سورة الجمعة

مقدمة
لقاؤنا مع سورة الجمعة، وسورة الجمعة سورة مدنية نزلت بالمدينة. ونزلت سورة الجمعة لأسباب: أولها فرض صلاة الجمعة، ثانيها ذمٌّ لهؤلاء الذين تركوا رسول الله وهو يخطب الجمعة وذهبوا لتجارة جاءت من الشام، أيضاً لذم اليهود الذين حُمِّلُوا التوراة ولم يعملوا بها وتحذير للأمة أن يلحقهم من الذم ما لحق اليهود إذا تركوا العمل بالقرآن. افتُتِحَت سورة الجمعة بالتسبيح كما افتُتِحَ غيرها من المسبحات، وجاء التسبيح بصيغة المضارع لبيان أن ذلك دائم على كل حال وفي كل مكان فما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وكلمة التسبيح كلمة تنزيه لله ﴿تبارك وتعالى﴾ عن كل نقص ونعته بكل صفات الكمال والجلال.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴿1﴾
قُرِأَت بالرفع على المدح وقُرِأَت بالجر. يُسَبَّح: يُنَزِّه. وتكلمنا عن التسبيح وكيف جاء بصيغة الماضي: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ وكيف جاء بصيغة الأمر: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [سورة الأعلى آية: 1] وكيف جاء بصيغة المصدر في قوله: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [سورة الإسراء آية: 1]
وجاء بصيغة المضارع هنا: ﴿يسبح لله ما في السموات وما في الأرض﴾. وربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ حين افتتح السورة بالتسبيح بين لنا أنه الغني عن تسبيح العباد، فقد كان ﴿سبحانه وتعالى﴾ ولم يكن شيء غيره، وحين خلق الخلق أَلْهَمَ الخلائق جميعاً التسبيح والتنزيه، فكل ما في الوجود يسبح الله ﴿تبارك وتعالى﴾ بلسان المقال طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال.
﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ ﴾ والمَلِك هو الذي لا يحتاج لأحد ولا لشيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ويحتاجه كل شيء في كل شيء، فما من موجود إلا وقد استمد وجوده من الملِك ﴿سبحانه وتعالى﴾ وما من موجود إلا وهو محتاج في وجوده إلى الملِك ﴿سبحانه وتعالى﴾، أما هو فهو الملِك الحق الذي استغنى بذاته وصفاته عن كل شيء، ومُلْكُهُ ﴿سبحانه وتعالى﴾ دائم ولا يزول فهو الحي الذي لا يموت وهو القاهر فوق كل شيء. ﴿الْقُدُّوسِ﴾ المنزه عن صفات النقص المتصف بصفات الجلال والمنعوت بنعوت الكمال ﴿سبحانه وتعالى﴾ مُطَهَّر، مُنَزَّه عن كل عيب.
ربنا حين ينزهه الناس عن صفات النقص أساءوا الأدب مع الله، فربنا منزه عن صفات كَمَالِهِم فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، نعم هو المنزه ﴿سبحانه وتعالى﴾ عن كل عيب وعن كل نقص، لا يدركه حس ولا يتصوره خيال ولا يسبق إليه وهم، لا يقضي به تفكير ولا يختلج به ضمير ﴿سبحانه وتعالى﴾ يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار ﴿سبحانه وتعالى﴾ ﴿الملك القدوس الْعَزِيزِ﴾ العزيز في مُلْكِه، القاهر القوي الغالب. ﴿ ... الْحَكِيمِ﴾ في صُنعِه، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، والحكمة: إصابة الحق في القول وفي العمل.
هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّـۧنَ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿2﴾
يَمْتَنُّ ربنا ﴿تبارك وتعالى﴾ على العرب جميعاً ويخصهم بالذكر مع أن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ قد بُعِثَ للناس كافة أبيضهم وأحمرهم وأَسْوَدُهُم، العرب والعجم، لكنه اختص العرب بالذكر تشريفاً لهم حيث بُعِثَ خاتم الأنبياء منهم.﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ والأميون: العرب كافة، وسُمُّوا بهذا لأنهم لم يكونوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى. والأُمِّيّ في اللغة: الذي لا يقرأ ولا يكتب، نُسِبَ إلى أُمِّهِ لأن الكتابة والقراءة كانت في الرجال دون النساء، كان الرجل يقرأ ويكتب والمرأة لا تفعل ذلك، فمن لا يقرأ ولا يكتب يُنسَب إلى أُمِّه فيقال فيه أُمِّيّ. وأُطلِقَت الكلمة على العرب لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا يقرأون، أو لأنهم لم يكونوا من أهل الكتاب. ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ أي على شاكلتهم؛ أُمِّيّ مثلهم، أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وتلك معجزة. ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ يتلو عليهم آيات الله بغير كتابة، بغير قراءة، ولو لم يكن له سواها معجزة فكفاه. ورسولاً منهم: من نَسَبِهِم، من أوسطهم، يعرفون نسبه ويعرفون صدقه، بتكلم بلسانهم، يتكلم بلغتهم، هو لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بهذا الكلام الذي لا يأتي به بشر دليل على صدقه وأمانته. ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ يتلو عليهم آيات الله: القرآن كلام الله القديم القائم بذاته الذي لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال والحلول في الأوراق. ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ يطهرهم من دَنَسِ الشرك والمعاصي، يزكيهم: يحملهم على أن يكونوا أزكياء القلوب طاهرين بالتوحيد متطهرين من أرجاس الشرك وعبادة الأوثان، كانوا يئدون البنات ويَعُقُّون الأمهات، كانوا يُغِيرُون على الجار ولا يرعون له حرمة، كانوا يتاجرون بالأعراض، كانوا وكانوا وكانوا في شدة الضلال.
وربنا يبين شدة حاجتهم لهذا النبي الأمي فيقول: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ الكتاب: القرآن، والحكمة: السُّنَّة المطهرة. يعلمهم أحكام القرآن وأحكام المعاملات وكل شيء في هذه الحياة، علمهم النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ كل شيء، نعم. ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ أي من قبل بعثة النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ كانوا بعيدين عن الطريق القويم والتصرف السليم، كانوا في جاهلية وشرك وعبادة للأصنام والأوثان التي لا تنفع ولا تشفع.
وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا۟ بِهِمْ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿3﴾ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴿4﴾
﴿ وَآخَرِينَ ﴾ أي بُعِثَ في آخرين، معطوفة على الأميين، أو معطوفة على المنصوب في قوله: ﴿ويزكيهم ويعلمهم﴾ أي ويُعَلِّمُ آخرين، بُعِثَ في آخرين أيضاً، وهم الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين.﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ﴾ أي من هؤلاء، إما منهم في الإيمان وإما منهم في العروبة. والكلام عن العرب؛ آخرين من الأميين، وهم نسل العرب إلى أن تقوم الساعة، واختص العرب بالذكر تشريفاً لهم. أو الآخرين: كل من آمن بالنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ إلى أن تقوم الساعة، وهو يُعَلِّمُهُم لأن من عَلَّمَ الأوائل وانتقل العلم من الأوائل إلى الأواخر كان معلماً للكل، فالعلم يُسنَدُ لأوله، وأول معلم لنا هو محمد (صلى الله عليه وسلم) ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ أي لم يكونوا معهم في زمانهم ولكنهم سيلحقون بهم في الأزمنة الآتية. نعم، سئل رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ عن هؤلاء، فقد روى أبو هريرة أن سورة الجمعة نزلت على النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وهم جلوس حوله، تلا قول الله: ﴿آخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ سأله سائل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يلتفت إليه النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثة، وكان من ضمن الجلوس سلمان الفارسي فوضع النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يده على كتف سلمان الفارسي وقال: "لو كان الإيمان عند الثريا لأدركه رجال من هؤلاء" فدل ذلك على أن كلمة ﴿آخرين﴾ تعني كل من آمن بالنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ من عرب وعجم. ويؤيد ذلك أيضاً حديث آخر حيث قال النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "رأيتني أسقي غنماً سوداً ثم أُتبعهم غنماً عُفراً والتفت إلى أبي بكر وقال: أَوِّلْهَا يا أبا بكر" فقال أبو بكر ﴿رضي الله عنه﴾: يا رسول الله أما الغنم السود فالعرب وأما العُفر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "كذلك أَوَّلَها المَلَك" أي أَوَّلَها جبريل.
من هنا يتضح لنا أن كلمة: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ يُقصَد بها كل من آمن بالنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ من عرب وعجم إلى أن تقوم الساعة. ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ العزيز في قضائه، الحكيم في صنعه واختياره. فربنا أراد أن يصطفى محمداً ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ على الخلائق من العرب، فهو العزيز الذي إذا أراد شيئاً فعله، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، حكيم في تعليمه، حكيم في اختياره لأمة العرب كي تكون خير أمة أُخرِجَت للناس، حكيم في اختياره للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ عزيز قوي في قضائه وأمره. ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ نعم ذلك فضل الله أن يختار النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فهو يخلق ما يشاء ويختار، ذلك فضل الله: الإسلام، ذلك فضل الله: القرآن، ذلك فضل الله: اصطفاء أمة العرب على باقي الأمم واصطفاء النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ على كل الخلائق. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: يتصرف في مُلكِهِ كيف شاء ومن حَكَمَ في مُلكِهِ فما ظلم، فقد كان سبحانه والكون عدم. ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ الذي يَهُونُ إلى جواره كل فضل وكل خير وكل نعيم، ربنا ذو الفضل العظيم. وينتقل الكلام إلى أهل التوراة وأهل الكتاب، وإياكِ أعني واسمعي يا جارة. يذم ربنا اليهود الذين جاءتهم التوراة فلم يعملوا بها وطرحوها وراء ظهورهم.
مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُوا۟ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًۢا ۚ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿5﴾
الذين حُمِّلُوا التوراة: اليهود، جاءتهم التوراة مكتوبة، نزلت على موسى كاملة مكتوبة في ألواح. هذه التوراة التي نزلت عليهم وحُمِّلُوها: أي كُلِّفُوا العمل بها، من الحَمَالة: وهي الكَفَالة. كَلَّفَهُم ربهم ﴿تبارك وتعالى﴾ أن يقوموا بها، يُعَلِّمُوها الناس، يعملوا بما جاء فيها. حملوها ظاهراً ولم يحملوها حقيقة؛ فلم يعملوا بها وطرحوها وراء ظهورهم، فيها نعت النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فيها صفته، أُمِرُوا أن يؤمنوا به فكفروا به حسداً. ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ لم يعملوا بها. ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ والأسفار جمع سِفْر، والسِّفْر: الكتاب الكبير، سمي سِفْراً لأنه يُسفِر عن المعنى إذا قُرِئ. ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ وَضَعْتَ على الحمار كتب كبيرة عظيمة فيها من العلوم ما فيها، أيعرف الحمار شيئاً عن هذه الكتب؟ أيدري ما فيها؟ لا يصيبه إلا ثقل الحمل فقط، يصيبه ثقل الحمل والكد والتعب من هذا الحمل الثقيل ولكنه لا ينتفع بما حَمَل، لا يقرأه ولا يعرفه ولا ينتفع بما حَمَل فلا يصيبه إلا التعب والنكد. ﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ أي بئس المثل الذي ضُرِبَ عن اليهود، مثلاً للذين كذبوا بنبي الله محمد (صلى الله عليه وسلم) ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ لا يوفقهم لطريق الهداية، لا يوفقهم لطريق الحق وإلى الطريق المستقيم لأنه سبق في علمه أنهم يشركون ويكفرون.
والآية وإن كانت عن اليهود إلا أنها من قبيل: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، فالكلام لأمة محمد ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: إياكم إياكم أن تفعلوا كما فعلت اليهود! كما في أمتنا الآن؛ فالقرآن يتلى بالليل وبالنهار ولا يُعمَل به وبأحكامه، ترى المصاحف معلقة على الجدران ولا يدري من عَلَّقَها عما جاء فيها شيئاً، فالناس تقرأ ولا تعمل، والناس تتبرك بالمصاحف ولا تدري ما الحكم فيها ولا تدري ما العمل بها، وهانحن لا نحكم بها، وهانحن لا نعمل بما جاء فيها، بل نقرأ القرآن في أول اللهو وفي آخر اللهو، نختم اللهو بالقرآن، فخلطنا الحق بالباطل، إياكم وإياكم أن يلحقكم الذم كما لحق من قبلكم! ويتوجه الخطاب لليهود:
قُلْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓا۟ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا۟ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿6﴾ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُۥٓ أَبَدًۢا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿7﴾
﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا ﴾ والكلام للنبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: قل لهم يا محمد رداً على زعمهم حيث قالوا: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [سورة المائدة آية:18] وزعموا: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا ﴾ [سورة البقرة آية: 111] زعموا ذلك فيقول ربنا للحبيب المصطفى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: ﴿قل يا أيها الذين هادوا﴾ أي يا من تَهَوَّدتُم واتخذتم اليهودية ديناً. و هَادَ في الأصل: عاد وتاب، حيث هادوا بعد أن عبدوا العجل وقالوا: إنا هُدْنَا إليك، هؤلاء يقال لهم: إن كنتم في زعمكم صادقين ﴿ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ إن كنتم في زعمكم صادقين أنكم أولياء الله وأحباء الله تمنوا الموت، لأن العبد إذا ضمن مكانه في الجنة وأدرك أنه من أهل الجنة لا محالة ما استقرت روحه في جسده لحظة، لتمنى الموت فوراً والانتقال من دار البلاء إلى دار الجزاء، إلى دار الكرامة، فإن كنتم فعلاً أولياء لله من دون الناس ولن تمسكم النار إلا أياماً معدودة؛ فترة عبادتكم للعجل، وأنكم تدخلون الجنة وأنكم أبناء الله وأحباؤه تمنوا الموت، اطلبوا الموت من الله إن كنتم صادقين في زعمكم. ثم يعقب ربنا منبئاً عن الغيب معجزةً للنبي (صلى الله عليه وسلم): ﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ إذاً فقد أخبره الله أنهم لن يتمنوا الموت أبداً، أنبأه عن المستقبل، أعلمه بغيب، معجزةً للمصطفى ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ولو أرادوا أن يُكَذِّبُوه علناً لجاءوا أمام أصحابه وتمنوا الموت ورفعوا أيديهم إلى السماء، لكذبوه بعد نزول الآية لكنهم لم يجرؤوا على ذلك لأنهم يعلمون علم اليقين أنه رسول الله على التحقيق، كفروا به حسداً، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إي وربي! لذا يقول الله: ﴿ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم﴾: من الكفر، المعاصي، وتكذيب النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ تهديد ووعيد، لأنه طالما عَلِمَ بهم لابد وأن يجازيهم ولابد وأن يحاسبهم، ولذا حين نزلت الآية يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي يهودي على الأرض إلا مات) لو تمناه فئة منهم، لو تمناه بعضهم لمات الكل.
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُۥ مُلَـٰقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿8﴾
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ لا ينفعكم عدم التمني، لا ينفعكم تمنيتم أو لم تتمنوا، الموت قادم لا محالة. ﴿فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ والفاء على غير قياس لكنها قد تكون جواباً للشرط الذي قد يتضح في الاسم "الذي"، ففيه معنى الشرط، كأنه شرط وجوابه. أو الفاء للدلالة على أن الموت كلما فررت منه كان أسرع في لحوقه بك، فالفرار من الموت يأتي بالموت سريعاً
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [سورة النساء آية:78] ﴿ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ تُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة، عالم السر والنجوى، ما يدركه الحس وما لا يدركه الحس، ما تراه الأعين ومالا تراه الأعين، ما ظهر وما خفى، ما كان وما سوف يكون، عالم الغيب والشهادة يعلم كل شيء فينبئكم بما كنتم تعملون. وإنباء الله: حسابه، وإنباء الله: جزاؤه، لأن الله لا يأتي بالظالم والعاصي فيخبره عن معاصيه لمجرد الإخبار أو لمجرد الأنباء، فمعنى كلمة ينبئكم إذاً طالما أنبأهم فلابد وهو معاقبهم.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْا۟ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿9﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَٱبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِيرًۭا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿10﴾
الجُمُعُة والجُمْعة بإسكان الميم قراءتان، وهي لغتان. ويوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية يوم العَرُوبة، وأول من جمع الناس في المدينة أبو أُمامة أسعد بن زرارة، قالوا لليهود يوماً وللنصارى يوماً فَهَلُمَّ نجعل لأنفسنا يوماً نتذاكر فيه، فجمعهم أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير قبل الهجرة في يوم العروبة، اجتمعوا وصلوا ركعتين وذَكَّرُوا أنفسهم بالله. أما أول جمعة جمعها النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ فقد كانت في المدينة في بني سالم بن عوف، حيث وصل إلى قباء ونزل على بني عمرو بن عوف في يوم الاثنين في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وبقي معهم حتى يوم الخميس، وأسس مسجدهم -مسجد قباء- ثم ارتحل إلى المدينة في يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في وادٍ لهم، فصلى الجمعة بالناس وخطب فيهم، وكانت أول جمعة يصليها رسول الله في المدينة. والكلام يدل على فرضية صلاة الجمعة ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾ أي في يوم الجمعة، كقول الله: ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [سورة الأحقاف آية:4] أي في الأرض، هنا كذلك إذا نودي للصلاة –الأذان– من يوم الجمعة: في يوم الجمعة. ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ السعي هنا ليس معناه الجري والسعي بالأقدام، بل السعي معناه الاشتداد والاهتمام بالاغتسال والوضوء والتزين والتعطر وما إلى ذلك وأن يسعى العبد بقلبه ونيته وقصده ولا بالجري لأن النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يقول: "إذا أقيمت الصلاة لا تأتوها تسعون ائتوها وعليكم السكينة" إذا فالسعي هنا ليس المقصود منه الجري أو الاشتداد في المشي وإنما المقصود به الاهتمام والجد والاشتداد في تحصيل فضل الله في ذلك اليوم، فهو أفضل يوم أشرقت عليه الشمس. فاسعوا إلى ذكر الله: إلى الخطبة أو إلى الصلاة. قال بعضهم: الجمعة من أول الأذان إلى أن تنتهي الصلاة والخطبة شرط من شروط صحة الجمعة.
فاسعوا إلى ذكر الله: إلى استماع التذكير والموعظة من الإمام وإلى الصلاة. ﴿ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ واتركوا البيع، ولا يخلو عن شراء، فاكتفى بذكر البيع لأن الربح فيه، واكتفى بذكر البيع كقوله: ﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ [سورة النحل آية:81] ولم يقل سرابيل تقيكم البرد، هنا كذلك اكتفى بذكر البيع. ﴿ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ إذاً فالسعي إلى صلاة الجمعة خير من أي شيء، خير من التجارة وخير من اللعب، خير من العقود، خير من ربح الدنيا، خير من كل شيء. إن كنتم من أهل العلم واليقين والتفكير السليم لعلمتم أن السعي إلى صلاة الجمعة أفضل شيء على الإطلاق. ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ﴾ فُرِغَ منها وانتهت. ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ أمر إباحة وليس أمر وجوب، فمن الناس بعد الصلاة يبقون في المسجد يقرءون القرآن وهكذا، فهذا الأمر أمر إباحة وليس أمر وجوب.
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ فاخرجوا وانتشروا في الأرض. ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ بالتجارة وبالبيع وبالشراء. إباحة بعد حظر، وافعلوا ما شئتم وابتغوا من فضل الله. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ أي أن ذكر الله ليس بالصلاة فقط، بل ذكر الله لابد وأن يكون في كل الأحوال. وكان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يذكر الله على كافة أحواله، فاذكروا الله كثيراً ولا تغفلوا. ويقول الرجل قد أَدَّيتُ الصلاة فيخرج إلى اللهو وإلى اللعب والتجارة ويغفل عن ذكر الله، بل اذكروا الله كثيراً. ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ فتصيبوا خيري الدنيا والآخرة.
وَإِذَا رَأَوْا۟ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّوٓا۟ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًۭا ۚ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌۭ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَـٰرَةِ ۚ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ﴿11﴾
والآية نزلت بسبب؛ فقد كان النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ يُقَدِّمُ الصلاة على الخطبة كصلاة العيدين فظن بعض الصحابة أن الخطبة ليست من شروط الصلاة فصلى بهم الجمعة يوماً ثم صعد على المنبر وخطب وجاءت تجارة من الشام لدحية الكلبي، وكان من عادتهم أن يستقبلوا التجارة بالطبل والتصفيق واللهو والصياح وما إلى ذلك، فحين جاءت التجارة وسمعوا الطبل خرجوا إليها وتركوا النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ قائماً على المنبر ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً منهم أبو بكر وعمر وجابر بن عبد الله الذي يروي لنا الحديث، من هنا نزلت الآية تذم هذا الفعل وتنهى عنه. ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ﴾ قَدَّمَ التجارة على اللهو لأن التجارة فيها الربح وهي أهم، وكان ذلك فعلاً مذموماً، فَتَرْكُ الصلاة لله أشد ذماً، فقدم التجارة عن اللهو. إذا رأوا التجارة ﴿ انْفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾ أي إلى التجارة، وعاد بالكناية إلى التجارة لأنها المقصود، وأما الطبل واللهو مصاحب لها. أو على تقدير انفضوا إليها: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهواً انفضوا إليه. ﴿ وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ﴾ واقفاً تخطب في الناس. ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ من ثواب، من نعيم، من رضا. ﴿ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ لأن من ترك الثواب من أجل اللهو أشد ذماً ممن ترك الثواب من أجل التجارة، من هنا قدم اللهو في آخر الآية وقدم التجارة في أول الآية لأنها المقصود بانفضاضهم. والفَضُّ: كسر الشيء وتفريق أجزائه، كفض الخاتم في الخطاب. ﴿فانفضوا﴾ أي تفرقوا من حوله. قل ما عند الله من ثواب وعلم خير من اللهو ومن التجارة. ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ لأن رزق الله مبارك ودائم، وهو الرازق الوحيد ولا أحد يرزق، وإنما الكلام جاء على ما تعارف عليه الناس، فقد يغفل العبد عن النعمة وقد يغفل عن المنعم فيظن أنه يرزق نفسه أو غيره يأتيه بالرزق، فالله خير الرازقين.
والرزق مال، الرزق صحة، الرزق زوجة صالحة، الرزق راحة البال، الرزق سلام الحال، الرزق الأولاد البارين بأبيهم، الله خير الرازقين. وقد رُوِيَ عن أحد الصالحين أنه كان إذا صلى الجمعة خرج على باب المسجد وقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. فخير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ لأن فيه خُلِقَ آدم وجُمِعَ فيه، وفيه أُدخِلَ الجنة، وفيه تاب الله عليه، وفيه أُهبِطَ إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وقالوا هذه الساعة من وقت الأذان حتى تقضى الصلاة، قالوا فيها وقالوا والله أعلم بمدى هذه الساعة، أهي ساعة من ساعاتنا ستون دقيقة؟ أم هي فترة؟ أم هي وقت يعلمه الله؟ من هنا كان الناس يتحرون العبادة والطاعة في يوم الجمعة. ومنهم من قال في تفسير قوله تعالى:
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ قالوا: المقصود ليس ابتغاء من فضل الله في الرزق بالتجارة وبالبيع وبغيره، وإنما المقصود عيادة المريض، تشييع الجنائز، صلة الرحم، عبادة ربنا وطاعة الله. والذكر هو الطاعة، ومن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطع ربنا فما ذكره وإن كثر تسبيحه. يوم الجمعة يوم فضل ويوم عيد، وهو في الأرض جمعة وفي السماء عيد، في يوم الجمعة تقف ملائكة الله على أبواب المساجد يكتبون أسماء الداخلين الأول فالأول، يحفظونهم ويعرفون أسماءهم، فإذا تخلف أحدهم يوماً وانتظرته الملائكة حتى صعد الخطيب على المنبر دخلت الملائكة وطوت الصحف ثم صعدوا إلى ربهم فسألوه: يا ربنا ما بال عبدك فلان لم يأت؟ فيقول الله: "حبسه العذر فاكتبوا له ما كنتم تكتبون".
لذا يقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة في يوم الجمعة، ومن تركها تهاوناً بها طُبِعَ على قلبه" ويقول: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهِم الجمعات أو لَيَخْتِمَنَّ الله على قلوبهم ثم لَيَكُونُنَّ من الغافلين" ويقول ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ "الجمعة إلى الجمعة كفارة ما بينهما إذا لم تُغشَى الكبائر" أي إذا اجتنب العبد الكبائر فمن الجمعة إلى الجمعة كفارة لكل ما بينهما. ويقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مَسَّ الحصى فقد لغا" أي فمن لعب بحصى الأرض أثناء خطبة الجمعة. ويقول النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "إذا قلت لصاحبك أَنْصِت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت". أيها الأخ المسلم؛ الجمعة تجب على كل مسلم، على كل مؤمن مكلف عاقل حر لحديث النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "الجمعة واجبة على كل مسلم إلا المريض والمسافر والمرأة والصبي والمملوك" هؤلاء لا تجب عليهم الجمعة: المريض والمسافر والمرأة -وإن أتت بها المرأة على أصلها قُبِلَت منها وصَحَّت- والصبي والمملوك لا تجب عليه إلا أن يأذن له المالِك. والجمعة تصح باثنين في بعض الأقوال، وبثلاثة أو أربعة أو اثني عشر رجلاً أو ثلاثين أو أربعين، اختلاف في الأقوال، ويُشتَرَط لها الخطبة، ويجب على الإمام أن يصعد على المنبر ويُسَلِّم على الناس ثم يجلس ثم يخطب قائماً ثم يجلس كما كان يفعل النبي ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ ولا يتكلم ثم يقوم للخطبة الثانية وهكذا.
في صلاة الجمعة يدخل أحد الناس متأخراً، إذا حدث ذلك فعليه أن يصلي ركعتي المسجد وإن نهاه الناس لأنه قد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله ﴿صلى الله عليه وسلم﴾: "إذا دخل أحدكم إلى الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين ولْيَتَجَوَّز فيهما" إذاً فمن دخل لابد وأن يصلي ركعتين حتى ولو كان الإمام يخطب، أما النهي عن الصلاة: "إذا صعد الإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام" النهي لهؤلاء الذين دخلوا المسجد وجلسوا، أو صلوا تحية المسجد وجلسوا، أو نسوا وجلسوا، طالما جَلَسْتَ فإن صعد الإمام فلا يصح لك أن تقوم وتنشئ الصلاة لأن ذلك إهمال للإمام وسوء أدب، أما إذا كنت داخلاً لأول مرة فلابد وأن تصلي، وهكذا يُجمَع بين الحديثين. أيها الأخ المسلم؛ إذا أُذِّنَ للجمعة وحدثت عقود بين من تجب عليه الصلاة؛ عقود البيع أو عقود زواج أو عتاق أو أي عقد وأي عمل قال الأئمة في هذا الشأن: يُفسَخ البيع ردعاً وهو حرام شرعاً، بمعنى أن من تزوج بامرأة في وقت أذان الجمعة فزواجه باطل، ومن باع واشترى فبيعه وشراؤه باطل لأن الله يقول: ﴿وذروا البيع﴾ فَحَرَّمَ البيع، وحَرَّمَ كل ما دون البيع من لهو ولعب وغيره، وحَرَّمَ كذلك كل ما هو من صفات البيع لأن البيع عقد بين متبايعين بائع ومشتري، فكذلك كل العقود. وقال بعض العلماء: بل هو حرام شرعاً ولكنه لا يُفسَخ. والأرجح أن العقد مفسوخ.
أيها الأخ المسلم؛ صلاة الجمعة أهم صلاة، صلاة الجمعة لابد وأن يُسعَى لها، وصلاة العبد في بيته أو في سوقه لباقي الفرائض تصح ولكنها تقل في الثواب فصلاة الرجل في جماعة تَفْضُلُ صلاته في بيته أو في سوقه بسبع وعشرين درجة، هذا في الصلوات، في الصبح في الظهر في العصر في المغرب في العشاء، في باقي الصلوات تصح صلاتك في بيتك ولكنها تقل في الثواب، أما صلاة الجمعة فلا تصح إلا في المسجد، وقد شَرَطَ بعض الأئمة للمسجد أن يكون مسقوفاً، فإذا كان المسجد بغير سقف لا تصح فيه صلاة الجمعة، وشَرَطَ بعضهم أن تكون الصلاة في مسجد جامع؛ أي كبير يتسع للمصلين وتقام فيه الجمعة، أما المصلية أو الزواية أو مكاناً يقل فيه الناس أو لا يُجمَع فيه فلا تصح فيه صلاة الجمعة، واستندوا لقول الله:
﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [سورة الحج آية:26] وقالوا من شروط البيت حتى يكون بيتاً أن يكون له جدران وسقف، فإذا كان له جدران وبغير سقف فلا يطلق عليه بيت، وربنا يقول: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ [سورة النور آية: 36] فلابد أن يكون المسجد الذي تقام فيه الجمعة ذو جدران وسقف أيضاً.