
سورة الصف
مقدمة
لقاؤنا مع سورة الصف، مع سورة عيسى، مع سورة الحواريين. سورة الصف سورة مدنية. وسورة الصف سورة من المسبحات، افتُتِحَت أيضاً بالتسبيح. وقد نزلت سورة الصف بسبب -وإن كانت قد نزلت عتاباً للمؤمنين- إنما نزلت للتعليم وللتفهيم وللبيان، فقد كان المؤمنون يقولون لرسول الله: يا رسول الله لو عَلِمْنا أَحَبَّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أنفسنا وأموالنا، فنزل قول الله" (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) ومكثوا زماناً يقولون: يا رسول الله لو عَلِمْنا أَحَبَّ الأعمال لأتينا به، فنزل قول الله (تبارك وتعالى): (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) وعرفوا أن أحب الأعمال إلى الله الإيمان بالله وبرسول الله ثم الجهاد في سبيل الله لنشر راية الإسلام ولرفع راية الحق. وتمنوْا لقاء العدو، جاءت غزوة بدر وتكلم رسول الله عن ثواب الشهداء فيها، ولم يخرج في غزوة بدر كثير من الناس فقد كانت على عجالة، من كان حاضراً أو من كان سلاحه حاضراً، وخرجوا يريدون العِيرَ ولا يريدون النفير، فخرج القليل منهم. وتمنى من لم يخرج في غزوة بدر أن يخرج في غزوة أخرى لينال ما ناله شهداء بدر الأحياء والأموات، وجاءت غزوة أحد وفَرَّ المسلمون فيها فنزل العتاب: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون) هكذا نزلت سورة الصف. افتُتِحَت بالتسبيح لبيان أن الله هو الغني والعباد هم الفقراء إليه. تبين السورة أن الطاعة لله هي مِنْ أَجْلِ الطائع: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها). تبين أن الله هو الذي تسبح له جميع الموجودات طوعاً وكرهاً بلسان المقال وبلسان الحال، هو المحمود المنزه أزلاً وأبداً، أطاعه الناس أو عصاه الناس، آمن به الكل أو كفر به الكل، هو الله.
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿1﴾
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿2﴾
كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿3﴾
وسئل رسول الله عن المعاصي معصيةً معصيةً من الكبائر أيفعلها المؤمن؟ قال: "نعم"، وحين سئل عن الكذب؛ هل يكذب المؤمن؟ قال: "لا إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" فإن كان عن الماضي فذاك كذب والكذب مذموم، وإن كان عن المستقبل؛ سوف أفعل كذا ولا يفعل ولا ينوي أن يفعل، فذاك خُلْفٌ للوعد. وربنا يمدح الموفين بعهدهم فيقول: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٧٧]، ويأمر ويقول: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٣٤]، ويقول عز من قائل ممتدحاً لنبيه إسماعيل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [سورة مريم آية: ٥٤] ونبينا يحذر ويقول: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتُمِنَ خان) فتلك آيتان من آيات المنافق: أن يقول الإنسان ما لم يفعل عن الماضي أو ما لم يفعل في المستقبل. ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(١)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(٢)﴾ تحذير وتهديد. وقلنا إن الآية توجب على كل من التزم طاعةً أن يأتي بها. والالتزام أنواع؛ منها ما هو يُلتَزَم ابتداءً كأن يلتزم العبد فعل طاعة فيقول: لله عليّ ألا أنام إلا بعد أن أصلي ثماني ركعات، ذلك نذر نذره ابتداءً لله، عليّ صوم كذا وكذا لله، على أن أحج البيت كل عام، هذا النذر وهذا الالتزام واجب التنفيذ، لابد وأن ينفذه لأن الله يقول: ﴿ولْيُوفُوا نُذُورَهُم﴾، والنَّذْر في حق الناذِر كالفرض في حق المسلم، فالنذر فرض، طالما نَذَرَ العبد نذراً كان في حقه فرضاً كالصلاة والصيام وما إلى ذلك.
وهناك نذرٌ مُعَلَّق، إما مُعَلَّق بشرط رهبة أو مُعَلَّق بشرط رغبة، فالمعلق بشرط رهبة كأن يقول العبد: لئن كفاني الله شر كذا لأفعلن كذا أو لئن شفاني الله من مرضي لأفعلن كذا فذاك نذر معلق بشرط رهبة، وهناك نذر معلق بشرط رغبة كأن يقول الإنسان: لئن نجح ابني أو لئن عُيِّنَ ابني في وظيفة كذا أو لئن جاءني الخير كذا أو لئن حدث كذا وجاء غائبي فذاك نذر معلق بشرط رغبة. أكثر العلماء، بل جُلُّ العلماء وعلى رأسهم الإمام مالك والإمام أبو حنيفة قالوا أن النذر في حق الناذر واجب وعليه أن يفي بنذره وإلا خضع لقوله: (لِمَ تقولون مالا تفعلون). ثم يبين ربنا المرضي عنده بعد أن بين المقيت عنده، بَيَّنَ ربنا المرضي عنده بعد أن بين المقيت عنده، بَيَّنَ ما يرضيه بعد أن بين ما يغضبه فيقول:
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّۭا كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌۭ مَّرْصُوصٌۭ ﴿4﴾
ولذا قال العلماء: يَحرُم على المقاتل أن يترك الصف إلا بأمر الإمام القائد أو لعذر كأن يرى فرصة تُنتَهَز في الدخول في العدو أو في الدخول من ثغرة من ثغرات العدو أو متحيزاً إلى فئة لسببٍ شرعي، أما الخروج من الصف بغير سبب أو للخوف أو الجبن فمآله جهنم وبئس المصير لقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [سورة الأنفال آية: ١٦] نعم إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. أيضاً تفيد الآية ظاهر الاصطفاف وظاهر التراص وظاهر التماسك، أيضاً وأن تكون القلوب على قلب رجل واحد لأن الأجساد إذا تراصت والتصقت وكانت القلوب متنافرة اختلفت الأجساد، فإذا اتحدت القلوب واتحدت الأجساد حدث النصر لأن الله يقول: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٣] ويقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٤٦] فلابد من التراص بالجسد وبالقلب أيضاً بأن تتوحد النية لله. وينتقل الكلام تسليةً للنبي، يُسَلِّي نبينا ويبين له أن موسى وعيسى من قبله جاءوا بمثل ما جاء به وتعرضوا لمثل ما تعرض له فكان عاقبة الكفار العذاب وعاقبة المؤمنين النصر، فيقول الله:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَـٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴿5﴾
آذوه كثيراً، لذا يقول الله حاكياً عن موسى يعاتب قومه وينبههم: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ إذاً طالما علمتم أن موسى رسول الله لابد وأن يُحتَرَم، فمن شأن الرسول أن يُعَظَّم وأن يُحتَرَم وأن يُطَاع وأن يُرفَعَ شأنُه، فكيف يُؤذَى وهو رسول واجب الاحترام والتعظيم؟ ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ ذاك كان الكلام، هذا هو العتاب، كيف يعلمون أنه رسول ومع ذلك يؤذوه؟ أمر غاية في الغرابة. فيقول الله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ زاَغ َيَزِيغُ زَيْغاً: مال عن الحق. فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية، فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب، فلما زاغوا عن احترام رسولهم أزاغ الله قلوبهم عن الحق. إذاً فهم قد زاغوا أولاً؛ آذوا موسى وبَرَّأَهُ الله مما قالوا، وأكثروا من إيذائه وقالوا أرنا الله جهرةً، وفعلوا وفعلوا، ومع ذلك يعاتبهم برقة وبلطف: كيف تؤذونني وأنتم تعلمون علماً يقيناً أني رسول الله والرسول يجب أن يُحتَرَم ويُطَاع؟ فلما زاغوا أيضاً بعد هذا التنبيه أزاغ الله قلوبهم، خلق في قلوبهم الضلالة وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون، أزاغ الله قلوبهم عن طريق الحق وعن طريق الهداية وعن طريق العقل والمنطق والإيمان وعن طريق الثواب ورضا الرحمن. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ذاك مبدأ، تلك قاعدة. الفاسقين: الخارجين عن الطاعة. وسبق وقلنا: فَسَقَتِ الرُّطَبَة: خَرَجَتِ البَلَحَةُ من قشرتها وتعرضت للميكروبات وتعرضت للغبار وللقاذورات وما إلى ذلك، وكذلك العبد إذا خرج من لباس التقوى سمي فاسقاً كما تَفْسُقُ الرُّطَبَة من قشرتها، وربنا أنزل علينا لباس التقوى وهو يقول: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [سورة الأعراف آية: ٢٦] فالله لا يهدي القوم الفاسقين.
إذاً الآية تبين لنا أن العبد عليه أولاً الطاعة، فإن أطاع واستقام هداه الله ووفقه وألهمه رُشدَه وأنار له الطريق، أما إن فسق العبد وعصى بداءةً لا يوفقه الله أبداً لطريقه ولا يوفقه أبداً لهدايته، والله لا يهدي القوم الفاسقين. وتأتي قصة عيسى تأكيداً لما جاء به موسى:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَـٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحْرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿6﴾
﴿بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي﴾ الرسول الخاتم الذي بَشَّرَت به الأنبياء جميعاً؛ بَشَّرَ به إبراهيم وبَشَّرَ به نوح وبَشَّرَ به موسى، وها هو عيسى آخر الأنبياء، ذُكِرَت بشارة عيسى لأن عيسى أقرب الأنبياء لنبينا، وليس هو الوحيد الذي بَشَّرَ بمحمد بل بَشَّرَت به جميع الرسل، وأُخِذَ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به ويتبعوه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [سورة آل عمران آية: ٨١] فما من نبيٍّ بُعِثَ إلا وشهد لمحمد بالرسالة، وما من نبيٍّ بُعِثَ إلا وتمنى أن يكون من أمة محمد، وما من نبيٍّ بُعِثَ إلا وبَشَّرَ بالخاتم وآمن به وأقر برسالته وشهد على ذلك بين يدي الله وهو خير الشاهدين. فجاء الكلام عن عيسى باعتباره أقرب النبيين لنبينا وآخر المبشرين بأحمد: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) والمسمِّي هو الله، هو الذي سماه محمداً وهو الذي سماه أحمداً، نعم فقد قال الله: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [سورة محمد آية: ٢] في سورة محمد من الأزل، وهو الذي سماه أحمد في الكتب السماوية السابقة؛ في التوراة وفي الإنجيل. و (أحمد) عَلَمٌ على رسولنا (صلى الله عليه وسلم) مأخوذ من صفة وليس مأخوذاً من فِعْل. أحمد: أَفْعَل تفضيل، أي أَحْمَدُ الحامدين لربهم، فما من نبي إلا وحَمَدَ الله، وما من رسول وما من شيء في الأرض إلا يسبح بحمد الله ولكن لا تفقهون تسبيحهم. أَحْمَدُ الحامدين على الإطلاق هو رسول الله، لذا سمي أَحْمَدُ الحامدين دنيا وأخرى.
بل رسول الله حين الخوف وحين الفزع وحين الساعة وحين ترى كل أمة جاثية على الرُّكَب، الأنبياء والرسل، الكل يجثو على الرُّكَب، هو الوحيد الذي يتقدم إلى العرش ويخر ساجداً تحت العرش ويحمد الله بمحامد لم يُحمَد به الله من قبل أزلاً ولم يُحمَد بها الله أبداً وإنما الحامِد هو رسول الله، فإن حَمَدَ رسول الله ربنا في يوم الفزع الأكبر قيل له: ارفع رأسك وسَلْ تُعْطَ واشْفَع تُشَفَّع، هنا في هذه الحالة وفي هذا الموقف يحمده الحامدون، فما من أحدٍ في الموقف إلا ويَحْمَد النبي. فهو أحمد الحامدين لربهم أزلاً من كل شيء، أحمدهم على الإطلاق، فإذا حمد الله وأذن له في الشفاعة حَمِدَه أهل الموقف، فهو المُحَمَّد أي المحمود، وهي صيغة مبالغة لمحمود، المحمود يُمدَح ويُحمَد مرة، أما المُحَمَّد فهو الذي يُمدَح ثم يُمدَح ويُحمَد ويُحمَد، فقد حُمِدَ مُحَمِّد في الدنيا لهدايته ولبيانه ولفرقانه ولنوره ولكل شيء، حُمِدَ في الدنيا بهدايته وبأنه الخاتم، وحُمِدَ في الآخرة من أهل الموقف جميعاً، لذا فهو مُحَمَّد أي محمود من الخلائق جميعاً، تارةً بعد تارةٍ، مرةً بعد مرةٍ. نعم، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. ونبينا يتكلم عن نفسه وعن أسمائه فيقول: (أنا أحمد وأنا محمد وأنا الحاشِر يُحشَر الناس على قدمي وأنا الماحِي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقِب ولا نبي بعدي). ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ جاءهم: أي عيسى. جاء بالبينات: أَبْرَأَ الأكمه وأبرأ الأبرص والأعمى وأحيا الموتى وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿قالوا ساحر مبين﴾ قراءة أخرى. الكلام عن عيسى بن مريم، أو الكلام عن نبينا، أي لما جاء أحمد بالبينات لأهل مكة ولكفار قريش، قالوا عن قرآنه سحر وقالوا عن شخصه ساحر. أيها الأخ المسلم؛ أَحْمَدُ الحامدين هو رسول الله، وهو المحمود دنيا وأخرى.
وكلمة مُحَمَّد كلمة منطبقة عليه تماماً لأن الذي سماه العالم القادر، هو الله، هو خَلَقَهُ كذلك وأراد له ذلك واصطفاه لذلك؛ أن يكون محموداً في الدنيا وفي الآخرة وأن يكون هو أحمد الحامدين، بل ويلهمه المحامد التي لم يَعْلَمْها نبينا وسوف يَعْلَمْها حين يخر ساجداً تحت العرش.
ليس هناك أظلم ممن تدعوه إلى النور وإلى الهداية وإلى السعادة فيفتري عليك الكذب ويقابل معروفك بالإساءة، لذا يقول الله معقباً على هؤلاء الذين قالوا عن القرآن أو عن الإنجيل وعن نبينا أو عن عيسى بن مريم هذا ساحر مبين، يقول الله:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰٓ إِلَى ٱلْإِسْلَـٰمِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿7﴾
فهؤلاء الذين قالوا عيسى ابن الله إذا كان كذلك فلابد أن يكون من جنس الإله، وقد رأيتم عيسى بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويقضي الحاجة ويعرق ويمرض وينام ويجوع ويعطش ويموت، كما زعموا أنه صلب فكيف؟ فكيف يكون إلهاً أو ابناً للإله؟ ما هو الدليل وما هي البينة؟ الذين قالوا إن المسيح هو الله أقروا بأنه كان جنيناً في بطن مريم، فمن كان يحكم العالم في ذلك الوقت؟ إن كان المسيح هو الله من كان يحكم العالم ومن كان يدبر الأمر وهو جنين في بطن أمه يتغذى من خلال الحبل السُّرِّي؟ وكيف تحمله أمه وتمشي وتهدهده؟ إذاً فهو محتاج، وهل يحتاج الإله؟ كلام يخالف أي عقل ويخالف أي منطق! افتروا على الله الكذب، كذبوا على الله واختلقوا له البنين والبنات بغير عِلْم، قالوا الملائكة بنات الله، أشهدوا خلقهم؟ كيف تُقِرُّ أن فلاناً ابن فلاناً ما لم تكن قد رأيت بعينك أو أَقَرَّ الوالد ببناته وقال لك هذا ابني؟ أو علمت أن فلاناً تزوج فلانة وجاء بفلان؟ هؤلاء يزعمون أن الملائكة بنات الله، لذا يقول الله: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُم﴾؟ كيف عرفوا؟ ﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إذاً افترى على الله الكذب ولا يعرف النور ولا يعرف الحق، وليس هناك رسول وليس هناك هادي ولا داعي، واختلق عَقْلُه، اختلق له شيطانه ووسوس إليه، له العذر فلم يَرَ الحق ولم يعرف النور ولم يَرَ رسولاً ولم يَدْعُه أحد فَأَلَّف واختَلَق، لكن أن تختلق وأنت ترى الحق؟! أن يُعرَض عليك النور فتفتري الكذب؟! أن يأتيك رسول ويبين لك صفات الله ويحدثك عنه: (قل هو الله أحد) فتزعم أن له البنات؟! (الله الصمد) فتقول إن له ابناً أو شريكة؟! ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾: حال كونه يُدعَى إلى الإسلام، إذاً لا أحد أظلم منه.
كونك لا تعرف وليس هناك من يُعَرِّفُك وليس هناك من يرشدك فتقول كذباً قد يكون لك العذر، أما أيُّ عُذْر وأنت تُدعَى إلى الإسلام؟ أيُّ عُذْرٍ لك وأنت يُبَيَّن لك الحق بالبينة والبرهان؟ فما من رسول إلا وجاء معه ببرهان وبمعجزة وبدليل، فمن أظلم؟ لا أحد. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ من هنا لا يهديهم الله أبداً إلى طريق الحق، صمُّوا آذانهم وأغلقوا قلوبهم وألغوْا عقولهم، ها هو الرسول يدعوهم ويبين لهم ومع ذلك يظلمون أنفسهم ويفترون على الله الكذب، من هنا لا يوفقهم الله ولا يهديهم إلى الحق أبداً. (والله لا يهدي القوم الظالمين) الظالمين: الذين ظلموا أنفسهم. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، هؤلاء وضعوا الشيء في غير موضعه حيث نسبوا لله ما ليس لله، من هنا كانوا من الظَّلَمَة وأَشَدُّ الظلم. ثم يعلل ربنا ويبين لِمَ يفعلون ذلك فيقول:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ ﴿8﴾
الله القادر الخالق الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون هو يَعِدْ وهو يقول وهو الصادق في وعده ﴿والله مُتِمُّ نُورِهِ ولو كره الكافرون﴾ إذاً فالأمر كُرْه، الأمر حَسَد، الأمر أن الكافرين كرهوا نور محمد، حسدوه وكرهوا النور الذي جاء معه فأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، لكن الله لم يُمَكِّنَهُم وسيُتِمُّ نُورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون، يغيظهم دنيا وأخرى.
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴿9﴾
تلك هي الهداية: الدلالة، يدلك على ما ينفعك، يدلك على ما يضرك، يبين لك طريق الخير وطريق الشر، يبين لك النفع ويبين لك الضر، لم يتركنا ربنا هَمْلاً، وقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(١١٥)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [سورة المؤمنون آية: ١١٥- ١١٦] نعم تعالى علواً كبيراً، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لِيُظهِرَه على الدين كُلِّه ولو كره المشركون، لِيُظِهَره: الضمير عائد على النبي (صلى الله عليه وسلم) أي لِيُظهِرَ محمداً على الأديان كلها فيَعْلَمُ الحق فيها وما دَلَّسَ فيها الناس وما أضافوا وما حذفوا منها، فيَعْلَم رسول الله جميع الأديان التي نزلت من قبله، يعلم كل شيء جاء فيها ويعلم كيف حَرَّفوها وبدلوها. (ليظهره): ليُعَلِّمَه على الدين كله. أو (لِيُظهِرَه): الضمير عائد على دين الحق، عائد على الإسلام، لِيُظهِرَ الإسلام على الدين كله. ومعنى إظهار الإسلام على الدين كله ليس معنى ذلك ألا يبقى في الأرض دين إلا الإسلام بل تبقى الأديان الأخرى، لكن الغالب والظاهر هو دين الإسلام. وفعلا أظهره الله في عصر النبوة وفي عصر الصحابة وفي عصر التابعين فأضاء الإسلام مشارقه الأرض ومغاربها، بالسيف وباللسان، بالحجة وبالبرهان. كَوْنُ المسلمين قصّروا واختلفوا وتفرقوا هم ضعفوا والإسلام لم يَضْعُف، هم استُعمِرُوا والإسلام لم يتغير، هم استكانوا والإسلام ظاهرٍ عالٍ، وما من دين على الأرض يقف أمام دين الإسلام أبداً، لا بالحجة ولا بالبرهان ولا بالكلام ولا بالمنطق، بل دين الإسلام هو الدين الظاهر الحق الأبلج. ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ الذين أشركوا مع الله غيره.
في الآية الأولى: (ولو كره الكافرون) الذين كرهوا النور؛ كُلَّ نور وأَيَّ نور، الذين أنكروا وجود الله (تبارك وتعالى) وفي الآية الثانية: (ولو كره المشركون) الذين أقروا بالله وأنكروا رسول الله، هؤلاء المشركون في زماننا والأزمنة القادمة و في زمان النبي من أهل الكتاب من يهود ونصارى أقروا بوجود الله وأنكروا رسالة محمد، هؤلاء الخطاب لهم، فالإسلام ظاهر على كل الأديان مهما حُورِب ومهما حُورِبَ أهلُه ومهما اتُّهِمَ أشياخُه ومهما طُعِنَ رُوَّادُه ومهما قُتِلَ قُوَّادُه، الإسلام ظاهر بإظهار الله له، فإن مات أحد قام بعده غيره، وإن قُتِلَ أحد قام بعده غيره، وإن سُجِنَ أحد قام بعده غيره، وإن نسي أحد ذَكَّرَه غيره، وهكذا، لابد وأن يَظْهَرَ الإسلام بإظهار الله له حتى تأتي علامة كبرى من علامات الساعة حيث ينزل عيسى بن مريم مُقسِطاً، فيكسر الصليب ويضع الجزية ويقتل الدجال ولا يكون في الأرض إلا الإسلام. وقد أنبأنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) بذلك في أحاديث كثيرة، منها قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لَيَنْزِلَنَّ عيسى بن مريم حَكَمَاً عَدْلَاً فَلَيَكْسِرَنَّ الصليب ولَيَقْتُلَنَّ الخنزير ولَيَضَعَنَّ الجزية ولَتُتْرَكَنَّ القِلَاصُ فلا يُسعَى عليها –والقلاص: الناقة الشابة- ولَتَذْهَبَنَّ الشحناء والتباغض والتحاسد ولَيَدْعُوَنَّ إلى المال فلا يقبله أحد) العدل المطلق بالإسلام في زمن عيسى بن مريم في آخر الزمان حيث لا يكون على الأرض إلا الإسلام، ولا تكون هناك جزية؛ إما الإسلام وإما القتل، فيُسْلِمُ الكل ولِيُقِرَّ الكل، وذاك إظهار الدين على غيره بالغلبة، بالسلطان، بالسيف وباللسان، بالحجة وبالبرهان.
أيها الأخ المسلم؛ الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر، ومهما رأيت من انحراف المسلمين فالإسلام لا شأن له بانحرافهم، ومهما رأيت من انهزام المسلمين فالإسلام عالٍ منتصر إلى أبد الآبدين، مهما رأيت من تقهقر المسلمين أو الدعاة الذين ليسوا على مستوى الإسلام ومن يَدَّعون الإسلام أو من يُظهِرُون الإسلام أو من يستغلون راية الإسلام، مهما رأيت ومهما اكتشفت من زيفٍ أو بهتانٍ في أناسٍ يزعمون الإسلام أو يتكلمون بالقرآن أو يضعون اللافتات والرايات ويضعون آية من آيات الله في غير موضعها (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) ليس في المباني وليس في المنشآت وليس في المصانع، بل العمل من أجل الله، مهما رأيت من استغلال لراية الإسلام ومن استغلال لآيات القرآن ومن استغلال لمظهر الإسلا، م مهما رأيت ذلك ومهما رأيت من انحراف فلا تيأس و ثِقْ بالإسلام، فالإسلام عالٍ ويعلو ولا يُعلَى عليه، والحق باقٍ والحق أبلج، ولا تزال طائفة من أُمَّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة، وأنبأنا رسولنا أنهم ظاهرين، طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة.
ذهب عثمان بن مظعون صاحب رسول الله ومن المهاجرين الأوائل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله لو أَذِنْتَ لي فطلقت خولة وتَرَهَّبْتُ واختَصَيْتُ وحَرَّمْتُ اللحم ولا أنام بليلٍ أبداً ولا أفطر بنهارٍ أبداً، فقال رسول الله: "إن من سُنَّتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخِصَاءُ أمتي الصوم ولا تُحَرِّموا طيبات ما أَحَلَّ الله لكم ومن سُنَّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني" فقال عثمان بن مظعون: يا رسول الله لَوَدِدْتُ يا نبي الله أَحَبُّ التجارات إلى الله فأَتَّجِرُ فيها فنزل جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم):
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ ﴿10﴾
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿11﴾
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَيِّبَةًۭ فِى جَنَّـٰتِ عَدْنٍۢ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿12﴾
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌۭ قَرِيبٌۭ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿13﴾
﴿تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ (تؤمنون بالله ورسوله) بصيغة الخبر ومعناها الأمر: أي آمنوا، ولذا قُرِئت: (آمِنُوا بالله ورسوله وجاهِدوا في سبيل الله) وأصل قراءة حفص: (تؤمنون بالله ورسوله) خبر لكنها تعني الأمر لأن الله يأمرنا بالإيمان، فإن وَفَّينا وَفَّى الل، ه إن أعطينا أعطى الله وزاد وأثاب.
﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ والإيمان بالله وبرسوله كلنا يعرفه وقد وصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) وشرحه: الإيمان بالله أن تؤمن بأن الله واحد لا شريك له، هو القادر، هو الرازق، هو الخالق، هو المحيي، هو المميت، كان الله ولم يكن شيء غيره، هو الفعال لما يريد، وما في الدنيا وسائط والحقائق أن الله فعال لما يريد، هو الذي خلق الأسباب وأدى بالأسباب إلى المسَبِّبَات لكن الخالق هو الله، فالإيمان بالله أن تعتقد أن النافع والضار هو الله، فإذا سألتَ فاسأَلِ الله وإذا استعنتَ استعنتَ بالله، واعلَم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ ما يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام حقاً وطُوِيَت الصحف على ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، سَعِدَ من سَلَّمَ لله في أموره، سَعِدَ من فوّض لله أموره، سَعِدَ من أوكل إلى الله أموره وتَعِسَ من أوكل إلى نفسه الأمور فقال أنا وأنا وأنا أَفْعَلُ وأَفْعَلُ وفَعَلْتُ فينسب إلى نفسه ما لا يقوى ولا يقدر عليه مصداقاً لقول الله: (لِمَ تقولون مالا تفعلون) (الله خلقكم وما تعملون) هو يقول ذلك: (خلقكم وما تعملون) إذاً فَلِمَ تقولون مالا تفعلون؟ إذاً يريد ربنا منا أن نُسَلِّمَ لله وأن نؤمن برسول الله، والإيمان برسول الله طاعة رسول الله فيما أمر وما نهى، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، وتصديق للنبي (صلى الله عليه وسلم) وعدم إعمال العقل فيما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) بل طاعة عمياء دون إعمال للعقل، فقد صَدَّقْنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ والجهاد أنواع، بل الجهاد ثلاثة أنواع: جهاد مع النفس، وجهاد مع الخَلْق، وجهاد مع الحق.
أما جهاد النفس فهو قهر النفس، منع النفس عن المعاصي والشهوات، ذاك هو جهاد النفس، وهو بداية، ومن لم يجاهد نفسه فلا يقوى على جهاد غيره، ولا يقوى على جهاد عدو الله، فجهاد النفس أولاً، فإن جاهدتَ نفسك وقَوَيْتَ عليها قَوَيْتَ على كل شيء بعد ذلك، فإن أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك، فجهاد النفس أولاً قهرها ومنعها عن المعاصي والشهوات، خَالِفها فيما تهواه وتشتهيه وأَجبِرها على الطاعة، فإن طَوَّعْتَها للطاعة طَاعَت لك واستقامت. ثم جهاد مع الخَلْق، والجهاد مع الخَلْق أن تحب لهم ما تحب لنفسك وأن تكره لهم ما تكره لنفسك، أن تيأس مما في يد الخلق، أن تكرم الناس، أن تحسن جوار الناس، أن تؤدي ما عليك، أن تفي بعهدك، أن تكفل اليتيم، أن ترعى المسكين وهكذا. الجهاد مع الخلق أن تيأس مما في أيدي الناس، أن تعين الضعيف وتَحْمِلُ الكَلَّ وتُكسِبُ المعدوم كما كان يفعل سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) ذاك جهاد مع الخلق، لا تجاملهم ولا ترائيهم ولا تنافقهم ولا تطمع فيما أيديهم، فالله هو العاطي وهو المانع. ثم جهاد مع الله، جهاد مع الحق، جهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام. والجهاد في سبيل الله أيضاً مقامات ودرجات؛ أعلاها أن تُقتَل في سبيل الله، أن تبذل النَّفْسَ والمُهَج في سبيل الله، مع أول دفقة دم تُغفَر الذنوب جميعاً كبائرها وصغائرها، مع أول دفقة دم تستقبلك الحور العين، مع أول دفقة دم تخرج من حياة الدنيا الزائلة البائدة إلى حياةٍ أخرى لا يعرفها إلا الله ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٦٩] نوع من أنواع الحياة وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: (إن الله جعل أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها) نعم تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم.
والجهاد في سبيل الله يبدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن لم تأمروا بالمعروف وتنهون عن المنكر يقع عليكم العذاب ويحل عليكم العقاب (لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو لَيَسُلِّطَنَّ الله عليكم شراركم ويدعو خِيارُكُم فلا يستجاب لهم) نعم لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو لَيَعُمَّنَّكُمُ الله بعذاب، نعم. ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سورة الأنفال آية: ٢٥] ما لم تأمروا بالمعروف يَعُمَّ الله الكل بعذاب كما عَمَّ بني إسرائيل بالعذاب حيث لُعِنُوا في كل كتاب وعلى لسان كل رسول: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(٧٩)﴾ [سورة المائدة آية: ٧٨- ٧٩] ذلك سبب اللعنة؛ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. فالجهاد في سبيل الله أوله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم الضرب على أيدي المفسدين ثم الإصلاح وتقويم المعوّج، ومن رأى منكراً فليقومه بيده أولاً فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك إيمان. ذاك هو الجهاد، وقدم ربنا الأموال على الأنفس (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) فالمال أولاً لأن من بخل بماله كان بروحه أبخل، كان بنفسه أبخل، ومن جَادَ بماله كان أجود بنفسه، فالمال صنو الروح. وجاءت هذه المعاني في كثير آيات الله حيث يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة النساء آية: ٢٩] فجاء أكل المال مع قتل النفس في آية واحدة، فالمال صنو الروح، من هنا قَدَّمَ المال.
كما أن الجهاد يحتاج إلى مال، فكيف تجاهدوا من غير سلاح؟ كيف تجاهدوا من غير زاد؟ كيف تجاهدوا من غير أفراس وركائب؟ لابد من المال أولاً، من هنا قَدَّمَ ربنا المال، تجاهدون بأموالكم أولاً وأنفسكم. ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلكم خيرٌ لكم مِمَّ؟ خيرٌ لكم من التجارة في الدنيا، خيرٌ لكم من هذه الدنيا الزائلة، خيرٌ لكم من أن تبخلوا بأموالكم، أَلَا لا نامت أَعْيُنُ الجبناء (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) من خاف القتال، من خاف أن يُقتَل في سبيل الله أيطيل ذلك في عمره؟ من خاف أن ينفق المال في سبيل الله أيزيد ذلك في رزقه؟ ذلكم خيرٌ لكم. نعم، ربنا هو الذي خلق الخير وهو الذي خلق الشر، وهو الذي خلق النفع وهو الذي خلق الضر، فحين يقول ذلكم خيرٌ لكم فهو العالم بالخير، بل هو الخالق للخير، لذا قال: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ نعم العلماء، لأن الجهلاء لا يُعتَدُّ بأفعالهم ولا يعتد بأقوالهم، والكلام لمن يعلم، لمن يعقل، لمن يعي. ثم يبشرنا بالنتيجة، هذه التجارة أَعْطَيتَ المال، أعطيتَ النفس، فما الذي يعطيك ربك؟ قال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ إذاً فالعبد مهما جاهد في سبيل الله بماله ونفسه ومهما آمن بالله برسوله فالمعصوم من عصمه الله، ولا عصمة إلا للأنبياء، أما العبد فلابد وأن يذنب، مهما اتقى الكبائر قد يقع في الصغائر، ولو اتقى الصغائر قد يصاب بالخواطر وهكذا. من هنا يقول الله يغفر لكم ذنوبكم أولاً، فتلقى الله وليس عليك شاهد بذنب، تلقى الله وصحيفتك بيضاء ناصعة. ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لا يعلمها إلا الله! خلقها الله وزينها وزخرفها وهيأها، جنات تجري من تحتها الأنهار. ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ هذه المساكن الطيبة لا يعرفها إلا الله.
قال فيها الصحابة -منهم عمران بن حصين- قال فيها أشياء: قَصْرٌ من دٌرَّةٍ واحدة فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، على كل سرير سبعون من الحور العين، وكذا كذا، والله قادر على كل شيء. ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والفوز: هو الحصول على البُغيْةَ، الفوز: الظفر بالمطلوب. فذلك الفوز العظيم الذي لا فوز فوقه، هذا الفوز، الخلد، رضا الله، النعيم المقيم، الحياة الأبدية، نعيم خلقه الله ليُنَعِّمَك كيف هو ذلك الفوز العظيم؟ ثم وصل ربنا النعيم الدنيا بنعيم الآخرة فقال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وصل نعيم الآخرة بنعيم الدنيا، نعم ليس الآخرة فقط للمؤمنين بل الآخرة والدنيا أيضاً ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا﴾ وفي قوله (تحبونها) تعريض بأن الإنسان يؤثر العاجل على الآجل. (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) نصر في كل أمورك، نصر على كل أعدائك، نصر في كل ما تريد، يصلح لك ربنا أعمالك، يصلح أحوالك، يصلح زوجك، يبارك في صحتك، ما من أمر يعرض عليك إلا وترى الحق أين هو، ما يختلف عليك أمر إلا وتعرف أين تسير، ينير لك الطريق فتصبح عاقلاً تزن الأمور، حكيماً يُحكِمُ أمره ويضع الأمور في مواضعها. نعم، نصر من الله وفتح قريب، بشرهم بفتح مكة، وبشرهم بفتح فارس والروم، والفتوحات، ولا زالت البشرى حتى الآن. والفتح الخاص َفْتٌح للشخص، والفتوحات الربانية لا حدود لها. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يا محمد بَشِّرِ المؤمنين ولم يقل بِمَ يبشرهم، والمُبَشِّر هو الله والمبلِّغ هو رسول الله. هذه البشارة من الله القادر الفعال لما يريد جعلنا الله وإياكم منهم. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله خلق جنة عدن بيده وشق فيها أنهارها ودَلَّى فيها ثمارها ثم أَذِنَ لها فقال: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون.
ويأتي النداء من العلي الأعلى لهؤلاء الذين استجابوا لله، يقول الله:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوٓا۟ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـۧنَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ۖ فَـَٔامَنَت طَّآئِفَةٌۭ مِّنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌۭ ۖ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا۟ ظَـٰهِرِينَ ﴿14﴾
فأصبحوا ظاهرين: غالبين بالحجة وبالبرهان، لأن أتباع عيسى لم يقاتلوا لا في حياته ولا بعد ارتفاعه إلى السماء إذاً فالتأييد كان بالحجة والبرهان حيث اختلف النصارى، بعد ارتفاع عيسى إلى السماء اختلفوا فزعموا أنه صُلِب، وزعموا أنه الله، وزعموا أنه ابن الله، وزعموا أنه ثالث ثلاثة، فكان يجادلهم المؤمنون ويقولون قد علمتم أن عيسى ينام والله ولا ينام قد علمتم أن عيسى يأكل والله لا يأكل، غلبوهم بالحجة والبرهان. ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾: في زمن عيسى أو بعد ما انتقل عيسى إلى السماء ورفعه الله جسداً وروحاً أيدهم. أو ببعثة المصطفى النور المبين الهادي إلى الصراط المستقيم حيث انتصر مؤمنو النصارى على الكفار حين جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إنما المسيح بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة) فانتصر أتباع عيسى الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله على الكفار الذين زعموا فيه المزاعم، أيدناهم بمحمد، أيدناهم بالصدق والحق، أيدناهم بالقرآن، أيدناهم ببعثة الخاتم (صلى الله عليه وسلم) (إن مَثَلَ عيسى عند الله كَمَثَلِ آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) إذا كان عيسى هو الله من كان يحكم العالم ويدبر الأمور حين كان جنيناً في بطن أمه؟ هل يحتاج الإله لمن يهدهده؟ لمن يرضعه؟ لكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم.