
سورة المجادلة
مقدمة
قد كان عمر بن الخطاب في خلافته يتفقد الرعية، وفي يوم من الأيام كان يمر ومعه أصحابه فاستوقفته امرأة عجوز، استوقفته طويلاً ووعظته وقالت له: يا عمر قد كنتَ تُدعَى عُمَيراً ثم قيل لك عمر ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإن من أيْقن بالموت خاف الفوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. ووقف عمر يسمع لها، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين أتقف لهذا العجوز هذا الوقوف؟ فقال عمر: والله لو حَبَسَتْني من أول النهار إلى آخره لازلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ إنها خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمع عمر؟ نعم، خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت ذهبت يوماً تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة في حجرتها ترى الحوار ولا تسمع منه شيئاً، وقالت الحمد لله الذي وسع سمعه كل الأصوات فوالله لقد رأيتهما يتحاوران وما سمعت شيئاً وسمعها الله من فوق سبع سماوات. ذهبت خولة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تشكو وتقول: يا رسول الله أكل شبابي ونَثَرْتُ له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، فقال رسول الله: "ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليه" فقالت: يا رسول الله لقد أبطل الله سُنَنَ الجاهلية، والظِّهَارُ من سُنَنِ الجاهلية، وما أراد طلاقي، قال: "ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليه" قالت: يا رسول الله عيالي إن تَرَكْتُهُم ضاعوا وإن أَخَذْتُهُم جاعوا، قال: "ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليه"، قالت: يا رسول الله لقد أبطل الله سُنَنَ الجاهلية، قال: "ما أُوحِيَ إليّ في هذا شيء" قالت: يا رسول الله أُوحِيَ إليك في كل شيء وطُوِيَ عنك هذا؟ أشكوا إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي بعد ما نَفَضْتُ له بطني.
فنزل جبريل بأربع آيات من أول سورة المجادِلَة، وسورة المجادِلَة سورة مدنية، نزل جبريل يقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَـٰدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ ﴿1﴾
ٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَـٰتُهُمْ إِلَّا ٱلَّـٰٓـِٔى وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًۭا مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُورًۭا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌۭ ﴿2﴾
والزور: الباطل، الزور: القول المنحرف عن الصواب. ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾: أي ذلك القول (أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي) إذا قالها الرجل لامرأته كان ذلك القول منكراً وزوراً. ولكن الله (تبارك وتعالى) برحمته الفائقة يعفو عما سلف في شأن الجاهلية فالإسلام يجب ما قبله، ويعفو ربنا (تبارك وتعالى) عمن تاب وأناب، فإن كان القول قولاً منكراً لكنهم قالوه في جاهليتهم. (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ): رحمة وتطمين للمسلمين الذين فعلوا ذلك في جاهليتهم، يبين لهم ربنا أنه قد عفا عما سلف ويغفر لمن عاد ثم تاب وأناب. وتأتي الأحكام، والأحكام هنا جاءت إجمالاً وفصلها النبي (صلى الله عليه وسلم) وفُصِّلَت باجتهاد العلماء.
وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا۟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ﴿3﴾
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًۭا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ۗ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿4﴾
والمسيس، قال بعضهم المسيس: الجماع، وله أن يُقَبِّلَها ويباشرها ويتلذذ بها من غير جماع قبل الكفارة. وقال بعضهم بل الكلمة عامة، وجميع أنواع المسيس تنطبق على ذلك فلا يتلذذ بشيء منها ولا يقبلها ولايباشرها ولا يقربها حتى يكفرّ أولاً لعموم اللفظ. ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ خبير: مُطَّلِعٌ وشاهد. وجاء بكلمة خبير لأن الخبير يعلم بواطن الأمور، فإذا أضيف العلم لبواطن الأمور كان خبرة وسمي صاحبها خبيراً. لأن الظهار لفظ ونيّة، أي يعلم الظاهر ويعلم الباطن ويعلم النيّة.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي فمن لم يجد الرقبة، انعدمت الرقاب كزماننا هذا، أولا يجد مالاً يعتق به الرقبة. ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ عليه أن يصوم شهرين متتابعين، ذلك الحكم بالصيام يُشتَرَط فيه التتابع، فإن انقطع الصيام لعذر قال بعضهم يبني على الصيام؛ صام عشرة أيام ثم مرض فإذا شفي أكمل. وقال بعضهم بل يستأنف؛ يصوم من أول وجديد. وقال بعضهم إذا امتنع الصيام وتوقف بسبب أيام يحرم فيها الطعام كشهر رمضان؛ صام شهراً ثم جاء رمضان ماذا يفعل؟ أو جاء العيدين يحرم فيهما الصيام؟ قالوا إذا انقطع صيامه بسبب أيام يحرم فيها الصيام يبني على ما تقدم وما سلف. إذا لم يجد في نفسه القدرة على الصيام فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، وإطعام المساكين معلوم بأن لكل مسكين نصف صاع. والملاحظ في الآيات أن الله أمر بالكفارة من قبل التَّمَاس ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وحين جاء الإطعام (فمن لم يستطيع فإطعام ستين مسكيناً) ولم يقل (من قبل أن يتماسا) فقال بعض العلماء اكتفى بذكر التَّمَاس فيما سبق إذاً فيجب الإطعام قبل التماس. وقال بعضهم طالما لم يذكر التَّمَاس جاز التَّمَاس حال الإطعام. ولا يجوز التَّمَاس قبل الفراغ من صيام شهرين، ولا يجوز التَّمَاس قبل عتق الرقبة ويجوز حال الإطعام. وقال بعضهم بل لا يجوز، وحكم الإطعام كحكم ما سبق واكتفى بذكر التَّمَاس فيما سبق عن ذكره في الإطعام.
تلك أحكام مجملة وهناك تفصيل كثير يمكن أن يُوجَز فيما يلي: الظهار منكر ويَحرُمُ على المسلم أن يأتيه، قد كان في الجاهلية، أبطله الله، وحين عادوا إليه كما حدث مع أوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة كان ذلك أول ظهار في الإسلام، ونزل الحكم وامتنع المسلمون عن الظهار وأصبح الحكم ملغياً ولا يجوز أن يقوله الرجل. ولكن الفقهاء رتبوا عليه أحكاماً، فقد يقول الرجل ذلك وإن كان منكراً من القول وزوراً، وهنا قالوا الظهار صريح وكناية، فإن قال: (أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي) فذاك الصريح، (أنتِ عَلَيَّ مثل أمي) صريح، (أنتِ عَلَيَّ مثل ظهر أمي) صريح، وعُبِّرَ بالظهر عن البطن، وكل ظهر مركوب من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من كان له فَضْلُ ظَهْرٍ فليَعُد به على مَنْ لا ظَهْرَ له" لكنه الأدب والكناية في القرآن؛ عَبَّرَ عن البطن بالظهر ستراً ولطفاً، وبالتالي فإن قال هذا القول فذاك ظهار صريح، لا يحل له أن يمسها إلا أن يُكَفِّرَ أولاً. والظهار ككناية أن يقول: (أنتِ عندي مثل أمي) ولا يذكر كلمة (ظهر)، أو (أنتِ بمنزلة أمي مني) تلك كناية يُحكَم بها أيضاً في الظهار. وقال بعضهم الظهار لا ينصرف إلى الطلاق. وقال بعضهم بل إذا نوى به طلاقاً وقع الطلاق والعبرة بالنية. إن شبّه امرأته بظهر آخر مُحَرَّم كالأخت والبنت والعمة فقال: (أنتِ عَلَيَّ كظهر أختي أو كظهر بنتي) أيكون ظهاراً؟ قالوا نعم يكون ظهاراً لأنه شَبَّهَ ظهراً محللاً بظهر مُحَرَّم. وقال بعضهم بل يكون طلاقاً ولا يكون لغواً من القول ليس بشيء. هل يصح للمرأة أن تُظَاهِرَ من زوجها فتقول المرأة لزوجها: (أنتَ عَلَيَّ كظهر أمي)؟ قالوا لا يصح ذلك لأن الظهار بيد الرجل كالطلاق، بيده الحل والعقد وليس بيد المرأة، فإن قالت المرأة لزوجها (أنتَ عَلَيَّ كظهر أمي أو كظهر أبي أو كظهر ابني) فما الحكم؟ قالوا تُكَفِّرُ كفارة اليمين لأنها حَرَّمَت مُحَلَّلاً.
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [سورة التحريم آية: ٢] طالما حرّم الإنسان حلالاً بغير أن يحلف عليه كفارة يمين قبل أن يعود إلى الحلال. وقالوا في شأن الكفارة جاءت مرتبّة وليس لك اختيار، بمعنى لا يصح الصيام لمن لا يجد الرقبة فإن وجد الرقبة لا يصح منه صياماً، ولا يصح الإطعام إلا لمن لم يقدر على الصيام، فأولاً تحرير رقبة فإن لم يقدر أو لم يجد هنا الصيام، فإن كان ضعيفاً أو مريضاً أو لا يستطيع الصيام لعذر ما هنا ينتقل إلى الإطعام، والعبرة بحاله عند الكفارة، فقد يكون غنياً حين ظاهر من امرأته ثم جاء يؤدي الكفارة فافتقر، هنا العبرة بحاله عند إخراج الكفارة، إن كان غنياً فعليه الرقبة، إن كان فقيراً فعليه الصيام، إن كان ضعيفاً فعليه الإطعام وهكذا. إن صام شهرين متتابعين فوقع على امرأته في نهار يومٍ من أيام الصيام بطل الصيام وعليه الاستئناف. قالوا إن وقع عليها ليلاً؟ قال بعضهم يبطل الصيام، وقال بعضهم لا يبطل الصيام، لأنه صام نهاراً وأما بالليل فيأكل فإن وقع عليها قبل انتهاء الكفارة فربنا يقول (من قبل أن يتماسا) إن حدث وقبل انتهاء الصيام أو قبل تحرير الرقبة أو قبل الانتهاء من الإطعام حدث المسيس؟ قالوا عليه كفارة أخرى من أجل العصيان ومن أجل المسيس قبل الكفارة، وقال آخرون أبداً تلك معصية وذاك إثم يستغفر منه ويتوب ويكفّر كفّارة واحدة ويستأنف صيامه أو يستأنف إخراج الطعام أو عتق الرقبة. وإن جمع الرجل الظهار مع الطلاق وذكر الطلاق أولاً فهي طالق ولا عبرة بظهاره، وإن ذكر الظهار أولاً ثم الطلاق فالطلاق لا يقع بل يقع الظهار أولاً. أقوال وتفصيلها في كتب الفقه لمن أراد لكن ذلك مجمل.
مُختَصَرُهُ في أن الظهار أمر ممنوع في الإسلام، عَدَّهُ الله منكراً من القول وزوراً، وإن حدث فهو إثم ومعصية على الإنسان أن يُكَفِّرَ وعلى الإنسان أن يتوب ويستغفر. ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ والمسيس كلمة عامة، يَحرُمُ ما دون النكاح، يَحرُمُ مادون الجماع. (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ولم يذكر التَّمَاس اكتفاءً بذكره فيما سبق، أو لأن الإطعام لا يستغرق وقتا، ً فك الرقبة يستغرق وقتاً في البحث عن الرقبة واختيار رقبة سليمة من العيوب مؤمنة وما إلى ذلك، وكذلك الصيام يستغرق وقتاً، أما الإطعام فلا يستغرق وقتاً، فربما لم يذكر المسيس من أجل ذلك أو لأنه ذُكِرَ فيما سبق. ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي ذلك القضاء وذلك الحكم لتؤمنوا بالله ورسوله. هل الكفارة إيمان؟ هل إذا كَفَّر عن الظهار عُدَّ ذلك منه إيماناً؟ قالوا (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله) بمعنى: ذلك لتُصَدِّقُوا بأحكام الله وتطيعوا الله فيما قضى وأمر بإخراج ما أمركم وتُكَفِّرُوا عن هذه الكلمة ولا تعودوا إلى المنكر من القول والزور، فعدم العودة للمنكر من القول والزور والكفارة التي أمر الله بها إذا حدث ووقع الإنسان في هذا الإثم، هذه الطاعة لله ولرسول الله تُعَدُّ إيماناً. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: أي ما فُرِضَ وما قيل لكم حدود بين المعصية وبين الطاعة، الظهار معصية والكفارة طاعة. تلك حدود الله: أوامر الله وقضاء الله. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الذين لا يقيمون حدود الله والذين لا ينفذون ما أمر الله به. وتنتقل الآيات لتبشير المؤمنين بالنصر وبهزيمة أعدائهم في غزوة الخندق، يقول الله (تبارك وتعالى):
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُوا۟ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـٰتٍۭ بَيِّنَـٰتٍۢ ۚ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ ﴿5﴾
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًۭا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓا۟ ۚ أَحْصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ ﴿6﴾
﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾ أي يخبرهم بأعمالهم على رؤوس الأشهاد تفضيحاً لهم وتشهيراً لحالهم وتقريراً لعذابهم. هذا معنى (ينبئهم): أي يخبرهم على رؤوس الأشهاد، وحجة الله بالغة على عباده. (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) كلمة (أحصى) أصلاً العَدُّ بالحصى، فقد كان العرب لا يعرفون القراءة والكتابة وإذا أرادوا أن يعدوا شيئاً عَدُّوه بالحصى. والإحصاء هنا: الإحاطة، الإحصاء هنا: العِلْم، أحصاه الله: دَوَّنَهُ عليهم في صحائفهم. (ونَسُوه): كيف نَسُوه؟ نعم، إذا كثرت المعاصي من العبد نسي المعاصي لكثرتها. أو نَسُوه لأنهم تهاونوا به، فالعبد ينسى المعصية في حالة من اثنين: أن تكثر المعاصي فكيف يتذكر؟ أو يتهاون بالمعصية، يأتي بالمعصية ولا يعدها معصية فيتهاون بها، كالكلام عن أعراض الناس والحلف الكاذب، كثيراً ما يأتي الإنسان بالمعاصي ويتهاون بها، فإن تهاون بمعصيته نسيها، فيأتي يوم القيامة فيجد كل شيء قد دُوِّنَ في صحائفه، فإذا نُشِرَت الصحف قال هؤلاء: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف آية:٤٩] ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مُشَاهِد يرى ويسمع ويُحصي، لا تفوته فَوْتَةُ خاطر ولا لفتة ناظر.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَآ أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا۟ ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ﴿7﴾
وقالوا بل العدد غير مقصود، لكن الله ذكر بعض العدد دون البعض ليُدَلِّل أن العدد قَلَّ أو كَثُر فربنا يعلم كل شيء، ثلاثة أو خمسة أو اثنان أو عشرة أو ألف، والعدد غير مخصوص وغير مقصود. وقال بعضهم بل العدد مقصود، فقد حدث التناجي في المنافقين بين ثلاثة مرة ففضحهم الله، فجاء بالثلاثة وبالخمسة طبقاً لما حدث فعلاً. ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾ أي ينبئهم على رؤوس الأشهاد وتفضيحاً لهم وتشهيراً لحالهم وتقريراً لعذابهم. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ عِلْمُ الله أزلي أبدي. ثم بعد ذلك يعاتب ربنا أناساً لعلهم يتوبون؛ كانت المدينة بها المنافقون يحالفون اليهود وكانوا يتغامزون ويتناجون أمام المؤمنين، فإذا رأى المؤمن المناجاة والسرار والغمز حزن وظن أنه قد حدث شيء للسرايا التي خرجت بأمر رسول الله، وفي غزوة الأحزاب كان الكل في خوف وفزع؛ بلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، هنا حين حدث التغامز والنجوى بين المنافقين نهاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ما شكا له المؤمنون، وبعدما نهاهم عادوا لما نُهُوا عنه، فيقرعهم ربنا ويُعَجِّبُ نبينا من شأنهم فيقول:
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُوا۟ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا۟ عَنْهُ وَيَتَنَـٰجَوْنَ بِٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىٓ أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴿8﴾
فالنجوى والتناجي منه ما هو مباح ومنه ما هو حرام، يقول الله (تبارك وتعالى) منبهاً:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا تَنَـٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَـٰجَوْا۟ بِٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَـٰجَوْا۟ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿9﴾
إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْـًٔا إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿10﴾
﴿مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي يُدخِلَ في قلوبهم الحزن والهمّ، لأن المؤمن يرى هؤلاء يتناجون ويُسِرُّ بعضهم إلى بعضٍ الحديث وهو واقف أو وهو جالس فيظن نكبة قادمة، يظن نكبة حدثت لإخوانه، يظن شيئاً حدث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيخاف ويركبه الهمّ، فهذه النجوى الممنوعة يتناجى بها المنافقون واليهود، يوسوس لهم الشيطان ويزيّن لهم ذلك حتى يُلقي الهم والحزن في قلوب المؤمنين. ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: أي وليس الشيطان، أو وليس التناجي بضارهم شيئاً إلا بإذن الله. مهما تناجى الناس لا يصل إليك حتى إلا أن يشاء الله، إلا بإذن الله. ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ نعم، ومن توكل على الله كفاه، ومن يتوكل على الله فهو حَسْبُه، ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سُبُلَنَا؟ نعم، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. أيها الأخ المسلم؛ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد" بمعنى إذا كان الجالسون ثلاثة نفر فلا يصح أن يُسِرَّ أحدهم إلى الآخر بحديث والثالث يجلس ولا يسمع لأن ذلك يحزنه، وذلك يجعل الجالس يعتقد أنهم يتكلمون عنه بسوء، أو لا يرونه أهلاً لمشاركتهم الحديث. وجرّب ذلك في نفسك؛ إذا كنت جالساً بين اثنين من الناس وإذا بهم يَتَسَارَّان ويتناجيان دونك هل يحزنك ذلك أم لا؟ نعم، أَدَّبَنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجاء بكلمة (ثلاثة)، لا يتناجى اثنان دون الثالث، إذا كانوا خمسة يتناجى أربعة دون الواحد؟ أبداً لا يصح، جاء بكلمة (ثلاثة) لأن ذلك أقل ما يحدث منه ذلك، لأن الاثنين إذا تناجيا تناجيا مع بعضهما، لكن حين يُترَك واحد لابد أن يكون هناك اثنان يتناجيان، فالثلاثة أقل العدد الذي يتأتى منه ذلك، فتحدث من هذه المناجاة أُلقِيَات الشيطان ووساوس النفس في الثالث الذي أُبعِد.
وقال بعض الناس هذا الحديث كان مقصوداً في أول الإسلام حيث كان المنافقون يتناجون، أما الآن فلا. وقال بعضهم بل الحديث يختص بالسفر على وجه الخصوص، لأن في السفر مظنة الاغتيال وابتعاد الإنسان عن داره وأهله وعن الأمن، فإذا كان ذلك في السفر خشي من الاغتيال ومن الخيانة وخشي من الخديعة. وكل هذا الكلام لا أساس له، وكلام النبي كلام عام يعم جميع الأزمان والأحوال والأماكن، في السفر وفي الحضر وفي كل شيء، ذاك الأدب الذي أَدَّبَنا به النبي؛ إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد.
أيها الأخ المسلم؛ ديننا دين الأدب، ديننا دين الرأفة، وعلاقة الرجل بامرأته علاقة أحلها الله، واستحل الرجل فَرْجَ امرأته بكلمة الله وسنة رسوله، وقد أوصانا نبينا بنسائنا في خطبة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً)، وحين أعطى الله الحل والعقد في أمور النكاح للرجل حين وضعها بيده وضعها كي يعرف مسئوليته، وضعها بيده لأن الرجال قوامون على النساء، وهذه القوامة بفعل الله وبأمر الله وبإذن الله فمن استغل قوامته على امرأته ومن استغل الحل والعقد الذي بيده في إرهاب امرأته فيحلف عليها الأيمان بالطلاق، يظاهرها مره ويُطَلِّقُها مرة ويهددها مرة، فتعيش معه المرأة مهددة دائماً، خائفة فزعة من أن يتركها، هاهي خولة اشتكت إلى الله، أكل شبابها بعد أن نَثَرَتْ له بطنها، كَبُرَ سنها ووهن عظمها وانقطع ولدها يُظَاهِرُها؟ غدر، خيانة! كثير من الناس تجري على ألسنتهم لفظ الطلاق، لفظ الطلاق بكل صيغة ظاهراً كان أو كناية يقع به الطلاق! اتقوا الله في أولادكم وأنسابكم، فكل أيمان الطلاق تقع إذا وقع شرطها، والطلاق المشروط يقع، وكثير من الناس قالوا إن الطلاق البات بطلقة واحدة يقع، من طَلَّقَ امرأته ثلاثةً بكلمةٍ واحدة؛ أنتِ طالق ثلاثة، أو طالق طالق طالق، تحرم عليه، ثم بعد ذلك يمسكها ويأتي بأولاد فتأتي الأولاد أولاد سِفَاح وأولاد زنا! هذا التهديد المستمر للمرأة يدل على ضعف شخصية الرجل وأن المرأة قوية لا تطيعك إلا بالتهديد، وهل تضمن أن تطيعك أو تفهم أو تُقَدِّر؟ حَلَفْتَ عليها بالطلاق ألا تزور أمها فتركتك تخرج إلى عملك ثم خرجت تزور أمها من ورائك، طَلِقَت! عَلِمْتَ أنتَ أو لم تعلم، كيف يكون الحال؟ هذه الأيمان ربنا يقول: (ولا تجعلوا الله عُرضَةً لأيمانكم) ينهانا عن الحلف واليمين، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت، لا يصح الحلف بأي شيء، هاهو البائع يحلف بالطلاق على ثمن سلعته، ما ذنب امرأتك في غشك أو في عدم تصديق الشاري منك؟ البائع يحلف على سلعته بالطلاق، والرجل يحلف على صديقه أن يتغدى أو يأكل معه أو أن يدفع له حساب القهاوي بالطلاق، ما ذنب المرأة؟ الطلاق يقع بالكلمة! قد يقع بالنية! بعض الأقوال قد يقع بالكتابة، لو كتب خطاباً لامرأته وقال في الخطاب أنتِ طالق طُلِّقَت من غير أن يتلفظ! الأمر خطير، إما زنا وإما حلال، وتصور رجل إن حَرُمَت عليه امرأته بكلمة وتهاون أو أُفتِيَ خطأً أو أُجِيبَ خطأً وتهاون وعاش مع امرأته عشرين عاماً بعد ذلك يطأها ويجامعها في الحرام، وصلى وصام وحج وزكّى وجاء يوم القيامة فإذا به زانٍ، عشرون عاماً من الزنا، كيف يفعل؟ يشكو في كِبَرِهِ من عقوق الولد وعقوق البنت، ارجع بذاكراتك إلى الوراء فلعل الولد من السفاح، فلعلك أطلقت يميناً وأنت غافل عن ذلك. وقال الفقهاء السكران يقع طلاقه والغضبان يقع طلاقه طالما رتب الكلام، أما السكران والغضبان اللذان لا يقع طلاقهما فهو الذي لا يُرَتِّبَ الكلام، أما إذا رَتَّبَ الكلام: أنتِ طالِق، أو أنت حرامٌ عَلَيَّ طَلِقَت ولو كان شارباً برميلا من الخمر! فلا تتعللوا وتتحججوا وتذهبوا إلى المشايخ وإلى غيرهم تستفتوهم، حَلَفْتُ باليمين وقُلتُ كذا وقُلتُ كذا، مهما أفتاك فسوف تحيا في شك وفي خوف، هل وقع الطلاق أم لا. إياكم وأيمان الطلاق، إياكم وأيمان الظهار، واتقوا الله في أنسابكم وأولادكم، واتقوا الله في نسائكم فقد استحللتم فروجهن بكلمة الله.
نبّه الله على النجوى وبيّن أن منها ما هو ممنوع ومنها ما هو مباح، فنهى ربنا عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وأمر بالتناجي بالبر والتقوى، وبَيَّنَ ربنا أن النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، ولكنه قرر وقال عز من قائل: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فسبحانه وتعالى، وإن كان قد أَقْدَرَ بعض خلقه على التناجى بالإثم والعدوان وقصد إيذاء المؤمنين إلا أنه احتفظ لذاته بإذن الضرر فقال: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بَيَّنَ ربنا العلة من هذا التناجي الذي يتناجى به المنافقون وكيف وسوس لهم الشيطان كي يحزن الذين آمنوا، لكن الله هو النافع وهو الضار، وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو اجتمع الناس على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء كتبه الله عليك. وقد بَيَّنَ (سبحانه وتعالى) الدواء والعلاج فقال: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) إذا ًفمهما تناجى الناس دونك، ومهما رأيت البعض يتناجون دونك، فإن توكلت على الله وأَوكَلْتَ أمرك إلى الله لن تضرك نجواهم ولن يؤذيك تناجيهم، لأن التوكل على الله معناه أنك قد أوكلت الأمر إليه وفوضت الأمر إليه، ومن توكل على الله كفاه. ثم يؤدب ربنا المسلمين والمؤمنين وبيّن لهم سبب ما يجعلهم يتآلفون ويتوادون ويتعاطفون بعد أن بيّن (سبحانه وتعالى) أسباب الضيق والحزن وما يصيب المؤمن من الحزن إذا تناجى الناس دونه وأوضحها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (لا يتناجى اثنان دون الواحد) بعد أن نهاهم عن النجوى وبيّن أسباب الوقيعة وسوء الظن وألقيات الشيطان وسوء الخواطر ويبين أسباب التوادد والتعاطف فقال:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا۟ فِى ٱلْمَجَـٰلِسِ فَٱفْسَحُوا۟ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُوا۟ فَٱنشُزُوا۟ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ﴿11﴾
ولكن في هذه القاعدة بعض الأمور المباحة، منها على سبيل المثال أن يقوم الرجل اختياراً لأخيه فذاك مباح، أيضاً إذا أرسل رجلاً إلى المسجد بسجادة أو ببساط فَفُرِشَ له في موضع من مواضع المسجد كان ذلك معناه أنه أحق بهذا المكان إذا قدم إليه، وقد كان ابن سيرين -وهو من رواة الحديث ومن كبار التابعين- يرسل غلامه إلى المسجد فيجلس في مكان، فإذا جاء ابن سيرين قام الغلام فجلس ابن سيرين مكانه فأجاز العلماء ذلك. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا﴾ (تفسَّحوا) الفَسْح: التوسعة، فَسَحَ له يَفْسَح فَسْحاً: وَسَّعَ له مكاناً ليجلس فيه إلى جواره، وفَسُحَ المكان يفْسُحُ فساحةً: وُسِّعَ المكان، ومنه البلد الفسيح والمكان الفسيح. ربنا يأمرنا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا، أَطِعْ، لِينُوا في أيدي إخوانكم وكونوا رحماء تتآلفوا، تتواددوا، تتعاطفوا، أفسحوا حتى تتيح الفرصة لغيرك كي يجلس إلى جوارك، فإن فعلتَ ذلك وأطعتَ الله يُفسِحُ الله لكم، يَفسَحُ في قبوركم، ونحن محتاجون لأن يُفَسِّحَ الله لنا في قبورنا ويجافي الأرض عن جنوبنا. يَفسَح أيضاً لكم في صدوركم ﴿فمن يُرِدِ الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾: يُفَسِّحُهُ، يُوَسِّعه، إذاً يَفسَحُ الله في الصدور، في القلوب. يَفسَحُ لنا أيضاً في يوم القيامة حيث المحشر، حيث الكل محشور متزاحمون. يَفسَحُ لكم في غرف الجنات. يَفسَحُ لكم في كل شيء ويجعل لكم من كل ضيق مخرجاً. ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ ﴿وإذا قيل انشِزوا فانشِوا﴾ بالكسر قراءة وبالضم. نَشَزَ يَنشِزُ، ونَشَزَ ينشُزُ قراءة بالضم وبالكسر، إذا كُسرت الأولى تُكسَرُ الثانية، وإذا ضُمَّتِ الأولى تُضَمُّ الثانية.
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ النَّشَز: المُرتَفَع من الأرض لأنه تنحى بارتفاعه عما سواه فالنشوز: الارتفاع. والمرأة الناشز: هي المتنحية عن زوجها المتعالية عليه. (وإذا قيل انشزوا): أي ارتفعوا. (فانشزوا): قوموا. أي إذا دُعِيتُم لأمر فيه خير كالجهاد أو الجمعة أو الجماعة أو إقامة الصلاة أو المعروف. وقيل: (انشزوا) أي ارتفعوا عن مجلس رسول الله، فقد كانوا يمكثون عنده طويلاً وله شئونه ويريد أن يستريح، فقيل لهم انشزوا: فارتفعوا عن مجلس رسول الله وقوموا عنه. والآية أيضاً عامة، وهي تعني طاعة ولي الأمر في كل شيء فيه خير كالجهاد في سبيل الله، كالصدقة، كالسعي في المعروف، كالصلح بين الناس، في كل أمر فيه خير وفيه أجر. وإذا قيل انشزوا فانشزوا. ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ ذاك جزاء الطاعة، من أطاع هذه الآية فهو من المؤمنين، يرفع الله المؤمن على غير المؤمن درجات، ويرفع الله العالم على غيره ممن لم يُؤتَى من العلم شيئاً، إذاً فهو يرفع المؤمنين درجات ويرفع أولي العلم درجات.
وقيل بل الآية خاصة بالمؤمن غير العالم والمؤمن العالم، فإذا كان المؤمن قد جمع علماً على إيمانه فهو أرفع من المؤمن الذي لم يجمع علماً، فالعلماء أرفع مقاماً من المؤمنين بشرط أن يكون العالم عاملاً بما عَلِم، وفضل العلماء معلوم، والآية في فضل العلماء؛ يرفعهم الله درجات، مقامات، حُسن الذِّكر في الدنيا، أيضاً ما من عالم يعلم شيئاً إلا وكان له أجر التعليم وأجر العمل إذا عمل به المتعلمون، ونبينا ينبه على هذا الفضل فيقول: (فَضْلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، بل ويبين أيضاً ذاك الفضل والدرجات العلى فيقول: (الشهداء يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) فَفَضَّل العلماء عن الشهداء، والعلماء ورثة الأنبياء، وأخبرنا بأن العلماء يُسأَلون يوم القيامة عما يُسأَل عنه الأنبياء، وما بين العالم والعابد كما بين السماء والأرض، وفضل العالم على العابد كفضل رسول الله على أدنى رجل من الصحابة، ففضل العِلمِ لا يوارى، وفضل العلماء لا يبارى، من هنا تأتي الآية لتبين ذلك الفضل فيقول الله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ آية ختامها فيه إشعار بالتهديد، إشعار بالتخويف، (والله بما تعملون خبير): يعلم البواطن ويعلم النية، هل دخلتَ المسجد وأمرتَ الناس أن أَفسِحُوا فأَفسَحُوا لك، تُرَى طَلَبُك هذا للعلم أم لتصدّر المجالس؟ أم لكي تكون ظاهراً؟ أم لكي يقال عنك أنك تجلس في صدر المجلس فأنت مُقَرَّب أو ذو مقام؟ وكذلك من أفسح لك؛ أفسح طاعةً لله ولرسوله وهو منشرح الصدر طيب النفس؟ أم أفسح لك وهو متضرر متضايق؟ والله بما تعملون خبير.
والآية تُشعِرُ بقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أن الرفعة بالإيمان، والرفعة بالعمل، والرفعة الأكبر بالعلم وليس بتصدر المجالس، فاحرصوا على العلم واحرصوا على العمل. ثم يؤدب ربنا الناس أيضاً في أمر آخر ويُعَظِّمُ رسولَه وينفع الفقراء، ويميز بين محبي الدنيا ومحبي الآخرة، ويفرق بين المخلص والمنافق فيقول:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا۟ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَىٰكُمْ صَدَقَةًۭ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ ﴿12﴾
أما حين قال إذا لم تفعلوا ذلك وإذا لم يكن لديكم هذا المال فإن الله غفور رحيم إذاً فطالما غفر ورحم فعدم إعطاء الصدقة ذنب يحتاج لغفران، إذاً فالآية على الوجوب. ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فالفقير الذي لا يجد ما يتصدق به ويريد أن يناجي رسول الله فله أن يناجيه بغير صدقة وقد غفر الله له، إذاً فالآية على الوجوب وذلك هو الرأي الأرجح؛ أنها كانت مفروضة وواجبة ولكنها نُسِخَت بالآية التالية. وإذا كانت الآية التالية تلتها في التلاوة إلا أنها متأخرة عنها في النزول:
ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا۟ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَىٰكُمْ صَدَقَـٰتٍۢ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا۟ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿13﴾
﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ خفتم الفقر؟ خفتم الصدقة؟ هذا الخوف، مجرد الخوف يُعَدُّ ذنباً تاب الله عليهم منه. ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ الطاعات تَجبُرُ أي تفريط؛ من الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها، الصلوات الخمس كالنهر على باب أحدكم، تُرَى لو كان على باب أحدكم نهراً جارياً يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات هل يبقى من دَرَنِهِ شيء؟ كان سؤال لرسول الله، فقال الأصحاب: لا يبقى من دَرَنِهِ شيء يا رسول الله، قال: "فتلك الصلوات الخمس كفارة لما بينها". إذاً فالفرائض التي فرضها الله علينا تجبر التفريط. ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وبالزكاة المفروضة نُسِخَت الصدقة من أجل النجوى، ونُسِخَ غيرهما من الصدقات إلا أن تَطَّوَّع. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، في غير ذلك الأمر الذي نُسِخ، فقد نسخه الله رحمة بالناس. وحين يقول (وأطيعوا الله ورسوله) ويعطف بواو العطف يدل ذلك على أن طاعة رسول الله طاعة لله، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله. ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وتتكرر الآية، في بدءها قال: (والله بما تعملون خبير) وهنا قال: (والله خبير بما تعملون). التشديد والتأكيد على التهديد بأن الله يحاسب الناس على نياتهم (إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئٍ ما نوى). ثم يُعَجِّبُ ربنا حبيبه المصطفى من حال المنافقين والذين جاء ذكرهم في السورة؛ يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوه كما فعل اليهود حيوه بما لم يحيه به الله، فيُعَجِّبُهُ من شأن المنافقين ويقول:
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْا۟ قَوْمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿14﴾
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَابًۭا شَدِيدًا ۖ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿15﴾
ٱتَّخَذُوٓا۟ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةًۭ فَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ ﴿16﴾
لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ ﴿17﴾
والآية تدل على أن الكذب كذب سواءً كان الكاذب يعلم أنه يكذب أولا يعلم، فهو كاذب لأن الله يقول: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إذاً فقد يحلف على الكذب وهو لا يعلم، بمعنى أن الإنسان قد يعلم أنه يكذب ويحلف كذباً متعمداً وقد يحلف على أمر لا يعلم حقيقته فيُعَدُّ كاذباً، من هنا ينبه ربنا ويقول: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [سورة الإسراء آية:٣٦]، فإياك أن تقرر أو تقول أو تحلف على مالا تعلم حقيقته فقد تكون كاذباً وتُعَدُّ عند الله كاذباً. (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون): لأنهم كانوا يحلفون أنهم أسلموا وما أسلموا. ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هددهم ربنا بالعذاب الشديد، نوع من أنواع العذاب، لون من ألوان العذاب، تُرَى ماهو؟ لم يُعَرَّف، جاء نكرة، عذاباً شديداً، لون من ألوان العذاب لا يعلمها إلا الله القادر الجبار، كيف يعذبهم؟ نعم أعد لهم عذاباً شديداً لأنهم ساء عملهم وتمرنوا على سوء العمل واعتادوا عليه، فما من عملٍ لهم حَسَن وكل أعمالهم سيئة. ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ ﴿اتخذوا إيمانهم جُنَّة﴾ قراءة أخرى. أيْمانهم: الحلف، الأيْمان التي حلفوا بها. أو اتخذوا إيمانهم المزعوم، زعموا الإيمان وزعموا الإسلام فاتخذوا هذا الإيمان المزعوم جُنَّة: وقاية، جَنّ الشيء: سَتَرَه عن الحاسة، ومنه الجن لأنهم يرونكم من حيث لا ترونهم، مستورون عن الحواس، ومنه المجنون فقد غُطِّيَ عقله، فالجَنُّ: سَتْرُ الشيء عن الحاسة، الِجنَّ: الوقاية والستر. (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أي ستراً لحقيقة كفرهم، اتخذوا أيمانهم التي حلفوها أو اتخذوا إيمانهم المزعوم جُنة.
﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: صدُّوا أنفسهم وصدوا غيرهم بالتحريش والإيهام والتناجي حتى يحزن الذين آمنوا، وقعت مصائب؛ قُتِلَ فلان أو جُرِحَ فلان أو هُزِمَت سرية رسول الله التي أرسلها إلى كذا وكذا. (صدوا عن سيل الله): صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن الطريق إلى الله. (فلهم عذاب مهين) نوع آخر من أنواع العذاب، مرة لهم عذاب شديد: (أعد لهم عذاباً شديداً)، ثم يقول هنا: ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ نوع آخر ولون آخر من العذاب، فهم يتقلبون بين أنواع العذاب المختلفة. أو أعد لهم عذاباً شديداً في القبر وفي الآخرة لهم عذاب مهين، ففي الدنيا عذاب شديد وفي الآخرة عذاب مهين: مُذِلّ يُحَقِّرُهُم ويُذِلُّهُم ويفضحهم، ولهم عذاب مهين: في الدنيا أو في الآخرة. ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ حين نزلت آيات النصر والبشرى بالنصر لرسول الله تكلم المنافقون وزعموا أن النصر بعيد عن المؤمنين، وزعموا أنهم يُنصَرون على المؤمنين في الآخرة بكثرة المال وبكثرة الولد، فيقول الله: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً) أي لن تنفعهم ولن تجزئ عنهم في شيء، فإن أرادوا الفداء بالمال فليس في الآخرة مال، وإن أرادوا أن يتحمل أولادهم عنهم العذاب كُلٌّ بشأنه مشغول. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الآية تقرر الخلود لهم في جهنم، هؤلاء المنافقون في الدَّرْكِ الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً، هم أصحاب النار، وصاحب الشيء مالكه، وصاحب الشيء المصاحب له دون فراق، فهم أصحاب النار إذاً مصاحبون لها دون زوال ودون انتقال ودون فراق. أيها الأخ المسلم؛ النفاق الذي جاء في القرآن هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، ذاك هو النفاق الذي ورد في القرآن.
أما ما نشاهده في الدنيا فقد لا يسمى نفاقاً أو يسمى نفاقاً تجوزاً، إنما في حقيقته هو رياء، ممكن أن يكون رياءً؛ وهو مراءاة الناس، وممكن أن يكوم مداهنة كمداهنة الرؤساء والحكام وما إلى ذلك، أما النفاق الذي ذُكِرَ في القرآن فمصيره الدرك الأسفل من النار، وأما ما ذُكِرَ في الدنيا فهو نوع من أنواع الشرك الخفي عقوبته شديدة وخطره عظيم؛ أن تبتغي بعملك الناس أو الشهرة أو الجاه أو المال، وإنما العلم هو الأساس في الرفعة وفي الدرجة، وما سلك العبد سبيلاً إلى العلم إلا وسَهَّلَ الله له به سبيلاً إلى الجنة، وما خرج طالب العلم من عنده إلا وقد فردت ملائكة الله أجنحتها رضاً بسعيه. وقد خُيِّرَ سليمان بين العلم والمال والمُلْك فاختار العلم فأُعطي العلم والمال معه: (ولقد آتينا داوود وسليمان علماً) وكان أصحاب رسول الله يتفاضلون بالعلم، والعالم أخطر على الشيطان من ألف عابد لأنه يبين للناس الحلال والحرام، وكلما عَمِلْتَ بما تعلم وَرَّثَك الله عِلْمَ ما لم تعلم. مَنْ عجب أن يكذب المرء في الدنيا ويتمرن على الكذب ويتمرس عليه ثم يأتي بين يدي الله فيكذب على الله! شر الناس هؤلاء الذين يكذبون على الله بعد ما أصبح العلم اضطراراً وليس اختياراً، فأنت تؤمن بالله وبصفات الله بالغيب، فأنت لم تَرَ الله ولم تَرَ الجنة ولم تَرَ النار ولم تَرَ الملائكة ولم تَرَ الجن ولا الصراط ولا الميزان ولكنك تؤمن بكل ذلك، ذاك هو إيمانك بالغيب، هذا ما يعوَّل عليه في الحساب. أما أن يؤمن الإنسان اضطراراً فذاك لا يفيده، كما يحدث عند طلوع الشمس من مغربها، كبرى علامات الساعة وآخر العلامات التي بعدها يُقفَل باب التوبة، لأن الناس يرون الشمس تغرب وإذا بها لا تعود إليهم من حيث غربت فيؤمن الناس اضطراراً لكن هنا لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آَمَنْت من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانها خيراً.
كذلك يحكى لنا القرآن عن هؤلاء المنافقين الذين حلفوا لرسول الله وللمؤمنين وخادعوهم (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) نعم يخادعون الله وهو خادعهم، هؤلاء يهددهم ربنا ويتوعدهم: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًۭا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْءٍ ۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ ﴿18﴾
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ سماهم ربنا بذلك: (هم الكاذبون)، ولذا حين سُئِلَ رسول الله: أيكذب المؤمن؟ قال: "لا، إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" وفي نفس الوقت يقول أن المؤمن قد يسرق وأن المؤمن قد يزني وأن المؤمن قد يشرب الخمر، لكن لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، أو كأن الإيمان يُنزَع منه، لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، وكأن الإيمان يُنزَع منه ثم يعود إليه إن تاب وأناب. لكن هل يكذب المؤمن؟ أبداً، لا يكذب المؤمن.
ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ حِزْبُ ٱلشَّيْطَـٰنِ ۚ أَلَآ إِنَّ حِزْبَ ٱلشَّيْطَـٰنِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ﴿19﴾
وأشد ما يقاسيه هؤلاء يوم القيامة الخصام وأي خصام، فهم و هم في جهنم يتضرعون وينادون: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية:١٠٧]، فهم يتكلمون ويرد عليهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [سورة المؤمنون آية:١٠٥]، فهم يسمعون ويتكلمون، وقد يحدث لهم الكلام، بعض الأُنس أو بعض التخفيف، أشد ما يصاب به هؤلاء حين يقال لهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [سورة المؤمنون آية:١٠٨]، يُمنَع عنهم الكلام، أشد ما يقاسيه هؤلاء الخصام. وانظر كيف خسروا لذة النظر إلى وجه الكريم، خسروا المناجاة مع الله، خسروا استماع كلامه، خسروا الجنة، خسروا أهلهم. نعم، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. أيها الأخ المسلم؛ العلم أمانة، العلم حصن، العلم يقيك شر التطرف ويقيك شر الإفراط ويقيك شر التفريط. ونبينا يقول: "إنما بُعِثْتُ مُعَلِّمَاً" "وخيركم من تعلم العلم وعَلَّمَه" وكان عمر بن الخطاب في خلافته يقدم ابن عباس على الصحابة، وعبد الله بن عباس شاب ويافع وصغير السن وفي الأصحاب كبار أجلاء كعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم، فكان يقدمه في مجلسه، ومجلس عمر مجلس علم، مجلس أهل القرآن فقد كان وَقَّافاً عند الحق يحب أن يستشير الناس ويشاورهم، فحين قَدَّمَ ابن عباس على الناس في المجالس حدث شيء في نفوس بعضهم، وأَحَسَّ عمر بذلك فأراد عمر أن يبين لهم التقديم ما سببه، فجلسوا وجلس ابن عباس معهم وسأل عمر: من منكم يعرف تفسير قول الله: (اذا جاء نصر الله والفتح)؟ فسكتوا جميعاً، قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين ذلك أَجَلُ رسول الله أَعلَمَه الله إياه، فقال عمر: واللهِ ما أعلم منها إلا ما تَعْلَم، فَعَلِمَ الناس أن فضل ابن عباس بالعلم، ويفضل الناس بالعلم.
هدد الله المنافقين بفضحهم، وأنبأنا عن أخبارهم وكيف استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، وبَيَّنَ لنا أنهم يوم القيامة يُحشَرون فلا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وإذا أوقفهم الله للسؤال حلفوا له كما يحلفون للناس، نعم يحلفون لله كما حلفوا في الدنيا ليخدعوا الرسول والمؤمنين والله خادعهم وهم لا يشعرون، يحلفون على الإسلام والإسلام منهم براء، فإذا جاءوا بين يدي ربهم قالوا: واللهِ رَبِّنا ما كنا مشركين، انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. هؤلاء حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. وتتوالى الآيات لتبين أن الله غالب على أمره، وأن الكفار مهما تجمعوا وتحزبوا لن يُنصَروا في الدنيا ولن يُنصَروا في الآخرة، يقول الله:
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُو۟لَـٰٓئِكَ فِى ٱلْأَذَلِّينَ ﴿20﴾
كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌۭ ﴿21﴾
ويغلب أتباع الرسل بهذا الوعد أيضاً إذا كانوا على ما تركهم عليه الرسل، ولذا غَلَبَ أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وفُتِحَت بلاد فارس وفُتِحَت بلاد الروم وفُتِحَت الممالك، فُتِحَت الأمصار لأنهم كانوا على ما كان عليه الأوائل ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سورة آل عمران آية:١١٠]، تلك هي الشروط، فإن كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، تقيمون شرائعه فأنتم على الوعد. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾: قوي قاهر غالب، كل شيء في قبضته، لا يُعجِزُهُ شيء، عزيز ليس له مثال، عزيز لا يُغلَب، لا يُنَال، لا يُدرَك، ذاك هو العزيز. وقوة الله وعزته كانت كافية لمحق الكفر والكفار ولكن الله أراد أن يبتلي المؤمنين فسلطهم على الكفار بالحرب، سلطهم ليتخذ منهم شهداء، سلطهم ليبتلي ما في صدورهم، وقد كان الله قادراً على محو الكفر والكفار بهزّة، بصيحة من جبريل، بِرِيح ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة الفتح آية:٤]، ولكن الله أراد أن يبتلي المؤمنين؛ كيف هم في نصرهم لله وفي نصرهم لدين الله وفي نصرهم لرسل الله؟ لكن الله أزلاً وأبداً هو القوي العزيز. وتأتي آية تُختَم بها سورة المجادلة والتي نحن بصددها، والآية خبر ولكن هو نهي جاء في صيغة الخبر للتشديد في النهي، وكأن الناس قد انتهوا وأطاعوا، يقول الله:
لَّا تَجِدُ قَوْمًۭا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوْ كَانُوٓا۟ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْإِيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍۢ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ ۚ أَلَآ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿22﴾
وهذه الآية نظير لقوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [سورة التوبة آية:٢٤]، سمَّى هؤلاء الذين يحبون الأب والابن والزوجة والأخ والعشيرة والمال والتجارة أكثر من حبهم لله سماهم فَسَقَة، وهنا نفى عنهم الإيمان نفياً قاطعاً، هناك وصفهم بالفسق وهنا نفى عنهم الإيمان، مهما كان هؤلاء الأعداء: أقارب أو أبناء أو إخوان أو عشائر، يقول الله أولئك الذين لايوادُّون هؤلاء (أولئك كتب في قلوبهم الايمان) أو (كُتِبَ في قلوبهم الإيمان). كتب الله في قلوبهم الإيمان: أثبت الإيمان في قلوبهم، قضى بذلك وأمر وأثبت وكتب على قلوبهم، وملأ هذه القلوب بالإيمان. ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أيدهم: نصرهم وقواهم وعززهم وأعزهم، بِرُوحٍ منه: القرآن، روحٌ من الله. ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [سورة الشورى آية:٥٢]. بِرُوحٍ منه: بنصر وتأييد من الله، لأن النصر فيه حياة للمؤمنين وفيه رفعة لشأنهم، فكأن النصر لهم في الدنيا كالحياة لهم، والبقاء لدين الله وللعاملين بدينه. بِرُوحٍ منه: جبريل ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ [سورة مريم آية:١٧]. بِرُوحٍ منه: الضمير في "منه" للإيمان، كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه: بروح من الإيمان، لأن الإيمان سبب لحياة القلوب كما أن الأرواح سبب لحياة الأجساد. (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) ذاك وعد الله يُحَقَّق لهم في الآخرة، هم خالدون في هذه الجنات.
والجنات جمع جَنَّة، والجَنَّة: البستان متكاتف الأغصان والأشجار، لأنه يَجُنُّ الذي تحته: يستره. جنات تجري من تحتها أنهار العسل وأنهار اللبن وأنهار الماء وأنهار الخمر. خالدين فيها: الخلد الذي لا زوال معه، عطاءً غير مجذوذ. ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ وجاء بالرضا بعد دخول الجنات، أيدهم بروح منه في الآخرة، كتب في قلوبهم الإيمان في الدنيا، وأيدهم في الدنيا ونصرهم في الدنيا، ونصرهم في الآخرة وأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وجاء بالرضا في آخر العطايا، لأن رضا الله أَجَلُّ وأكبر من كل نعيم. ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ تحديد وتخصيص، أولئك حزب الله: أحبابه، أولئك جنوده. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: هم الفائزون، هم الذين وصلوا إلى الغاية، إلى رضا الله، إلى الجنة، إلى النعيم، فازوا بالنجاة من النار. وفي الآية بعض اللفتات؛ الرضا المتبادل بين الله وأحبابه: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) رضي عنهم فَقَبِلَ أعمالهم وتقبل إيمانهم، ورضوا عنه فقبلوا ثوابه وفرحوا به وسعدوا به. وفي القرآن أمران متبادلان: الرضا والحب. فإذا أردت أن تعرف هل رضي الله عنك فَسَلْ نفسك: أَرَضِيتَ أنت عنه؟ لأن الله يقول: رضي الله عنهم ورضوا عنه، فإذا كنت راضياً بالله رباً راضياً بقضائه وقَدَرِه يستوي لديك الضر والنفع، إذا أصابتك الضراء صَبَرْتَ وإذا أصابتك السراء شَكَرْتَ فأنت راضٍ عن الله، فلابد أن يكون الله راضياً عنك. وكذلك الحب لأن الله يقول: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [سورة المائدة آية:٥٤]، ولابد أن يكون الحب متبادلاً بين الله وبين العبد، فإذا أردت أن تعرف هل يحبك الله فَسَل نفسك: هل أنت تحب الله؟ فإن كنت فعلاً ممن يحب الله فثق أن الله قد أحبك ورزقك حبه.
ولذا سئل بعض العارفين: هل تحب الله؟ قال: نعم والحمد لله، قالوا: ما مقدار حبك لله؟ قال: بالقدر الذي أعطاني إياه. نعم، فالله هو الذي يمنح العبد حبه ويوفقه لكل عمل يقربه إلى حبه، تلك لفتة. اللفتة الأخرى في الآية أن الله تبارك وتعالى جمّل الآية وحَلَّاها بفنون المؤكدات فقال: (ألا إن حزب الله هم المفلحون) تحلية الآية بفنون المؤكدات الثلاث: (ألا، إنَّ، هم) هذه الألفاظ الثلاثة تؤكد: (ألا إن حزب الله هم المفلحون) تأكيد ثالث وكأنهم المختصون بالفلاح، هؤلاء هم المختصون بالفلاح، الذين خصهم الله بأن يكونوا من حزبه وبأن يكونوا هم المفلحون. وَرَدَ في الدعاء أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو ويقول: "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق يداً عَلَيَّ أو نعمة فيُوَادُّه قلبي فإنك قُلتَ وقولك الحق "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوَادُّون من حَادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم". فعلاقة المؤمن بالكافر لها ضوابط في الإسلام، والكفار في نظر الإسلام أربع طوائف: كفار جاهروا بكفرهم وحاربوا الإسلام والمسلمين فهم أهل حرب؛ وكفار هادنوا المسلمين وعاهدوهم فهم أهل مهادنة؛ وكفار دخلوا تحت سلطان المسلمين ورضوا بحكمهم فهم أهل ذمة؛ وكفار خادعوا المسلمين فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر وهم المنافقون. وقد حدد الإسلام هذه الطوائف الأربعة، حدد عقوباتهم في الدنيا وحدد مصيرهم في الآخرة، وبين للمسلمين كيف يتعاملون مع هذه الطوائف ووضع الضوابط لها، فإن كان الكفار أهل حرب أمرنا ربنا (تبارك وتعالى) أن نجاهدهم وأن نحاربهم إن بدأونا بالحرب، أو إن كان الخروج لرفع راية الإسلام ولنشر دين الله.
وهنا يتحدد الجهاد وإما أن يكون فرض كفاية وإما أن يكون فرض عين وذاك يحدده الإمام، ويخرج المسلم بائعاً نفسه لله (تبارك وتعالى) ولا عذر لأحد في التخلف إن تعين الجهاد إلا أن يكون من أصحاب الأعذار والذين بينهم القرآن، وفي هذه الحالة يحرم قطعاً الفرار وأن يُوَلِّهِم المسلم دُبُرَه ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [سورة الأنفال آية:١٦]، أيضاً يحرم قطعاً المودة أو التوادد أو الاتصال أو إخبار الكفار بأنباء المسلمين واستعداداتهم. ضوابط تبين علاقة المسلمين بالكفار حال الحرب. أما إن كانوا من أهل المهادنة؛ أي هادنهم الإمام كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع يهود المدينة وكما فعل مع كفار قريش في صلح الحديبية؛ التزم المسلمون كافة بما عاهد الإمام عليه الأعداء، لا ينقضون العهد مطلقاً إلا إن خيفت الخيانة، والمقرر لهذا والمقدّر هو الإمام، وفي حالة الخوف من الخيانة لا يصح نقض العهد مطلقاً إلا بإعلان، لقول الله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [سورة الأنفال آية:٥٨]، أي إذا خفت منهم الخيانة وأحسست بنقضهم للعهود وأردت أن تنقض العهد فلابد وأن تُعلِنَهم بذلك قبل أن تتحرك لقتالهم حتى تكون أنت وهم سواء في العلم بنقض العهد. ضوابط لمن هادنوهم، إذا هَادَنَت الأمة الكفار لهذه المهادنة ضوابط.
أما إذا كان الكفار أهل ذمة؛ أي دخلوا في حكم المسلمين كما فُتِحَت مصر وبقي بعض أهلها على دينهم ورفضوا الدخول في دين الإسلام وكَفُّوا أيديهم ولم يظاهروا الأعداء ولم يرفعوا السلاح ضُرِبَت عليهم الجزية ووُضِعَت الضوابط، ولأهل الذمة ما لأهل الإسلام من حقوق وعليهم ما على أهل الإسلام من واجبات، ومن قَتَل ذِمِّيَّاً برئت منه ذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسعى بذمة المسلمين أدناهم. ضوابط لأهل الذمة، وإن أرادوا أن يتحاكموا فيما بينهم بشرع الإسلام حكم الإمام بينهم بشريعة الإسلام، وإن أرادوا أن يتحاكموا فيما بينهم بشرائعهم أبيح لهم ذلك، لقول الله ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة المائدة آية:٤٢]. أما المنافقون -وهم أسوأ الفئات جميعاً- وعدهم الله (تبارك وتعالى) بأشد العذاب يوم القيامة فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [سورة النساء آية:١٤٥]، لأنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، فكان لهم ما للمسلمين في الدنيا من أمن وأمان، حتى الغنائم كان لهم نصيب منها، كانوا يخرجون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة وينالون من الغنائم، وكانوا يشهدون الصلوات، لكن الله فضحهم وقال عنهم: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ﴿النساء:١٤٢﴾، هؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم. لكن الإسلام جعل ضوابط لهؤلاء وهو أن يُعَامَلوا معاملة المسلمين وتُترَك سرائرهم وبواطنهم لله عز وجل، وطالما أظهروا الإسلام ونطقوا بالشهادة كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين دون أن نفتش عن قلوبهم.
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة ويحيطه منافقون كثير ولم يكن يعلمهم في أول الهجرة وأعلمه الله بهم في أواخر أيامه حيث قال: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [سورة محمد آية:٣٠]، وقد جاء ذكر المنافقين في سورة المجادلة وقال في شأنهم: (ألم تَرَ إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم) كانوا يوالون اليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين رغم إشهارهم الإسلام بالتلفظ بالشهادة.
وقال في شأنهم: (يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) فضحهم في السورة، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقتلهم، قَبِلَ منهم ظواهر الأمر وأوكل سرائرهم إلى الله (تبارك وتعالى) وحين حدث وأُخبر عن عبد الله بن أبي سلول شيخ المنافقين، وحين استأذن في قتله واستأذنه ابنه -ابن عبد الله بن أبي سلول- وجاء يوماً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوجده يشرب شربة ماء فقال: بالله يا رسول الله ما أَفْضَلْتَ فَضْلَةً لأبي يشربها لعل الله يشرح صدره؟ فأعطاه الفضلة فأخذها وذهب إلى أبيه فأسمعه ما كره ورفض أن يشرب فَضْلَةَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: لو جئتني بِبَوْلِ أمك لكان كذا وكذا، فَهَمَّ بِقَتْلِه وذهب إلى رسول الله يستأذنه في قتله فلم يأذن له فقال: "بل تَرْفُق به وتُحسِنُ إليه" وجاءه أصحابه وقالوا: يا رسول الله أَكْثَرَ ابن أُبَيّ، مُرْنَا بقتله، فقال: "لا يُصبِحُ الناس يتحدثون أن محمداً يقتل أصحابه" وأبقى عليه رغم علمه بنفاقه ورغم فضح الله له في سورة من سور القرآن ألا وهي سورة النور: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة النور آية:١١]، في قصة السيدة عائشة ونزلت الآية: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) في شأن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول الذي كره أباه واستأذن في قتله، ونزلت في شأن أبي بكر أيضاً فقد أوشك أن يقتل ابناً له في غزوة بدر، ونزلت في شأن مصعب بن عمير، ونزلت في شأن الصحابة الذين قاتلوا آباءهم وأبناءهم في غزوات بدر وأحد. أيضاً هؤلاء المنافقون، لم نؤمر بالتفتيش عن قلوبهم، طالما قالوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله.
وقد حدث في عهد النبي أن خرج أسامة بن زيد في سرية من السرايا وتمكن من أحد الكفار وحين هَمَّ بقتله نطق بالشهادة فقتله أسامة، وحين جاء وأخبر النبي قال: "بعد أن قالها يا أسامة؟ " قال: يا رسول الله إنما قالها ليعصم نفسه، قال: "يا أسامة هلا شَقَقْتَ عن قلبه؟ أبعْد أن قالها يا أسامة؟ يا أسامة من لك بلا إله إلا الله؟ " وندم أسامة ولزمه الندم إلى آخر عمره، يندم ويحكي عن هذه القصة ويقول: ليتني لم أكن أسلمت من قبل هذه الحادثة. هَلَّا َشَقَقْتَ عن قلبه؟ لذا حرّم العلماء جميعاً أن يُكَفِّرَ العبد إنساناً نطق بالشهادة مهما كان ومهما بدا من أفعاله طالما نطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله حَرُمَ دمه وماله وعِرضُه. ولذا يحذرنا رسول الله ويقول: "إذا كَفَّرَ الرجل أخاه بَاءَ بالكفر أحدهما" أي إذا قال رجلٌ لرجلٍ أنه كافر، إن كان كافراً حقاً فقد بَاءَ بكفره وإن لم يكن كافراً بَاءَ القائل بالكفر، أي رجع بالكفر. واللعن كذلك، إذ لا يجوز اللعن إلا على العموم، كما لعن الله (تبارك وتعالى) الكفار على العموم ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة آية:٨٩]، ﴿لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأعراف آية:٤٤]، أما أن تلعن شخصاً بعينه فحرام قطعاً. وكذلك الأشياء إلا من خصصه الله باللعن كلعنته لإبليس ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [سورة ص آية:٧٨]، لعنة الله على إبليس. وكما لعن الله فرعون وقارون وهامان، هؤلاء خُصِّصُوا باللعن فجاز تخصيصهم باللعن، أما التعميم فَلِمَن لا يُعلَم أمره. لذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إذا لعن الرجل الأرض -كأن تعثرت فيها فتقوم فتلعن الأرض- رَدَّت وقالت: لعنة الله على العاصي منا" هل تعصي الأرض ربها؟! فإذا لَعَنْتَ الأرض أو لَعَنْتَ شجرة أو لَعَنْتَ نجماً أو كوكباً أو حجراً رَدَّ عليك وقال: لعنة الله على العاصي منا.
بَاءَ القائل باللعن لأن الحجر لا يعصي والشجر لا يعصي. من هنا يحرم قطعاً على المسلم أن يحكم على أخيه المسلم بالكفر وإن ترك الصلاة وإن ترك الزكاة وإن لم يحكم بشرع الله طالما نطق بالشهادة. ولذا فَصَّلَها الفقهاء فقالوا: من ترك الصلاة جاحداً لفرضيتها أي منكراً لفرضيتها كَفَر، أما من تركها تكاسلاً فَسَق، فهو مسلم فاسق؛ أي مسلم عاصي وليس كافراً. ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً للشرع منكراً لفرضية هذه الأحكام كَفَر، أما من ترك الحكم بالشرع تكاسلاً أو تجاهلاً فلا يقال فيه كافر. وكذلك في جميع شرائع الإسلام وفرائض الإسلام من أنكرها جحوداً ونكرانا ً كَفَر، ومن أنكرها تكاسلاً أو عصياناً فهو مسلم عاصٍ ولا يمكن أن يطلق عليه كلمة كافر. وكذلك التحريم والتحليل؛ فمن حَلَّلَ حراماً بنص القرآن ظهرت حرمته كَفَر، ومن حَرَّمَ حلالاً ظهرت إباحته كَفَر.
لذا خاف الفقهاء من قولهم عن أشياء حرام رغم الاجتهاد والقياس فاخترعوا وابتدعوا كلمة ألا وهي (الكراهة) فقالوا يُكرَه كذا ويُكرَه كذا، وإذا أرادوا أن يشددوا في الكراهة قالوا يُكرَه تحريماً، وحرصوا على عدم النطق بكلمة (يَحرُم) إلا فيما ورد فيه نص لقول الله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [سورة الأعراف آية:٣٢]، ولقول الله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [سورة يونس آية:٥٩]، من هنا لا يصح للإنسان مطلقاً أن يحرم مباحاً إلا بنص ولا يحلل حراماً إلا بنص، والحرام ما حَرَّمَه الله ورسوله والحلال ما أباحه الله ورسوله، والمسلم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأركان الإسلام معلومة؛ خمس أساسها الشهادة وركنها الأساسي هي الشهادة، ومن نطق بالشهادة فهو مسلم وإن ترك باقي فرائض الإسلام، إن تركها جحوداً كَفَر، وإن تركها تكاسلاً عصى، لكن الإنسان لا يمكن أن يقضي بكفر إنسان آخر، هذا في شأن من أظهر الإسلام. ولذا كان المنافقون محيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتلهم وقَبِلَ منهم شهادة الإسلام الظاهرة على لسانهم رغم علمه بهم.
أيضاً لا يصح الاستغفار مطلقاً للكفار بعد موتهم على الكفر، لكن يصح الاستغفار لهم ماداموا على قيد الحياة، ومثال ذلك أن يتزوج الرجل بامرأة كتابية -وأهل الكتاب كفروا بقولهم إن المسيح بن مريم هو الله أو ابن الله- ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [سورة المائدة آية:١٧]، لكن الله أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية، فهل يصح لهذا الزوج أن يستغفر لامرأته؟ نعم، إذا أنجب منها أولاد هل يصح للأولاد المسلمين على دين أبيهم أن يستغفروا لأمهم؟ نعم، هل يصح أن يدعو الابن لأمه بالهداية وهي كافرة؟ نعم، ويستغفر لها؟ نعم، طالما كانت على قيد الحياة فقد يهديها الله، وقد استغفر أبو هريرة لأمه وطلب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يدعو لها بالهداية، ودعا رسول الله لقومه: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" لكن إذا ماتت الأم وهي كافرة حَرُمَ على الابن أن يستغفر لها لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [سورة التوبة آية:١١٣]، وهذا التباين لا يكون إلا بالموت، إذا مات الكافر على كفره، فقد يظل كافراً طوال عمره وقبل أن يغرغر ينطق بالشهادة كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعمه أبو طالب: "يا عَمِّ كلمة أُحَاجُّ لك بها عند الله يوم القيامة" كلمة لو قالها أبو طالب قبل أن يغرغر وهو على فراش الموت لقَبِلَها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منه. أيها الأخ المسلم؛ في سورة المجادلة أحكام، أحكام الظهار، أحكام الكفارة، أحكام النجوى، أحكام التفسح في المجالس، أحكام مناجاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحكام المنافقين وما حُكِمَ عليهم به دنيا وأخرى، أحكام المحادِّين لله ولرسوله، أحكام المودة ولمن تكون.
أيها الأخ المسلم؛ الظهار كان من سنن الجاهلية وحَرَّمَه الإسلام. أما الإيلاء فله أحكامه. ولكن الظهار مُنِعَ بنزول سورة المجادلة، ومن فعل فعليه الإثم وعليه الكفارة. قلنا إن الله جعل القوامة للرجال، ولا يصح للرجل أن يستغل القوامة التي جعلها الله بيده في إرهاب امرأته أو في سفاسف الأمور وتوافهها، فاحذروا من أيمان الطلاق، واحذروا من أن تعيش امرأتك فى تهديد وخوف ووجل لأن الله جعل العلاقة بينكم مودة ورحمة.