سورة المنافقون

مقدمة
خرج النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ في غزوة بني المصطلق، وتبادر الناس إلى الماء يستقون، وأرسل عمر بن الخطاب أجيراً له يدعى جَهجَاه بن سعيد، وذهب جهجاه إلى الماء فوجد حليفاً لعبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول شيخ المنافقين يستقي واسمه سنان الجهني، أراد سنان حليف شيخ المنافقين أن يمنع جهجاه أجير عمر بن الخطاب من ملء الدلو، تشاجرا فلطم جهجاه سناناً فصرخ سنان: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، وكادت أن تقوم فتنة، وقال شيخ المنافقين ابن سلول: أَوَقَدْ فعلوه؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ منها الأَذَلَّ، يقصد بالأعز نفسه ويقصد بالأذل سيد الخلائق ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وصَحْبَه، نعم يقصد بذلك سيد الخلائق ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وصحبه، والتفت إلى أصحابه وقال: مُقَام هؤلاء عندكم بالمدينة بسبب إنفاقكم عليهم، لا تنفقوا على مَنْ عِنْدَ محمد حتى ينفضوا عنه ويتركوه بالمدينة ويخرجون. وسمع مقالته مؤمن شاب -زيد بن الأرقم- فثار وذهب إلى رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وأخبره، وجاء عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول لرسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾، فحلفوا لرسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بأغلظ الأيمان ما قالوا فَصَدَّقَهم رسول الله وكَذَّب زيداً، يقول زيد: فرجعت إلى بيتي وجلست مهموماً ما أصاب أحداً ما أصابني ولقيت الهوان من أصحاب رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وجاءنى عمي يقول: ما أردتَ إلا أن يغضب عليك رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ كَذَّبَك وصَدَّقَ الآخرين، ونزلت سورة المنافقين تُصَدِّقُني وذهبتُ إلى رسول الله -أو كان معه في سفر- فأقبل عليه النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ هاشَّاً باشَّاً و عَرَكَ أُذُنَه وقال:"لقد صَدَّقَكَ الله".
نزلت سورة المنافقون تفضح المنافقين وتَصِمُهُم وتصفهم بأبشع الأوصاف، وأهم ما وصفتهم به الكذب والجبن، فإن من أقر بشيء وهو يعتقد خلافه فهو كاذب لا محالة. فضحتهم وهتكت سِترَهم وكشفت سرهم وأخبرت النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بمقالتهم بالحرف وتوعدهم الله. سورة المنافقون سورة مدنية، وغزوة بني المصطلق كانت في المدينة، يقول الله (تبارك وتعالى):

إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ قَالُوا۟ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ ﴿1﴾ ٱتَّخَذُوٓا۟ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةًۭ فَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿2﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿3﴾
﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ مقالة المنافقين، وَصَمَهُم الله ووصفهم بالنفاق. ﴿قالوا نشهد إنك لرسول الله﴾ والشهادة: إخبارٌ بِعِلْمٍ من الشهود بحضورٍ واطلاع، تلك هي الشهادة: إخبار بعلم ممن يشهد بحضور أو باطلاع، أو بحضور واطلاع. فها هم يشهدون ويؤكدون شهادتهم باليمين أو بالتأكيدات :"إن" و"اللام" ﴿ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ أكدوا كلامهم، يخادعون الله ورسوله، أقروا وأكدوا هذا الإقرار. ويقول الله: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ فهو الذي أرسلك.
﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ يشهد عليهم بالكذب، صَدَّقَهم في المشهود به وكَذَّبهم في شهادتهم. والجملة اعتراضية، والصياغة غاية في الدقة، والأصل في الكلام: ﴿إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون﴾ تلك هي الصياغة، وإن جاءت كذلك يتوهم السامع أن الله يُكَذِّبُهم في شهادتهم برسالة محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يتوهم السامع أن قول الله: ﴿والله يشهد إن المنافقين لكاذبون﴾ إبطالٌ للرسالة، هم يشهدون إنك لَرَسول الله والله يُكَذِّبُهم إذاً محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ليس برسول، من هنا جاءت الجملة الاعتراضية: ﴿والله يعلم إنك لرسوله﴾ يُقِرُّ بالرسالة، هو الذي أرسله، إذاً فقد صَدَّق المشهود به وهي الرسالة وكَذَّبَهم في ادعائهم الإسلام. ﴿والله يشهد إن المنافقين لكاذبون﴾ أكد الكلام بحرف ﴿إنَّ﴾ و ﴿اللام﴾ لزيادة التقرير والبيان. وأيضاً كان القياس في الكلام: (والله يشهد إنهم لكاذبون) فجاء بالمُظهَر مكان المُضمَر فقال: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ جاء بالمظهَر مكان المضمَر لِوَصْمِهِم بأبشع صفة ألا وهي صفة النفاق. (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ وكل من أخبر بشيء وهو يعتقد خلافه عُدَّ كاذباً بتقرير الله.
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ جُنَّة: وقاية، سُترة، كالمُستَجِنِّ يَستَجِنُّ بجُنَّتِه. الجُنَّة والمِجَنّ: الدرع الواقية من السهام، من الرماح، فيستجن المحارب بالدرع، بالترس يَتَتَرَّس به، فالجُنَّة: السُّترة. هؤلاء المنافقون اتخذوا الأَيمان التي حلفوا بها جُنَّة، سُترة، وقاية تقيهم الشر الذي يتربص بهم؛ تَحِلُّ دماؤهم وتَحِلُّ أموالهم بكفرهم، فأرادوا أن يحموا أنفسهم ويحموا أموالهم فاتخذوا الأَيمان ستاراً كما يتخذ المحارب الدرع ستاراً يحتمي به، فهؤلاء احتموا باليمين، احتموا بالشهادة الكاذبة "إنك لرسول الله". فصدوا عن سبيل الله: أي هم صدوا عن سبيل الله، أعرضوا عن الحق، أعرضوا عن الطريق المستقيم، من الصُّدُود، صدوا عن سبيل الله. أو صدوا غيرهم عن سبيل الله، من الصَّدِّ، صَدَّهُ: صَرَفَه، فهم صَدُّوا غيرهم. هم أعرضوا عن الطريق القويم وعن الحق، وكذلك صدوا غيرهم لأنهم حين ادَّعَوا الإسلام عاملهم الصحابة معاملة المسلمين فلا يألونهم خبالاً، يشيعون بينهم الشائعات، يبغونهم الفتنة، وهكذا يشككونهم، ظاهرهم إسلام وباطنهم كفر، فيطمئن إليهم المسلم فيسمع لهم ويأخذ منهم، فإن سألوا وشَكَّكُوا لم يتشكك فيهم وإنما تشكك في نفسه.
من هنا يقول الله: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ بئس ما كانوا يعملون، أسوأ ما يمكن أن يُعمَل أن يُظهِر العبد خلاف ما يبطن، ولذا يقول الله ﴿تبارك وتعالى﴾: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾ لأن عداوتهم غير ظاهرة، الكافر ظاهر العداوة فتتقيه وتأخذ لنفسك الحذر منه، أما المنافق فذاك الذي يَدَّعي الإسلام ويبطن الكفر، يتربص بك الدوائر ويخدعك ويغشك وتطمئن أنت إليه من حيث هو يتربص بك الدوائر ويسعى إلى الخيانة، من هنا كان ضررهم أشد. ولذلك لم يكن في مكة نفاق، كان في مكة الكفر والكفر الصُّراح، حين عز الإسلام واجتمع المسلمون وقويت شوكتهم في المدينة ظهر النفاق، ولا يظهر النفاق إلا إذا عز الإسلام وعز المسلمون، خاف الكفار فأخفوا كفرهم وأظهروا إسلامهم.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ (ذلك): إشارة، وحرف إشارة للبعيد. لم يقل ﴿هذا﴾ بل قال ﴿ذلك﴾ لبيان بُعدَ منزلتهم في الكفر، غرقوا في الكفر وابتعدوا عن الله وعن رحمة الله بفعلهم، فهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم. و ﴿ثم﴾ هنا ليست للترتيب الإيجادي، بل هي للترتيب الإخباري أي يُرَتِّب الخبر ﴿ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ ترتيب للخبر وليس ترتيب للوجود، لم يؤمنوا فترة من الزمان ثم كفروا بعد ذلك، أبداً، هم كفار أصلاً وإنما آمنوا باللسان وكفروا بالقلب، فكلمة ﴿ثم﴾ هنا تفيد الترتيب في الخبر. ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ طبع الله عليها، خَتَم. وطالما ختم عليها وطبع عليها لا يَخرُج ما هو فيها ولا يَدخُل فيها ما هو خارجها، فلا يخرج الكفر من قلوبهم أبداً ولا يدخل في قلوبهم الإيمان أبداً.
خُتِمَ لأنهم غشوا، ومن غشنا فليس منا، خدعوا ﴿يخادعون الله والرسول وما يخدعون إلا أنفسهم﴾ يخادعون الله وهو خَادِعُهُم، فطُبِعَ على القلوب، خُتِمَ عليها فلا يدخل إليها الإيمان ولا يخرج منها الكفر. ﴿ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ حالهم لا يفقهون، لا يميزون بين النافع والضار، لا يميزون بين الخير والشر، لا يعرفون فضيلة الإيمان و وَبَال الكفر. خَتَمَ الله على قلوبهم وحَرَمَهُم النور، فليس لهم نور، ومن لم يجعل الله له نوراً فليس له من نور، فهم لا يفقهون في أي شيء؛ مفسدون في الأرض والله لا يصلح عمل المفسدين، فلا صلاح لهم في الدنيا ولا في الآخرة. ويخاطب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ويصفهم له ويبين له أن جمال المنظر إذا كان معه قبح المخبر فذاك أشد أنواع النفاق والخداع والغش، ولا يغرنك جمال الشيء فالعبرة بمضمونه والعبرة بحقيقته. ويقول الله (تبارك وتعالى):
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا۟ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌۭ مُّسَنَّدَةٌۭ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿4﴾
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ﴾ كان عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول شيخ المنافقين جسيماً جميلاً وسيماً فصيحاً ذَلِقَ اللسان، وكان أصحابه كذلك، فإذا دخلوا على رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ في مجلسه أُعجِبَ بهيئتهم، فالقوي الجسيم يفيد في الحرب ويرهب الأعداء، فهذا المنافق كان جسيماً فصيحاً قسيماً وسيماً وكذلك أصحابه. فيقول الله: إذا رأيتهم يا محمد تعجبك أجسامهم لضخامتها واتساقها وجمالها. ﴿ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ كلام منمق، كلام فصيح، ذلاقة في اللسان وهكذا، فإن تكلموا نمقوا في الكلام ونافقوا وداهنوا، فإذا قالوا تسمع لقولهم أي يعجبك الكلام كما أعجبتك الأجسام. ثم يُشَبِّهُهُم ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ فيقول:
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ الخُشُب المسَنَّدة على الحائط مائلة، أَسْنَدَ: أَمَالَ، مُسَنَّدة: مائلة على الحائط. خشب بلا روح، أشباح بلا أرواح، وأجساد بلا أحلام، لا يعقلون، لا يفقهون، لا يسمعون، إذاً فهم كالخشب بلا روح، بلا عقل. وقُرِئت ﴿ كأنهم خُشْبٌ ﴾ بالإسكان، فإذا كانت خُشْبٌ فهي جمع خَشْبَاء، خَشْبَاء وخُشْب، والخَشْبَاء: الخَشَبَة جميلة المنظر وقد خَاخَ باطنها وداخلها، تسوست من الداخل وفسدت من الداخل، فهي من الخارج جميلة المنظر فإذا دخلتَ إلى داخلها وجدتَها تخوخت، فارغة مُسَوَّسة تالفة، فهم كالخشب المسندة؛ الشكل جميل والمخبر قبيح. ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ وَصَمَهُم بالجبن بعد ما وَصَمَهُم بالكذب. وَصَمَهُم بالكذب أولاً وها هو يصفهم ويَصِمُهُم بالجبن.
هم في حالة من الجبن والخوف والهلع من أن ينزل القرآن فيكشف سترهم ويفضح سرهم ويهتك سترهم ويبيح دماءهم وأموالهم، لأن المنافق إذا فضحه الله ووصمه بالكفر حَلَّ ماله ودمه، من هنا إذا كان رجل بالمسجد وقال: أيها الناس -يبتغي ضالة، سأل عن شيء، يدعو لشيء- أيها الأصحاب، أيها الناس، هُيِّئَ لهم أن الصيحة عليهم وهم المقصودون وقد كُشِفَ أمرهم فينقذف الرعب في قلوبهم، يمتلئون بالهلع والخوف، يَحسَبُون كل صيحةً عليهم، كلما يصيح صائح في أي شيء يُهَيَّأ لهم أن الصيحة هم مقصودون بها، إذاً فرسول الله قد أَمَر بهم يُقبَض عليهم أو يؤخذون وهكذا. إذاً فهم يعيشون في رعب وهلع، تركوا الأمان بالإيمان واختاروا الرعب والهلع بالكفر والنفاق. ويلتفت الخطاب للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ويقول له: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ ﴾ نعم العدو، لأن العدو إذا كان من بيننا ولا نكشف أمره كان أشد خطراً من العدو الذي يُكشَفُ أمرُه ونراه أمامنا فنتقيه أو نهاجمه بالسلاح، بالمبارزة، أو نتقي شره فنحن نعرفه ونعرف شره، أما إذا كان العدو من بيننا يدس فينا السموم كيف نتقيه؟ ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ ليس معنى ذلك أنهم العدو والكفار ليسوا بأعداء، بل معنى الكلام: هم العدو الأكبر، هم العدو الأشد خطراً لأنهم عيون لأعدائك عليك، يطلعون على عورات المسلمين فيخبرون الكفار بذلك.
﴿ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ فاحذر أن تفشي سرك لهم، فاحذر أن يعلموا عن أمرك شيئاً، فاحذر أن تأمن لهم أو تطمئن إليهم. ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ﴾ جملة دُعائية تفيد الذم والتوبيخ، بمعنى: لعنهم الله وأبعدهم من رحمته. ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ﴾ ويعلمنا أيضاً كيف ندعو عليهم، يعلمنا كيف نقول في شأنهم وندعو عليهم، فنقول على المنافقين: قاتلهم الله. ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف يصرفون عن الحق ويذهبون إلى الباطل؟ من الأَفْك وهو الصَّرْف، أَفَكَ: صرف أو قَلَبَ أو غيّر اتجاهه.
﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف يُصرَفون؟ الحق أبلج والباطل لجلج، هم يعلمون أنه رسول الله حقاً، وهم يرون النور نازلاً حقاً ويرون الحوادث ويرون كل شيء ويعرفون أنه رسول الله حقاً فكيف يصرفون عن هذا الحق إلى الباطل؟ كيف عميت عن نوره العيون؟ بلى من شاء الله هداه ومن أضله أعماه ولله في خلقه شئون، نَعَم أنّى يصرفون؟
فضحهم في مقالتهم، وحين فضحهم في مقالتهم وكشفهم ذهب أقرباؤهم من المؤمنين إليهم يقولون لهم: لقد فضحكم الله فاذهبوا إلى رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وتوبوا واجعلوه يستغفر لكم، استغفروا وتوبوا وسَلُوا رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ أن يستغفر لكم. حين قالوا لهم ذلك لوَّوْا رءوسهم وانصرفوا واستهزءوا ولم يبالوا باستغفار الرسول ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ بل وقيل إن عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول قال: أمرتموني فآمنت، آمِنْ فآمَنت، أَخرِج زكاة مالك فأخرجت، لم يبق إلا أن تأمروني أن أسجد لمحمد، وأخذ يستهزئ. ففضح الله هذا التصرف أيضاً فقال في شأنه:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا۟ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْا۟ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴿5﴾ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴿6﴾
لوَوْا، لوَّوْا، قراءتان. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ توبوا عن النفاق وتوبوا عن المقالة التي حلفتم أنكم ما قلتموها (ليخرجن الأعز منها الأذل)(ولا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) إذا قيل لهم ذلك من أقربائهم المؤمنين معشر الأنصار ﴿ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ ﴾ لوى رأسَه أو لوى برأسه: أمالها أو حركها استهزاءً، والخطاب لمن يرى ويعقل. ﴿ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ وجاء بصيغة المضارع (إذا قيل) : ماضي ﴿ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ ﴾ صيغة ماضية, ﴿ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ جاء بصيغة المضارعة لبيان أن صدودهم وعنادهم مستمر إلى الموت، فلن يفتح ربنا عليهم بالإيمان، ولن يوفقهم للتوبة أبداً. والكِبر غير العزة، الكِبر جهل المرء بقدر نفسه، والعزة معرفة المؤمن لقدر نفسه. فهؤلاء مستكبرون استكبروا وظنوا في أنفسهم أكثر مما يستحقون.
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ هؤلاء الذين قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوَّوْا رءوسهم، مهما استغفرت يا محمد أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، لماذا؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ فسقوا، خرجوا عن طاعة الله، خرجوا عن لباس التقوى، تَعَرَّوْا وعَرَّاهم الله (تبارك وتعالى) ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي يستوي الأمر، استغفارك وعدم استغفارك سواء لأن الله لن يغفر لهم، ولو استغفَرَتِ الأرض بما حَمَلَت.
والتعليل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ فهؤلاء قد فسقوا، وبيانٌ لفسقهم.
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا۟ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا۟ ۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴿7﴾ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿8﴾
يحدثنا ربنا مخبراً نبيه عن مقالتهم التي حلفوا أنهم ما قالوها ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ فضحهم-فضحهم وصدّق زيد بن الأرقم صدّق أذنه وفضحهم ﴿عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ هل قالوا رسول الله؟ أم هم قالوا محمد وربنا لم يأتِ بمقالتهم وجاء بصفة النبي الخاتم إجلالاً له وإكراماً له؟ وإن كانوا قالوها فقد قالوها استهزاءً، وإن لم يكن فربنا يقولها إجلالاً وتشريفاً للحبيب الخاتم. ﴿حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ الفَضُّ فَضُّ الشيء: كَسرُه والتفريق بين أجزائه. حتى ينفضوا: حتى لا يجدوا الطعام ولا يجدوا النفقة، يجوعوا فيخرجوا من المدينة. يرد عليهم ربنا مبيناً لهم ما لم يفهموه: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ المنفِق هو الله والرازق هو الله والمطعم والساقي هو الله، لله خزائن السموات والأرض، مفاتح الخزائن، مفاتح الخير، خَلَقَ الشر وقَدَّرَه وخَلَقَ الخير وقَدَّرَه ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [سورة الذاريات آية:22] فما من منفِقٍ أنفق من جيبه وإنما هو ينفق من مال الله الذي أعطاه إياه، ما من منفِق يُنفِق إلا بإذن الله لأن هذه الأموال أرزاق ولا يمكن أن يحصل امرؤ إلا على رزقه والرزق مكتوب.
﴿ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ أيضاً المقالة الأخرى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ يرد الله تبارك وتعالى، وتأتي الصيغة بصيغة الحصر: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ صيغة الحصر، إذاً فلن تكون هناك عزة مطلقاً في هذه الدنيا ولا في الأخرى إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد حُصِرَت العزة في الله، ومن عزة الله عَزَّ رسولُه، ومن عزة رسوله عَزَّ المؤمنون.
وكما قلنا العزة معرفة المؤمن بقدر نفسه فهو معتز بإيمانه، معتز بعزة الله. وأما الكبر جهل المرء بقدر نفسه فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ﴿ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ لا يعلمون ذلك ولا يعلمون شيئاً. هؤلاء المنافقون الذين حاولوا أن يخادعوا رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ويخادعوا المؤمنين ففضحهم الله وهتك سرهم وكشف سرهم، وبَيَّنَ لنا أن المنافق يقول ما لا يعتق، د ولذا ينبهنا رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فيقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كَذَب وإذا ائتُمِنَ خان وإذا وعد أَخْلَف" ويقول: "أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان وإذا حَدَّثَ كَذَب وإذا خَاصَم فَجَر وإذا عَاهَدَ غَدَر" ويقول نبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "المؤمن إذا حَدَّثَ صَدَق وإذا وعد أنجز وإذا ائتُمِنَ وَفَّى". ويحذرنا الله من التخلق بأخلاق لمنافقين والتي وصفها في أول السورة:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ وهم كذلك الذين يقولون: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ ينبهنا ربنا، ينبه أصحاب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وينبه الأمة وينبه المؤمنين ويحذرهم من التخلق بأخلاق المنافقين فيقول:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ﴿9﴾ وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِىٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴿10﴾ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿11﴾
﴿ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ﴾ لا تشغلكم الأموال والأموال، تشغل بجمعها وتنميتها وخزنها وكنزها والفرح بها. وكذلك الأولاد تشغل بالاهتمام بمصالحهم ومستقبلهم وخزن المال من أجلهم والسرور بهم والفرح بهم وما إلى ذلك. فيحذرنا ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ من هذا لأن هذا من خُلُق المنافقين؛ الدنيا والدنيا فقط، فهم لا أمل لهم في الآخرة فهم حريصون على الدنيا والدنيا فيها المال وفيها البنون ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ يحذرنا ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ ويقول: ﴿ لَا تُلْهِكُمْ ﴾ لا تَشْغَلَنَّكُم ﴿ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ذكر الله: الصلاة، ذكر الله: الصيام، ذكر الله: الحج، ذكر الله: فرائض الإسلام، ذكر الله: الطاعات -كل الطاعات- فلا تُلْهِكُمُ الأموال ولا تُلهِكُم الأولاد عن طاعة ربكم، عن الإتيان بما فرضه الله عليكم.
﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ أي تُلْهِهِ أموالُهُ وأولادُهُ عن طاعة ربه وعن الطاعات كالحج والصيام والصلاة والزكاة وما إلى ذلك. ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، لابد وأن يكونوا من الخاسرين، خسروا لأنهم خسروا النعيم، خسروا الخلد في الجنة، خسروا كل ذلك، خسروا الآجل من أجل العاجل، والعاجل لابد وينقضي فالدنيا عمرها قصير.
﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ إذاً فالمنفِق يُنفِق من مال الله ولا ينفق من ماله، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ إذاً فهو الذي أعطاك المال وهو الآن يسألك أن تنفق من هذا المال، هو المالك، هو صاحب المال، هو رازقك للمال يسألك الإنفاق. ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قراءة أخرى ﴿ وأكون من الصالحين ﴾ .
قال العلماء في هذه الآية: مَنْ مَلَكَ مالاً يحج به فأخر الحج حتى مات أَثِم وتمنى الرجوع، ومن كان عليه زكاة فأخر إخراجها ومات تمنى الرجوع، ومن كان عليه صلاة فلم يؤدها في وقتها ومات تمنى الرجوع. وقيل لابن عباس -حين نصح الناس بذلك- قيل له: اتق الله فلا يتمنى الرجعة إلا الكافر
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) ﴾ [سورة المؤمنون آية:99,100] قال: كُلُّ مَنْ له عند الله خير لا يتمنى الرجوع أبداً، لكن المسلم والمؤمن إذا أخر الطاعات وأَجَّلَها وجاءه الموت تمنى الرُّجْعة وسأتلو عليكم قرآناً، يقول الله: ﴿وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب﴾ ﴿ وَأَنْفِقُوا ﴾ والخطاب للمؤمنين ﴿ مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي ﴾ أي هَلَّا أخرتني، استفهام. أو ﴿لو﴾: تمني، و ﴿لا﴾: صِلَة. ﴿ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ويحذر ربنا تبارك وتعالى، وهذه الآية أشد آيات القرآن على الموحدين، فما من مُوَحِّدٍ يسمعها إلا ويخشى ويخاف، والخطاب للمؤمنين: ﴿أنفقوا مما رزقناكم﴾ فالخطاب لهم.
﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ﴾ أبداً! مهما كانت هذه النفس؛ نفس نبيٍّ مُقَرَّب، نفس وليٍّ، نفس مؤمن، أياً كانت هذه النفس، إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها. ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ وإذا كان الله خبير بما نعمل فلابد وأن يجازي طبقاً لخبرته.
والخبرة: علم بالباطن كالعليم: عِلْمٌ بالظاهر، فالخبير هو العالم بالظاهر والعالم بالباطن يعلم الظواهر وما تخفيه الضمائر. أيها الأخ المسلم؛ الإنفاق له لذة، ومن ذاق عرف. وجَرِّب وأنفِق واثقاً بما في يد الله وجَرِّب كيف تذوق حلاوة السخاء، جَرِّب وإنفاق المال ألذ وأحسن وأسعد من قبض المال فتحصيل المال يُشعِرُك بالسعادة وإنفاق المال يُشعِرُك بالسعادة، جَرِّب تجد أن إنفاق المال مع الوثوق بما في يد الله فيه سعادة لا تُقَدَّر بثمن. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ محدثاً عن ابن آدم: "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مال إلا ما أكلتَ فأفنيتَ أو لبستَ فأبليتَ أو تَصَدَّقتَ فأبقيت؟ " هذا هو المال، وما من مال ينفع إلا ما أنفقتَه في سبيل الله لأنك لا تُسأَل عنه، أما أي مال فلابد وأن تُسأَل من أين اكتسبتَه وأين أنفقتَه. يقول نبينا ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ محذراً: "يا أبن آدم خير مالك ما أنفقتَه وشر مالك ما خَلَّفْتَه" لأنك إن تدع مالاً لورثتك فإنك تترك مالك إلا لواحدٍ من اثنين: لِوَلَدٍ صالح يعمل فيه بطاعة الله فيَسْعَدُ بما شَقِيتَ أنتَ به، أو لِوَلَدٍ فاسق يعمل فيه بمعصية الله فيشقى بما جَمَعْتَ أنت له. فَثِق لهم بما عند الله وانجُ بنفسك، انجُ بنفسك فليس لك إلا ما أخذتَ لنفسك وكل ما أنفقتَ من مال عائد إليك ولن تفتقر أبداً. ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ يقول واعداً: ﴿ وما أنفقتم من شيء فهو يُخلِفُه وهو خير الرازقين ﴾ وعدٌ من الله ومن أصدق من الله قيلاً؟ لا أحد. أيها الأخ المسلم؛ الموت قادم لا محالة والإنسان لا يدري من أين يأتي الموت وأين يأتي الموت وكيف يأتي، فاحرص لنفسك وسَلْ نفسك دائماً وأبداً كلما أصبح عليك الصباح: لو أنا مُتُّ الآن أو اليوم تُرَى أأسأل الله الرجوع أم أفرح بلقاء الله؟ فمن فرح بلقاء الله وأحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
سَلْ نفسك هذا السؤال إذا وضعت رأسك على الوسادة لتنام بالليل: لو أنا نمتُ ولم يُصبِح عَلَيَّ الصباح وقُبِضْتُ في نومي هذا، هل أنا مستعد؟ أم أقول أَخِّرْني إلى أجلٍ قريب فَأَصَّدَّق؟ لا تؤخر الخير ولا تؤخر الإنفاق ولا تُسَوِّف وتقول سوف أحج وسوف أزكي سوف أنفق. أنفِق الآن قبل ألا يكون هناك آن. أنفِق وثِقْ بما عند الله، وإذا أذن المؤذن للصلاة قم نشيطاً، فسئل رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ عن أحب الأعمال إلى الله، قال: "الصلاة لوقتها" كلما أذن المؤذن للصلاة قم وصلي في وقت صلاتك، صلي في الوقت كلما أمكن ذلك لأنك لا تدري أتصليها أم لا، وكذلك في الصيام، كذلك الحج، الطاعات كلها، سارع سارع سارع! لا تسارع في الدنيا، ربنا حين تكلم عن السعي في الدنيا قال: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ [سورة الملك آية:15] مشياً ﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [سورة الملك آية:15] وحين تكلم عن الآخرة قال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [سورة آل عمران آية: 133] وقال: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [سورة الحديد آية: 21] وقال ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [سورة المؤمنون آية: 61] وقال: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [سورة المطففين آية: 26] اعقلوا الكلام واسمعوا وأطيعوا.