
القرآن الكريم / سورة الحديد / التفسير المقروء
سورة الحديد
لقاؤنا مع أولى المسبِّحات، لقاؤنا مع سورة الحديد، يقول الله (تبارك وتعالى):
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿1﴾
والتسبيح: السير بسرعة في الماء أو الهواء، التسبيح: التنزيه؛ تنزيه الله عن كل نقص، والتسبيح: وصف الله بصفات الكمال والجلال. وكلمة التسبيح جاءت في القرآن بصيغة الماضي ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾، وجاءت في القرآن بصيغة المضارع ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ [سورة الجمعة آية: ١]، وجاءت في القرآن بصيغة الأمر ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [سورة الأعلى آية: ١]، وجاءت في القرآن بصيغة المصدر ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [سورة الإسراء آية: ١]، وتعددت الصيغ فاشتملت على هذه الجهات لهذه المادة إشعاراً بأن الله يسبحه الخلائق أجمعين، عاقلها وغير عاقلها، بلسان المقال وبلسان الحال، طوعاً وكرهاً من الأزل إلى الأبد، في كل وقت وكل حين وآن، وتشعرنا هذه الصيغ المتعددة للفعل بجميع الصيغ المعلومة في اللغة العربية من المصدر إلى المضارع إلى الماضي إلى الأمر بأن ذلك هو شأن المُلك مع المالك، شأن المُلك مع المَلِك، التسبيح ليلاً ونهاراً، أزلاً وأبداً، طوعاً وكرهاً، مقالاً وحالاً. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ بيان لاستحقاقه هذا التسبيح فهو العزيز، والعزيز: من العزة، والعزة: القوة والقهر والغلبة. والعزيز: من الشيء النادر، العزيز: الذي لا يُنال، العزيز: الذي لا يُدرَك، العزيز: الذي ليس له مثيل ولا شبيه، العزيز: يصعب إدراكه؛ فهو فوق الإدراك، فوق إدراك العقول والأفهام وتوهمات الخيال، هو الله العزيز الذي يُلتَجَأ إليه، لا يَذِل بل هو المُعِز والمُذِل، منه العزة، هو العزيز الذي يُعِز وهو الذي يمنح العزة وهو الذي يسلب العزة لا يحتاج لشيء وكل شيء محتاج إليه.
(الحكيم) والحكيم من الحكمة، والحكمة: الإصابة في القول والعمل، الحكمة: إتقان الفعل، الحكمة: وضع الشيء في موضعه، لو نظرت إلى ما في هذا الكون بحسب ما تدركه أبصارنا وبحسب ما تصل إليه عقولنا تجد أن الله قد وضع كل شيء في موضعه، وانظر إلى أبسط الأشياء، وانظر إلى الشمس في موقعها لو اقتربت قليلاً لاحترقت الأرض بما عليها، ولو ابتعدت كثيراً لتجمدت الأرض بما عليها.
وانظر إلى خَلْقِك؛ وفي أنفسكم آيات، وانظر إلى عينيك تُرى ألها موضع آخر؟ وانظر إلى أذنيك أيحق أن توضع في مكان آخر؟ وانظر إلى قدميك واستقامتك، وانظر إلى وضع القلب والأمعاء، وانظر إلى كل شيء تجد أن الله قد وضع كل شيء في مكانه، تلك هي الحكمة، وأتقن كل شيء صَنَعَه، وهو القائل في صُنعِه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [سورة السجدة آية: ٧] وقال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة النمل آية: ٨٨] وقال: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه آية: ٥٠] كل ذلك من نور رحمته سبحانه وتعالى، نعم! سَبَّحَ لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، فمِنَ المخلوقات من يسبح طوعاً ومن المخلوقات من يسبح بلسان المقال ومن المخلوقات ما يسبح بلسان الحال، فما من موجود في الوجود إلا وهو شاهد على نفسه باحتياجه لمدبر دبّره وقدّره، محتاج لمن أبقاهُ وخَلَقَه ويَسَّرَه، كل شيء يشهد لله بأنه الواحد القهار العزيز الحكيم، فتسبيح المخلوقات طوعاً وكرهاً، حتى الكفار، إي وربي! تسبح ظلالهم لله بالغدو والآصال شاءوا ام أبوا، طوعاً وكرهاً، حتى الجبال، حين قالوا إن الأشياء تسبح بلسان الحال كالجمادات والزرع والضرع والحصى والمدر، الأرجح أنها تسبح بلسان المقال، حيث قال خالقها: ﴿الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة فصلت آية: ٢١] والقائل في شأن الجبال حين أعطى هذه المعجزة لداوود يا جبال أوبي معه والطير، قال: ﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [سورة ص آية: ١٨] إي وربي! سَبَّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.
(الحكيم) والحكيم من الحكمة، والحكمة: الإصابة في القول والعمل، الحكمة: إتقان الفعل، الحكمة: وضع الشيء في موضعه، لو نظرت إلى ما في هذا الكون بحسب ما تدركه أبصارنا وبحسب ما تصل إليه عقولنا تجد أن الله قد وضع كل شيء في موضعه، وانظر إلى أبسط الأشياء، وانظر إلى الشمس في موقعها لو اقتربت قليلاً لاحترقت الأرض بما عليها، ولو ابتعدت كثيراً لتجمدت الأرض بما عليها.
وانظر إلى خَلْقِك؛ وفي أنفسكم آيات، وانظر إلى عينيك تُرى ألها موضع آخر؟ وانظر إلى أذنيك أيحق أن توضع في مكان آخر؟ وانظر إلى قدميك واستقامتك، وانظر إلى وضع القلب والأمعاء، وانظر إلى كل شيء تجد أن الله قد وضع كل شيء في مكانه، تلك هي الحكمة، وأتقن كل شيء صَنَعَه، وهو القائل في صُنعِه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [سورة السجدة آية: ٧] وقال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة النمل آية: ٨٨] وقال: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه آية: ٥٠] كل ذلك من نور رحمته سبحانه وتعالى، نعم! سَبَّحَ لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، فمِنَ المخلوقات من يسبح طوعاً ومن المخلوقات من يسبح بلسان المقال ومن المخلوقات ما يسبح بلسان الحال، فما من موجود في الوجود إلا وهو شاهد على نفسه باحتياجه لمدبر دبّره وقدّره، محتاج لمن أبقاهُ وخَلَقَه ويَسَّرَه، كل شيء يشهد لله بأنه الواحد القهار العزيز الحكيم، فتسبيح المخلوقات طوعاً وكرهاً، حتى الكفار، إي وربي! تسبح ظلالهم لله بالغدو والآصال شاءوا ام أبوا، طوعاً وكرهاً، حتى الجبال، حين قالوا إن الأشياء تسبح بلسان الحال كالجمادات والزرع والضرع والحصى والمدر، الأرجح أنها تسبح بلسان المقال، حيث قال خالقها: ﴿الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة فصلت آية: ٢١] والقائل في شأن الجبال حين أعطى هذه المعجزة لداوود يا جبال أوبي معه والطير، قال: ﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [سورة ص آية: ١٨] إي وربي! سَبَّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.
لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ﴿2﴾
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ نعم! له مُلك السماوات والأرض حقاً لا ينازعه في مُلكه منازع، ولا يشاركه في مِلكه مشارك، فقد كان والكون عدم، كان الله (تبارك وتعالى) ولم يكن شيء غيره، كان الله بصفاته بأسمائه بأفعاله كان من الأزل بغير بداية ولم يكن شيء، خلق السموات والأرض، حين خلقها أصبح مالكها ملَكَها وهو المدبر والمصرف لها، إذاً فهو له الملك، له مُلك السموات والأرض بغير شريك وبغير منازع، فهو المالِك وهو الملِك يملكها لأنه أوجدها من العدم، وهو مَلِكها لأنه المدبر والمصرف لها فله ملك السموات والأرض. ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ نعم! فقد كان الكون عدم ثم انشأه الله (تبارك وتعالى) ونفخ فيه الحياة، ما من موجود إلا وقد كان فانياً، كان عدماً قبل وجوده، فمَنْح الوجود لكل موجود ذاك إحياء، وإفناء الموجود ذاك إماتة، فالله يحي ويميت: في الناس في الدواب في البهائم في الأرض في المياه في البحار في الزروع، ترى الأرض مصفرة مخضرة، وإذا بها تُحصَد وتنتهي وتصبح بوراً أو تصبح مواتاً ثم تُعاد، يبدأ الخلق ثم يعيده، يحيي ويميت، نعم! له ملك السماوات والأرض إن شاء أحيا وإن شاء أمات. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليس الإحياء والإماتة فقط، بل هو على كل شيء قدير، وقدرة الله (تبارك وتعالى) لا تتناهى، لانهاية لها ولا حدود ولا تخطر على بال مفكِّر أو مقدِّر، فقدرة الله (تبارك وتعالى) ليست كقدرة أحد لأن ذات الله ليست كذوات الناس وليست كذات أحد، فكما أن الله ليس كمثله شيء فقدرته ليس كمثلها قدرة. ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ مقتدر قادر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
هُوَ ٱلْأَوَّلُ وَٱلْـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ﴿3﴾
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ نعم! هو الأول حيث كان ولم يكن شيء، وهو الأول بلا بداية وكل ما عداه مسبوق. وهو الآخر بلا نهاية وكل ما سواه ملحوق. هو الأول فقد كان ولم يكن شيء، منه وُجِدَت الأشياء، فالمبدأ منه والأسباب منه والمسبَّبَات منه، هو الموجِد والخالق لكل شيء، إذاً فهو الأول قبل كل شيء. وهو الآخر لأن الله (تبارك وتعالى) يبقى وكل ما عليها فان، فهو الآخر الباقي بعد فناء كل شيء، وهو الباقي بلا نهاية، الآخر بلا حدود. أيضاً هو الآخر إذ منتهى كل شيء إليه، فالعلم ومعرفة العارفين وعبادة الطائعين وتسبيح المسبحين، كل ذلك إذا صعد، إذا عَرَج، منتهى الوصول الله! وليس وراء الله شيء! فهو الآخر، آخر ما يصل إليه العلماء، آخر ما يصل إليه عبادة العابدين، آخر ما يصل إليه تسبيح المسبحين، آخر ما ينتهي إليه كل شيء، إليه تُرجَع الأمور، هو الأول والآخر. (والظاهر) هو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء. هو الظاهر إذا طُلِبَ من العقل عن طريق الاستدلال، وهو الباطن إذا طُلِبَ من طريق الحواس. هو الظاهر حيث أظهر الوجود فما من موجود إلا وهو دال على وجود الله، فهو الظاهر حيث يُظهِر وجوده لكل الخلائق بالعقل، فبطريق الاستدلال عن طريق العقل تجد الله في كل شيء، فإذا طُلِب من طريق العقل عن طريق الاستدلال فهو الظاهر، إذ هو المُظهِر لكل شيء، وما من ظاهر في هذا الوجود وإلا وهو دال على المعبود. وهو الباطن حيث احتجب بكُنهِ ذاته عن العقول والأفكار وتوهمات الخيال، لا يُدرَك بالحواس إذ لا يُرى ولا تدركه الأبصار، ولا يُدرَك بالجوارح، ولا يُدرَك بالتكهن أو الخيال أو التوهم، فهو الباطن حيث لا يُدرَك، كُنهُ ذاته باطن لا سبيل إلى الوصول إليه. أيضاً هو الظاهر على كل شيء، الغالب لكل شيء، القاهر لكل شيء، فالظاهر هو الذي ظهر على غيره، وربنا هو الظاهر المطلق، فكل الخلائق دونه والكل في قبضته وفي قهره.
وهو الباطن لأنه يعلم بواطن الأمور فهو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ما من شيء إلا ويعلمه، إذ لا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر، فقد خلق الخلق وقَدَّرَه وعَلِمَه من قبل أن يخلقه، وقَدَّر كل شيء وكتب كل شيء فلا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٩] وعِلمُ الله لا يزيد ولا ينقص، عِلمه أزلي قديم قِدَم ذاته. وقد دعى نبينا (صلى الله عليه وسلم) دعوه فهمنا منها معاني الأسماء من حيث ظواهر الألفاظ، حيث كان يدعو ويقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر" نعم! هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
وهو الباطن لأنه يعلم بواطن الأمور فهو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ما من شيء إلا ويعلمه، إذ لا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر، فقد خلق الخلق وقَدَّرَه وعَلِمَه من قبل أن يخلقه، وقَدَّر كل شيء وكتب كل شيء فلا تفوته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٩] وعِلمُ الله لا يزيد ولا ينقص، عِلمه أزلي قديم قِدَم ذاته. وقد دعى نبينا (صلى الله عليه وسلم) دعوه فهمنا منها معاني الأسماء من حيث ظواهر الألفاظ، حيث كان يدعو ويقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر" نعم! هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ ﴿4﴾
خلق السماوات والأرض في ستة أيام من أيام الدنيا؟ ربما، أم من أيام الله (تبارك وتعالى) الذي قال في شأنها: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [سورة الحج آية: ٤٧]؟ خلقها في ستة أيام وقد كان (سبحانه وتعالى) قادراً على خلقها في لحظة، بل أقل من اللحظة، بل لو أراد أن يخلقها بكُن لكانت بين الكاف والنون. خلقها (تبارك وتعالى) في ستة أيام ليُعَلِّم الناس التأني في الأمور والتروي في المسائل، عَلَّمنا ذلك وهو القادر على خلق السماوات والأرض في لحظة وأقلّ من طرفة العين. خلق السموات والأرض بما فيها وبمن فيها، وقدّر فيها الأقوات، وبكل مالا نعلمه بالإضافة إلى ما نعلمه ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل آية: ٨] فهي سبع سموات لا يدري أحد ما كنهها ولا ما فيها من خلق وملائكة، حتى إن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول ليلة عُرِجَ به، يقول حين رأى ذلك: "أَطَّت السماء وحُقَّ لها أن تَئِطّ" انحنت "فما فيها موضع قدم إلا و به مَلَك راكع أو ساجد لله". خَلْقٌ واسع، ربنا خلق السموات والأرض ويقول في شأنها: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٧] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ والعرش غير معلوم ولا تعرفه الخلائق إلا بالاسم سواءً منهم العوام والعلماء والأنبياء والمقربون، الكل في العلم بالعرش سواء، فالعرش أكبر المخلوقات على وجه الإطلاق، بل السموات والأرض جميعاً بما فيها ومَن فيها كالحصاة في الفلاة إلى جوار العرش. العرش لا نعرفه إلا بالاسم. أما الاستواء على العرش فهو صفة لله (تبارك وتعالى) وهو وصف نفسه بها حيث قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ صفة لله نؤمن بها على الوجه الذي قاله وعلى المعنى الذي أراده.
استوى على العرش استواءً منزهاً عن المماسة وعن التمكن وعن الحلول وعن الانتقال، استواءً لا ينافي وصف الكبرياء، استواءً ليس فيه تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعليل ولا تحديد، فالاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والجحود به كفر. نعم! استوى على العرش، والعرش لا يحمله بل العرش وحَمَلَة العرش محمولون بلُطفِ قدرته مقهورون في قبضته، هو الله! (استوى على العرش) نؤمن بهذه الصفة على الوجه الذي قالها ربنا وعلى المعنى الذي أراده وننزهه عن التشبيه والتمثيل والتكييف، هو الله! ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ جاء بالتفصيل بعد الإجمال، حيث أجمل وقال: (وهو بكل شيء عليم)، ثم فَصَّلَ فقال: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ يدخل في الأرض، وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً: دخول الشيء في الشيء. ما الذي يلج في الأرض؟ البذر، الحب، جذور النبات، الحشرات والديدان التي تأوى تحت الأرض، أجساد الأموات، المعادن، كل ما في داخل الأرض مما نعلمه ومما لا يعلمه إلا الله. ويعلم ما يخرج منها من نبات، من زرع، من معادن، من كل شيء نعلمه ولا نعلمه، فمن الأرض يخرج الماء، ومن الأرض يخرج الغازات، ومن الأرض يخرج المعادن، ومن الأرض يخرج النبات، ومن الأرض يخرج الناس حين يُبعَثون، فهو يعلم ما يلج فيها وما يخرج منها، يرى ظاهرها ويرى باطنها. ويعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، والسماء: جهة العُلُوّ، وكل ما علاك يُسَمَّى سماء، فيُطلق على السحاب سماء، ويطلق على السقوف سماء، ويطلق على السماء المبنية سماء، فكل ما علاك فهو سماء. ما ينزل من السماء من مطر، من رزق، من ملائكة، من وحي، من روح، ومن رحمة، من عذاب، من بلاء، من صواعق، من هوالك، ما ينزل من السماء بعلمه وبإرادته وبقدرته. ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ العُروج: الصُّعود.
ما يعرج في السماء من بخار؛ بخار الماء، من دخان، من أرواح المؤمنين، من أرواح الناس، من ملائكة تنزل وتصعد بأمره تكتب وتحصي وتَعُد، من أعمال العباد، من دعوات الصالحين، من تسبيح المسبحين، من مناجاة العارفين ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سورة فاطر آية: ١٠] فما من نازل إلا ومنه ويعلمه، وما من صاعد إلا وإليه ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [سورة هود آية: ١٢٣] ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [سورة الشورى آية: ٥٣]. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ نؤمن بها ولا ندري كُنهَها، فالمعية ليست معية مكان (جل وعلا) وتعالى أن يحلّ في شيء أو أن يوجد في شيء، فقد قال بعض العلماء (وهو معكم) بعلمه وليس بذاته، (وهو معكم) بقدرته، (وهو معكم) بتصريفه وتدبيره ولطفه وعنايته. وقال بعضهم ظاهر الآية يعارض ظاهر الآية الأخرى (ثم استوى على العرش)، والعرش فوق كل المخلوقات بل العرش محيط بجميع المخلوقات، فإن كان هو فوق العرش فكيف يكون معنا في نفس الوقت؟ من هنا وجب علينا أن نترك التأويل إذ يُمنَع الخوض في تأويل المعاني، بل نؤمن بها كما جاءت ونفوّض العلم بها إلى الله، (ثم استوى على العرش) على الوجه الذي قاله والمعنى الذي أراده، فوقية لا يعلمها إلا الله، ليست فوقية مكان. وهو معنا وليس معنا في المكان بذاته، بل جل وعلا وتعالى عن كل شيء، فهو قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو في قربه من الناس والأجسام لا يشبه في قربه قرب ذوات الأجسام، إذ ليس كمثله شيء، بل هو في قربه من خلقه بائن عنهم بالصفات رفيع الدرجات رب الأراضين والسموات.
(وهو معكم أينما كنتم) معية لا يعرفها إلا الله (تبارك وتعالى) ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ١٨] نعم! ربنا معنا بنصره كمؤمنين، معنا بتأييده، ومع الكفار يراقبهم ويُحصي عليهم أعمالهم، ومع الخلائق جميعاً بالتصريف والتدبير والتقدير، هذه المعية لا يعرفها ولا يعرف كُنهَها إلا الله. أرأيتم محمداً (صلى الله عليه وسلم) وهو عند سدرة المنتهى؟ أسمعتم وآمنتم بذلك حيث سمع صريف الأقلام؟ حيث توقف جبريل عند الحجاب؟ حيث رقى محمد وحده؟ هناك عند جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى؟ هل كان قريباً من الله قرباً يزيد عن يونس بن متى وهو في بطن الحوت؟ أعلمتم أن يونس بن متى كان في بطن الحوت وابتلعه الحوت وسبح به في أعماق المياه، في أعماق المحيطات، هاهو يونس في أعماق المياه في بطن الحوت في ظلمات من فوقها ظلمات، ظلمات بطن الحوت وظلمات المياه وظلمات الأرض، أكان محمد (صلى الله عليه وسلم) قريباً من ربه وهو في سدرة المنتهى أكثر من قرب يونس وهو في بطن الحوت؟ أبداً والله! فقد كان قرب محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو عند سدرة المنتهى كقرب يونس وهو في بطن الحوت، هو الله! (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) نعم! والله بما تعملون بصير، فإن الله (تبارك وتعالى) لا تخفى عليه خافية، وهو يبصر بغير حدقة وأجفان، ولا تختلف لديه الألوان، بل البصر صفة لله (تبارك وتعالى) يتكشف بها كمال التفريق بين المبصرات، لا تحجب رؤيته الظلمات، بل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء، ويسمع دبيبها على الصخرة الصماء. (والله بما تعملون بصير) والكلمة وإن كانت توحيداً لله وتنزيهاً لله ووصفاً للعلي الأعلى إلا أنها تُشعِر بالتهديد، تُشعِر بالوعيد، لأنه إذا كان بما نعمل بصيراً فهو محاسبنا لا محالة.
استوى على العرش استواءً منزهاً عن المماسة وعن التمكن وعن الحلول وعن الانتقال، استواءً لا ينافي وصف الكبرياء، استواءً ليس فيه تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعليل ولا تحديد، فالاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والجحود به كفر. نعم! استوى على العرش، والعرش لا يحمله بل العرش وحَمَلَة العرش محمولون بلُطفِ قدرته مقهورون في قبضته، هو الله! (استوى على العرش) نؤمن بهذه الصفة على الوجه الذي قالها ربنا وعلى المعنى الذي أراده وننزهه عن التشبيه والتمثيل والتكييف، هو الله! ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ جاء بالتفصيل بعد الإجمال، حيث أجمل وقال: (وهو بكل شيء عليم)، ثم فَصَّلَ فقال: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ يدخل في الأرض، وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً: دخول الشيء في الشيء. ما الذي يلج في الأرض؟ البذر، الحب، جذور النبات، الحشرات والديدان التي تأوى تحت الأرض، أجساد الأموات، المعادن، كل ما في داخل الأرض مما نعلمه ومما لا يعلمه إلا الله. ويعلم ما يخرج منها من نبات، من زرع، من معادن، من كل شيء نعلمه ولا نعلمه، فمن الأرض يخرج الماء، ومن الأرض يخرج الغازات، ومن الأرض يخرج المعادن، ومن الأرض يخرج النبات، ومن الأرض يخرج الناس حين يُبعَثون، فهو يعلم ما يلج فيها وما يخرج منها، يرى ظاهرها ويرى باطنها. ويعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، والسماء: جهة العُلُوّ، وكل ما علاك يُسَمَّى سماء، فيُطلق على السحاب سماء، ويطلق على السقوف سماء، ويطلق على السماء المبنية سماء، فكل ما علاك فهو سماء. ما ينزل من السماء من مطر، من رزق، من ملائكة، من وحي، من روح، ومن رحمة، من عذاب، من بلاء، من صواعق، من هوالك، ما ينزل من السماء بعلمه وبإرادته وبقدرته. ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ العُروج: الصُّعود.
ما يعرج في السماء من بخار؛ بخار الماء، من دخان، من أرواح المؤمنين، من أرواح الناس، من ملائكة تنزل وتصعد بأمره تكتب وتحصي وتَعُد، من أعمال العباد، من دعوات الصالحين، من تسبيح المسبحين، من مناجاة العارفين ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سورة فاطر آية: ١٠] فما من نازل إلا ومنه ويعلمه، وما من صاعد إلا وإليه ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [سورة هود آية: ١٢٣] ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [سورة الشورى آية: ٥٣]. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ نؤمن بها ولا ندري كُنهَها، فالمعية ليست معية مكان (جل وعلا) وتعالى أن يحلّ في شيء أو أن يوجد في شيء، فقد قال بعض العلماء (وهو معكم) بعلمه وليس بذاته، (وهو معكم) بقدرته، (وهو معكم) بتصريفه وتدبيره ولطفه وعنايته. وقال بعضهم ظاهر الآية يعارض ظاهر الآية الأخرى (ثم استوى على العرش)، والعرش فوق كل المخلوقات بل العرش محيط بجميع المخلوقات، فإن كان هو فوق العرش فكيف يكون معنا في نفس الوقت؟ من هنا وجب علينا أن نترك التأويل إذ يُمنَع الخوض في تأويل المعاني، بل نؤمن بها كما جاءت ونفوّض العلم بها إلى الله، (ثم استوى على العرش) على الوجه الذي قاله والمعنى الذي أراده، فوقية لا يعلمها إلا الله، ليست فوقية مكان. وهو معنا وليس معنا في المكان بذاته، بل جل وعلا وتعالى عن كل شيء، فهو قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو في قربه من الناس والأجسام لا يشبه في قربه قرب ذوات الأجسام، إذ ليس كمثله شيء، بل هو في قربه من خلقه بائن عنهم بالصفات رفيع الدرجات رب الأراضين والسموات.
(وهو معكم أينما كنتم) معية لا يعرفها إلا الله (تبارك وتعالى) ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ١٨] نعم! ربنا معنا بنصره كمؤمنين، معنا بتأييده، ومع الكفار يراقبهم ويُحصي عليهم أعمالهم، ومع الخلائق جميعاً بالتصريف والتدبير والتقدير، هذه المعية لا يعرفها ولا يعرف كُنهَها إلا الله. أرأيتم محمداً (صلى الله عليه وسلم) وهو عند سدرة المنتهى؟ أسمعتم وآمنتم بذلك حيث سمع صريف الأقلام؟ حيث توقف جبريل عند الحجاب؟ حيث رقى محمد وحده؟ هناك عند جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى؟ هل كان قريباً من الله قرباً يزيد عن يونس بن متى وهو في بطن الحوت؟ أعلمتم أن يونس بن متى كان في بطن الحوت وابتلعه الحوت وسبح به في أعماق المياه، في أعماق المحيطات، هاهو يونس في أعماق المياه في بطن الحوت في ظلمات من فوقها ظلمات، ظلمات بطن الحوت وظلمات المياه وظلمات الأرض، أكان محمد (صلى الله عليه وسلم) قريباً من ربه وهو في سدرة المنتهى أكثر من قرب يونس وهو في بطن الحوت؟ أبداً والله! فقد كان قرب محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو عند سدرة المنتهى كقرب يونس وهو في بطن الحوت، هو الله! (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) نعم! والله بما تعملون بصير، فإن الله (تبارك وتعالى) لا تخفى عليه خافية، وهو يبصر بغير حدقة وأجفان، ولا تختلف لديه الألوان، بل البصر صفة لله (تبارك وتعالى) يتكشف بها كمال التفريق بين المبصرات، لا تحجب رؤيته الظلمات، بل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء، ويسمع دبيبها على الصخرة الصماء. (والله بما تعملون بصير) والكلمة وإن كانت توحيداً لله وتنزيهاً لله ووصفاً للعلي الأعلى إلا أنها تُشعِر بالتهديد، تُشعِر بالوعيد، لأنه إذا كان بما نعمل بصيراً فهو محاسبنا لا محالة.
لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ ﴿5﴾
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هل هو تكرير بلا فائدة؟ هل هو إعادة؟ في أول السورة: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هنا مرة أخرى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ ليس هناك تكرير، بل المعنى متفاوت؛ (له ملك السموات والأرض) في المبدأ، حيث خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش، و (له ملك السموات والأرض) في المنتهى وإلى الله تُرجَع الأمور. فالتكرير لبيان أن المُلك أزلي أبدي فهو المُلك له (سبحانه وتعالى) من قبل الخَلق. له ملك السماوات والأرض أولاً؛ خلق السماوات والأرض ثانياً. ثم له ملك السماوات والأرض حين يفنى كل شيء وإلى الله ترجع الأمور. في المبدأ له المُلك، وفي المعاد له المُلك، ومُلك الدنيا يورَث، ومُلك الدنيا يزول، فما من مَلِك في الدنيا إلا ووَرِثَ المُلك من غيره ولو دامت لغيره ما آلت إليه، وما من مَلِك في الدنيا إلا ومُلكُه يزول بموته أو باغتصابه منه أو بنزعه، ومَلِك الدنيا لا يملك، والمالك في الدنيا ليس مَلِك، فقد تملك الأراضي الشاسعة لكنك لست مَلِكاً على الدواب ولست مَلِكاً على الطيور ولست مَلِكاً على الزروع فأنت تملك فقط ولكنك لست بمَلِك. والمَلِك كذلك؛ مَلِك يحكم لكنه لا يملك ضمائر العباد، ولا يملك حياة الرعية، ولا يملك زروعهم وأرضهم، بل كل مَلِك مفتَقِر محتاج، والمَلك الغني المطلق هو الله، له ملك السماوات والأرض أزلاً، وله ملك السماوات والأرض أبداً.
(وإلى الله ترجع الأمور) إذ هو يدير الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، فربنا حين خَلَق الخَلْق قَدَّر كل شيء وخلق كل شيء، وقَدَّر الأقوات، والجنين في بطن أمه يُكتَب عليه أربعة أشياء: رزقه، أجله، أثره، شقي أم سعيد، هل بقي شيء؟ أبداً! من هنا (إلى الله ترجع الأمور) إذاً فالكل إلى الله راجع، وكما كان البدء منه لابد وأن يكون العَود إليه.
(وإلى الله ترجع الأمور) إذ هو يدير الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، فربنا حين خَلَق الخَلْق قَدَّر كل شيء وخلق كل شيء، وقَدَّر الأقوات، والجنين في بطن أمه يُكتَب عليه أربعة أشياء: رزقه، أجله، أثره، شقي أم سعيد، هل بقي شيء؟ أبداً! من هنا (إلى الله ترجع الأمور) إذاً فالكل إلى الله راجع، وكما كان البدء منه لابد وأن يكون العَود إليه.
يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ ۚ وَهُوَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴿6﴾
الحركة والزمن وبيان أن الباقي هو الله، لا يؤثر فيه زمان ولا مكان، بل كان قبل الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان، أما الخلائق فتتأثر بالليل والنهار وبمرور الأيام. ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ يُدخِل الليل في النهار ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ ويُدخِل النهار في الليل، وأنت ترى الأيام تدور يطول النهار وكأنه أخذ جزءاً من الليل، ثم يطول الليل وكأنه أخذ جزءاً من النهار، فإيلاج النهار في الليل أن يطول النهار فيدخل في الليل فيزيله فيصبح الليل قصيراً والنهار طويلاً، ويحدث العكس يطول الليل فكأنه قد أخذ جزءاً من النهار، بطول الليل وقِصَر النهار وبطول النهار وقِصَر الليل تحدث الفصول بالشتاء والصيف والربيع والخريف وتدور الأيام وابن آدم غافل عن مصيره، وما من لحظة تمر إلا وهي تنتقص من عمرك، وما من ثانية تمضي إلا وهي محسوبة عليك، والمرء بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، والعبد لدارٍ هو إليها مُرتحِل أقرب من دارٍ هو عنها مُرتحِل، فأنت عن الدنيا راحل وإلى الآخرة مُرتحِل، فأنت أقرب إلى الآخرة منك إلى الدنيا، فانظر أمامك ولا تنظر خلفك ولا تتمسك بما هو زائل، فربنا يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ إذاً فالعبرة بالنية، نعم! ما انطوت عليه الصدور لا يعرفه إلا الله (تبارك وتعالى) الذي احتجب عن خلقه بنوره، وخفى عليهم بشدة ظهوره، هو العليم بذات الصدور، هو الله!
بعد هذه المقدمة المليئة بتوحيد الله (تبارك وتعالى) الحافلة بالدلائل والآيات، الحافلة بالبراهين الساطعات على وجود الخالق البارئ المصوّر المهيمن المدبّر المصرِّف الذي أَحسَنَ كل شيء خَلَقَه، بعد كل ذلك يأمرنا ربنا (تبارك وتعالى) بلطفه وبرحمته وبحكمته:
بعد هذه المقدمة المليئة بتوحيد الله (تبارك وتعالى) الحافلة بالدلائل والآيات، الحافلة بالبراهين الساطعات على وجود الخالق البارئ المصوّر المهيمن المدبّر المصرِّف الذي أَحسَنَ كل شيء خَلَقَه، بعد كل ذلك يأمرنا ربنا (تبارك وتعالى) بلطفه وبرحمته وبحكمته:
ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُوا۟ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَأَنفَقُوا۟ لَهُمْ أَجْرٌۭ كَبِيرٌۭ ﴿7﴾
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۙ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا۟ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ هذا الذي وُصِفَ لكم، الذي يُسَبِّح له كل الموجودات، الذي خَلَقَ وأَوجَدَ كل الممكنات، الذي يحي ويميت وبيده مقادير كل شيء، هذا هو الله! (آمِنوا بالله): أي صَدِّقوا به وبوجوده وبكلامه. ﴿وَرَسُولِهِ﴾ هو النبي (صلى الله عليه وسلم) آخر الأنبياء وسيد المرسلين، والإيمان بالله لا يُعَدُّ إيماناً ما لم يقترن بالإيمان برسول الله، من هنا قال (سبحانه وتعالى): (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إذ الإيمان بالله وحده لا يكفي، لابد من الإيمان بالرسول، إذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي يدلنا على الله، ويبين لنا الطريق إلى مرضاته، وينهانا عن موجبات سخطه، فهو الباب ومن غير الباب لا يمكن لأحد أن يدخل إلى الجناب. ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ أهمية الإنفاق بعد الإيمان، لأن الإنفاق هو أكبر دليل على الإيمان، لو أنك وثقت بما في يد الله أكثر من وثوقك بما في يدك فذاك إيمان، أما إذا اطمأننتَ إلى ما في يدك وركنتَ إلى الدنيا وما حَصَّلتَ منها فإيمانك ناقص، لأن الله (تبارك وتعالى) يمنح ويمنع، يعطي ويَمُنّ، ويسلب ويأخذ، فالإنفاق علامة الإيمان الصادق لأنك تعلم أن الله هو المالك وهو المَلِك فإن أنفقتَ أعطاك وإن أمسكتَ ابتلاك. ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ إذاً فالمال ليس مالُك، طالما قال: (مما جعلكم مستخلفين فيه) إذاً فأنت خليفة، والخليفة في الشيء معنى هذا أنه خَلَف غيرَه فيه وسيخلفه غيرُه فيه، فالمال في يدك، أنت خَلَفتَ أباك أو جدودَك أو غيرَك في المال، وسيخلفك في مالك أبناؤك وبناتُك، إذاً فأنت في مرحلة قصيرة، لا تملك المال بل مُستخلَف فيه، تُؤمَر فيه بأمر الله، فإن أطعتَ أمر الله فيما استخلفك فيه أثابك، وإن عصيتَ أمرَ الله فيما استخلفك فيه عاقبك.
إذاً فالمال مال الله، وُضِعَ في يدك بأمر الله مقداراً وكَمَّاً وكيفاً وبدايةً ونهايةً، وهو صائر إليه بأمره من حيث هو وَضَعَه، وصائر إلى غيرك بأمره إلى حيث هو أراد. (أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) في كل أبواب الخير. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ آمَنوا وأنفقوا، وكأن الإنفاق مرتبط بالإيمان، بل هو دليل على صدق الإيمان. (لهم أجر كبير) ولم يُحَدَّدْ الأجر، جاء في صيغة النكرة للتفخيم والتعظيم، حيث مهما وُصِفَ الأجر لا يمكن أن يصل إليه إنسان، لأن المؤجِر والعاطي والمثيب هو الله الذي لا تنفذ خزائنه. أيضاً يقول الله (تبارك وتعالى) معاتباً للناس بلطف وبرحمة وبرأفة: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ما الذي يدعوكم لعدم الإيمان؟ ما هو السبب في عدم إقبالكم على الإيمان؟ ما المانع بعد هذا السَّرد للقدرة والدلائل والآيات والبراهين، وبيان أن المال ليس مالَك؟ ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ نعم! الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ودعوة الرسل لله، ما من داعٍ في الدنيا يدعو إلى مُلكٍ إلا ويدعو لنفسه ولمصلحته؛ كرؤساء الدول ورؤساء الأحزاب ورؤساء العشائر ورؤساء القبائل، أما الرسل فيدعون لله ولا يدعون لأنفسهم، لا يطلبون مُلكاً ولا يطلبون زعامة ولا يطلبون أجراً، وكذلك العلماء ورثة الأنبياء لا يسعون إلى زعامة ولا يطلبون شُهرة ولا يأخذون أجراً على دعوتهم.
يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ من الذي أخذ الميثاق؟ قد تعني الآية الميثاق الأول حيث أخذ ربنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، ذاك هو الميثاق، حين أخذ الميثاق على الخلائق جميعاً فآمَنوا وشهدوا. الآن لِمَ لَمْ تؤمنوا وقد آمنتم من قبل حين أَخَذَ الميثاق وهاهو الرسول يدعوكم؟ والآية تدل على أن الإيمان لا يجب إلا ببعثة الرسل، فمعرفة الله (تبارك وتعالى) لا تجب بالعقل وإنما تجب بالشرع والنقل. فالميثاق إما الميثاق الذي أخذه لله (تبارك وتعالى) في عالم الذَّر، وإما الميثاق بنَصْب الدلائل ومَنْح العقول والأفهام فذاك ميثاق. أليس لك عقل؟ أتميز بين الأبيض والأسود؟ أتميز بين النافع والضار؟ أتعرف الساخن من البارد؟ أتعرف الرجل من المرأة؟ أترى الشمس والقمر؟ أترى الليل والنهار؟ أترى الزرع الذي بذرتًه كيف خرج وكيف نما وكيف أثمر؟ أترى الماء الذي نزل وتشربه زلالاُ سائغاً؟ أترى اللبن من بين فرث ودم خالصاً سائغاً؟ أرأيت ذلك كله؟ أرأيت أباك حين مات؟ أرأيت ابنك حين وُلِد؟ أرأيت نفسَك؟ أرأيت كل ذلك؟ كل هذا دلائل، ثم أُعطِيتَ العقل والتمييز، وَهَبَك العقل وهداك الطاعة والفسوق، ذاك هو الميثاق. نَصَبَ الدلائل والبراهين وأعطاك العقل ثم أرسل إليك الرسول يدعوك، أيُّ حُجَّة لك بعد ذلك؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذ كنتم مؤمنين، أي ما لكم لا تؤمنون وقد كنتم مؤمنين حين أخذ الميثاق؟ ما الذي جَدّ؟ ما الذي حدث؟ ما الذي حصل؟ أرأيتم إلهاً غير الله؟ أرزقكم غيرُه؟ أخلقكم غيرُه؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بمعنى إذ كنتم مؤمنين. أو (إن كنتم مؤمنين) بشيء فالله أحق بالإيمان، إن كان هناك ما تصدقون به فالله أحق بالتصديق.
والمعنى الثالث للآية أيضاً (إن كنتم مؤمنين) في يوم من الأيام، في وقت من الأوقات على مدار عمركم فهذا هو وقت الإيمان حيث جاءكم الرسول يدعوكم، وحيث أنتم في مهلة من الزمان وقد يأتيكم الموت في أي لحظة حيث لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كَسَبَت في إيمانها خيراً.
دعا الله تبارك وتعالى الناس للإيمان به والإنفاق في سبيله بعد أن عَرَّفَهم بنفسه ووصف نفسه بما يليق بجلاله وكماله، حيث قال عز مِن قائل: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وبين في الآية أن المالَ مالُ لله يضعه حيث شاء، وأن العبد لا يملك شيئا وإنما هو مُستخلَفٌ فيما استخلفه الله فيه، فإن كان يُنفِق فهو يُنفِق من مال الله، فهو خليفة الله في هذا المال ورثه من غيره، ولو دامت لغيره ما آلت إليه. ثم يوبخهم ربنا (تبارك وتعالى) يوبخ المترددين في الإيمان، يوبخ المتشككين فيقول: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ ما الذي يمنعكم من الإيمان بالله وهاهو الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ لا يدعوكم لمُلك، لا يدعوكم لتمجيده وتعظيمه وتمليكه، وإنما يدعوكم إلى الله الخالق، إلى الرازق، يدعوكم ويهديكم ويبين لكم ويدلل لكم، يدعوكم لتؤمنوا بربكم، وجاء بلفظ الرب لبيان الربوبية، والرب هو المرَبِّي، والمرَبِّي هو الذي يوصل الشيء إلى كماله بحسب استعداده، وربنا تبارك وتعالى أوصل الدنيا إلى كمالها بإرادته وبتوفيقه، وها أنت كنت نطفة فرَبَّاك في رحم أمك علقة فمضغة فعظام وهكذا حتى خرجتَ لا تعقل ولا تبصر ولا تسمع، فرزقك السمع والبصر والفؤاد، أقامك وعَدَلك، كساك وأطعمك وسقاك، هو الرب.
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ الذي رباكم وأوصلكم إلى ما أنتم عليه. ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ وقُرِئت ﴿وقد أُخِذَ ميثاقُكُم﴾ أخذ ميثاقكم من صُلبِ آدم حيث أخرج الله (تبارك وتعالى) الذرية من صُلبِ آدم بعد أن خلق آدم وجعل في صلبه الذرية، أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم وأوقفهم صفاً واحداً وسألهم: (ألستُ بربكم) سؤال شهود، سؤال حضور. (قالوا بلى) لم يكونوا في الدنيا، لم تغرهم الأماني بعد، لم يروا الشياطين، لم يُسَلَّط عليهم الهوى، لم يُفتَتَنوا، لم يحدث لهم الابتلاء، نعم! رأوا أنفسهم خرجوا من العدم إلى الوجود، لم يكونوا فكانوا عندها أقروا بالألوهية وأقروا بالربوبية. (وقد أخذ ميثاقكم) والكلام عن ذلك الميثاق، أو الميثاق هو ما نحن عليه، فحين ركّب الله فينا العقول وهيأها للاستدلال والاستنباط ثم نَصَب الدلائل، هاهي السماء كيف رُفِعَت، هاهي الأرض كيف نُصِبَت، هاهي الجبال كيف رَسَت، هاهو نفسُك؛ وفي أنفسكم وفي الأرض آيات، في كل شيء نَصَبَ الدلائل، وبعد أن نصب الدلائل رَكَّب فينا العقول وهيأ العقول للاستدلال، وما من عقلٍ واعٍ مُبَرَّأ من الهوى والغرض ينظر في الوجود إلا ولابد أن يصل إلى أن هذا الوجود له مُوجِد وله مُدبِّر وله مهيمِن. قد لا يصل إلى كُنهِ ذاته، وقد لا يصل إلى صفاته، وقد لا يصل إلى أوامره أو نواهيه أو ما أُريدَ منه أو ما الحكمة من خلقه، قد لا يصل إلى تفصيل الشرائع، لا يصل بعقله إلى الأمر والنهي، لكنه لابد وأن يصل لوجود الخالق الموجِد المدبِّر. ثم تأتي بعثة الرسل لتبين للعقل أن ما وصل إليه صحيح، تبين أن ما وصل إليه هو الحق، ثم توضح صفات الله وأفعال الله وأوامر الله ونواهيه، فيتفق كلام الرسل مع ما وصل إليه العقل مع التفصيل والتبيين.
من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذا كان الميثاق هو الميثاق في عالم الذَّر حين أَخَذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، فالمعنى: (إن كنتم مؤمنين): إذ كنتم مؤمنين، حينئذٍ حيث آمنتم وشهدتم وقلتم بلى شهدنا، فما الذي دعاكم إلى الكفر الآن؟ وما الذي حَوَّلَ الفطرة السليمة -فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى الضلال وإلى الكفر؟ وإن كان المقصود بالميثاق هو نَصْب الدلائل وإلهام العقل الاستدلال فالمعنى (إن كنتم مؤمنين): إن كنتم سوف تؤمنون بشيء فأحق شيء أن يُؤْمَن به هو الله، إن كنتم مؤمنين في يوم من الأيام فهذا أوان الإيمان حيث بُعِثَ الرسول ليدلكم على ربكم وليبين لكم الشرائع. أو (إن كنتم مؤمنين) حقاً كما تزعمون؛ حيث سُئِلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٨٧] فإن كنتم مؤمنين حقاً كما تزعمون فآمِنوا بالله بالأسلوب وبالطريق الذي يدعو إليه رسول الله حيث بَيَّنَ لنا التوحيد الخالص وبَيَّن لنا أن الله ما كان له أن يتخذ من ولد، بَيَّن أن الأصنام لا تشفع ولا تنفع. ﴿أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ويُبَيِّن مصدر الحق والحقيقة فيقول:
إذاً فالمال مال الله، وُضِعَ في يدك بأمر الله مقداراً وكَمَّاً وكيفاً وبدايةً ونهايةً، وهو صائر إليه بأمره من حيث هو وَضَعَه، وصائر إلى غيرك بأمره إلى حيث هو أراد. (أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) في كل أبواب الخير. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ آمَنوا وأنفقوا، وكأن الإنفاق مرتبط بالإيمان، بل هو دليل على صدق الإيمان. (لهم أجر كبير) ولم يُحَدَّدْ الأجر، جاء في صيغة النكرة للتفخيم والتعظيم، حيث مهما وُصِفَ الأجر لا يمكن أن يصل إليه إنسان، لأن المؤجِر والعاطي والمثيب هو الله الذي لا تنفذ خزائنه. أيضاً يقول الله (تبارك وتعالى) معاتباً للناس بلطف وبرحمة وبرأفة: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ما الذي يدعوكم لعدم الإيمان؟ ما هو السبب في عدم إقبالكم على الإيمان؟ ما المانع بعد هذا السَّرد للقدرة والدلائل والآيات والبراهين، وبيان أن المال ليس مالَك؟ ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ نعم! الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ودعوة الرسل لله، ما من داعٍ في الدنيا يدعو إلى مُلكٍ إلا ويدعو لنفسه ولمصلحته؛ كرؤساء الدول ورؤساء الأحزاب ورؤساء العشائر ورؤساء القبائل، أما الرسل فيدعون لله ولا يدعون لأنفسهم، لا يطلبون مُلكاً ولا يطلبون زعامة ولا يطلبون أجراً، وكذلك العلماء ورثة الأنبياء لا يسعون إلى زعامة ولا يطلبون شُهرة ولا يأخذون أجراً على دعوتهم.
يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ من الذي أخذ الميثاق؟ قد تعني الآية الميثاق الأول حيث أخذ ربنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، ذاك هو الميثاق، حين أخذ الميثاق على الخلائق جميعاً فآمَنوا وشهدوا. الآن لِمَ لَمْ تؤمنوا وقد آمنتم من قبل حين أَخَذَ الميثاق وهاهو الرسول يدعوكم؟ والآية تدل على أن الإيمان لا يجب إلا ببعثة الرسل، فمعرفة الله (تبارك وتعالى) لا تجب بالعقل وإنما تجب بالشرع والنقل. فالميثاق إما الميثاق الذي أخذه لله (تبارك وتعالى) في عالم الذَّر، وإما الميثاق بنَصْب الدلائل ومَنْح العقول والأفهام فذاك ميثاق. أليس لك عقل؟ أتميز بين الأبيض والأسود؟ أتميز بين النافع والضار؟ أتعرف الساخن من البارد؟ أتعرف الرجل من المرأة؟ أترى الشمس والقمر؟ أترى الليل والنهار؟ أترى الزرع الذي بذرتًه كيف خرج وكيف نما وكيف أثمر؟ أترى الماء الذي نزل وتشربه زلالاُ سائغاً؟ أترى اللبن من بين فرث ودم خالصاً سائغاً؟ أرأيت ذلك كله؟ أرأيت أباك حين مات؟ أرأيت ابنك حين وُلِد؟ أرأيت نفسَك؟ أرأيت كل ذلك؟ كل هذا دلائل، ثم أُعطِيتَ العقل والتمييز، وَهَبَك العقل وهداك الطاعة والفسوق، ذاك هو الميثاق. نَصَبَ الدلائل والبراهين وأعطاك العقل ثم أرسل إليك الرسول يدعوك، أيُّ حُجَّة لك بعد ذلك؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذ كنتم مؤمنين، أي ما لكم لا تؤمنون وقد كنتم مؤمنين حين أخذ الميثاق؟ ما الذي جَدّ؟ ما الذي حدث؟ ما الذي حصل؟ أرأيتم إلهاً غير الله؟ أرزقكم غيرُه؟ أخلقكم غيرُه؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بمعنى إذ كنتم مؤمنين. أو (إن كنتم مؤمنين) بشيء فالله أحق بالإيمان، إن كان هناك ما تصدقون به فالله أحق بالتصديق.
والمعنى الثالث للآية أيضاً (إن كنتم مؤمنين) في يوم من الأيام، في وقت من الأوقات على مدار عمركم فهذا هو وقت الإيمان حيث جاءكم الرسول يدعوكم، وحيث أنتم في مهلة من الزمان وقد يأتيكم الموت في أي لحظة حيث لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كَسَبَت في إيمانها خيراً.
دعا الله تبارك وتعالى الناس للإيمان به والإنفاق في سبيله بعد أن عَرَّفَهم بنفسه ووصف نفسه بما يليق بجلاله وكماله، حيث قال عز مِن قائل: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وبين في الآية أن المالَ مالُ لله يضعه حيث شاء، وأن العبد لا يملك شيئا وإنما هو مُستخلَفٌ فيما استخلفه الله فيه، فإن كان يُنفِق فهو يُنفِق من مال الله، فهو خليفة الله في هذا المال ورثه من غيره، ولو دامت لغيره ما آلت إليه. ثم يوبخهم ربنا (تبارك وتعالى) يوبخ المترددين في الإيمان، يوبخ المتشككين فيقول: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ ما الذي يمنعكم من الإيمان بالله وهاهو الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ لا يدعوكم لمُلك، لا يدعوكم لتمجيده وتعظيمه وتمليكه، وإنما يدعوكم إلى الله الخالق، إلى الرازق، يدعوكم ويهديكم ويبين لكم ويدلل لكم، يدعوكم لتؤمنوا بربكم، وجاء بلفظ الرب لبيان الربوبية، والرب هو المرَبِّي، والمرَبِّي هو الذي يوصل الشيء إلى كماله بحسب استعداده، وربنا تبارك وتعالى أوصل الدنيا إلى كمالها بإرادته وبتوفيقه، وها أنت كنت نطفة فرَبَّاك في رحم أمك علقة فمضغة فعظام وهكذا حتى خرجتَ لا تعقل ولا تبصر ولا تسمع، فرزقك السمع والبصر والفؤاد، أقامك وعَدَلك، كساك وأطعمك وسقاك، هو الرب.
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ الذي رباكم وأوصلكم إلى ما أنتم عليه. ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ وقُرِئت ﴿وقد أُخِذَ ميثاقُكُم﴾ أخذ ميثاقكم من صُلبِ آدم حيث أخرج الله (تبارك وتعالى) الذرية من صُلبِ آدم بعد أن خلق آدم وجعل في صلبه الذرية، أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم وأوقفهم صفاً واحداً وسألهم: (ألستُ بربكم) سؤال شهود، سؤال حضور. (قالوا بلى) لم يكونوا في الدنيا، لم تغرهم الأماني بعد، لم يروا الشياطين، لم يُسَلَّط عليهم الهوى، لم يُفتَتَنوا، لم يحدث لهم الابتلاء، نعم! رأوا أنفسهم خرجوا من العدم إلى الوجود، لم يكونوا فكانوا عندها أقروا بالألوهية وأقروا بالربوبية. (وقد أخذ ميثاقكم) والكلام عن ذلك الميثاق، أو الميثاق هو ما نحن عليه، فحين ركّب الله فينا العقول وهيأها للاستدلال والاستنباط ثم نَصَب الدلائل، هاهي السماء كيف رُفِعَت، هاهي الأرض كيف نُصِبَت، هاهي الجبال كيف رَسَت، هاهو نفسُك؛ وفي أنفسكم وفي الأرض آيات، في كل شيء نَصَبَ الدلائل، وبعد أن نصب الدلائل رَكَّب فينا العقول وهيأ العقول للاستدلال، وما من عقلٍ واعٍ مُبَرَّأ من الهوى والغرض ينظر في الوجود إلا ولابد أن يصل إلى أن هذا الوجود له مُوجِد وله مُدبِّر وله مهيمِن. قد لا يصل إلى كُنهِ ذاته، وقد لا يصل إلى صفاته، وقد لا يصل إلى أوامره أو نواهيه أو ما أُريدَ منه أو ما الحكمة من خلقه، قد لا يصل إلى تفصيل الشرائع، لا يصل بعقله إلى الأمر والنهي، لكنه لابد وأن يصل لوجود الخالق الموجِد المدبِّر. ثم تأتي بعثة الرسل لتبين للعقل أن ما وصل إليه صحيح، تبين أن ما وصل إليه هو الحق، ثم توضح صفات الله وأفعال الله وأوامر الله ونواهيه، فيتفق كلام الرسل مع ما وصل إليه العقل مع التفصيل والتبيين.
من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذا كان الميثاق هو الميثاق في عالم الذَّر حين أَخَذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، فالمعنى: (إن كنتم مؤمنين): إذ كنتم مؤمنين، حينئذٍ حيث آمنتم وشهدتم وقلتم بلى شهدنا، فما الذي دعاكم إلى الكفر الآن؟ وما الذي حَوَّلَ الفطرة السليمة -فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى الضلال وإلى الكفر؟ وإن كان المقصود بالميثاق هو نَصْب الدلائل وإلهام العقل الاستدلال فالمعنى (إن كنتم مؤمنين): إن كنتم سوف تؤمنون بشيء فأحق شيء أن يُؤْمَن به هو الله، إن كنتم مؤمنين في يوم من الأيام فهذا أوان الإيمان حيث بُعِثَ الرسول ليدلكم على ربكم وليبين لكم الشرائع. أو (إن كنتم مؤمنين) حقاً كما تزعمون؛ حيث سُئِلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٨٧] فإن كنتم مؤمنين حقاً كما تزعمون فآمِنوا بالله بالأسلوب وبالطريق الذي يدعو إليه رسول الله حيث بَيَّنَ لنا التوحيد الخالص وبَيَّن لنا أن الله ما كان له أن يتخذ من ولد، بَيَّن أن الأصنام لا تشفع ولا تنفع. ﴿أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ويُبَيِّن مصدر الحق والحقيقة فيقول:
هُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِۦٓ ءَايَـٰتٍۭ بَيِّنَـٰتٍۢ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿9﴾
هاهو المصدر، هو الله! إذاً فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يأتي بشيء من عنده، ولا يتكلم من تلقاء نفسه وذاته، بل هو يتكلم بما يوحى إليه. الله (تبارك وتعالى) الذي يدعوكم للإيمان به هو الذي ينزل على عبده – النبي (صلى الله عليه وسلم) - وشَرَّفَه ربنا (تبارك وتعالى) فنسبه إليه وقال (عَلَى عَبْدِهِ) فنسبه إليه ومنحه شرف العبودية، وأعلى شرف وأعلى هو مقام العبودية، أن تكون عبداً لله، لذا وصف بها أصفى خلقه وأَحَب خَلْقه فقال: ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾. ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ دلائل واضحات، ساطعة، براهين، فما في القرآن من كلمة إلا وتنطق بأن القائل هو الله. ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) نعم! ليخرجكم الله، أو ليخرجكم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليخرجكم بالقرآن، وبهذه الآيات البينات من الظلمات إلى النور، ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم بها، بهذه الآيات البينات، بالقرآن وبدعوة سيد الأنام، ليخرجكم الله (تبارك وتعالى) بفضله ومَنِّه وهداه، أو ليخرجكم رسول الله بتفضيله وتبيينه وسُنَّتِه وقوله وفعله ودعوته، من الظلمات إلى النور، نعم! من ظلمات الشرك والجهالة، من وأد البنات وعقوق الأمهات وعبادة العزى واللات ومَنَعَ وهات، إلى النور، إلى الحرية، إلى حرية العقل، إلى العلم بالله، إلى أشرف العلوم، إلى الصلة والصدق والعفاف والتقوى وبر الوالدين وحسن الجوار والعفة وأكل الحلال والبعد عن الحرام، والبصيرة والعقل النافذ، نعم! ليخرجكم من الظلمات إلى النور. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ حقاً وصدقاً، إي وربي! إن الله بكم لرءوف رحيم. والرأفة: رَأَفَ يرْأُف ويرأَفُ به: أشفق عليه من أن يصيبه مكروه. الرأفة عامة، والرأفة: دفع السوء ودفع الضر بلُطف وبرفق.
ورأفة الله (تبارك وتعالى) بعباده عامة، وهناك آية أخرى يقول الله فيها: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة آية: ١٤٣] إذاً فهي رأفة عامة تَعُمُّ المؤمن والكافر، تَعُمُّ المستحق وغير المستحق، ولولا هذه الرأفة ما بعث الرسل، لترك الناس إلى عقولهم؛ رَكَّب فيكم العقول وهاهي الدلائل: الشمس تشرق والشمس تغرب، وهاهو القمر والأهلة، وهاهي البحار والمحيطات والأنهار والأمطار والجبال، هاهي الدلائل والبراهين، لابد وأن يقود العقل إلى الله، لترككم وعقولكم ثم حاسبكم، ولآخذكم على ميثاقكم الأول، ولكنه برأفته وبرحمته قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٥] فلا تجب الشرائع إلا ببعثة الرسل، رأفة عامة، إشفاق على الخلائق، دَفْع عنهم الضر بلُطف وبرفق، وانظر إلى كلامه وانظر إلى عتابه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ خطاب الخالق للخلق، السيد للعبيد، القوة المهولة، رب الملك والملكوت، يخاطب العبيد؛ الضعف المطلق والاحتياج بهذا الأسلوب. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ والرحمة مشتقة من الرَّحِم، والرحيم مشتق من الرحمة، ورحمة الله عامة تامة، فالرحمة في الأصل إيصال الخير إلى المحتاج، ولكن رحمة الله تصل إلى المستحق وإلى غير المستحق فهي رحمة عامة. وهي أيضاً رحمة تامة، فقد ترحم أنتَ إنساناً لكن لا تتمكن من إيصال الخير والنفع له، يمنعك مانع، لكن الله إذا أراد أن يوصل الخير والفضل إلى المحتاج أوصله، لأنه يقول للشيء كُن فيكون.
فرحمته تامة لأنها تصل إلى مستحقها، وهي عامة لأنها تَعُمُّ المؤمن والكافر والمستحق وغير المستحق. نعم! إن الله بكم لرءوف رحيم. ثم يعاتبهم على عدم الإنفاق وتمسكهم بالمال:
ورأفة الله (تبارك وتعالى) بعباده عامة، وهناك آية أخرى يقول الله فيها: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة آية: ١٤٣] إذاً فهي رأفة عامة تَعُمُّ المؤمن والكافر، تَعُمُّ المستحق وغير المستحق، ولولا هذه الرأفة ما بعث الرسل، لترك الناس إلى عقولهم؛ رَكَّب فيكم العقول وهاهي الدلائل: الشمس تشرق والشمس تغرب، وهاهو القمر والأهلة، وهاهي البحار والمحيطات والأنهار والأمطار والجبال، هاهي الدلائل والبراهين، لابد وأن يقود العقل إلى الله، لترككم وعقولكم ثم حاسبكم، ولآخذكم على ميثاقكم الأول، ولكنه برأفته وبرحمته قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٥] فلا تجب الشرائع إلا ببعثة الرسل، رأفة عامة، إشفاق على الخلائق، دَفْع عنهم الضر بلُطف وبرفق، وانظر إلى كلامه وانظر إلى عتابه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ خطاب الخالق للخلق، السيد للعبيد، القوة المهولة، رب الملك والملكوت، يخاطب العبيد؛ الضعف المطلق والاحتياج بهذا الأسلوب. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ والرحمة مشتقة من الرَّحِم، والرحيم مشتق من الرحمة، ورحمة الله عامة تامة، فالرحمة في الأصل إيصال الخير إلى المحتاج، ولكن رحمة الله تصل إلى المستحق وإلى غير المستحق فهي رحمة عامة. وهي أيضاً رحمة تامة، فقد ترحم أنتَ إنساناً لكن لا تتمكن من إيصال الخير والنفع له، يمنعك مانع، لكن الله إذا أراد أن يوصل الخير والفضل إلى المحتاج أوصله، لأنه يقول للشيء كُن فيكون.
فرحمته تامة لأنها تصل إلى مستحقها، وهي عامة لأنها تَعُمُّ المؤمن والكافر والمستحق وغير المستحق. نعم! إن الله بكم لرءوف رحيم. ثم يعاتبهم على عدم الإنفاق وتمسكهم بالمال:
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةًۭ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُوا۟ مِنۢ بَعْدُ وَقَـٰتَلُوا۟ ۚ وَكُلًّۭا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ﴿10﴾
﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ما المانع؟ مالذي يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ ﴿فِي سَبِيلِ﴾ لوجه الله، (في سبيل الله): في القتال، في الجهاد لرفع راية الإسلام، على الفقراء، على المساكين، في كل أبواب الخير، في صلة الرحم، في الوالدين، في كل شيء. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ منطق لكل عاقل، لكل متأمل، (لله ميراث السموات والأرض) معنى ذلك أنك ميت لا محالة والوارث هو الله، ومالُك واصل إلى الله لا محالة فله ميراث السموات والأرض حيث ينتهي الكل وتنتهي الملكية وينتهي الملوك وينتهي المُلك ولا يبقى إلا مَلِك واحد ومالِك واحد هو الله حيث ينادي: (لمن المُلك اليوم لله الواحد القهار)، فإذا كان مالُك صائراً إلى الله اليوم أو غداً، هو صائر إليه لا محالة، فإن أنفقتَه من أجل العوض والأجر لاشك أفضل من أن يذهب إلى الله رغماً عنك، هو ذاهب إلى الله بموتك لأن العبد مهما خَلَّفَ من ذرية إذا مات خرج من ماله وأصبح المال في أمر الله وحُكمِه، يضعه حيث شاء، فقد يموت الابن المُعَدّ للوراثة والذي أعده أبوه لكي يرثه، قد يموت بعد موت أبيه بلحظة، بساعة، في حادث سيارة، قد يذهب الأب والأم والأولاد في ثانية، فأنت بموتك تنتقل الملكية إلى الله، يضع هو المال حيث شاء. ومن قبل قال: (وأنفقوا مما جعلكم مُستَخلَفين فيه) فبيّن بداية المال ونهاية المال، أما بداية المال فأنت فيه مُستخلَف فقد وُلدتَ عارياً لا تملك شيئاً، فقيراً لا تملك شيئاً، فقيراً إلى الغذاء وإلى الدواء وإلى وإلى، مَلَّكَكَ المال. إذاً فالمال من حيث البداية إما أنك ورثتَ المال عن أبيك أو عن غيرك، وإما أنك أُعطيتَ المال بفضل الله وتوفيقه، فهاهو المال مالُ الله أصلاً.
من الذي خلق الذهب؟ هو الله! فإن كنتَ تملك ذهباً فمن أين جئتَ به؟ ومن الذي خلق الدور والعقار والأراضي؟ من الذي خلق كل ذلك؟ هو الله! إذاً فهو المالك، ثم وضع المال في يدك فهذه هي البداية، فأنت مستخلَف في المال. ثم بَيَّنَ لك النهاية حيث يعود الشيء إلى صاحبه وإلى خالقه ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو منه وإليه. فإن أنفقتَ فأنت تُنفِق من مال الله وتضمن بذلك الأجر الكريم والأجر الكبير، وإذا لم تُنفِق فصائر مالُك إلى الله بغير عوض ومسئولاً أنت عنه، من هنا يسألهم ربنا موبخاً ومعاتباً: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ثم بَيَّن التفاوت في أحوال المنفقين وظروف الإنفاق فيقول: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (وكلٌّ وعد الله الحسنى) قراءة. بَيَّن أن هناك فارقاً في الدرجة وفي الثواب؛ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة لأن الإنفاق قبل الفتح، والفتح: فتح مكة، كان الإسلام ضعيفاً، وكان الإسلام غريباً، وكان المسلمون ضعفاء فقراء، فقد دخل في الإسلام فقراء الناس والضعفاء والعبيد والمستضعفين، وكانت قريش في صلفها وكبريائها وجبروتها، فكان الفقر.
وحين شُرِعَ القتال والهجرة في البداية كانوا قلة وكان الكفار كثرة ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٤٩] لكن أن تؤمن بذلك وأن ترى الكفار أضعاف وأضعاف عدد المسلمين فلا يصيبك الجُبن ولا الخَوَر، ولا تنكص على عقبيك، ولا تولهم دُبُرَك وتُقْدِم وتُقْبِل مرحباً بالموت والشهادة تلك هي الشجاعة وذاك هو المطلوب. فالذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة لأن في ذلك الوقت كان الإنفاق مطلوباً وكان القتال مطلوباً. أما بعد فتح مكة؛ لا قتال هناك إلا قتال لقلة ظلوا على كفرهم من بعض القبائل، لكن الناس دخلوا في الدين أفواجاً، وعَزَّ الإسلام واغتنى الناس، من هنا كان الإنفاق في ذلك الوقت والقتال في ذلك الوقت أقل درجة. يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) التفاوت، من هنا على المنفِق أن يتحرى ماذا ينفِق ومتى ينفِق فيتحرى المواقيت والمواقف والمواضع والأماكن والأوقات، إذ لا تستوي النفقة هنا وهنا، وفي ذاك الوقت مع ذاك الوقت، ومع ذلك لأنك لا تملك الظروف ولأنك لا تملك أن تضع الصدقة حيث شئت يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ لُطف ورحمة وفضل، لم يحرم هؤلاء من أجرهم وأفاض على هؤلاء وزاد في أجرهم لأنهم وُفِّقوا للإنفاق والقتال في وقتٍ كان الإنفاق والقتال فيه مطلوب، أولئك أعظم درجة عند الله، وكلاً وَعَدَ الحسنى أي: وعده، وحُذِفَت الهاء، وعد اللهُ كلاً الحسنى، منصوبة بالفعل. (و كلٌّ وعد الله الحسنى) بالرفع، قراءة على الابتداء. والمفعول إذا قُدِّمَ على الفعل ضَعُفَ عمل الفعل فيه فجاز رفعه بالابتداء. والحسنى: تأنيث الأحسن، والحسنى: هي الجنة، ولا حسنى بعد الجنة. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ نعم! خبير يعلم الخفايا.
والفارق بين العليم والخبير أن العِلم إذا أُضيف إلى الخفايا وإلى الأمور الباطنة سُمِّيَ خبرة وسُمِّيَ صاحبها خبيراً. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي يعلم الظواهر ويعلم البواطن، والنفقة فيها الظاهر -وهو حركة اليد وإنفاق المال- وفيها الباطن حيث النية وما انطوى عليه القلب. ويأتي سؤال غاية في الغرابة، يقول الله (تبارك وتعالى):
من الذي خلق الذهب؟ هو الله! فإن كنتَ تملك ذهباً فمن أين جئتَ به؟ ومن الذي خلق الدور والعقار والأراضي؟ من الذي خلق كل ذلك؟ هو الله! إذاً فهو المالك، ثم وضع المال في يدك فهذه هي البداية، فأنت مستخلَف في المال. ثم بَيَّنَ لك النهاية حيث يعود الشيء إلى صاحبه وإلى خالقه ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو منه وإليه. فإن أنفقتَ فأنت تُنفِق من مال الله وتضمن بذلك الأجر الكريم والأجر الكبير، وإذا لم تُنفِق فصائر مالُك إلى الله بغير عوض ومسئولاً أنت عنه، من هنا يسألهم ربنا موبخاً ومعاتباً: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ثم بَيَّن التفاوت في أحوال المنفقين وظروف الإنفاق فيقول: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (وكلٌّ وعد الله الحسنى) قراءة. بَيَّن أن هناك فارقاً في الدرجة وفي الثواب؛ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة لأن الإنفاق قبل الفتح، والفتح: فتح مكة، كان الإسلام ضعيفاً، وكان الإسلام غريباً، وكان المسلمون ضعفاء فقراء، فقد دخل في الإسلام فقراء الناس والضعفاء والعبيد والمستضعفين، وكانت قريش في صلفها وكبريائها وجبروتها، فكان الفقر.
وحين شُرِعَ القتال والهجرة في البداية كانوا قلة وكان الكفار كثرة ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٤٩] لكن أن تؤمن بذلك وأن ترى الكفار أضعاف وأضعاف عدد المسلمين فلا يصيبك الجُبن ولا الخَوَر، ولا تنكص على عقبيك، ولا تولهم دُبُرَك وتُقْدِم وتُقْبِل مرحباً بالموت والشهادة تلك هي الشجاعة وذاك هو المطلوب. فالذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة لأن في ذلك الوقت كان الإنفاق مطلوباً وكان القتال مطلوباً. أما بعد فتح مكة؛ لا قتال هناك إلا قتال لقلة ظلوا على كفرهم من بعض القبائل، لكن الناس دخلوا في الدين أفواجاً، وعَزَّ الإسلام واغتنى الناس، من هنا كان الإنفاق في ذلك الوقت والقتال في ذلك الوقت أقل درجة. يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) التفاوت، من هنا على المنفِق أن يتحرى ماذا ينفِق ومتى ينفِق فيتحرى المواقيت والمواقف والمواضع والأماكن والأوقات، إذ لا تستوي النفقة هنا وهنا، وفي ذاك الوقت مع ذاك الوقت، ومع ذلك لأنك لا تملك الظروف ولأنك لا تملك أن تضع الصدقة حيث شئت يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ لُطف ورحمة وفضل، لم يحرم هؤلاء من أجرهم وأفاض على هؤلاء وزاد في أجرهم لأنهم وُفِّقوا للإنفاق والقتال في وقتٍ كان الإنفاق والقتال فيه مطلوب، أولئك أعظم درجة عند الله، وكلاً وَعَدَ الحسنى أي: وعده، وحُذِفَت الهاء، وعد اللهُ كلاً الحسنى، منصوبة بالفعل. (و كلٌّ وعد الله الحسنى) بالرفع، قراءة على الابتداء. والمفعول إذا قُدِّمَ على الفعل ضَعُفَ عمل الفعل فيه فجاز رفعه بالابتداء. والحسنى: تأنيث الأحسن، والحسنى: هي الجنة، ولا حسنى بعد الجنة. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ نعم! خبير يعلم الخفايا.
والفارق بين العليم والخبير أن العِلم إذا أُضيف إلى الخفايا وإلى الأمور الباطنة سُمِّيَ خبرة وسُمِّيَ صاحبها خبيراً. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي يعلم الظواهر ويعلم البواطن، والنفقة فيها الظاهر -وهو حركة اليد وإنفاق المال- وفيها الباطن حيث النية وما انطوى عليه القلب. ويأتي سؤال غاية في الغرابة، يقول الله (تبارك وتعالى):
مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا فَيُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجْرٌۭ كَرِيمٌۭ ﴿11﴾
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أيحتاج الغني للاقراض؟ أيحتاج الخالق للإقراض؟ هو خالق المال وهو خالقك، وهو الذي وفقك لتملك المال واستخلفك فيه، وهو الذي أمرك، وهو الذي خلق لك المصارف؛ خلق الفقراء ولو لم يوجِد الفقراء لم تجد أنتَ من تنفِق عليه، فالمال مالُه وأنت عبده، وهو الآمر بالإنفاق وهو الموفِّق لك في الإنفاق، وهو الخالق لمصارف الإنفاق؛ اليتامى والفقراء والمساكين، وبعد ذلك يسمي ما أنفقتَه قرضاً. والغريب في معنى الكلمة أن القرض هو إخراج المال لاستبدال العوض، فالقرض يعني أنك تخرج مالاً وأنت منتظر العوض، فالقرض مردود؛ لابد وأن يُرَد، لأن الإقراض معناه إخراج الشيء استبدالاً لعوضٍ آتٍ وقادم. من هنا يتبين أن ما أُنفِق عائد لا محالة وليس ضائع. ﴿مَنْ ذَا﴾ (ذا) إشارة للبحث عن هؤلاء المنفقين من الذي يستجيب؟ من ذا الذي يقرض الله؟ يقرض الغني صاحب المال؟ يعطيك المال ثم يطلب منك القرض! ما هو القرض الحسن؟ ولِمَ سُمِّيَ حَسَناً؟ أيكون القرض قبيحاً؟ نعم! أتكون النفقة قبيحة؟ نعم! أتكون مردودة؟ نعم ومرفوضة! وهل تكون النفقة حسنة والقرض حسناً؟ نعم! ويتفاوت الحُسن في كل قرض باستيفاء القرض لصفات الحُسن حتى يُسَمِّى قرضاً حَسَناً. القرض الحسن أن يكون المنفِق صادق النية طَيِّب النفس يبتغي وجه الله دون رياء ودون سمعة، لا يَمُنّ بما أنفق لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [سورة البقرة آية: ٢٦٤] لا يَمُنُّ ولا يؤذي. أيضاً أن يكون الإنفاق من حلال لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب."
ألَّا يقصد إلى الخبيث فينفِق لأن الله يقول: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٦٧] وقد سُئِلَ النبي فقال: "خير الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسُها عند أهلها". وأن تُخفي الصدقة لأن الله يقول: (وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم). وألا تستكثر ما أَعطَيتَ لأنك مهما أنفقتَ فالدنيا حقيرة قليلة ﴿ولا تَمْنُنْ تَستَكْثِر﴾. وأن تنفق حيث تأمل في العيش لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أفضل الصدقة: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تَمْهَل حتى إذا بلغت التراقي قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا". تلك صفات للقرض الحسن. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ فيضاعِفَهُ فيضاعِفُهُ فيُضَعِّفَهُ فيُضَعِّفُهُ أربع قراءات. ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ ذاك هو القرض الحسن؛ من حلال، أن يكون طيب، أن يكون من أحب مالك إليك فربنا يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ٩٢]، أن يكون في الخفاء فالذي يتصدق بيمينه فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه في ظل العرش يوم لاظل إلا ظل العرش، أن تبتغي وجه الله، أن تكون طيب النفس، أن تكون صادق النية دون رياء ودون سمعة، دون مَنّ، دون أذى، لا تَيَمَّم الخبيث، لا تستكثر ما أنفقت، أن تُخفي الصدقة، أن تكون من حلال، أن يكون كثيراً، تلك صفات الحُسن في القرض، فالذي يقرض الله قرضاً حسناً يُضاعِفَه له. والأضعاف بغير حدود؛ سبعة أمثال إلى سبعمائة ضِعف، ويضاعف الله لمن يشاء.
(وله أجر كريم) الأجر في نفسه كريم، فما بالنا إذا ضُعِّف الأجر؟ بغير مضاعفة هو كريم، فكيف إذا تضاعف وتضاعف وتضاعف؟ يضاعفه له في الدنيا ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سورة سبأ آية: ٣٩] وله أجر كريم في الآخرة، ما هي علامات الأجر الكريم؟ لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورُهم
ألَّا يقصد إلى الخبيث فينفِق لأن الله يقول: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٦٧] وقد سُئِلَ النبي فقال: "خير الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسُها عند أهلها". وأن تُخفي الصدقة لأن الله يقول: (وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم). وألا تستكثر ما أَعطَيتَ لأنك مهما أنفقتَ فالدنيا حقيرة قليلة ﴿ولا تَمْنُنْ تَستَكْثِر﴾. وأن تنفق حيث تأمل في العيش لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أفضل الصدقة: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تَمْهَل حتى إذا بلغت التراقي قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا". تلك صفات للقرض الحسن. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ فيضاعِفَهُ فيضاعِفُهُ فيُضَعِّفَهُ فيُضَعِّفُهُ أربع قراءات. ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ ذاك هو القرض الحسن؛ من حلال، أن يكون طيب، أن يكون من أحب مالك إليك فربنا يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ٩٢]، أن يكون في الخفاء فالذي يتصدق بيمينه فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه في ظل العرش يوم لاظل إلا ظل العرش، أن تبتغي وجه الله، أن تكون طيب النفس، أن تكون صادق النية دون رياء ودون سمعة، دون مَنّ، دون أذى، لا تَيَمَّم الخبيث، لا تستكثر ما أنفقت، أن تُخفي الصدقة، أن تكون من حلال، أن يكون كثيراً، تلك صفات الحُسن في القرض، فالذي يقرض الله قرضاً حسناً يُضاعِفَه له. والأضعاف بغير حدود؛ سبعة أمثال إلى سبعمائة ضِعف، ويضاعف الله لمن يشاء.
(وله أجر كريم) الأجر في نفسه كريم، فما بالنا إذا ضُعِّف الأجر؟ بغير مضاعفة هو كريم، فكيف إذا تضاعف وتضاعف وتضاعف؟ يضاعفه له في الدنيا ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سورة سبأ آية: ٣٩] وله أجر كريم في الآخرة، ما هي علامات الأجر الكريم؟ لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورُهم
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَىٰكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌۭ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴿12﴾
في ذلك اليوم يتحقق لك الأجر الكريم ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ﴾. النور يسعى، النور يمشي، النور يقودهم على الصراط فلا تزل الأقدم، النور يضيء لهم ظلمات يوم القيامة. نورهم: عَمَلُهُم. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾: كُتُبُهم، فقد أعطاهم كُتُبَهم بيمينهم، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه فهذا يحاسَب حساباً يسيراً. أو بين أيديهم نورهم: القرآن. أو بين أيديهم نورهم: هُداهم. أو بين أيديهم نورهم: نور يخلقه الله لهم. (وبأيمانهم) ذَكَر الأيمان لشرفها ولكن النور محيط فهو من جميع الجهات. ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ﴾ يُقال لهم ذلك، تستقبلهم ملائكة الرحمن هاتفين قائلين: بشراكم اليوم جنات، أي بشراكم اليوم دخول الجنات، لأن البشرى حدث والجنة عين وليست هي هي، لابد من هذا التقدير: بشراكم اليوم دخول الجنات، أي نبشركم بدخول الجنات تخلدون فيها. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ من تحت الجنات، ومن تحتهم، ومن تحت قصورهم، وكيف تجري الأنهار من تحتهم وتحت قصورهم وتحت الجنات؟ ذاك أمر لا نعرفه ويعرفه الله القادر على كل شيء، أنهار العسل والخمر واللبن والماء الزلال. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نعم! ذاك حالهم، يُبَشَّرون بدخول الجنات مُقَدَّرين فيها الخلود الذي لا موت معه ولا نهاية له. ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الفوز: دَرْكُ البُغية، الفوز: الحصول على ما تطلب، الفوز: هو أن تتحقق كل الأماني، ذاك هو الفوز العظيم، فعلاً ذلك هو الفوز العظيم لأن الجنة فيها الخلد، فيها النعيم، فيها الرضوان، فيها لذة النظر إلى وجهه الكريم، ذاك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده ولا فوز أعظم منه، رزقنا الله تلك البشرى في يوم القيامة.
القيامة مواقف، وأظن ذلك بعد القضاء يعمّ الناس ظلام دامس وظلمة لا يبصر الإنسان موضع قدمه وإن نظر إلى يده لم يكد يراها. يعمّ أهل الموقف ظلام دامس ثم يُعطى المؤمنون نوراً، يُعطَون نوراً على قدر أعمالهم، فمن الناس من يضيء نوره كما بين المدينة وصنعاء، أو كما بين المدينة وعدن كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ودون ذلك ودون ذلك ودون ذلك حتى لا يُعطَى إلا نوراً في موضع قدميه يضيء إبهامه، إبهامي القدمين فيسير في هذا النور، فالنور متفاوت بحسب عمل العبد، كل بحسب العمل يُعطَى نوراً كما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد يُعطى المنافقون نوراً أيضا لأنهم زعموا الإيمان في الدنيا وخادعوا الله وهو خادعهم، فقد يُعطَون نوراً مخادعة لهم، حينئذ يسير المؤمنون في نورهم بأيمانهم وبين أيديهم ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ ويسير المنافقون أيضاً، ولكن المؤمنين يُسرَع بهم، فإذا بالنجائب قد رُحِّلَت فيركبون النُّجُب ويهرعون إلى الجنة يُساقون إليها مسرعين مستضيئين بنورهم، وأما المنافقين فهم يمشون بغير ركائب فتتباعد المسافة بين المؤمنين وبين المنافقين، هؤلاء على نُجُب يُسرِعون ويُسرَع بهم إلى الجنة، وهؤلاء يمشون أو يزحفون أو يَحبُون ويتعثرون فتتباعد المسافة، هنا ينادي المنافقون على المؤمنين: انتظرونا انتظرونا ويشرح ذلك الموقف بأبلغ شرح وتعبير، نعم! في ذلك اليوم، هو نفس اليوم:
القيامة مواقف، وأظن ذلك بعد القضاء يعمّ الناس ظلام دامس وظلمة لا يبصر الإنسان موضع قدمه وإن نظر إلى يده لم يكد يراها. يعمّ أهل الموقف ظلام دامس ثم يُعطى المؤمنون نوراً، يُعطَون نوراً على قدر أعمالهم، فمن الناس من يضيء نوره كما بين المدينة وصنعاء، أو كما بين المدينة وعدن كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ودون ذلك ودون ذلك ودون ذلك حتى لا يُعطَى إلا نوراً في موضع قدميه يضيء إبهامه، إبهامي القدمين فيسير في هذا النور، فالنور متفاوت بحسب عمل العبد، كل بحسب العمل يُعطَى نوراً كما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد يُعطى المنافقون نوراً أيضا لأنهم زعموا الإيمان في الدنيا وخادعوا الله وهو خادعهم، فقد يُعطَون نوراً مخادعة لهم، حينئذ يسير المؤمنون في نورهم بأيمانهم وبين أيديهم ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ ويسير المنافقون أيضاً، ولكن المؤمنين يُسرَع بهم، فإذا بالنجائب قد رُحِّلَت فيركبون النُّجُب ويهرعون إلى الجنة يُساقون إليها مسرعين مستضيئين بنورهم، وأما المنافقين فهم يمشون بغير ركائب فتتباعد المسافة بين المؤمنين وبين المنافقين، هؤلاء على نُجُب يُسرِعون ويُسرَع بهم إلى الجنة، وهؤلاء يمشون أو يزحفون أو يَحبُون ويتعثرون فتتباعد المسافة، هنا ينادي المنافقون على المؤمنين: انتظرونا انتظرونا ويشرح ذلك الموقف بأبلغ شرح وتعبير، نعم! في ذلك اليوم، هو نفس اليوم:
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُوا۟ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُوا۟ نُورًۭا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍۢ لَّهُۥ بَابٌۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ ﴿13﴾
كلمة (يوم) هنا بدل من كلمة (يوم ترى) إذاً فهو نفس اليوم ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ انظرونا: أي انتظرونا، من النَّظَر، والنَّظَر: الانتظار (انْظُرُونَا) بألف الوصل، وقُرِأَت (أَنِظرونا) من الإنظار بمعنى الإمهال، أمهلونا وأمهلوا علينا حتى ندرككم فقد بعدت بيننا وبينكم المسافة. ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ لأن المؤمنين حين أضاء نورهم وأُسرِعَ بهم فوجئ المنافقون والمنافقون بضياع نورهم وذهاب نورهم، خُدِعوا كما خَدَعوا المؤمنين في الدنيا فخدعهم الله يوم القيامة، كانوا معهم في الدنيا بظاهرهم مخالفين لهم ببواطنهم، فجاءوا في ذلك اليوم فكانوا معهم بظواهرهم، ظواهر النور، لا يدرون أهو نور المؤمنين أم هو نورهم؟ ألهم نور كما للمؤمنين نور؟ ولذا اختلف العلماء؛ منهم من قال: يُعطى المنافقون نوراً، ومنهم من قال: أبداً لا يُعطَون نوراً، لا هم ولا للكفار ولكنهم يظنون أن لهم نوراً. فحين ابتعد المؤمنون وبعدت الشُّقَّة وزادت المسافة فوجئوا بالظلام الدامس فتعثروا ووقعوا، وإذا بالظلام يحيط بهم من كل جانب. فنادوا ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ الاقتباس: أن تأخذَ قبساً، والقَبَس: الجذوة من النار. (نقتبس من نوركم): أي نأخذ شيئاً وبعضاً من نوركم نستضيء به. أو (انظرونا) بمعنى انظروا إلينا فنرى النور في وجوهكم فنستضيء به. ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ القائل: تُرى المؤمنون يقولون لهم، يردون عليهم؟ أم هم الملائكة؟ قد يكون القائل الملائكة، وقد يكون القائل المؤمنون يردون عليهم.
(ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً): ارجعوا وراءكم في الدنيا، ابحثوا عن عمل صالح، ابحثوا عمّن يزودكم بالنور، والكلام توبيخ وتهكم، كيف يعودون إلى الدنيا؟ أو ارجعوا وراءكم حيث كُنَّا في الموقف وأُعطِينا النور حين كان الكُلُّ في ظلام ثم جاء النور للمؤمنين، فذاك موقف، ارجعوا إلى هذا الموقف حيث كنا وقوفاً جميعاً وأُعطينا النور لعلكم تجدون هناك نوراً. ﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ ابحثوا عن نور وابحثوا عن قَبَس. يسمعون كلامهم ويُهَيَّأ لهم أنهم لو رجعوا القهقرى فعلاً لوجدوا نوراً، حيث جاء النور وفاض من نور السماوات على المؤمنين، فإذا رجعوا وهَمُّوا بالرجوع لالتماس النور هنا حدثت الصدمة، وحدثت الخديعة بحق كما خَدَعوا المؤمنين في الدنيا بباطل. ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ بعد أن كانوا يشاهدونهم وكانوا يسيرون وراءهم إذا بالسور قد ضُرِب. (بسور) الباء صلة: أي ضُرِبَ سورٌ، أهو الحجاب المذكور في سورة الأعراف ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة الأعراف آية: ٤٦]؟ أهو حاجز بين الجنة والنار؟ أهو الحجاب؟ في ذلك الموقف حين يرجعون وراءهم يلتمسون نوراً، هنا يفاجَأ المنافقون والمنافقات بضرب السور، حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، حِيلَ بينهم وبين المؤمنين، (فضُرب بينهم) بين المؤمنين وبين المنافقين بسورٍ له باب ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ باطنه: الجهة التي تلي المؤمنين، فيه الرحمة، نعم! فيه نور المؤمنين، فيه الرضوان، فيه الريحان، فيه الجنة. ﴿وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ الجهة التي تلي المنافقين والمنافقات؛ ظلمة، ظلام دامس وعذاب، أهي جهنم؟ أهي النار؟ ظهرت لهم وبدت لهم؟ سمعوا شهيقها؟ سمعوا زفيرها؟ سمعوا تغيظها؟ وهنا حدث النداء:
(ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً): ارجعوا وراءكم في الدنيا، ابحثوا عن عمل صالح، ابحثوا عمّن يزودكم بالنور، والكلام توبيخ وتهكم، كيف يعودون إلى الدنيا؟ أو ارجعوا وراءكم حيث كُنَّا في الموقف وأُعطِينا النور حين كان الكُلُّ في ظلام ثم جاء النور للمؤمنين، فذاك موقف، ارجعوا إلى هذا الموقف حيث كنا وقوفاً جميعاً وأُعطينا النور لعلكم تجدون هناك نوراً. ﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ ابحثوا عن نور وابحثوا عن قَبَس. يسمعون كلامهم ويُهَيَّأ لهم أنهم لو رجعوا القهقرى فعلاً لوجدوا نوراً، حيث جاء النور وفاض من نور السماوات على المؤمنين، فإذا رجعوا وهَمُّوا بالرجوع لالتماس النور هنا حدثت الصدمة، وحدثت الخديعة بحق كما خَدَعوا المؤمنين في الدنيا بباطل. ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ بعد أن كانوا يشاهدونهم وكانوا يسيرون وراءهم إذا بالسور قد ضُرِب. (بسور) الباء صلة: أي ضُرِبَ سورٌ، أهو الحجاب المذكور في سورة الأعراف ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة الأعراف آية: ٤٦]؟ أهو حاجز بين الجنة والنار؟ أهو الحجاب؟ في ذلك الموقف حين يرجعون وراءهم يلتمسون نوراً، هنا يفاجَأ المنافقون والمنافقات بضرب السور، حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، حِيلَ بينهم وبين المؤمنين، (فضُرب بينهم) بين المؤمنين وبين المنافقين بسورٍ له باب ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ باطنه: الجهة التي تلي المؤمنين، فيه الرحمة، نعم! فيه نور المؤمنين، فيه الرضوان، فيه الريحان، فيه الجنة. ﴿وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ الجهة التي تلي المنافقين والمنافقات؛ ظلمة، ظلام دامس وعذاب، أهي جهنم؟ أهي النار؟ ظهرت لهم وبدت لهم؟ سمعوا شهيقها؟ سمعوا زفيرها؟ سمعوا تغيظها؟ وهنا حدث النداء:
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْأَمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴿14﴾
﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ هنا حدث النداء، أما في البداية حدث القول، يحدث القول بين من يرى بعضه بعضاً، فأنت تقول لمن تراه، أما من لا تراه ولا تدركه فأنت تنادي عليه، من هنا في أول الآية يقول الله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أما بعد ما ضُرِبَ السور فليس هناك مقالة وليس هناك قول ولكن هناك نداء. ينادونهم من خلف الأسوار: لم حُجِبتُم عنا؟ لِمَ ضُرِبَ بينَنا وبينكم سور؟ ولم تركتمونا؟ ولِمَ لَمْ تُمهِلونا؟ ولِمَ لَمْ تنتظرونا؟ ألم نكن معكم؟ ﴿قَالُوا بَلَى﴾ رد المؤمنين عليهم من خلف السور، من حيث الرحمة، من حيث الرضوان، قالوا بلى كنتم معنا، ولكن أيّة معيّة؟ ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ كنتم معنا بظاهركم، بأجسادكم، تشهدون بلسانكم وتبطنون الكفر في قلوبكم، بلى كنتم معنا ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾: أهلكتموها وخدعتموها، ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [سورة البقرة آية: ٩] نعم! خدعتم أنفسكم ولم تخدعوا الله، فالله لا يُخدَع، ولم تخدعوا المؤمنين بل خدعتم أنفسكم. ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ تربصتم بالنبي (صلى الله عليه وسلم) الموت، وتربصتم بالمؤمنين الدوائر. دعاهم إلى الهدى ولم يجد منهم إلا العناد، أراد بهم خيراً وتربصوا بهم الدوائر على كل جبل وواد، وقيل لكم تربصوا إنا معكم متربصون.
﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ شَكَكتُم، الريبة: الشك فيه التهمة، ليس شَكَّاً فقط، فالشك قد يستوي فيه الأمر تُرى أهكذا أو هكذا، لكن الريبة: شكٌّ فيه تهمة، ارتبتم: أي شككتم في صدق الرسول واتهمتموه بالكذب وشككتم في وعد الله (تبارك وتعالى). ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ خَدَعَتكُم الأماني، الأماني: جمع أمنية، ما يتمناه المرء. ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت، يأتي كل حي فليس لهارب منه نجاة. ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الغَرور: هو الشيطان. وقُرِأَت ﴿غركم بالله الغُرور﴾ بالضم، والغُرور: الأباطيل؛ أباطيل الدنيا وخداع الدنيا وزينة الدنيا وزخرف الدنيا ودُعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ الكلام والخدع والأباطيل والتلاعب بالألفاظ وما تسمعوه، وتسمية الأشياء بغير اسمها كتسمية الرقص الخليع وتسمية العُري بالفن، وتسمية اللهو واللغو والباطل بالفنون، وتسمية الخمر بأسماء غير اسمها، وتسمية النفاق بالمجاملة، وتسمية وتسمية، خداع وأباطيل. واسمع لوسائل الإعلام واسمع للدعاة على أبواب جهنم، اسمع لما يقال واقرأ ما يقال، ذاك هو الغُرور. (غرتكم الأماني) ما يتمناه المرء لنفسه. ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت. (غركم بالله الغُرور) أباطيل الدنيا وزخرفها وزينتها، وأباطيل الناس، المزورون المزيفون للحقائق. أو الغَرور بمعنى الشيطان الذي يدعو الإنسان للفسق.
﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ شَكَكتُم، الريبة: الشك فيه التهمة، ليس شَكَّاً فقط، فالشك قد يستوي فيه الأمر تُرى أهكذا أو هكذا، لكن الريبة: شكٌّ فيه تهمة، ارتبتم: أي شككتم في صدق الرسول واتهمتموه بالكذب وشككتم في وعد الله (تبارك وتعالى). ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ خَدَعَتكُم الأماني، الأماني: جمع أمنية، ما يتمناه المرء. ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت، يأتي كل حي فليس لهارب منه نجاة. ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الغَرور: هو الشيطان. وقُرِأَت ﴿غركم بالله الغُرور﴾ بالضم، والغُرور: الأباطيل؛ أباطيل الدنيا وخداع الدنيا وزينة الدنيا وزخرف الدنيا ودُعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ الكلام والخدع والأباطيل والتلاعب بالألفاظ وما تسمعوه، وتسمية الأشياء بغير اسمها كتسمية الرقص الخليع وتسمية العُري بالفن، وتسمية اللهو واللغو والباطل بالفنون، وتسمية الخمر بأسماء غير اسمها، وتسمية النفاق بالمجاملة، وتسمية وتسمية، خداع وأباطيل. واسمع لوسائل الإعلام واسمع للدعاة على أبواب جهنم، اسمع لما يقال واقرأ ما يقال، ذاك هو الغُرور. (غرتكم الأماني) ما يتمناه المرء لنفسه. ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ الموت. (غركم بالله الغُرور) أباطيل الدنيا وزخرفها وزينتها، وأباطيل الناس، المزورون المزيفون للحقائق. أو الغَرور بمعنى الشيطان الذي يدعو الإنسان للفسق.
فَٱلْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌۭ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ۚ مَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ ۖ هِىَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴿15﴾
(فاليوم) ذاك اليوم -يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم، ويوم يقول المنافقون والمنافقات ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ (لاتؤخذ منكم فدية) قراءة ﴿وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الفدية: البدل، الفدية: العوض ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(١١)وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ(١٢)وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ(١٣)وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ(١٤)﴾ [سورة المعارج آية: ١١ - ١٤] لو معهم ما في الدنيا ومثل ما في الدنيا ومثل ما في السموات ومافي الأرض ليفتدوا به ما تُقُبِّلَ منهم. إذاً فيُقال لهم: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الكلام للمنافقين؛ أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وكذلك الكفار الذين كفروا ظاهراً وباطناً، لايؤخذ منهم فدية. ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ أي مكانكم ومثواكم، مكانكم الذي تأوون إليه وتستقرون فيه. نعم! هي مولاكم: كلمة غريبة وعجيبة فيها التهكم، فيها التيئيس. المولى: من يتولى مصالح الناس، المولى: القريب، المولى: الناصر، المولى: القريب. يُقال لهم النار مولاكم؟ ناصركم؟ إذاً فقد فقدوا كل ناصر إذا كانت النار هي ناصرهم فأين لهم بناصر ينصرهم؟ تهكم غريب وتيئيس من وجود أي ناصر. (هي مولاكم): تتولى أموركم، هاهي النار تتولاهم، أيُّ مصلحة لهم في النار؟ منتهى التهكم! والوَلْي: القُرب، مولاكم: أي قريبة منكم، هاهي تفتح فاها وتتلمظ وتنتظركم. والمولى أيضاً الذي يتولى الأمور، وبمعنى النار هي مولاكم: أوْلى بكم، أنتم تستحقونها.
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وهنا يقول بعض الناس أن الآية تُشعِر بأن النار تَعقِل وترى وتسمع وتتكلم، يخلق ربنا فيها الحياة فتُبصِر الكفار فتتلمظ وتتميز غيظاً وترسل ألسنتها، تُحيطَ بهم وتأتي بهم، كالحية إذا نهشت، فكذلك النار، وتتكلم لأنه يسألها: هل امتلأتِ، فتقول: هل من مزيد؟ إذاً فحين يقول لهم (هي مولاكم) إذاً فهي تتولى أموركم وتعقل وتسمع وتبصر وتتكلم، هي مولاكم وبئس المصير، نجانا الله وإياكم من كل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. أيها الأخ المسلم؛ من تذكر المنيّة نسي الأمنية، ومن أطال الأمل ترك العمل وغفل عن الأجل، إنتبه! إذا تذكرتَ المنيّة نسيتَ الأمنية، فمن أراد واعظاً فالموت يكفيه، ومن أطال الأمل ترك العمل، لأنك تقول غداً إن شاء الله، حين أكبُر، في العام القادم سوف أحج، سوف أتوب. وقد خَطَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه خطاً ثم خطوطاً، وخَطَّ آخر وقال: "هذا ابن آدم وهذا أجله يقطع أمله" فاجعل أجلك أقرب من أملك وإياك أن تتطاول في الأمل، لأن من أطال الأمل ترك العمل وغفل عن الأجل، فيأتيه الأجل فجأة. وإياك وأن يُقال (وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور)، الشيطان يُغوي ويُمهِل ويَعِدِ الإنسان، يعدهم بالمغفرة؛ إن ربك غفور رحيم، إن ربك حليم ستار، إن ربك كريم، إنه رءوف بالعباد، يُمَنِّيهم بالمغفرة ويَعِدُهم بذلك. وَرَدَ أن الشيطان قال لله: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم مادامت الأرواح فيهم، فقال الله: "وعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني."
إن كثرة الكلام بغير ذكر الله تجعل القلوب تقسو، والنظر في ذنوب الناس بنظر الآلهة والغفلة عن ذنوب النفس تجعل القلوب تقسو، وإنما الناس رجلان: رجل معافى ورجل مبتلى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية. كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة في جدب وقحط وفقر كانوا وكانوا، ثلاث عشر سنة كانوا فقراء؛ أكلوا ورق الشجر، عُذِّبوا في الله فكان ذكرهم لله كثيراً وصبرهم على البلاء كبيراً، أُذِنَ لهم بالهجرة فهاجروا إلى المدينة حيث النصرة، حيث الإخاء، حيث المحبة، حيث المودة. تلقّاهم الأنصار على الرحب والسعة، فتحوا لهم ديارهم وقاسموهم أموالهم، فحدث السعة بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، فكَثُرَ ضحكهم ومزاحهم وكثر كلامهم وقَلَّ ذكرهم، فنزل جبريل بكلام من الله يعاتب به أحب خلقه إليه، ألا وهم الصحابة، عاتبهم واستبطأ خشوع قلوبهم فقال عز مِن قائل:
﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وهنا يقول بعض الناس أن الآية تُشعِر بأن النار تَعقِل وترى وتسمع وتتكلم، يخلق ربنا فيها الحياة فتُبصِر الكفار فتتلمظ وتتميز غيظاً وترسل ألسنتها، تُحيطَ بهم وتأتي بهم، كالحية إذا نهشت، فكذلك النار، وتتكلم لأنه يسألها: هل امتلأتِ، فتقول: هل من مزيد؟ إذاً فحين يقول لهم (هي مولاكم) إذاً فهي تتولى أموركم وتعقل وتسمع وتبصر وتتكلم، هي مولاكم وبئس المصير، نجانا الله وإياكم من كل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. أيها الأخ المسلم؛ من تذكر المنيّة نسي الأمنية، ومن أطال الأمل ترك العمل وغفل عن الأجل، إنتبه! إذا تذكرتَ المنيّة نسيتَ الأمنية، فمن أراد واعظاً فالموت يكفيه، ومن أطال الأمل ترك العمل، لأنك تقول غداً إن شاء الله، حين أكبُر، في العام القادم سوف أحج، سوف أتوب. وقد خَطَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه خطاً ثم خطوطاً، وخَطَّ آخر وقال: "هذا ابن آدم وهذا أجله يقطع أمله" فاجعل أجلك أقرب من أملك وإياك أن تتطاول في الأمل، لأن من أطال الأمل ترك العمل وغفل عن الأجل، فيأتيه الأجل فجأة. وإياك وأن يُقال (وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور)، الشيطان يُغوي ويُمهِل ويَعِدِ الإنسان، يعدهم بالمغفرة؛ إن ربك غفور رحيم، إن ربك حليم ستار، إن ربك كريم، إنه رءوف بالعباد، يُمَنِّيهم بالمغفرة ويَعِدُهم بذلك. وَرَدَ أن الشيطان قال لله: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم مادامت الأرواح فيهم، فقال الله: "وعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني."
إن كثرة الكلام بغير ذكر الله تجعل القلوب تقسو، والنظر في ذنوب الناس بنظر الآلهة والغفلة عن ذنوب النفس تجعل القلوب تقسو، وإنما الناس رجلان: رجل معافى ورجل مبتلى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية. كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة في جدب وقحط وفقر كانوا وكانوا، ثلاث عشر سنة كانوا فقراء؛ أكلوا ورق الشجر، عُذِّبوا في الله فكان ذكرهم لله كثيراً وصبرهم على البلاء كبيراً، أُذِنَ لهم بالهجرة فهاجروا إلى المدينة حيث النصرة، حيث الإخاء، حيث المحبة، حيث المودة. تلقّاهم الأنصار على الرحب والسعة، فتحوا لهم ديارهم وقاسموهم أموالهم، فحدث السعة بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، فكَثُرَ ضحكهم ومزاحهم وكثر كلامهم وقَلَّ ذكرهم، فنزل جبريل بكلام من الله يعاتب به أحب خلقه إليه، ألا وهم الصحابة، عاتبهم واستبطأ خشوع قلوبهم فقال عز مِن قائل:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا۟ كَٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌۭ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ ﴿16﴾
عاتبهم وهم أحب الخلق إليه، عاتبهم بهذا العتاب الرقيق: ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ ألم يَحِنِ الوقت كي يذل القلب ويخضع لله ولذكر الله ولكلام الله؟ (يأْنِ) يَأني أنْياً وأناءً: حان وقته. وقُرِئت (ألم يئِنْ) من آن يئين أيْناً مقلوب ولكنه يؤدي نفسي المعنى، حان يحين. ﴿ألم يأْنِ﴾ ألم يحِنْ وقت الخشوع والتذلل والخضوع وقُرِئت ﴿ألمَّا يأْن﴾ ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ تذل وتلين وتخضع. ﴿لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ القرآن. ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ القرآن، من باب عطف الشيء على نفسه بتغاير الصفات، عطف الصفة على الصفة، فهو ذكر وهو حق. قُرِئت ﴿ما نَزَّلَ من الحق﴾ وقُرِأت ﴿وما أَنزَلَ﴾ وقُرِأت ﴿وما نَزَل من الحق﴾. وقد يكون المعنى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي إذا ذُكِرَ الله وجلت قلوبهم، الذِّكر هو ذكر الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، الذِّكر بما يليق بجلاله وكماله، فإذا ذُكِرَ الله وجلت قلوبهم وذاك فعل المؤمنين. (ومانزل من الحق) القرآن فهو عطف مغاير. ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ والخطاب عتاب، ونزل العتاب بعد ثلاث عشرة سنة، أو بعد سنة من الهجرة. وقيل بل الخطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. وقيل بل الخطاب لأهل الكتاب لأنه بعد ذلك يقول: (والذين آمنوا بالله ورسله) فهو خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بكتبهم، آمنوا بموسى وآمنوا بعيسى، ألم يحنْ الوقت لكي يؤمنوا بمحمد ويؤمنوا بالقرآن؟ وأرجح الأقوال أن الكلام للمؤمنين الذين تكاسلوا قليلاً عما اعتادوا عليه من كثرة الذكر وكثر كلامهم بغير ذكر الله، وكثر ضحكهم وكثر تمازحهم. ﴿وَلَا يَكُونُوا﴾، وقُرِئت ﴿ولا تكونوا﴾، نهي بمعنى ﴿وألَّا يكونوا﴾ ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ أصحاب التوراة وأصحاب الإنجيل.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ طال عليهم الزمن إما بطول أعمارهم أو بطول آمالهم أو بمرور الوقت بينهم وبين زمن أنبيائهم، طال الوقت، مئات السنين بين بعثة عيسى وبعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) فابتعدوا عن أوامر الأنبياء، ابتعدوا عن عصر النبوة، تركوا الأوامر ولم يجتنبوا النواهي، طال عليهم الأمد ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أصبحت قلوبهم قاسية، وقسوة القلب من قلة ذكر الله، وذكر الله (تبارك وتعالى) يجعل القلب يلين ويخشع ويذل. قست قلوبهم ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ فمنهم من بقي على الإيمان بعيسى ولكن القلب قسى، ومنهم من ابتعد عن الإيمان بعيسى وحرف دينه وزعم لله الولد. (كثير منهم فاسقون) خرجوا عن دينهم وخرجوا عن ملتهم وكفروا بما نزل به عيسى.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ طال عليهم الزمن إما بطول أعمارهم أو بطول آمالهم أو بمرور الوقت بينهم وبين زمن أنبيائهم، طال الوقت، مئات السنين بين بعثة عيسى وبعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) فابتعدوا عن أوامر الأنبياء، ابتعدوا عن عصر النبوة، تركوا الأوامر ولم يجتنبوا النواهي، طال عليهم الأمد ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أصبحت قلوبهم قاسية، وقسوة القلب من قلة ذكر الله، وذكر الله (تبارك وتعالى) يجعل القلب يلين ويخشع ويذل. قست قلوبهم ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ فمنهم من بقي على الإيمان بعيسى ولكن القلب قسى، ومنهم من ابتعد عن الإيمان بعيسى وحرف دينه وزعم لله الولد. (كثير منهم فاسقون) خرجوا عن دينهم وخرجوا عن ملتهم وكفروا بما نزل به عيسى.
ٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْىِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿17﴾
الآية تمثيل، تشبيه، يريد الله (تبارك وتعالى) أن يبين لنا أنه كما يحي الأرض الميتة بالماء فإذا بها تحيى وتُنبِت ويخرج منها النبات فيزهو وينمو ويثمر، فكذلك القلوب إن قست تلين وتخشع بذكر الله، لأن الكلام عن القلوب، الكلام عن الخشوع لذكر الله وتلاوة القرآن، فكأن الله (تبارك وتعالى) بعد أن عاتبهم وبين الداء وبين سبب الداء، يبين لنا الدواء فيقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا يحييها بالماء. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ كي يكمل عقلكم وتكمل فيكم البصائر والعقول، فكما أن الماء يحيي الأرض فكذلك القرآن يحيي القلوب وكذلك ذكر الله، فمن شكى من قسوة قلبه فعليه بتلاوة القرآن، ومن شكى من عدم نزول دمعه فعليه بذكر الله. ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد آية: ٢٨] تخشع وتخضع، فهو يصف لنا الدواء بعد ما بين لنا الداء. كذلك الكافر يحيى بالإيمان من موته بالكفر والضلالة، وكذلك من قسى قلبه يلين قلبه ويصفو بذكر الله، بتلاوة القرآن كما أن الأرض تحيى بنزول الماء.
إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَـٰتِ وَأَقْرَضُوا۟ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًۭا يُضَـٰعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌۭ كَرِيمٌۭ ﴿18﴾
والكلام ينتقل إلى نوع آخر من الدواء والعلاج الذي يُثَبِّت الإيمان في القلب ويبرهن على صدق هذا الإيمان؛ الصدقة. لأن المتصدق إذا أنفق دَلَّ ذلك على ثقته بما في يد الله، وأنه أوثق بما في يد الله مما هو في يده. ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ وقُرِأَت ﴿إن المتصدقين والمتصدقات﴾ على أصل الكلمة وأصل اللغة، حُذِفَت التاء وأُدغِمَت في الصاد. وقُرِئت ﴿إن المُصَدِّقين والمُصَدَّقات﴾ الذين صَدَّقوا بالله وصَدَّقوا برسول الله وصَدَّقوا بكتاب الله. ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ بيان للصدقة المقبولة وهي الخالصة لوجه الله والتي يُطلَق عليها قرض حسن، والقرض الحسن له شروط كما أوضحنا من قبل وهي أن يكون من حلال، ألا تتيمم الخبيث، وأن تخفي الصدقة، أن تكون راضياً طيب النفس بما تنفق، ألا يكون للرياء أو السمعة، وألا يكون فيه مَنّ ولا أذى، إلى آخر الشروط التي تكلمنا فيها عن القرض الحسن. ويُطلَق أيضاً القرض الحسن على كل فعل في الخيرات، كل عمل من أعمال الخير يعتبر قرضاً حسناً ولا يُشتَرَط أن يكون في الإنفاق فقط. ﴿يُضَاعَفُ لهم﴾، ﴿يضاعِفُهُ لهم﴾ ﴿يُضَعَّفُ لهم﴾ قراءات ثلاث. ﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ الأجر الكريم هو الجنة، ربنا (تبارك وتعالى) يضاعف لك ما أنفقت ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سورة سبأ آية: ٣٩] فهذا القرض الحسن وهذه الصدقات تُضَعَّف، أيضاً يُضاعَف أجرُها في الدنيا، ما نقص مال من صدقة، إي وربي! لابد وأن يزيد، لابد وأن يُضاعَف. وأيضاً ﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ في الآخرة وهو الجنة، ويكفي أن الله نَكَّرَه، لم يُعَرِّف وجاء به نكرة، (ولهم أجر كريم) للتفخيم وللتعظيم إذ لا يعرف الأجر الكريم إلا الكريم (سبحانه وتعالى).
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ ۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَآ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ ﴿19﴾
إذا قُرِأَت بالوصل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ فالمعنى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك عند الله (تبارك وتعالى) بمنزلة الصديقين والشهداء بما لهم من علو الرتبة ورفعة الدرجة. (لهم أجرهم ونورهم) أي: لهم مثل أجر الصديقين ولهم مثل نور الصديقين والشهداء، وحُذِفت أداة التشبيه في الجملتين والمعنى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك مثلهم كمثل الصديقين والشهداء لهم مثل أجرهم ولهم مثل نورهم، وحُذِفَت أداة التمثيل في الجملتين للدلالة على اقتراب الأجر والنور واتحاد الأجر والنور، فهم لهم من الأجر ولهم من النور ما يقترب جداً ويماثل أجر الصديقين والشهداء. وإذا قُرِئت بالوقف: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ تعريف لهؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله؛ هم الصديقون الذين صَدَّقوا بالله وصَدَّقوا باليوم الآخر وصَدَّقوا بالرسل إيماناً يقينياً لا يتزعزع، لم يشكّوا طرفة عين، كمؤمن آل فرعون وكصاحب آل ياسين وكأصحاب الكهف وكأصحاب الأخدود، هؤلاء هم الصِّدِّيقون الذين آمنوا بالله ورسله ولم يشكّوا طرفة عين. ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ استئناف كلام.
﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ كلام جديد، الشهداء هنا: الأنبياء، لأن الله يقول: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ٤١] والشهداء عند ربهم: أي الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، الأنبياء، لهم أجرهم ونورهم. أو الشهداء عند ربهم: هم مؤمنو الأمم الذين يشهدون لله بالوحدانية ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٨] أولئك هم الشهداء، الذين شهدوا لله بالوحدانية، لهم أجرهم ونورهم. أو الشهداء الذين يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة، ونحن نشهد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، بل ونشهد للرسل من قبله؛ فنشهد لموسى إذا كذّبه كفار قومه، ونشهد لعيسى، وإذا سُئِلنا كيف تشهدون؟ قلنا لقد أخبرنا الصادق المصدوق، الشهداء الذين يشهدون للأنبياء بتبليغ الرسالات. أو الشهداء بمعنى الذين قُتِلوا في سبيل الله لكي تكون كلمة الله هي العليا ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ وتصبح الكلمة (لهم أجرهم ونورهم) أي الأجر والنور الخاص بهم لا يشبه أجراً أو نوراً لغيرهم، أجرهم ونورهم اللذان وعدهما الله بهما. ذلك إذا قُرِئت بالوقف. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ والآيه خطيرة تبين أن الناس فريقان؛ فريق في الجنة وفريق في السعير. هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله لهم الأجر والنور، أما الذين كفروا وكذبوا فأولئك أصحاب الجحيم. في الآية علامتان: العلامة الأولى أن التركيب اللفظي للآية يفيد الاختصاص ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ اختصاص.
والأمر الثاني في قوله (أصحاب الجحيم) فالصحبة تعني الملازمة. من هاتين العلامتين يبين لك أنه لا خلود في جهنم إلا للكفار فقط، ولا يُخَلَّد مُوَحِّد لله في النار أبداً من صياغة الآية، فالذين كفروا وكذّبوا بآياتنا هم أصحاب الجحيم، إذاً فهم ملازمون للجحيم، هم أصحابها على التخصيص، فهذا دليل على أنه لا يُخَلَّد في النار مُوَحِّد أبداً ولا يُخَلَّد إلا الكفار، فالآية تبين حال الفريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، هؤلاء في النور وهؤلاء في الظلام، هؤلاء في النعيم وأولئك في الجحيم. يبين حال الدنيا؛ تلك التي أدت بهؤلاء إلى الجنة وأدت بأولئك إلى النار، لأن الدنيا مزرعة؛ من زرع حصد، والدنيا حرث للآخرة، من حرثها من أجل الآخرة فاز بنعيم الآخرة، ومن حرثها من أجلها ولأجل الدنيا خاب وخسر ولم يفز بشيء. يبين حال الدنيا فيقول:
﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ كلام جديد، الشهداء هنا: الأنبياء، لأن الله يقول: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ٤١] والشهداء عند ربهم: أي الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، الأنبياء، لهم أجرهم ونورهم. أو الشهداء عند ربهم: هم مؤمنو الأمم الذين يشهدون لله بالوحدانية ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٨] أولئك هم الشهداء، الذين شهدوا لله بالوحدانية، لهم أجرهم ونورهم. أو الشهداء الذين يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة، ونحن نشهد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، بل ونشهد للرسل من قبله؛ فنشهد لموسى إذا كذّبه كفار قومه، ونشهد لعيسى، وإذا سُئِلنا كيف تشهدون؟ قلنا لقد أخبرنا الصادق المصدوق، الشهداء الذين يشهدون للأنبياء بتبليغ الرسالات. أو الشهداء بمعنى الذين قُتِلوا في سبيل الله لكي تكون كلمة الله هي العليا ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ وتصبح الكلمة (لهم أجرهم ونورهم) أي الأجر والنور الخاص بهم لا يشبه أجراً أو نوراً لغيرهم، أجرهم ونورهم اللذان وعدهما الله بهما. ذلك إذا قُرِئت بالوقف. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ والآيه خطيرة تبين أن الناس فريقان؛ فريق في الجنة وفريق في السعير. هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله لهم الأجر والنور، أما الذين كفروا وكذبوا فأولئك أصحاب الجحيم. في الآية علامتان: العلامة الأولى أن التركيب اللفظي للآية يفيد الاختصاص ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ اختصاص.
والأمر الثاني في قوله (أصحاب الجحيم) فالصحبة تعني الملازمة. من هاتين العلامتين يبين لك أنه لا خلود في جهنم إلا للكفار فقط، ولا يُخَلَّد مُوَحِّد لله في النار أبداً من صياغة الآية، فالذين كفروا وكذّبوا بآياتنا هم أصحاب الجحيم، إذاً فهم ملازمون للجحيم، هم أصحابها على التخصيص، فهذا دليل على أنه لا يُخَلَّد في النار مُوَحِّد أبداً ولا يُخَلَّد إلا الكفار، فالآية تبين حال الفريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، هؤلاء في النور وهؤلاء في الظلام، هؤلاء في النعيم وأولئك في الجحيم. يبين حال الدنيا؛ تلك التي أدت بهؤلاء إلى الجنة وأدت بأولئك إلى النار، لأن الدنيا مزرعة؛ من زرع حصد، والدنيا حرث للآخرة، من حرثها من أجل الآخرة فاز بنعيم الآخرة، ومن حرثها من أجلها ولأجل الدنيا خاب وخسر ولم يفز بشيء. يبين حال الدنيا فيقول:
ٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌۭ وَلَهْوٌۭ وَزِينَةٌۭ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌۭ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَـٰدِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّۭا ثُمَّ يَكُونُ حُطَـٰمًۭا ۖ وَفِى ٱلْـَٔاخِرَةِ عَذَابٌۭ شَدِيدٌۭ وَمَغْفِرَةٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌۭ ۚ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ ﴿20﴾
هذه هي الحياة الدنيا؛ لعب ولهو وزينة و ... أما اللعب: فهو لعبٌ كلعب الصبيان، وأما اللهو فهو لهو كلهو الفتيان، وأما الزينة فهي كزينة النسوان، وأما التفاخر كتفاخر الأقران، وأما التكاثر فهو تكاثر كتكاثر الدُّهقان. اللعب لا ثمرة له إلا التعب، وأما اللهو فهو يشغل ويلهي عن كل ما يعني ويهم، وأما الزينة فلا ينتج عنها شرف ذاتي، فهي زينة كالأصباغ التي تضعها النساء، وكالملبس وكالمركب لا تعطي لصاحبها شرفاً ذاتياً بل مظهراً، أما الشرف الذاتي فمن داخل النفس، من القلب، من المعدن، من الفعل، أما الزينة فلا تعطي شرفاً ذاتياً لشيء، فأنت مهما زينت الصفيح لن يصبح ذهباً، مهما اصفَرَّ، مهما زاد بريقه لن يتحول إلى ذهب أبداً. وأما التفاخر فهو تفاخر بزائل، تفاخر بشيء لم تخلقه ولم تصنعه. وأما التكاثر فهو تكاثر بالعظام والرفات، لأنك تتكاثر بأموات فمهما رُزِقت من أولاد وتكاثرت بالعائلة والقبيلة فكلهم إلى الرفات وإلى التراب وإلى العظام، فأنت تتكاثر بالعظام والرفات وتتفاخر بالزائل وبالباطل. واللعب: ما يحبِّب في الدنيا، واللهو: ما يلهي عن الآخرة، كل ما حَبَّبَك في الدنيا فهو لعب لا يورث إلا التعب، وكل ما ألهاك عن الآخرة فهو لَهْوٌ يشغلك عما يهم ويعني. ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ ويقرر ما وصفها به فيُشَبِّهُها ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ أي مَثَلُها كمثل غيث، (كمثل) خبر مبتدأ محذوف تقديره (مَثَلُها)، مَثَلُها كمَثَلِ غيثٍ، مطر كثير، مطر نافع، مطر يغيث الناس، يُحيِيهم.
﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ الكفار: الزُّرَّاع، وسمي الزُّرَّاع كفاراً لأنهم يَكفُرُون الحَبّ، والكُفر: التغطية والستر، وتكفير السيئات: سَتْرُها، فهم يَكْفُرُون الحَب والبذر، يُغَطُّوه في الأرض، فسمي الزارع كافراً من أجل كَفره للحَب. وقد تكون الكلمة على حقيقتها وظاهرها: (أعجب الكفار) أي الذين يكفرون بالله ورسله، ولِمَ اختصهم بالذكر؟ لأن كل ما يُعجِب في هذه الدنيا إذ نظر إليه المؤمن تجاوزه إلى الصانع فرأى الصنعة ورأى الصانع، فأُعجِب بالصنعة فسبح الله. وأما الكافر إذا رأى ما يعجبه لم يتجاوز بصره ما أعجبه بل وقف البصر عند ما أُعجِبَ به. من هنا كان إعجاب الكفار بزينة الدنيا أكثر وأوضح وأظهر من إعجاب المؤمنين، من هنا اختصهم ربنا بالذكر في قوله: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ الكفار الذين كفروا بالله. أو (أعجب الكفار): الزُّرَّاع، والكل يُعجَب بخضرة الزرع ونمائه. ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ الهَيجْ: التَكَسُّر؛ أن ييبس النبات. الهَيجْ ممكن أن يكون الحركة؛ هاج يهيج هياجاً. والهَيج يعني أيضاً أن ييبس الزرع. أو يهيج: يزهو وتحركه الرياح. ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ بعد خضرة إذا به يَصْفَرّ، إما اصفرار يُبْس وجفاف وتَحَوُّل، وإما اصفرار زهو. (ثم يكون حطاماً) يصبح بعد ذلك تِبناً، يصبح بعد ذلك قشاً، يصبح بعد ذلك فُتاتاً وحطاماً يتكسر، هذا هو حال الزرع؛ مهما نزل الغيث والمطر على الأرض الجدبة تنبت، يزهو النبات، تراه مخضراً، ثم يهيج، ثم تراه مصفراً، ثم يتحول بعد ذلك فيكون حطاماً. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) وَقْفٌ هنا في القراءة إن أردت على معنى: وفي الآخرة عذاب شديد للكفار، ثم تقرأ ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ أي: مغفرة للمؤمنين من الله ورضوان.
وإذا كانت القراءة بالوصل كما هو مرسوم في مصاحفكم بغير وقف: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان) أي: ناتج الدنيا ونتيجة الدنيا التي شَبَّهناها بالزرع الذي يصبح مخضراً ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، ناتج كل ذلك أن في الآخرة إما عذاب وإما مغفرة ورضوان، فاختر لنفسك ما تشاء. ثم يؤكد كل ذلك بقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ المتاع: الزائل، المتاع: من قولهم مَتَعَ النهار: ارتفع، والنهار إذا ارتفع لابد وأن يزول إلى الغروب وإلى النهاية، فالمتاع: الوقت البسيط والوقت القليل والارتفاع قبل الانخفاض ثم الزوال. والغُرور: الباطل، الأماني، الدنيا بما فيها. الغُرور: الخداع، فالدنيا متاع خادع وظل زائل وحائل، هاهي الدنيا، نعم! ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. وإن تفكرت في الدنيا لوجدت أن الدنيا بأسرها للكل؛ لكل إنسان على وجه هذه الأرض، هي ستة أشياء، عَظُمَ شأنه أو حَقُرَ شأنه: مأكول ومشروب ومشموم وملبوس ومركوب ومنكوح، هاهي الدنيا ستة أشياء. أما المأكول فأحسن ما يؤكل وأحلى مايؤكل: العسل، من أين أتى العسل؟ من ذبابة! فالنحلة فصيلة من فصائل الذباب، أحلى ما في الدنيا من مأكول خرج من ذبابة، أرأيت الحقارة؟! وأما المشروب فأحلى ما يُشرَب وأمتع ما يُشرَب هو اللبن، خرج من بين فرث ودم من البهائم، ذاك هو اللبن! وأما المشموم فأحلى ما يُشَمّ هو المِسك، والمِسك دم الحيوان كالفأرة! وأما الملبوس فأنعم مايُلبَس الحرير، خرج من دودة! وأما ما يُركَب، أياً كان ما يُركَب، فهو يؤدي إلى حتف صاحبه، فإن كان فَرَساً وَقَصَه، وإن كان بعيراً أوقعه، وإن كانت سيارة فأسرع بها قليلاً انقلبت، وإن كان طائرة وهكذا ... فكل مركوب لا محالة يؤدي إلى المصرع.
وأما المنكوح فمهما تزينت النساء، تأمل تُزَيِّن المرأة أحسن ما فيها كي يُبتَغَى أقبح ما فيها، هل تأملت؟! وانظر إلى أجمل النساء ماذا تزين؟ تزين أحسن ما فيها؛ تزين الوجه والشعر من أجل أن يُبتَغَى أقبح ما فيها، تأمل! تلك هي الدنيا: مأكول ومشروب ومشموم وملبوس ومركوب ومنكوح، والكل حقير ومانتج عن الحقير فهو حقير! وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، حقاً صدق ربي! إذا علمنا ذلك فعلينا أن نعمل بنصيحة الله لنا حيث يقول:
﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ الكفار: الزُّرَّاع، وسمي الزُّرَّاع كفاراً لأنهم يَكفُرُون الحَبّ، والكُفر: التغطية والستر، وتكفير السيئات: سَتْرُها، فهم يَكْفُرُون الحَب والبذر، يُغَطُّوه في الأرض، فسمي الزارع كافراً من أجل كَفره للحَب. وقد تكون الكلمة على حقيقتها وظاهرها: (أعجب الكفار) أي الذين يكفرون بالله ورسله، ولِمَ اختصهم بالذكر؟ لأن كل ما يُعجِب في هذه الدنيا إذ نظر إليه المؤمن تجاوزه إلى الصانع فرأى الصنعة ورأى الصانع، فأُعجِب بالصنعة فسبح الله. وأما الكافر إذا رأى ما يعجبه لم يتجاوز بصره ما أعجبه بل وقف البصر عند ما أُعجِبَ به. من هنا كان إعجاب الكفار بزينة الدنيا أكثر وأوضح وأظهر من إعجاب المؤمنين، من هنا اختصهم ربنا بالذكر في قوله: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ الكفار الذين كفروا بالله. أو (أعجب الكفار): الزُّرَّاع، والكل يُعجَب بخضرة الزرع ونمائه. ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ الهَيجْ: التَكَسُّر؛ أن ييبس النبات. الهَيجْ ممكن أن يكون الحركة؛ هاج يهيج هياجاً. والهَيج يعني أيضاً أن ييبس الزرع. أو يهيج: يزهو وتحركه الرياح. ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ بعد خضرة إذا به يَصْفَرّ، إما اصفرار يُبْس وجفاف وتَحَوُّل، وإما اصفرار زهو. (ثم يكون حطاماً) يصبح بعد ذلك تِبناً، يصبح بعد ذلك قشاً، يصبح بعد ذلك فُتاتاً وحطاماً يتكسر، هذا هو حال الزرع؛ مهما نزل الغيث والمطر على الأرض الجدبة تنبت، يزهو النبات، تراه مخضراً، ثم يهيج، ثم تراه مصفراً، ثم يتحول بعد ذلك فيكون حطاماً. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) وَقْفٌ هنا في القراءة إن أردت على معنى: وفي الآخرة عذاب شديد للكفار، ثم تقرأ ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ أي: مغفرة للمؤمنين من الله ورضوان.
وإذا كانت القراءة بالوصل كما هو مرسوم في مصاحفكم بغير وقف: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان) أي: ناتج الدنيا ونتيجة الدنيا التي شَبَّهناها بالزرع الذي يصبح مخضراً ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، ناتج كل ذلك أن في الآخرة إما عذاب وإما مغفرة ورضوان، فاختر لنفسك ما تشاء. ثم يؤكد كل ذلك بقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ المتاع: الزائل، المتاع: من قولهم مَتَعَ النهار: ارتفع، والنهار إذا ارتفع لابد وأن يزول إلى الغروب وإلى النهاية، فالمتاع: الوقت البسيط والوقت القليل والارتفاع قبل الانخفاض ثم الزوال. والغُرور: الباطل، الأماني، الدنيا بما فيها. الغُرور: الخداع، فالدنيا متاع خادع وظل زائل وحائل، هاهي الدنيا، نعم! ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. وإن تفكرت في الدنيا لوجدت أن الدنيا بأسرها للكل؛ لكل إنسان على وجه هذه الأرض، هي ستة أشياء، عَظُمَ شأنه أو حَقُرَ شأنه: مأكول ومشروب ومشموم وملبوس ومركوب ومنكوح، هاهي الدنيا ستة أشياء. أما المأكول فأحسن ما يؤكل وأحلى مايؤكل: العسل، من أين أتى العسل؟ من ذبابة! فالنحلة فصيلة من فصائل الذباب، أحلى ما في الدنيا من مأكول خرج من ذبابة، أرأيت الحقارة؟! وأما المشروب فأحلى ما يُشرَب وأمتع ما يُشرَب هو اللبن، خرج من بين فرث ودم من البهائم، ذاك هو اللبن! وأما المشموم فأحلى ما يُشَمّ هو المِسك، والمِسك دم الحيوان كالفأرة! وأما الملبوس فأنعم مايُلبَس الحرير، خرج من دودة! وأما ما يُركَب، أياً كان ما يُركَب، فهو يؤدي إلى حتف صاحبه، فإن كان فَرَساً وَقَصَه، وإن كان بعيراً أوقعه، وإن كانت سيارة فأسرع بها قليلاً انقلبت، وإن كان طائرة وهكذا ... فكل مركوب لا محالة يؤدي إلى المصرع.
وأما المنكوح فمهما تزينت النساء، تأمل تُزَيِّن المرأة أحسن ما فيها كي يُبتَغَى أقبح ما فيها، هل تأملت؟! وانظر إلى أجمل النساء ماذا تزين؟ تزين أحسن ما فيها؛ تزين الوجه والشعر من أجل أن يُبتَغَى أقبح ما فيها، تأمل! تلك هي الدنيا: مأكول ومشروب ومشموم وملبوس ومركوب ومنكوح، والكل حقير ومانتج عن الحقير فهو حقير! وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، حقاً صدق ربي! إذا علمنا ذلك فعلينا أن نعمل بنصيحة الله لنا حيث يقول:
سَابِقُوٓا۟ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴿21﴾
إذا ً فقد علمتم حقارة الدنيا، ولا تخرج عن هذه الأشياء الستة التي خرجت من أحقر شيء في الدنيا، إذاً فسابقوا: أي سارعوا مسارعة المتسابقين الذي يريد أن يسبق غيره، لأن السَّبْق هو أن تسبق غيرك، فهو يدعوك للمسارعة مسارعة المتسابق في المضمار. وإن كانت قد جاءت في سورة آل عمران (سارعوا)، هنا قال: (سابقوا) ليبين لك نوع المسارعة، أنها مسارعة تبتغي بها السَّبْق. ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(١٠)أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(١١)﴾ [سورة الواقعة آية: ١٠- ١١] ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ أي إلى موجبات المغفرة، والحذف مُقَدَّر. ماهي موجبات المغفرة؟ التوبة، الاستغفار. وقد قال إبليس لرب العزة: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال عز مِن قائل: "وعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني" ومن يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. إذا فسارعوا إلى المغفرة بالاستغفار، سارعوا إلى المغفرة بالتوبة، سارعوا إلى موجبات المغفرة بالعمل الصالح واجتناب الكبائر؛ فاجتناب الكبائر يكفي لتكفير الصغائر، لأن الله يقول في آية هي من أرجى الآيات: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١] نعم! سابقوا إلى مغفرة من ربكم. (وجنة): جنة لكل متسابق، جنة ليست للكل بل هي لكل متسابق جنة، إي وربي إنها جنات! ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ ذاك العرض فما ظنك بالطول؟ والعرض أقل من الطول. عرضها كعرض السماء والأرض أي لو جُمِعَت السماوات السبع وبُسِطَت وجُمِعَت الأراضين السبع وبُسِطَت ووُصِلَت الواحدة بالأخرى لكانت الجنة الواحدة أكثر عرضاً منها. ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ (أُعِدَّت): إذاً فهي موجودة، إي وربي موجودة الآن! مخلوقة تنتظر أحبابها وأصحابها.
والآية دليل على أن الجنة مخلوقة وموجودة. (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) فقط! منتهى الرجاء، منتهى الفضل، وكأن الشرط الوحيد للحصول على هذه الجنة هو الإيمان والإيمان فقط! وإن كان في آل عمران قد زِيدَ في الشروط في قوله عز مِن قائل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(١٣٣)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(١٣٤)﴾ [سورة آل عمران آية: ١٣٣- ١٣٤] لكن هنا لم يشرط ربنا سوى الإيمان. ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ إذاً فدخول الجنة بالفضل، نعم هناك شرط، وهو شرط الإيمان، لكن الله لا يجب عليه شيء، فإن كان شرط الدخول هو الإيمان إلا أن الله لا يجب عليه شيء، فتدخلون الجنة بفضله. ومهما عَظُمَ الفضل ومهما وُصِفَت الجنة وعَرْض الجنة، ومهما تخليت من فضل، ذاك الفضل الذي يؤتيه الله لمن يشاء، ففضل الله يتسع لكل ذلك لأن الله ذو الفضل العظيم. إذاً لا يجب على الله شيء وتدخلون الجنة برحمة الله، وتدخلون الجنة بفضل الله، فضل الله يؤتيه من يشاء، ومهما اتسع عطاؤه فالله ذو الفضل العظيم لا ينضب ماعنده ولا يغيض ولا ينقص، لأن الله ذو الفضل العظيم. أيها الأخ المسلم المسابقة والمسارعة إلى الله لا تكلفك شيئاً إلا أن تلجأ إلى الله وأن تضرع إليه.
يبين الله لنا بعد أن بَيَّنَ حقارة الدنيا وبعد أن بَيَّن الطريق للعقلاء في المسابقة والمسارعة لرضوانه، يوضح أمراً يثلج الصدور ألا وهو أن ما حدث في هذه الدنيا؛ في الأرض، في المال، في النفس، في الصحة، في كل شيء مكتوب من الأزل مُرادٌ لله من قبل أن يَخلِقَ الخَلْق. وأن الإنسان ليس له من سعيه إلا النية، وأما النتاتج فهي مقرَّرة ومقدَّرة أزلاً. فأنت تسعى على رزقك لكن الرزق المكتوب لك لا يزيد بسعيك ولا ينقص بتكاسلك. ومهما فعلت فلن تقي نفسك شراً، ولن تستطيع أن تجلب لنفسك خيراً. لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لايجد أحدكم حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه". يقول الله (تبارك وتعالى):
والآية دليل على أن الجنة مخلوقة وموجودة. (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) فقط! منتهى الرجاء، منتهى الفضل، وكأن الشرط الوحيد للحصول على هذه الجنة هو الإيمان والإيمان فقط! وإن كان في آل عمران قد زِيدَ في الشروط في قوله عز مِن قائل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(١٣٣)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(١٣٤)﴾ [سورة آل عمران آية: ١٣٣- ١٣٤] لكن هنا لم يشرط ربنا سوى الإيمان. ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ إذاً فدخول الجنة بالفضل، نعم هناك شرط، وهو شرط الإيمان، لكن الله لا يجب عليه شيء، فإن كان شرط الدخول هو الإيمان إلا أن الله لا يجب عليه شيء، فتدخلون الجنة بفضله. ومهما عَظُمَ الفضل ومهما وُصِفَت الجنة وعَرْض الجنة، ومهما تخليت من فضل، ذاك الفضل الذي يؤتيه الله لمن يشاء، ففضل الله يتسع لكل ذلك لأن الله ذو الفضل العظيم. إذاً لا يجب على الله شيء وتدخلون الجنة برحمة الله، وتدخلون الجنة بفضل الله، فضل الله يؤتيه من يشاء، ومهما اتسع عطاؤه فالله ذو الفضل العظيم لا ينضب ماعنده ولا يغيض ولا ينقص، لأن الله ذو الفضل العظيم. أيها الأخ المسلم المسابقة والمسارعة إلى الله لا تكلفك شيئاً إلا أن تلجأ إلى الله وأن تضرع إليه.
يبين الله لنا بعد أن بَيَّنَ حقارة الدنيا وبعد أن بَيَّن الطريق للعقلاء في المسابقة والمسارعة لرضوانه، يوضح أمراً يثلج الصدور ألا وهو أن ما حدث في هذه الدنيا؛ في الأرض، في المال، في النفس، في الصحة، في كل شيء مكتوب من الأزل مُرادٌ لله من قبل أن يَخلِقَ الخَلْق. وأن الإنسان ليس له من سعيه إلا النية، وأما النتاتج فهي مقرَّرة ومقدَّرة أزلاً. فأنت تسعى على رزقك لكن الرزق المكتوب لك لا يزيد بسعيك ولا ينقص بتكاسلك. ومهما فعلت فلن تقي نفسك شراً، ولن تستطيع أن تجلب لنفسك خيراً. لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لايجد أحدكم حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه". يقول الله (تبارك وتعالى):
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَـٰبٍۢ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌۭ ﴿22﴾
لِّكَيْلَا تَأْسَوْا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا۟ بِمَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍۢ فَخُورٍ ﴿23﴾
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ ۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ ﴿24﴾
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ أياً كان نوع المصيبة (فِي الْأَرْضِ) فيضان مدمر، زلازل، هدم، جدب، قحط، مهما كانت المصيبة صغرت أم عظمت. ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ مرض، فقر، آفة، عاهة، موت، أياً كان نوع المصيبة. ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ مكتوبة في اللوح المحفوظ. أو هو مجاز عن وجودها في علم الله فهي موجودة في علم الله أزلاً، وجود الشيء في كتاب، أحصى كل شيء عدداً ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ نُخرِجها من العدم إلى الوجود. ﴿نَبْرَأَهَا﴾ الضمير عائد على المصيبة، الضمير عائد على الأرض؛ من قبل أن نخلق الأرض، الضمير عائد على الأنفس، ولا في أنفسكم، من قبل أن نبرأ هذه الأنفس. إذاً فمن قبل أن يبرأ الله (تبارك وتعالى) الأرض والخلق والناس والمصائب وما حدث والحركة والسكون، إلا وسُطِّر كل ذلك في كتاب ولا يضل ربي ولا ينسى. فإن علمت ذلك وتيقنت بذلك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت لأنه مكتوب، وطالما كان مكتوباً فهو مقدراً أزلاً ومقرَّراً من الله، لذا يقول عز مِن قائل: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ أَسِيَ يَأْسَى أسىً فهو أسيّ: حزن حزناً شديداً. ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ وقُرِأَت (أتاكم) بغير مَدّ لكي تقابل (فات)؛ فات وأتى. وإذا كانت القراءة بهذا (أتاكم) تُشعر بأن هناك مقابلة بين الفائت وبين الآتي فذاك فات وذهب وذاك أتى ولا دخل لك فيه. وإن قُرِئت: (ولا تفرحوا بما آتاكم) أي أعطاكم، أشعرت بمعنى آخر دقيق، غاية في الدقة، يتضح من هذا أن الأمور في الدنيا تفوت بطبعها إن خُلِّيَت وهذا الطبع (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) وكأن الفوات من طبع الأشياء، من طبع متاع الدنيا، من طبع زينة الدنيا، من طبعها الفوات لو خُلِّيَت وتُرِكَت لطبيعتها فهي زائلة وهي باطلة فهي فائتة لا محالة.
وأما الآتي فلابد له من سبب يأتي به ويبقيه، ذاك هو الله! (ولا تفرحوا بما آتاكم) أي بما أعطاكم الله، فتعلم أن العاطي هو الله والمانح هو الله والمانع هو الله. (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) هل يمكن للإنسان ألَّا يحزن إذا فقد ماله؟ (ولا تفرحوا بم آتاكم) هل يمكن للإنسان ألا يفرح إذا نجح أبناؤه؟ هل للإنسان أن يفعل ذلك؟ أبداً لا يمكن بل ويستحيل! إذا فلماذا الأمر؟ نعمَ الأمر لابد فيه من توضيح؛ (لكي لا تأسوا) أي لكي لا تحزنوا حُزن قنوط، فلا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. ولا تفرحوا فَرَح البَطَر والأَشَر، لا تفرح ناسباً لنفسك الفضل أو لجهدك وعقلك، وإنما تفرح بفضل الله. والمؤمن يأسى ويفرح، لكنه في حاله الأسى يصبر وفي حالة الفرح يشكر، فيصبح الأسى سبباً للصبر ويصبح الفرح سبباً للشكر، نعمة حال المؤمن فعلاً! والمؤمن كل أحواله خير؛ إن أصابته ضراء صَبَر وإن أصابته سراء شَكَر. فلا تأسوا على ما فاتكم أسى من يحزن قانطاً من رحمة الله يائساً من فضله، ولا تفرحوا فرح البطر والأشر بما آتاكم. لذا أعقبها شارحاً بقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ذاك هو الأسى الممنوع والفرح الممنوع. (والله لا يحب كل مختال فخور) المختال: المتكبر بما أوتي من الدنيا. الفخور: الذي يفخر على الناس. المختال: يَتَخَيَّل. أصل الكلمة ومادة الكلمة (المختال): في خيال وتخيُّل، يتخيل لنفسه فضيلة، ويتخيل لنفسه مِزْية، ويتخيل لنفسه ماليس لغيره، فيدعوه ذلك إلى الكِبر بما ليس فيه وبمالا يستحق. والفخور ذاك الذي يفخر على الناس بشيء هو لا يملكه. المختال ينظر لنفسه بعين الافتخار، والفخور ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، والله لا يحب كل مختال فخور.
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وكأنه نعت في موضع خَفْض، وكأنه نعت للمختال والفخور لأن المختال والفخور يُمسِك ويبخل ويعتبر أن ما عنده بكسبه وبجهده وبعرقه فيبخل على الناس. أو هي في موضع رفع، وانتهى الكلام؛ (والله لا يحب كل مختال فخور) الذين افتخروا بما عندهم واحتقروا الناس وتطاولوا عليهم. ثم بعد ذلك يقول الله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره (الله غني عنهم). (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبُخْل) (بالبُخُل) (بالبَخْل) (بالبَخَل) أربع قراءات وهي لغات بمعنى واحد. هؤلاء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يبخلون بما في أيديهم؛ يبخلون بالصدقة، يبخلون بالعلم، يبخلون بالنصيحة، يبخلون بالتعليم، يبخلون بكل شيء، فكل من أمسك فهو بخيل. ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿ومن يتولّ فإن اللهَ الغنيُّ الحميد﴾ قراءة بغير كلمة (هو). نعم! البخيل، من هو البخيل؟ والسخي، من هو السخي؟ تعريف غاية في البساطة: كل من تلذذ بالإمساك فهو بخيل، وكل من التَذَّ بالإعطاء فهو السخي. البخيل يجد سعادته في الإمساك، وأما السخي فيجد السعادة في البذل وفي العطاء. (من يتولَّ) يتولى ويُعرِض عن الله (تبارك وتعالى). ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ لأن النفقة لا تنفع الله (تبارك وتعالى) فأنت تنفق من نِعَمِه، تنفق مما أعطاك، أنتَ تُنفِق فيما استخلفك فيه، أنتَ تُقرِضُه لكن هو صاحب الفضل والمِنَّة والنعمة فهو الغني. إذاً فالإنفاق يعود على المُنفِق ولا يصل نفعه إلى الله. (الحميد) أي المحمود أزلاً، شكره الشاكرون أم لم يشكروه، فالذي يُنفِق شاكرٌ شَكَرَ بالفعل، شَكَرَ بالعطاء، فإن أنفَقَ فهو يُنفِق لمصلحة نفسه، يعود النفع عليه.
أيها الأخ المسلم يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "الكريم قريب من الناس قريب من الله قريب من الجنة بعيد عن النار، والبخيل بعيد عن الناس بعيد عن الله بعيد عن الجنة قريب من النار" وما من يومٍ ينشَقّ فجرُه إلا ومَلَكان يناديان: اللهم أعطِ كل مُنفِقٍ خَلَفاً وأعطِ كل مُمسكٍ تَلَفاً، هكذا أخبرنا الصادق المصدوق.
إن كل صانع أدرى بصنعته، يعلم لِمَ صنعها ولأي شيء صنعها، يعلم وسائل صيانتها ويعلم أسباب تلفها، ولو نَظَرْنا إلى نَظَرِنا، إلى صنعة الصانع المختار سبحانه وتعالى فيما تراه أعيننا ويقع تحت حواسنا وأخبرنا به نبينا (صلى الله عليه وسلم) لوجدنا أن الله خلق خلقاً وصنع صنائع، منها ما هو مُسَخَّر لما خُلِقَ له كالشمس والقمر والجبال والرياح، كل ذلك خَلَقَه الله وابتدعه وسَخَّرَه لما أراده منه، فلا ترى فيه تغيير ولا تبديل ولا تقديم ولا تأخير، صُنعَ الله الذي أتقن كل شيء. وترى من خَلْقِ الله خَلْقاً جُبِلوا على الطاعة وخُلِقوا لها كالملائكة، فهم عباد مُكرَمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. وخَلَقَ خَلْقاً آخر مُكَلَّف مُختار كالإنس والجن، ليس مُسَخَّراً كالكواكب والرياح، وليس مجبولاً على الطاعة كالملائكة، وإنما خلقه الله مُكَلَّفاً مختاراً، ذلك هو الإنسان والجان.
كذلك وما من كائن حي إلا وقضى الله أن يكون ضمن أمة لها نظامها ولها حركتها ولها تدبيرها وتصريفها مصداقاً لقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنعام آية: ٣٨] كل كائن حي ينتظم في أمة تنتج بالتزواج والاتصال، من هذه الأمم ما منحها الله إلهاماً فطرياً ووجداناً طبيعياً، فتصرفت بما رُكِّبَ فيها من غرائز كالنحل: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(٦٨)ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا(٦٩)﴾ [سورة النحل آية: ٦٨- ٦٩] من هذه الأمم أمة كَرَّمَها الله؛ ألا وهي أمة الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٠] هذا الكائن الحي المكلَّف المختار، هذا الإنسان لم يخلقه الله عبثاً ولم يتركه هَمْلاً، بل خلقه لغاية ولحكمة وضحت في قوله (عز وجل): ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(٥٦)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(٥٧)﴾ [سورة الذاريات آية: ٥٦- ٥٧] ولم يتركه هملاً بل قَدَّرَ له الأقوات: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٢] ولم يكلِّفنا الرزق بل قَدَّره وخَلَقَه لنا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة هود آية: ٦] وهذا الإنسان الكائن الحي المكلَّف المختار من رحمة الله (تبارك وتعالى) به أن بَيَّن له طريق الرشاد وطريق الهدى وبَيَّن له
طريق الغي والضلال: (وهديناه النجدين). وإن كان الله يبين لنا الحوادث بإرادته وبقدرته وبعلمه وبتصريفه ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ إن كان الله قد بَيَّنَ لنا ذلك فهذا الكلام لا ينفي اختيار العبد، وإنما الإنسان في ملكوت متصل بغيره من الكائنات، فأنت تمشي على أرض مأمورة، وتستدفئ بشمس مأمورة، وتستمطر برياح مأمورة، فأنت في نظام وفي ملكوت ما تسقط فيه من ورقة وماتنبت فيه من حبة إلا وبتقدير وبتصريف وتدبير من الله. كل ذلك لا ينفي اختيار الإنسان، ورحمة الله بهذا الإنسان، أو من ضمن رحمته، أنه لم يوجِب عليه معرفه الله بالعقل، وإنما أوجب ذلك بالشرع والنقل، فلا تجب معرفة الله بالفكر والعقل وإنما تجب بالشرع والنقل، لذا يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٥] ويقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [سورة القصص آية: ٥٩] لذا يقول الله:
وأما الآتي فلابد له من سبب يأتي به ويبقيه، ذاك هو الله! (ولا تفرحوا بما آتاكم) أي بما أعطاكم الله، فتعلم أن العاطي هو الله والمانح هو الله والمانع هو الله. (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) هل يمكن للإنسان ألَّا يحزن إذا فقد ماله؟ (ولا تفرحوا بم آتاكم) هل يمكن للإنسان ألا يفرح إذا نجح أبناؤه؟ هل للإنسان أن يفعل ذلك؟ أبداً لا يمكن بل ويستحيل! إذا فلماذا الأمر؟ نعمَ الأمر لابد فيه من توضيح؛ (لكي لا تأسوا) أي لكي لا تحزنوا حُزن قنوط، فلا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. ولا تفرحوا فَرَح البَطَر والأَشَر، لا تفرح ناسباً لنفسك الفضل أو لجهدك وعقلك، وإنما تفرح بفضل الله. والمؤمن يأسى ويفرح، لكنه في حاله الأسى يصبر وفي حالة الفرح يشكر، فيصبح الأسى سبباً للصبر ويصبح الفرح سبباً للشكر، نعمة حال المؤمن فعلاً! والمؤمن كل أحواله خير؛ إن أصابته ضراء صَبَر وإن أصابته سراء شَكَر. فلا تأسوا على ما فاتكم أسى من يحزن قانطاً من رحمة الله يائساً من فضله، ولا تفرحوا فرح البطر والأشر بما آتاكم. لذا أعقبها شارحاً بقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ذاك هو الأسى الممنوع والفرح الممنوع. (والله لا يحب كل مختال فخور) المختال: المتكبر بما أوتي من الدنيا. الفخور: الذي يفخر على الناس. المختال: يَتَخَيَّل. أصل الكلمة ومادة الكلمة (المختال): في خيال وتخيُّل، يتخيل لنفسه فضيلة، ويتخيل لنفسه مِزْية، ويتخيل لنفسه ماليس لغيره، فيدعوه ذلك إلى الكِبر بما ليس فيه وبمالا يستحق. والفخور ذاك الذي يفخر على الناس بشيء هو لا يملكه. المختال ينظر لنفسه بعين الافتخار، والفخور ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، والله لا يحب كل مختال فخور.
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وكأنه نعت في موضع خَفْض، وكأنه نعت للمختال والفخور لأن المختال والفخور يُمسِك ويبخل ويعتبر أن ما عنده بكسبه وبجهده وبعرقه فيبخل على الناس. أو هي في موضع رفع، وانتهى الكلام؛ (والله لا يحب كل مختال فخور) الذين افتخروا بما عندهم واحتقروا الناس وتطاولوا عليهم. ثم بعد ذلك يقول الله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره (الله غني عنهم). (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبُخْل) (بالبُخُل) (بالبَخْل) (بالبَخَل) أربع قراءات وهي لغات بمعنى واحد. هؤلاء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يبخلون بما في أيديهم؛ يبخلون بالصدقة، يبخلون بالعلم، يبخلون بالنصيحة، يبخلون بالتعليم، يبخلون بكل شيء، فكل من أمسك فهو بخيل. ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ﴿ومن يتولّ فإن اللهَ الغنيُّ الحميد﴾ قراءة بغير كلمة (هو). نعم! البخيل، من هو البخيل؟ والسخي، من هو السخي؟ تعريف غاية في البساطة: كل من تلذذ بالإمساك فهو بخيل، وكل من التَذَّ بالإعطاء فهو السخي. البخيل يجد سعادته في الإمساك، وأما السخي فيجد السعادة في البذل وفي العطاء. (من يتولَّ) يتولى ويُعرِض عن الله (تبارك وتعالى). ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ لأن النفقة لا تنفع الله (تبارك وتعالى) فأنت تنفق من نِعَمِه، تنفق مما أعطاك، أنتَ تُنفِق فيما استخلفك فيه، أنتَ تُقرِضُه لكن هو صاحب الفضل والمِنَّة والنعمة فهو الغني. إذاً فالإنفاق يعود على المُنفِق ولا يصل نفعه إلى الله. (الحميد) أي المحمود أزلاً، شكره الشاكرون أم لم يشكروه، فالذي يُنفِق شاكرٌ شَكَرَ بالفعل، شَكَرَ بالعطاء، فإن أنفَقَ فهو يُنفِق لمصلحة نفسه، يعود النفع عليه.
أيها الأخ المسلم يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "الكريم قريب من الناس قريب من الله قريب من الجنة بعيد عن النار، والبخيل بعيد عن الناس بعيد عن الله بعيد عن الجنة قريب من النار" وما من يومٍ ينشَقّ فجرُه إلا ومَلَكان يناديان: اللهم أعطِ كل مُنفِقٍ خَلَفاً وأعطِ كل مُمسكٍ تَلَفاً، هكذا أخبرنا الصادق المصدوق.
إن كل صانع أدرى بصنعته، يعلم لِمَ صنعها ولأي شيء صنعها، يعلم وسائل صيانتها ويعلم أسباب تلفها، ولو نَظَرْنا إلى نَظَرِنا، إلى صنعة الصانع المختار سبحانه وتعالى فيما تراه أعيننا ويقع تحت حواسنا وأخبرنا به نبينا (صلى الله عليه وسلم) لوجدنا أن الله خلق خلقاً وصنع صنائع، منها ما هو مُسَخَّر لما خُلِقَ له كالشمس والقمر والجبال والرياح، كل ذلك خَلَقَه الله وابتدعه وسَخَّرَه لما أراده منه، فلا ترى فيه تغيير ولا تبديل ولا تقديم ولا تأخير، صُنعَ الله الذي أتقن كل شيء. وترى من خَلْقِ الله خَلْقاً جُبِلوا على الطاعة وخُلِقوا لها كالملائكة، فهم عباد مُكرَمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. وخَلَقَ خَلْقاً آخر مُكَلَّف مُختار كالإنس والجن، ليس مُسَخَّراً كالكواكب والرياح، وليس مجبولاً على الطاعة كالملائكة، وإنما خلقه الله مُكَلَّفاً مختاراً، ذلك هو الإنسان والجان.
كذلك وما من كائن حي إلا وقضى الله أن يكون ضمن أمة لها نظامها ولها حركتها ولها تدبيرها وتصريفها مصداقاً لقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنعام آية: ٣٨] كل كائن حي ينتظم في أمة تنتج بالتزواج والاتصال، من هذه الأمم ما منحها الله إلهاماً فطرياً ووجداناً طبيعياً، فتصرفت بما رُكِّبَ فيها من غرائز كالنحل: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(٦٨)ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا(٦٩)﴾ [سورة النحل آية: ٦٨- ٦٩] من هذه الأمم أمة كَرَّمَها الله؛ ألا وهي أمة الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٧٠] هذا الكائن الحي المكلَّف المختار، هذا الإنسان لم يخلقه الله عبثاً ولم يتركه هَمْلاً، بل خلقه لغاية ولحكمة وضحت في قوله (عز وجل): ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(٥٦)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(٥٧)﴾ [سورة الذاريات آية: ٥٦- ٥٧] ولم يتركه هملاً بل قَدَّرَ له الأقوات: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٢] ولم يكلِّفنا الرزق بل قَدَّره وخَلَقَه لنا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة هود آية: ٦] وهذا الإنسان الكائن الحي المكلَّف المختار من رحمة الله (تبارك وتعالى) به أن بَيَّن له طريق الرشاد وطريق الهدى وبَيَّن له
طريق الغي والضلال: (وهديناه النجدين). وإن كان الله يبين لنا الحوادث بإرادته وبقدرته وبعلمه وبتصريفه ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ إن كان الله قد بَيَّنَ لنا ذلك فهذا الكلام لا ينفي اختيار العبد، وإنما الإنسان في ملكوت متصل بغيره من الكائنات، فأنت تمشي على أرض مأمورة، وتستدفئ بشمس مأمورة، وتستمطر برياح مأمورة، فأنت في نظام وفي ملكوت ما تسقط فيه من ورقة وماتنبت فيه من حبة إلا وبتقدير وبتصريف وتدبير من الله. كل ذلك لا ينفي اختيار الإنسان، ورحمة الله بهذا الإنسان، أو من ضمن رحمته، أنه لم يوجِب عليه معرفه الله بالعقل، وإنما أوجب ذلك بالشرع والنقل، فلا تجب معرفة الله بالفكر والعقل وإنما تجب بالشرع والنقل، لذا يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٥] ويقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [سورة القصص آية: ٥٩] لذا يقول الله:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌۭ شَدِيدٌۭ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلْغَيْبِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌۭ ﴿25﴾
هذه الآية تبين أن الله لا يعذب الناس حتى يبعث لهم رسولاً يبين لهم ما يتقون، وتبين أن معرفة الله لا تجب بالفكر والعقل وإنما تجب بالشرع والنقل، وتبين أن الله لم يَدَع الناس هملاً ولم يخلقهم عبثاً، أرسل الرسل بالبينات، وما من رسول إلا وجاء مؤيَّداً بالمعجزات، تلك هي البينات؛ مؤيَّد بالمعجزات الدالة على صدقه وعلى أن الله أرسله، إذ يفعل الرسول مالا يفعله البشر ولو اجتمعوا على ذلك، كما فعل موسى في العصا واليد، وكما فعل عيسى في الموتى وفي الإبراء للأكمه والأبرص، وكما جاء محمد بالقرآن، قمة المعجزات: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٨٨] فما من رسول إلا وجاء بالبينات الدالة على صدقه. ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ الكتاب: الكُتُب، جنس الكتاب، الكتب السماوية، أحكم الله فيها الآيات وبَيَّن فيها الأحكام وأوضح الحلال والحرام. ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ الميزان: العدل، الميزان: الحق، الميزان: القسط. أي أَمَرَ بالعدل، أي وضع العدل في الأرض وبَيَّن العدل من الظلم. أو الميزان: هي آلة الوزن المعلومة، نزلت مع نوح في بعض الأقوال، أنزلها الله. والرأي الأرجح أن الله قد أَمَرَنا بالعدل وأَمَرَنا بالميزان وألهمنا صنع الآلة وكيفية استعمالها. أنزل الكتاب والميزان ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ إذاً فهناك تعامل مع الله تبينه الكتب، تبين الأحكام وتبين الحلال والحرام. والتعامل مع الناس أساسه الميزان بيعاً وشراءً، تعاملاً وزواجاً وطلاقاً وعتاقاً، جميع أنواع التعامل بين الناس يجب أن تقوم بالميزان، بالعدل، لاظلم ولا تظالم، لاضرر ولا ضرار.
أنزل الميزان ليقوم الناس بالقسط: ليقوم الناس بالعدل في التعامل بينهم وبين بعض. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ أي خلقنا لكم الحديد وألهمنا لكم استخراجه وعلمناكم كيفية استعماله، كما قال (عز وجل): ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أي خَلَقَ لكم. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ قوة وشدة، يُستخدَم في القتل وفي القتال وفي الدفاع، فيه قوة وفيه إرهاب وفيه شدة، فيه بأس شديد. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ولك أن تتخيل، ما مِن صنعة تعلمها الإنسان إلا وتحتاج للحديد؛ فآلات الزراعة لابد فيها من الحديد كالفأس والمنجل والساقية وغير ذلك، وآلات الصناعة لابد أن يدخل فيها الحديد أو تصنَّع من الحديد، آلات الحياكة؛ فيها المخيط، فيها الإبرة. حتى الطعام كي يُسَّوى يحتاج للماعون، والماعون يحتاج للكير، وهكذا ... ما من صنعة في الدنيا إلا والحديد داخلٌ فيها أو أساس لها أو لابد منه لإتمام صنعتها، نعم! ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ والآيه تُشعِر أن القيام بالعدل والقيام بالقسط وأن إقامة شرع الله والعمل بما نزل في كتب الله محتاج للقائمين بذلك، هم القائمون بالقسط بين الناس في كل زمان ومكان، ولا يكفي في إقامة القسط أن يبَيَّن ذلك بالكتب أو أن يُنْزَلَ للناس الميزان، بل لابد من قوة تحمي العدل، لابد من قوة تدافع عن العدل، لابد من قوة تردع المنحرفين والعاصين لله، هذه القوة تنشأ من الحديد. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ ليشعرنا ربنا أن إقامة العدل بين الناس، وإحقاق الحق وإبطال الباطل لابد له من قوة تحميه وتدافع عنه وترد عنه المعتدين، من أجل ذلك يقول الله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ وربنا يعلم من الأزل وعلم الله أزلي.
(ليعلم) أي وليُظهِر للكافة وللناس وللشهود حتى لا تكون للناس على لله حجة يوم القيامة، يُظهِر هؤلاء، يتخذ منكم شهداء، ينصر الحق بكم وينصركم بالحق. (ليعلم الله من ينصره) أي ينصر دينه، أي ينصر أوامره، أي يقيم أحكامه في الأرض. ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ لأن الرسل آمرون بأمر الله، مطاعون بطاعة الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ ولكي لا يتبادر إلى ذهنك أن الله محتاج لأحد من خلقه أو أن الله محتاج لمن يُحِقّ الحق ويُبطِل الباطل، يختتم الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ قوي: غالب، قوي: قادر، قوي: على فعل ما يريد، فلا يقع في ملكه إلا مايريد. عزيز: غالب ممتنِع لايصل إليه كيد، أحكامه نافذة في خلقه وفي ملكوته، هو القوي العزيز؛ فإن أمركم بالجهاد وأمركم بالقتال وأمركم بالقيام بالقسط وأمركم بإحقاق الحق والتعامل بالميزان والعمل بما جاء في الكتب السماوية ونصرة دين الله ونصرة رسله، أمركم بذلك ليُثَاب من أطاع وليُعاقَب من عصى، أما هو فهو قوي عزيز. ويأتي التفصيل بعد الإجمال فيقول عز مِن قائل:
أنزل الميزان ليقوم الناس بالقسط: ليقوم الناس بالعدل في التعامل بينهم وبين بعض. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ أي خلقنا لكم الحديد وألهمنا لكم استخراجه وعلمناكم كيفية استعماله، كما قال (عز وجل): ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أي خَلَقَ لكم. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ قوة وشدة، يُستخدَم في القتل وفي القتال وفي الدفاع، فيه قوة وفيه إرهاب وفيه شدة، فيه بأس شديد. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ولك أن تتخيل، ما مِن صنعة تعلمها الإنسان إلا وتحتاج للحديد؛ فآلات الزراعة لابد فيها من الحديد كالفأس والمنجل والساقية وغير ذلك، وآلات الصناعة لابد أن يدخل فيها الحديد أو تصنَّع من الحديد، آلات الحياكة؛ فيها المخيط، فيها الإبرة. حتى الطعام كي يُسَّوى يحتاج للماعون، والماعون يحتاج للكير، وهكذا ... ما من صنعة في الدنيا إلا والحديد داخلٌ فيها أو أساس لها أو لابد منه لإتمام صنعتها، نعم! ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ والآيه تُشعِر أن القيام بالعدل والقيام بالقسط وأن إقامة شرع الله والعمل بما نزل في كتب الله محتاج للقائمين بذلك، هم القائمون بالقسط بين الناس في كل زمان ومكان، ولا يكفي في إقامة القسط أن يبَيَّن ذلك بالكتب أو أن يُنْزَلَ للناس الميزان، بل لابد من قوة تحمي العدل، لابد من قوة تدافع عن العدل، لابد من قوة تردع المنحرفين والعاصين لله، هذه القوة تنشأ من الحديد. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ ليشعرنا ربنا أن إقامة العدل بين الناس، وإحقاق الحق وإبطال الباطل لابد له من قوة تحميه وتدافع عنه وترد عنه المعتدين، من أجل ذلك يقول الله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ وربنا يعلم من الأزل وعلم الله أزلي.
(ليعلم) أي وليُظهِر للكافة وللناس وللشهود حتى لا تكون للناس على لله حجة يوم القيامة، يُظهِر هؤلاء، يتخذ منكم شهداء، ينصر الحق بكم وينصركم بالحق. (ليعلم الله من ينصره) أي ينصر دينه، أي ينصر أوامره، أي يقيم أحكامه في الأرض. ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ لأن الرسل آمرون بأمر الله، مطاعون بطاعة الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ ولكي لا يتبادر إلى ذهنك أن الله محتاج لأحد من خلقه أو أن الله محتاج لمن يُحِقّ الحق ويُبطِل الباطل، يختتم الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ قوي: غالب، قوي: قادر، قوي: على فعل ما يريد، فلا يقع في ملكه إلا مايريد. عزيز: غالب ممتنِع لايصل إليه كيد، أحكامه نافذة في خلقه وفي ملكوته، هو القوي العزيز؛ فإن أمركم بالجهاد وأمركم بالقتال وأمركم بالقيام بالقسط وأمركم بإحقاق الحق والتعامل بالميزان والعمل بما جاء في الكتب السماوية ونصرة دين الله ونصرة رسله، أمركم بذلك ليُثَاب من أطاع وليُعاقَب من عصى، أما هو فهو قوي عزيز. ويأتي التفصيل بعد الإجمال فيقول عز مِن قائل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًۭا وَإِبْرَٰهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ ۖ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍۢ ۖ وَكَثِيرٌۭ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ ﴿26﴾
تفصيل، أمثلة للرسل التي أرسلها الله على مدار الأزمان. نوح أول رسول أُرسِلَ إلى الأرض، وهو الأب الثاني للبشر. وإبراهيم أبو الأنبياء والمرسلين كان أُمَّةً قانتاً لله. ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ جعل ربنا في ذرية نوح وفي ذرية إبراهيم النبوة، فما من نبي أُرسِل إلا وهو من صلب إبراهيم ومن صلب نوح، جعل في ذريتهما النبوة فبُعِثَت الأنبياء من ذريتهم. (والكتاب): جنس الكتاب؛ الكتب السماوية؛ الزبور، التوراة، الإنجيل، الفرقان –القرآن- جميع الكتب كانت في ذرية نوح وفي ذرية إبراهيم. أو ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ﴾ الأنبياء من ذريتهم. (وَالْكِتَابَ) الأمم الذين آمنوا وحافظوا على الكتاب، قرأوه وعَلِموه، اتبعوه وعملوا بما فيه، أمة يتلون الكتاب ويعلمونه ويقضون بأحكامه. ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ﴾ (منهم) ليس من الذرية لأن الأنبياء كلهم مهتدون، (فمنهم) أي من أُرسِل إليهم، والدال على ذلك قول الله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ طالما قال (ولقد أرسلنا) إذاً فهناك مُرسَل وهناك مُرسَل إليه، فلم يأت ذكر من أُرسِل إليهم الرسل وإنما قال (فمنهم) أي ممن أُرسِلَ إليهم، منهم مهتد؛ أولئك الذي أطاعوا الرسل وآمنوا بهم ونصروهم وعزروهم واتبعوا النور الذي جاء معهم. منهم مهتد وكثير منهم فاسقون: أولئك الذين انحرفوا عن طريق الجادة، عصوا الله ورسله. ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ تدل على أن القلة هم المؤمنون والكثرة هم الكافرون في كل زمان، وصدق ربي حيث يقول: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة الأنعام آية: ١١٦] نعم! ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [سورة ص آية: ٢٤]
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰٓ ءَاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةًۭ وَرَحْمَةًۭ وَرَهْبَانِيَّةً ٱبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ رِضْوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَـَٔاتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌۭ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ ﴿27﴾
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا﴾ قفَّينا: أتبعنا، وجاءت من القفا، والقفا: مؤخر الرأس، ومن يتبع أحداً يتبع قفاه. أرسل ربنا رسله تترا، رسولاً وراء رسول ونبياً بعد نبي. ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾ على آثار الذرية، على آثار الأمم، على آثار نوح وابراهيم. ﴿بِرُسُلِنَا﴾ رسولاً وراء رسول. ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ وهو من ذرية إبراهيم أيضاً من جهة أمه فما كان له أب. ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ والإنجيل هو الكتاب الذي جاء به عيسى وحرّفته النصارى وضيعوه فما بقي منه شيء. ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ ﴿رآفة ورحمة﴾ قراءة. والرأفة: الإشفاق، رَأَفَ يرْأُفُ به: أشفق عليه أن يحل به مكروه، الرأفة: شدة الرحمة، إشعار من الله لنا بأن الله أمرهم بالصفح وأمرهم بالتسامح، وأمرهم بكف الأذى وأمرهم بدفع السيئة بالإحسان، إذ قست قلوب اليهود فحرفوا الكلم عن مواضعه وباعوا الآيات واشتروا بها ثمناً قليلاً، فجاءت النصارى وجاء الحواريون، ألهمهم الله (تبارك وتعالى) الإيمان بعيسى، وجعل الحواريين في صفاء نفوسهم كشدة بياض الثياب، جعل بينهم التوادد والتآلف والتراحم، وجعل في قلوبهم رأفة بالناس، لايردون الأذى بالأذى، وإنما يردون الأذى بالإحسان، يتعاملون بالصفح والعفو والغفران. ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أي الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام) جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة. ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ هم الذين ابتدعوها. (ورهبانية) معطوفة لكنها مفعول لفعلٍ محذوف يبينه ما جاء بعد (ابتدعوها) أي هم ابتدعوا رهبانية، اختلقوها من أنفسهم، لم يأمرهم ربنا بها، ما كتبها الله عليهم وما فرضها وما أوجبها، إذاً هم الذين ابتدعوها واخترعها الأوائل منهم ابتغاء رضوان الله.
(ورهبانية ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم) ذاك هو تقدير الكلام، هناك تقديم وتأخير. ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ جملة اعتراضية، لكن الله ينبئنا أن من ابتدع الرهبانية من أتباع عيسى قد ابتدعها دون أن يُكَلَّف بها وما فرضها الله عليهم، ولكنهم حين ابتدعوها ابتدعوها لوجه الله، ابتغاءً لوجه الله، ابتغاء مرضاة الله، ذاك حق وشهد لهم القرآن بذلك. رهبانية: مأخوذة من الرَهَبْ: الخشية، والرَّهبان كالخشيان، رَهَبَ الشيء: خَشِيَ الشيء. ﴿ورُهبانية ابتدعوها﴾ بالضم قراءة، ورُهبانية: منسوبة إلى الرُّهبان: جمع راهب، كرُكبان جمع راكب. والرَّهبانية: التقشف؛ أن يلبس الخشن من الثياب وأن يأكل القليل من الطعام، أن يترك الترفه والتنعم. هؤلاء اعتزلوا الناس في الوديان والمغارات والصوامع والبِيَع، اعتزلوا الناس. وسر اعتزالهم للناس أن بعد أن رفع الله عيسى بن مريم وجاء الحواريون يعملون بأمره وينشرون الإنجيل ويعلمون الناس، تطاول الزمن وجاءت ملوك جبابرة فلم يقيموا الإنجيل وبدأوا في القهر والظلم، من هنا حاول المؤمنون بعيسى، المقيمون على دينه، مقاومة ملوكهم فما استطاعوا، فقُتِلَ منهم من قُتِلَ، وخاف من بقي على الدين وعلى الإنجيل الضياع، ففروا بدينهم إلى الصوامع والبِيَع، فَرُّوا بدينهم وتقشفوا وزهدوا من أجل الحفاظ على دينهم، هؤلاء ابتدعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله. ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ ما رعَوها: الأتباع، أما الأوائل فقد رعَوْها، الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله رعوها حق رعايتها، أما الذين جاءوا من بعدهم فتشبهوا بهم وتمثلوا بأعمالهم، فلبسوا خشن الثياب واعتزلوا في الصوامع والبِيَع مظهراً ومنظراً دون مضمون وحقائق، فلم يرعَوْا ما ابتدعه الأوائل. ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ﴾: الأوائل الذين ابتدعوها ورعوها حق رعايتها.
﴿أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾: الأتباع، الخوالف. ﴿فَاسِقُونَ﴾ لذا يقول الله عنهم، هؤلاء المتخلفين من أتباع الرهبان الذين ساروا على نهجهم من حيث الشكل دون المضمون، قال فيهم ربنا (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة التوبة آية: ٣٤] اتخذوا الرهبانية منظراً ومَعبَرَاً للرياسة ولجمع الأموال، ظهروا بمظهر التقشف والزهد وجمعوا الأموال من الناس وكَنَزوها وصدوا عن سبيل الله، وباعوا دينهم للملوك والأباطرة فبدلوا وغيروا في آيات الإنجيل. وفي الآية ثلاثة أدلة، أو ثلاثه أمور: الأمر الأول أن كل مُحدَثَةٍ بدعة، ومن البِدَع ماهو خير ومن البِدَع ماهو شر، فليس كل بدعة مُحدَثة ضلالة، وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم): "شر الأمور مُحدَثاتها وكل مُحدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة" أي كل بدعة يُقصَد بها غير وجه الله، لكن من الابتداع ماهو مطلوب، مثال ذلك هذه الآية، دليل على هذا: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ لم يعاقبهم عليها ولم يؤاخذهم عليها، بل الذين رعوها آتاهم ربنا أجرهم.
ومن الدليل على ذلك ما ابتدعه الصحابة كقيام رمضان، فقد كَتَب ربُّنا علينا صيامه ولم يكتب علينا قيامه، وحين قام النبي (صلى الله عليه وسلم) وقام بقيامه أناس، تخلف عنهم وقال: "خشيت أن يُفرَضَ عليكم" فلم يَسُنَّ القيام بالمساجد جماعة، ولم يأمرنا بقيام رمضان وإن كان قد نصح بذلك، فجاء الأصحاب فابتدعوا قيام رمضان كما فعل الإمام الأواب الناطق بالصواب الموافق حُكْمُه حُكْمَ الكتاب الذي قال للنبي أُحجُب نساءك فنزلت آية الحجاب الذي قال فيه رسول الملك الوهاب: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" هو الذي ابتدع القيام بالمساجد وجمع الناس على صلاة القيام، وجمعهم على قراءة أُبَيِّ تنفيذاً لأمر رسول الله في الأخذ والتعلم والتلقي حيث قال: "أقرأكم أُبَيّ" فأمر أُبَيَّ بن كعب أن يَؤمَّ الناس في القيام برمضان فقاموه. ولذا قال أبو أمامة الباهلي (رضي الله عنه وأرضاه): إن الله لم يكتب عليكم قيام رمضان وإنما كتب عليكم صيامه وقد ابتدعتم القيام فإياكم وإياكم أن تتوقفوا عنه أو تكونوا كمن قال الله فيهم: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ إذاً فمن ابتدع بدعة طيبة، ومن ابتدع بدعة حسنة، فعليه أن يواظب عليها، وإلا كان كهؤلاء. إذاً فقد كان الله يحب منهم أن يرعوا ما ابتدعوه حق الرعاية طالما كانت البدعة لا تخالف شرعاً ولا ينفر منها عقل، ذاك هو الدليل الأول في الآية: أن البدعة منها ما هو حَسَن ومنها ماهو قبيح، وأن من ابتدع بدعة حسنة عليه أن يواظب على الإتيان بها، وذاك يعطيه أجر ويعطيه مضاعفات للأجر، كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من سَنَّ سُنَّة حَسَنَة فله أجرها وأجر من عما بها إلى يوم القيامة" ولا سُنَّة بعد سُنَّة سيد الخلق، إذاً فالمقصود من فَعَل فِعلاً أو ابتدع أمراً.
الأمر الثاني أن اعتزال الناس والبعد عنهم إذا فسد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان مطلوب مرغوب فيه. أي نعم لارهبانية في الإسلام طالما كان الإسلام عزيزاً، ولكن إذا تقارب الزمان ورأيت شُحَّاً مطاعاً وهوىً مُتَّبَعاً وإعجاب كلَّ ذي رأيٍ برأيه، وإذا وُسِّدَ الأمر لغير أهله، وإذا ضُيِّعَت الأمانة، وإذا رأيت الناس كَفُّوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا رأيت كل ذلك فعليك بخاصة نفسك، وعليك أن تعتزل الكل ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك، هكذا نصحنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) بل وأنبأنا بأواخر الزمان: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمات يتتبع بها شعاث الجبال ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفِتَن" فإذا كثرت الفتن وعَمَّ البلاء وكثر الشُّح وامتنع الناس عن التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر ووُسِّدَ الأمر لغير أهله، إذا رأيت ذلك كله فاعتزلتَ الناس كان ذلك مرغوباً فيه وكان محبوباً ولا يخالف سُنَّة رسول الله، من هذه الآية: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ فإذا فسد الزمان وتغيرت الأصدقاء والإخوان، ورأيت ما ينكره قلبك وعقلك ودينك ولم تستطع أن تُغَيِّر أو أن تُبَدِّل، وخشيتَ على نفسك ودينك من الفتن فاعتزل، والعزلة هنا مطلوبة محبوبة مرغوب فيها. الأمر الثالث أن في الآية إشعار بأن الكلام تسلية للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول له: يا محمد يا حبيبي إن كَذَّبَك قومُك وكفروا بك، وإن فجروا وفعلوا وفعلوا فقد فعل ذلك أمم كثيرة، كُذِّبَ رسلٌ من قبلك فصبروا على ماكُذِّبُوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا. هاهي الرسل، هاهو إبراهيم أبو الأنبياء، هاهو نوح أول الرسل أُرسِلَ للناس، وأُرسِلَ للأمم، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم -من الأمم- مهتد، وهم قلة، ﴿وكثير منهم فاسقون﴾.
كَم مِن رُسُل؟! ثم قَفَّينا من بعدهم برسلٍ، كثير من الرسل، وجاء عيسى آخر رسول من قبلك، وهاهم أتباعه، كُتِبَ عليهم الرأفة وأُمِروا بالرحمة، وجعل الله في قلوبهم التوادد والتراحم، وقد جاءوا على أنفسهم وتقشفوا، شقُّوا على أنفسهم فأَتَوْا بالطاعات وامتنعوا عن النساء وامتنعوا عن المباح ابتغاء رضوان الله، جاء خَلَفٌ من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلا تيأس ولا تحزن، فالآية تسلية لسيد الخلق، نعم! ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو القائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة العنكبوت آية: ٦٩]. لقد نزلت سورة الحديد بالمدينة، فهي سورة مدنية، والخطاب فيها موجه للمؤمنين بنبينا (صلى الله عليه وسلم) أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار. وأيضاً يوجه الخطاب في بعض الأحوال للمنافقين، هؤلاء الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وجاء ذكر المنافقين وتوعدهم ربنا (تبارك وتعالى) في هذه السورة، فقد كَثُرَ المنافقون بالمدينة ولم يعرفهم المسلمون وعرفهم نبينا (صلى الله عليه وسلم) في أواخر الأيام.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة محمد آية: ٣٠] أيضاً كان في المدينة أهل الكتاب سارعوا بالإيمان، منهم عبد الله بن سلام وكان حبراً من أحبار اليهود، سعى إلى النبي وسأله قال: يا محمد إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهن إلا نبي، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أخبَرَني بهن جبريل آنفاً" جاءه جبريل فأخبره بأسئلة عبد الله بن سلام قبل أن يأتي عبد الله بن سلام، فقال عبد الله بن سلام: ما أول علامات الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وبِمَ ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أول علامات الساعة نار تَحشُرُ الناس من المشرق الى المغرب تُقبِل معهم وتبيت معهم. وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد حوت. أما نَزْعُ الولد فإذا سبق ماء الرجل نَزَع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يارسول الله أُكتُم إيماني عن قومي فإن اليهود قومٌ بُهْت ولو علموا أني آمنتُ لبهتوني فاكتُم عنهم إيماني وسِلُهُم عني، وجاء معشر يهود فاختبأ عبد الله بن سلام خلف سِتْر، فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ما عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: عالمنا وابن عالمنا وشيخنا وابن شيخنا حبرنا وابن حبرنا، قال: "أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: مَعاذَ الله، "أرأيتم إن أسلم هل تُسلِمون كما أسلم ولا تكون لكم حُجَّة؟ " فاندهشوا ونفوا ذلك وقالوا لا يمكن أن يُسلِم، فخرج عبد الله بن سلام ناطقاً بالشهادة أمامهم، فقالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فقال: أرأيتَ يارسول الله؟ ذلك ماكنتُ أَحْذَر. وآمن أهل الكتاب، منهم من آمن بنبينا فنزلت البشارة لهم: (يؤتون أجرهم مرتين) مرة لإيمانهم بنبيهم ومرة لإيمانهم بخاتم الرسل والأنبياء (صلى الله عليه وسلم) ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [سورة القصص آية: ٥٤].
فاختال أهل الكتاب على المؤمنين من المهاجرين والأنصار، قالوا: لنا أجران ولكم أجر واحد. فحزن المهاجرين والأنصار، فنزل قول الله يخاطبهم متودداً إليهم، محبباً لهم الإيمان ومُزَيِّنَه في قلوبهم:
(ورهبانية ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم) ذاك هو تقدير الكلام، هناك تقديم وتأخير. ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ جملة اعتراضية، لكن الله ينبئنا أن من ابتدع الرهبانية من أتباع عيسى قد ابتدعها دون أن يُكَلَّف بها وما فرضها الله عليهم، ولكنهم حين ابتدعوها ابتدعوها لوجه الله، ابتغاءً لوجه الله، ابتغاء مرضاة الله، ذاك حق وشهد لهم القرآن بذلك. رهبانية: مأخوذة من الرَهَبْ: الخشية، والرَّهبان كالخشيان، رَهَبَ الشيء: خَشِيَ الشيء. ﴿ورُهبانية ابتدعوها﴾ بالضم قراءة، ورُهبانية: منسوبة إلى الرُّهبان: جمع راهب، كرُكبان جمع راكب. والرَّهبانية: التقشف؛ أن يلبس الخشن من الثياب وأن يأكل القليل من الطعام، أن يترك الترفه والتنعم. هؤلاء اعتزلوا الناس في الوديان والمغارات والصوامع والبِيَع، اعتزلوا الناس. وسر اعتزالهم للناس أن بعد أن رفع الله عيسى بن مريم وجاء الحواريون يعملون بأمره وينشرون الإنجيل ويعلمون الناس، تطاول الزمن وجاءت ملوك جبابرة فلم يقيموا الإنجيل وبدأوا في القهر والظلم، من هنا حاول المؤمنون بعيسى، المقيمون على دينه، مقاومة ملوكهم فما استطاعوا، فقُتِلَ منهم من قُتِلَ، وخاف من بقي على الدين وعلى الإنجيل الضياع، ففروا بدينهم إلى الصوامع والبِيَع، فَرُّوا بدينهم وتقشفوا وزهدوا من أجل الحفاظ على دينهم، هؤلاء ابتدعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله. ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ ما رعَوها: الأتباع، أما الأوائل فقد رعَوْها، الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله رعوها حق رعايتها، أما الذين جاءوا من بعدهم فتشبهوا بهم وتمثلوا بأعمالهم، فلبسوا خشن الثياب واعتزلوا في الصوامع والبِيَع مظهراً ومنظراً دون مضمون وحقائق، فلم يرعَوْا ما ابتدعه الأوائل. ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ﴾: الأوائل الذين ابتدعوها ورعوها حق رعايتها.
﴿أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾: الأتباع، الخوالف. ﴿فَاسِقُونَ﴾ لذا يقول الله عنهم، هؤلاء المتخلفين من أتباع الرهبان الذين ساروا على نهجهم من حيث الشكل دون المضمون، قال فيهم ربنا (تبارك وتعالى): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة التوبة آية: ٣٤] اتخذوا الرهبانية منظراً ومَعبَرَاً للرياسة ولجمع الأموال، ظهروا بمظهر التقشف والزهد وجمعوا الأموال من الناس وكَنَزوها وصدوا عن سبيل الله، وباعوا دينهم للملوك والأباطرة فبدلوا وغيروا في آيات الإنجيل. وفي الآية ثلاثة أدلة، أو ثلاثه أمور: الأمر الأول أن كل مُحدَثَةٍ بدعة، ومن البِدَع ماهو خير ومن البِدَع ماهو شر، فليس كل بدعة مُحدَثة ضلالة، وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم): "شر الأمور مُحدَثاتها وكل مُحدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة" أي كل بدعة يُقصَد بها غير وجه الله، لكن من الابتداع ماهو مطلوب، مثال ذلك هذه الآية، دليل على هذا: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ لم يعاقبهم عليها ولم يؤاخذهم عليها، بل الذين رعوها آتاهم ربنا أجرهم.
ومن الدليل على ذلك ما ابتدعه الصحابة كقيام رمضان، فقد كَتَب ربُّنا علينا صيامه ولم يكتب علينا قيامه، وحين قام النبي (صلى الله عليه وسلم) وقام بقيامه أناس، تخلف عنهم وقال: "خشيت أن يُفرَضَ عليكم" فلم يَسُنَّ القيام بالمساجد جماعة، ولم يأمرنا بقيام رمضان وإن كان قد نصح بذلك، فجاء الأصحاب فابتدعوا قيام رمضان كما فعل الإمام الأواب الناطق بالصواب الموافق حُكْمُه حُكْمَ الكتاب الذي قال للنبي أُحجُب نساءك فنزلت آية الحجاب الذي قال فيه رسول الملك الوهاب: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" هو الذي ابتدع القيام بالمساجد وجمع الناس على صلاة القيام، وجمعهم على قراءة أُبَيِّ تنفيذاً لأمر رسول الله في الأخذ والتعلم والتلقي حيث قال: "أقرأكم أُبَيّ" فأمر أُبَيَّ بن كعب أن يَؤمَّ الناس في القيام برمضان فقاموه. ولذا قال أبو أمامة الباهلي (رضي الله عنه وأرضاه): إن الله لم يكتب عليكم قيام رمضان وإنما كتب عليكم صيامه وقد ابتدعتم القيام فإياكم وإياكم أن تتوقفوا عنه أو تكونوا كمن قال الله فيهم: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ إذاً فمن ابتدع بدعة طيبة، ومن ابتدع بدعة حسنة، فعليه أن يواظب عليها، وإلا كان كهؤلاء. إذاً فقد كان الله يحب منهم أن يرعوا ما ابتدعوه حق الرعاية طالما كانت البدعة لا تخالف شرعاً ولا ينفر منها عقل، ذاك هو الدليل الأول في الآية: أن البدعة منها ما هو حَسَن ومنها ماهو قبيح، وأن من ابتدع بدعة حسنة عليه أن يواظب على الإتيان بها، وذاك يعطيه أجر ويعطيه مضاعفات للأجر، كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من سَنَّ سُنَّة حَسَنَة فله أجرها وأجر من عما بها إلى يوم القيامة" ولا سُنَّة بعد سُنَّة سيد الخلق، إذاً فالمقصود من فَعَل فِعلاً أو ابتدع أمراً.
الأمر الثاني أن اعتزال الناس والبعد عنهم إذا فسد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان مطلوب مرغوب فيه. أي نعم لارهبانية في الإسلام طالما كان الإسلام عزيزاً، ولكن إذا تقارب الزمان ورأيت شُحَّاً مطاعاً وهوىً مُتَّبَعاً وإعجاب كلَّ ذي رأيٍ برأيه، وإذا وُسِّدَ الأمر لغير أهله، وإذا ضُيِّعَت الأمانة، وإذا رأيت الناس كَفُّوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا رأيت كل ذلك فعليك بخاصة نفسك، وعليك أن تعتزل الكل ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك، هكذا نصحنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) بل وأنبأنا بأواخر الزمان: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمات يتتبع بها شعاث الجبال ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفِتَن" فإذا كثرت الفتن وعَمَّ البلاء وكثر الشُّح وامتنع الناس عن التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر ووُسِّدَ الأمر لغير أهله، إذا رأيت ذلك كله فاعتزلتَ الناس كان ذلك مرغوباً فيه وكان محبوباً ولا يخالف سُنَّة رسول الله، من هذه الآية: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ فإذا فسد الزمان وتغيرت الأصدقاء والإخوان، ورأيت ما ينكره قلبك وعقلك ودينك ولم تستطع أن تُغَيِّر أو أن تُبَدِّل، وخشيتَ على نفسك ودينك من الفتن فاعتزل، والعزلة هنا مطلوبة محبوبة مرغوب فيها. الأمر الثالث أن في الآية إشعار بأن الكلام تسلية للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وكأن الله (تبارك وتعالى) يقول له: يا محمد يا حبيبي إن كَذَّبَك قومُك وكفروا بك، وإن فجروا وفعلوا وفعلوا فقد فعل ذلك أمم كثيرة، كُذِّبَ رسلٌ من قبلك فصبروا على ماكُذِّبُوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا. هاهي الرسل، هاهو إبراهيم أبو الأنبياء، هاهو نوح أول الرسل أُرسِلَ للناس، وأُرسِلَ للأمم، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم -من الأمم- مهتد، وهم قلة، ﴿وكثير منهم فاسقون﴾.
كَم مِن رُسُل؟! ثم قَفَّينا من بعدهم برسلٍ، كثير من الرسل، وجاء عيسى آخر رسول من قبلك، وهاهم أتباعه، كُتِبَ عليهم الرأفة وأُمِروا بالرحمة، وجعل الله في قلوبهم التوادد والتراحم، وقد جاءوا على أنفسهم وتقشفوا، شقُّوا على أنفسهم فأَتَوْا بالطاعات وامتنعوا عن النساء وامتنعوا عن المباح ابتغاء رضوان الله، جاء خَلَفٌ من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلا تيأس ولا تحزن، فالآية تسلية لسيد الخلق، نعم! ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو القائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة العنكبوت آية: ٦٩]. لقد نزلت سورة الحديد بالمدينة، فهي سورة مدنية، والخطاب فيها موجه للمؤمنين بنبينا (صلى الله عليه وسلم) أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار. وأيضاً يوجه الخطاب في بعض الأحوال للمنافقين، هؤلاء الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وجاء ذكر المنافقين وتوعدهم ربنا (تبارك وتعالى) في هذه السورة، فقد كَثُرَ المنافقون بالمدينة ولم يعرفهم المسلمون وعرفهم نبينا (صلى الله عليه وسلم) في أواخر الأيام.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [سورة محمد آية: ٣٠] أيضاً كان في المدينة أهل الكتاب سارعوا بالإيمان، منهم عبد الله بن سلام وكان حبراً من أحبار اليهود، سعى إلى النبي وسأله قال: يا محمد إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهن إلا نبي، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أخبَرَني بهن جبريل آنفاً" جاءه جبريل فأخبره بأسئلة عبد الله بن سلام قبل أن يأتي عبد الله بن سلام، فقال عبد الله بن سلام: ما أول علامات الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وبِمَ ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أول علامات الساعة نار تَحشُرُ الناس من المشرق الى المغرب تُقبِل معهم وتبيت معهم. وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد حوت. أما نَزْعُ الولد فإذا سبق ماء الرجل نَزَع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يارسول الله أُكتُم إيماني عن قومي فإن اليهود قومٌ بُهْت ولو علموا أني آمنتُ لبهتوني فاكتُم عنهم إيماني وسِلُهُم عني، وجاء معشر يهود فاختبأ عبد الله بن سلام خلف سِتْر، فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ما عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: عالمنا وابن عالمنا وشيخنا وابن شيخنا حبرنا وابن حبرنا، قال: "أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: مَعاذَ الله، "أرأيتم إن أسلم هل تُسلِمون كما أسلم ولا تكون لكم حُجَّة؟ " فاندهشوا ونفوا ذلك وقالوا لا يمكن أن يُسلِم، فخرج عبد الله بن سلام ناطقاً بالشهادة أمامهم، فقالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فقال: أرأيتَ يارسول الله؟ ذلك ماكنتُ أَحْذَر. وآمن أهل الكتاب، منهم من آمن بنبينا فنزلت البشارة لهم: (يؤتون أجرهم مرتين) مرة لإيمانهم بنبيهم ومرة لإيمانهم بخاتم الرسل والأنبياء (صلى الله عليه وسلم) ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [سورة القصص آية: ٥٤].
فاختال أهل الكتاب على المؤمنين من المهاجرين والأنصار، قالوا: لنا أجران ولكم أجر واحد. فحزن المهاجرين والأنصار، فنزل قول الله يخاطبهم متودداً إليهم، محبباً لهم الإيمان ومُزَيِّنَه في قلوبهم:
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَءَامِنُوا۟ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًۭا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿28﴾
لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍۢ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴿29﴾
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد (صلى الله عليه وسلم) (اتَّقُوا اللَّهَ) داوموا على التقوى واثبُتُوا عليها، والتقوى ثلاثة أنواع كما تكلمنا من قبل: تقوى الشِّرك، وتقوى المعاصي، ثم تتقي أن يشغل قلبك غير الله. اثبُتُوا على التقوى وداوموا عليها وآمنوا برسله، آمنوا برسوله وقد آمنتم بالرسل من قبل؛ إبراهيم ونوح وغيرهما. ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ كِفلَين: حظين ونصيبيْن ومِثلَين. وأصل الكِفْل: ما يكتفل به الراكب إذا أراد أن يركب البعير جاء بكساء وحَوَّى الكساء على السنام فلا يسقط، فإذا جاء بكساء وجعل منه حوايا حول السنام فاستطاع ان يجلس ثابتاً ولا يسقط يقال عنه: اكتَفَل البعير (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) كِفْل تتقون به المعاصي، وكِفْل تتقون به المهالك، يرحمكم دنيا وأخرى، يعافيكم من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة، يؤتكم كفلين من رحمته ويزيدكم على ذلك أن يجعل لكم نوراً تمشون به بين الناس مصداقاً لقوله تعالى ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ [سورة الأنعام آية: ١٢٢] يجعل لكم نوراً تمشون به على الصراط ويجعل لكم نوراً يهديكم إلى الجنة ﴿نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ﴾ [سورة الحديد آية: ١٢] ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لكم ما فَرَطَ من أمركم، فالمعصوم (صلى الله عليه وسلم) والمعصوم من عصمه الله، أما المؤمن مهما بلغ درجة عالية في إيمانه ومهما واظب على التقوى فالعصمة للأنبياء، أما الإنسان فلابد وأن تفرط منه الفُرُطات: الخواطر والهم واللمم، منها ما يعلمه فيستغفر عنه، ومنها مالا يعلمه.
من هنا يبشرنا ربنا (تبارك وتعالى) بالغفران فيقول: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ليدلل على أن الإنسان ليس معصوماً، ولذا بشرنا ورَجَّانا بقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١] نعم! ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي لكي يعلم أهل الكتاب، وقُرِئت كذلك: (لكي يعلم أهل الكتاب)، وقُرِئت (ليعلم أهل الكتاب)، وقُرِئت (لأن يعلم أهل الكتاب). (لئلا) (ألَّا) زائدة للتوكيد. لئلا يعلم أهل الكتاب الذين تفاخروا عليكم بالأجر أنهم يؤتون أجرهم مرتين، قلنا ذلك وأمرنا بذلك وقضينا بذلك لكي يعلم هؤلاء ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ لايقدرون على شيء من فضل الله أياً كان ذلك الفضل وأياً كان نوعه (إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فإن قال هؤلاء الذين آمنوا برسلهم وبمحمد (عليه الصلاة والسلام) من أهل الكتاب أنهم يؤتون أجرهم مرتين، فأنتم كذلك آمنتم مرتين؛ آمنتم بمحمد (عليه الصلاة والسلام) ورأيتموه واتبعتموه، وآمنتم بالرسل من قبله ولم تروهم، فإيمانكم مضاعَف؛ آمنا بالرسل ولم نراهم وآمنا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) فلكم أجركم مرتين.
وقد يكون معنى الآية غير ذلك (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب ليس للمهاجرين والأنصار وليس لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) والخطاب لأهل الكتاب الذين جاء ذكرهم في أتباع عيسى (فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) الخطاب لهؤلاء، يا أيها الذين آمنوا بالرسل، آمنوا بعيسى وآمنوا بموسى، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ الخاتم ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ مصداقاً لقوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [سورة القصص آية: ٥٤] يؤتكم كفلين من رحمته؛ كِفل من أجل الإيمان بعيسى وإن كنتم قد حرفتم دينه، وكِفل من أجل الإيمان بالخاتم (صلى الله عليه وسلم) ويجعل لكم نوراً كما جعل للمؤمنين حين تراهم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، يجعل لكم نوراً كما جعل لهم نوراً. إذا كان الكلام كذلك والخطاب لأهل الكتاب تحضيضاً لهم وتحريضاً على الإيمان برسول الله ويغفر لكم شرككم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ قولكم عن عيسى إنه ابن الله أو هو ثالث ثلاثة ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ والكلام لبني إسرائيل؛ يهود المدينة والسورة مدنية.
﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ لأن يهود المدينة كانوا يتطاولون على أهل المدينة ويقولون: يوشَك أن يُبعَث منا نبي يقطع الأيدي والأرجل، كانوا يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به، كانوا يقولون يوشَك أن يُبعَث منا نبي آخر الزمان فيُحِق الحق ويُبطِل الباطل ويقطع أيديكم وأرجلكم ويكسر أصنامكم، كانوا يتطاولون بذلك ويستفتحون بذلك ويستنصرون بهذا الرسول، فجاء الرسول الخاتم ليس منهم ولكنه من العرب فكفروا به حسداً وحقداً وبغضاً، كفروا به لأنه لم يُبعَث من ذرية بني إسرائيل كما بُعِثَ الأنبياء من لدن إسحق ويعقوب حتى عيسى من جهة أمه، وجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وحيداً من ذرية الذبيح، من ذرية إسماعيل، فحقدوا وحسدوا، فربنا يقول لهم: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي شيء من فضل الله لا يقدر عليه أهل الكتاب، اليهود الذين زعموا أن النبي الخاتم منهم، فما بالكم وما ظنكم بأعظم الفضل، ألا وهو النبوة، ذلك فضل الله –النبوة- يؤتيه من يشاء، فآتاه محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الآية نزلت في هذا أو نزلت في ذلك، والكلام واللغة تحتمل المعنيين دون ترجيح، والخطاب للجميع، والخطاب لمن يعقل الخطاب. (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) إما للمتفاخرون على المهاجرين والأنصار من الذين آمنوا من أهل الكتاب، وإما الكلام لليهود الذين زعموا أن النبي الخاتم منهم فجاء من غيرهم. (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الذي لا يُحصى ولا يُعَد.
أيها الأخ المسلم العبد في هذه الدنيا مؤمناً كان أو كافراً يتقلب بين أمرين لا ثالث لهما؛ يتقلب بين العدل والفضل، فقضاء الله في خلقه في هذه الدنيا، بل وفي الآخرة، لا يخرج عن هذين الأمرين: العدل أو الفضل. لذا يقول عز مِن قائل: (وماربك بظلام للعبيد) أي ليس بذي ظلم أصلاً، وإنما العدل أو الفضل، فإن أَدخَلَ الناس الجنة فبفضله لا لأنهم يستحقون، ولو أَدخَلَ الناس النار فبعدله وهم لا يُظلَمون، لا يُسأَل عما يفعل وهم يُسألون.
من هنا يبشرنا ربنا (تبارك وتعالى) بالغفران فيقول: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ليدلل على أن الإنسان ليس معصوماً، ولذا بشرنا ورَجَّانا بقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١] نعم! ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي لكي يعلم أهل الكتاب، وقُرِئت كذلك: (لكي يعلم أهل الكتاب)، وقُرِئت (ليعلم أهل الكتاب)، وقُرِئت (لأن يعلم أهل الكتاب). (لئلا) (ألَّا) زائدة للتوكيد. لئلا يعلم أهل الكتاب الذين تفاخروا عليكم بالأجر أنهم يؤتون أجرهم مرتين، قلنا ذلك وأمرنا بذلك وقضينا بذلك لكي يعلم هؤلاء ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ لايقدرون على شيء من فضل الله أياً كان ذلك الفضل وأياً كان نوعه (إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فإن قال هؤلاء الذين آمنوا برسلهم وبمحمد (عليه الصلاة والسلام) من أهل الكتاب أنهم يؤتون أجرهم مرتين، فأنتم كذلك آمنتم مرتين؛ آمنتم بمحمد (عليه الصلاة والسلام) ورأيتموه واتبعتموه، وآمنتم بالرسل من قبله ولم تروهم، فإيمانكم مضاعَف؛ آمنا بالرسل ولم نراهم وآمنا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) فلكم أجركم مرتين.
وقد يكون معنى الآية غير ذلك (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب ليس للمهاجرين والأنصار وليس لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) والخطاب لأهل الكتاب الذين جاء ذكرهم في أتباع عيسى (فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) الخطاب لهؤلاء، يا أيها الذين آمنوا بالرسل، آمنوا بعيسى وآمنوا بموسى، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ الخاتم ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ مصداقاً لقوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [سورة القصص آية: ٥٤] يؤتكم كفلين من رحمته؛ كِفل من أجل الإيمان بعيسى وإن كنتم قد حرفتم دينه، وكِفل من أجل الإيمان بالخاتم (صلى الله عليه وسلم) ويجعل لكم نوراً كما جعل للمؤمنين حين تراهم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، يجعل لكم نوراً كما جعل لهم نوراً. إذا كان الكلام كذلك والخطاب لأهل الكتاب تحضيضاً لهم وتحريضاً على الإيمان برسول الله ويغفر لكم شرككم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ قولكم عن عيسى إنه ابن الله أو هو ثالث ثلاثة ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ والكلام لبني إسرائيل؛ يهود المدينة والسورة مدنية.
﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ لأن يهود المدينة كانوا يتطاولون على أهل المدينة ويقولون: يوشَك أن يُبعَث منا نبي يقطع الأيدي والأرجل، كانوا يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به، كانوا يقولون يوشَك أن يُبعَث منا نبي آخر الزمان فيُحِق الحق ويُبطِل الباطل ويقطع أيديكم وأرجلكم ويكسر أصنامكم، كانوا يتطاولون بذلك ويستفتحون بذلك ويستنصرون بهذا الرسول، فجاء الرسول الخاتم ليس منهم ولكنه من العرب فكفروا به حسداً وحقداً وبغضاً، كفروا به لأنه لم يُبعَث من ذرية بني إسرائيل كما بُعِثَ الأنبياء من لدن إسحق ويعقوب حتى عيسى من جهة أمه، وجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وحيداً من ذرية الذبيح، من ذرية إسماعيل، فحقدوا وحسدوا، فربنا يقول لهم: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي شيء من فضل الله لا يقدر عليه أهل الكتاب، اليهود الذين زعموا أن النبي الخاتم منهم، فما بالكم وما ظنكم بأعظم الفضل، ألا وهو النبوة، ذلك فضل الله –النبوة- يؤتيه من يشاء، فآتاه محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الآية نزلت في هذا أو نزلت في ذلك، والكلام واللغة تحتمل المعنيين دون ترجيح، والخطاب للجميع، والخطاب لمن يعقل الخطاب. (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) إما للمتفاخرون على المهاجرين والأنصار من الذين آمنوا من أهل الكتاب، وإما الكلام لليهود الذين زعموا أن النبي الخاتم منهم فجاء من غيرهم. (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الذي لا يُحصى ولا يُعَد.
أيها الأخ المسلم العبد في هذه الدنيا مؤمناً كان أو كافراً يتقلب بين أمرين لا ثالث لهما؛ يتقلب بين العدل والفضل، فقضاء الله في خلقه في هذه الدنيا، بل وفي الآخرة، لا يخرج عن هذين الأمرين: العدل أو الفضل. لذا يقول عز مِن قائل: (وماربك بظلام للعبيد) أي ليس بذي ظلم أصلاً، وإنما العدل أو الفضل، فإن أَدخَلَ الناس الجنة فبفضله لا لأنهم يستحقون، ولو أَدخَلَ الناس النار فبعدله وهم لا يُظلَمون، لا يُسأَل عما يفعل وهم يُسألون.