والخطاب لأهل مكة والخطاب لكل من كفر‫:‬ ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ قوم نوح، قوم هود، قوم صالح، قوم لوط، قوم فرعون‫.‬ ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الوبال في الأصل‫:‬ الثقل والشدة، ومنه المطر الوبيل‫:‬ إذا نزل بشدة‫.‬ فذاقوا وبال أمرهم‫:‬ أي ذاقوا عقوبة أفعالهم، ذاقوا نكال كفرهم في الدنيا بالخسف والتدمير وإرسال الصيحة وكل ألوان العذاب التي قُصَّت علينا في القرآن‫.‬ ذاق الكفار وبال أمرهم في الدنيا ولهم في الآخرة أيضاً عذاب أليم فلا يعفيهم عذاب الدنيا من عذاب الآخرة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَقَالُوٓا۟ أَبَشَرٌۭ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا۟ وَتَوَلَّوا۟ ۚ وَّٱسْتَغْنَى ٱللَّهُ ۚ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌۭ ﴿6﴾
‫﴿ذَلِكَ﴾: ذلك التهديد والوعيد وذلك الجزاء الذي حاق بهم في الدنيا وسوف يحيق بهم في الآخرة بسبب‫:‬ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ هذا الذي حدث بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات، بالدلالات والمعجزات كناقة صالح وكعصا موسى، جاءت الرسل بالبينات والدلالات الواضحات وبالبراهين الساطعة فأنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً -شيء غريب- أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً! كيف يبعث الرسول بشراً وكيف تعبدون حجراً؟ لم يفكروا ولم يناقشوا أنفسهم، قالوا عن الرسل‫:‬ ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ وكلمة بَشَر اسم جنس تطلق على المفرد وتطلق على الجمع، أَبَشَرٌ يهدوننا‫:‬ استنكروا، أرادوا ملائكة، أرادوا أن ينزل الله فيكلمهم، أرادوا وأرادوا، استكبروا وعتوْا عتواً كبيراً. ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا﴾ كفروا بإنكار الرسالة وبإنكار أن يكون الرسول بشراً، تحقق فيهم الكفر ووجبت عليهم الكلمة وتولوا عن الدلائل، انصرفوا عن البراهين الواضحة، انصرفوا عن التأمل، انصرفوا عن التفكير، انصرفوا عن اللجوء لله‫.‬ ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ نَعَم استغنى بسلطانه عن طاعة عباده فمن كان يسجد له قبل الخلق؟ من كان يعبده قبل خلق الخلائق؟ الله غني بذاته عن كل ما سواه، هو الغني المطلق؟ ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ أي استغنى عن طاعتهم، استغنى بسلطانه عن إيمانهم وطاعتهم‫.‬ أو استغنى بإرسال الرسل بالدلائل والبينات عن أن يرسل ما أرسل إليهم‫.‬ والقول الأرجح هو استغناء الغني (سبحانه وتعالى) فالله هو الغني وأنتم الفقراء‫.‬ ﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ غني من الأصل، غني أزلا وأبداً، هو الغني المطلق، استغنى بذاته عن كل ما سواه، فقد كان لله ولم يكن شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وهو الحميد أي المحمود أزلاً وأبداً، حَمَدَ العبادُ أو لم يحمدوه هو المحمود بحق وقد حمد نفسه بنفسه في مفتتح الكتاب حيث قال‫:‬ (الحمد لله رب العالمين). ويأتي الكلام عن زعم الكفار وكذبهم وتكذيبهم‫:‬‬‬‬‬
زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَن لَّن يُبْعَثُوا۟ ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌۭ ﴿7﴾
‫﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ والزَّعْم‫:‬ القول بالظن‫.‬ لكل شيء كُنية وكُنية الكذب زَعْمَ، زَعَمَ: أي كَذَب‫.‬ زعموا أن لن يُبعَثوا، قالوا بالظن، قالوا أنه لا بعث ولا حساب ولا آخرة بل هي الدنيا يموتون فيها وانتهى هذا ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٣٧] ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ قل يا محمد -والكلام له (عليه الصلاة والسلام) - بلى وربي لَتُبْعَثُنَّ. أقسم النبي (صلى الله عليه وسلم) بأمر الله له، أي اقسم لهم بالله (تبارك وتعالى) سوف تُبعَثون وتُنَبَّئون بما عملتم صغيرة وكبيرة‫.‬ ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ إذ الإعادة بعد الإفناء أسهل في العقول من الإنشاء، فالذي أنشأ الخلائق من العدم قادر على الإعادة بعد الإفناء‫.‬ في بدء الخلق لم يكن هناك شيء، اللهُ واللهُ فقط، حين خلق السماوات والأرض، من أي شيء خلقهما؟ من العَدَم‫.‬ حين خلق الناس من تراب، من أي شيء خلق التراب؟ من عدم‫.‬ إذاً فقد أنشأ الوجود كله من عدم، فإذا دُمِّرَ الموجود فالإعادة أسهل بالعقل لأن المادة لازالت موجودة فإعادة التركيب أسهل من الإنشاء أصلاً في العقول، والله ليس في قدرته سهل وعسير بل إيجاد أمة كَخَلْقِ نملة، وخلق إنسان كإيجاد كافة الأكوان إنما يقول للشيء كن فيكون‫.‬ من هنا حين يقول الله (وذلك على الله يسير) أي الإعادة أسهل من الإنشاء في العقول، في عقولكم لو مُنِحْتُم ذَرَّة من العقل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلْنَا ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ﴿8﴾
الأمر بالإيمان فضل من الله ونعمة ورحمة، بعد أن بَيَّن آثار قدرته وبَيَّنَ العلم وأقسم على البعث وأقسم على الجزاء يوجّه الناس آمراً لهم بلطف‫:‬ ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ النور‫:‬ القرآن‫.‬ وكما أن النور يبدد الظلمات فكذلك القرآن يبدد الشبهات، فأُطلق على القرآن استعارةً كلمة (النور) لأنه يبدد الشبهات ويبين للناس ما اختلفوا فيه كما يبدد النور الظلمات‫.‬ ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ يعلم، لأن الإيمان محله القلب، فهو مطلع على القلوب عالمٌ بإيمان المؤمن عالمُ بكفر الكافر وبنفاق المنافق‫.‬ والله بما تعملون خبير‫:‬ سوف يجازيكم ويحاسبكم ويُخرِجُ كل شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـٰلِحًۭا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًۭا ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿9﴾
‫﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾: يوم القيامة‫.‬ أُذكُر يومَ يجمعكم، منصوب بأذكر‫.‬ أو (والله بما تعملون خبيرٌ يومَ يجمعكم). وسمي يوم القيامة يوم الجمع لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد فيُسمِعُهُم الداعي ويُنفِذُهُم البصر، يجمع بين العبد وعمله، يجمع بين الظالم والمظلوم، يجمع بين الثواب والعقاب، يجمع بين الإنس والجن، بل يجمع بين الحشرات والوحوش وكل شيء، يجمع بين الأولين والآخرين، يجمع بين كل نبي وأمته، يوم الجمع ذاك يوم القيامة، يجمع أهل السماء مع أهل الأرض، نحن لا نرى أهل السماء فسنراهم يوم القيامة، لا نرى الجن فسنراهم يوم القيامة، نحن في مكان والوحوش في مكان، الكل مجموع في صعيد واحد والأرض مسطحة لا عِوَجَاً فيها ولا أمتاً. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ صيغة مفاعلة من الغَبْن، والغَبْن‫:‬ النقص، والغبن يكون في البيع والشراء فنقول غَبَنَ فلانٌ فلاناً أي أخذ منه الشيء بأقل من قيمته فربح هو وغَبَنَ غيرَه، نَقَصَه، أخذ منه الشيء بأقل من قيمته أو بغير قيمة، ذاك هو الغبن في البيع والشراء‫.‬ ربنا يقول عن يوم القيامة‫:‬ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ بالألف واللام وكأنه يقول ذلك يوم التغابن الذي لا يُستَدرَك لأن الغبن في الدنيا يُستَدرَك، غَبَنَك فلان في بيع وشراء يُستَدرَك بالإرجاع ويستدرك بطلب حقك، يستدرك ببيعة أخرى بعملية أخرى ببيع وشراء تربح فيه فتستدرك ما فاتك، غبنك في صفقة يمكن لك أن تستدرك ذلك بالتفاهم، بالإرجاع، بالقضاء، بأن تربح في صفقة أخرى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫لكن في يوم القيامة التغابن فيه لا يستدرك لأن الغبن فيه الجنة والنعيم فكيف تستدرك الجنة؟ وكيف يكون هناك تغابن؟ قالوا‫:‬ نَعَم غَبَنَ المؤمنون الكفار فاستولوا على منازلهم، فما من كافر إلا وله منزل في الجنة وله أزواج في الجنة وله مقاعد في الجنة، هو اشترى الضلالة بالهدى فخسر في الدنيا وغُبِنَ في الآخرة، خسر مقعده في الجنة وخسر أزواجه وأهله في الجنة فورثها المؤمن فغَبَنَ المؤمنُ الكافرَ، ذاك معقول‫.‬ فهل غَبَنَ الكافرُ المؤمنَ؟ وربنا يقول‫:‬ (التغابن) أي غَبَنَ بعضُهُم بعضاً؛ غبن المؤمنُ الكافرَ بأن استولى على منزله في الجنة، دخل الجنة ودخل الكافر النار‫.‬ قال العلماء‫:‬ هذا الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية من الكفار، وكأن الكافر غَبَنَ المؤمنَ بأن أخذ منه النار فما من مؤمن إلا وله منزل في النار وما من كافر إلا وله منزل في الجنة، أما منازل الكفار في الجنة يرثها الوارثون المؤمنون، وأما منازل المؤمنين في النار فتوزع على الكفار في جهنم وتُضَيَّق عليهم، ذلك يوم التغابن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ قُرِئت كذلك بالنون (يوم نجمعكم) ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ من يؤمن بالله واليوم الآخر، من أجل هذا خُلِقَت السماوات والأرض، من أجل هذا أُرسِلَت الرسل، من أجل هذا أُنزِلَت الكتب، فمن واكب الفطرة وآمن بالله وآمن باليوم الآخر يُكَفِّر ربنا عنه سيئاته لأن الإنسان غير معصوم وما من معصوم إلا الرسل والمعصوم من عصمه الله، إذاً فربنا يبشر الطائعين بأنكم مهما ارتكبتم من هفوات أو صغائر فربنا يُكَفِّرُها، كوعده حين يقول‫:‬ ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٣١] فمن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار فيها عطاء غير مقطوع ولا مجذوذ، خالدين فيها أبداً بلا نهاية‫.‬ ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ نعم هو الفوز العظيم لأنه جمع الأمرين‫:‬ دفع المضار وجلب المنافع، يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات، إذاً فقد فاز بدفع المضرة وفاز بجلب المنفعة والنعيم‫.‬ وبضدها تتميز الأشياء، وكما ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَآ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴿10﴾
نعم كفروا بآيات الله، أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، أنكروا البعث، اتهموا الله بالعجز، اتهموا الله بأنه لا يقدر على الإعادة، اتهموا الله بأنه خلق الناس وخلق الدنيا عبثاً وأنه لا جزاء ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، سَوَّوْا بين الكافر والمؤمن، سَوَّوْا بين المفسد والمصلح، سَوَّوْا بين الصالح والطالح، هؤلاء عقوبتهم وجزاؤهم جهنم خالدين فيها وإلى الأبد‫.‬ وبئس المصير‫:‬ أي ساء مصيرهم الذي صاروا إليه‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار فانظر إلى نفسك أيها تختار‫.‬ قد قرن الله الإيمان بالعمل الصالح في القرآن كله، فالإيمان بلا عمل كَلَا إيمان؛ لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ فالإيمان بغير عمل كَلَا إيمان‫.‬ وكما أوضح لنا النبي (صلى الله عليه وسلم): أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون نُحسِنُ الظن بالله وقد كَذَبُوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، لأن الإيمان ليس بالتمني وإنما الإيمان ما وقر في القلب وصَدَّقَه العمل‫.‬ نَعَم يقول الله (تبارك وتعالى): (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً) ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وانتهى الكلام عن تصوير يوم القيامة والنتيجة ويوم البعث الذي كذّب به الناس وأنه يوم التغابن وأنه يوم الجمع وأن الناس فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير‫.‬ ويأتي الكلام بعد ذلك رداً على كفار مكة حيث قالوا لو أن المؤمنين بمحمدٍ (صلى الله عليه وسلم) على صواب ما أصابتهم المصائب في الدنيا ولعافاهم الله من كل بلاء فكيف هم مؤمنون وتصيبهم الأسقام والأوجاع؟ فأنزل الله قوله‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ ﴿11﴾
نعم ما أصاب من مصيبة في النفس، في المال، في الولد، في القول، في الفعل، في أي شيء، ليست المصائب عنواناً على الغضب وليست المعافاة عنواناً على الرضا، فكم أصيب الأنبياء وكم نالهم من بلاء، فلو أُلقِيَ العبد مكتوفاً في بحر زاخر أو أُلقي في غيابة جُبٍّ كما ألقي يوسف أو صُلِبَ في جذوع النخل كما صُلِبَ السحرة صَلَبَهُم فرعون أو طُرِحُوا في البحر كما طُرِحَ يونس أو ساروا في الصحراء كما سار موسى هارباً من فرعون متجهاً إلى مدين أو أصيبوا بالأمراض والأسقام والأوجاع كما أُصيب أيوب، كل ذلك أصاب الأنبياء وأصاب الأولياء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بعلمه وبتقديره وبإرادته‫.‬‬‬‬‬‬
‫واللطف منه الخفي ومنه الظاهر المكشوف، فالله لطيف بعبده المؤمن في كل الظروف، فما من مصيبة تصيب العبد في نفسه أو ماله أو ولده إلا ويُكَفِّرُ الله بها من سيئاته ويرفع من درجاته حتى الشوكة يُشَاكها يُكَفِّرُ الله بها عن سيئاته ويرفع بها من درجاته، والعبد إذا أصيب بمصيبة فاسترجع أبدله الله خيراً منها وعافاه، حتى في المرض إذا صبر واسترجع أبدله الله لحماً ودماً وعظماً خيراً من لحمه وعظمه ودمه، بل ويصب الله البلاء على عبده المحبوب صباً وتأتي الملائكة ويسألهم‫:‬ "ماذا قال عبدي؟ " فيقولون‫:‬ يا رب حمدك واسترجع، فيقول‫:‬ "عودوا إليه وصبوا عليه البلاء صباً" فيعودون ويصبون عليه البلاء صباً ويعودون ويقولون لله‫:‬ حمدك واسترجع، فيقول‫:‬ "ارجعوا وصبوا عليه البلاء صباً فإني أحب أن أسمع صوته" نعم ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(١٥٦)أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(١٥٧)﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٥٦- ١٥٧] نعم ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله؛ بإرادته بحكمته، نحن لا نعرف شيئاً، الله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢١٦] لو أُلقي العبد في بحر زاخر وهو مكتوف، أو نال في قعر السجن من العذاب صنوف، أو أُلقي في غيابة الجب وهو مكفوف، أو طُرِحَ في الخلاء عارياً في يوم قِرٍّ عَصُوف، أو أصابه من الأسقام مرض غير معروف، لا يعني ذلك أنه من ديوان الحب محذوف! كم وكم وكم‫.‬ ولكن من يؤمن بالله ﴿نَهْدِ قلبَه﴾ ﴿يَهدِ قلبَه﴾ ﴿يُهدَ قلبُه﴾ ﴿يهدأ قلبُه﴾ قراءات‫.‬ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ عند وقوع المصيبة يفرح بها، أو يستقر قلبه ولا يجزع ولا يخاف‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الإيمان بالله والإيمان بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، إذا فعلتَ ذلك وأحسستَ به إذا جاءتك المصيبة كان شعورك عندها كشعور الآخرين إذا جاءتهم النِّعَم‫.‬ المؤمن كخامة الزرع أمره كله خير إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر، علامة المؤمن إذا أُنعِمَ عليه شكر وإذا ابتُليَ صبر وإذا ظُلِمَ غَفَر، ذاك هو المؤمن‫.‬ من يؤمن بالله يَهْدِ قلبَه، تأتي المصائب فتجده ثابتاً مستقراً كالجبل لا يتزعزع، تسمعه يقول قَدَّر الله وما شاء فعل، يستحيل أن تجده يقول لو أيى فعلُت كذا أو لو أن كذا لكان كذا، أبداً، فما ذلك بقول مؤمن، وإنما تجده يقول‫:‬ إنا لله وإنا إليه راجعون اللهمَّ أْجُرني في مصيبتي وأَخْلِف عَلَيَّ خيراً منها، ذلك قول المؤمن‫.‬ من هنا يقول الله‫:‬ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ نعم تجد الناس بعضهم يجزعون عند المصائب وبعضهم يصبرون، لا يمكن أن تعرف شعور المؤمن عند وقوع المصيبة إلا إذا كنت من هؤلاء الناس الذين هدى الله قلوبهم ومنهم من قال‫:‬ أجد سروري عند مواقع القَدَر، إذا أصابته المصيبة سُرَّ لأنه علم أن المصيبة معناها تكفير للسيئات أو رفعة للدرجات من هنا يفرح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إذاً فإن أصابك بمصيبة فهو عليم بهذه المصيبة عليم بمدى استقبالك لها، بإيمان؟ بصبر؟ أم بجزع؟ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(١٩)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(٢٠)﴾ [سورة المعارج آية‫:‬ ١٩- ٢٠] هل أنت من هؤلاء؟ أم أنت من الذين قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون؟ (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عليم بما يُصلِحُك، فمن العباد من يَصلُح له الفقر ولو أغناه الله لفسد حاله، ومن العباد من يصلح له المرض ولو صححه الله لفسد حاله، الجبارون في الأرض لو أصابهم الله بالمرض هل كانوا يكونون كذلك؟ هل يظلمون الناس؟ هل يمكن المقعد أو الضرير أو الأعمى أن يسرق أو يظلم؟ من أُصيب بمصيبة ربما أقعده الله عن الشر بهذه المصيبة وهو لا يدري أن ذلك خير له، نعم والله بكل شيء عليم، يعلم ما يصلح العباد ويختار لهم ما يصلحهم‫.‬ ثم يقول الله آمراً:
وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ ﴿12﴾
‫﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ أكّد بالتكرير، كرر الأمر بالطاعة ليبين بهذا أن طاعة الرسول كطاعة الله سواءً بسواء، من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن عصى الرسول فقد عصى الله‫.‬ ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ وأعرضتم عن الطاعة‫.‬ ﴿فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ ليس عليه إلا البلاغ وقد بلّغ، أشهد أنك بَلَّغْتَ يا رسول الله وكلنا نشهد أنه قد بَلَّغَ الرسالة وأدّى الأمانة‫.‬ ليس عليه إلا البلاغ، لا يُسأَل عما نفعل، ليس مسئولاً عن إيمان الناس أو كفرهم بل عليه البلاغ‫.‬ فإن توليتم وأعرضتم عن الطاعة ﴿فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ والآية صيغتها تفيد الحصر، واجب الرسول في إبلاغ الرسالة فقط‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱللَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿13﴾
نَعَم الله لا إله إلا هو‫.‬ طالما أن الله لا إله إلا هو، هو الخالق، هو الرازق، هو المدبر، هو المصرف، هو المهيمن، هو المحيي، هو المميت، هو الضار، هو النافع، فإن علمتَ ذلك علمتَ أن ما من فعل يقع إلا والله هو الفعال، ما من شيء يحدث إلا والله هو المحدِث، ما من شيء، لو أصابك حجر من يد طفل عابث الله الذي رمى وما رمى الطفل شيئاً، لابد وأن تعلم ذلك، لو لدغك عقرب فالله الفعال والعقرب وسيلة، كل الأفعال التي تحدث في هذه الدنيا ما هي بحيث ترى فاعلون من الناس لها إلا كأقلام القدرة، الله هو الذي يكتب والناس أقلام تخط ما قَدَّرَه أزلاً. نَعَم المرض من الله والصحة من الله وإن كان الأدب يمنع أن تقول ذلك كما قال إبراهيم‫:‬ ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ٨٠] ومن الذي أمرضه؟ هو الله‫.‬ (الله لا إله إلا هو) إذا ًفليس هناك مستوجب لصفات الألوهية غير الله، هو الله المستحق لصفات الألوهية المتصف بصفات الجلال والكمال الفعال لكل شيء‫.‬ إذا علمتَ ذلك فعلى الله فليتوكل المؤمنون، أمر منطقي، نتيجة (الله لا إله إلا هو) (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) نتيجة منطقية لوحدانية الله، إذا علمتَ ذلك أبداً فتوكلك لابد وأن يكون على الله‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ ينصح نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ابنَ عمه -ابن عباس- وهو مُردِفٌ له على فرس له أو على ناقة‫:‬ (يا غلام اسمع أُعَلِّمُك كلمات‫:‬ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تُجاهَك إذا سألتَ فاسأل الله وإذا استعنتَ فاستعِن بالله واعلَم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ما ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيءٍ كتبه الله عليك رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصحف) نَعَم رُفِعَت الأقلام وطُوِيَت الصحف‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عنه الإمام البخاري‫:‬ "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الايمان فقال له‫:‬ أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وآمن، ثم قعد في طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك أهلك ومالك؟ فخالفه وهاجر، ثم قعد له في طريق الجهاد فقال له‫:‬ أتقاتل فتقتل نفسك وتُنكَح نساؤك ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقُتِلَ فَحَقٌّ على الله أن يدخله الجنة". وعداوة العدو لم تكن لذاته وإنما عداوة العدو بسبب فِعْلِه، فما من عداوة بسبب ذات العدو وإنما تكون العداوة بسبب فعل العدو، وكل من يفعل فعل العدو فهو عدو وإن كان زوجاً أو ابناً أو بنتاً، فما من عداوة إلا وبسبب فعل وكل من يفعل فعل العدو فهو عدو، وقعود الشيطان لابن آدم يكون من طريقين‫:‬ إما بالوسوسة فيقذف إلى قلب العبد خواطر السوء، وإما أن يسلط عليه صديقاً أو زوجاً أو زوجة أو ابناً أو ابنة فيأتيه من حيث لا يحتسب ويحمله على فعل ما يريد من ترك الطاعة وإيتاء المعصية عن طريق من يحب، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٢٥] وقد كان رجال من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أسلموا وأرادوا الهجرة من مكة إلى المدينة فقال أهلوهم ونساؤهم وأولادهم‫:‬ صبرنا على إسلامكم ولا طاقة لنا على فراقكم، وبكوا وثبطوهم عن الهجرة، وحين هاجروا من بعد ووصلوا إلى المدينة وجدوا إخوانهم الذين سبقوهم بالهجرة قد فقهوا في دينهم وسبقوهم في العلم والحفظ والتحصيل فأقسموا لينتقمن ممن ثبطهم عن الهجرة فنزل قول الله (تبارك وتعالى):
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَـٰدِكُمْ عَدُوًّۭا لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا۟ وَتَصْفَحُوا۟ وَتَغْفِرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ ﴿14﴾ إِنَّمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌۭ ۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجْرٌ عَظِيمٌۭ ﴿15﴾
وقال بعض الناس‫:‬ أن الآيات نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان بالمدينة وكلما أراد الغزو مع رسول الله بكت امرأته وبكى عياله وقالوا لمن تتركنا؟ فرققوه فجلس وقعد، ونزلت بسبب ذلك‫.‬ وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم فالآيات عامة، حكمها عام في كل إنسان يدفعه حبه لأهله وولده وماله لارتكاب المعاصي أو الامتناع عن الطاعة، فالآيات عامة وهي للرجل وهي للمرأة والخطاب عام‫.‬ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ذكراً كان أو أنثى، فقد يكون الزوج والولد عدواً للمرأة وقد تكون الزوجة والولد عدواً للرجل‫.‬ ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ وجاء بكلمة "مِنْ" للتبعيض فليس كل زوجة عدوة وليس كل ولد من الأعداء وإنما بعض الأزواج وبعض الأولاد‫.‬ والعداوة عداوة في الدين وليست في الدنيا هي عداوة في الدين بالحض على المعصية أو الدفع إلى المعصية أو التثبيط عن الطاعة، ولا أقبح من الحيلولة بين العبد وبين طاعة ربه فلا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين طاعة ربه فطاعة العبد لربه أساس السعادة في الدنيا وفي الأخرى‫.‬ ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ أي فاحذروهم على أنفسكم‫.‬ والحذر على النفس يكون من خطرين‫:‬ ضرر في البدن أو ضرر في الدين‫.‬ والضرر في البدن من أمور الدنيا، والضرر في الدين من أمور الآخرة‫.‬ يحذرنا ربنا ويأمرنا بأخذ حذرنا أن نحترس ونحترز من عداوة الزوجة والابن، وكذلك الزوجة أن تحترس من عداوة الزوج والابن، بعض الأزواج وبعض الأبناء‫.‬ هذه العداوة بمعنى أن حب الإنسان للأهل والولد قد يطغيه، قد يمنعه عن الطاعة، قد يدفعه إلى المعصية‫.‬ ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أمر ربنا بالعفو والصفح والمغفرة فهو الغفور الرحيم‫.‬ أمر بذلك لأن مِلَاكَ الأمر في يد الرجل ومِلَاكَ الأمر في يد الإنسان ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقلبك بيدك تستطيع أن تجمح جماح شهوتك وتحرص على الإتيان بالطاعة‫.‬ العفو‫:‬ المحو، ترك العقوبة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِنْ تَعْفُوا﴾: تترك عقوبتهم‫.‬ حيث أقسم الرجال الذين هاجروا أن يعاقبوا نساءهم وأبناءهم فأمرهم الله بترك العقوبة‫.‬ ﴿وَتَصْفَحُوا﴾: بترك اللوم والتثريب‫.‬ فالصفح‫:‬ ترك اللوم والتثريب والمعاتبة، والعفو‫:‬ ترك المعاقبة على الذنب، والغَفْر‫:‬ الستر، نسيان الإساءة، نسيان الذنب، إخفاء الذنب والتمهيد للاعتذار، فمن أخطأ في حقك فمهِّد له سبيل الاعتذار حتى تكسبه إلى جوارك‫.‬ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعاملكم بما عاملتم به الناس، فإن عفوتَ عفا عنك الله وإن صفحتَ صفح الله عنك وإن غفرتَ غفر الله لك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‫.‬ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ ولم يأتِ بكلمة "مِنْ" للتبعيض هنا كما جاء بها "إن من أزواجكم" إذاً فكل مال فتنة وكل ولد فتنة‫.‬ ومن الغريب أن زينة الدنيا المال والبنون (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) ومع ذلك فلا فتنة إلا في المال وفي الولد، الدنيا كلها إلى زوال، إنما أموالكم وأولادكم فتنة فالمال والولد فتنة على كل حال، يبرأ منها التقي ويقع فيها الشقي‫.‬ الفتنة‫:‬ الامتحان، الفتنة‫:‬ الاختبار، الفتنة‫:‬ المحنة، الفتنة‫:‬ البلاء والابتلاء‫.‬ أموالكم وأولادكم فتنة تُمتَحَنون بها، تُختَبَرون بها، من نجح نجح ومن سقط سقط‫.‬ ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أجرٌ عظيمٌ لمن أطاع الله، لم يحمله حبه لماله وولده على المعصية أو على التثبيط عن الطاعة بل أطاع الله وأرضى الله في سَخَطِ الناس، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله في رضا الناس سَخِطَ الله عليه وأسخط عليه الناس‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ومن الأمثلة على ذلك أن يوم القيامة يؤتى بالرجل وامرأته ويخاصم الرجل زوجته، نَعَم في يوم التغابن، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فقد حملوه على العصيان وثبطوه عن طاعة الرحمن، يؤتى بالرجل ويُسأَل ويُخاصِم ويقول‫:‬ يا رب أوجَبْتَ عَلَيَّ نَفَقَتَها -يتحدث عن امرأته وهي واقفة- يا رب أوجَبْتَ عَلَيَّ نَفَقَتَها فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ وحرامٍ، وهؤلاء الخصوم يقفون يطلبون حقهم ولا أجد ما أوفي به -وكأنه يطلب أن تحتمل امرأته ذنبه أو وزره أو تسد عنه فقد تعسف من حلال وحرام وأتى المال من حلال وحرام من أجل امرأته وأهله- فيقول الله للمرأة‫:‬ ماذا أنتِ قائلة؟ فتقول‫:‬ يا رب ما عسى أن أقول؟ المرأة تبدأ في الدفاع عن نفسها فتقول‫:‬ يا رب اكتَسَبَهُ حراماً وأَكَلْتُهُ أنا حلالاً، فهي غير مسئولة هو المسئول، هو الذي يحصّل المال، تقول‫:‬ يا رب وما عسى أن أقول؟ اكتَسَبَه حراماً وأَكَلتُهُ حلالاً وعصاك في مرضاتي ولم أرض له ذلك فبعداً له وسحقاً. فيقول الله (عز وجل): صَدَقَتِ، فيَأمُر به إلى النار ويَأمُر بها إلى الجنة فَتَطَّلِع عليه من طبقات الجنة وتقول‫:‬ غَبَنَّاك غَبَنَّاك وسعدنا بما شقيتَ أنتَ به (ذلك يوم التغابن). ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ولم يرد ذكر الأجر، (أجر عظيم) نكرة، (أجرٌ) لا يعلم عِظَمَ هذا الأجر إلا العظيم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يدخل الناس الجنة ويناديهم ربنا تبارك وتعالى‫:‬ "يا أهل الجنة هل رضيتم؟ " فيقولون‫:‬ كيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول الله (عز وجل): "ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ " قالوا‫:‬ يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول الله (عز وجل): "أُحِلَّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ بعد أن بَيَّن لنا ربنا الموقف؛ زينة الحياة الدنيا -المال والبنون- هم فتنة، هم امتحان، هم ابتلاء، فماذا أنت فاعل؟ في يوم القيامة يتبرأ الناس بعضهم من بعض بل ويلعن بعضُهُم بعضاً ويفر المرء من أبيه وأمه وصاحبته وبنيه بل وفصيلته التي تؤويه ومَنْ في الأرض جميعاً ويتمنى من الله أن ينجيه‫.‬ بعد ما بَيَّنَ لنا ربنا هذا الموقف يقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا۟ وَأَطِيعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَيْرًۭا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿16﴾
‫﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ قال بعض العلماء‫:‬ نزلت ناسخة لقول الله (اتقوا الله حق تقاته) حين نزل قول الله‫:‬ (يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته) اشتد ذلك على المسلمين فقالوا‫:‬ وكيف نتقي الله حق تقاته؟ أنى لنا بهذا وكيف لنا أن نؤدي هذه التقوى كما يجب؟ فاشتد الأمر عليهم، فنزلت الرحمة وتَلَطَّفَ الله بهم وقال‫:‬ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فهي ناسخة‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ أبداً لم تنسخ شيئاً (اتقوا الله حق تقاته) آية محكمة وهي تعني الأمر لكل مسلم أن يجاهد في الله حق الجهاد وألا يخاف في الله لومة لائم وأن يحكم بالقسط ولو على نفسه وأهله وولده، أن يقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم أو أبنائهم أو إخوانهم، تلك هي التقوى حق التقى، اتقوا الله حق تقاته‫:‬ ألا تخاف في الله لومة لائم، وتتقي الله حق تقاته‫:‬ أن تجاهد في الله حق الجهاد، أن تقسط ولو على نفسك أو أبيك أو ابنك‫.‬ أما (فاتقوا الله ما استطعتم) فهي خاصة بالهجرة، والكلام عن هؤلاء الذين منعهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، وقد رَخَّصَ الله للضعفاء فقال‫:‬ ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٩١] تكلم عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فعسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفوراً رحيماً، يقول الله ربنا لهم‫:‬ (واتقوا الله ما استطعتم) أي اتقوا الله وهاجروا مادمتم مستطيعين للهجرة، أي اتقوا الله ما استطعتم‫:‬ الهجرة، فالآية خاصة بهم وذاك رأي مرجوح‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل الآية خاصة برفع الإثم عن كل مُكرَه على العصيان، فمن أُكرِهَ على المعصية لا إثم عليه فاتقوا الله ما استطعتم، فطالما لم يستطع العبد أن يمتنع عن المعصية لأنه أُكرِهَ عليها رفع الله عنه الإثم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعض الناس‫:‬ بل حين نزلت (واتقوا الله حق تقاته) قام المسلمون ليلهم وصاموا نهارهم فتورمت أقدامهم وتسلخت جباههم من كثرة القيام وكثرة السجود فأنزل الله‫:‬ (فاتقوا ما استطعتم) أي قدر الطاقة، قدر الطاعة‫.‬ وقال بعض الناس -وهو الرأي الأرجح- أن هذه الآية (فاتقوا الله ما استطعتم) في المأمورات وفضائل الأعمال (اتقوا الله ما استطعتم)، أما في المعاصي والكفر والفجور (اتقوا الله حق تقاته) واستدلوا على ذلك بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) رواه الشيخان يقول فيه عليه الصلاة والسلام‫:‬ "إذا أمرتُكُم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتُكُم عنه فاجتنبوه". إذاً فالإتيان بالمأمورات وفضائل الأعمال بقدر الطاقة أما البعد عن المعاصي والكفر والفجور فلابد من بذل جميع الجهد والطاقة‫.‬ ﴿وَاسْمَعُوا﴾: اسمعوا المواعظ، اسمعوا القرآن‫.‬ والسماع أول درجات العلم، والسماع أُمِرْنا به‫:‬ ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٠٤] واسمعوا التنزيل واسمعوا القرآن واسمعوا الموعظة‫.‬ ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أطيعوا أمر الرسول (من يطع الرسول فقد أطاع الله) والسمع والطاعة بويع عليهما النبي (صلى الله عليه وسلم) فما من بيعة بُويِعَ عليها إلا وقد بُويِعَ على السمع والطاعة، فالسمع أول درجات العلم، فحين تسمع تُصغِي وتنصت تفهم وتَعلَم، فإن فهمتَ وعَلِمْتَ عَمْلِتَ بما عَلِمْتَ، تلك هي الطاعة، فالسماع ثم الطاعة‫.‬ ﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنفقوا خيراً لأنفسكم‫:‬ أي أنفقوا في سبيل الله يكن خيراً لأنفسكم منصوبة بكان مقدّرة‫.‬ أو هي نعت لمصدر محذوف أنفقوا إنفاقاً خيراً لأنفسكم‫.‬ أو هي منصوبة بأنفقوا إذا كان المال هو الخير، عَبَّر عن المال بالخير‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا﴾ إذا فقد سَمَّى المال خيراً، والمال يكون خيراً إذا أُنفِقَ في مصارفه ويكون شراً إذا أطغى صاحبه، فمن المال مبارك ونميٌّ ومن المال مُهلِكٌ مُطغيٌّ. أنفقوا خيراً لأنفسكم ومن أحسن فقد أحسن لنفسه ومن أساء فقد أساء عليها، من عمل صالحاً فلنفسه، إذاً فما من خير إلا وعائد عليك فالله (تبارك وتعالى) غني عن عباده وهم الفقراء إليه‫.‬ والإنفاق هنا‫:‬ المفروض والتطوع؛ الزكاة وصدقة التطوع، كل إنفاقٍ خيرٌ لك، فإن كان إنفاقاً مفروضاً كالزكاة فهو تطهير لمالك ونماء، وإن كان الإنفاق من الصدقات فهو شفاء للمرضى وذهاب للأسقام، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "داووا مرضاكم بالصدقات" ويقول‫:‬ "الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء نار الحطب". ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الشُّحُّ: البخل مع الطمع والحرص‫.‬ وجُبِلَت الأنفس على الشح، ووقاية الإنسان من الشح تكون بفضل الله (عز وجل) لذا يقول‫:‬ ﴿ومن يُوقَ﴾ أي يَقِيهِ اللهُ. (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الذين فازوا بالنجاح واجتازوا دار الابتلاء إلى دار الرضا والثواب‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (تَعِسَ عبد الدينار تَعِسَ عبد الدرهم تَعِسَ عبد الخميصة تَعِسَ عبد القطيفة تَعِسَ وانتكس وإذا شِيكَ فلا انتقش) تَعِسَ وانتكس‫:‬ أي رُدَّ على رأسه، نُكِسَ على رأسه، عاد إلى الكفر بعد الإيمان، فالبخل قرين الكفر، والبخلاء بعيدون عن الله بعيدون عن الناس بعيدون عن الجنة قريبون من النار، البخل كُفْر، البخل عدم ثقة في الله، البخل ثقة في مالك وعدم ثقة فيما في يد الله‫.‬ تَعِسَ وانتكس‫:‬ أي رُدَّ. وإذا شِيكَ: أي دخلت في جسده شوكة، فلا انتقش‫:‬ فلا تخرج بالمنقاش، وإذا دخلت فيه الشوكة لا ينفعه المنقاش -أي الملقاط- لا تخرج الشوكة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكأن الحديث تهديد بالتعاسة في الدنيا والآخرة لمن فَضَّلَ المال على الطاعة أو عَبَدَ المال أو عَبَدَ القطيفة، عَبَدَ الجاه، عَبَدَ الرياسة، عَبَدَ المنظر، عَبَدَ المال، عَبَدَ الغِنَى، عَبَدَ الدنيا، تَعِسَ وانتكس، رُدَّ إلى الفقر بعد الغنى وإلى الحاجة بعد الاستغناء، بل وإذا مرض فلا شفاء له، إذا شِيكَ فلا انتقش، الشوكة شيء بسيط تستخرج بالملقاط، هذا إذا شِيكَ فلا انتقش، أهو دعاء أم هو خير؟ مع أن المسلم إذا شِيكَ بشوكة كَفَّرَ الله بها من خطاياه ورفع بها من درجاته، تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم‫.‬ إن من أجمل الاستعارات في القرآن تلك الاستعارة التي عبر بها القرآن عن الإنفاق على الفقراء أو الإنفاق في سبيل الله حيث يقول (عز وجل):
إِن تُقْرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا يُضَـٰعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴿17﴾ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿18﴾
‫﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾ استعارة تمثيلية غاية في الرقة واللطف والحنان، فإنك إن أخرجتَ مالك ووضعتَه في يد الفقير قد يشعر بشيء من المهانة أو قد يشعر بشيء من الضعف أو الذلة فيُطَيِّبُ ربُّنا (تبارك وتعالى) نفسَه فيسمي النفقة على الفقير وفي سبيل الله قرضاً، والقرض يخرج بغرض الاستبدال أو الاستعواض فما من قرض إلا وهو مردود، فإذا علم الفقير أن ما تعطيه له ما هو إلا قرض منك إلى الله طابت نفسه‫.‬ رقة، استعارة تمثيلية، مَثَّلَ الإنفاق في سبيل الله بالقرض الذي يقرضه الرجل لأحد وهو ينتظر رد القرض‫.‬ أيضاً من رحمة الله أنه خلقنا لا نملك شيئاً ثم مَلَّكَنا المال فهو المالك الحقيقي للمال واستَخْلَفَنا فيه، وحين يأمرنا بالإنفاق فذاك أمرٌ واجب الطاعة فالمال ماله هو خالقه، هو رازقه، وهو خالقك وواضع المال في يدك ومع ذلك يقول‫:‬ (إن تقرضوا الله) كأنك تقرض الله وكأنك صاحب المال، أنتَ تُقرِضُه وهو مُلزَمٌ بِرَدِّه إليك ومع ذلك لا يَرُدُّه كما هو بل يضاعفه أضعافاً كثيرة‫.‬ ﴿يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾ ﴿يُضَعِّفهُ لكم﴾ قراءة‫.‬ يضاعفه أضعافاً كثيرة؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويزيد، وفضل الله واسع‫.‬ والقرض الحسن له شروط هي‫:‬ أن تنفق من المال الحلال بصدق نيّة وطِيبِ نفس مبتغياً وجه الله دون رياء أو سمعة وبغير مَنٍّ ولا أذى، وأن تتحرى أكرم الأموال وأفضل الجهات، ذاك هو القرض الحسن‫.‬ وليست كل نفقة قرضاً حسناً، فقد ينفق الرجل ليقال عنه كريم، فإذا كانت النفقة من مالٍ حرام لا يتقبلها الله، وربنا طَيِّب لا يقبل إلا الطيب، فالقرض الحسن أن يكون من المال الحلال بصدق نية وبطيب نفس طيّبة به نفسك وابتغاء وجه الله دون رياء مع الناس أو سمعة وبغير مَنٍّ ولا أذى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٤] وأن تتحرى أكرم الأموال لا تنفق مما تَكرَه ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٦٧] ولكن أنفقوا من طيبات ما كسبتم، أن تتحرى أكرم الأموال لتنفق منها وأكرم الجهات وأفضل الجهات كي تنفق فيها، ذاك هو القرض الحسن‫.‬ (يضاعفه لكم ويغفر لكم) فالصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء نار الحطب، والصدقة تداوي المرضى، والصدقة تكفر الذنوب، والصدقة تمحو السيئات، وربنا يَعِدْ بذلك؛ يضاعف القرض، يضاعف لك النفقة، ويغفر كذلك لك‫.‬ ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ الشكور هو الله، الشُّكْر‫:‬ مجازاة المحسِن بالفعل أو بالثناء عليه‫.‬ الشكور سبحانه الذي يعطي الجزيل على العمل القليل، ويعطي كثير الدرجات على القليل من الطاعات، ويعطي على العمل المحدود نعيماً غير محدود، فأنت لو أطعتَ اللهَ عمرك كله؛ خمسين عاماً، مائة عام، ألفاً من السنين، تُجازى على العمل في المدة المحدودة بنعيم غير محدود (خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) فيعطي نعيماً غير محدود على العمل المحدود، ويعطي الجزيل على العمل القليل، ويعطي رفعة الدرجات وكثرة الدرجات على القليل من الطاعات‫.‬ ﴿شَكُورٌ﴾ أيضاً يُثني على العباد، الشُّكر‫:‬ الثناء، يُثني على المحسنين منهم، وقد أثنى في مُحكَم كتابه على عباده الصالحين، وعلى سبيل المثال يثني على سليمان ويقول‫:‬ (نِعْمَ العبد إنه أواب) وأثنى على الأنبياء وأثنى على الصالحين وأثنى على عباده الطائعين، نعم هو الشكور (سبحانه وتعالى) ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ والحِلم‫:‬ الأناة وعدم التعجل والتروي‫.‬ والحِلم يطلق أيضاً على العقل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والحليم سبحانه وتعالى لا يسارع بالمؤاخذة ولا يعجل العقوبة يرى معصية العاصي ويرى مخالفة أمره فلا يستفزه الغضب ولا يعتريه غيظ ولا يدفعه على المسارعة بالانتقام رغم غاية الاقتدار طيشٌ أو عَجَلة وإنما هو الحليم يمهل العاصي لعله يتوب‫.‬ الحليم سبحانه يعصونه ويرزقهم، يعصونه ويسترهم، يكفرون به ويَحلُمُ عليهم ويمهلهم، هو الحليم (سبحانه وتعالى) ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ عالم الغيب والشهادة‫:‬ كل ما غاب وكل ما ظهر، السر وأخفى، الغيب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة والشهادة ما هو حاصل، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، يعلم ما مضى وما هو آت، يعلم السر وأخفى، يعلم ذوات الصدور، يسمع هواجس الضمير ويرى خفايا الوهم والتفكير، عالم الغيب والشهادة فيعلم نية المنفِق هل أقرض الله قرضاً حسناً؟ هل ابتغى به وجه الله؟ يعلم الشحيح ويعلم الكريم، يعلم الأعمال والنية وفي كل شيء ومن كل شيء وأي شيء وفي أي وقت، ربنا عِلْمُهُ أبدي أزلي لا يزول‫.‬ ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزة‫:‬ القوة والغلبة، والعزيز من الأشياء‫:‬ النادر الذي يصعب وجود مثله وتشتد الحاجة إليه، والعزيز‫:‬ الممتنِع الذي لا يُدرَك ويصعب الوصول إليه‫.‬ أما العزيز المطلق هو الله الممتنِع عن الإدراك المرتفع عن أوصاف الممكنات، الذي جَلَّت مكانته فلا يَذِلُّ، واستغنى بذاته فلا يحتاج لشيء ويحتاجه كل شيء، وهو الموجود المطلق صاحب الوجود المطلق بلا شبيه وبلا مثيل، هو العزيز، قوي غالب لا يُدرَك، لا تصل إليه الأفهام ولا تدرك كُنهَ ذاته العقول، لا يُدرَك ولا يمكن أن يوجد له شبيه ولا مثيل، هو الواحد الأحد المطلق صاحب الوجود الحق، قويٌّ غالب يحتاجه كل شيء وهو مستغنٍ بذاته عن كل شيء‫.‬ (الحكيم) الحكمة‫:‬ الإصابة في القول والعمل، الحكمة‫:‬ إتقان العمل، الحكمة‫:‬ وضع الشيء في موضعه، تلك هي الحكمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الحكيم (سبحانه وتعالى) في تدبير أمر خلقه فهو يختار لهم الأصلح (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) الحكيم (سبحانه وتعالى) في كل ما قضى وقَدَّر، الحكيم في وَضْعِ كل شيء في موضعه فما من شيء في هذا الوجود إلا وقد وُضِعَ في موضعه ولو اختل الوضع لاختَلَّت الدنيا بأسرها‫.‬‬‬‬
‫ربنا حكمته قد تظهر بعض الأحيان وقد تخفى في كثير من الأحيان، حكمة الله خفية ولا يعرفها الإنسان وإنما المستسلِم لله المسَلِّم لله الراضي بقضاء الله هذا قد ينير الله بصيرته فيرى الحكمة في الأمور مصداقاً لقوله (عز وجل) وتحقيقاً لوعده‫:‬ (ومن يؤمن بالله يَهْدِ قلبَه) حيث يقول في هذه السورة‫:‬ (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) نعم يهدأ قلبه، يرى ويعلم ويبصر، بل ويبصر بنور الله، وقد قيل‫:‬ اتقوا فَرَاسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، فإذا وقعت المصائب ووقعت البلايا رأي اللطف الخفي من خلالها ورأي الحكمة الخفية وعَلِمَ ما لم يعلمه الناس ورأي ما لا يراه الناس، فهو عبداً ربانياً يرى الحكمة ويرى كل شيء، وإن أحب شيئاً عَلِمَ الكراهة فيه وإن كره شيئاً عَلِمَ الفضل فيه حتى مع الزوجة ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ١٩] الدنيا زينة، الدنيا فيها المال وفيها الولد ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٦] هذه الزينة هي الفتنة، هي الامتحان، وطالما كان المال وكان الولد ابتلاءً وامتحاناً فربما يأتي السؤال من غير ما تشعر، وربما يأتي الامتحان غير صريح، فتُمتَحَن وتَبتَلَى من حيث لا تشعر، لكن المؤمن صاحب الفراسة يرى الفتنة ويرى الابتلاء فيُبَصِّرُه الله، وإذا جاءته خواطر الشيطان تَذَكَّر ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٠١] لم يقل (متذكرون) والبصر بعين القلب يشرح لك كل شيء ويفضح لك كل زيف وترى ما لا يراه غيرك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقد جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسأله رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "كيف أصبحت؟ " قال‫:‬ أصبحتُ يا رسول الله مؤمناً حقاً، فقال النبي (صلى الله عليه و) سلم‫:‬ "يا حارثة انظر ما تقول فان لكل حَقٍّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " قال‫:‬ يا رسول الله عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري وكأني أرى الجنة وأهل الجنة فيها يُحبَرون وأرى النار وأهل النار فيها يَتَعاوون وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "يا حارثة عَرَفْتَ فالزم".