
القرآن الكريم / سورة الحشر / التفسير المقروء
سورة الحشر
لقاؤنا مع ثانية المسبِّحات، لقاؤنا مع سورة من قرأها لم يبق شيء في الوجود إلا واستغفر له، من قرأ ثلاث آيات من آخرها حين يصبح أرصد الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه، وإذا مات من يومه مات شهيداً، وإذا قرأها حين أمسى كان له ذلك. سورة الحشر سورة مدنية هي ثانية المسبحات وافتتحها الله بقوله:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿1﴾
وكلمة التسبيح مأخوذة من السباحة، والسباحة: هي السير بسرعة في الماء أو الهواء. واستُخدِمَت الكلمة في الإسراع لتنزيه الله عن كل نقص، وكأن المسبّح بقوله إسراعاً منه في تنزيه الله عما لا يليق بجلاله وكماله، وقد جاء هذا الفعل بجميع تصريفاته، فجاء في سورة الحديد وسورة الحشر أيضاً بصيغة الماضي: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾، وجاء في الجمعة والتغابن بصيغة المضارع: ﴿يُسَبِّحُ لله﴾، وجاء في سورة الأعلى بصغية الأمر: (سَبِّحِ اسمَ ربك الأعلى)، وجاء في سورة بني إسرائيل -في سورة الإسراء- بصيغة المصدر استيفاءً للجهات المشهورة لهذه الكلمة ولهذه المادة، إشعاراً بأن الله مستحقٌ للتنزيه من كافة الموجودات في كل الأوقات وفي كل الأحوال (سبحانه وتعالى) ما من شيء إلا ويسبح بحمده إما بالمقال وإما بالحال، فما من موجود في هذا الوجود إلا وهو شاهد على وجود الصانع القديم المصَرِّف والمدَبِّر. وقد قال بعض العلماء أن التسبيح تسبيحُ دلالة، فما من شيء إلا ويدل على وجود الموجد القادر.
وقال بعضهم -وهو الرأي الأرجح- أن التسبيحَ تسبيحُ مقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [سورة الإسراء آية:٤٤] فإن كان التسبيح تسبيح دلالة فهو مفهوم معلوم، أما أن يقول: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) إذاً فتسبيح الجمادات تسبيح مقال وإلا ما كان لداوود خاصية حين يقول الله ممتناً عليه: ﴿يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سورة سبأ آية:١٠] تسبحّ الجبال معه بالعشي والإشراق، فلو كان التسبيح تسبيح دلالة ما كان لداوود في ذلك خاصية، إذاً فالتسبيح تسبيح مقال، وإن من شيء إلا وهو ناطق بالمقال بتنزيه الله عن كل نقص ودليل، ذلك أيضاً قول الجلود وقول الأسماع والأبصار حين يُنطِقُها الله شاهدة على أصحابها يوم القيامة: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة فصلت آية:٢١] نعم، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويسبح لله (تبارك وتعالى) هذا التسبيح والذي جاء بالصيغ المتعددة المعلومة لهذا الفعل (سَبَّحَ) (يُسَبِّحُ) (سَبِّحْ) (سُبْحَانَ) يشعرك بأن الكون كله في نشيد واحد يسبح لله في كل وقت، في كل حين، في كل مكان، في كل حال. ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (وهو العزيز الحكيم): حال تدل على المبدأ للتسبيح، نعم هو العزيز في مُلْكِهِ، الحكيم في صُنعِهِ. والعزيز: لا يُدرَك، لا يُنَال، لا يُغلَب، العزيز: ليس له مثال، العزيز: النادر، العزيز: الذي لا تدركه الأبصار. والحكيم: المُتقِن لكل شيء، الواضِع لكل شيء في موضعه الذي أصاب قَولُهُ وفِعلُهُ الصواب في كل وقت وحين.
وقال بعضهم -وهو الرأي الأرجح- أن التسبيحَ تسبيحُ مقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [سورة الإسراء آية:٤٤] فإن كان التسبيح تسبيح دلالة فهو مفهوم معلوم، أما أن يقول: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) إذاً فتسبيح الجمادات تسبيح مقال وإلا ما كان لداوود خاصية حين يقول الله ممتناً عليه: ﴿يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سورة سبأ آية:١٠] تسبحّ الجبال معه بالعشي والإشراق، فلو كان التسبيح تسبيح دلالة ما كان لداوود في ذلك خاصية، إذاً فالتسبيح تسبيح مقال، وإن من شيء إلا وهو ناطق بالمقال بتنزيه الله عن كل نقص ودليل، ذلك أيضاً قول الجلود وقول الأسماع والأبصار حين يُنطِقُها الله شاهدة على أصحابها يوم القيامة: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة فصلت آية:٢١] نعم، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويسبح لله (تبارك وتعالى) هذا التسبيح والذي جاء بالصيغ المتعددة المعلومة لهذا الفعل (سَبَّحَ) (يُسَبِّحُ) (سَبِّحْ) (سُبْحَانَ) يشعرك بأن الكون كله في نشيد واحد يسبح لله في كل وقت، في كل حين، في كل مكان، في كل حال. ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (وهو العزيز الحكيم): حال تدل على المبدأ للتسبيح، نعم هو العزيز في مُلْكِهِ، الحكيم في صُنعِهِ. والعزيز: لا يُدرَك، لا يُنَال، لا يُغلَب، العزيز: ليس له مثال، العزيز: النادر، العزيز: الذي لا تدركه الأبصار. والحكيم: المُتقِن لكل شيء، الواضِع لكل شيء في موضعه الذي أصاب قَولُهُ وفِعلُهُ الصواب في كل وقت وحين.
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا۟ ۖ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا۟ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُوا۟ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَبْصَـٰرِ ﴿2﴾
السورة قد يطلق عليها أيضاً سورة بني النضير لأنها نزلت في شأنهم. وبنو النضير طائفة من اليهود كانت تسكن في المدينة، وقد ارتحلوا أو ارتحل آباؤهم من قديم إلى المدينة انتظاراً للنبي المبعوث آخر الزمان. بنو النضير حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حالفهم وحالفوه وعاهدهم وعاهدوه على ألا يكونوا عليه ولا يكونوا له، فلا يقاتلوا معه ولا يقاتلوه. وجاءت غزوة بدر وانتصر المسلمون فيها فقال بعض يهود بني النضير: هو النبي المبشَّر به الذي لا تُرَدُّ له راية. وجاءت غزوة أحد وهُزِمَ المسلمون فارتاب اليهود ونكصوا على أعقابهم وطمعوا فيه وخرج زعيمهم كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف كفار مكة وعلى رأسهم في ذلك الحين أبو سفيان، حالفهم على أن يكونوا يداً واحدة على محمد وأصحابه، فنقضوا العهد. وحين علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك أرسل من يقتل كعب بن الأشرف، فقد كان أشد الناس إيذاءً للمسلمين وأفحشهم على رسول الله، فقتله محمد بن سَلَمَة الأنصاري، وصَبَّحَهُم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكتائب وحاصرهم، وأوشك يهود بني النضير أن يستسلموا ولكنهم خُدِعُوا، خدعهم شيخ المنافقين بالمدينة عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلُول، أرسل إليهم من يقول لا تخرجوا ولا تستسلموا وقاتِلوا، لئن قوتلتم لَنَنْصُرَنَّكُم ونقاتل معكم، ولئن أُخرِجتُم لَنَخْرُجَنَّ معكم، فحالفهم شيخ المنافقين وخدعهم.
وحين حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نكص أُبَيُّ بن سَلُول على عقبيه ونقض عهده مع اليهود فأُسقِطَ في أيديهم، وهنا عرضوا الصلح على النبي (صلى الله عليه وسلم) فأبى وأمر بإخراجهم على أن يحملوا معهم من الأموال والمتاع ما حملت الإبل إلا السلاح، يخرجوا بغير سلاح، يخرجوا بأموال ومتاع ما تطيقه الإبل، فخرجوا إذعاناً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرجوا إلى الشام وخرج بعضهم إلى خيبر، وكان ذلك أول خروج لأهل الكتاب من جزيرة العرب. وهؤلاء اليهود لم يحدث لهم إخراج من قبل وما أُذِلُّوا من قبل، فكان ذاك أول ذُلٍّ وأول إخراج لهم. من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: يهود بني النضير. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾: أي للحشر الأول، فلم يسبق عليهم أن أجلاهم أحد أو أخرجهم أحد من هذه الديار. والحشر طالما كان له أول فله آخِر، أول الحشر: خروجهم من ديارهم حيث أخرجهم النبي (صلى الله عليه وسلم) وآخر حشرهم: إخراج عمر بن الخطاب لهم (رضي لله عنه) حين أجلاهم في خلافته من خيبر إلى الشام وأذرعات. وقيل الحشر على أربعة أدرُب؛ أول حشر: إخراج النبي، وآخر حشر في الدنيا: إخراج عمر لهم، وهناك حشران آخران؛ أول حشر في الآخرة هو ما أخبرنا عنه النبي: نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم وتُقِيلُ معهم وتأكل منهم من تخلف، ثم حشر أخير: وهو حشر يوم القيامة إلى أرض المحشر، إلى الحساب والحشر، الحشر: إخراج جماعة إلى مكان محدد جمعهم فيه. ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ نعم، فقد كان المؤمنون يظنون في اليهود قوة ومنعة لأنهم كانوا يتحصنون في الدور والحصون، فهم دائماً وأبداً لا يسكنون إلا الحصون، ولا يقاتلون إلا من وراء جُدُر.
وكان اليهود من بني النضير ذو شكيمة وقوة وعَدَد وسلاح وعُدَد وحصون مما جعل المؤمنين يظنون أنهم لن يخرجوا أبداً ولابد أن يقاتلوا، فخرجوا بغير قتال. من هنا يقول الله: (ما ظننتم أن يخرجوا). ﴿وَظَنُّوا﴾: أي اليهود. ﴿أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾: والتعبير هنا جاء على خلاف النَّظْم، فقد تغير النَّظْم، كان القياس في النَّظْم: (فظنوا أن حصونهم مانعتهم) فجاء تغيير النَّظْم وقَدَّم الخبر وأُسنِدَت الجملة إلى ضميرهم للدلالة على أنهم كانوا متيقنين تماماً بأن الحصون مانعة وأنهم لن يُدرَكوا ولن يُنَالوا بأي حال من الأحوال، فجاء ربنا في هذه الآية بهذا التعبير من تغيير للنَّظْم وتقديماً للخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على هذا الإحساس في نفوسهم، اليقين الكامل بالمنع، اليقين الكامل بأن الحصون يستحيل أن تُدخَل أو تُهزَم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله: أي من بأس الله وأمر الله. ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾: أتاهم أَمْرُه، أتاهم قضاؤه، أتاهم عذابُه. ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ وهي أخذة أليمة شديدة ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [سورة هود آية:١٠٢] أخذهم من حيث لم يحتسبوا، لم يظنوا. ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ القَذْف: الرمي بشدة أو الرمي من بعيد. والرُّعب: امتلاء القلب بالخوف وانقطاع النَّفَس من شدة الخوف، وذلك تصديقاً لقول النبي: (نُصِرْتُ بالرعب بين يَدَي مسيرة شهر) قذف الله في قلوبهم الرعب الشديد الذي ملأ قلوبهم وقُذِفَ قذفاً، أُلقِيَ بشدة. ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾: الجملة حال أو جملة تفسير وبيان كيف حدث الرعب، قذفه الله في قلوبهم، ماذا كانت نتيجة الرعب؟ يُخرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
وقُرِأَت ﴿يُخَرِّبُون بيوتهم﴾ والفرق بين الإخراب والتخريب؛ الإخراب: ترك الشيء خراباً، تَرْكُ المكان خراباً غير مسكون. والتخريب: الهَدْم. وقال بعض النحاة بل الإخراب والتخريب لغتان والمعنى واحد، والتخريب فيه التشديد، فيه التكثير للمبالغة، (يُخرِبُون بيوتهم بأيديهم) ذاك مفهوم؛ فقد كانوا يحاولون حمل كل غالي، وكانوا أيضاً يهدمون البيوت وينقضون زخارفها حسداً للمؤمنين أن يسكنوها من بعدهم، وقيل أيضاً كانوا ينتقلون من حصن إلى حصن ومن دار إلى دار فكلما انتقلوا من دار هدموها لتتسع مساحة القتال، أو هدموا كي يستعينوا بما هدم منها في تقوية الحصن التالي. ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجاء بواو العطف (وأيدي المؤمنين)، وكان القياس أن يكون النسق (ويُخرِبُ المؤمنون بيوتَهُم) هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويخربها المؤمنون، فقال: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) وكأنهم هم استخدموا أيدي المؤمنين في تخريب بيوتهم لأنهم نقضوا العهد. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ والعاقل والسعيد من اتعظ بغيره. الأبصار: جمع بَصَر، والخطاب لمن شاهد ورأى بعينيه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، يا من عاينتم بأبصاركم هذا الحادث، فاعتبروا يا أولي الأبصار، يا أولي العقول والنهى الألباب. والاعتبار أصلاً من العبور، والعبور: تجاوز الشيء إلى شيء غيره، الانتقال والتجاوز من شيء إلى شيء، ذاك العبور. ومنه العَبْرَة: الدموع يُطلَق عليها العَبْرَة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، ومنه تعبير الرؤيا لأن المُفَسِّر يَعبُرُ الرؤيا من حيث رئيت إلى المستقبل، إلى التحقيق، إلى الوقوع. فاعتبروا يا أولى الأبصار: أي ينقلكم ما شاهدتموه إلى ما يُتَوَقَّع إن فعلتم فعلهم، ينقلك ما شاهدت أو ما سمعت أو ما علمت لاعتبار ينقلك من هذه الحالة الواقعة إلى ما يُتَوَقَّع إذا فعلتَ فِعْلَهُم حاق بك ما حاق بهم.
وحين حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نكص أُبَيُّ بن سَلُول على عقبيه ونقض عهده مع اليهود فأُسقِطَ في أيديهم، وهنا عرضوا الصلح على النبي (صلى الله عليه وسلم) فأبى وأمر بإخراجهم على أن يحملوا معهم من الأموال والمتاع ما حملت الإبل إلا السلاح، يخرجوا بغير سلاح، يخرجوا بأموال ومتاع ما تطيقه الإبل، فخرجوا إذعاناً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرجوا إلى الشام وخرج بعضهم إلى خيبر، وكان ذلك أول خروج لأهل الكتاب من جزيرة العرب. وهؤلاء اليهود لم يحدث لهم إخراج من قبل وما أُذِلُّوا من قبل، فكان ذاك أول ذُلٍّ وأول إخراج لهم. من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: يهود بني النضير. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾: أي للحشر الأول، فلم يسبق عليهم أن أجلاهم أحد أو أخرجهم أحد من هذه الديار. والحشر طالما كان له أول فله آخِر، أول الحشر: خروجهم من ديارهم حيث أخرجهم النبي (صلى الله عليه وسلم) وآخر حشرهم: إخراج عمر بن الخطاب لهم (رضي لله عنه) حين أجلاهم في خلافته من خيبر إلى الشام وأذرعات. وقيل الحشر على أربعة أدرُب؛ أول حشر: إخراج النبي، وآخر حشر في الدنيا: إخراج عمر لهم، وهناك حشران آخران؛ أول حشر في الآخرة هو ما أخبرنا عنه النبي: نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم وتُقِيلُ معهم وتأكل منهم من تخلف، ثم حشر أخير: وهو حشر يوم القيامة إلى أرض المحشر، إلى الحساب والحشر، الحشر: إخراج جماعة إلى مكان محدد جمعهم فيه. ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ نعم، فقد كان المؤمنون يظنون في اليهود قوة ومنعة لأنهم كانوا يتحصنون في الدور والحصون، فهم دائماً وأبداً لا يسكنون إلا الحصون، ولا يقاتلون إلا من وراء جُدُر.
وكان اليهود من بني النضير ذو شكيمة وقوة وعَدَد وسلاح وعُدَد وحصون مما جعل المؤمنين يظنون أنهم لن يخرجوا أبداً ولابد أن يقاتلوا، فخرجوا بغير قتال. من هنا يقول الله: (ما ظننتم أن يخرجوا). ﴿وَظَنُّوا﴾: أي اليهود. ﴿أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾: والتعبير هنا جاء على خلاف النَّظْم، فقد تغير النَّظْم، كان القياس في النَّظْم: (فظنوا أن حصونهم مانعتهم) فجاء تغيير النَّظْم وقَدَّم الخبر وأُسنِدَت الجملة إلى ضميرهم للدلالة على أنهم كانوا متيقنين تماماً بأن الحصون مانعة وأنهم لن يُدرَكوا ولن يُنَالوا بأي حال من الأحوال، فجاء ربنا في هذه الآية بهذا التعبير من تغيير للنَّظْم وتقديماً للخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على هذا الإحساس في نفوسهم، اليقين الكامل بالمنع، اليقين الكامل بأن الحصون يستحيل أن تُدخَل أو تُهزَم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله: أي من بأس الله وأمر الله. ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾: أتاهم أَمْرُه، أتاهم قضاؤه، أتاهم عذابُه. ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ وهي أخذة أليمة شديدة ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [سورة هود آية:١٠٢] أخذهم من حيث لم يحتسبوا، لم يظنوا. ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ القَذْف: الرمي بشدة أو الرمي من بعيد. والرُّعب: امتلاء القلب بالخوف وانقطاع النَّفَس من شدة الخوف، وذلك تصديقاً لقول النبي: (نُصِرْتُ بالرعب بين يَدَي مسيرة شهر) قذف الله في قلوبهم الرعب الشديد الذي ملأ قلوبهم وقُذِفَ قذفاً، أُلقِيَ بشدة. ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾: الجملة حال أو جملة تفسير وبيان كيف حدث الرعب، قذفه الله في قلوبهم، ماذا كانت نتيجة الرعب؟ يُخرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
وقُرِأَت ﴿يُخَرِّبُون بيوتهم﴾ والفرق بين الإخراب والتخريب؛ الإخراب: ترك الشيء خراباً، تَرْكُ المكان خراباً غير مسكون. والتخريب: الهَدْم. وقال بعض النحاة بل الإخراب والتخريب لغتان والمعنى واحد، والتخريب فيه التشديد، فيه التكثير للمبالغة، (يُخرِبُون بيوتهم بأيديهم) ذاك مفهوم؛ فقد كانوا يحاولون حمل كل غالي، وكانوا أيضاً يهدمون البيوت وينقضون زخارفها حسداً للمؤمنين أن يسكنوها من بعدهم، وقيل أيضاً كانوا ينتقلون من حصن إلى حصن ومن دار إلى دار فكلما انتقلوا من دار هدموها لتتسع مساحة القتال، أو هدموا كي يستعينوا بما هدم منها في تقوية الحصن التالي. ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجاء بواو العطف (وأيدي المؤمنين)، وكان القياس أن يكون النسق (ويُخرِبُ المؤمنون بيوتَهُم) هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويخربها المؤمنون، فقال: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) وكأنهم هم استخدموا أيدي المؤمنين في تخريب بيوتهم لأنهم نقضوا العهد. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ والعاقل والسعيد من اتعظ بغيره. الأبصار: جمع بَصَر، والخطاب لمن شاهد ورأى بعينيه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، يا من عاينتم بأبصاركم هذا الحادث، فاعتبروا يا أولي الأبصار، يا أولي العقول والنهى الألباب. والاعتبار أصلاً من العبور، والعبور: تجاوز الشيء إلى شيء غيره، الانتقال والتجاوز من شيء إلى شيء، ذاك العبور. ومنه العَبْرَة: الدموع يُطلَق عليها العَبْرَة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، ومنه تعبير الرؤيا لأن المُفَسِّر يَعبُرُ الرؤيا من حيث رئيت إلى المستقبل، إلى التحقيق، إلى الوقوع. فاعتبروا يا أولى الأبصار: أي ينقلكم ما شاهدتموه إلى ما يُتَوَقَّع إن فعلتم فعلهم، ينقلك ما شاهدت أو ما سمعت أو ما علمت لاعتبار ينقلك من هذه الحالة الواقعة إلى ما يُتَوَقَّع إذا فعلتَ فِعْلَهُم حاق بك ما حاق بهم.
وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴿3﴾
كتب الله عليهم الجلاء: في قضائه الأزلي، في اللوح المحفوظ، قضى عليهم ذلك، أمر بذلك. كَتَبَ تعني كل ذلك، تعني الكتابة في اللوح المحفوظ من قبل الخلق، تعني القضاء المبرم، تعني ذاك. كتب عليهم في التوراة: تعني أن ذلك قد أمر الله (تبارك وتعالى) به وقَدَّرَه. ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ إذاً فقد أراد الله أن يجليهم من جزيرة العرب وأن يجليهم من المدينة وأن يبقيهم، فمنهم من لم يؤمن بعد، ومنهم من يلد مؤمناً، لذا أَجَّلَهُم ولم يأمر بقتلهم ولم يهلكهم، وإنما كتب عليهم الجلاء فقط، يبقيهم فقد يؤمن منهم البعض في علم الله وقد يلد منهم البعض مؤمناً يؤمن بالله وبرسول الله، فلولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كما عَذَّب قريظة وكما عذب غيرهم بالقتل وبالتشريد لكن الله أبقاهم. ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ جملة جديدة واستئناف جديد، لم يقل لهم عذاب في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب، بل قال: ﴿لَعَذَّبَهم في الدنيا﴾ ثم استأنف وقال: (ولهم في الآخرة عذاب النار) لِيُشْعِرُكَ ولتعلم أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فلن ينجو منهم أحد من عذاب الآخرة.
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۖ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴿4﴾
﴿ذَلِكَ﴾: ذلك الذي حدث. ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ والمشاقّة: المحاربة والمعاداة، وكأن المشاقق في شق غير شق من يحاربه، فهم في شق غير شق الله ورسوله وشرعه، في شق آخر أي في جانب آخر كالمحادّة في غير حده، فهؤلاء شاقوا الله، كانوا في شق غير شق الله، مبتعدين عن الشرع وعن الإيمان، شاقوا الله ورسوله، ومشاقة الله مشاقةً للرسول، ومشاقة الرسول مشاقةً لله، فمن عصى الرسول فقد عصى الله، ومن حارب الرسول فقد حارب الله، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله. فهم يحاربون الرسول، ومحاربتهم للرسول تُعَدُّ محاربة لله، وهم يعادون الرسول وهذه المعاداة تعتبر معاداة لله. ذلك الذي حدث لهم من الخزي والذل والإجلاء لأنهم شاقوا الله ورسوله. الجلاء: خروج من مكان لمكان، والفرق بين الإجلاء والإخراج أن الإجلاء لا يكون إلا للشخص مع الأهل والولد أما الإخراج فيكون له وحده، فالإجلاء والخروج لفرد، جلي عن الوطن: خرج، وأجلاه غيره: أخرجه، ولذا الواحد يسمى جالْ، والجماعة جالية، وتسمعون هذا التعبير: جالية كذا وجالية كذا، فربنا كتب عليهم الجلاء. والكلمة تُشعِر بخروجهم جماعة من وطنهم إلى مكان آخر، وذلك الذي حدث لهم؛ إجلاء لأنهم شاقوا الله ورسوله. ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وجاءت في سورة الأنفال: (ومن يشاقق)، و هنا: ﴿ومن يُشَاقِّ﴾ والقراءتان بمعنى واحد. ومن يُشَاقِّ اللهَ: يعاديه ويذهب في غير سبيله. فإن الله شديد العقاب: تهديد ووعيد.
وتنزل آية تفض الخلاف بين المسلمين الذين حضروا هذا الإجلاء، فحين ذهب النبي وأصحابه وحاصروا بني النضير هَمَّ بعض المسلمين بقطع النخيل وتحريقه نكاية لبني النضير، وكان نخيلهم من أكرم النخيل، بعضهم قطع وحرق والبعض الآخر امتنع وخاف وقالوا كيف نحرق النخيل؟ ثم إن النخل لنا غنيمة فكيف نحرقها ولا ننتفع بها؟ وإذا بيهود بني النضير حين يرون نخيلهم قد قُطِعَ وحُرِق يرسلون ويقولون: يا محمد كُنتَ تنهى عن الفساد في الأرض هل وجدت فيما أوحي إليك أن تفسد في الأرض بعد إصلاحها؟ كيف تزعم أنك نبي ثم تفسد في الأرض وتقطع في النخل وتحرقه؟ فَشَقَّ ذلك على النبي لأنهم قالوا مقالة صدق، فهو ينهى عن الفساد في الأرض والآن يقطع أصحابه النخل ويحرقونه، حين شَقَّ ذلك عليه وشَقَّ على المؤمنين واختلفوا في شأن التقطيع والحرق نزل جبريل يقول:
وتنزل آية تفض الخلاف بين المسلمين الذين حضروا هذا الإجلاء، فحين ذهب النبي وأصحابه وحاصروا بني النضير هَمَّ بعض المسلمين بقطع النخيل وتحريقه نكاية لبني النضير، وكان نخيلهم من أكرم النخيل، بعضهم قطع وحرق والبعض الآخر امتنع وخاف وقالوا كيف نحرق النخيل؟ ثم إن النخل لنا غنيمة فكيف نحرقها ولا ننتفع بها؟ وإذا بيهود بني النضير حين يرون نخيلهم قد قُطِعَ وحُرِق يرسلون ويقولون: يا محمد كُنتَ تنهى عن الفساد في الأرض هل وجدت فيما أوحي إليك أن تفسد في الأرض بعد إصلاحها؟ كيف تزعم أنك نبي ثم تفسد في الأرض وتقطع في النخل وتحرقه؟ فَشَقَّ ذلك على النبي لأنهم قالوا مقالة صدق، فهو ينهى عن الفساد في الأرض والآن يقطع أصحابه النخل ويحرقونه، حين شَقَّ ذلك عليه وشَقَّ على المؤمنين واختلفوا في شأن التقطيع والحرق نزل جبريل يقول:
مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴿5﴾
رَفَعَ الإثم عمن قطع وصَدَّقَ من لم يأمر بالقطع، فأرضى هؤلاء وأرضى هؤلاء ورفع الإثم عنهم. اللِّينَة: النخلة. والكلمة إما من اللَّوْن وإما من اللِّين، لانَ يَليِنُ. وسميت لِينَة لطراوتها وطراوة ثمارها وقربها من الأرض فهي سهلة لينة ككرام النخل. وقيل بل من اللَّون وجمعه ألوان النخيل المتعددة، فاللِّين هو ألوان النخل ماعدا العجوة. واللِّينَة أصلها لِوْنَة ولُونة وتجمع على لِيِن ولِيانْ. أو هي من اللَّوْن وتجمع على ألوان. اللِّين عموماً سواء كانت الكلمة مشتقة من اللَّوْن أو من الليونة فهو كرام النخل أو جميع أنواع النخل ماعدا صنف العجوة. يقول الله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ "ما" في موضع نصب بالفعل بالقطع، أي ما من شيء قطعتموه، كل نخلة قُطِعَت. ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾ (قائماً على أصوله) (قَومَاء على أصلها) (قُوَّماً على أُصُلِها) أُصُل: جميع أَصْل كرُهُن جمع رَهْن، قراءات. ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾: أي بأمره وإذنه، ما خرجتم عن الإذن وما خرجتم عن الأمر، فيباح لكم ذلك القطع والترك. وقد استدل العلماء بهذه الآية على جواز تخريب وحرق ديار العدو إن كان في ذلك مصلحة. ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾: علة لمحذوف ولابد أن يكون هناك محذوف لأن الآية جاء فيها القطع والترك ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا﴾ والخزي لا يكون إلا بالقطع فقط ولا يكون الخزي والإغاظة بترك النخل، فقد أغاظهم قطع النخل وأغاظهم التحريق. من هنا يقول: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ علة لمحذوف تقديره (وفعلتم ما فعلتم) أو (قطعتم ما قطعتم ليخزي الفاسقين)؛ عِلَّةً للقَطْع.
وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍۢ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴿6﴾
حين استسلم يهود بنو النضير وخرجوا بما حملت الإبل وتركوا الديار والنخيل ظن المسلمون أن هذه غنائم وتُقَسَّم قسمة الغنائم، فنزل الحكم أن هذا الذي تُرِكَ ليس بغنيمة بل هو فيء. ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾: من أهل الكتاب الذين خرجوا. ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ الفيء: الرجوع، ومنه الظل، يَتَفَيَّأُ ظلالُه: ينتقل. فاء عليه: رجع إليه، أفاءه عليه: أعاده عليه. والتعبير بكلمة ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أي أعاد على رسوله وأرجع، إذاً هذه الأموال كأنها كانت لرسول الله فأرجعها الله إليه، هذا هو تعبير (ما أفاء). والكلمة تُشعِر بمعنى وهو أن الله خَلَقَ الخَلْقَ ليعبدوه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات آية:٥٦] وخَلَقَ ما خَلَقَ لهم من مال وجاه أو مُكِّنُوا في الأرض: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ [سورة الأعراف آية:١٠] خلق ما خلق لهم ليستعينوا به ويتوسلوا به إلى طاعته فكأن ما هو موجود من مال وعز وجاه لا يكون إلا للطائعين، فإن كان في يد الفاسقين فهو دَولَة لابد وأن تَدُول. ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾: أرجعه إليه، لأن الرسول سيد الطائعين، فكان من حقه أن يكون المال له، لأن الله خلق الخلْق للعبادة وخلق لهم المال ليتوسلوا به إلى الطاعة فمن حق المال أن يكون للطائعين وليس للفاسقين، من هنا جاءت الكلمة للإشعار بهذا المعنى: ما أفاء الله على رسوله منهم فلله وللرسول.
﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ الوجيف: الإسراع، أوجفه: أسرعه وأتعبه وركض به. الرِّكَاب: كل ما يُركَب من الجمال؛ بعير أو ناقة. ما أوجفتم: ما أسرعتم عليه من خيل ولا ركاب، إذاً فقد ذهبوا إلى بني النضير مشاة، ما ركب منهم أحد إلا رسول الله، الوحيد الذي كان راكباً هو رسول الله، كان راكباً لجمل وقيل بل كان راكباً لحمار، أما أصحابه كانوا مشاة، فمساكن بني النضير بينها وبين المدينة ميلان، مسافة بسيطة يُذهَب إليها مشياً على الأقدام، فربنا يقول ما حدث من أموال نتيجة خروج اليهود هذه الأموال من حق الرسول فقط، ليس من حقكم لأنكم ما ركبتم خيلاً وما أسرعتم بالركوب على البعير ولا قطعتم شُقَّة ولا وجدتم مشقة ولا قاتلتم، فبأي حق تأخذون هذا المال؟ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾: يُسَلِّطُ رسله على من يشاء من أعدائه فينصرهم بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، قذف في قلوبهم الرعب، أخرجهم من حيث لم يحتسبوا بغير قتال، بغير إيجاف للخيل ولا للركاب، بغير سلاح، بغير مجاهدة، بغير قَطْعِ شُقَّة أو وجود مشقة، إذاً فهي للرسول خالصة. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كي تعلم أن الله يفعل ما يشاء بالوسائط الظاهرة تارة وبغيرها تارة، فربنا فعّال لما يريد وقادر على ما يريد، فإن أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فإن سلّط الرسل على أعداء الرسل وعلى أعداء الدين سلطهم لينصرهم، وحين ينصرهم ويهزم الكفار هزم الكفار بواسطة الرسل أو بالمؤمنين، وهو في نفس الوقت قادر على أن يهزم الكفار بغير وسائط كما فعل مع قوم عاد وثمود وغيرهم من الأمم السابقة، بغير وسائط والله على كل شيء قدير.
أيها الأخ المسلم؛ قدرة الله فوق كل خيال وفوق توهمات العقل والفكر، قدرة الله لا تتناهى، فكما أن الله ليس كمثله شيء فليس كأسمائه أسماء وليس كصفاته صفات وليس كأفعاله أفعال، وقدرة الله لا تحتاج لآلة ولا تحتاج لأداة ولا تحتاج لتربص زمان، وإنما قدرة الله نافذة متعلقة بالإرادة، فإن أراد شيئاً نفذت إرادته في مقدوراته بغير تراخ وبغير تغيير وبغير تبديل وبغير مانع، هو الله. أموال الكفار أنواع والأموال التي تكون للإمام وللحاكم أصناف، إمام الأمة تُجبَى إليه الأموال من أي صنف، من أي نوع، هذه الأموال وأصنافها بَيَّنَها الله وبَيَّنَ مصارفها، فمن المال ما هو صدقة وزكاة يؤخذ من أغنياء المسلمين يُرد على فقرائهم، هذه الزكاة وهذه الصدقة تُجمَع وتُوضَع بين يدي الإمام يضعها حيث شاء، مصارفها بَيَّنَها الله ثمانية مصارف: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة التوبة آية:٦٠] مصارف الصدقة والزكاة. النوع الآخر هو أموال الكفار، وأموال الكفار أيضاً على ثلاثة أنواع: الغنيمة والفيء والجزية والخراج والعشور.
أما الغنيمة فهو ما يُغنَم من الكفار بقتال وحرب ومجاهدة، وكانت الغنائم في أولها خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [سورة الأنفال آية:١] فكانت لرسول الله خالصة يضعها حيث يشاء، ثم نُسِخَ الحكم وبُيِّنَت مصارفها بقول الله في سورة الأنفال أيضاً: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [سورة الأنفال آية:٤١] فَبَيَّنَت الآية مصارف الغنيمة؛ تُقَسَّم الغنيمة خمسة أقسام: أربعة أخماس الغنيمة للمقاتلين الذين اشتركوا في القتال والخمس الباقي يُقَسَّم أيضاً خمسة أقسام: للرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ ذي القربى: أي قرابة النبي من بني هاشم وبني المطلب وخصص هؤلاء بأن لهم حظاً في الغنيمة، أيضاً لهم حظ في الفيء وما إلى ذلك لأنهم مُنِعُوا من الصدقة، والصدقات: الزكاة التي تُوَزَّع على الفقراء والمساكين، إذ لو كان هناك فقير من آل هاشم أو آل عبد المطلب لا يأخذ من الصدقة، فالصدقة تحرم على النبي وعلى آل بيته وعلى بني هاشم وبني عبد المطلب، فلما حَرَمَهُمُ الله من أموال الصدقات والزكاة رغم فقرهم جعل لهم نصيباً في الغنيمة والفيء فقال: خُمُسَهُ لله وللرسول ولذي القربى: أي قرابة النبي من بني هاشم وبني عبد المطلب الذين حُرِمُوا من الصدقة، تلك هي أموال الغنائم. أما الفيء فله قِسمةٌ أخرى. أيضاً هناك شيء آخر وهو الجزية والخَرَاج على الأرض الزراعية، كل ذلك يؤخذ من الكفار من أهل الذمة. والعُشُور على أموال التجار من الكفار.
الجزية على من بقي على دينه ورضي أن يكون في حُكمِ المسلمين، في أوطانهم يدافعون عنه فيأمن على ماله ونفسه ودمه فيدفع الجزية والخَراج على الأرض الزراعية والعُشُور على أموال التجارة، كل ذلك من الكفار. بَيَّنَ الله ذلك كله في قوله:
﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ الوجيف: الإسراع، أوجفه: أسرعه وأتعبه وركض به. الرِّكَاب: كل ما يُركَب من الجمال؛ بعير أو ناقة. ما أوجفتم: ما أسرعتم عليه من خيل ولا ركاب، إذاً فقد ذهبوا إلى بني النضير مشاة، ما ركب منهم أحد إلا رسول الله، الوحيد الذي كان راكباً هو رسول الله، كان راكباً لجمل وقيل بل كان راكباً لحمار، أما أصحابه كانوا مشاة، فمساكن بني النضير بينها وبين المدينة ميلان، مسافة بسيطة يُذهَب إليها مشياً على الأقدام، فربنا يقول ما حدث من أموال نتيجة خروج اليهود هذه الأموال من حق الرسول فقط، ليس من حقكم لأنكم ما ركبتم خيلاً وما أسرعتم بالركوب على البعير ولا قطعتم شُقَّة ولا وجدتم مشقة ولا قاتلتم، فبأي حق تأخذون هذا المال؟ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾: يُسَلِّطُ رسله على من يشاء من أعدائه فينصرهم بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، قذف في قلوبهم الرعب، أخرجهم من حيث لم يحتسبوا بغير قتال، بغير إيجاف للخيل ولا للركاب، بغير سلاح، بغير مجاهدة، بغير قَطْعِ شُقَّة أو وجود مشقة، إذاً فهي للرسول خالصة. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كي تعلم أن الله يفعل ما يشاء بالوسائط الظاهرة تارة وبغيرها تارة، فربنا فعّال لما يريد وقادر على ما يريد، فإن أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فإن سلّط الرسل على أعداء الرسل وعلى أعداء الدين سلطهم لينصرهم، وحين ينصرهم ويهزم الكفار هزم الكفار بواسطة الرسل أو بالمؤمنين، وهو في نفس الوقت قادر على أن يهزم الكفار بغير وسائط كما فعل مع قوم عاد وثمود وغيرهم من الأمم السابقة، بغير وسائط والله على كل شيء قدير.
أيها الأخ المسلم؛ قدرة الله فوق كل خيال وفوق توهمات العقل والفكر، قدرة الله لا تتناهى، فكما أن الله ليس كمثله شيء فليس كأسمائه أسماء وليس كصفاته صفات وليس كأفعاله أفعال، وقدرة الله لا تحتاج لآلة ولا تحتاج لأداة ولا تحتاج لتربص زمان، وإنما قدرة الله نافذة متعلقة بالإرادة، فإن أراد شيئاً نفذت إرادته في مقدوراته بغير تراخ وبغير تغيير وبغير تبديل وبغير مانع، هو الله. أموال الكفار أنواع والأموال التي تكون للإمام وللحاكم أصناف، إمام الأمة تُجبَى إليه الأموال من أي صنف، من أي نوع، هذه الأموال وأصنافها بَيَّنَها الله وبَيَّنَ مصارفها، فمن المال ما هو صدقة وزكاة يؤخذ من أغنياء المسلمين يُرد على فقرائهم، هذه الزكاة وهذه الصدقة تُجمَع وتُوضَع بين يدي الإمام يضعها حيث شاء، مصارفها بَيَّنَها الله ثمانية مصارف: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة التوبة آية:٦٠] مصارف الصدقة والزكاة. النوع الآخر هو أموال الكفار، وأموال الكفار أيضاً على ثلاثة أنواع: الغنيمة والفيء والجزية والخراج والعشور.
أما الغنيمة فهو ما يُغنَم من الكفار بقتال وحرب ومجاهدة، وكانت الغنائم في أولها خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [سورة الأنفال آية:١] فكانت لرسول الله خالصة يضعها حيث يشاء، ثم نُسِخَ الحكم وبُيِّنَت مصارفها بقول الله في سورة الأنفال أيضاً: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [سورة الأنفال آية:٤١] فَبَيَّنَت الآية مصارف الغنيمة؛ تُقَسَّم الغنيمة خمسة أقسام: أربعة أخماس الغنيمة للمقاتلين الذين اشتركوا في القتال والخمس الباقي يُقَسَّم أيضاً خمسة أقسام: للرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ ذي القربى: أي قرابة النبي من بني هاشم وبني المطلب وخصص هؤلاء بأن لهم حظاً في الغنيمة، أيضاً لهم حظ في الفيء وما إلى ذلك لأنهم مُنِعُوا من الصدقة، والصدقات: الزكاة التي تُوَزَّع على الفقراء والمساكين، إذ لو كان هناك فقير من آل هاشم أو آل عبد المطلب لا يأخذ من الصدقة، فالصدقة تحرم على النبي وعلى آل بيته وعلى بني هاشم وبني عبد المطلب، فلما حَرَمَهُمُ الله من أموال الصدقات والزكاة رغم فقرهم جعل لهم نصيباً في الغنيمة والفيء فقال: خُمُسَهُ لله وللرسول ولذي القربى: أي قرابة النبي من بني هاشم وبني عبد المطلب الذين حُرِمُوا من الصدقة، تلك هي أموال الغنائم. أما الفيء فله قِسمةٌ أخرى. أيضاً هناك شيء آخر وهو الجزية والخَرَاج على الأرض الزراعية، كل ذلك يؤخذ من الكفار من أهل الذمة. والعُشُور على أموال التجار من الكفار.
الجزية على من بقي على دينه ورضي أن يكون في حُكمِ المسلمين، في أوطانهم يدافعون عنه فيأمن على ماله ونفسه ودمه فيدفع الجزية والخَراج على الأرض الزراعية والعُشُور على أموال التجارة، كل ذلك من الكفار. بَيَّنَ الله ذلك كله في قوله:
مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا۟ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴿7﴾
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ أموال الفيء تُقَسَّم خمسة أقسام: أربعة أخماس للنبي بدلاً من المقاتلين؛ في الغنيمة أربعة أخماس للمقاتلين نظير قتالهم. والفيء: كل مال من أموال الكفار يجيء للمسلمين بغير قتال، كما حدث في الصلح وكما حدث في الجزية وكما يحدث في الخراج وكما يحدث في العشور، ولو هرب المشرك تاركاً ماله عُدَّ فيئاً، وإن مات المشرك في أرض الإسلام بلا وريث عُدَّت ترَكِتَهُ ُفيئاً، كل ذلك يسمى فيء لأنه راجع للمسلمين بغير قتال. والفيء هنا يُقَسَّم خمسة وعشرين جزءاً؛ عشرون منها للنبي يصرفها على نفسه وآل بيته ونسائه نفقة سَنَة ثم يعود بها على المسلمين وعلى المصالح العامة للمسلمين، ذاك في حياته. وبعد وفاة النبي يصرف نصيب النبي من الغنيمة ومن الفيء في مصالح المسلمين لأنه قال: (ليس لي من غنائمكم إلا الخمس مردود فيكم) وقال: (نحن معاشر الأنبياء ما تركناه صدقة لا نُوَرِّث) فما كان للنبي في كتاب الله في القرآن من حظ من المغنم أو من الفيء له في حياته يصرفه ويضعه حيث شاء كما بَيَّنَه ربنا له وكما أمره الله يخص به من يشاء ويعمّ به من شاء يتصرف فيه كيف يشاء، فإذا انتقل النبي للرفيق الأعلى كان ذلك من حق الإمام يصرفه الإمام حيث شاء ولا يصح نقل المال من بلد إلى بلد، بل المال الذي جُبِىَ في بلد يصرف في هذا البلد حتى يغني أصحابه، فإن حدثت الآفة أو المجاعة أو الفاقة في بلد آخر جاز للإمام نقل المال. ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: أربعة أخماس للنبي. يبقى الخُمس، والخُمس يُقَسَّم إلى خمسة أقسام كما في خُمسِ الغنيمة وأربعة أخماس للمقاتلين، يُقَسَّم خمُس الفيء بقسمة خُمس المغنم.
وقوله: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ستة؟ أبداً! هي خمسة، والاستفتاح باسم الله (تبارك وتعالى) للتيمن والتبرك ولتعظيم شأن النبي، فكأن الذي يأخذه النبي يأخذه الله، فهو لتعظيم شأن النبي وللتبرك، أما الله فلله ملك السموات والأرض. ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: من أهل القرى الكافرة. ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾: أي للرسول. إذاً فلرسول الله الحق في أربعة أخماس الفيء يصرفه كيف شاء وبعد ذلك له الحق في خُمس الخُمس الباقي. ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾: من بني هاشم وبني عبد المطلب الذين حُرِمُوا الصدقات والزكوات. ﴿وَالْيَتَامَى﴾: معلوم أمرهم؛ من فقد الأب، ولتعلم أيها الأخ من بلغ الِحن، ث من بلغ الحُلُم فليس بيتيم، واليُتْم يُتْم الأب وليس يُتْم الأم، ذاك في الإنسان، أما في الحيوان والطائر فاليُتْم موت الأم، فاليُتْم يُتْم الأب لأن الأب هو المتكفل في الإنسان. ﴿وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ ابن السبيل: من انقطع به الطريق، سافر من بلد إلى بلد ففرغ ماله ولو كان ذا يسار في بلده ولو كان غنياً في وطنه. (كي لا يكون دُولة) وقُرِأَت ﴿كي لا تكون دَوْلة﴾ وقُرِأَت بالرفع وبالنصب ﴿دولةً﴾ و ﴿دُولةٌ﴾، ﴿دُولةٌ﴾ على أن "كان" تامة. ﴿كي لايكون دَوْلة﴾: في الحرب. (كي لا يكون دُولة) الدُولة: ما يُتَدَاول بين الناس. الدَّولة مصدر، الدَّوْلة: الظفر والنصر في الحرب، دَوْلةُ لفلان: انتصر في الحرب. أما الدُّولة اسم للحال، الذي يتداوله ذاك ثم ذاك ثم ذاك فهو ينتقل من يد إلى يد تارة لهذا وتارة لهذا. وقال بعض النحاة الكلمتان بمعنى واحد وهي لغتان.
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ أي لا تكون ذا دولة بين الأغنياء منكم، لأن النبي حين خرج اليهود وحدث الفيء قال بعض الناس: يا رسول الله خذ صَفِيَّكَ والرُّبع ودعنا والباقي -كما كانوا يفعلون في الجاهلية إذا غنموا شيئاً رئيس القوم يأخذ الربع ويسمى المرباع ثم يأخذ الصَّفِيَّ أي يصطفى ما يشاء ثم يوزع بعد ذلك على الأغنياء- ربنا (تبارك وتعالى) محا هذا وأبطل سُنَّة الجاهلية وقال: (كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم) يتداوله الأغنياء والفقراء أحق به. ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ والآية وإن كانت خاصة بتوزيع الفيء (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) والإيتاء: المناولة. ما آتاكم: ما أعطاكم الرسول فخذوه. ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ اختلف النَّظْم ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾ الإيتاء: المناولة. لم يقل (وما منعكم) ولكنه يقول: (وما نهاكم) ولم يقل (وما منعكم) ليُبَيِّنَ لك أن الآية عامة والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، فالإيتاء هنا قد ينصرف للإعطاء وينصرف أيضاً للأوامر. ثم يؤكد التعميم في الآية فيقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اتقوا الله في مخالفة رسوله.
﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فالآية خاصة بتوزيع الفيء لكنها تَعُمُّ كل شيء، لذا يقول النبي: (إذا أَمَرْتُكُم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ويقول النبي مبيناً أمر الأمة بعده -وهي من علامات النبوة- يقول الصادق المصدوق: (لا أَلْفَيَنَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر أَمَرْتُ به أو نَهَيْتُ عنه فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه فإذا به يقول هل جاء ذلك في القرآن) ذلك من علامات النبوة، لأن الناس بعد ذلك طال بهم الزمن وقست قلوبهم كما قست قلوب أهل الكتاب حين طال بهم الأمد فتأتي للرجل منهم وتقول قال رسول الله فإذا به يسألك وهو متكئ على أريكته -وما كان على عهد النبي أرائك- من أطاع الرسول فقد أطاع الله. أيها الأخ المسلم؛ سُنَّة الرسول فالله يقول: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم) إذاً فالسُّنَّة بيان. فقد كانت أموال بنو النضير خالصةً لرسول الله فما أوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وقد اصطفى ربنا رسوله بهذا الفيء لأن الله قذف في قلوب بني النضير الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم، وما قاتل المسلمون ولا قطعوا شقة ولم يلقوا مشقة فكانت صفواً لرسول الله. ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ ثم بَيَّنَ الله بعد ذلك أحكام الفيء، والفيء كما قلنا كل مال رجع إلى المسلمون من الكفار بغير قتال، من خلال صلح، أو فر المشركون وتركوا أموالهم وراءهم، أو مات مشرك في ديار المسلمين ولا وارث له، أو هي أموال الجزية أو العشور أو الخراج.
هذا الفيء قَسَّمَه الله وبَيَّنَه، وبَيَّنَ أن أربعة أخماس الفيء لرسول الله يضعها حيث شاء، يخص بها أو يعم كيف يشاء، والخمس الباقي من الفيء يُقَسَّم كما يُقَسَّم خُمس المغنم، وكأن الناس تساءلوا: قد عرفنا كيف يُنفَق خُمس الفيء فكيف بأربعة أخماس الفيء؟ لأن الله حين قال: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ إذاً فهذا هو بيان لقسمة خمس الفيء، فإلى أين تذهب الأربعة أخماس؟ وقد علمنا أن الأربعة أخماس لرسول الله، فكيف يتصرف فيها؟ وكيف يتصرف الحكام والأمراء من بعده؟ يقول الله:
وقوله: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ستة؟ أبداً! هي خمسة، والاستفتاح باسم الله (تبارك وتعالى) للتيمن والتبرك ولتعظيم شأن النبي، فكأن الذي يأخذه النبي يأخذه الله، فهو لتعظيم شأن النبي وللتبرك، أما الله فلله ملك السموات والأرض. ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: من أهل القرى الكافرة. ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾: أي للرسول. إذاً فلرسول الله الحق في أربعة أخماس الفيء يصرفه كيف شاء وبعد ذلك له الحق في خُمس الخُمس الباقي. ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾: من بني هاشم وبني عبد المطلب الذين حُرِمُوا الصدقات والزكوات. ﴿وَالْيَتَامَى﴾: معلوم أمرهم؛ من فقد الأب، ولتعلم أيها الأخ من بلغ الِحن، ث من بلغ الحُلُم فليس بيتيم، واليُتْم يُتْم الأب وليس يُتْم الأم، ذاك في الإنسان، أما في الحيوان والطائر فاليُتْم موت الأم، فاليُتْم يُتْم الأب لأن الأب هو المتكفل في الإنسان. ﴿وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ ابن السبيل: من انقطع به الطريق، سافر من بلد إلى بلد ففرغ ماله ولو كان ذا يسار في بلده ولو كان غنياً في وطنه. (كي لا يكون دُولة) وقُرِأَت ﴿كي لا تكون دَوْلة﴾ وقُرِأَت بالرفع وبالنصب ﴿دولةً﴾ و ﴿دُولةٌ﴾، ﴿دُولةٌ﴾ على أن "كان" تامة. ﴿كي لايكون دَوْلة﴾: في الحرب. (كي لا يكون دُولة) الدُولة: ما يُتَدَاول بين الناس. الدَّولة مصدر، الدَّوْلة: الظفر والنصر في الحرب، دَوْلةُ لفلان: انتصر في الحرب. أما الدُّولة اسم للحال، الذي يتداوله ذاك ثم ذاك ثم ذاك فهو ينتقل من يد إلى يد تارة لهذا وتارة لهذا. وقال بعض النحاة الكلمتان بمعنى واحد وهي لغتان.
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ أي لا تكون ذا دولة بين الأغنياء منكم، لأن النبي حين خرج اليهود وحدث الفيء قال بعض الناس: يا رسول الله خذ صَفِيَّكَ والرُّبع ودعنا والباقي -كما كانوا يفعلون في الجاهلية إذا غنموا شيئاً رئيس القوم يأخذ الربع ويسمى المرباع ثم يأخذ الصَّفِيَّ أي يصطفى ما يشاء ثم يوزع بعد ذلك على الأغنياء- ربنا (تبارك وتعالى) محا هذا وأبطل سُنَّة الجاهلية وقال: (كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم) يتداوله الأغنياء والفقراء أحق به. ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ والآية وإن كانت خاصة بتوزيع الفيء (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) والإيتاء: المناولة. ما آتاكم: ما أعطاكم الرسول فخذوه. ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ اختلف النَّظْم ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾ الإيتاء: المناولة. لم يقل (وما منعكم) ولكنه يقول: (وما نهاكم) ولم يقل (وما منعكم) ليُبَيِّنَ لك أن الآية عامة والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، فالإيتاء هنا قد ينصرف للإعطاء وينصرف أيضاً للأوامر. ثم يؤكد التعميم في الآية فيقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اتقوا الله في مخالفة رسوله.
﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فالآية خاصة بتوزيع الفيء لكنها تَعُمُّ كل شيء، لذا يقول النبي: (إذا أَمَرْتُكُم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ويقول النبي مبيناً أمر الأمة بعده -وهي من علامات النبوة- يقول الصادق المصدوق: (لا أَلْفَيَنَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر أَمَرْتُ به أو نَهَيْتُ عنه فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه فإذا به يقول هل جاء ذلك في القرآن) ذلك من علامات النبوة، لأن الناس بعد ذلك طال بهم الزمن وقست قلوبهم كما قست قلوب أهل الكتاب حين طال بهم الأمد فتأتي للرجل منهم وتقول قال رسول الله فإذا به يسألك وهو متكئ على أريكته -وما كان على عهد النبي أرائك- من أطاع الرسول فقد أطاع الله. أيها الأخ المسلم؛ سُنَّة الرسول فالله يقول: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم) إذاً فالسُّنَّة بيان. فقد كانت أموال بنو النضير خالصةً لرسول الله فما أوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وقد اصطفى ربنا رسوله بهذا الفيء لأن الله قذف في قلوب بني النضير الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم، وما قاتل المسلمون ولا قطعوا شقة ولم يلقوا مشقة فكانت صفواً لرسول الله. ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ ثم بَيَّنَ الله بعد ذلك أحكام الفيء، والفيء كما قلنا كل مال رجع إلى المسلمون من الكفار بغير قتال، من خلال صلح، أو فر المشركون وتركوا أموالهم وراءهم، أو مات مشرك في ديار المسلمين ولا وارث له، أو هي أموال الجزية أو العشور أو الخراج.
هذا الفيء قَسَّمَه الله وبَيَّنَه، وبَيَّنَ أن أربعة أخماس الفيء لرسول الله يضعها حيث شاء، يخص بها أو يعم كيف يشاء، والخمس الباقي من الفيء يُقَسَّم كما يُقَسَّم خُمس المغنم، وكأن الناس تساءلوا: قد عرفنا كيف يُنفَق خُمس الفيء فكيف بأربعة أخماس الفيء؟ لأن الله حين قال: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ إذاً فهذا هو بيان لقسمة خمس الفيء، فإلى أين تذهب الأربعة أخماس؟ وقد علمنا أن الأربعة أخماس لرسول الله، فكيف يتصرف فيها؟ وكيف يتصرف الحكام والأمراء من بعده؟ يقول الله:
لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا۟ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًۭا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًۭا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ ﴿8﴾
والآية وإن خلت من حرف العطف (للفقراء) وأُشكِلَ ذلك على المفسرين، فمن قائل إن الآية استئناف لبيان فضل المهاجرين والأنصار، ومن قائل إن الآية معطوفة والعطف بيان، ومن قائل إن الآية جاءت إجابة لسؤال مُقَدَّر: لمن الأربعة أخماس؟ قيل للفقراء المهاجرين، ثم جاءت بعد ذلك آية الأنصار:
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُوا۟ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿9﴾
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ معطوفة على (للفقراء المهاجرين). أو هي كلام للثناء على الأنصار. ثم جاءت آية أخرى:
وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَـٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌ ﴿10﴾
فهي معطوفة أيضاً، فإن كان العطف على (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) دخل في قسمة الفيء الأربعة أقسام التي يضعها رسول الله حيث شاء دخل فيها المهاجرون والأنصار والذين جاءوا من بعدهم، هؤلاء المستحقون للأربعة أخماس وليس للمقاتلين، فما غُنِمَ من الكفار يُقَسَّم خمسة أقسام: أربعة أخماس للمقاتلين، والخمس مقسوم خمسة أقسام: للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، هذا في شأن الغنائم. أما الفيء ليس فيه قتال، فَلِمَن تكون الأربعة أخماس التي كانت للمقاتلين في الغنائم؟ إذن فهي للرسول ولكل حاكم للمسلمين يأتي من بعده يضعها في مصالح المسلمين العامة، يختص بها أو يعم كيف يشاء دون أن يخرج عن نص الآية التي حدد الله تعالى فيها صفات هؤلاء المستحق، من هنا يتضح لنا أن رسول الله لم يُصِبْ شيئاً، وصَدَقَ حيث قال: (ليس لي من غنائمكم إلا الخُمس والخُمس مردود فيكم). ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ نعم هم أُخرِجُوا، والتعبير بأُخرِجُوا يفيد أنهم اضطروا للخروج بإيذاء المشركين لهم بمكة، وإن كانوا قد خرجوا بأنفسهم فقد خرج المهاجرين اختياراً هم خرجوا بأنفسهم فرادى وخرجوا جماعات، خرجوا سراً ولم يخرج جهراً إلا عمر بن الخطاب، وإن كانوا قد خرجوا إلا أن الله يقول في شأنهم (أُخرِجُوا) لأنهم وإن خرجوا بإرادتهم إلا أنهم اضطروا للخروج من أجل إيذاء المشركين لهم.
(أُخرجوا من ديارهم وأموالهم) كانت لأحدهم الدار والفرس والزوجة والأولاد والجواري وما إلى ذلك والإماء والعبيد، ترك كل ذلك وخرج وحيداً بغير مال وبغير أهل حباً في الله وفي رسول الله، وحين وصلوا إلى المدينة كان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه ليقيم صلبه من الجوع، ولقد كان أحدهم يحفر الحفرة يبيت فيها لا يجد دثاراً يتغطى به من شدة البرد فيحفر الحفرة في الأرض وينزل فيها وينام كالوحش في الفلاة، هؤلاء الذين خرجوا حباً لرسول الله وساروا إليه، الفقراء المهاجرين الذين أُخرِجُوا من ديارهم وأموالهم لأن المشركين استولوا على الديار والأموال، هؤلاء الفقراء من المهاجرين الذين خرجوا حباً لله وحباً لرسول الله ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ يبتغون فضلاً في الدنيا بأن يوسع الله عليهم وبأن يجدوا متسعاً لعبادة الله دون خوف ودون وجل ودون إيذاء. ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ بالجهاد في سبيل الله، بنشر راية الإسلام والدفاع عن وطن الإسلام والذي كان متحيزاً في المدينة المنورة دار الإيمان ودار الهجرة، هؤلاء ينصرون الله ورسوله، يقول الله في شأنهم: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الصادقون في إيمانهم. والإيمان قول وعمل، وليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصَدَّقَه العمل، هؤلاء هم الصادقون لأن الإيمان تحقق بالعمل، فقد خرجوا وتركوا أموالهم وديارهم وتركوا كل شيء حباً لله وحباً لرسول الله ونصرةً لدين الله. ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: الأنصار، وربنا هو الذي سمى هاتين الفئتين؛ سماهم المهاجرين وسماهم الأنصار. ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ التَبَوُّء: التَمَكُّن والاستقرار، سكنوا الديار بالمدينة ولزموها قبل هجرة المهاجرين إليهم، فهم أهل المدينة أصلاً.
لكن كلمة (الإيمان) وإن كانت منصوبة بفعل (تبوءوا) لأن الإيمان ليس بمكان يُتَبَوَّأ ولكنها منصوبة بفعل مُقَدَّر تقديره (أخلصوا الإيمان) والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين فهم أصحاب البلد وهم أصحاب الدور وسكان المدينة، وأخلصوا الإيمان لله ولرسول الله، هم يحبون من هاجر إليهم، نعم يحبوهم، الحب في الله وما أدراك ما الحب في الله! لقد كان الرجل من الأنصار يقاسم المهاجرين ماله، بل يقاسمه زوجاته، فقد كان لرجل منهم زوجتان وجاء رجل من المهاجرين فأسكنه معه في داره وقاسمه أرضه وثماره وقال له عن زوجتيه أنظر أيتهما أعجبتك طَلَّقْتُها لك وتَزَوَّجْتَها، حتى كان أحدهم يقسم النعل والنعل لا يُقَسَّم، فردة وفردة. شاركوهم في أموالهم وشاركوهم في دورهم وشاركوهم في ثمارهم، يحبون من هاجر إليهم، الحب في الله. ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ أي ولا يجدون في صدورهم احتياج أو طلباً لشيء مما أعطى النبيُّ للمهاجرين، أي مما أوتي المهاجرون، لا يجدون في صدورهم حاجة، والحاجة تؤدي إلى الطلب، تؤدي إلى الحسد، تؤدي إلى الغل وإلى الغيظ وإلى الحقد، فهم لا يجدون في صدورهم حاجة تؤدي إلى هذه المشاعر، بل إذا أعطى رسول الله المهاجرين شيئاً فرحوا به ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا. ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والإيثار: أن تُقَدِّمَ غيرك على نفسك في حظوظ الدنيا طلباً لحظوظ الآخرة.
وحين غنم رسول الله الغنائم وكان يقسمها بين المقاتلين اعتاد الناس على ذلك؛ أربعة أخماس للمقاتلين وخمس لرسول الله، والأقسام التي قسمت الفقراء واليتامى والمساكين ولذي القربى وابن السبيل حين جاءت أموال بني النضير وأصبح فيئاً لرسول الله خالصاً له يضعه حيث يشاء ويعم أو يخص، استدعى رسول الله الأنصار وقال لهم إن شئتم قسمت هذا المال بينكم وبين إخوانكم من المهاجرين وأبقيتم على مواساتهم بأموالكم، وإن شئتم خصصت بالمال المهاجرين وكففتم أنتم عن مواساتهم، فَخَيَّرَهم أن يقسم المال بينهم وبين المهاجرين وتظل المواساة قائمة -أي يشاركونهم ثمارهم- أو يعطي المهاجرين ويخصهم بهذا المال فيغنيهم عن الحاجة للأنصار ويكف الأنصار عن قسمة الثمار بينهم وبين المهاجرين، فقال الأنصار: يا رسول الله لا هذا ولا ذاك، بل تخصهم بالفيء ونقيم على مواساتهم، فقال رسول الله: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار". الخَصَاصَة: الحاجة التي يحدث بها الاختلال، فكلما اشتد فقر العبد أو اشتدت حاجته لشيء اختل نظامه واختل حاله يقال به خَصَاصَة. وأصل الكلمة من الخَصَاص، والخَصَاص: الشُّقوق والفُرَج في الجدار، فإذا انشق الجدار وأصبحت فيه الفُرَج قيل به خَصَاص، كَخَصَاص الباب وما إلى ذلك، وكأن الإنسان الذي به خصاصة تَشَقَّقَ بنيانه واختل نظامه. أو الخصاصة من الاختصاص وليس من الخَصَاص بل من الاختصاص، وكأن الخصاصة إذا حدثت لعبد فهو المختص بها أي المختص بالاحتياج والمختص بشدة الفقر وشدة الحاجة.
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ نعم فقد آثر الأنصار المهاجرين بالفيء وبالأموال وآثروهم على أنفسهم بكل شيء، لدرجة أن رجلاً جاء لرسول الله وقال: يا رسول الله إني مجهود، أي في شدة الجوع وفي شدة الجهد والتعب، فأرسل النبي لإحدى زوجاته هل عندك من شيء؟ قالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى الأخرى فقالت مثل قول الأولى، وهكذا حتى مَرَّ رسول الله على أبيات أزواجه جميعاً وكلهن قُلْنَ: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، رسول الله سيد الخلائق! فنظر إلى الجالسين حوله قال: "من يُضَيِّف هذا الرجل يرحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله، فأخذه وانقلب به إلى بيته وسأل امرأته هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: والله ما عندي إلا قوت صبياني، فقال: فَعِلَّلِيهم حتى يناموا وأبقي الطعام للضيف فإذا جلسنا لنأكل قومي إلى السراج فأصلحيه فأطفئيه وأوهمي ضيفنا أنا نأكل معه حتى يأكل هو ويشبع، فَعَلَّلَت صبيانها حتى ناموا بغير طعام ثم جَهَّزَت الطعام وأَوْقَدَت السراج وجلس الضيف وجلس الزوج معه وقامت تُصلِحُ السراج فأَطْفَأَتْهُ وأَخَذَت تَلُوكُ فَمَهَا ويَلُوكُ زَوجُها كذلك مُوهِمِين لضيفهما أنهما يأكلان حتى أكل وشبع وباتا طاويان، وغدا في الصباح إلى رسول الله ذلك الأنصاري فتبسم النبي في وجهه وقال: لقد عَجِبَ الله من صنيعكما بضيفكما الليلة. حكايات كثيرة كانت للإيثار، أُهدِيَت رأسُ شاة، أهدى أحدُ الناس رأسَ شاة لرجل من فقراء الأنصار فقال: واللهِ إن فلاناً وعياله أحق به منا، فأرسل الرأس إليه، فحين وصلت للثاني قال: والله إن فلاناً وأهله أحق، فأرسلها فتداولها سبعة أبيات كلهم يرسلها للآخر، سبعة أبيات تداولوها حتى رجعت للأول.
وكلكم يعرف قصة غزوة اليرموك حين أصيب رجل وذهب أخوه إليه يسقيه فسمع رجل يقول آه، فقال اذهب إليه، فذهب إليه ليسقيه فسمع رجل آخر يقول آه، فقال الجريح اذهب إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فعاد إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى الأول فوجده قد مات، كل يؤثر الآخر على نفسه. وصدق الله حيث يصفهم ويقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الشُّح: البخل مع الحرص. البخيل يَضِنُّ بماله والشحيح يَضِنُّ بمال غيره، الشحيح لا يَقنَع، الشحيح فيه الطمع. والشُّح: البخل بالزكاة، ولذا قيل من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة برئ من الشح، ورُوِيَ أنه حديث لرسول الله: "برئ من الشح من أدى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة" فقال بعض العلماء: إن الشح هو البخل بالزكاة، إمساك الصدقة وعدم إغاثة الملهوف، الشح مرض وَبِيل، الشح في النفوس غريزة وجُبِلَت الأنفس على الشح، هكذا يصف رسول الله لنا، جُبِلَت الأنفس على الشح، فما من نفس بشرية إلا والشح فيها غريزة. ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ إذاً فالأمر محتاج لتوفيق الله وفضل الله، هو الذي يحبب إليك الإنفاق وهو الذي يُكَرِّه إليك البخل، هو الذي يُكَرِّه إليك الإمساك ويُحَبِّب إليك الإنفاق. من يُوقَ شُحَّ نَفْسِه ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: هم الفائزون. سُمِّيَ الفَلَّاحُ فَلَّاحاً لأنه يَشُقُّ الأرض يَفْلَحُها، فالفَلْح: الشَّقُّ. وسمي الناجي من جهنم، الفائز بالجنة، سمي فالح لأنه فَلَحَ طريقه إلى الجنة، شَقَّ طريقه إلى الفوز، فأولئك هم المفلحون الذين شَقُّوا طريقهم إلى رضاء الله ورضوانه.
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ (الذين جاءوا من بعدهم): قال بعض الناس: هم التابعون. وقال بعضهم: هم الذين هاجروا من بَعْدُ وآمنوا وجاهدوا معهم. والرأي الأرجح والذي عليه جمهور المفسرين هو أن الآية في كل من جاء من بعد ذلك من أمة محمد إلى يوم القيامة بشرط أن يستوفي الشروط في الآية. (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) والذي يؤيد هذا القول ما رُوِيَ عن النبي حين خرج لزيارة أهل القبور وكان معه طائفة من أصحابه فدخل وقال: "السلام عليكم دَارَ قومٍ مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدِدْنا أَنَّا قُدِّرَ رَأْيُنا إخواننا" فقال أصحابه: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال: "بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فَرَطُهُم على الحوض" من هنا يتبين أن الآية في كل مسلم جاء بعد النبي والطائفتين المهاجرين والأنصار إلى أن تقوم الساعة بشرط أن يتقيد بما جاء في هذه الآية: (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) إذاً فهم الإخوان الذين قال فيهم رسول الله: "وَدِدْنا أنا قد رأينا إخواننا" لأن الله سماهم إخواناً للمهاجرين والأنصار (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان): من المهاجرين والأنصار. ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ الغِلّ: الحقد، الغل: الغيظ، الغل: الحسد. يستعيذون بالله من حسد الأولين، يستعيذون بالله من الحقد أو الغيظ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الرؤوف: هو الله. والرأفة: الإشفاق أن يحل بك مكروه، تلك هي الرأفة.
فالله رؤوف بالعباد، رؤوف بهم أي يشفق عليهم من أن يحل بهم مكروه، فيرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب، يبين لهم طريق النجاة، فإن عصوْا أمهلهم، فإن تابوا غفر لهم، وإن أصلحوا بَدَّلَ سيئاتهم حسنات. (إن الله رءوف رحيم) والرحمة: واسعة عَمَّتْ الكل، ألا ترى الناس يكفرون بالله ويرزقهم؟ ألا تراهم يعصون ويسترهم؟ ألا تراهم إذا تابوا ورجعوا قَبِلَهم وغفر لهم؟ والناس على ثلاثة منازل، نعم الناس من أمة محمد فأولئك هم الناس، وما سواهم ليسوا بأناس بل هم كالأنعام بل هم أضل. الناس من أمة محمد على ثلاثة منازل: ذهبت منزلتان ولم تبق إلا واحدة، ذهبت منزلة المهاجرين؛ مضوا إلى رضوان الله، تحقق لهم الرضا بنص القرآن. والمنزلة الثانية هي منزلة الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم. أما المهاجرون فهم الصادقون، وأما الأنصار فهم المفلحون. ذهبت ومضت المنزلتان ولم تبق إلا منزله واحدة ألا وهم الذين قال الله في شأنهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ ولكي تعي تلك المقالة نقول: جاء رجل إلى علي بن الحسين وقال له: يا ابن بنت رسول الله ماذا تقول في عثمان؟ فقال علي: هل أنت من الذين قال الله فيهم: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً؟ قال: لا، قال: فهل أنت من الذين قال الله فيهم: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)؟ قال: لا، قال: فواللهِ إن لم تكن من الذين قال الله فيهم: (الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) فإنك خرجت من الإسلام. تقول عائشة: أُمِرتُم أن تستغفروا لهم فسببتموهم! واللهِ لقد سمعتُ رسول الله يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يَسُبَّ أواخرُها أوائلَها."
في الآية لفتة وهي: يقول الله (والذين جاءوا من بعدهم) وهم المسلمون، الذين جاءوا إلى أن تقوم الساعة، (يقولون ربنا اغفر لنا) في صيغة الإخبار، خبر، (يقولون) وما أتَوْا بَعْدُ وما قالوا. لذا قال العلماء: وإن كانت الآية جاءت في صيغة الإخبار إلا أنها أَمْر، يأمر ربنا المسلمين بالاستغفار لأصحاب رسول الله وبحبهم والدعاء لهم، والأمر جاء في صيغة الخبر للتأكيد، وكأن الأمر صدر فأطاعه المسلمون ونفذوه، فأخبر ربنا عن طاعتهم فقال: (يقولون ربنا اغفر لنا) فهو أمر في شدة التأكيد لأنه جاء بصيغة الخبر. لذا حين قالت عائشة: (أُمِرُوا أن يستغفروا لهم) أَوَّلَت الخبر على أنه أمر. ويقول ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: "إذا رأيتم الذين يَسُبُّون أصحابي فقولوا لَعَنَ اللهُ أَشَرُّكُم". أصحاب رسول الله هم النجوم البوازغ، أصحاب رسول الله هم أصحاب الفضل والفضيلة، لولاهم ما كان للإسلام قائمة وما كان للقرآن وجود، هم الذين حفظوا القرآن في صدورهم ونقلوه إلينا، وهم الذين رابطوا و صابروا وصبروا مع رسول الله وجاهدوا واستشهدوا ورفعوا راية الإسلام، أوقفوا أنفسهم على ضبط أفعال رسول الله وأقواله وتقريراته فنقلوها إلينا في صورة أحاديث، هم الذين حفظوا السُّنَّة وحافظوا عليها، وهم الذين حفظوا القرآن وحافظوا عليه، جعل الله صدورهم أوعية للقرآن وحقق بهم قوله: (إنا نحن نَزَّلنا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون) نعم حفظه الله بهؤلاء، بالسبب، بالوسائط، هم الوسائط في حفظ كلام الله، فقد حفظوه وحملوه في الصدور ونقلوه إلينا مشافهة من صدر إلى صدر، وحين دُوِّنَ وكُتِبَ من صدورهم.
هؤلاء هم أصحاب رسول الله الذي تحقق لهم الرضا، ربنا يقول من الأزل: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) ربنا قال ذلك وهو يعلم أنهم سوف يُفتَنون وتقوم بينهم الحروب وتحدث بينهم الخلافات، ولذلك أوصانا شيوخنا رحمهم الله وقالوا: اذكروا محاسن الصحابة حتى تؤلفوا قلوب الناس عليهم وإياكم أن تذكروا ما شجر بينهم فتُجَسِّروا الناس عليهم، تُجَرِّؤوهم ويصبح الكلام عن أصحاب رسول الله سهلاً ميسراً، يغتابهم الناس ويُقَيِّمُون أعمالهم ويقولون أخطأ فلان وأصاب فلان. ورسول الله يحذرنا ويقول: "إذا ذُكِرَ القضاء فأمسكوا -أي القضاء والقدر- وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا" وكأنهم كقضاء الله رفعة ومنزلة. وقال: "أصحابي أصحابي لا تجعلوهم هدفاً من بعدي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه" أصحاب رسول الله قدوة الأمة، الأسوة لكل مؤمن ومسلم في كل مكان وزمان. وقد اجترأ بعض الكُتَّاب عليهم للربح الرخيص، ألفوا الكتب وتكلموا عن الخلافات وعن الفتن التي حدثت بين عليّ وبين معاوية، بين عثمان وبين الناس، تكلموا عنهم وسَبُّوهم ووقعوا في أعراضهم وقالوا عنهم مالا يصح أن يقال عن مسلم عادي من المسلمين، قالوا كل ذلك عن أصحاب رسول الله وراجت تلك الكتب وبدأ الناس يتكلمون في هؤلاء الصحابة يخطئونهم ويتحدثون عنهم وكأنهم أناس كباقي الناس، لا واللهِ، واللهِ واللهِ لن تتكرر هاتان الفئتان، لن تتكرر فئة المهاجرين ولا فئة الأنصار إلى أن تقوم الساعة، فئة خاصة اصطفاها الله بقول رسول الله: "إن الله اصطفى لي أصحابي فجعلهم وزراء لي" وأنصار وأصحاب رسول الله فوق كل الشبهات.
يقول الإمام مالك: هذه الآية معطوفة على آية المهاجرين، وآية المهاجرين بيان لتوزيع الفيء، من هنا فكل مسلم في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة يستحق من الفيء بهذه الآية وعلى الحاكم أن يعطيه مما يفيء الله عليه، و (الذين جاءوا من بعدهم) فهم مستحقون للفيء بشرط أن يوقِّرَ أصحاب رسول الله وأن يستغفر لهم وأن يحبهم، فإذا لم يفعل حُرِمَ من الفيء وخرج من الإسلام.
فكيف تتكلمون عن أصحاب رسول الله ويتجرأ أحدهم ويقول أخطأ عثمان وَوَلَّى الإمارات لأقربائه؟ كيف يقولون هذا وعثمان هذا ساكن في أعلى الجنان بِنَصِّ حديث رسول الله: "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان"؟ فكيف يقع المسلمون فيه؟ وكيف يقع المسلمون في معاوية وهو أحد كُتَّاب الوحي؟ بل قيل في شأنه حديثاً من أعجب ما رُوِيَ عن رسول الله حين كان بِبَيتِ امرأةٍ من الأنصار وغفى غفوة فاستيقظ يبتسم، قالت: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسول الله ماذا يضحكك؟ قال: "أناسٌ من أمتي يغزون هذا البحر -أو ثَبَجَ هذا البحر- كالملوك على الأَسِرَّة" قالت" يا رسول الله ادعُ أن أكون منهم، قال: "أنتِ منهم" ثم غفى غفوة ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسول الله ماذا يضحكك؟ قال: "أناس من أصحابي يغزون ثَبَجَ هذا البحر الأخضر كالملوك عل الأَسِرَّة" قالت: ادعُ الله ان أكون منهم، قال: "أنتِ من الأولين" أول من غزا البحر جيش غزا قبرص، أتدرون من كان قائد هذا الجيش؟ معاوية بن أبي سفيان هو قائد ذلك الجيش، أول من غزا البحر، فكيف يقع الناس فيه؟ وكيف يقولون عنه أنه حَوَّلَ الخلافة إلى مُلكٍ عَضُود؟ ربنا حين ذكر أصحاب النبي وأثنى عليهم كان يعلم ما سوف يحدث منهم في المستقبل، كان يعلم ذلك ولو شاء الله ما حدث ذلك لكنها إرادة الله وحكمة الله التي لا ندري عنها شيئاً، حين يقول: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) تحقق لهم الرضا، بل إن علي بن أبي طالب بعد كل ما حدث هو نفسه بعد مقتل الزبير وبعد مقتل طلحة هو نفسه يقول: أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة -رغم أنهم حاربوه- يقول أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة من الذين قال الله فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين) ما لكم ومالهم؟ هؤلاء هم الملوك فأين تذهب بينهم وأنت صعلوك؟ نحن الصعاليك وهم الملوك أين نحن منهم؟ أين نحن من أقدامهم؟ بل أين نحن من التراب
الذي يمشون عليه؟ إياكم إياكم وأصحاب رسول الله! احرقوا تلك الكتب وإياكم وأن يَطَّلِعَ عليها أولادكم، إياكم وإلا اجترؤوا على أصحاب رسول الله وتجاسروا عليهم، ومن تجاسر على صحابي من أصحاب رسول الله أو وقع فيه خرج من الإسلام بنص الآية. ويقول العلماء وعلى رأسهم إمام دار الهجرة الإمام مالك، بل وقالها ابن بنت رسول الله، إذا لم تكن من أهل هذه الآي؛ ة إذا لم تستغفر لأصحاب رسول الله؛ إذا لم تحب أصحاب رسول الله فأنت من خارج الإسلام. ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾: هم المهاجرون والأنصار، أُمِرنا أن نستغفر لهم لا أن نَسُبُّهُم. ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ المهاجرين والأنصار سماهم ربنا المؤمنون، تحقق لهم الإيمان بشهادة الله لهم، وتحقق لهم الصدق بشهادة الله، وتحقق لهم الفلاح بشهادة الله، وتحقق لهم الرضا بأمر الله، فمن وقع في صاحب من أصحاب رسول الله إذاً ففي صدره الغل، وطالما كان في صدره الغل فهو خارج عن هذه الفئة. أيها الأخ المسلم؛ ثلاثة منازل للمسلمين من أمة محمد: المهاجرون وقد مضت منزلتهم، والأنصار وقد مضت منزلتهم، ولم يبق إلا منزلة وهم المحبون لأصحاب رسول الله، وكل من أبغض صاحباً من أصحاب رسول الله فهو منافق يَدَّعي الإسلام خارج عن ملة محمد. يقول رسول الله لأحدهم أو لبعضهم: "واللهِ لا يحبكم إلا مؤمن ولا يكرهكم إلا منافق."
حاصر النبي بني النضير بعدما نقضوا عهدهم معه وحالفوا كفار مكة عليه، خرج لحصارهم وخرج الصحابة معه مشياً على الأقدام فقد كانت المسافة قريبة، وهنا أرسل المنافقون إلى اليهود: لا تخرجوا ولا تستسلموا وقاتلوا محمداً وأصحابه ونحن معكم، أرسل عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلُول شيخ المنافقين هذه الرسالة لبني النضير ليشد أزرهم ويقوي من عزيمتهم، ففضحهم الله ووصفهم بالكذب في آية ووصفهم بالجبن في آية، ففضحهم وعَجَّبَ حبيبه المصطفى من شأنهم، عَجَّبَه من شأن المنافقون ومن شأن اليهود وفضحهم، وكانت الآيات معجزة للنبي فهي علامة من علامات النبوة وإعجاز القرآن وصدقه، يقول الله (تبارك وتعالى):
(أُخرجوا من ديارهم وأموالهم) كانت لأحدهم الدار والفرس والزوجة والأولاد والجواري وما إلى ذلك والإماء والعبيد، ترك كل ذلك وخرج وحيداً بغير مال وبغير أهل حباً في الله وفي رسول الله، وحين وصلوا إلى المدينة كان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه ليقيم صلبه من الجوع، ولقد كان أحدهم يحفر الحفرة يبيت فيها لا يجد دثاراً يتغطى به من شدة البرد فيحفر الحفرة في الأرض وينزل فيها وينام كالوحش في الفلاة، هؤلاء الذين خرجوا حباً لرسول الله وساروا إليه، الفقراء المهاجرين الذين أُخرِجُوا من ديارهم وأموالهم لأن المشركين استولوا على الديار والأموال، هؤلاء الفقراء من المهاجرين الذين خرجوا حباً لله وحباً لرسول الله ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ يبتغون فضلاً في الدنيا بأن يوسع الله عليهم وبأن يجدوا متسعاً لعبادة الله دون خوف ودون وجل ودون إيذاء. ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ بالجهاد في سبيل الله، بنشر راية الإسلام والدفاع عن وطن الإسلام والذي كان متحيزاً في المدينة المنورة دار الإيمان ودار الهجرة، هؤلاء ينصرون الله ورسوله، يقول الله في شأنهم: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الصادقون في إيمانهم. والإيمان قول وعمل، وليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصَدَّقَه العمل، هؤلاء هم الصادقون لأن الإيمان تحقق بالعمل، فقد خرجوا وتركوا أموالهم وديارهم وتركوا كل شيء حباً لله وحباً لرسول الله ونصرةً لدين الله. ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: الأنصار، وربنا هو الذي سمى هاتين الفئتين؛ سماهم المهاجرين وسماهم الأنصار. ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ التَبَوُّء: التَمَكُّن والاستقرار، سكنوا الديار بالمدينة ولزموها قبل هجرة المهاجرين إليهم، فهم أهل المدينة أصلاً.
لكن كلمة (الإيمان) وإن كانت منصوبة بفعل (تبوءوا) لأن الإيمان ليس بمكان يُتَبَوَّأ ولكنها منصوبة بفعل مُقَدَّر تقديره (أخلصوا الإيمان) والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين فهم أصحاب البلد وهم أصحاب الدور وسكان المدينة، وأخلصوا الإيمان لله ولرسول الله، هم يحبون من هاجر إليهم، نعم يحبوهم، الحب في الله وما أدراك ما الحب في الله! لقد كان الرجل من الأنصار يقاسم المهاجرين ماله، بل يقاسمه زوجاته، فقد كان لرجل منهم زوجتان وجاء رجل من المهاجرين فأسكنه معه في داره وقاسمه أرضه وثماره وقال له عن زوجتيه أنظر أيتهما أعجبتك طَلَّقْتُها لك وتَزَوَّجْتَها، حتى كان أحدهم يقسم النعل والنعل لا يُقَسَّم، فردة وفردة. شاركوهم في أموالهم وشاركوهم في دورهم وشاركوهم في ثمارهم، يحبون من هاجر إليهم، الحب في الله. ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ أي ولا يجدون في صدورهم احتياج أو طلباً لشيء مما أعطى النبيُّ للمهاجرين، أي مما أوتي المهاجرون، لا يجدون في صدورهم حاجة، والحاجة تؤدي إلى الطلب، تؤدي إلى الحسد، تؤدي إلى الغل وإلى الغيظ وإلى الحقد، فهم لا يجدون في صدورهم حاجة تؤدي إلى هذه المشاعر، بل إذا أعطى رسول الله المهاجرين شيئاً فرحوا به ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا. ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والإيثار: أن تُقَدِّمَ غيرك على نفسك في حظوظ الدنيا طلباً لحظوظ الآخرة.
وحين غنم رسول الله الغنائم وكان يقسمها بين المقاتلين اعتاد الناس على ذلك؛ أربعة أخماس للمقاتلين وخمس لرسول الله، والأقسام التي قسمت الفقراء واليتامى والمساكين ولذي القربى وابن السبيل حين جاءت أموال بني النضير وأصبح فيئاً لرسول الله خالصاً له يضعه حيث يشاء ويعم أو يخص، استدعى رسول الله الأنصار وقال لهم إن شئتم قسمت هذا المال بينكم وبين إخوانكم من المهاجرين وأبقيتم على مواساتهم بأموالكم، وإن شئتم خصصت بالمال المهاجرين وكففتم أنتم عن مواساتهم، فَخَيَّرَهم أن يقسم المال بينهم وبين المهاجرين وتظل المواساة قائمة -أي يشاركونهم ثمارهم- أو يعطي المهاجرين ويخصهم بهذا المال فيغنيهم عن الحاجة للأنصار ويكف الأنصار عن قسمة الثمار بينهم وبين المهاجرين، فقال الأنصار: يا رسول الله لا هذا ولا ذاك، بل تخصهم بالفيء ونقيم على مواساتهم، فقال رسول الله: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار". الخَصَاصَة: الحاجة التي يحدث بها الاختلال، فكلما اشتد فقر العبد أو اشتدت حاجته لشيء اختل نظامه واختل حاله يقال به خَصَاصَة. وأصل الكلمة من الخَصَاص، والخَصَاص: الشُّقوق والفُرَج في الجدار، فإذا انشق الجدار وأصبحت فيه الفُرَج قيل به خَصَاص، كَخَصَاص الباب وما إلى ذلك، وكأن الإنسان الذي به خصاصة تَشَقَّقَ بنيانه واختل نظامه. أو الخصاصة من الاختصاص وليس من الخَصَاص بل من الاختصاص، وكأن الخصاصة إذا حدثت لعبد فهو المختص بها أي المختص بالاحتياج والمختص بشدة الفقر وشدة الحاجة.
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ نعم فقد آثر الأنصار المهاجرين بالفيء وبالأموال وآثروهم على أنفسهم بكل شيء، لدرجة أن رجلاً جاء لرسول الله وقال: يا رسول الله إني مجهود، أي في شدة الجوع وفي شدة الجهد والتعب، فأرسل النبي لإحدى زوجاته هل عندك من شيء؟ قالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى الأخرى فقالت مثل قول الأولى، وهكذا حتى مَرَّ رسول الله على أبيات أزواجه جميعاً وكلهن قُلْنَ: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، رسول الله سيد الخلائق! فنظر إلى الجالسين حوله قال: "من يُضَيِّف هذا الرجل يرحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله، فأخذه وانقلب به إلى بيته وسأل امرأته هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: والله ما عندي إلا قوت صبياني، فقال: فَعِلَّلِيهم حتى يناموا وأبقي الطعام للضيف فإذا جلسنا لنأكل قومي إلى السراج فأصلحيه فأطفئيه وأوهمي ضيفنا أنا نأكل معه حتى يأكل هو ويشبع، فَعَلَّلَت صبيانها حتى ناموا بغير طعام ثم جَهَّزَت الطعام وأَوْقَدَت السراج وجلس الضيف وجلس الزوج معه وقامت تُصلِحُ السراج فأَطْفَأَتْهُ وأَخَذَت تَلُوكُ فَمَهَا ويَلُوكُ زَوجُها كذلك مُوهِمِين لضيفهما أنهما يأكلان حتى أكل وشبع وباتا طاويان، وغدا في الصباح إلى رسول الله ذلك الأنصاري فتبسم النبي في وجهه وقال: لقد عَجِبَ الله من صنيعكما بضيفكما الليلة. حكايات كثيرة كانت للإيثار، أُهدِيَت رأسُ شاة، أهدى أحدُ الناس رأسَ شاة لرجل من فقراء الأنصار فقال: واللهِ إن فلاناً وعياله أحق به منا، فأرسل الرأس إليه، فحين وصلت للثاني قال: والله إن فلاناً وأهله أحق، فأرسلها فتداولها سبعة أبيات كلهم يرسلها للآخر، سبعة أبيات تداولوها حتى رجعت للأول.
وكلكم يعرف قصة غزوة اليرموك حين أصيب رجل وذهب أخوه إليه يسقيه فسمع رجل يقول آه، فقال اذهب إليه، فذهب إليه ليسقيه فسمع رجل آخر يقول آه، فقال الجريح اذهب إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فعاد إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى الأول فوجده قد مات، كل يؤثر الآخر على نفسه. وصدق الله حيث يصفهم ويقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الشُّح: البخل مع الحرص. البخيل يَضِنُّ بماله والشحيح يَضِنُّ بمال غيره، الشحيح لا يَقنَع، الشحيح فيه الطمع. والشُّح: البخل بالزكاة، ولذا قيل من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة برئ من الشح، ورُوِيَ أنه حديث لرسول الله: "برئ من الشح من أدى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة" فقال بعض العلماء: إن الشح هو البخل بالزكاة، إمساك الصدقة وعدم إغاثة الملهوف، الشح مرض وَبِيل، الشح في النفوس غريزة وجُبِلَت الأنفس على الشح، هكذا يصف رسول الله لنا، جُبِلَت الأنفس على الشح، فما من نفس بشرية إلا والشح فيها غريزة. ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ إذاً فالأمر محتاج لتوفيق الله وفضل الله، هو الذي يحبب إليك الإنفاق وهو الذي يُكَرِّه إليك البخل، هو الذي يُكَرِّه إليك الإمساك ويُحَبِّب إليك الإنفاق. من يُوقَ شُحَّ نَفْسِه ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: هم الفائزون. سُمِّيَ الفَلَّاحُ فَلَّاحاً لأنه يَشُقُّ الأرض يَفْلَحُها، فالفَلْح: الشَّقُّ. وسمي الناجي من جهنم، الفائز بالجنة، سمي فالح لأنه فَلَحَ طريقه إلى الجنة، شَقَّ طريقه إلى الفوز، فأولئك هم المفلحون الذين شَقُّوا طريقهم إلى رضاء الله ورضوانه.
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ (الذين جاءوا من بعدهم): قال بعض الناس: هم التابعون. وقال بعضهم: هم الذين هاجروا من بَعْدُ وآمنوا وجاهدوا معهم. والرأي الأرجح والذي عليه جمهور المفسرين هو أن الآية في كل من جاء من بعد ذلك من أمة محمد إلى يوم القيامة بشرط أن يستوفي الشروط في الآية. (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) والذي يؤيد هذا القول ما رُوِيَ عن النبي حين خرج لزيارة أهل القبور وكان معه طائفة من أصحابه فدخل وقال: "السلام عليكم دَارَ قومٍ مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدِدْنا أَنَّا قُدِّرَ رَأْيُنا إخواننا" فقال أصحابه: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال: "بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فَرَطُهُم على الحوض" من هنا يتبين أن الآية في كل مسلم جاء بعد النبي والطائفتين المهاجرين والأنصار إلى أن تقوم الساعة بشرط أن يتقيد بما جاء في هذه الآية: (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) إذاً فهم الإخوان الذين قال فيهم رسول الله: "وَدِدْنا أنا قد رأينا إخواننا" لأن الله سماهم إخواناً للمهاجرين والأنصار (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان): من المهاجرين والأنصار. ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ الغِلّ: الحقد، الغل: الغيظ، الغل: الحسد. يستعيذون بالله من حسد الأولين، يستعيذون بالله من الحقد أو الغيظ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الرؤوف: هو الله. والرأفة: الإشفاق أن يحل بك مكروه، تلك هي الرأفة.
فالله رؤوف بالعباد، رؤوف بهم أي يشفق عليهم من أن يحل بهم مكروه، فيرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب، يبين لهم طريق النجاة، فإن عصوْا أمهلهم، فإن تابوا غفر لهم، وإن أصلحوا بَدَّلَ سيئاتهم حسنات. (إن الله رءوف رحيم) والرحمة: واسعة عَمَّتْ الكل، ألا ترى الناس يكفرون بالله ويرزقهم؟ ألا تراهم يعصون ويسترهم؟ ألا تراهم إذا تابوا ورجعوا قَبِلَهم وغفر لهم؟ والناس على ثلاثة منازل، نعم الناس من أمة محمد فأولئك هم الناس، وما سواهم ليسوا بأناس بل هم كالأنعام بل هم أضل. الناس من أمة محمد على ثلاثة منازل: ذهبت منزلتان ولم تبق إلا واحدة، ذهبت منزلة المهاجرين؛ مضوا إلى رضوان الله، تحقق لهم الرضا بنص القرآن. والمنزلة الثانية هي منزلة الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم. أما المهاجرون فهم الصادقون، وأما الأنصار فهم المفلحون. ذهبت ومضت المنزلتان ولم تبق إلا منزله واحدة ألا وهم الذين قال الله في شأنهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ ولكي تعي تلك المقالة نقول: جاء رجل إلى علي بن الحسين وقال له: يا ابن بنت رسول الله ماذا تقول في عثمان؟ فقال علي: هل أنت من الذين قال الله فيهم: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً؟ قال: لا، قال: فهل أنت من الذين قال الله فيهم: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)؟ قال: لا، قال: فواللهِ إن لم تكن من الذين قال الله فيهم: (الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) فإنك خرجت من الإسلام. تقول عائشة: أُمِرتُم أن تستغفروا لهم فسببتموهم! واللهِ لقد سمعتُ رسول الله يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يَسُبَّ أواخرُها أوائلَها."
في الآية لفتة وهي: يقول الله (والذين جاءوا من بعدهم) وهم المسلمون، الذين جاءوا إلى أن تقوم الساعة، (يقولون ربنا اغفر لنا) في صيغة الإخبار، خبر، (يقولون) وما أتَوْا بَعْدُ وما قالوا. لذا قال العلماء: وإن كانت الآية جاءت في صيغة الإخبار إلا أنها أَمْر، يأمر ربنا المسلمين بالاستغفار لأصحاب رسول الله وبحبهم والدعاء لهم، والأمر جاء في صيغة الخبر للتأكيد، وكأن الأمر صدر فأطاعه المسلمون ونفذوه، فأخبر ربنا عن طاعتهم فقال: (يقولون ربنا اغفر لنا) فهو أمر في شدة التأكيد لأنه جاء بصيغة الخبر. لذا حين قالت عائشة: (أُمِرُوا أن يستغفروا لهم) أَوَّلَت الخبر على أنه أمر. ويقول ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: "إذا رأيتم الذين يَسُبُّون أصحابي فقولوا لَعَنَ اللهُ أَشَرُّكُم". أصحاب رسول الله هم النجوم البوازغ، أصحاب رسول الله هم أصحاب الفضل والفضيلة، لولاهم ما كان للإسلام قائمة وما كان للقرآن وجود، هم الذين حفظوا القرآن في صدورهم ونقلوه إلينا، وهم الذين رابطوا و صابروا وصبروا مع رسول الله وجاهدوا واستشهدوا ورفعوا راية الإسلام، أوقفوا أنفسهم على ضبط أفعال رسول الله وأقواله وتقريراته فنقلوها إلينا في صورة أحاديث، هم الذين حفظوا السُّنَّة وحافظوا عليها، وهم الذين حفظوا القرآن وحافظوا عليه، جعل الله صدورهم أوعية للقرآن وحقق بهم قوله: (إنا نحن نَزَّلنا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون) نعم حفظه الله بهؤلاء، بالسبب، بالوسائط، هم الوسائط في حفظ كلام الله، فقد حفظوه وحملوه في الصدور ونقلوه إلينا مشافهة من صدر إلى صدر، وحين دُوِّنَ وكُتِبَ من صدورهم.
هؤلاء هم أصحاب رسول الله الذي تحقق لهم الرضا، ربنا يقول من الأزل: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) ربنا قال ذلك وهو يعلم أنهم سوف يُفتَنون وتقوم بينهم الحروب وتحدث بينهم الخلافات، ولذلك أوصانا شيوخنا رحمهم الله وقالوا: اذكروا محاسن الصحابة حتى تؤلفوا قلوب الناس عليهم وإياكم أن تذكروا ما شجر بينهم فتُجَسِّروا الناس عليهم، تُجَرِّؤوهم ويصبح الكلام عن أصحاب رسول الله سهلاً ميسراً، يغتابهم الناس ويُقَيِّمُون أعمالهم ويقولون أخطأ فلان وأصاب فلان. ورسول الله يحذرنا ويقول: "إذا ذُكِرَ القضاء فأمسكوا -أي القضاء والقدر- وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا" وكأنهم كقضاء الله رفعة ومنزلة. وقال: "أصحابي أصحابي لا تجعلوهم هدفاً من بعدي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه" أصحاب رسول الله قدوة الأمة، الأسوة لكل مؤمن ومسلم في كل مكان وزمان. وقد اجترأ بعض الكُتَّاب عليهم للربح الرخيص، ألفوا الكتب وتكلموا عن الخلافات وعن الفتن التي حدثت بين عليّ وبين معاوية، بين عثمان وبين الناس، تكلموا عنهم وسَبُّوهم ووقعوا في أعراضهم وقالوا عنهم مالا يصح أن يقال عن مسلم عادي من المسلمين، قالوا كل ذلك عن أصحاب رسول الله وراجت تلك الكتب وبدأ الناس يتكلمون في هؤلاء الصحابة يخطئونهم ويتحدثون عنهم وكأنهم أناس كباقي الناس، لا واللهِ، واللهِ واللهِ لن تتكرر هاتان الفئتان، لن تتكرر فئة المهاجرين ولا فئة الأنصار إلى أن تقوم الساعة، فئة خاصة اصطفاها الله بقول رسول الله: "إن الله اصطفى لي أصحابي فجعلهم وزراء لي" وأنصار وأصحاب رسول الله فوق كل الشبهات.
يقول الإمام مالك: هذه الآية معطوفة على آية المهاجرين، وآية المهاجرين بيان لتوزيع الفيء، من هنا فكل مسلم في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة يستحق من الفيء بهذه الآية وعلى الحاكم أن يعطيه مما يفيء الله عليه، و (الذين جاءوا من بعدهم) فهم مستحقون للفيء بشرط أن يوقِّرَ أصحاب رسول الله وأن يستغفر لهم وأن يحبهم، فإذا لم يفعل حُرِمَ من الفيء وخرج من الإسلام.
فكيف تتكلمون عن أصحاب رسول الله ويتجرأ أحدهم ويقول أخطأ عثمان وَوَلَّى الإمارات لأقربائه؟ كيف يقولون هذا وعثمان هذا ساكن في أعلى الجنان بِنَصِّ حديث رسول الله: "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان"؟ فكيف يقع المسلمون فيه؟ وكيف يقع المسلمون في معاوية وهو أحد كُتَّاب الوحي؟ بل قيل في شأنه حديثاً من أعجب ما رُوِيَ عن رسول الله حين كان بِبَيتِ امرأةٍ من الأنصار وغفى غفوة فاستيقظ يبتسم، قالت: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسول الله ماذا يضحكك؟ قال: "أناسٌ من أمتي يغزون هذا البحر -أو ثَبَجَ هذا البحر- كالملوك على الأَسِرَّة" قالت" يا رسول الله ادعُ أن أكون منهم، قال: "أنتِ منهم" ثم غفى غفوة ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسول الله ماذا يضحكك؟ قال: "أناس من أصحابي يغزون ثَبَجَ هذا البحر الأخضر كالملوك عل الأَسِرَّة" قالت: ادعُ الله ان أكون منهم، قال: "أنتِ من الأولين" أول من غزا البحر جيش غزا قبرص، أتدرون من كان قائد هذا الجيش؟ معاوية بن أبي سفيان هو قائد ذلك الجيش، أول من غزا البحر، فكيف يقع الناس فيه؟ وكيف يقولون عنه أنه حَوَّلَ الخلافة إلى مُلكٍ عَضُود؟ ربنا حين ذكر أصحاب النبي وأثنى عليهم كان يعلم ما سوف يحدث منهم في المستقبل، كان يعلم ذلك ولو شاء الله ما حدث ذلك لكنها إرادة الله وحكمة الله التي لا ندري عنها شيئاً، حين يقول: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) تحقق لهم الرضا، بل إن علي بن أبي طالب بعد كل ما حدث هو نفسه بعد مقتل الزبير وبعد مقتل طلحة هو نفسه يقول: أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة -رغم أنهم حاربوه- يقول أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة من الذين قال الله فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين) ما لكم ومالهم؟ هؤلاء هم الملوك فأين تذهب بينهم وأنت صعلوك؟ نحن الصعاليك وهم الملوك أين نحن منهم؟ أين نحن من أقدامهم؟ بل أين نحن من التراب
الذي يمشون عليه؟ إياكم إياكم وأصحاب رسول الله! احرقوا تلك الكتب وإياكم وأن يَطَّلِعَ عليها أولادكم، إياكم وإلا اجترؤوا على أصحاب رسول الله وتجاسروا عليهم، ومن تجاسر على صحابي من أصحاب رسول الله أو وقع فيه خرج من الإسلام بنص الآية. ويقول العلماء وعلى رأسهم إمام دار الهجرة الإمام مالك، بل وقالها ابن بنت رسول الله، إذا لم تكن من أهل هذه الآي؛ ة إذا لم تستغفر لأصحاب رسول الله؛ إذا لم تحب أصحاب رسول الله فأنت من خارج الإسلام. ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾: هم المهاجرون والأنصار، أُمِرنا أن نستغفر لهم لا أن نَسُبُّهُم. ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ المهاجرين والأنصار سماهم ربنا المؤمنون، تحقق لهم الإيمان بشهادة الله لهم، وتحقق لهم الصدق بشهادة الله، وتحقق لهم الفلاح بشهادة الله، وتحقق لهم الرضا بأمر الله، فمن وقع في صاحب من أصحاب رسول الله إذاً ففي صدره الغل، وطالما كان في صدره الغل فهو خارج عن هذه الفئة. أيها الأخ المسلم؛ ثلاثة منازل للمسلمين من أمة محمد: المهاجرون وقد مضت منزلتهم، والأنصار وقد مضت منزلتهم، ولم يبق إلا منزلة وهم المحبون لأصحاب رسول الله، وكل من أبغض صاحباً من أصحاب رسول الله فهو منافق يَدَّعي الإسلام خارج عن ملة محمد. يقول رسول الله لأحدهم أو لبعضهم: "واللهِ لا يحبكم إلا مؤمن ولا يكرهكم إلا منافق."
حاصر النبي بني النضير بعدما نقضوا عهدهم معه وحالفوا كفار مكة عليه، خرج لحصارهم وخرج الصحابة معه مشياً على الأقدام فقد كانت المسافة قريبة، وهنا أرسل المنافقون إلى اليهود: لا تخرجوا ولا تستسلموا وقاتلوا محمداً وأصحابه ونحن معكم، أرسل عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلُول شيخ المنافقين هذه الرسالة لبني النضير ليشد أزرهم ويقوي من عزيمتهم، ففضحهم الله ووصفهم بالكذب في آية ووصفهم بالجبن في آية، ففضحهم وعَجَّبَ حبيبه المصطفى من شأنهم، عَجَّبَه من شأن المنافقون ومن شأن اليهود وفضحهم، وكانت الآيات معجزة للنبي فهي علامة من علامات النبوة وإعجاز القرآن وصدقه، يقول الله (تبارك وتعالى):
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُوا۟ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًۭا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ ﴿11﴾
لَئِنْ أُخْرِجُوا۟ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا۟ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَـٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴿12﴾
﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ أي لئن أُخرِجَت بنو النضير لن يخرجوا معهم، تلك أول كذبة، والآية قبل خروجهم وقبل إجلائهم فهي من معجزات النبي في إنبائه بالغيب وفي علمه بالغيب بإعلام الله له. ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) لن يحدث، فيثبت ربنا المؤمنين والمسلمين، يثبتهم ويطمئنهم ويبشرهم بأن اليهود وحدهم، وبأن بني النضير لا يُنصَرون ولن ينصرهم أحد، وهؤلاء قد كذبوا والله شهد على كذبهم. ﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ فرض، مجرد فرض كقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [سورة الأنعام آية:٢٨] افتراض وتقدير لن يحدث (ولئن نصروهم): لئن حدث وخرج المنافقون لنصرة اليهود. (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) يعطونكم الظهور ويفرون أمامكم جُبْنَاً وهلعاً ورعباً. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أي لا يُنصَرون أبداً إلى يوم الدين.
لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةًۭ فِى صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ ﴿13﴾
﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ والخطاب للأمة (لأنتم أشد رهبة في صدورهم) فضيحة، هم يُظهِرون الخوف من الله، يُظهِرون الإسلام ومع ذلك هم يخافون الناس أكثر من خوفهم من الله لأنهم لا يؤمنون بالله. (لأنتم) والخطاب لأمة النبي، والخطاب في ذلك الوقت للصحابة ولأتباع النبي، (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله). ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ أن يخاف الإنسان من المخلوق أكثر من خوفه من الخالق ذاك دليل على سوء فهمه وسوء تقديره وقلة عقله وفطنته، أن تخاف من العبد ولا تخاف من السيد، أن تخاف من المخلوق ولا تخاف من الخالق. نعم هم لا يفقهون، هم كالأنعام بل هم أضل، هم يخافون منكم، تمتلئ الصدور بالرهبة والخوف منكم أكثر من خوفهم من الله لأنهم قوم لا يفقهون.
لَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًۭى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍۭ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌۭ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًۭا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌۭ لَّا يَعْقِلُونَ ﴿14﴾
﴿من وراء جُدُر﴾ ﴿من وراء جُدْر﴾ ﴿من وراء جِدَار﴾ ثلاث قراءات بمعنى واحد، جدار مفرد جُدُر، وجُدْر جمع جدار. ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا﴾ أي إذا اجتمع المسلمون لقتال اليهود، والضمير عائد على اليهود أو عائد على المنافقين أو عائد على الفريقين معاً، لا يقاتلونكم جميعاً: إذا كنتم مجتمعين على كلمة واحدة وأمر واحد. ﴿إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾ أي لا يبرزون لكم في الخلاء ولا يتصحرون لكم، لا يخرجون في الصحراء ولا في الخلاء إنما يمكثون في حصونهم، في بيوتهم المحصنة. وذاك شأن اليهود دائماً وأبداً، لا يسكنون إلا في قرى محصنة ويجعلون أبوابها للداخل وليست للخارج، دائماً وأبداً قراهم محصنة. ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ أي وراء جدار، لا يبرز للمسلم أبداً ولا يقوى على مبارزته ولا يواجهه أبداً. ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي لو كانوا وحدهم وبغير قتال يتكلمون عن الشجاعة ويتكلمون عن البأس والقوة، ويؤملون ويُعَشِّمُون أنفسهم بالنصر والقوة، فهم أُسُودٌ في بيوتهم فإن خرجوا للقتال أصبحوا كالأنعام والبهائم ويفرون ويولون الأدبار ولا يلوون على أحد. ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ قد تعني أنهم إذا حاربوا بعضهم البعض كان قتالهم شديد وكانت العداوة بينهم شديدة وكانت القوة وكانت الشجاعة إذا قاتل الكفار بعضهم، أما إذا برزوا للمسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم، فالشجاع يَجبُن والعزيز يَذِلُّ إذا حارب الله ورسوله، فقط عند مواجهة حزب الله، وكأن الضعف والخَوَر والرعب والهلع يصيبهم إذا حاربوا الله ورسوله.
والآية وإن كانت تصفهم بالجُبن وتبشر المؤمنين بالنصر على المنافقين والكفار واليهود إلا أن فيها شروطاً وإن خَفِيَت، يقول الله: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا﴾ وكأن اجتماع الأمة شرط للنصر، لم يقل (لا يقاتلونكم) فقط وإنما قال: (لا يقاتلونكم جميعاً) إشارة لأمة محمد بأنهم إذا تفرقوا واختلفوا وَلَّت عنهم رياح النصر، وإن اجتمعوا على كلمة واحدة وتحزبوا نصرةً لله ولرسوله هنا فقط لا ينتصر عليهم مخلوق. والآية تجيب على تساؤلات الناس والتي أمطروا بها العلماء؛ كيف انتصر اليهود على المسلمين في أكثر من موقعة وفي أكثر من مكان وفي أكثر من مرة وربنا يصفهم بالجبن (ولا يقاتلونكم إلا من وراء جدر أو في قرى محصنة)؟ والآية تجيب لأننا لم نكن أمة واحدة، كنا شراذم، كنا متفرقين ومختلفين، قَصدُنا غير مؤتَلِف وقلوبنا مختلفة، ولم نقاتلهم جميعاً أبداً، وحين قاتلناهم جميعاً انتصرنا عليهم في أكثر من مرة والتاريخ يشهد بذلك، أما أن نتفرق ونتشتت ونصبح أمماً كل أمة تسعى وراء مقاصد تخالف مقاصد الأمة الأخرى فذاك يرفع شرط النصر، كقوله (كنتم خير أمة أُخرِجَت للناس) نعم لم يسكت على ذلك ولكنه قال: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) إذاً فتلك الشروط التي تجعل الأمة خير أمة أخرجت للناس، أما إذا لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر تشعبت بنا السبل وتفرقت بنا الأهواء ولم نكن خير أمة أبداً، لأن النبي حذر من ذلك وقال لنا: (لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو لَيُسَلِّطَنَّ الله عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم). ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ تحسبهم جميعاً: أي مجتمعين على أمر أو مؤتلفين، لكنهم اختلفت مقاصدهم وتناثرت عقائدهم، فهؤلاء يهود وهؤلاء منافقون لا يؤمنون بدين ولا بكتاب ولا بنبي ولا برسول، أما اليهود فيؤمنون بالله ويؤمنون ببعض الرسل، اختلفت مقاصدهم وتناثرت عقائدهم.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ لا يعقلون: لا يعقلون عن الله ولا يفهمون عن رسول الله. ويشبههم ربنا بأقوام سبقت وحَلَّت عليهم اللعنة.
والآية وإن كانت تصفهم بالجُبن وتبشر المؤمنين بالنصر على المنافقين والكفار واليهود إلا أن فيها شروطاً وإن خَفِيَت، يقول الله: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا﴾ وكأن اجتماع الأمة شرط للنصر، لم يقل (لا يقاتلونكم) فقط وإنما قال: (لا يقاتلونكم جميعاً) إشارة لأمة محمد بأنهم إذا تفرقوا واختلفوا وَلَّت عنهم رياح النصر، وإن اجتمعوا على كلمة واحدة وتحزبوا نصرةً لله ولرسوله هنا فقط لا ينتصر عليهم مخلوق. والآية تجيب على تساؤلات الناس والتي أمطروا بها العلماء؛ كيف انتصر اليهود على المسلمين في أكثر من موقعة وفي أكثر من مكان وفي أكثر من مرة وربنا يصفهم بالجبن (ولا يقاتلونكم إلا من وراء جدر أو في قرى محصنة)؟ والآية تجيب لأننا لم نكن أمة واحدة، كنا شراذم، كنا متفرقين ومختلفين، قَصدُنا غير مؤتَلِف وقلوبنا مختلفة، ولم نقاتلهم جميعاً أبداً، وحين قاتلناهم جميعاً انتصرنا عليهم في أكثر من مرة والتاريخ يشهد بذلك، أما أن نتفرق ونتشتت ونصبح أمماً كل أمة تسعى وراء مقاصد تخالف مقاصد الأمة الأخرى فذاك يرفع شرط النصر، كقوله (كنتم خير أمة أُخرِجَت للناس) نعم لم يسكت على ذلك ولكنه قال: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) إذاً فتلك الشروط التي تجعل الأمة خير أمة أخرجت للناس، أما إذا لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر تشعبت بنا السبل وتفرقت بنا الأهواء ولم نكن خير أمة أبداً، لأن النبي حذر من ذلك وقال لنا: (لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو لَيُسَلِّطَنَّ الله عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم). ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ تحسبهم جميعاً: أي مجتمعين على أمر أو مؤتلفين، لكنهم اختلفت مقاصدهم وتناثرت عقائدهم، فهؤلاء يهود وهؤلاء منافقون لا يؤمنون بدين ولا بكتاب ولا بنبي ولا برسول، أما اليهود فيؤمنون بالله ويؤمنون ببعض الرسل، اختلفت مقاصدهم وتناثرت عقائدهم.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ لا يعقلون: لا يعقلون عن الله ولا يفهمون عن رسول الله. ويشبههم ربنا بأقوام سبقت وحَلَّت عليهم اللعنة.
كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًۭا ۖ ذَاقُوا۟ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ ﴿15﴾
هؤلاء مَثَلُهُم؛ مَثَلُ اليهود ومَثَلُ المنافقين كَمَثَلِ أمم سابقة؛ قوم نوح، قوم هود، قوم صالح، قوم لوط، قوم فرعون، كفار مكة حين هُزِمُوا في بدر، بنو قينقاع. كَمَثَلِ الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وَبَالَ أَمْرِهِم: نَصَرَ اللهُ رسلَه عليهم، مصداقاً لقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [سورة غافر آية:٥١] فهؤلاء مثلهم كمثل هؤلاء، تلك عاقبة أمرهم، كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم: ذاقوا سوء أعمالهم ونتيجة كفرهم وفسقهم وحربهم لله ولرسول الله. والوبال أصلاً الشدة والثِّقَل، وَبَلَ المطر فهو وَبِيل: اشتد وقوي. فكذلك ذاقوا وبال أمرهم: أي ذاقوا شدة العذاب بالهزيمة، بالخزي، بالعار، ذاقوا العاقبة السيئة، ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة، لن يكتفي بتعذبيهم في الدنيا بل لابد ويُعَذَّبوا في الآخرة. ويضرب ربنا مثلاً آخر لتبرؤ المتبوع من التابع
كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌۭ مِّنكَ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿16﴾
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ أغواه على الكفر، أغواه على الفسوق والعصيان. ﴿فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ تبرأ منه وكذب عليه وعلى نفسه وعلى الله حيث قال: (إني أخاف الله رب العالمين)، ولو كان الشيطان يخاف الله فعلاً ما كفر وما عصى، ولكنه الكذوب، أَكْذَبُ خلق الله على الإطلاق الشيطان الوسواس. الكذوب قال للإنسان اكفُر وأغواه على الكفر، فلما كفر الإنسان تبرأ منه وتبرأ من كفره وقال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، ادّعى ذلك حتى لا يشاركه في العذاب، ولكن الله يسمع ويرى. وتبرؤ الشيطان من الإنسان سوف يحدث أيضاً في يوم القيامة حيث يخطب الشيطان في الجموع ويقول: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة إبراهيم آية:٢٢] يخطب ويقول ذلك.
بل يتبرأ المتبوعين من الأتباع ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(١٦٦)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا(١٦٧)﴾ [سورة البقرة آية:١٦٦- ١٦٧] ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة إبراهيم آية:٢١] يرد المستكبرون قائلين: ﴿قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [سورة إبراهيم آية:٢١] ويقول الضعفاء للذين استكبروا أيضاً أنتم صددتمونا ﴿لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة سبأ آية:٣١] ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سورة سبأ آية:٣٢] وهكذا يتبرأ المُضِلُّ ممن أضله، يتبرأ الضالون من بعضهم وإن كانوا على نسب وعلى أرحام وعلى قرابة، تتقطع بينهم الأسباب وتظهر الحقائق وتسقط الدعاوى وكل يتبرأ من أخيه، بل ويلعن بعضهم بعضاً، يقول الله: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [سورة سبأ آية:٤٢] نعم لا يملك بعضهم لبعض نفعاً ولا ضراً بل يتبرأ بعضهم من بعض ومأواهم النار، ويلعن بعضهم بعضاً ومالهم من ناصرين.
فكذلك الشيطان يتبرأ من الإنسان، والشيطان قريب من الإنسان والإنسان لا يراه، ويخدعه ويجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، ويحدثك ويغويك ويُمَنِّيك؛ يُمَنِّيك بطول العمر، يُمَنِّيك بالمغفرة، يَعِدُك بمغفرة الله، كقول بعض الناس: حين أَكْبُر أَحُجّ، أو حين أَكبُر أتوب أو غداً أُصَلِّي، يُسَوِّفُ أملاً في الحياة وأملاً في المغفرة ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [سورة النساء آية:١٢٠] ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
بل يتبرأ المتبوعين من الأتباع ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(١٦٦)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا(١٦٧)﴾ [سورة البقرة آية:١٦٦- ١٦٧] ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة إبراهيم آية:٢١] يرد المستكبرون قائلين: ﴿قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [سورة إبراهيم آية:٢١] ويقول الضعفاء للذين استكبروا أيضاً أنتم صددتمونا ﴿لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة سبأ آية:٣١] ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سورة سبأ آية:٣٢] وهكذا يتبرأ المُضِلُّ ممن أضله، يتبرأ الضالون من بعضهم وإن كانوا على نسب وعلى أرحام وعلى قرابة، تتقطع بينهم الأسباب وتظهر الحقائق وتسقط الدعاوى وكل يتبرأ من أخيه، بل ويلعن بعضهم بعضاً، يقول الله: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [سورة سبأ آية:٤٢] نعم لا يملك بعضهم لبعض نفعاً ولا ضراً بل يتبرأ بعضهم من بعض ومأواهم النار، ويلعن بعضهم بعضاً ومالهم من ناصرين.
فكذلك الشيطان يتبرأ من الإنسان، والشيطان قريب من الإنسان والإنسان لا يراه، ويخدعه ويجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، ويحدثك ويغويك ويُمَنِّيك؛ يُمَنِّيك بطول العمر، يُمَنِّيك بالمغفرة، يَعِدُك بمغفرة الله، كقول بعض الناس: حين أَكْبُر أَحُجّ، أو حين أَكبُر أتوب أو غداً أُصَلِّي، يُسَوِّفُ أملاً في الحياة وأملاً في المغفرة ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [سورة النساء آية:١٢٠] ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
فَكَانَ عَـٰقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى ٱلنَّارِ خَـٰلِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُا۟ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿17﴾
﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾ الشيطان والإنسان، المُضِلُّ ومن ضَلَّ، المُكَفِّر ومن كَفَر. ﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ لن يُخَفِّف عذابُ أحدهم عذابَ الآخر، بل لكل منهم أوزاره، يحملون أوزارهم يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير علم. ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ وكلمة الظالمون دائماً وأبداً في القرآن تعني الكفار، تعني المشرك، الظالم: المشرك ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة لقمان آية:١٣]. ويتوجه الخطاب للمؤمنين، ينبئهم ربنا:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌۭ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿18﴾
تكررت كلمة التقوى؛ (اتقوا الله) (واتقوا الله). قيل إن التكرير للتأكيد ولرفع شأن الأمر بالإتيان بالطاعات، بالتفرغ للعبادات. (واتقوا الله) الثانية تهديد وأمر بتقوى المعاصي، تقوى الله فيما نهى عنه. لأن التقوى الأولى قُرِنَت بالعمل والتقوى الثانية قُرِنَت بعلم الله. ربنا يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) إذاً فالكلام عما تقدمه للغد وهو الطاعات والعبادات والصدقات وما إلى ذلك. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم عليه. تهديد بأن الله يسمع ويرى ويعلم ويرى خفايا الوهم والتفكير ويسمع هواجس الضمير. إذاً فمعنى ذلك أنه يأمرك بالتقوى؛ بأن تطع الله ورسوله وتأتي بالأوامر التي أمر بها، ثم يأمرك بالتقوى بأن تجتنب النواهي وتجتنب المعاصي لأن الله يعلم ما تكنُّه الصدور. يا أيها الناس اتقوا الله ولتنظر نفس ما قَدَّمَت لِغَدٍ، وإن غداً لناظره قريب. وسميت يوم القيامة بِغَد، وكأن الدنيا في طولها ما هي إلا يوم واحد والقيامة غد وليس بعد الغد. ونُكِّرَت الكلمة لتفخيم وتعظيم وتهويل شأن ذلك الغد ألا وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين. أيها الاخ المسلم؛ هل عَلِمْتَ بهذه الآية؟ ربنا يأمرنا أن ننظر في صحائف أعمالنا وننظر ماذا أعددنا للغد كما قال نبينا: (حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا) وكذلك حين جاءه رجل وسأله: متى الساعة؟ فقال النبي: "وماذا أَعْدَدْتَ لها؟ " وفي يوم القيامة يُخرَج لك كتاباً تلقاه منشوراً ويقال لك اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
أيها الأخ المسلم؛ القبر حفرة مظلمة ضيقة، وقد نصحتكم مرات ومرات بأن تشيعوا الجنازات وخاصة جنازات أصدقائكم وأقربائكم وجربوا مرة أن تنزلوا إلى القبر لتروا أين يكون المصير، انزل إلى القبر مرة ولترى الحفرة التي سوف يوضع فيها جسدك، بل ويُدلِيك إليها أبناؤك وأحبابك ثم يغلقونها عليك وينصرفون تاركينك وحدك، ظلمة وضيق ووحشة، أما الضيق فلا يوسعه إلا رحمة الله ودعاء الناس وشهادة الصالحين، وأما الظلمة فلا ينيرها إلا القرآن أو ذكر الرحمن، وأما الوحشة فلا يؤنسك إلا عملك؛ ركيعات تصليها بالليل والناس نيام، كُلَيمات تُعَلِّمُها للغلمان، دُرَيهِمات تنفقها في بناء المساجد، في إطعام الطعام للفقراء والمساكين، اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة كما قال سيدي رسول الله. فعلى الإنسان أن ينظر في صحيفة أعماله، نعم إنك لا ترى الصحائف فهي بأيدي السَّفَرَة، بأيدي الكَتَبَة، بأيدي الحَفَظَة، لكنك لاشك تستطيع أن تتأمل فيما مضى من حياتك وتتذكر الطاعات وتتذكر المعاصي، والكَيِّسُ كما يقول سيد الخلائق أجمعين عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم: (الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) من دان نفسه: أي اتهم نفسه بالتقصير واستصغر الطاعات واستقلل الصدقات، حين تتهم نفسك بالتقصير وتُدِينُها تعمل على استكمال النقص، أما غير الكَيِّس، غير العاقل، الجاهل الذي يتمنى على الله الأماني، فيتمنى أن يطول به العمر ويتمنى أن يوفقه الله للتوبة بعد الكبر، ويتمنى أن يحج البيت في وقت لاحق، ذلك هو العاجز الذي قعد به عجزه عن إدراك السابقين.
وقد تكلمنا عن أمة النبي وأوضحنا أن الأمة على ثلاثة منازل: المهاجرون وقد مضت منزلتهم، والأنصار وقد مضت منزلتهم، ولم يبق إلا الذين جاءوا من بعدهم؛ المحبون لهم السائرون على دربهم (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أولئك هم إخوان النبي، قد نادى عليهم وقال: "وددنا أنا قد رأينا إخواننا" وحين قال أصحابه: نحن إخوانك يا رسول الله، قال: "بل أنتم أصحابي، إخواننا الذين لم يأتوا بَعْد" نحن إخوانه سمانا بذلك، والأخوة تقتضي أن تحب أخاك، الأخوة تقتضي أن تؤثره، الأخوة تقتضي أن تستغفر له، الأخوة تقتضي أن تداري سوأته، الأخوة تقتضي أن ترفع من شأنه، فهؤلاء الذين لقوا المنزلة الثالثة والباقية الوحيدة هؤلاء هم المحبون لرسول الله ولأصحاب النبي السائرون على دربهم التابعون لهم بإحسان والذين بشرهم ربنا في كتابه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا﴾ [سورة التوبة آية:١٠٠] نعم احرص على أن تكون من هذه المنزلة واقتدِ بالسابقين وإياك وأن يغرك كثرة الهالكين، فمهما نظرت حولك ووجدت الناس في لهو وفي غفلة، قلوبهم لاهية وألسنتهم جفت لم تذكر الله، لم تزل رطبة بذكر الله كما يفعل المؤمنون، فالمؤمن لا يزال لسانه رطب بذكر الله، لا يغرك كثرة الهالكين. ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة الأنعام آية:١١٦] هؤلاء الناس ألهتهم الدنيا وألهاهم الشيطان وغرتهم الأماني فلا تنظر إليهم، وإنما انظر إلى السابقين كيف كان حالهم، كيف كان المهاجرين وكيف الأنصار (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
أيها الأخ المسلم؛ القبر حفرة مظلمة ضيقة، وقد نصحتكم مرات ومرات بأن تشيعوا الجنازات وخاصة جنازات أصدقائكم وأقربائكم وجربوا مرة أن تنزلوا إلى القبر لتروا أين يكون المصير، انزل إلى القبر مرة ولترى الحفرة التي سوف يوضع فيها جسدك، بل ويُدلِيك إليها أبناؤك وأحبابك ثم يغلقونها عليك وينصرفون تاركينك وحدك، ظلمة وضيق ووحشة، أما الضيق فلا يوسعه إلا رحمة الله ودعاء الناس وشهادة الصالحين، وأما الظلمة فلا ينيرها إلا القرآن أو ذكر الرحمن، وأما الوحشة فلا يؤنسك إلا عملك؛ ركيعات تصليها بالليل والناس نيام، كُلَيمات تُعَلِّمُها للغلمان، دُرَيهِمات تنفقها في بناء المساجد، في إطعام الطعام للفقراء والمساكين، اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة كما قال سيدي رسول الله. فعلى الإنسان أن ينظر في صحيفة أعماله، نعم إنك لا ترى الصحائف فهي بأيدي السَّفَرَة، بأيدي الكَتَبَة، بأيدي الحَفَظَة، لكنك لاشك تستطيع أن تتأمل فيما مضى من حياتك وتتذكر الطاعات وتتذكر المعاصي، والكَيِّسُ كما يقول سيد الخلائق أجمعين عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم: (الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) من دان نفسه: أي اتهم نفسه بالتقصير واستصغر الطاعات واستقلل الصدقات، حين تتهم نفسك بالتقصير وتُدِينُها تعمل على استكمال النقص، أما غير الكَيِّس، غير العاقل، الجاهل الذي يتمنى على الله الأماني، فيتمنى أن يطول به العمر ويتمنى أن يوفقه الله للتوبة بعد الكبر، ويتمنى أن يحج البيت في وقت لاحق، ذلك هو العاجز الذي قعد به عجزه عن إدراك السابقين.
وقد تكلمنا عن أمة النبي وأوضحنا أن الأمة على ثلاثة منازل: المهاجرون وقد مضت منزلتهم، والأنصار وقد مضت منزلتهم، ولم يبق إلا الذين جاءوا من بعدهم؛ المحبون لهم السائرون على دربهم (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أولئك هم إخوان النبي، قد نادى عليهم وقال: "وددنا أنا قد رأينا إخواننا" وحين قال أصحابه: نحن إخوانك يا رسول الله، قال: "بل أنتم أصحابي، إخواننا الذين لم يأتوا بَعْد" نحن إخوانه سمانا بذلك، والأخوة تقتضي أن تحب أخاك، الأخوة تقتضي أن تؤثره، الأخوة تقتضي أن تستغفر له، الأخوة تقتضي أن تداري سوأته، الأخوة تقتضي أن ترفع من شأنه، فهؤلاء الذين لقوا المنزلة الثالثة والباقية الوحيدة هؤلاء هم المحبون لرسول الله ولأصحاب النبي السائرون على دربهم التابعون لهم بإحسان والذين بشرهم ربنا في كتابه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا﴾ [سورة التوبة آية:١٠٠] نعم احرص على أن تكون من هذه المنزلة واقتدِ بالسابقين وإياك وأن يغرك كثرة الهالكين، فمهما نظرت حولك ووجدت الناس في لهو وفي غفلة، قلوبهم لاهية وألسنتهم جفت لم تذكر الله، لم تزل رطبة بذكر الله كما يفعل المؤمنون، فالمؤمن لا يزال لسانه رطب بذكر الله، لا يغرك كثرة الهالكين. ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة الأنعام آية:١١٦] هؤلاء الناس ألهتهم الدنيا وألهاهم الشيطان وغرتهم الأماني فلا تنظر إليهم، وإنما انظر إلى السابقين كيف كان حالهم، كيف كان المهاجرين وكيف الأنصار (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِينَ نَسُوا۟ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ ﴿19﴾
النسيان يُعَبَّر به عن الغفلة وُيَعَّبر به عن الترك. الذين نسوا الله: أي تركوا أمره ونهيه، تركوا العمل بما جاء في كتابه. أو غفلوا عن لقائه ولم يعملوا ليوم اللقاء والحساب، هؤلاء هم الذين نسوا الله. يحذرنا ربنا أن نكون مثلهم: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ﴾ أنساهم أنفسهم: أن يعملوا لها ما يصلحها، نسوا أنفسهم أن يجهزوا لها ما يسعدها، نَسُوا أنفسهم فلم يهيئوا لها الراحة في ظلمة القبر ووحشته وضيقه. ونسيان الإنسان لنفسه من أخطر الأمور وأفظع ما يصاب به الإنسان، ولو نظرت حولك لرأيت كثيراً من الناس قد نسوا أنفسهم فعلاً فهم يعملون لدنياهم الزائلة ويغفلون عن لقاء الله، فهم يكثرون في إملاء المعاصي والعصيان والفسوق، صحائفهم قد اسوَدَّت من كثرة ما ارتكبوا من شرور، يُسَمُّون الأسماء بغير مسمياتها؛ سميت الخمر بغير اسمها وهكذا. أنبأنا رسول الله عن بعض أفراد أمته في آخر الزمان الذين يُسَمُّون الأشياء بغير مسمياتها فيسمي الفسق فناً، ويسمي العري فناً، وتسمى الخمور بغير أسمائها وهكذا، أنت ترى وتسمع وعليك أن تُنكِرَ بقلبك أو تُغَيِّرَ بيدك إن استطعت ذلك فيمن تملك أمرهم. اتق الله ولا تكن كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الفاسقون: الخارجون عن طاعة الله.
والفِسقُ أصلاً الخروج، من قولهم: فَسَقَتِ الرَّطْبَة، أرأيت الرطبة إذا تَرَطَّب البلح؟ إذا تركت التمر حتى استوى وأصبح رُطَباً وإذا أطلتَ تَرْكَها تَفَسَّخَت القشرة وخرجت الرطبة من قشرتها فتعرضت للغبار ولِمَسْك الأيدي القذرة، تعافها النفوس، هنا تُعَبِّر العرب في لغتها عن هذا الحال بقولهم: فَسَقَت الرُّطَبة؛ أي خرجت من قشرتها، تعافها النفوس وتمنع أبناءك من أكلها حتى لا يتلوث جسدهم. هذه الكلمة هي التي يُعَبِّر بها الله عن الخروج عن طاعته، وكأن العبد إذا خرج عن الطاعة خرج عن لباس التقوى الذي أشار إليه ربنا: ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ [سورة الأعراف آية:٢٦] ويحذرنا ربنا يقول: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ [سورة الأعراف آية:٢٧] فنازِعُ لباس التقوى فَاسِق كالرُّطَبة خرجت من قشرتها، لباس التقوى سَتْرٌ في الدنيا وسَتْرٌ في الآخرة، لباس التقوى يجعلك حراً عاقلاً متزناً رافع الرأس لا تخاف إلا الله، أما المعاصي تجعلك جباناً خائفاً مذعوراً مفضوحاً تخشى أن يطلّع عليك أحد، وسوف يأتي يوم الفضيحة حيث يُفضَح العصاة على رؤوس الخلائق. ثم يبين ربنا مصير الفريقين فيقول:
والفِسقُ أصلاً الخروج، من قولهم: فَسَقَتِ الرَّطْبَة، أرأيت الرطبة إذا تَرَطَّب البلح؟ إذا تركت التمر حتى استوى وأصبح رُطَباً وإذا أطلتَ تَرْكَها تَفَسَّخَت القشرة وخرجت الرطبة من قشرتها فتعرضت للغبار ولِمَسْك الأيدي القذرة، تعافها النفوس، هنا تُعَبِّر العرب في لغتها عن هذا الحال بقولهم: فَسَقَت الرُّطَبة؛ أي خرجت من قشرتها، تعافها النفوس وتمنع أبناءك من أكلها حتى لا يتلوث جسدهم. هذه الكلمة هي التي يُعَبِّر بها الله عن الخروج عن طاعته، وكأن العبد إذا خرج عن الطاعة خرج عن لباس التقوى الذي أشار إليه ربنا: ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ [سورة الأعراف آية:٢٦] ويحذرنا ربنا يقول: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ [سورة الأعراف آية:٢٧] فنازِعُ لباس التقوى فَاسِق كالرُّطَبة خرجت من قشرتها، لباس التقوى سَتْرٌ في الدنيا وسَتْرٌ في الآخرة، لباس التقوى يجعلك حراً عاقلاً متزناً رافع الرأس لا تخاف إلا الله، أما المعاصي تجعلك جباناً خائفاً مذعوراً مفضوحاً تخشى أن يطلّع عليك أحد، وسوف يأتي يوم الفضيحة حيث يُفضَح العصاة على رؤوس الخلائق. ثم يبين ربنا مصير الفريقين فيقول:
لَا يَسْتَوِىٓ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۚ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴿20﴾
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أبداً ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [سورة الجاثية آية:٢١] ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر آية:٩] ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [سورة السجدة آية:١٨] لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة عند الله في الدنيا ولا في الآخرة. ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [سورة آل عمران آية:١٨٥] فهي منقضية، من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. نعم أصحاب الجنة هم الفائزون برضوان الله، الفائزون بستر الله، الفائزون في الدنيا بنجاح مقاصدهم وفلاح أولادهم الفائزون في الآخرة بالنجاة من العذاب، الفائزون في الآخرة بأن يُظِلُّهُم الله بِظِلِّ عرشه حيث لا يرون شمساً ولا زمهريراً، أصحاب الجنة هم الفائزون. ثم يعاتب ربنا قساة القلوب ويَمْتَنُّ على حبيبه المصطفى حيث ثَبَّتَه لما لا تثبت له الجبال، فيقول الله عز من قائل:
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَـٰشِعًۭا مُّتَصَدِّعًۭا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿21﴾
"لو" حرف امتناع الشيء لامتناع غيره ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ لو حدث ذلك، والأمر تخييل وتمثيل وتصوير لمن يعرف، لو أن الله (تبارك وتعالى) رَكَّب في الجبال عقولاً تَعقِل وأنزل القرآن على جبل يَعقِل لَتَصَدَّع وتَشَقَّق من الخوف من الله أن يعصيه، ورأيته خاشعاً أي ذليلاً خاضعاً لأوامره. فهناك وصفان: وصف الخشوع ووصف التَّصَدُّع؛ أما الخشوع فهو التذلل والخضوع للأمر، فالقرآن فيه أوامر؛ افعل كذا افعل كذا، لو نزلت الأوامر على الجبل لأطاع وخشع وذل وخضع للأمر. ولو نزلت النواهي التي هي القرآن على الجبل لخاف وتَصَدَّع خشية أن يعصي، فإذا سمع الجبل قول الله: (لا تقربوا الزنا) لتصدع من قبل أن يَقْرَبَ الزنا لمجرد التهديد، لمجرد الخوف، هذا هو حال من يَعقِل، إذا رأيتَ الجبار مُهَدِّداً خفت ولو لم تعصه، ولو لم ترتكب شيئاً، تخاف لمجرد التهديد. وكذلك إذا رأيت الجبار قد أَمَرَ تخشع وتَذِلّ وتخضع للأمر من قبل أن تطيع، هذا هو حال العاقل؛ أن يخشع ويخضع للأمر، فإذا خشع وخضع وذل للأمر أطاع طاعة العبد للسيد، طاعة المملوك للملِك. وإذا سمع التهديد والوعيد خشي وخاف وتصدع فامتنع وتَجَنَّب وتباعد عن المعاصي وعن كل ما يغضب الجبار. ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ إذا ًفالجبال لا تَثْبُت لكن محمداً (صلى الله عليه وسلم) ثَبَّتَه الله، فالآية فيها الامتنان؛ يا محمد ثبتناك لما لا تَثْبُت له الجبال.
وفي الآية أيضاً تهديد ووعيد للكفار وللعصاة الذين لم يُؤَثِّر فيهم القرآن، الذين قَسَت قلوبهم فكانت كالحجارة أو أشد قسوة، تهديد لهم إذا كان الجبل لا يتحمل فكيف أنتم تحملتم وعصيتم وصَمَمْتُم الآذان عن استماعه والعمل بما جاء فيه؟ والآية أيضاً عتاب للمسلمين الذين يزعمون الإسلام لكنهم يتباعدون عن القرآن، القرآن فيه حُكمُ ما بيننا، هل نتحاكم بالقرآن؟ القرآن فيه خبر من قبلنا، هل تدبرنا واتعظنا كي لا نكون مثلهم ولا يحلّ علينا ما حلّ بهم؟ القرآن فيه نبأ ما بعدنا، هل تأملنا هذه المعجزات وكيف أخبرنا القرآن بما سوف يكون ذاك الإعجاز؟ هذا هو القرآن. ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ إذا فهو تمثيل وتخييل وتصوير (تلك الأمثال نضربها للناس) للناس جميعاً، من آمن ومن كفر، من آمن يتعظ ويدرك ما فاته، والكافر يُهَدَّد ويُتَوَعَّد، تُلزِمُهُ الحُجَّة.
أيها الأخ المسلم؛ إلى متى تخاصم القرآن؟ إلى متى تتجنب سماع كلام الملك الديان؟ ولتنظر نفس ما قدمت لغد، هل سهرت بالأمس؟ هل أمتعت عينيك وأذنيك بما تذيعه وسائل الإعلام؟ هل قرأت صحيفة اليوم؟ هل تصفحت الجرائد؟ لو حسبت الوقت التي تقضيه في قراءة الجرائد وفي الاستماع إلى وسائل الإعلام، احسِب قبل أن تُحاسَب ويُحسَب عليك، احسِب الوقت، واحسِب الوقت الذي تقضيه مع الله، فأنت إذا نظرت في المصحف وقرأت القرآن كان الله هو المتكلم وأنت السامع، فأنت تقرأ بصوتك، بلسانك، ولكن المتكلم هو الله، وربنا يقول: "أنا جليس من ذَكَرَني" أما عَلِمْتَ أن الله (تبارك وتعالى) أوحى إلى أحد أنبيائه: "ألا تحب أن أسكن معك في بيتك؟ " فخر ساجداً: وكيف يا رب؟ قال: "أما عَلِمْتَ أني جليس من ذَكَرَني؟ " فكيف تترك الله وتجالس الشيطان وجنوده؟ ويحذرنا النبي في آخر الزمان -والذي نحن فيه- من دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قالوا: صِفْهُم لنا يا رسول الله، قال: "هم أناس من جِلْدَتِنَا يتكلمون بألسنتنا" هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم الذين يَدْعُون النساء للعري وللزينة وللخروج من بيتها، سَتَرَها الله فكشفت سِتْرَ الله عليها وخرجت تحارب الله ورسوله بما منحها من نِعَم وجمال مزعوم. وكذلك الدعاة للرجال للهو ولنقل مباريات اللهو واللعب بالأقمار الصناعية وإنفاق ملايين الجنيهات على ذلك، وعلى وعلى وعلى. والمصحف في سيارتك للتَّبَرُّك ويشكو إلى الله الهجران، بل ونبينا يشكو إلى الله: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القران مهجوراً) احسِب لنفسك ولا تدع أحداً يحسب لك، احسب واقرأ صحيفتك وانظر كم من الوقت تقضيه في العصيان وفي اللهو، وكم من الوقت تقضيه مع الله الرحمن الرازق.
وفي الآية أيضاً تهديد ووعيد للكفار وللعصاة الذين لم يُؤَثِّر فيهم القرآن، الذين قَسَت قلوبهم فكانت كالحجارة أو أشد قسوة، تهديد لهم إذا كان الجبل لا يتحمل فكيف أنتم تحملتم وعصيتم وصَمَمْتُم الآذان عن استماعه والعمل بما جاء فيه؟ والآية أيضاً عتاب للمسلمين الذين يزعمون الإسلام لكنهم يتباعدون عن القرآن، القرآن فيه حُكمُ ما بيننا، هل نتحاكم بالقرآن؟ القرآن فيه خبر من قبلنا، هل تدبرنا واتعظنا كي لا نكون مثلهم ولا يحلّ علينا ما حلّ بهم؟ القرآن فيه نبأ ما بعدنا، هل تأملنا هذه المعجزات وكيف أخبرنا القرآن بما سوف يكون ذاك الإعجاز؟ هذا هو القرآن. ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ إذا فهو تمثيل وتخييل وتصوير (تلك الأمثال نضربها للناس) للناس جميعاً، من آمن ومن كفر، من آمن يتعظ ويدرك ما فاته، والكافر يُهَدَّد ويُتَوَعَّد، تُلزِمُهُ الحُجَّة.
أيها الأخ المسلم؛ إلى متى تخاصم القرآن؟ إلى متى تتجنب سماع كلام الملك الديان؟ ولتنظر نفس ما قدمت لغد، هل سهرت بالأمس؟ هل أمتعت عينيك وأذنيك بما تذيعه وسائل الإعلام؟ هل قرأت صحيفة اليوم؟ هل تصفحت الجرائد؟ لو حسبت الوقت التي تقضيه في قراءة الجرائد وفي الاستماع إلى وسائل الإعلام، احسِب قبل أن تُحاسَب ويُحسَب عليك، احسِب الوقت، واحسِب الوقت الذي تقضيه مع الله، فأنت إذا نظرت في المصحف وقرأت القرآن كان الله هو المتكلم وأنت السامع، فأنت تقرأ بصوتك، بلسانك، ولكن المتكلم هو الله، وربنا يقول: "أنا جليس من ذَكَرَني" أما عَلِمْتَ أن الله (تبارك وتعالى) أوحى إلى أحد أنبيائه: "ألا تحب أن أسكن معك في بيتك؟ " فخر ساجداً: وكيف يا رب؟ قال: "أما عَلِمْتَ أني جليس من ذَكَرَني؟ " فكيف تترك الله وتجالس الشيطان وجنوده؟ ويحذرنا النبي في آخر الزمان -والذي نحن فيه- من دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قالوا: صِفْهُم لنا يا رسول الله، قال: "هم أناس من جِلْدَتِنَا يتكلمون بألسنتنا" هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم الذين يَدْعُون النساء للعري وللزينة وللخروج من بيتها، سَتَرَها الله فكشفت سِتْرَ الله عليها وخرجت تحارب الله ورسوله بما منحها من نِعَم وجمال مزعوم. وكذلك الدعاة للرجال للهو ولنقل مباريات اللهو واللعب بالأقمار الصناعية وإنفاق ملايين الجنيهات على ذلك، وعلى وعلى وعلى. والمصحف في سيارتك للتَّبَرُّك ويشكو إلى الله الهجران، بل ونبينا يشكو إلى الله: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القران مهجوراً) احسِب لنفسك ولا تدع أحداً يحسب لك، احسب واقرأ صحيفتك وانظر كم من الوقت تقضيه في العصيان وفي اللهو، وكم من الوقت تقضيه مع الله الرحمن الرازق.
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ۖ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴿22﴾
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿23﴾
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِئُ ٱلْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿24﴾
نعم إي وربي! إن سَبَّحْتَ طوعاً كان لك الأجر وكنت في معية الله، وإن لم تُسَبِّح طوعاً سَبَّحَت ظلالك كرهاً. أيها الأخ المسلم، إذا انتهت شفاعة الشافعين يوم القيامة شفع النبي وحُدَّ له الحدود فيشفع لما حُدَّ له وتنتهي شفاعته، ويشفع العلماء ويشفع الشهداء ويشفع الأنبياء وتنتهي الشفاعات، ينادي ربنا بعد أن كاد أن ييأس الموحدون الذين حبستهم المعاصي في جهنم فلم تدركهم شفاعة النبي المختار ولم تدركهم شفاعة العلماء أو الشهداء، لم تدركهم شفاعة أحد، كاد اليأس أن يملأ قلوبهم، هنا وهنا فقط ينادي الملك العلي الأعلى: "يا ملائكتي أَخْرِجُوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام". تُختَم سورة الحشر بكلام الله عن نفسه، فقد حدثتنا سورة الحشر عن الناس؛ عن المؤمنين ومنازل المؤمنين، عن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، حدثتنا عن الكفار وعن المنافقين، وَجَّهَتْنَا ووعظتنا وحذرتنا ونبهتنا، ثم يأتي بعد ذلك كلام الله عن نفسه، فيصف (سبحانه وتعالى) نفسه فيقول: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(٢٢)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(٢٣)هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٢٤)﴾ (هُوَ اللَّهُ) كلمة (الله) في الأصل: إله. وكلمة (إله) تعني كل معبود، وحُذِفَت الهمزة وعُوِّض عنها بالألف واللام فأصبحت (الله). و (الله): الاسم الجامع والاسم الكبير، بل هو أكبر الأسماء وأجمعها، وقيل بل هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وإذا دُعِيَ به أعطى.
(الله) عَلَمٌ على الذات العلية، عَلَم على الله، على الذات الموصوفة بصفات الكمال والمنعوتة بنعوت الجلال، ولا يطلق هذا اللفظ على غير الله مصداقاً لقوله عز وجل: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). واسم الله لا يضاف إلى الأسماء بل تضاف إليه الأسماء، فهو يُوصَف ولا يَصِف، فنقول: اللهُ الرحمن الرحيم، ولا يصح أن نقول: الرحمن الرحيم الله. ولفظ (الله) لفظ الجلالة قيل إنه مشتق من قولهم: ألِهَ يَألَهُ إلهاً أي: عَبَد، ومنه تأَلَّه واستأله، فهو المعبود الحق والموجود الحق. وقيل من أَلهَ: إذا سَكَن، أَلهَ إليه: سكن إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته. وقيل من ألَّهَ إذا تحيّر، لأن العقول تتحير في معرفته. وقيل: بل من أَلُهَ إذا فَزِعَ من أمر نزل به، إذ العباد يفزعون إليه ويلجئون إليه. وقيل: بل أَلُهَ الفصيل إذا فُصِلَ الرضيع عن أمه تعلق بها ووَلِعَ بها، لأن العباد يولعون بالتضرع إليه واللجوء إليه في الشدائد. وقيل: من لَاهَ يَلِيهُ لَيْهَاً: ارتفع واحتجب، لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار. وأياً كان القول فاسم الله، (الله) عَلَم على الذات المخصوصة، الذات المتصفة بصفات الكمال والمنعوتة بنعوت الجلال، الذات العلية المتفردة بالوجود الحقيقي، هو الله الذي لا إله إلا هو. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ الغيب: ما غاب عن الحاسة، والشهادة: ما أدركته الحواس. الغيب: ما يكون، والشهادة: ما قد كان. الغيب: الآخرة، والشهادة: الدنيا. وقُدِّمَت كلمة الغيب لأن الغيب أصل، فقد كان الله ولم يكن شيء وكان كل شيء في الغيب، والغيب يتعلق به علم الله الأزلي فقُدِّمَ الغيب على الشهادة. هو عالم الغيب والشهادة، عالم السر والعلن، عالم ما ظهر وما خفي، عالم ما كان وما يكون.
﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ والتأكيد على وحدانية الله وعلى انفراده بهذه الصفات يتضح من قوله (لا إله إلا هو) أي لا مستحق للألوهية ولصفات الربوبية إلا الله، (هو الله الذي لا إله إلا هو) أي لا معبود بحق إلا هو. (هو عالم الغيب والشهادة) هو العالم بالشهادة، ويستوي علمه بالغيب مع علمه بالشهادة، لا يزيد ولا ينقص، لا تتطرق إليه شبهة ولا يتطرق إليه خفاء. (هو الرحمن الرحيم) والرحمن والرحيم صفتان واسمان رقيقان من أسماء الله مشتقان من الرحمة، يدلان على اتصاف الله بالرحمة على ما يليق بجلاله. والرحمن: اسم ووصف، فمن حيث هو وصف جاء تابعاً لاسم الله في قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) فوصف كلمة الله بكلمة الرحمن فهو وصف. ومن حيث هو اسم جاء غير تابع لاسم الله في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه آية:٥] وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ(١)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(٢)﴾ [سورة الرحمن آية:١- ٢] وفي قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [سورة الإسراء آية:١١٠] فهو اسم ووصف. وكلمة الرحمن تدل على أن الله متصف برحمة هي فوق مقدورات العباد، واسم الرحمن يختص به الله ولا يطلق على سواه، أما اسم الرحيم فقد يطلق على سواه، ورحمة الله تامة عامة، فمن حيث تمامها أنه إذا أراد قضاء حاجة المحتاج قضاها فهو الفعال لما يريد، فقد يكون هناك رحيم من العباد يريد أن يرحم إنساناً أو يقضي حاجته ولكنه لا يستطيع أن يوصل إليه النفع، قد يُمنَع وقد لا يصل إليه، أما الله فإذا أراد قضاء حاجة المحتاج أو أراد رحمة المرحوم أوصل إليه حاجته وفعل ما يريد، فرحمته (سبحانه وتعالى) تامة. وأما من حيث هي عامة فقد شملت المستحق وغير المستحق، وعَمَّت الدنيا والآخرة، وتناولت الضرورات والحاجات بل والمزايا الخارجة عنها. وهو (سبحانه وتعالى) رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وقيل بل هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة.
الرحمن عَمَّت رحمته الدنيا والآخرة وشملت المستحق وغير المستحق، ألا تراهم يكفرون به ويرزقهم؟ ويعصونه ويسترهم؟ هو الرحمن. وهو الرحيم الذي يختص برحمته المؤمنين في الآخرة، يكتبها للمتقين، ومهما ترى في هذه الدنيا من بلاء أو مصائب أو شدائد فهي من قبيل الرحمة، فإفاضة الخير على الناس رحمة والخير مراد لذات الخير يريده الله، والشر غير مراد لذاته فالله لا يريد الشر لذات الشر وإنما ما تراه من بلاء وشرور ومصائب ما هو إلا رحمة، والبلية نعمة خفية، وربنا ينبهنا لذلك ويقول: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [سورة البقرة آية:٢١٦] وما من أمور تحدث في هذا الكون إلا وهي من رحمة الله، إن كان خيراً فبمحض رحمته وفضله وإن كان شراً فلأن الخير مراد في هذا الشر ولكن الشر يظهر للناس بحسب تفكيرهم وعقولهم، والشر غير مراد لذات الشر وإنما يراد الشر لما في طياته من خير ورحمة، رحمة الله تامة عامة، هو الرحمن وهو الرحيم. (الْمَلِكُ) الملِك: الذي لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته لشيء أو لأحد ويحتاجه كل شيء في وجوده وبقائه وصفاته، فما من موجود في هذا الوجود إلا وهو محتاج لله (تبارك وتعالى) في وجوده وفي بقائه وفي أفعاله وصفاته، وما من وجود إلا وهو مُسْتَمَد من الله أو مما هو مِنَ الله. وكل مَلِك في الدنيا يملك قد يحتاجه بعض الأشياء ولا تحتاجه كل الأشياء، وهو ملك على بعض الناس وليس على كل الناس، هو ملك على صنف من الأصناف، حتى في الحيوانات والطيور والحشرات والهوام، أي ملك في أي مملكة فمُلْكُهُ محدود ولابد وزائل إما بالموت أو باستيلاء الغير عليه، وما من ملك في الدنيا إلا وهو محتاج فقير إلى الله أولاً، محتاج لتأييد الرعية، محتاج للدواء والعلاج، فهو ناقص ومحتاج.
والملك المطلق هو الله الذي لا يحتاج لشيء، بل قد كان ولم يكن هناك شيء، وكل شيء محتاج إليه، هو ربنا كان ولم يكن شيء ثم خلق الوجود، فهو الملِك وهو المالِك للمُلْك والملكوت المتسلط بالقهر والجبروت، ربنا مَلِكُ الدنيا ومَلِكُ الآخرة، مَلِكُ المُلْك ومَلِكُ الملكوت ومَلِكُ يوم الدين. وفي يوم القيامة تسقط الدعاوى كلها وينادي الملك الحق: (لِمَنِ المُلْكُ اليوم)؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه ويقول: (لله الواحد القهار). ويطوي السماوات ويقبض الأرض بيمينه ويرجها رجاً ويقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) هو الملك الحق، هو الله. (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) وكرر النفي والإثبات (لا إله إلا هو) نفي لكل ألوهية وإثبات لألوهية الله فقط، نفي لجميع الآلهة وكل ما يُعبَد من دون الله وإثبات لألوهية الله الموجود الحق والمعبود الحق المستحق لصفات الكمال ولنعوت الجلال. (هو الله): يكرر (هو الله) أي لاشيء سواه (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) القدوس: من القُدْس، والقدس: الطهارة، ومنه الأرض المقدسة. والمتصف بهذا الاسم هو المنزّه عن النقائص والآفات المتصف بكل صفات الجلال والكمال. وغاية ما فعله الناس أنهم قسموا صفاتهم إلى صفات كمال وصفات نقص، فنزهوا الله عن صفات نَقْصِهِم وهو (سبحانه وتعالى) منزه عن صفات كمالهم، فربنا منزه عن صفات الكمال المتعارف عليها عند البشر، بل هو سبحانه وتعالى منزه عن كل وصف يدركه الحس أو يتصوره الخيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقض به تفكير، هو (سبحانه وتعالى) المنزّه عن كل عيب وعن كل آفة، بل هو المنزه عن صفات الكمال التي تعارف عليها البشر، هو الله القدوس.
(السَّلَامُ) ومعنى السلام أو معنى قولنا السلام: النِّسْبَة؛ أي ذو السلامة أو ذو السلام، أي الذي سَلِمَ الخلق من ظُلْمِه وسَلِمَ المؤمنون من عقابه، وهو المُسَلِّم على المؤمنين في دار القرار ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [سورة يونس آية:١٠] ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [سورة يس آية:٥٨] وهو ذو السلامة أي الذي تَسْلَم ذاتُه عن كل عيب، وتَسْلَم صفاتُه عن كل نقص، وتَسْلَم أفعالُه عن كل شر. وربنا إذا أحدث شرا ًفي نظر الناس في هذه الدنيا فما هو بالشر بل هو خير محض، فما أراد الشر لذاته. والسلام (سبحانه وتعالى) هو الذي صدر منه كل سلام وكل سلامة، فما من سلامة في هذه الدنيا إلا وهي صادرة من السلام (سبحانه وتعالى) (الْمُؤْمِنُ) والإيمان: التصديق، والمؤمن قد تعني المُصَدِّق والمُصَدَّق، أي المُصَدِّق لرسله بإظهار المعجزات والكرامات على أيديهم، بل هو المُصَدِّق لنفسه بأنه الصادق في وعده ووعيده، وهو أيضاً المؤمن بنفسه والمُصَدِّق لنفسه والشاهد لنفسه بالوحدانية حيث يقول: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [سورة آل عمران آية:١٨] والمؤمن يفيد الأمن والأمان، فما من أمن وأمان إلا وهو مستفاد من المؤمن سبحانه وتعالى، والأمان لا يكون إلا في محل الخوف، والخوف يكون من النقص، من الهلاك، من العدم، والأمان في هذه الدنيا مستفاد مما خلقه الله، والخلائق ضعاف فما من خلق إلا وهو ضعيف ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية:٢٨] والمخلوقات ضعيفة فأمدها الله بوسائل الحماية والأمن، فأمد الإنسان على سبيل المثال الحواس، والحواس تدرك المخاوف قبل أن تقع فتسمع الصوت وتميز إن كان شراً أو كان خيراً، وتتلمس الأشياء فتعرف البارد والحار، بالحاسة تستطيع أن تشكل لنفسك الأمن مما تخاف. أيضاً الجوارح؛ فاليد تبطش، واليد تدافع، بل والقدم تساعدك على الفرار.
أيضاً خَلَقَ للإنسان الحصون والقلاع والدروع والسلاح، والإنسان معرض للهلاك من الخارج ومعرض للهلاك من الداخل، معرض للهلاك من الداخل بالأمراض والآفات فخلق له الدواء، ومعرض للآفات والهلاك من الخارج بالأعداء فخلق له وسائل الحماية. هو المؤمن الذي أعطى الإنسان الأمن، وإذا نظرت في الملك كله وجدت ذلك فوجدت الطيور زُوِّدَت بأجنحة تطير بها بعيداً عن مصادر الخوف والخطر، ومن حُرِمَ من الحواس أو الجوارح أو الأجنحة أو وسائل الهرب مُنِحَ وسائل التخفي والتشكل، فتجد بعض الزواحف تتشكل وتتلون بألوان البيئة المحيطة فتخفى عن الأعين، أعطاها وسيلة الأمن وأعطاها وسائل الأمان، ما من أمن وما من أمان إلا وصادر من المؤمن، هو الذي خلق وسائل الأمان والأمن، بل وألهم المخلوقات كيف تستخدم وسائل الأمن، فألهمنا صناعة الدروع حيث عَلَّمَ داوود: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [سورة الأنبياء آية:٨٠] عَلَّمَنا صنعة الدروع وعلمنا صنعة السلاح وهكذا. وأخوف ما يخافه الإنسان هو خوف العذاب، هو خوف العقاب، هو خوف الهلاك، وقد تَفَضَّل علينا المؤمن (سبحانه وتعالى) فأعطانا وسيلة الأمن من هلاك الآخرة فألهمنا كلمة التوحيد، وهو (سبحانه وتعالى) القائل: (لا إله إلا الله كلامي وأنا هو فمن قالها دخل حصني وأمن عقابي) نعم هو الله المؤمن. (الْمُهَيْمِنُ): القائم على مخلوقاته وخلقه بالحفظ والعناية والرعاية، المهيمن هو القائم على أفعال عباده وأرزاقهم وآجالهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو المشرف على كُنْهِ هذا العالم بالحفظ والعناية والاستيلاء فهو المستولي على كل شيء، بيده ناصية كل شيء. وحفظ الله وعنايته ورعايته لكل الموجودات يُحدِث التوازن في هذا الكون كله، فهو المانع للجور والتعدي، المهلِك والمستأصِل، هيمنة الله على الوجود شملت كل موجود، يحفظ ويرعى ويكلأ ويشرف ويطلع ويستولي، هذه الهيمنة.
بعد أن أعطى الأمن والأمان هذه الهيمنة هي التي تحفظ التوازن، ولو نظرت إلى الكون لوجدت التوازن الدقيق الذي وضعه المهيمن، فلو طغى شيء على شيء لضاعت الدنيا، لو طغى القوي على الضعيف ولو انفرد إنسان بالملك أو السلطة على العالم لحدث الظلم، ولو انفردت دوله بالقوة والجبروت لضاعت الدول، ولو انفرد مخلوق في الغابة في الوحوش بالقوة لضاعت كل الحيوانات والطيور، ولكن التوازن؛ توازن في الإيجاد، توازن في الخلق، توازن في الوجود، توازن في الصراع، توازن في كل شيء، لا يفعل هذا إلا المهيمن (سبحانه وتعالى) هو الله. (الْعَزِيزُ) العزيز (سبحانه وتعالى) هو الله، والعزيز من الأشياء: النادر الذي يصعب وجود مثله. ويعني أيضاً الممتَنِع الذي لا يُدرَك. والعزيز أيضاً من العزة، والعزة هي القوة والغلبة. والعزيز المطلق هو الله الذي جَلَّت مكانته فلا يَذِلّ، والذي بَعُدَ عن إدراك الأفهام، والذي لا مثيل له ولا شبيه، القوي الغالب القاهر لا تدركه الأفهام ولا تصل إلى كنه ذاته العقول، ولا شبيه له ولا مثيل بل هو المنفرد بالوجود الحقيقي. (الْجَبَّارُ) الجبار في وصف الله مدح وفي وصف المخلوق ذَمّ. الجبار الذي تنفذ مشيئته في كل أحد على سبيل الجبر ولا تنفذ فيه مشيئة أحد. الجبار الذي لا يخرج أحد عن قبضته وتقصر الأيدي دون حمى حضرته. والجبار أيضاً من الجَبر، والجَبر: الإصلاح، جَبَرْتُ الشيء: أصلحتُه. فهو (سبحانه وتعالى) يَجبُرُ أحوال العباد، يصلح أحوالهم فيجبر الكسير ويغني الفقير ويشفي العليل، هو الله. (الْمُتَكَبِّرُ) المتكبر الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة لذاته، ولا يرى الكمال والجلال والمجد إلا لنفسه. والكِبْر والكبرياء إخبار عن استحقاق الله لصفات الكمال ولنعوت الكمال ولنعوت الجلال، هو الموجود الحق على الإطلاق.
وربنا في كبريائه هو المستحق لهذا التكبر والكبرياء، فلا أكبر منه ولا أعظم منه، المتكبر من حيث الصفة، والوصف من صفات الذات العلية فهي صفة ذات. وإن كانت في العباد فهي مذمومة، ذَمَّها الله وكرهها، ويحشر المتكبرون يوم القيامة كهشيم الذَّرِّ يطؤهم الناس لهوانهم على الله. وربنا يحدثنا ويقول في حديثه القدسي: (العظمة ردائي والكبرياء إزاري فمن نازعني فيهما قَصَمْتُهُ ولا أبالي) هو المتكبر المطلق، هو المتكبر الحق. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نعم سبحانه وتعالى عما يشركون، هذا هو الله (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) أشركوا به مخلوقات؛ أشركوا به عيسى بن مريم، أشركوا به عُزَير، أشركوا به الأصنام، أشركوا به الملائكة. هذا هو وصف الله هو الله (تبارك وتعالى) يحدثنا عن نفسه (سبحان الله عما يشركون) نعم سبحانه وتعالى. يخبرنا الله عن ثلاث صفات من صفاته مترابطة متلازمة حيث يقول: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) الخَلْق: التقدير، والإبراء: الاختراع والإخراج من العدم، والتصوير: ترتيب صور الأشياء وترابط أجزاء الأشياء. وما من شيء خرج من العدم إلى الوجود إلا وهو محتاج للتقدير أولاً، ثم الإخراج من العدم ثانياً، ثم التصوير ثالثاً. فمن حيث التقدير ربنا هو الخالق، ومن حيث الإخراج من العدم إلى الوجود والاختراع هو سبحانه وتعالى البارئ، ومن حيث ترتيب صور الأشياء وترابط الأجزاء وارتباط البعض بالبعض هو (سبحانه وتعالى) المصور، هو الخالق البارئ المصور.
ولابد من العلم أن لله صفات ذاتية وصفات فعلية، صفات الذات هي الصفات التي لا تنفك عن الذات بل هي لازمة للذات أزلاً وأبداً كصفات العلم والحياة والقدرة والجلال والمجد والسمع والبصر، تلك صفات ذاتية لازمة للذات لا تنفك عنها أزلاً أو أبداً ولا تتعلق بمشيئة الله ولا تتعلق بقدرته، فهو الحي أزلاً وأبداً ولا علاقة لحياته بمشيئته أو بقدرته، بل هو الحي المطلق. وهناك صفات أفعال كالخالق البارئ المصور هي من صفات الأفعال، وصفات الأفعال هي صفات لله أزلاً وأبداً لكنها تتعلق بالمشيئة وتتعلق بالقدرة، فربنا لم يزل هو الخلاق هو البارئ وهو المصور وهو الفعال لما يريد، بمعنى أن الصفة من حيث النوع قديمة ومن حيث أفراد تلك الصفة من أفعال فهي حادثة تحدث شيئاً فشيئاً، حيناً بعد حين وفقاً لمشيئته وحكمته وقدرته، فهو الخلاق والخالِق قبل الخَلْق وقبل أن يَخلُق، فهو الخالق من قبل وجود الخلق أزلاً وهو الخالق أبداً، والمخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً وتوجد في الوجود حيناً بعد حين وفقاً لمشيئة الله وقدرته. فالصفات الذاتية لا تتعلق بالمشيئة ولا بالقدرة بل هي صفات لازمة للذات أزلاً وأبداً، والصفات الفعلية صفات تتعلق بالمشيئة، إذا شاء فعل، هو خالق لكنه لا يخلق إلا بمشيئته، فإن أراد فعل، فهي صفات تتعلق بالمشيئة وتتعلق بالقدرة، فتنفذ مشيئته بقدرته فيما يريد فيقع ما يريد. من هنا كانت صفات الفعل: الخالق والباري والمصور توضح لنا أن الله حين أراد الخلق قَدَّرَه أولاً ثم أوجده ثانياً ثم صَوَّرَه ثالثاً.
ولكي يتصور هذا الوصف يجب أن ننظر إلى صورة العالم بل العوالم في مرجوعها وفي تفصيلها، فما العالم إلا كجسد واحد له أعضاء متركبة متعاونة لأداء الغرض المطلوب منها، العالم كله بسمواته وأراضيه وكواكبه ومخلوقاته جسد واحد، فأنت مرتبط بالأرض ومن غير الأرض أين تكون وأين توجد وعلى أي شيء تمشي؟ والأرض مرتبطة بالشمس ولولا الشمس لضاعت الأرض في الفضاء، لولا جاذبية الشمس لضاعت الأرض في الفضاء، ولولا الدفء لتجمدت المياه، فالأرض مرتبطة بالشمس، والقمر مرتبط بالأرض، والشمس مرتبطة بباقي النجوم، والنجوم مرتبطة بعضها ببعض، وكل ذلك مرتبط بالسماء، والسماء مرتبطة بسماء غيرها وهكذا. فالكون كله والعالم كله جسد واحد يحتاج للترابط والتوازن والتصوير، فمن حيث الخلق ذاك تقدير الله؛ قَدَّرَ أن يُوجِد هذه الموجودات. وهو البارئ حيث أخرج كل ذلك من العدم، فقد كان الله ولم يكن شيء غيره، أخرج كل ذلك من العدم، هو البارئ. هو المصور حيث رتب أشكال الموجودات ونظم العلاقة بينها وربط أجزاءها ببعض، وكما تتصور هذا الإتقان في العالم بل العوالم ككل يجب أن تنظر إلى أصغر شيء في هذا الوجود: النملة، هو الخالق البارئ المصور، ارتباط أعضاء النملة ببعضها، جهازها العصبي والحسي، بل كيف تأكل وكيف تقضي الحاجة، كيف تخزن الطعام، بل والذَّرَّة -وهي أصغر شيء أو من أصغر الأشياء إذا لم تتفتت- نواتها وجزيئاتها وارتباط ذلك ببعض، هذا النظام لو اختل فيه شيء لانهدم النظام كله، لو ابتعدت الشمس قليلاً لضاعت الأرض، لتجمد الناس في أماكنهم و لتجمدت المياه في الأنهار والبحار، ولو اقتربت الشمس قليلاً لاحترق كل ما على الأرض وهكذا. لو نظرت حولك لوجدت الهيمنة الحقيقية للمهيمن الذي حفظ كل شيء وقام على كل شيء ورتب كل شيء وقَدَّر كل شيء وصَوَّر كل شيء، في أكبر الأشياء وهو العالم المترابط وفي أصغر الأشياء وهي الذَّرَّة والنملة والنحلة.
والنملة كيف تمشي؟ كيف تستدفئ؟ كيف تتقي البرد وكيف تتقي الحر؟ هو الخالق هو البارئ هو المصور. ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ والحُسنى: تأنيث الأحسن. نعم له الأسماء الحسنى، وكل أسماء الله حسنى لأنها صفات جلال وصفات مجد وصفات كمال، حتى كلمة المُذِلّ من الأسماء الحسنى لأنه لا يُذِلُّ إلا من وجب عليه الذل، ولا يُذِلُّ إلا لكي يُعِزّ، فيُذِلُّ الذليل ليُعِزَّ العزيز، يُذِلُّ الأعداء ويُعِزُّ الأولياء، فما من اسم من أسمائه (سبحانه وتعالى) إلا وهو من الأسماء الحسنى، له الأسماء الحسنى التي تتضمن صفات الجلال والكمال، له الأسماء الحسنى. (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نعم هو العزيز الغالب القوي الذي لا يُدرَك، الذي لا يُنَال، الذي لا تدركه العقول والأفهام، الممتنع القوي الغالب القاهر، ليس له شبيه وليس له مثيل، المنفرد بالوجود الحقيقي. الحكيم، والحكمة: إتقان الفعل وحسن التدبير. الحكمة أيضاً وضع الشيء في موضعه. الحكمة: الإصابة في القول والعمل. وربنا هو الحكيم وهو القائل عن نفسه: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة النمل آية:٨٨] وهو القائل: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [سورة المؤمنون آية:١٤] وهو القائل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [سورة السجدة آية:٧] فالحكمة: حسن التدبير وإتقان الفعل، الإصابة في القول والعمل، أيضاً وَضْعُ كل شيء في موضعه، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، تلك هي الحكمة. والحكيم هو الذي يعرف أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وأفضل الأشياء على الإطلاق هو الله، وأفضل العلوم على الإطلاق العلم بالله، فربنا هو العالم بذاته وبصفاته وأسمائه من الأزل، فهو العالم بأفضل العلوم لأفضل الأشياء ألا وهو الله.
وانظر إلى الخلق كيف أتقنه الله وأحكمه وأحسن خلقه، وانظر إلى أي شيء وحاول أن ترتب تريباً آخر وانظر إلى النتيجة، أرأيت إن كانت عيناك في ظهرك أكان أفضل؟ أرأيت لو كنت تزحف أو تمشي على بطنك أكان أفضل؟ لو كنت تمشي على أربع كما يمشي الحيوان أكان أفضل؟ وانظر إلى كل شيء، حاول أن تعيد الترتيب لن تجد أفضل ولا أتقن ولا أحسن من صنع الله الذي أتقن كل شيء، نعم هو الحكيم. ومن الغريب أن تُختَم سورة الحشر بالتسبيح كما افتُتِحَت بالتسبيح للإشعار بأن التسبيح هو المقصود وهو الغاية، هو المبدأ وهو النهاية، وغاية المعرفة بالله هو تنزيه الله عما تصورته العقول. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي: "من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل او نهار وقبضه الله في تلك الليلة أو في ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة" وقال فيما يرويه أبو أمامة الباهلي: "من قرأ سورة الحشر غُفِرَ له ما تقدم ومن ذنبه وما تأخر" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(الله) عَلَمٌ على الذات العلية، عَلَم على الله، على الذات الموصوفة بصفات الكمال والمنعوتة بنعوت الجلال، ولا يطلق هذا اللفظ على غير الله مصداقاً لقوله عز وجل: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). واسم الله لا يضاف إلى الأسماء بل تضاف إليه الأسماء، فهو يُوصَف ولا يَصِف، فنقول: اللهُ الرحمن الرحيم، ولا يصح أن نقول: الرحمن الرحيم الله. ولفظ (الله) لفظ الجلالة قيل إنه مشتق من قولهم: ألِهَ يَألَهُ إلهاً أي: عَبَد، ومنه تأَلَّه واستأله، فهو المعبود الحق والموجود الحق. وقيل من أَلهَ: إذا سَكَن، أَلهَ إليه: سكن إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته. وقيل من ألَّهَ إذا تحيّر، لأن العقول تتحير في معرفته. وقيل: بل من أَلُهَ إذا فَزِعَ من أمر نزل به، إذ العباد يفزعون إليه ويلجئون إليه. وقيل: بل أَلُهَ الفصيل إذا فُصِلَ الرضيع عن أمه تعلق بها ووَلِعَ بها، لأن العباد يولعون بالتضرع إليه واللجوء إليه في الشدائد. وقيل: من لَاهَ يَلِيهُ لَيْهَاً: ارتفع واحتجب، لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار. وأياً كان القول فاسم الله، (الله) عَلَم على الذات المخصوصة، الذات المتصفة بصفات الكمال والمنعوتة بنعوت الجلال، الذات العلية المتفردة بالوجود الحقيقي، هو الله الذي لا إله إلا هو. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ الغيب: ما غاب عن الحاسة، والشهادة: ما أدركته الحواس. الغيب: ما يكون، والشهادة: ما قد كان. الغيب: الآخرة، والشهادة: الدنيا. وقُدِّمَت كلمة الغيب لأن الغيب أصل، فقد كان الله ولم يكن شيء وكان كل شيء في الغيب، والغيب يتعلق به علم الله الأزلي فقُدِّمَ الغيب على الشهادة. هو عالم الغيب والشهادة، عالم السر والعلن، عالم ما ظهر وما خفي، عالم ما كان وما يكون.
﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ والتأكيد على وحدانية الله وعلى انفراده بهذه الصفات يتضح من قوله (لا إله إلا هو) أي لا مستحق للألوهية ولصفات الربوبية إلا الله، (هو الله الذي لا إله إلا هو) أي لا معبود بحق إلا هو. (هو عالم الغيب والشهادة) هو العالم بالشهادة، ويستوي علمه بالغيب مع علمه بالشهادة، لا يزيد ولا ينقص، لا تتطرق إليه شبهة ولا يتطرق إليه خفاء. (هو الرحمن الرحيم) والرحمن والرحيم صفتان واسمان رقيقان من أسماء الله مشتقان من الرحمة، يدلان على اتصاف الله بالرحمة على ما يليق بجلاله. والرحمن: اسم ووصف، فمن حيث هو وصف جاء تابعاً لاسم الله في قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) فوصف كلمة الله بكلمة الرحمن فهو وصف. ومن حيث هو اسم جاء غير تابع لاسم الله في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه آية:٥] وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ(١)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(٢)﴾ [سورة الرحمن آية:١- ٢] وفي قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [سورة الإسراء آية:١١٠] فهو اسم ووصف. وكلمة الرحمن تدل على أن الله متصف برحمة هي فوق مقدورات العباد، واسم الرحمن يختص به الله ولا يطلق على سواه، أما اسم الرحيم فقد يطلق على سواه، ورحمة الله تامة عامة، فمن حيث تمامها أنه إذا أراد قضاء حاجة المحتاج قضاها فهو الفعال لما يريد، فقد يكون هناك رحيم من العباد يريد أن يرحم إنساناً أو يقضي حاجته ولكنه لا يستطيع أن يوصل إليه النفع، قد يُمنَع وقد لا يصل إليه، أما الله فإذا أراد قضاء حاجة المحتاج أو أراد رحمة المرحوم أوصل إليه حاجته وفعل ما يريد، فرحمته (سبحانه وتعالى) تامة. وأما من حيث هي عامة فقد شملت المستحق وغير المستحق، وعَمَّت الدنيا والآخرة، وتناولت الضرورات والحاجات بل والمزايا الخارجة عنها. وهو (سبحانه وتعالى) رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وقيل بل هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة.
الرحمن عَمَّت رحمته الدنيا والآخرة وشملت المستحق وغير المستحق، ألا تراهم يكفرون به ويرزقهم؟ ويعصونه ويسترهم؟ هو الرحمن. وهو الرحيم الذي يختص برحمته المؤمنين في الآخرة، يكتبها للمتقين، ومهما ترى في هذه الدنيا من بلاء أو مصائب أو شدائد فهي من قبيل الرحمة، فإفاضة الخير على الناس رحمة والخير مراد لذات الخير يريده الله، والشر غير مراد لذاته فالله لا يريد الشر لذات الشر وإنما ما تراه من بلاء وشرور ومصائب ما هو إلا رحمة، والبلية نعمة خفية، وربنا ينبهنا لذلك ويقول: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [سورة البقرة آية:٢١٦] وما من أمور تحدث في هذا الكون إلا وهي من رحمة الله، إن كان خيراً فبمحض رحمته وفضله وإن كان شراً فلأن الخير مراد في هذا الشر ولكن الشر يظهر للناس بحسب تفكيرهم وعقولهم، والشر غير مراد لذات الشر وإنما يراد الشر لما في طياته من خير ورحمة، رحمة الله تامة عامة، هو الرحمن وهو الرحيم. (الْمَلِكُ) الملِك: الذي لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته لشيء أو لأحد ويحتاجه كل شيء في وجوده وبقائه وصفاته، فما من موجود في هذا الوجود إلا وهو محتاج لله (تبارك وتعالى) في وجوده وفي بقائه وفي أفعاله وصفاته، وما من وجود إلا وهو مُسْتَمَد من الله أو مما هو مِنَ الله. وكل مَلِك في الدنيا يملك قد يحتاجه بعض الأشياء ولا تحتاجه كل الأشياء، وهو ملك على بعض الناس وليس على كل الناس، هو ملك على صنف من الأصناف، حتى في الحيوانات والطيور والحشرات والهوام، أي ملك في أي مملكة فمُلْكُهُ محدود ولابد وزائل إما بالموت أو باستيلاء الغير عليه، وما من ملك في الدنيا إلا وهو محتاج فقير إلى الله أولاً، محتاج لتأييد الرعية، محتاج للدواء والعلاج، فهو ناقص ومحتاج.
والملك المطلق هو الله الذي لا يحتاج لشيء، بل قد كان ولم يكن هناك شيء، وكل شيء محتاج إليه، هو ربنا كان ولم يكن شيء ثم خلق الوجود، فهو الملِك وهو المالِك للمُلْك والملكوت المتسلط بالقهر والجبروت، ربنا مَلِكُ الدنيا ومَلِكُ الآخرة، مَلِكُ المُلْك ومَلِكُ الملكوت ومَلِكُ يوم الدين. وفي يوم القيامة تسقط الدعاوى كلها وينادي الملك الحق: (لِمَنِ المُلْكُ اليوم)؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه ويقول: (لله الواحد القهار). ويطوي السماوات ويقبض الأرض بيمينه ويرجها رجاً ويقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) هو الملك الحق، هو الله. (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) وكرر النفي والإثبات (لا إله إلا هو) نفي لكل ألوهية وإثبات لألوهية الله فقط، نفي لجميع الآلهة وكل ما يُعبَد من دون الله وإثبات لألوهية الله الموجود الحق والمعبود الحق المستحق لصفات الكمال ولنعوت الجلال. (هو الله): يكرر (هو الله) أي لاشيء سواه (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) القدوس: من القُدْس، والقدس: الطهارة، ومنه الأرض المقدسة. والمتصف بهذا الاسم هو المنزّه عن النقائص والآفات المتصف بكل صفات الجلال والكمال. وغاية ما فعله الناس أنهم قسموا صفاتهم إلى صفات كمال وصفات نقص، فنزهوا الله عن صفات نَقْصِهِم وهو (سبحانه وتعالى) منزه عن صفات كمالهم، فربنا منزه عن صفات الكمال المتعارف عليها عند البشر، بل هو سبحانه وتعالى منزه عن كل وصف يدركه الحس أو يتصوره الخيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقض به تفكير، هو (سبحانه وتعالى) المنزّه عن كل عيب وعن كل آفة، بل هو المنزه عن صفات الكمال التي تعارف عليها البشر، هو الله القدوس.
(السَّلَامُ) ومعنى السلام أو معنى قولنا السلام: النِّسْبَة؛ أي ذو السلامة أو ذو السلام، أي الذي سَلِمَ الخلق من ظُلْمِه وسَلِمَ المؤمنون من عقابه، وهو المُسَلِّم على المؤمنين في دار القرار ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [سورة يونس آية:١٠] ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [سورة يس آية:٥٨] وهو ذو السلامة أي الذي تَسْلَم ذاتُه عن كل عيب، وتَسْلَم صفاتُه عن كل نقص، وتَسْلَم أفعالُه عن كل شر. وربنا إذا أحدث شرا ًفي نظر الناس في هذه الدنيا فما هو بالشر بل هو خير محض، فما أراد الشر لذاته. والسلام (سبحانه وتعالى) هو الذي صدر منه كل سلام وكل سلامة، فما من سلامة في هذه الدنيا إلا وهي صادرة من السلام (سبحانه وتعالى) (الْمُؤْمِنُ) والإيمان: التصديق، والمؤمن قد تعني المُصَدِّق والمُصَدَّق، أي المُصَدِّق لرسله بإظهار المعجزات والكرامات على أيديهم، بل هو المُصَدِّق لنفسه بأنه الصادق في وعده ووعيده، وهو أيضاً المؤمن بنفسه والمُصَدِّق لنفسه والشاهد لنفسه بالوحدانية حيث يقول: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [سورة آل عمران آية:١٨] والمؤمن يفيد الأمن والأمان، فما من أمن وأمان إلا وهو مستفاد من المؤمن سبحانه وتعالى، والأمان لا يكون إلا في محل الخوف، والخوف يكون من النقص، من الهلاك، من العدم، والأمان في هذه الدنيا مستفاد مما خلقه الله، والخلائق ضعاف فما من خلق إلا وهو ضعيف ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية:٢٨] والمخلوقات ضعيفة فأمدها الله بوسائل الحماية والأمن، فأمد الإنسان على سبيل المثال الحواس، والحواس تدرك المخاوف قبل أن تقع فتسمع الصوت وتميز إن كان شراً أو كان خيراً، وتتلمس الأشياء فتعرف البارد والحار، بالحاسة تستطيع أن تشكل لنفسك الأمن مما تخاف. أيضاً الجوارح؛ فاليد تبطش، واليد تدافع، بل والقدم تساعدك على الفرار.
أيضاً خَلَقَ للإنسان الحصون والقلاع والدروع والسلاح، والإنسان معرض للهلاك من الخارج ومعرض للهلاك من الداخل، معرض للهلاك من الداخل بالأمراض والآفات فخلق له الدواء، ومعرض للآفات والهلاك من الخارج بالأعداء فخلق له وسائل الحماية. هو المؤمن الذي أعطى الإنسان الأمن، وإذا نظرت في الملك كله وجدت ذلك فوجدت الطيور زُوِّدَت بأجنحة تطير بها بعيداً عن مصادر الخوف والخطر، ومن حُرِمَ من الحواس أو الجوارح أو الأجنحة أو وسائل الهرب مُنِحَ وسائل التخفي والتشكل، فتجد بعض الزواحف تتشكل وتتلون بألوان البيئة المحيطة فتخفى عن الأعين، أعطاها وسيلة الأمن وأعطاها وسائل الأمان، ما من أمن وما من أمان إلا وصادر من المؤمن، هو الذي خلق وسائل الأمان والأمن، بل وألهم المخلوقات كيف تستخدم وسائل الأمن، فألهمنا صناعة الدروع حيث عَلَّمَ داوود: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [سورة الأنبياء آية:٨٠] عَلَّمَنا صنعة الدروع وعلمنا صنعة السلاح وهكذا. وأخوف ما يخافه الإنسان هو خوف العذاب، هو خوف العقاب، هو خوف الهلاك، وقد تَفَضَّل علينا المؤمن (سبحانه وتعالى) فأعطانا وسيلة الأمن من هلاك الآخرة فألهمنا كلمة التوحيد، وهو (سبحانه وتعالى) القائل: (لا إله إلا الله كلامي وأنا هو فمن قالها دخل حصني وأمن عقابي) نعم هو الله المؤمن. (الْمُهَيْمِنُ): القائم على مخلوقاته وخلقه بالحفظ والعناية والرعاية، المهيمن هو القائم على أفعال عباده وأرزاقهم وآجالهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو المشرف على كُنْهِ هذا العالم بالحفظ والعناية والاستيلاء فهو المستولي على كل شيء، بيده ناصية كل شيء. وحفظ الله وعنايته ورعايته لكل الموجودات يُحدِث التوازن في هذا الكون كله، فهو المانع للجور والتعدي، المهلِك والمستأصِل، هيمنة الله على الوجود شملت كل موجود، يحفظ ويرعى ويكلأ ويشرف ويطلع ويستولي، هذه الهيمنة.
بعد أن أعطى الأمن والأمان هذه الهيمنة هي التي تحفظ التوازن، ولو نظرت إلى الكون لوجدت التوازن الدقيق الذي وضعه المهيمن، فلو طغى شيء على شيء لضاعت الدنيا، لو طغى القوي على الضعيف ولو انفرد إنسان بالملك أو السلطة على العالم لحدث الظلم، ولو انفردت دوله بالقوة والجبروت لضاعت الدول، ولو انفرد مخلوق في الغابة في الوحوش بالقوة لضاعت كل الحيوانات والطيور، ولكن التوازن؛ توازن في الإيجاد، توازن في الخلق، توازن في الوجود، توازن في الصراع، توازن في كل شيء، لا يفعل هذا إلا المهيمن (سبحانه وتعالى) هو الله. (الْعَزِيزُ) العزيز (سبحانه وتعالى) هو الله، والعزيز من الأشياء: النادر الذي يصعب وجود مثله. ويعني أيضاً الممتَنِع الذي لا يُدرَك. والعزيز أيضاً من العزة، والعزة هي القوة والغلبة. والعزيز المطلق هو الله الذي جَلَّت مكانته فلا يَذِلّ، والذي بَعُدَ عن إدراك الأفهام، والذي لا مثيل له ولا شبيه، القوي الغالب القاهر لا تدركه الأفهام ولا تصل إلى كنه ذاته العقول، ولا شبيه له ولا مثيل بل هو المنفرد بالوجود الحقيقي. (الْجَبَّارُ) الجبار في وصف الله مدح وفي وصف المخلوق ذَمّ. الجبار الذي تنفذ مشيئته في كل أحد على سبيل الجبر ولا تنفذ فيه مشيئة أحد. الجبار الذي لا يخرج أحد عن قبضته وتقصر الأيدي دون حمى حضرته. والجبار أيضاً من الجَبر، والجَبر: الإصلاح، جَبَرْتُ الشيء: أصلحتُه. فهو (سبحانه وتعالى) يَجبُرُ أحوال العباد، يصلح أحوالهم فيجبر الكسير ويغني الفقير ويشفي العليل، هو الله. (الْمُتَكَبِّرُ) المتكبر الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة لذاته، ولا يرى الكمال والجلال والمجد إلا لنفسه. والكِبْر والكبرياء إخبار عن استحقاق الله لصفات الكمال ولنعوت الكمال ولنعوت الجلال، هو الموجود الحق على الإطلاق.
وربنا في كبريائه هو المستحق لهذا التكبر والكبرياء، فلا أكبر منه ولا أعظم منه، المتكبر من حيث الصفة، والوصف من صفات الذات العلية فهي صفة ذات. وإن كانت في العباد فهي مذمومة، ذَمَّها الله وكرهها، ويحشر المتكبرون يوم القيامة كهشيم الذَّرِّ يطؤهم الناس لهوانهم على الله. وربنا يحدثنا ويقول في حديثه القدسي: (العظمة ردائي والكبرياء إزاري فمن نازعني فيهما قَصَمْتُهُ ولا أبالي) هو المتكبر المطلق، هو المتكبر الحق. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نعم سبحانه وتعالى عما يشركون، هذا هو الله (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) أشركوا به مخلوقات؛ أشركوا به عيسى بن مريم، أشركوا به عُزَير، أشركوا به الأصنام، أشركوا به الملائكة. هذا هو وصف الله هو الله (تبارك وتعالى) يحدثنا عن نفسه (سبحان الله عما يشركون) نعم سبحانه وتعالى. يخبرنا الله عن ثلاث صفات من صفاته مترابطة متلازمة حيث يقول: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) الخَلْق: التقدير، والإبراء: الاختراع والإخراج من العدم، والتصوير: ترتيب صور الأشياء وترابط أجزاء الأشياء. وما من شيء خرج من العدم إلى الوجود إلا وهو محتاج للتقدير أولاً، ثم الإخراج من العدم ثانياً، ثم التصوير ثالثاً. فمن حيث التقدير ربنا هو الخالق، ومن حيث الإخراج من العدم إلى الوجود والاختراع هو سبحانه وتعالى البارئ، ومن حيث ترتيب صور الأشياء وترابط الأجزاء وارتباط البعض بالبعض هو (سبحانه وتعالى) المصور، هو الخالق البارئ المصور.
ولابد من العلم أن لله صفات ذاتية وصفات فعلية، صفات الذات هي الصفات التي لا تنفك عن الذات بل هي لازمة للذات أزلاً وأبداً كصفات العلم والحياة والقدرة والجلال والمجد والسمع والبصر، تلك صفات ذاتية لازمة للذات لا تنفك عنها أزلاً أو أبداً ولا تتعلق بمشيئة الله ولا تتعلق بقدرته، فهو الحي أزلاً وأبداً ولا علاقة لحياته بمشيئته أو بقدرته، بل هو الحي المطلق. وهناك صفات أفعال كالخالق البارئ المصور هي من صفات الأفعال، وصفات الأفعال هي صفات لله أزلاً وأبداً لكنها تتعلق بالمشيئة وتتعلق بالقدرة، فربنا لم يزل هو الخلاق هو البارئ وهو المصور وهو الفعال لما يريد، بمعنى أن الصفة من حيث النوع قديمة ومن حيث أفراد تلك الصفة من أفعال فهي حادثة تحدث شيئاً فشيئاً، حيناً بعد حين وفقاً لمشيئته وحكمته وقدرته، فهو الخلاق والخالِق قبل الخَلْق وقبل أن يَخلُق، فهو الخالق من قبل وجود الخلق أزلاً وهو الخالق أبداً، والمخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً وتوجد في الوجود حيناً بعد حين وفقاً لمشيئة الله وقدرته. فالصفات الذاتية لا تتعلق بالمشيئة ولا بالقدرة بل هي صفات لازمة للذات أزلاً وأبداً، والصفات الفعلية صفات تتعلق بالمشيئة، إذا شاء فعل، هو خالق لكنه لا يخلق إلا بمشيئته، فإن أراد فعل، فهي صفات تتعلق بالمشيئة وتتعلق بالقدرة، فتنفذ مشيئته بقدرته فيما يريد فيقع ما يريد. من هنا كانت صفات الفعل: الخالق والباري والمصور توضح لنا أن الله حين أراد الخلق قَدَّرَه أولاً ثم أوجده ثانياً ثم صَوَّرَه ثالثاً.
ولكي يتصور هذا الوصف يجب أن ننظر إلى صورة العالم بل العوالم في مرجوعها وفي تفصيلها، فما العالم إلا كجسد واحد له أعضاء متركبة متعاونة لأداء الغرض المطلوب منها، العالم كله بسمواته وأراضيه وكواكبه ومخلوقاته جسد واحد، فأنت مرتبط بالأرض ومن غير الأرض أين تكون وأين توجد وعلى أي شيء تمشي؟ والأرض مرتبطة بالشمس ولولا الشمس لضاعت الأرض في الفضاء، لولا جاذبية الشمس لضاعت الأرض في الفضاء، ولولا الدفء لتجمدت المياه، فالأرض مرتبطة بالشمس، والقمر مرتبط بالأرض، والشمس مرتبطة بباقي النجوم، والنجوم مرتبطة بعضها ببعض، وكل ذلك مرتبط بالسماء، والسماء مرتبطة بسماء غيرها وهكذا. فالكون كله والعالم كله جسد واحد يحتاج للترابط والتوازن والتصوير، فمن حيث الخلق ذاك تقدير الله؛ قَدَّرَ أن يُوجِد هذه الموجودات. وهو البارئ حيث أخرج كل ذلك من العدم، فقد كان الله ولم يكن شيء غيره، أخرج كل ذلك من العدم، هو البارئ. هو المصور حيث رتب أشكال الموجودات ونظم العلاقة بينها وربط أجزاءها ببعض، وكما تتصور هذا الإتقان في العالم بل العوالم ككل يجب أن تنظر إلى أصغر شيء في هذا الوجود: النملة، هو الخالق البارئ المصور، ارتباط أعضاء النملة ببعضها، جهازها العصبي والحسي، بل كيف تأكل وكيف تقضي الحاجة، كيف تخزن الطعام، بل والذَّرَّة -وهي أصغر شيء أو من أصغر الأشياء إذا لم تتفتت- نواتها وجزيئاتها وارتباط ذلك ببعض، هذا النظام لو اختل فيه شيء لانهدم النظام كله، لو ابتعدت الشمس قليلاً لضاعت الأرض، لتجمد الناس في أماكنهم و لتجمدت المياه في الأنهار والبحار، ولو اقتربت الشمس قليلاً لاحترق كل ما على الأرض وهكذا. لو نظرت حولك لوجدت الهيمنة الحقيقية للمهيمن الذي حفظ كل شيء وقام على كل شيء ورتب كل شيء وقَدَّر كل شيء وصَوَّر كل شيء، في أكبر الأشياء وهو العالم المترابط وفي أصغر الأشياء وهي الذَّرَّة والنملة والنحلة.
والنملة كيف تمشي؟ كيف تستدفئ؟ كيف تتقي البرد وكيف تتقي الحر؟ هو الخالق هو البارئ هو المصور. ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ والحُسنى: تأنيث الأحسن. نعم له الأسماء الحسنى، وكل أسماء الله حسنى لأنها صفات جلال وصفات مجد وصفات كمال، حتى كلمة المُذِلّ من الأسماء الحسنى لأنه لا يُذِلُّ إلا من وجب عليه الذل، ولا يُذِلُّ إلا لكي يُعِزّ، فيُذِلُّ الذليل ليُعِزَّ العزيز، يُذِلُّ الأعداء ويُعِزُّ الأولياء، فما من اسم من أسمائه (سبحانه وتعالى) إلا وهو من الأسماء الحسنى، له الأسماء الحسنى التي تتضمن صفات الجلال والكمال، له الأسماء الحسنى. (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نعم هو العزيز الغالب القوي الذي لا يُدرَك، الذي لا يُنَال، الذي لا تدركه العقول والأفهام، الممتنع القوي الغالب القاهر، ليس له شبيه وليس له مثيل، المنفرد بالوجود الحقيقي. الحكيم، والحكمة: إتقان الفعل وحسن التدبير. الحكمة أيضاً وضع الشيء في موضعه. الحكمة: الإصابة في القول والعمل. وربنا هو الحكيم وهو القائل عن نفسه: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة النمل آية:٨٨] وهو القائل: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [سورة المؤمنون آية:١٤] وهو القائل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [سورة السجدة آية:٧] فالحكمة: حسن التدبير وإتقان الفعل، الإصابة في القول والعمل، أيضاً وَضْعُ كل شيء في موضعه، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، تلك هي الحكمة. والحكيم هو الذي يعرف أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وأفضل الأشياء على الإطلاق هو الله، وأفضل العلوم على الإطلاق العلم بالله، فربنا هو العالم بذاته وبصفاته وأسمائه من الأزل، فهو العالم بأفضل العلوم لأفضل الأشياء ألا وهو الله.
وانظر إلى الخلق كيف أتقنه الله وأحكمه وأحسن خلقه، وانظر إلى أي شيء وحاول أن ترتب تريباً آخر وانظر إلى النتيجة، أرأيت إن كانت عيناك في ظهرك أكان أفضل؟ أرأيت لو كنت تزحف أو تمشي على بطنك أكان أفضل؟ لو كنت تمشي على أربع كما يمشي الحيوان أكان أفضل؟ وانظر إلى كل شيء، حاول أن تعيد الترتيب لن تجد أفضل ولا أتقن ولا أحسن من صنع الله الذي أتقن كل شيء، نعم هو الحكيم. ومن الغريب أن تُختَم سورة الحشر بالتسبيح كما افتُتِحَت بالتسبيح للإشعار بأن التسبيح هو المقصود وهو الغاية، هو المبدأ وهو النهاية، وغاية المعرفة بالله هو تنزيه الله عما تصورته العقول. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي: "من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل او نهار وقبضه الله في تلك الليلة أو في ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة" وقال فيما يرويه أبو أمامة الباهلي: "من قرأ سورة الحشر غُفِرَ له ما تقدم ومن ذنبه وما تأخر" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.