
سورة الممتحنة
مقدمة
لقاؤنا مع سورة الممتَحَنة، وسورة الممتحنة سورة مدنية. سميت السورة سورة الممتحنة لإضافتها للمرأة التي امتُحِنَت والتي نزل فيها بعض آيات السورة وهي أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي مُعَيط، فقد أمر الله بامتحان المهاجرات فسميت السورة الممتَحَنة إضافة للمرأة. ومن قال إنها الممتَحِنة إضافة إلى السورة فبها تُمتَحَن النساء، كما سميت سورة براءة الفاضِحَة والمُبَعْثِرة حيث فضحت المنافقين.
سورة الممتَحَنة نزلت بالمدينة، ونزل أولها لسبب؛ وذاك أن رسول الله كان يتجهز لفتح مكة، وهو في تجهزه لفتح مكة جاءت امرأة إلى المدينة ولم تكن مسلمة، وخرجت من المدينة إلى مكة وراودها أحد الصحابة -وهو حاطِبُ بن أبي بَلْتَعَة- وأعطاها عشرة دنانير وأعطاها كتاباً لتسلمه لأهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فنزل جبريل ينبئ رسول الله بخبر حاطب والمرأة، يقول علي بن أبي طالب: أرسل إلينا رسول الله أنا والزبير والمقداد فقال لنا ائتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، الظعينة: المرأة في الهودج، يقول علي ابن أبي طالب: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فوجدنا المرأة فقلنا أين الكتاب؟ قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيَنَّ الثياب، فأخرجته من عِقَاصها -من ضفيرتها- أخذوا منها الكتاب وعادوا إلى رسول الله، فأرسل في طلب حاطب، وجاء حاطب، قال له رسول الله: "يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله لا تَعْجَل عَلَيّ فوالله ما كَفَرْتُ بعد إسلامي وما ارتددتُ بعد إسلامي ولا رضيتُ بالكفر بعد الإسلام، ما غَشَشْتُك بعد إذ نَصَحْتُك ولكن لي قرابة بمكة وكنت امرءاً ملصقاً بقريش ولم أكن من أنفسها -أي موالياً لهم ومحالفاً ولم يكن من قريش- وكان ممن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وقد عَلِمْتُ يا رسول الله أن الله مظفرك عليهم ولو أني أرسلتُ لهم. قال رسول الله: "أما صاحبكم فقد صَدَق" فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال النبي: "يا عمر إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر وقال اعملوا ما شئتم فقد غَفَرْتُ لكم" ونزل جبريل بالعتاب لحاطب، يقول الله في أول السورة:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا۟ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَـٰدًۭا فِى سَبِيلِى وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِى ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴿1﴾
يُبَيِّن النهي وعلة النهي؛ كيف تلقون إليهم بالمودة والحال أنهم كفروا؟ ﴿بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾: القرآن والوحي. ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾: حال آخر واستئناف للبيان. وقَدَّم الرسول في الكلام تشريفاً لشأنه ولأنه أصل المؤمنين. ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾: أي بسبب إيمانكم. ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ شرط جوابه محذوف، أو هو شرط جوابه مُقَدَّم: (لا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي) إن كان الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة حدثت إيماناً بالله ونصرة لرسول الله صدقاً من القلب، إن كان هذا فلا يصح أن تتخذوا الكفار أولياء، وخاصة أنهم أخرجوكم. وحقيقة الأمر أن الكفار لم يُخرِجوا رسول الله ولم يُخرِجوا المؤمنين ولكن الرسول هاجر بنفسه وخرج المؤمنون بأنفسهم، ونسب الإخراج إلى الكفار لأنهم تسببوا فيه بالتضييق عليهم وبالإيذاء وبالشتم وبالسب وما إلى ذلك، فكان ذلك سبباً لخروجهم فنسب الخروج إليهم. ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾: بَدَلٌ من قوله (تلقون إليهم بالمودة). أو هو استئناف؛ وماذا يجدي ذلك؟ وما النفع وما الطائل الذي يعود عليكم؟ والإسرار: الخفية والتصرف في خفاء، تُسِرُّون إليهم بالمودة، وقد كتب حاطب كتابه سراً وأرسله سراً، ولولا أن الله أطلع المصطفى على هذا الكتاب ما علم به. ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾ والباء هنا أيضاً زائدة، أَعْلَم: فعل مضارع، أي أَعْلَم ما تفعلوه سراً وعلانية، أَعْلَم السر وأخفى.
أو أنا أَعْلَم من كل أحد، وأَعْلَم بكم من أنفسكم، فهي على وزن أَفْعَل التفضيل. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي من يفعل ذلك، تلك الموادة مع الكفار الذين عادوا الله ورسوله، فقد ضل سواء السبيل: انحرف عن الطريق السليم وضل طريقه وبَعُدَ بُعداً شديداً عن رضا الله. ويُبَيِّن ربنا عداوة هؤلاء فيقول:
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا۟ لَكُمْ أَعْدَآءًۭ وَيَبْسُطُوٓا۟ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّوا۟ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴿2﴾
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُمْ ۚ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ ﴿3﴾
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم لأن يوم القيامة فيه فصل القضاء، فإن كنتَ فعلتَ ما يغضب الله في الدنيا من أجل الأولاد ومن أجل الأهل أو من أجل المال فلن ينفعك ذلك، ومن أرضى الناس في سَخَطِ الله سَخِطَ اللهُ عليه وأَسْخَطَ عليه الناس، ومن أرضى اللهَ في سَخَطِ الناس رضي الله عليه وأرضى عنه الناس، وإن كنت تريد الحماية لولدك ولأهلك ولمالك فاسأل الحماية ممن يملكها ألا وهو الله، هو الله الذي يحمي، هو الحفيظ الذي يحفظ، فاسأل الله أن يحفظ عليك نِعَمَه، أما أن تفعل ما يغضبه فما عند الله لا يُدرَك بالمعاصي، وكل شيء عند الله، عنده الرزق، عنده الأجل، عنده السعادة، عنده الشقاوة، عنده كل شيء، وما عند الله لا يُدرَك بمعصيته. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ وكلمة ﴿يَفْصِل﴾ فيها سبع قراءات: يَفْصِل نَفْصِل يُفَصِّل يُفَصَّل نُفَصِّل يُفْصَل وكلها بمعنى واحد. (يوم القيامة يفصلُ بينكم) يفصل بينكم الله، والضمير عائد للذات العلية. يُفَصَّل بينكم كذلك مبني لما لم يُسَمَّ فاعله ألا وهو الله. يفصل ربنا بين الأب وابنه، وبين المرء وأهله. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تهديد، لأنه طالما كان بصيراً بالعمل فهو مُجَازٍ عليه لا محالة. والله بما تعملون بصير فيجازيكم عليه يوم القيامة. ثم يلفت ربنا نظر الناس إلى الأسوة والقدوة، ألا وهو إبراهيم. والآية دليل على أن شَرْعَ من قبلنا شَرْعٌ لنا ما لم يَرِد نص يخالف ذلك:
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌۭ فِىٓ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذْ قَالُوا۟ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُا۟ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحْدَهُۥٓ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍۢ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴿4﴾
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةًۭ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿5﴾
﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ أي حتى ذلك الحين، فإذا حدث وآمنتم انقلبت العداوة إلى محبة والبغضاء إلى ألفة. ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم الأسوة ولكم القدوة في إبراهيم والذين معه في قولهم هذا وفي فعلهم هذا، ما عدا قول إبراهيم لأبيه فذاك ليس بأسوة، إذا فقد أُمرنا أن نتأسى بإبراهيم في كل شيء ماعدا استغفاره لأبيه، فالاستثناء هنا متصل. وقد يكون الاستثناء منفصل بمعنى أن إبراهيم (عليه السلام) فعل فعلاً آخر وهو أنه تبرأ من الجميع إلا أنه استغفر لأبيه ظناً منه أن ذلك يجدي، ولكنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فوّض الأمر لله، فالله لا يجب عليه شيء، علينا الدعاء وعليه الإجابة، علينا الطاعة وعليه القبول، ولا يجب على الله شيء. (وما أملك لك من الله من شيء) إذ لا تنفع الأنساب، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا بطاعته. ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ تتمة كلام إبراهيم، أو هو تعليم من الله لنا وانتهى كلام إبراهيم عند قوله (وما أملك لك من الله من شيء). فربنا ينبهنا: لا تتخذوا الكفار أولياء ولا تلقوا إليهم بالمودة وقولوا ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. فإما هو تعليم من الله لنا كيف نقول، وإما هو من كلام إبراهيم. ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ فوضنا إليك أمورنا وأوكلنا إليك الأمور كلها. ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ رجعنا إليك بالتوبة والطاعة. ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ إليك رجوعنا في يوم القيامة وفي آخر الدنيا، فربنا يجمع الخلق، كما بدأ أول خلق يعيده. ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي لا تسلطهم علينا فيصيبونا بالعذاب ويؤذوننا فنُفتَن في ديننا، أو نُعَذَّب بأيديهم.
والفتنة: إدخال الفضة وإدخال الذهب في النار ليُبتَلى ويُختَبَر وتذهب شوائبه، واستعيرت الكلمة في الشدة وفي العذاب وفي الابتلاء. لا تجعلنا فتنة: بأن يعذبونا، أولا تجعلنا فتنة لهم بأن ينتصروا علينا ويقولوا لو أن هؤلاء على الحق ما نُصِرنا عليهم. أي لا تجعلنا فتنة لهم بأن يُفتَنوا هم بنا، أو لا تجعلنا فتنة بأن نُفتَن نحن بهم. ﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا﴾ اغفر لنا إسرافنا في أمرنا، إفراطنا. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ القوي الغالب الذي لا يَذِلُّ من التجأ إليه، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه والذي لا تخلو أفعاله عن الحكمة. ومن كان هذا شأنه فلا يَذِلُّ من التجأ إليه ولا يضل من توكل عليه.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌۭ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْـَٔاخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ ﴿6﴾
استجاب المؤمنون لأمر الله ونزعوا المودة من قلوبهم وظهرت عداوتهم للكفر وللكفار، وظهرت البغضاء وتأسُّوْا بإبراهيم والذين معه، ولكن ذلك ترك أثراً في نفوسهم فهم الأهل والعشيرة، كيف يكره الأب ابنه وكيف يعادي الرجل ولده؟ وكيف وكيف وكيف؟ فكان في قلوبهم شيء من الأسى، فرحمهم الله وألفهم وتودد إليهم فهو الودود (سبحانه وتعالى) ووعدهم وهو صادق في وعده، نزل جبريل يُسَرِّي عنهم ويقول الله:
عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةًۭ ۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٌۭ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿7﴾
وتنزل الآية والتي تؤكد أن الله يرحم عباده ولا يكلف النفوس إلا ما وسعت؛ فقد جاءت أم أسماء بنت أبي بكر -وهي غير أم عائشة- قتيلة بنت عبد العزى، تزوجها أبو بكر وأنجب منها أسماء، طلقها أبو بكر وبقيت هي على كفرها، وتزوج أبو بكر من أم رومان -أم عائشة- وجاءت له بعائشة، هذه الأم كانت مشركة -أم أسماء- جاءت من مكة في وقت الصلح في فترة صلح الحديبية قبل فتح مكة -في وقت الهدنة- جاءت لتزور ابنتها، وحين دخلت على أسماء بالهدايا رفضت أسماء أن تستقبلها أو أن تُدخِلَها في بيتها وقالت: والله لا أقبل منك شيء ولا ألقاك في بيتي حتى أستأذن رسول الله، وذهبت أسماء إلى النبي تقول: يا رسول الله جاءتني أمي وهي راغبة -أي راغبة عن الدين- أَفَأَصِلَها يا رسول الله؟ قال: "نعم صِلِي أُمَّك". ونزل جبريل يُصَدِّق ذلك، يقول الله (تبارك وتعالى):
لَّا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوٓا۟ إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾
إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَـٰتَلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـٰرِكُمْ وَظَـٰهَرُوا۟ عَلَىٰٓ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿9﴾
﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ ذاك هو النهي، وذاك هو التفصيل لأول السورة، ذاك هو البيان. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين: أي قاتلوكم بسبب الدين. ﴿وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ أي تسببوا في إخراجكم بالتضييق وبالسب وبالإيذاء وما إلى ذلك. ﴿وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ أعانوا على هذا الإخراج، ظَاهَرَ عليه: أعان عليه، ظَهَرَ عليه: غَلَبَهُ وانتصر عليه. ﴿وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ إما أخرجوكم بأنفسهم أو عاونوا على إخراجكم. ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ أي ينهى ربنا عن تولي هؤلاء. ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ نعم أولئك هم الظالمون لأنهم وضعوا الولاية في غير محلها، هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم فعرضوها لغضب الله. أيها الأخ المسلم؛ الحب في الله من أَجَلِّ الأعمال التي يُثاب عليها المرء، والحب في الله والبغض في الله إذا مارسه العبد المؤمن قد يجد فيه صعوبة في بدء الأمر لكنه إذا لجأ إلى الله وسأله حُبَّه وحُبَّ من يُحِبَّه وحُبَّ كل عمل يقربه إلى حُبِّه أجابه الله إلى سؤله. الحب في الله من شروط الإيمان، الحب في الله يسكنك أعلى الجنان، بل يرزقك يوم الفزع الأمان، فنبينا يحدثنا عن سبعة يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله، من هؤلاء السبعة: اثنان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، في ظل العرش. ويقول نبينا مبيناً: "يُحشَر المرء مع من أَحَبَّ" وكان ذلك لرجل من أصحابه حين ذهب إليه وقال: يا رسول الله اليوم نحن معك وغداً لا نراك وحتى لو دخلنا الجنة فأين نحن من مقامك يا رسول الله؟ فقال النبي: "يُحشَر المرء مع من أَحَبَّ."
الحب في الله ينفع، بل إذا التقى المؤمنان المحبان لبعضهما فصافح أحدهما الآخر تساقطت ذنوبهما بين أيديهما بالمصافحة، بل وخرج رجل يوماً لزيارة رجل فأرسل الله له مَلَكاً في الطريق يسائله: أين تريد؟ قال: أريد أخي فلان في قرية كذا، قال: أهو قريب لك؟ أبينك وبينه رحم؟ قال: لا، قال: ألك عنده نعمة تردها؟ أتبتغي من ذلك غاية أو هدف أو شيء أو منفعة؟ قال: لا، قال: ففيمَ خروجك؟ قال: خرجت لزيارته في الله، قال: فاعلم أن الله أرسلني إليك يخبرك أن الله قد غفر لك. الزيارة في الله والحب في الله وزيارة المرضى في الله، ومعاتبة الله بعض عباده يوم القيامة يقول تعالى: "مَرِضتُ يا عبدي ولم تَزُرني" يقول العبد: وكيف تمرض يا رب وأنت رب العالمين؟ فيقول: "مَرِضَ عبدي فلان فلم تَزُرْه ولو زُرتَهُ لوجدتني عنده" الحب في الله، ونبينا يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". بل ويوماً ينادي رسول الله على أحبابه: "أحبابي أحبابي" وتسأله الصحابة: ألسنا أحبابك يا رسول الله؟ فيقول: "بل أنتم أصحابي، أحبابي أناس يأتون من بعدي ومن بعدكم يود أحدهم لو يراني بأهله وماله ونفسه". الحب في الله، حب رسول الله وحب آل بيت رسول الله وحب المؤمنين وحب الصالحين، يُحشَر المرء مع من أَحَبَّ، ومن جَالَسَ جَانَس. الحب في الله أمر غاية في الأهمية، الحب في الله ينفع دنيا وينفع أخرى، يبرئك من الرياء ومن النفاق. أيها الأخ المسلم؛ ربنا حين وصف أمة النبي خير الأمم قال في شأنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) والرحمة بين المؤمنين والتوادد مَثَلُه -كوصف النبي- كَمَثَلِ الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. أيها الأخ المسلم؛ عليك بحب الله وعليك بحب رسول الله.
وقد يسأل سائل: كيف أحب الله؟ وهل يحبني الله؟ إذا أردت أن تعرف هل أحبك الله أم لا فَسَل نفسك: هل أنت تحب الله؟ إن كنتَ تحب الله فثق أن الله يحبك، لأن الله يقول: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [سورة المائدة آية: ٥٤] فالحب متبادل. وحب الله له طريق، وطريقه موصوف، وصفه المصطفى بما نزل عليه من وحي في قول الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة آل عمران آية: ٣١].
صَالَحَ النبي كفار مكة صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أن من جاء إلى محمد من أهل مكة مسلماً رده إليهم ومن جاء إلى أهل مكة من المسلمين مرتداً لا يردوه إلى النبي، وكان شرطاً مجحفاً في نظر الناس ولكن الله قدّر وما شاء فعل ولله حكمة في ذلك. ولم تكد تجف تلك الوثيقة التي صالح بها النبي أهل مكة وخَتَمَها، وخَاتَمَ عن أهل مكة سهيل بن عمرو، جاءت امرأة إلى النبي يقال هي سُبَيْعَة بنت الحارس الأسلمي جاءت مهاجرة، فجاء زوجها وقال: يا محمد طينة الكتاب لم تجف بعد رُدَّ إِلَيَّ زوجتي، فنزل قول الله ناسخاً لهذا الشرط، مستخلصاً النساء، فالرَّدُّ للرجال دون النساء. وقيل بل التي جاءت هي أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي مُعَيط -وذاك هو القول الأرجح- وبسببها نزلت الآيات، جاءت النبي مهاجرة بدينها ولَحِقَ بها أَخَوَاها، فَرَدَّ النبي أَخَوَاها وأبى أن يَرُدَّ المرأة وقال: "الشرط في الرجال دون النساء". نعم لأن الرجل قادر على أن يحتفظ بدينه ويصبر على البلاء، أما المرأة فلا تستطيع أن تصبر على دينها أو أن تصبر على البلاء، فهي رقيقة المشاعر ضعيفة يستطيع زوجها المشرك أن يرغمها على الكفر، كما أنها لا تحل له. من هنا نزل قول الله ناسخاً لذلك الشرط، أو خصص النساء دون الرجال، بأنهن لا يرجعن إلى الكفار. يقول الله:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَٰتٍۢ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ۖ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـٰتٍۢ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّۭ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُوا۟ ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا۟ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ وَسْـَٔلُوا۟ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْـَٔلُوا۟ مَآ أَنفَقُوا۟ ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌۭ ﴿10﴾
وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌۭ مِّنْ أَزْوَٰجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَـَٔاتُوا۟ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَٰجُهُم مِّثْلَ مَآ أَنفَقُوا۟ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤْمِنُونَ ﴿11﴾
﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ إذا جاءت المرأة مسلمة وامتُحِنَت وتبين إيمانها بغلبة الظن حُبِسَت بالمدينة ومُنِعَ أهلها من استردادها وأُعطِيَ زَوجُها صِدَاقَها، فلا نجمع عليه مصيبتين مصيبة فقد الزوجة ومصيبة فقد المال. منتهى النَّصَف، منتهى العدل من الله، هانحن قد أخذنا منه امرأته فلا أَقَلَّ من أن نَرُدَّ عليه ما أنفق عليها. (وآتوهم): أي و آتوا الكفار، الأزواج الذين هاجرت نساؤهم، ما أنفقوا من صَدَاق. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ والكلام عن المهاجرات اللاتي هاجرن إلى المدينة وتركن أزواجهن الكفار بمكة، إن جاءت فلا بأس ولا جناح ولا إثم أن يتزوجها المسلم بالمدينة، فقد انفصمت عُرى الزوجية بينها وبين زوجها المشرك بإسلامها ولكن بشرطين: الشرط الأول أن تنقضي عدتها إن كانت قد دُخِلَ بها، أما إن لم تكن مدخولاً بها فلا بأس بالزواج فوراً. أما الشرط الثاني المَهْر، شَرَطَ ربنا للمهاجرة بدينها إن تزوجت من مسلم في دار الهجرة أن يؤتيها صداقها بياناً وتنبيهاً على أن ما أُعطيَ لزوجها الكافر لا علاقة له بحقها في الصداق، نَصَف وعدل ورحمة بهؤلاء النسوة. ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ والكلام للمسلمين والمؤمنين. العِصَمْ جمع عِصْمَة، والعِصْمَة: ما يُتَمَسَّك به ويُعتَصَم به من عَقْد أو سَبَب. وسمي عَقْدُ النكاح عِصْمَة لأن المرأة تعتصم بعقد النكاح، تتمسك به، فهو صلة بينها وبين زوجها. ربنا ينهى المسلمين عن إبقاء زوجاتهم الكوافر، الكوافر: جمع كافرة، حَرُمَ على المسلم أن يُبقِي على زوجته الوثنية المشركة أو المجوسية أو من لم تؤمن بالله. هذه الآية عامة خُصِّصَ منها نساء أهل الكتاب، فقد أباح ربنا زواج المسلم من الكتابية.
وقيل بل الآية نُسِخَ منها هذا الحكم الخاص بنساء أهل الكتاب، كانت الآية عامة في كل الكوافر وأهل الكتاب كوافر (لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح بن مريم) فالآية عامة على كل من لم تؤمن بالله وبمحمد. وقيل بل الكوافر خاصة بغير أهل الكتاب من عبدة النار والأصنام والأوثان وما إلى ذلك وليس فيها نسخ. وحين نزلت الآية طلق المسلمون النساء المشركات، وكان لعمر بن الخطاب زوجتان في مكة فطلقهما بنزول الآية. ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ والحكم باق حتى الآن، فلا يحل لمسلم أن يتزوج من امرأة تعبد الأصنام أو تنكر وجود الله أو تعبد النار. أما الكتابية -نصرانية أو يهودية- فيجوز للمسلم أن ينكحها. وإن أسلمت النصرانية ولم يُسلِم زوجها فُصِلَ بينهما في التو واللحظة. وقيل بل يُنتَظَر في العدة فإن أسلم في عدتها فهو أحق بها. فإن كان الزوجان على غير دين الإسلام -مجوسيان أو كتابيان- وأسلم أحدهما انقطعت الصلة، فإن كانا غير كتابيين وأسلم الزوج المجوسي انقطعت الصلة بينه وبين زوجته لأن الله يقول (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وعليها أن تنتظر العدة. وإن أسلمت المرأة المجوسية انقطعت الصلة بينها وبين زوجها ولكن تنتظر العدة، فإن أسلم في خلال عدتها رُدَّت إليه بغير نكاح جديد، هو أوْلى بها. أما الكتابي فإن أسلم ولم تُسلِم زوجته فلهُ أن يمسكها لأن المسلم من حقه أن يتزوج كتابية يهودية أو نصرانية. أما إذا أسلمت اليهودية أو النصرانية ولم يُسلِم زوجها فُصِلَ بينها وبينه وانتظرت العدة، فإن أسلم في خلال العدة رُدَّت إليه وكان هو أولى بها. ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾ اسألوا ما أنفقتم: أي المسلم الذي تفر امرأته من دار الإسلام وترتد عن دينها وتذهب إلى كفار مكة عليه أن يسأل صَدَاقَها، يُقَال لكفار مكة علينا صَدَاق المرأة وإن جاءت امرأةٌ منكم نحن نَرُدُّ عليكم صَدَاقَها.
إذاً فلكفار مكة الحق فى استرداد صداق الزوجة التي تهاجر إلى المدينة وتُسلِم، وكذلك من حق المسلمين أن يستردوا صداق المسلمات اللاتي ارتددن عن دين الإسلام ولحقن بكفار مكة. ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ فقال المسلمون رضينا بحكم الله، وأرسلوا بذلك إلى أهل مكة فأبوا وقالوا: ما لنا قِبَلَكُم وَجِّهُوهُ إلينا، ولا نرى أن لكم قِبَلَنا شيء. فرفضوا أن ينفذوا الحكم، وحين رفضوا أن ينفذوا الحكم أنزل الله العقوبة. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ كانت تكفي (ذلكم حكم الله)، فقال: (يحكم بينكم) أي أن الله يكرر للتأكيد، أو هو استئناف كلام، أو حال من الحُكم أو الأمر خاص بالنازلة التي حدثت في زمن النبي، والحكم خاص بزمن النبي في صلح الحديبية حيث حدث أن جاءت المهاجرات وحدث أن ارتدت امرأة، قيل امرأة واحدة لحقت بالكفار وقيل بل كُنَّ سِتُّ نسوة. هذا الحكم خاص بذلك الزمان وانتهى الأمر لأن العهد كان بين النبي وبين كفار مكة وشَرَطَ في العهد: من جاءنا منكم رددناه إليكم ومن جاءكم منا لا تردوه إلينا، فحين نُسِخَ الشرط كان يجب التعويض، أما الآن فالشرط باطل، فإن شَرَطَ الحاكم الآن مثل هذا الشرط انفسخ العقد لأن الشرط باطل ولا عِوَضَ لهم، أما أيام النبي فقد شَرَطَ لهم وحين نُسِخَ الشرط كان من الواجب أن يُعَوَّضُوا عن نَسْخِ الشرط. من هنا يقال إن الحكم خاص بزمن النبي ولفترة ما بين صلح الحديبية إلى فتح وانتهى بفتح مكة. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ عليم بمصالح عباده، حكيم فيما يشرع لهم من أمور. ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ حين رفض أهل مكة دفع الصداق ومعاملة المسلمين بالمثل وأرادوا أن يأخذوا مالهم ولا يؤدوا الذي عليهم، فيقول الله مبيناً ومعقباً (وإن فاتكم شيء من أزواجكم): أي أحد من النساء فَرَرْنَ أو ارتددن ولحقن بكفار مكة.
وعبر عن المرأة بكلمة (شيء) للتحقير، لأن المرأة التي ترضى بالكفر بعد الإسلام حقيرة وشأنها على الله حقير. أو عبر بكلمة (شيء) للتعميم. أو المعنى (وإن فاتكم شيء من أزواجكم) أي شيء من مهورهن، لم يَرُدُّوا عليهم الصداق. (فعاقبتم فعَقَّبْتُم فعَقَبْتُم فعَقِبْتُم) قراءات بمعنى واحد فهي لغات. ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ أي فغزوتم غزواً بعد غزو فغَنِمْتُم، يُعبَّر بها عن الغنيمة. أو يُعَبَّر بها عن العقوبة. ﴿فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا﴾ هذا المسلم الذي لحقت امرأته بالكفار وارتدت من حقه أن يأخذ صداقها من كفار مكة، فإن أبوا وفاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار وأبوا أن يعطوه صداق امرأته فعلى النبي أن يعطيه مثل ما أنفق من الغنيمة أو من الفيء أو من بيت المال أو من صَدَاق الكفار، المفروض أن نَرُدَّ عليهم الصداق فتُجرَى المقاصة لهم كذا ولنا كذا، إما أن نرد على الرجل المسلم مهر امرأته التي لحقت بالكفار من بيت المال أو من الصداق الذي من المفروض أن يُرَدَّ إلى الكفار. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ لأن الإيمان شرطه تقوى الله، إن آمنت بالله وبقدرته وبإطلاعه عليك، بسمعه وبصره، بكل ما تعمل، وبالبعث وباليوم الآخر وجب عليك أن تتقيه. (فاتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) لأن الإيمان يوجب التقوى ويوجب طاعة الله. هنا أمر ربنا بأمور: إذا جاءت المرأة مسلمة تُمتَحَن، فإن عُلِمَ إيمانها لا تُرَدُّ ويُرَدُّ صداقها. والأمر الثاني: لا يُمسَك بعِصَمِ الكوافر. وقُرِئت بقراءات: ﴿ولا تُمسكوا﴾ ﴿ولا تُمسِّكُوا﴾ ﴿ولا تَمَسَّكُوا﴾ كلها بمعنى واحد، بمعنى الإمساك أي الإبقاء على عُرى الزوجية، فأمرنا الله بعدم الإبقاء على الزوجية مع المشركة التي تعبد الأصنام، الكوافر: من تعبد النار وما إلى ذلك، أما الكتابيات فقد أباح الله الزواج منهن.
وإن فاتنا شيء وأبوا كما حدث فعلى الحاكم أن يرد للمسلم صداق امرأته التي ارتدت من بيت المال أو مما يستحق الكفار من صداق المهاجرات. وينتقل الكلام عن بيعة النساء للنبي:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْـًۭٔا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَـٰنٍۢ يَفْتَرِينَهُۥ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍۢ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿12﴾
وربما كانت البيعة على أشكال وأنواع، ولكن الأكيد والمؤكد أن رسول الله لم يصافح امرأة في البيعة قط، وكان يقول: "بيعتي لواحدة كبيعتي لكل النساء" تلك كانت بيعة رسول الله؛ مع الرجال بالمصافحة ومع النساء بالكلام. ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ يُعَاهِدْنَك. وسُمِّيَ العهدُ بَيْعَة، والمبايعة في الأصل: تبادل الأشياء على جهة العوض، يعطيك شيئاً وتعطيه شيئاً مقابل الشيء على سبيل العوض في البيوع، فسمي العهد بين النبي وبين الأمة بَيْعَة لأن الناس يعطون شيئاً ويعطيهم رسول الله شيئاً، فما الذي يعطيه الناس؟ يعطون الطاعة والوفاء بما عاهدهم عليه. فما الذي يعطيه رسول الله؟ يعطيهم ضمان الجنة، يضمن لهم الجنة. من هنا يقول الله: ﴿يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا﴾ وذكر ستة أشياء وكلها في مضمار النهي وليس الأمر. ومن الغريب أن هناك أوامر واجبة وهي ستة أشياء: الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج والاغتسال من الجنابة، لأن الكافر إذا أسلم وجب عليك أن تنبهه أن عليه أن يغتسل من الجنابة أولاً، لأن الكفار لا يغتسلون من الجنابة، فالاغتسال من الجنابة من الشروط التي تؤخذ أيضاً على الكافر إذا أسلم. هنا لم يذكر ربنا الأوامر الستة وذكر المنهيات الستة. ﴿لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾ قالوا في هذا الشأن أن النهي واجب في كل الأزمان والأحوال، أما الطاعات فتأتى منها ما استطعت. فقد لا نطيق الصلاة يوماً فتصلي وأنت نائم، أو لا تطيق الصيام فتفطر لأنك مسافر، أما المنهيات فلا يُحِلُّ ربنا السرقة بأي حال، أو الزنا أو الشرك أو ما نهى عنه. من هنا كان النهي آكَدْ من الأمر لأنه واجب في جميع الأزمان والأحوال. وقيل بل المنهيات الست كانت منتشرة بين النساء في الجاهلية، فإن امتنعن عما اعتدن عليه في الجاهلية وحَبَسْنَ شهواتهن عن هذه المنهيات كان الإتيان بالطاعات أسهل.
يقول الله: ﴿عَلَى أَنْ لَا لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾ أي شيء؛ صنم أو وثن أو إنسان أو نبي أو رسول، التوحيد الخالص لله، فالشرك أكبر الكبائر على الإطلاق. ﴿وَلَا يَسْرِقْنَ﴾ والسرقة معلومة وحَدُّهَا معلوم، ولكن حين قال رسول الله: ﴿ولا يَسْرِقْن﴾ رَدَّتِ المرأة المنتقبة والتي لم يعرفها رسول الله فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مَسِيك أو مِسِّيك وإني آخذ الهِنَّة من ماله لِأُطعِمَ عيالي أَعَلَيَّ بأس في هذا؟ فعرفها النبي قال: "أنتِ هند؟ " قالت: نعم يا رسول الله، فَتَبَسَّمَ في وجها رغم ما فعلته، فالإسلام يَجُبُّ ما قَبْلَه، وتنقلب العداوة محبة ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ [سورة الممتحنة آية: ٧] وقد جعلها الله بالفتح وتحققت في هذه الآية. فقالت: يا رسول الله هل عَلَيَّ بأس؟ قال: "لا إن أَخَذْتِ بالمعروف". من هنا رد أبو سفيان عليها وقال: وما أخذتيه فيما غَبَر فهو حلال لك. لكن العلماء قالوا: يَحِلُّ للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بغير علمه إن كان بخيلاً ماسكاً عليها في الطعام فقط والشراب، وبشرط أن يكون المال سائباً أي متروكاً، أما إن كان الزوج حَجَّبَ ماله وحدده واحترزه ووضع عليه القفل فإن فَتَحَت وأَخَذَت عُدَّت سارقة وأُقِيمَ عليها الحَدَّ مهما كان ضآلة ما تأخذه. ﴿وَلَا يَزْنِينَ﴾ والزنا من أخطر الكبائر، فاحشة وساء سبيلاً. وربنا لم ينهَ عن الزنا فقط بل نهى عن مقدمات الزنا فقال: (ولا تقربوا الزنا) لأن للزنا مقدمات، نهى عن المقدمات التي تؤدي إليه. هنا ينهى عن الزنا (ولا يزنين). ﴿وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ كانت المرأة في الجاهلية إذا جاءها المخاض حفرت حفرة وتمخضت على رأس الحفرة فإن ولدت ولداً أخذته وعادت وإن ولدت بنتاً وضعتها في الحفرة وردمت عليها في التو واللحظة.
من هنا يقول الله: (ولا يقتلن أولادهن) وهذا قتل للأولاد بعد الميلاد، ويدخل فيه الإجهاض، يُعَدُّ قتلاً. ومهما قيل في في هذا الشأن فقد حَرَّمَ الله الإجهاض وحَرَّمَهُ رسول الله، مهما كان الولد، وإن كان ولد زنا يَحرُمُ إنزاله، وإن حملت المرأة سفاحاً فلا يحل لها أن تُسقِطَ نفسها أو أن تُجهِضَ نفسها. حُرِّمَ الإجهاض شرعاً وقانوناً في كل الأديان وفي جميع قوانين البلاد. ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ﴾ البهتان: الكذب. ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾: يَخلُقْنَه. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ﴾ قالوا البهتان: السحر. قالوا البهتان: النياحة على الموت، شَقُّ الجيوب، لَطْمُ الخدود، إلى آخره. وأَصَحُّ الأقوال (ولا يأتين ببهتان يفترينه): أي ولد يَنْسِبْنَهُ إلى الزوج ظلماً وزوراً وبهتاناً. قالوا (يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) لأن المرأة إذا ولدت فالولد ينزل بين يديها وينزل من بين رجليها فَكَنَّى عن الولد كناية لطيفة، عن الطفل أو عن إتيانٍ من المرأة بالولد. وقال بعضهم بل الآية فيها تفصيل ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ﴾: الولد ليس من صلب الأب. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ﴾: اللقيط تلتقطه المرأة بيدها وتأتي به من حيث أتت وتقول لزوجها هذا ولدي منك أو هذا ولدك مني. يفترينه بين أيديهن بالالتقاط، والكلام عن اللقيط. ﴿وَأَرْجُلِهِنَّ﴾: عن ولد الزنا والسفاح، أن تحمل من غيره وتأتي به من غيره فتأتي به من بين أرجلها فتقول هذا لك وهذا ولدك، أي تنسب إليه الولد بأي طريق أو بأي سبيل، إما أن يكون لقيطاً أو عن طريق السفاح. وإن كان الله قد نهى عن الزنا في أول الآية لكن لا بأس من التخصيص، ولا بأس من التأكيد والتكرير، فقد يكون هناك زنا ولا يكون هناك ولد.
﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ والغريب أن كلمة (لا يعصينك) قوية، لِمَ قَيَّدها بِ (في معروف)؟ وهل يأمرنا نبينا إلا بالمعروف؟ وهل ينهى إلا عن المنكر؟ لِمَ يقول الله: (ولا يعصينك في معروف)؟ فكان يكفي أن يقول: (ولا يعصينك)، لِمَ قيدها وقال (في معروف)؟ قيل: قَيَّدها للتأكيد ولبيان أن النبي لا يأمر إلا بمعروف ولا ينهى إلا عن منكر. وقيل: بل خَصَّصَها بِ (معروف) لبيان أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن كان في أمر النبي خَصَّص بِ (معروف) فغيره أولى بذلك. إذاً فالحكام وأولياء الأمور والآباء والأزواج وما إلى ذلك، إن نهانا أو أمرنا فلابد أن يكون ذلك متفقاً مع الشرع. إذا فالآية تنبيه وإشعار أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾ أي فعاهدهن، كيف يعاهدهن؟ إن وَفَّين بذلك وعاهدهن على ذلك ضمن لهن الجنة والثواب. أرأيتم كيف وضع المفتاح بيد سيد الخلق؟ أرأيتم كيف وكلّهُ الله بضمان الجنة للناس إذا وَفُّوا بما عاهدوا الله عليه؟ ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾: فيما مضى، واستغفر لهم الله فيما لا يُطِقْن، وفي الهَنَّات في الخواطر. واستغفار النبي للأمة رحمة. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تأكيد لمغفرة الله عما سلف وعفوه عما مضى وتأكيد لأن استغفار رسول الله ينفع ويجدي ويشفع. أيها الأخ المسلم؛ روى الإمام البخاري عن عبادة بن الصامت قال: "كنا عند رسول الله فقال: أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا؟ وقرأ آية النساء -الآية التي تبايع النساء- قرأها على الرجال ثم قال: فمن وَفَّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له" أي عوقب بالحدود كقطع اليد وجَلْدِ الزاني غير المحصَن وما إلى ذلك، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وتُختَم السورة بما بُدِأَت به يقول الله (تبارك وتعالى):
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَوَلَّوْا۟ قَوْمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا۟ مِنَ ٱلْـَٔاخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْقُبُورِ ﴿13﴾
ومعنى ذلك والتوفيق بين الكلام أنك مع الكفار من كل لون طالما كانوا غير محاربين، معاهدين، بيننا وبينهم عهود أو أهل ذمة، المعاملة من حيث الظاهر عَدْلٌ ونَصَف والخُلُق الحَسَن، أما من حيث القلب فلا يصح مطلقاً أن تحب أو توادد أو تناصح أو تميل بحال من الأحوال، لأن الحب لله ولرسول الله ولآل بيت رسول الله وللمؤمنين والمؤمنات. ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ تعريف وتعليل للغضب، أنهم يئسوا من الآخرة فلم يؤمنوا بالبعث، أنكروا البعث وقالوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٣٧] يئسوا من الآخرة: يئسوا من البعث وأنكروه كمشركي مكة. أو يئسوا من الثواب والجنة كاليهود لأنهم عرفوا أن محمداً رسول الله، عرفوه كما عرفوا أبناءهم ولكنهم كفروا به حسداً من عند أنفسهم، من هنا يئسوا من ثواب الآخرة وإن أقروا بالبعث. ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ أي كما يئس أصحاب الدنيا الأحياء من أصحاب القبور الذين دُفِنُوا من أن يعودوا إليهم مرة أخرى، فلا ميت يعود مطلقاً، فقد يئس الكافر من عودة الميت الذي دُفِن. (مِن) للبيان أي الكفار الذين ماتوا وقُبِرُوا وعاينوا القبر وعاينوا العذاب يئسوا من الآخرة، يئسوا من النعيم، يئسوا من المغفرة.
وتُختَم السورة كما قلنا بما بدأت به زيادة في التأكيد على النهي من موالاة الكفار، ولو كان المسلمون متوادون متحابون كما قال ربنا: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(٥٥)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(٥٦)﴾ [سورة المائدة آية: ٥٥- ٥٦] لو كان المؤمنون على ذلك ما كان حالنا كما نرى الآن. أيها الأخ المسلم؛ في السورة أحكام؛ أولها: النهي عن موالاة الكفار وإن كانوا من أهل القرابة وإن كانوا الأبناء وإن كانوا البنات وإن كانوا الزوجات أو الآباء والأمهات. الأمر الثاني: أن موالاة الكفار فيها أحكام إن وصلت إلى حد التجسس كما فعل حاطب، وقد قرر العلماء أن الجاسوس الذي يتجسس أخبار المسلمين وينقلها إلى الكفار إن كان حربياً -أي من أهل الحرب- قُتِلَ فوراً، وإن كان ذمياً أو معاهداً قُتِلَ كذلك لأنه نقض العهد وخان الذمة، أما إن كان مسلماً فاختلف العلماء فيه فمنهم من يقول أن المسلم لا يُقتَل لأن النبي لم يقتل حاطب ابن أبي بلتعة، حين قال عمر: دعني أقتله، قال: "دَعْهُ يا عمر فقد صَدَق" "أما صاحبكم فقد صَدَق" "ولَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وقال بعضهم: هذه خصوصية لحاطب والإمام يجتهد في الحكم، ويُفَوَّضُ الإمام في الحكم إما بقتله أو بتعزيره. التعزير: العقوبة من الإعدام حتى السجن وحتى وحتى. وقال بعضهم: إن كان المسلم يتجسس لصالح الكفار إن كان يبتغي بذلك دنيا ولم يرتد عن دينه وابتغى دنيا فقط يُعَزَّر بالسجن وما إلى ذلك ولا يُقتَل، وإن كان تجسسه لأنه رضي بالكفر بعد الإسلام أو ارتد لابد من قتله بكل الأحوال.
وقال بعضهم: إن كانت المرة الأولى نُصِحَ وعُزِّر، وإن تكرر منه ذلك واعتاد عليه وجب قتله، والأمر فيه متروك لاجتهاد الأئمة والعلماء ولاجتهاد الحاكم. والتجسس لصالح الكفار أياً كان من أجل دنيا أو من أجل ارتداد فهو كبيرة، والأخذ بما فعله النبي أعتقد والله أعلم فهو لا يجوز، فحين قال عمر: دعني أضرب عنقه، ذاك كان الحكم، إذاً فهذا هو الحكم أوقفه رسول الله لسبب حيث قال: "يا عمر وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر" إذاً فإيقاف الحكم لأن حاطب ابن أبي بلتعة قد شهد بدراً، إذاً فهي خصوصية، هذا والله أعلم أرجح الأقوال، وإن كان الآخرون لهم أدلة وقولهم واجب الاحترام. أيها الأخ المسلم؛ الحب في الله! أعلى مقام هو الحب في الله! تَفَقَّدَ النبيُّ يوماً رجلاً من أصحابه فلم يجده فسأل عنه فقال رجل: أنا أذهب وآتي بخبره، فذهب وعاد وقال: يا رسول الله هو في بيته يبكي، فقال: "ائتوني به" فجيء بالرجل فقال له النبي: "ما يبكيك ولم اعتزلت الناس واعتزلت مسجدنا؟ " قال: يا رسول الله كلما رأيتُك فَرِحْتُ بك وسُرِرْتُ بلقائك وفي الغد لا أراك" فقال النبي: "المرء مع من أَحَبّ".