سورة الواقعة

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة الواقعة، من أراد أن يعرف أنباء أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويعرف أخبار الأولين والآخرين، وأوصاف أهل الجنة وأهل الجحيم، وما يكون يوم القيامة فليقرأ سورة الواقعة‫.‬ وسورة الواقعة أمان من الفقر وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصِبه فاقة أبداً). ولذا حين مرض عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه وأرضاه) ودخل عثمان بن عفان يعوده فقال‫:‬ ما تشتكي؟ قال‫:‬ أشتكي ذنوبي، قال‫:‬ وما تشتهي؟ قال‫:‬ أشتهي رحمة ربي، قال‫:‬ ألا نأمر لك بطبيب، قال‫:‬ الطبيب أمرضني، قال‫:‬ ألا نأمر لك بعطاء، قال‫:‬ لا حاجة لي به، قال‫:‬ يكون لبناتك من بعدك، فقال ابن مسعود‫:‬ أتخشى على بناتي الفقر؟ والله لقد علمتهن أن يقرأن سورة الواقعة، فقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لا تصيبه- أو فلن تصيبه- فاقة أبداً". سورة الواقعة سورة مكية، نزلت بمكة على أرجح الأقوال، واستثنى بعض الناس آية واحدة، واستثنى بعضهم أربع آيات، والقول الأرجح أن السورة مكية‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ ﴿1﴾ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴿2﴾ خَافِضَةٌۭ رَّافِعَةٌ ﴿3﴾
‫﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ الواقعة‫:‬ اسم من أسماء يوم القيامة، وَقَع الطائر‫:‬ نَزَل عن طيرانه، وسُمِّيَت القيامة واقعة لأنها واقعة لامحالة، وسميت واقعة لاقتراب وقوعها، وسميت الواقعة لشدة ما يقع فيها‫.‬ (إِذَا) للوقت، أو (إذا) صلة، والكلام‫:‬ (وقعت الواقعة) كقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ١]، وكقوله (تبارك وتعالى): ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ١]. ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾: حدثت، وهي حادثة لا محالة، قائمة لاشك‫.‬ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ اللام في (لوقعتها) هي لام التوقيت، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه خرج من المدينة حاجاً، خرج لخمسٍ بَقَين من ذي القعدة، فهي لام الوقت ووصل إلى المدينة لخمسٍ خَلَوْن من ذي الحجة‫.‬ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ فهي لام الوقت‫.‬ ﴿كَاذِبَةٌ﴾ قد تكون مصدر، وقد يوضع الفاعل أو المفعول موضع المصدر في اللغة، ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾: أي ليس لوقتها كَذِب، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ [سورة الغاشية آية‫:‬ ١١] لاغية وُضِعت موضع المصدر، أي لا تسمع فيها لغواً. وقد تكون (كاذبة) صفة لمحذوف والمعنى‫:‬ (ليس لوقعتها كاذبة) أي نَفسٌ كاذبة أو حالٌ كاذبة، والمعنى إذا وقعت الواقعة فليس لوقعتها حين تقع نفس تكذّب بها فكل من يحشر وكل المخلوقات تصدق بها لأنها رأتها عياناً، ففي هذه الدنيا يُكَذب بعض الناس بالقيامة، أما إذا وقعت الواقعة فلا يُكذّب بها أحد فليس لوقعتها نفسٌ تكذّب بها لأنها قد وقعت وشوهدت‫.‬ أيضاً (ليس لوقعتها كاذبة) أي ليس لوقعتها حال، كل من نطق بوقوعها صَدَق وكل من أُخبِرَ بها صَدَّق، فليس لوقعتها كذب بمعنى كاذبة على أنها مصدر‫.‬ أو ليس هناك كذب على الله، أو لاتكذب نفس بها، أو لا تكذب نفس في قيامها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيضاً قد تعني الكلمة معنى لاطاقة لأحدٍ بها فهي لاتُرَد (ليس لوقعتها كاذبة) من قولهم كَذَبته نفسه إذا جرأته على اقتحام الصعاب والمخاطر، فإذا اجترأ أحد على اقتحام خطراً لا قِبَل له به يُقال كَذَبَته نفسه‫:‬ اغتر وكذبته نفسه‫.‬ ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(١)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(٢)﴾ هي واقعة لا محالة، ليس في ذلك شك وليس في ذلك كذب، وحين تقع فالكل يصدق بها ويؤمن بها لأنه رآها رأي العين‫.‬ ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ وقُرِئت ﴿خافضةً رافعةً﴾ منصوبة على الحال‫.‬ وقرئت مرفوعة ﴿خافضةٌ رافعةً﴾ أي هي خافضة رافعة‫.‬ الخفض والرفع في اللغة يكون في المكان والمكانة، والذل والعز والمهانة، ونُسِب إلى القيامة الخفض والرفع هي تخفض وهي ترفع، فنُسِب الخفض والرفع إليها مجازاً، والخافض الرافع على الحقيقة هو الله، فليس لأحد وليس لشيء أن يخفض أو يرفع‫.‬ (خافضة رافعة) تخفض الكفار وترفع الأتقياء، تخفض الكفار إلى أسفل الدركات وترفع المؤمنين إلى أعلى الدرجات، ترفع المستضعَفين وتخفض المتكبرين، ترفع أقواماً كانوا في الدنيا مُخفَضين وتخفض أقواماً كانوا في الدنيا مرفوعين، ترفع وتخفض أو تنخفض وترتفع فيها الأرض المياه، حيث ترج الأرض وتفتت الجبال وتسيّر الجبال فتكون هباءً، فهي خافضة رافعة لما عليها من أشياء وجمادات، وهي أيضاً سبب في خفض أناس ورفع أناس، فقد خفضت أناساً بالعدل ورفعت أناساً بالفضل، فمن رُفِعَ يوم القيامة رُفِعَ بفضل الله، ومن خُفِضَ يوم القيامة فقد خُفِضَ بعدل الله، وما ربك بظلام للعبيد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِذَا رُجَّتِ ٱلْأَرْضُ رَجًّۭا ﴿4﴾ وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسًّۭا ﴿5﴾ فَكَانَتْ هَبَآءًۭ مُّنۢبَثًّۭا ﴿6﴾ وَكُنتُمْ أَزْوَٰجًۭا ثَلَـٰثَةًۭ ﴿7﴾ فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ ﴿8﴾ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـَٔمَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْـَٔمَةِ ﴿9﴾ وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ ﴿10﴾
‫﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾ الرَّج‫:‬ التحريك والزلزلة بشدة، والرَّجة‫:‬ الحركة الشديدة يُسمَع لها صوت، رجَّهُ يُرجُّه رجّاً: حَرَّكه وزلزله بشدة‫.‬ ﴿إذا رُجَّت الأرض رَجَّاً﴾ ما الذي يرجها وما الذي يحركها؟ قيل إن الله (تبارك وتعالى) إذا أوحى إليها ارتجت فَرَقاً من الله وخوفاً من الله، مصداقاً لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(٤)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(٥)﴾ [سورة الزلزلة آية‫:‬ ٤- ٥] متى يكون ذلك؟ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [سورة الزلزلة آية‫:‬ ١] فتلك الزلزلة لأن الله أوحى لها، فإذا أوحى الله (تبارك وتعالى) إلى الأرض وأمر بقيام الساعة، ارتجت الأرض فهُدِمَ ما عليها خوفاً وفَرَقاً من الله‫.‬ ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ البَسّ: العَجْن واللَّت، وإذا بُسَّ الدقيق لُدَّ: خُلِطَ الدقيق بالماء أو بالسمن أو بالزيت فعُجِنَ ولُتّ، قالوا بسَّ الدقيق، والبسيسة‫:‬ الدقيق المخلوط بالسمن أو بالزيت يؤكل بغير طبخ، كالسويق يُلتَّ. إذا بُسَّت فكأن الجبال تُبسّ أي تُلَتّ، تختلط بعضها ببعض وتُعجَن فتكون كالدقيق المعجون بالماء، تختلط بمياه الأرض، تختلط بالبحار، تختلط بنفسها، إذا بست الجبال عُجِنَت ولُتَّت فُتِّتَت‫.‬ أو بُسَّت بمعنى سُيِّرَت ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ [سورة النبأ آية‫:‬ ٢٠] لأن العرب تقول بَسَستُ الغنم أبسّها‫:‬ سيرتُها وسقتُها، ساق الغنم بَسّ وأَبَسَّ، فإذا الجبال بُسَّت أي سُيِّرَت، أو بُسَّت فُتِّتَت وحُطِّمَت‫.‬ ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ الهباء‫:‬ الغبار، الهباء‫:‬ ما يرُى في شعاع الشمس إذا دخل من النافذة، إذا دخل شعاع شمس من كُوّة أو نافذة ترى في الشعاع أشبه بالغبار أشياء، جسيمات معلقة في الشعاع فذاك هو الهباء‫.‬ يُطلَق أيضاً الهباء على شرر النار، إذا أُضرِمَت النار وتطاير منها الشرر، فإذا وقع الشرر على الأرض لم يكن شيئاً فذاك هو الهباء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فكذلك الجبال إذا بُسَّت تكون في هذه الحالة هباءً. (منبثاً): منتشراً متفرقاً، تكون هذه الجبال هباءً أي كالغبار أو كالهباء لا قيمة له ولا يُمسَك وإنما يُرى فقط في شعاع الشمس، غبار لا قيمة له غير متماسك وقُرِأت (فكانت هباءً منبتاً) بالتاء من بَتَّ الشيء‫:‬ قطعه، أي فكانت هباءً منبتاً أي منقطعة منقلعة من الأرض، وسُيِّرضت وصارت كالهباء في الجو لا تُمسَك ولا تجتمع ولايُرى لها أثر‫.‬ ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً(٧)﴾ الأزواج‫:‬ جمع زوج، والزوج‫:‬ كل ما يُقرَن بغيره مماثلاً أو مضاداً يسمى زوجاً، ففي الذكر والأنثى وكل ما يتزاوج من حيوان وإنسان يُطلَق على الذكر زوج ويطلق على الأنثى أيضاً زوج، وكل أصنافٍ تقترن ببعضها كالخُف يطلق عليه أيضاً الزوج، والنعل كذلك يطلق عليه زوج، فكل شيء مقترن بغيره مماثلاً له أو مضاداً له يطلق عليه زوج بمعنى الصنف‫.‬ ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ أي أصنافاً ثلاثة، كل صنف اجتمع مع ما يماثله‫.‬ و (كنتم): الخطاب لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وكنتم أنتم أزواجاً ثلاثة‫.‬ أو الخطاب لجميع الأمم من لدن آدم إلى يوم القيامة ووُجِّهَ الخطاب للأمة الحاضرة على التغليب‫.‬ كنتم أصنافاً ثلاثة‫:‬ أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقين، تلك هي الأصناف الثلاثة‫.‬ ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(٨)وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(٩)﴾ أصحاب الميمنة يؤخذ بهم ذات اليمين، وأصحاب المشأمة يؤخذ ذات الشمال، والعرب تطلق على الشمال المشأمة والأشأم، ويقول شائم بأصحابك أي خذ بهم جهة الشمال‫.‬ فأصحاب الميمنة يؤخذ بهم جهة اليمين إلى الجنة، وأصحاب الشمال يؤخذ بهم إلى النار‫.‬ أو أصحاب الميمنة من أخذوا كُتُبَهم بأيمانهم، وأصحاب المشأمة من أخذوا كُتُبَهم بشمائلهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أو أصحاب الميمنة أصحاب اليُمْن لأنهم كانوا ميامين على أنفسهم بالطاعة، وأصحاب المشأمة أصحاب الشؤم لأنهم كانوا مشائيم على أنفسهم بالمعصية، وما جاء من قِبَل اليمين تيامنَّا به، وما جاء من قِبَل الشمال تشاءمنا به، ذلك عادة العرب‫.‬ أو أصحاب الميمنة من كانوا عن يمين آدم يوم أَخْذِ الميثاق ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٧٢] وأصحاب المشأمة من كانوا على شمال آدم حين أَخْذ الميثاق حيث قبض الله القبضتين قال هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي‫.‬ أو أصحاب الميمنة ذرية آدم حيث أُخِذوا من شِقِّه الأيمن فكانوا أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة هؤلاء الذين أُخِذوا من شق آدم الأيسر حين أَخْذ الذرية من الصُّلب، فما أُخِذَ من اليمين أصحاب الميمنة وما أُخِذَ من الشِّق الشمال أصحاب المشأمة‫.‬ ولقد علمنا من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين عُرِجَ به إلى السموات العُلى، قيل لنا أنه وصل إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل‫:‬ من؟ قال‫:‬ جبريل، قيل‫:‬ ومن معك؟ قال‫:‬ محمد، قيل‫:‬ أَوَ أُرسَل إليه؟ قال‫:‬ نعم، قيل‫:‬ مرحباً فنِعمَ المجيء جاء، ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء الدنيا فوجد آدم فحياه آدم‫:‬ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ووجد النبي (صلى الله عليه وسلم) عن يمين آدم أَسْوِدة وعن شمال آدم أسْوِدة فإذا نظر آدم قِبَل يمينه ضحك وإذا نظر قِبَل شماله بكى، فقال‫:‬ ياجبريل ما هذه الأسْوِدة عن يمينه وهذه الأسودة عن شماله؟ قال جبريل‫:‬ نَسَم بنيه، فالأسودة التي عن يمينه أهل الجنة فإذا نظر إليهم تبسم وضحك، والأسوِدة التي عن شماله نَسَم بنيه من أهل النار فإذا نظر إليهم حزن وبكى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وذاك قد يؤيد قول لقائل إن من كانوا عن يمين آدم فهم أصحاب الميمنة ومن كان عن شمال آدم فأولئك هم أصحاب المشأمة، نسأل الله أن نكون جميعاً من أصحاب الميمنة‫.‬ ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(٨)﴾ مبتدأ وخبر ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ مبتدأ ﴿مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ خبر‫.‬ (ما) لفظ قد يأتي بمعنى الاستفهام، ولكن يستفهَم به عن ماهية الأشياء، ويسأَل بها عن العاقل وعن غير العاقل لأنه يسأل بها عن ماهية الأشياء‫.‬ (ما أصحاب الميمنة) أي‫:‬ أَيُّ شيء هم في أحوالهم وفي صفاتهم؟ وجاء الكلام على صيغة الاستفهام للتعجيب، تعجيب السامعين من فخامة حالهم‫.‬ وجاء في أصحاب المشأمة (ما أصحاب المشأمة) لتعجيب السامعين من فظاعة حالهم، فهذه للتفخيم وهذه للتفظيع‫.‬ ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(٩)﴾ قلنا مبتدأ وخبر، أو هي مكررة للتأكيد‫.‬ ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ مبتدأ وخبر، غريبة من حيث الصياغة‫.‬ ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ مكررة للتأكيد، والخبر‫:‬ أولئك المقربون‫.‬ والقول الأرجح أنها جملة واحدة مبتدأ وخبر، وكأن الكلام يعني‫:‬ والسابقون هم السابقون، السابقون في الطاعة هم السابقون إلى الرحمة، السابقون في الإيمان هم السابقون إلى الجنة‫.‬ السابقون السابقون وأنت تعرف من هم السابقون، السابقون قد عُرِفت أحوالهم ونُشِرت أخبارهم، فمن سبق سبق‫.‬ (أولئك المقربون) من هم؟ أهم الأنبياء؟ أهم السابقون في كل الأمم؟ ورد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سُئِل عن السابقين فقال‫:‬ "السابقون الذين إذا أُعطوا الحق قبلوه وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم" أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وأن تكره لأخيك ما تكره لنفسك، أن تقبل ما تؤتى بقناعة، برضا، فتؤدي الذي عليك وتأخذ الذي لك، تؤدي ما عليك للناس وتسأل الله تبارك وتعالى الذي لك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقالوا الكلام عن السابقين في كل زمان، ومن الأمم السابقة السابقون أكثر من السابقين في أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) لذا يقول الله (تبارك وتعالى): (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين). الثُلة‫:‬ الجماعة الكثيرة قوبلت بالقلة، وهم أكثر في الأمم السابقة لكثرة الأنبياء، كم من الأنبياء وكم من المرسلين قبل النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ ثلاثمائة رسول ويزيد، ثلاثة آلاف نبي ويزيد، هكذا ورد، منهم من قُصَّ علينا خبره ومنهم من لم يُقصَص علينا خبره‫.‬ من هنا كان السابقون إلى الإيمان والطاعة في الأمم السابقة لكل نبي ولكل رسول أكثر من عدد السابقين في أمة محمد، وهم أصحابه (عليه الصلاة السلام) وقال بعض الناس بل الكلام لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) فقط والسابقون، الثلة من أمته، والقليل من أمته تأكيداً لقوله‫:‬ (وكنتم أزواجاً ثلاثة) فإن كان الخطاب للأمم وخوطبنا تغليباً فالسابقون من الأمم ومن أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وكذلك أصحاب اليمين وكذلك أصحاب الشمال‫.‬ وإن كان الخطاب لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) فقط (وكنتم أزواجاً ثلاثة) فالسابقون منا وأصحاب اليمين كذلك من أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحاب الشمال من المكذبين به والعياذ بالله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ هل هم الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في أول بعثته؟ هل هم الذين قال الله فيهم‫:‬ ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ١٠٠] هل هم هؤلاء؟ أم هم من كل أمة النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ لأن بعض الناس يقول السابقون مضوا وانتهوا ولم يبق إلا أصحاب اليمين، أما السابقون قد مضوا في أول عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) وذلك قول يُضَيِّق ونحن نحب دائماً وأبداً أن نوسّع، فرحمة ربنا لاحدود لها فالسابقون موجودون في كل مكان إلى أن تقوم الساعة ولكن يكثرون في أوائل الأمة ويقلون في أواخر الأمة، لكن في أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) السابقون لا ينتهون إلى أن تقوم الساعة، وربنا يقول عنا‫:‬ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سورة فاطر آية‫:‬ ٣٢] فمن أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) السابقون في الأول وفي الآخر، ولكنهم ثلة من الأولين، والثلة‫:‬ الكثير، الجماعة الكثيرة، والثلة من (ثَلَّ) الشيء‫:‬ قَطَعه، فالثَّلّ: القَطْع، والثُّلَّة‫:‬ القطعة، أي الفرقة، أي الجماعة، هم جماعة كثيرة، هي قرن النبي (صلى الله عليه وسلم) وقليل من الآخرين يعملون بعمل الأولين فيلحقون بهم ونحن منهم إن شاء الله، جعلنا الله منهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫السابقون، نعتقد، والله أعلم، كل من سبق إلى خير فهو من السابقين، وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٦١]، ويقول‫:‬ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٣٣] حتى تكلم ربنا عن الذين يعملون الذنوب‫:‬ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٣٥] إذاً فكل سابق إلى توبة سابق إلى معروف، سابق إلى خير، سابق إلى طاعة، هو من السابقين‫.‬ ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(٥٧)وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(٥٨)وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ(٥٩)وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(٦٠)أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(٦١)﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٥٧ - ٦١] وقال بعض الناس‫:‬ الناس ثلاثة؛ فمنهم من نشأ من صغره في الطاعة فابتكر في الطاعات ومكث على الطاعة إلى أن مات فهؤلاء السابقون‫.‬ وفريق آخر ابتكر حياته بالذنوب فأذنب في شبابه وفي صباه واستمر في المعاصي والذنوب حتى وفقه الله إلى التوبة ولو في آخر عمره فمات على التوبة، هؤلاء أصحاب الميمنة‫.‬ ومن ابتكر حياته بالذنوب واستمر على المعاصي حتى مات عليها فأولئك أصحاب المشأمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(السابقون السابقون أولئك المقربون) مقربون أين؟ ومن أي شيء؟ لا أقول ولا أجرؤ على أن أقول، لأن القرب في المكان، والقرب في المكانة، وكي تُقرَّب لابد أن يكون بالمقارنة وبالإضافة لغيرك، فهذا قريب عن ذاك، ولابد أن تكون هناك غاية وهدف تُقَرَّب إليها، فالصف الأول مُقرَّب عن الصف الثاني، مُقَرَّب إلى أي شيء؟ إلى القبلة، إلى الإمام، فالصف الأول مُقرَّب عن الصف الثاني، والصف الثاني مُقرَّب عن الصف الثالث، فالمقرَّب لابد أن يكون مقرَّب بالإضافة‫.‬ أيضاً لابد أن يكون مقرباً إلى غاية، هؤلاء السابقون أولئك المقربون، من أي شيء وإلى أي شيء؟‬‬‬
أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴿11﴾ فِى جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ ﴿12﴾ ثُلَّةٌۭ مِّنَ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ وَقَلِيلٌۭ مِّنَ ٱلْـَٔاخِرِينَ ﴿14﴾ عَلَىٰ سُرُرٍۢ مَّوْضُونَةٍۢ ﴿15﴾ مُّتَّكِـِٔينَ عَلَيْهَا مُتَقَـٰبِلِينَ ﴿16﴾ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌۭ مُّخَلَّدُونَ ﴿17﴾ بِأَكْوَابٍۢ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍۢ مِّن مَّعِينٍۢ ﴿18﴾ لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ﴿19﴾ وَفَـٰكِهَةٍۢ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿20﴾ وَلَحْمِ طَيْرٍۢ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿21﴾ وَحُورٌ عِينٌۭ ﴿22﴾ كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ ﴿23﴾ جَزَآءًۢ بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿24﴾ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًۭا وَلَا تَأْثِيمًا ﴿25﴾ إِلَّا قِيلًۭا سَلَـٰمًۭا سَلَـٰمًۭا ﴿26﴾
‫﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(١١)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(١٢)﴾ والنعيم لا يُعرَف ولا يوصَف وكل ماورد من أقوال المفسرين كما قلنا من قبل في تفسير الجنة والنار والقيامة وما إلى ذلك ماهو إلا سمعيات نؤمن بها ولا نعرف كُنهَها، فالتفسير تفسير لفظ، تفسير النعيم أن يُنعَّم الإنسان‫.‬ النعيم ضد البؤس، النعيم ضد الشقاء، النعيم ضد التعب والوصب والنصب، النعيم‫:‬ الرفاهية، لكن الذي يُعِدّ النعيم لأصحاب النعيم هو الله المنعِم، كيف يكون نعيمه؟ وكيف نَصِفُه؟ هؤلاء المقربون في جنات النعيم‫.‬ ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ(١٣)وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ(١٤)﴾ الثُلَّة‫:‬ الجماعة الكثيرة، من ثَلَّ الشيء‫:‬ قَطَعه، والقليل‫:‬ القلة‫.‬ ثلة من الأولين‫:‬ من الأمم السابقة، وقليل من أمة محمد لكثرة الأمم السابقة‫.‬ أو ثلة من الأولين‫:‬ من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وقليل من الآخرين‫:‬ من أمته المتأخرين‫.‬ ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ١٠] ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ(١٣)وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ(١٤)﴾ تُرى ماذا يفعلون في جنات النعيم؟ ماحالهم؟ وماذا أُعِدَّ لهم؟ وَصْف، واسمع الوصف، والواصف هو الصانع، هو الخالق، هو الذي أَعَدّ ما أَعَدّ. (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) السُّرُر‫:‬ جمع سرير، والسرير معروف‫.‬ تُرى سرير الجنة كسرير الدنيا؟ سرير قالوا فيه إذا أردتَ أن تجلس عليه تواضع ونزل إليك وبعد أن تجلس يرتفع بك‫.‬ قالوا سرير طوله من اليمن إلى الحجاز، وقالوا بل طوله من اليمن إلى الشام‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ (على سرر موضونة) ما معنى موضونة؟ منسوجة بالذهب مشتبكة بالدر والياقوت‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الوَضْن‫:‬ النَّسْج، وَضَنَ يَضِنُ، وقد يُطلَق الوَضْن على الدِّرع، درع موضونة إذا أُحكِم نسجُها ووُضِعت الحلقات ووُصلَت بعضُها ببعض في إحكام وتقارب‫.‬ ولذا قالوا (سرر موضونة) أي موصولة متصلة‫.‬ وقالوا (سرر موضونة) من وَضَن الثوب، يَضِنُ الثوب‫:‬ النَّسْج المركَّب، النسج المحكَم، فالسرر الموضونة هي السرر التي نُسِجَت بالذهب وشُبكَت بالدر والياقوت‫.‬ الخالق للسرر هو الله، والناسج للسرر هو الله، والخالق للذهب هو الله، تُرى كيف أعدّها لأحبابه؟ والإنسان إذا فكّر واستعمل عقله يغيب عن وعيه ويقف ولا يستطيع أن يُكمِل حتى القراءة‫.‬ ولنضرب مثلاً لهذا‫:‬ رجل كبير السن رُزِقَ بولد على كِبَر، يئس من الولد، كَبُرَ سِنُّه ولان عظمه واقترب أجله فرُزِقَ بولد غاية ما يكون في البهاء والجمال والحُسن واكتمال الصحة والأعضاء، والرجل غني شديد الغنى، حنون شديد الحنان، فرح بوليده ماذا يُعِدّ له؟ ذهب إلى البيت وبنى القصر وأعد له ما يسبح فيه، وأعد له الحجرة وزينها، وجاء باللعب وجاء بالسرير، وجعل السرير ليناً هيناً حتى يستريح عليه الطفل، وجاء بالمرييات وجاء بكذا وكذا، كيف يعد له؟ كيف يفرح به؟ كيف يهيئ له أسباب السعادة والرفاهية، كيف وهذا الشيخ محدود في فكره، ذوقه قد يكون غير راقٍ فتختلف الأذواق، إمكانياته المادية محدودة، مهما فعل يخشى من الحسد، ويخشى من العين، بل ومهما دلل طفله خشي من أن يفسده التدليل، فتراجع في بعض الأحيان، فمرة يدلل ومرة يقسو‫.‬ فإذا كان المدلِّل لا يخشى الحسد ولا يخاف من شيء، فإذا كان المدلِّل بهذا هو الغني والقادر والقوي، هو كل شيء، هو الله! فكيف يُدَلَّل هؤلاء؛ أصحاب الجنة المقربون وأصحاب الميمنة؟ وانظر إلى الوصف، والواصف هو الله‫.‬ ﴿ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(١٥)مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(١٦)﴾ وَصْف مُحِب، وصف تشعر فيه بأن الله يحب هؤلاء الناس، يحبهم ويدللهم ويهيئ لهم ما يسعدهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿مُتَّكِئِينَ﴾ يصف جلستهم؛ الاتكاء‫:‬ منتهى الراحة والاسترخاء‫.‬ (متقابلين) فأنت في جنتك تجلس على سريرك يدور بك حيث تدور، يستحيل أن يُرى قفاك ابداً، ويستحيل أن تعطي ظهرك لغيرك، فأنت وأزواجك وأهلك وغلمانك على السرر، تدور السرر فيصبحوا متقابلين في كل الأحوال، ومهما تخيلت إذا دار هذا السرير كيف يدور؟ إذا ظهرك هكذا أصبح القفا في القفا، إذاً لكي يدور هكذا الوجوه متقابلة، إذا دار هذا السرير يُمنة لابد أن يتحرك هذا السرير مرة أخرى ويسير حتى يأتي في مقابلة السرير الآخر، كيف يحدث هذا؟ كيف تصبح السرر متقابلة في كل الأوضاع؟ القادر على هذا هو الذي خلق الجهات، فقبل خلق الإنسان لم يكن هناك جهات، لايمين ولا شمال ولا فوق ولا تحت، إنما خُلِقَت الجهات من هيئة الإنسان، فوقك فوق وتحتك تحت ويمينك يمين، وقد يكون ما في يمينك في شمال غيرك وهكذا، إذاً فربنا (تبارك وتعالى) حين يقول‫:‬ (على سرر متقابلين) وكأن الجهات غير موجودة، كيف؟ هو الله! ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(١٧)﴾ يطوف على هؤلاء المقربين وهم متكئين على السرر ولدان مخلدون‫.‬ الولدان المخلدون‫:‬ قالوا أبناء المسلمين الذين ماتوا في سن صغير قبل التكليف‫.‬ وقالوا بل هم أولاد المشركين قبل التكليف فلا يحاسبوا على كفر آبائهم ولم يعملوا من الحسنات مايجازون به‫.‬ والرأي الأرجح هؤلاء الولدان خلقهم الله خلقاً وأنشأهم إنشاءً من غير ولادة لتنعيم المقربين وأصحاب اليمين‫.‬ ولدان مخلدون لا يهرمون، لا يكبرون، بل هم على أكمل صفة‫.‬ (الولدان): الذين لم يبلغوا الحُلُم، فهم على هذه الصفة لايموتون ولا يهرمون ولا يكبرون، ولدان خُلِقوا كذلك، ونشأوا كذلك وسيبقون كذلك إلى الأبد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وانظر لنفسك إذا رُزِقت بطفل جميل أو كنت جِدَّاً وجاءت ابنتك بطفلة جميلة أو بطفل جميل تحبه، فزُيِّنَ وعُطِّر وزُيِّن بالثياب الجميلة، وجاءك يَخطُر ويناديك، كيف يكون فرحك به؟ فما بالك بما خلقه الله لك من أجل هذا التنعم، لأن الدنيا زينتها المال والبنون، في الجنة لا ولادة، فكيف تشعر بسعادة الأب؟ كيف تشعر بلذة الولد؟ فخلق لك الولدان، خلقهم لك خصيصاً تتنعم بالنظر إليهم، هؤلاء الولدان المخلدون يطوفون على المقربين‫.‬ ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ الأكواب‫:‬ جمع كوب، والكوب مالا عُرى له، لاعروة له‫.‬ والأباريق جمع إبريق، الأباريق لها عُرى ولها خراطيم يُصَب منها ما فيها ماء كان او خمراً وما إلى ذلك‫.‬ وسمي الإبريق إبريقاً للبريق الذي يبدو فيه‫.‬ تُرى ما في الأباريق؟ وهل يصبون من الأباريق في الأكواب؟ أم الأكواب فيها شيء والأباريق فيها شيء آخر؟ (وكأس) والكأس يُطلَق على الكوب إذا كان ملآناً، فإذا لم يكن ملآناً وليس فيه شيء لا يقال عنه كأس‫.‬ الكأس من (معين) عان الماء‫:‬ نَبَع‫.‬ فالكأس من معين أي من ماء نابع من العيون أو من خمر‫.‬ أيضاً عان‫:‬ ظهر للأعين، فهو جارى كالأنهار تُعايَن، معين أي تعاينها الأعين، تراها بالعين، فهو لايخرج من عيون بل هو يجري على سطح الأرض، فهو ظاهر، عانَ الماء‫:‬ ظَهَر، عانَ الماء‫:‬ نَبَع، فهو من معين‫:‬ إما من عيون، وإما من معين‫:‬ أي ماء ظاهر‫.‬ أيضاً معين صيغة فَعِيل، من معين، والمعين‫:‬ الكثرة، فهو كثير لا انقطاع له ولا نفاذ له‫.‬ (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ما الذي في الكأس؟ وما هو هذا المعين؟ يعلمه الله! ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ(١٩)وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(٢٠)﴾ وقُرِأَت ﴿لايصَّدَّعون﴾ بتشديد الصاد، وقُرِأت ﴿يَنزِفون﴾ ﴿يُنزَفون﴾ الصداع يصيب العبد إذا شرب خمر الدنيا، فخمر الدنيا فيها اربع آفات‫:‬ الصداع والقيء والبول والسُّكر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫خمر الآخرة ليس فيها شيئاً من ذلك فربنا يقول‫:‬ (لايصدعون عنها) (عنها) بمعنى باء السببية، أي لا يصدعون بسببها، لايصيبهم صداع بسببها‫.‬ أو لا يُصَّدَّعون عنها من التَصَدُّع‫:‬ التَفَرُّق (لايصدعون عنها) أي لا يتفرقون عنها ولا يقومون عنها مللاً لها أو شبعاً منها‫.‬ (ولا ينزفون) لا تذهب عقولهم النَّزْف‫:‬ نَزْعُ الشيء تدريجياً وإذهابه حتى ينفذ، ونَزَف الرجل الماء من البئر‫:‬ نَزَحَها تدريجياً حتى أذهبها، فالنَّزْف‫:‬ إذهاب الشيء تدريجياً حتى ينفذ، وكأن الوصف يفيد أن الجسمَ ظرفٌ للعقل، كأن الجسم وعاء والعقل فيه، فالجسم ظرف للعقل، والخمر تَنزِف عقل شاربها شيئاً فشيئاً حتى يذهب عقله ولا يبقى منه شيء، تلك خمر الدنيا‫.‬ أما خمر الآخرة فلا يصدعون عنها ولا ينزفون أي ولا تذهب الخمر بعقولهم‫.‬ أو لا تنفذ خمرهم، من نزف الشيء إذا نفذ‫.‬ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إن في الجنة طيراً كأعناق البُخت، البُخت‫:‬ الإبل السمينة، الطير الواحد كعنق الجمل، تَصطف على يد ولي الله في الجنة، فيقول أحدها‫:‬ يا ولي الله رعيتُ في مروجٍ تحت العرش وشربتُ من عيون التسنيم فكُلْ مِنِّي ولا يزلن يفتخرن، أي كل طائر يقول ويقول، فإذا خَطَر في قلبه أَكْلُ أحدها خَرَّ بين يديه كألوان من اللحم لا يشبه بعضه بعضاً فيأكل ماشاء منها فإذا شبع تجمع عظام الطائر وطار."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫إن في الجنة لطيراً، في الطائر منها سبعون ألف ريشة، يقع في صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض، فيُخرِج من كل ريشة لون طعام أبيض من اللبن، وأبرد وألين من الزبد، وأشهى من العسل، كل لون لا يشبه غيره فلا يشبه بعضه بعضاً، فيأكل منه ما شاء ثم يطير الطائر في الجنة‫.‬ نعم! السابقون السابقون أولئك المقربون، أعد الله (تبارك وتعالى) لهم مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهم على سرر موضونة، وَضَنَها الله (تبارك وتعالى) لهم، يُطاف عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين، خمر صنعها الله، ليس فيها من خمر الدنيا شيء من قذرها وقذاها وأثرها السيئ، بل هي خمر حلال جعلها الله (تبارك وتعالى) لهؤلاء الذين تبرأوا من الحرام‫.‬ هم لا يجوعون ولا يعطشون ولا يعرقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يتبولون ولا يتعبون، يأكلون ما شاءوا ويشربون ما شاءوا، وكل ذلك يخرج من أجسادهم رشح كرشح المسك، فهم كالورود في الجنة، كالزهور يُشَمّ شذاها من على بعد كذا وكذا‫.‬ يقول الله في شأن تفكههم مع شربهم الخمر التي لايصدعون عنها ولاهم ينزفون‫:‬ ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(٢٠)وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(٢١)﴾ [سورة الواقعة آية‫:‬ ٢٠-٢١] الفاكهة متخيرة تخيرها الله لهم وخلقها خصيصاً من أجلهم، يتخيرون منها ماشاءوا، والتخير هنا يدل على الكثرة؛ كثرة الأنواع وكثرة الأصناف وكثرة الألوان ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٥] وهيئ لهم أنهم رزقوه من قبل، بل كلما أكلوا ثمرة إذا بها متغيرة في الطعم وفي كل شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ فمهما اشتهى من لحوم فما عليه إلا أن يشتهي فإذا بالطيور تأتيه، مايقع في صفحته ينفض ريشه فينزل اللحم من كل نوع ولون وصنف، ويأتيه الطائر ويقول له‫:‬ رعيتُ في مراعي الجنة وشربت من عيون التسنيم كُل مِنِّي ياولي الله، يتنافسون ويتفاخرون من بين يديه‫.‬ ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ قُرِأت بالرفع والنصب والجر حورٌ عين، وحوراً عيناً، وحورٍ عينٍ. ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ أي ولهم حورٌ عين، ﴿حورا ً عيناً﴾ ويزوجون حوراً عيناً، و ﴿حورٍ عين﴾ معطوفة على جنانِ وأكوابٍ. والحور جمع حوراء، والحوراء لا يُعرَف عنها شيء، كل ما قيل هو شرح اللفظ، الحوراء‫:‬ شديدة البياض في حُسن وجمال وبهاء، الحوراء‫:‬ يحار الطرف في حسنها أين ينظر، الحوراء‫:‬ شدة بياض العين مع شدة سواد الحدق، الحوراء‫:‬ بياض العين مع سواد الجفون، مُكَحَّلة، كحلها الخالق‫.‬ والعِين‫:‬ جمع عَيناء، والعَيناء‫:‬ واسعة العين في جمال‫.‬ ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ إذاً فلن تستطيع أن تصف شيئاً. المكنون‫:‬ المحفوظ، كَنَّ الشيء‫:‬ سَتَره وغطاه‫.‬ واللؤلؤ المكنون‫:‬ محفوظ في أصدافه لا يتعرض لشمس ولا يتعرض لهواء ولا يتعرض لغبار ولم تره الأعين، فهن في صفائهن وبياضهن ونقائهن كاللؤلؤ المكنون صفاءً ونقاءً وبياضاً. ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي هذا الذي وُصِف لنا يجازيهم ربنا (تبارك وتعالى) بما كانوا يعملون، هؤلاء السابقون السابقون‫.‬ ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا(٢٥)إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا(٢٦)﴾ اللغو‫:‬ الساقط من القول، اللغو‫:‬ التافه من الكلام، اللغو‫:‬ ما يُلغى ولا يُلقى له بال، اللغو‫:‬ مالا طائل وراءه من كل كلام، فليس في الجنة لغو‫.‬ (ولا تأثيما) التأثيم مصدر أَثَّم أي قال له أَثِمت، إذا فعل الرجل ما يُؤثَّم، فما يُؤثَّم فاعله غير موجود‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(لا يسمعون فيها لغواً ولا تاثيماً) أي لايشتم بعضهم بعضاً، ولا يسمعون الساقط من القول، ولا يسمعون التافه من الكلام‫.‬ (إلا قيلاً سلاماً سلاماً) قيلاً: بمعنى قولاً. (سلاماً سلاماً) بَدَل من قيلاً، إلا قيلاً سلاماً: أي إلا سلاماً. أو هو وصف لقوله (إلا قيلاً سلاماً) أي قولاً سالماً من العيوب، سالماً من القذى والأذى‫.‬ أو سلاماً سلاماً مفعول (إلا قيلاً) سلاماً سلاماً، يقول بعضهم لبعض سلاماً سلاماً، تسلم عليهم الملائكة، يسلم عليهم الله، قولاً سالماً من كل سوء وعيب ولوم وعتاب، وكُرِّرَت الكلمة (سلاماً سلاماً) لبيان فشو السلام وكثرة السلام وتنوع السلام‫.‬‬‬‬‬‬
وَأَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ ﴿27﴾ فِى سِدْرٍۢ مَّخْضُودٍۢ ﴿28﴾ وَطَلْحٍۢ مَّنضُودٍۢ ﴿29﴾ وَظِلٍّۢ مَّمْدُودٍۢ ﴿30﴾ وَمَآءٍۢ مَّسْكُوبٍۢ ﴿31﴾ وَفَـٰكِهَةٍۢ كَثِيرَةٍۢ ﴿32﴾ لَّا مَقْطُوعَةٍۢ وَلَا مَمْنُوعَةٍۢ ﴿33﴾ وَفُرُشٍۢ مَّرْفُوعَةٍ ﴿34﴾ إِنَّآ أَنشَأْنَـٰهُنَّ إِنشَآءًۭ ﴿35﴾ فَجَعَلْنَـٰهُنَّ أَبْكَارًا ﴿36﴾ عُرُبًا أَتْرَابًۭا ﴿37﴾ لِّأَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ ﴿38﴾ ثُلَّةٌۭ مِّنَ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿39﴾ وَثُلَّةٌۭ مِّنَ ٱلْـَٔاخِرِينَ ﴿40﴾
‫﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ درجة أدنى من درجة السابقين‫.‬ ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ مبتدأ وخبر، والتكرير حدث لتعظيم شأن ما يُجازون به ولرفعة قدرهم‫.‬ وأصحاب اليمين ما أدراك ما أصحاب اليمين ماهم؟ أي شيء هم؟ أصحاب اليمين هم أصحاب اليمين، الميامين على أنفسهم بالطاعة، الذين يؤتون كُتُبَهم بأيديهم، الذين يؤخذ بهم جهة اليمين وكلتا يدي الرحمن يمين، هؤلاء الميامين في سدرٍ مخضود، السدر‫:‬ شجر النبق، والنبْق معلوم معروف ولكن شتان مابين الدنيا وبين الآخرة، بين الزائل والباقي‫.‬ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ مخضود‫:‬ مقطوع شوكها، خَضَدَ الشجرة‫:‬ قَطَعَ شوكَها، فشجر النبق في الدنيا به شوك، أما سدر الآخرة فليس فيه شوك، فهو شجر مخضود‫:‬ أي مقطوع الشوك‫.‬ وقد يكون المعنى (مخضود): تثَنَّت أغصانه من ثقل ما حَمَلت من أصناف الفواكه والثمار، خَضَدَ الغصن فمال وهو رطب طري‫.‬ ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ وقُرِأت ﴿وطلعٍ منضود﴾ وإن كانت تخالف المصحف في الرسم، الطلح‫:‬ شجر الموز، وواحدها طلحة‫.‬ منضود‫:‬ مرتب متراكب، النضد‫:‬ الرَّص، نَضَدَ المتاع‫:‬ وضع بعضه فوق بعض فهو مُركَّب كأن الشجر لاساق له، بل من أسفله إلى أعلاه ثمار مرتبة مرصوصة موضوع بعضها فوق بعض، إذا أخذ الثمرة خرجت غيرها في التو واللحظة حتى لا يختل النظام فهو منضود أزلاً وأبداً. ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ العرب تقول عن كل شيء لانهاية له ممدود، فالظل الممدود هو الظل الممتد الذي لايزول ولا ينتهي ولا يفتر ولا يتغير؛ يقوى ويضعف‫.‬ والجنة ظلّ كلها، قالوا عن الظل هو ظل كما يُرى في الفترة بين الفجر وطلوع الشمس، ليس هناك شمس وبالتالي ليس هناك ظل؛ ظل جدار أو ظل شجرة، وإنما هو ظل طبيعي، ظل ممدود يعم الأرض في الوقت مابين الفجر وطلوع الشمس، فقالوا الظل الممدود يشبه ذلك الوقت‫.‬ وقالوا بل الظل الممدود هو ظل العرش، حيث يُظِلُّ العرش الجنة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقالوا بل الظل الممدود هو ظل الشجر، واستدلوا بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي رواه الترمذي‫:‬ "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(٣٠)وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ(٣١)﴾ سكب الماء‫:‬ أي صب الماء، سكبه سكوباً وانسكب انسكاباً. صُبَّ الماء وصبه‫.‬ (وماء مسكوب) كأن الماء جاري لا تستخدم آلة لرفعه كالدلو وما إلى ذلك، بل هو ماء يجري على وجه الأرض أو يُسكَب لهم أين شاءوا حيث شاءوا، إذا أراد ماءً فإذا بالماء يُسكَب له حيث كان‫.‬ ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(٣٢)لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ(٣٣)﴾ فاكهة كثيرة، والكثرة والقلة في تعبيرنا في هذه الدنيا تتفاوت، فما يقول عنه أحد الناس كثير قد تستقله أنت في عينك فهي مسأله نسبية‫.‬ لكن القائل هنا هو الله الذي لانهاية لفضله وكرمه ومَنِّه ونِعَمه، فإن قال فاكهة كثيرة تُرى كيف تكون كثرتها؟ فالقائل هو الله‫.‬ ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ إذاً فهي لانهاية لها ولاعد لها ولا حصر‫.‬ ﴿لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ أي لا تُقطَع أبداً عن أهل الجنة من أصحاب اليمين، كما تُقطَع فاكهة الصيف في الشتاء وتُقطَع فاكهة الشتاء في الصيف، فهذه الفاكهة ليست مقطوعة، إذاً فهي دائمة مستمرة‫.‬ ﴿وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ لا يُمنَع آكلها بشوك أو بُعد، فالفاكهة قد تكون أمامك ولكن يمنعك عنها الثمن، وقد تكون الفاكهة موجودة وتُمنَع عنك لبُعدِها أو للشوك المحيط بها، ففاكهة الجنة لأصحاب اليمين لا مقطوعة؛ مستمرة دائماً، ولا ممنوعة؛ لا تُقطَع بالأزمان ولاتُمنع بالأثمان فهي إذا أرادها وقت ما أرادها دنت وتدلت قطوفها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ الفُرُش‫:‬ جمع فراش، الفُرُش التي يتكئون عليها كالسرر للسابقين؛ (على سرر موضونة) أما أصحاب اليمين فهم على فُرُش مرفوعة، مرفوعة القَدْر، مرفوعة المقدار، أو مرفوعة المكان فإذا أراد أن يجلس عليها تدانت وتدلت وتواضعت حتى يجلس ثم ترتفع به حيث شاء‫.‬ وقيل الفُرُش هنا كناية عن النساء، فالعرب تسمي المرأه لباس وتسميها فراش، كقول الله تبارك وتعالى‫:‬ ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٨٧] ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ أي الحور، النساء اللاتي هُيِّئْن وخُلِقن لأصحاب اليمين، مرفوعة أقدارهن، فهي نساء مرفوعة في القدر والجلال والجمال والبهاء والحسن‫.‬ ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ تدل على أن الكلام عن النساء والفُرُش كناية عن النساء والكلمة تحمل المعنيين، معنى الفراش ومعنى المرأة‫.‬ ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ ابتدأ الله خلقهن بغير ولادة، فقد خلقهن بغير أب وبغير أم وبغير ولادة، كما خلق آدم‫:‬ كُن فيكون‫.‬ إن كان الأمر كذلك فهن نساء الجنة، هن الحور العين، هن العُرُب الأتراب‫.‬ وقال بعضهم بل الكلام عن نساء الدنيا المؤمنات، التي تموت المرأة منها وهي عجوز شمطاء عمشاء رمصاء، فإن كانت مؤمنة أنشأها الله إنشاءً، خلقاً جديداً. ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(٣٦)﴾ كلما أتاها زوجها وجدها بكراً. ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ عُرُباً بالضم كما في المصحف، وقُرِأت ﴿عُرْباً أتراباً﴾ العُرُب‫:‬ جمع عَروب، والمرأة العَروب‫:‬ التي تتودد إلى زوجها وتعرف كيف تتحبب إليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الكلمة مأخوذة من أعْرب الرجل‫:‬ بيّن ما في نفسه وكان فصيحاً في الكلام فعبّر وبيّن، ومنها العَروب لأنها تبيّن لزوجها مدى الحب ومدى العطف ومدى الحنان، فهي تُحسِن التَبَعُّل لزوجها، فهي تتودد إليه وتلاحظ وتحنو عليه وتحبه وتعرف كيف تبين ذلك بالقول والإشارة والصوت والحركة وكل ما يخطر على بالك ومالا يخطر على بالك، فالذي علمهن ذلك الله‫.‬ خلقهن كذلك عُرُباً أتراباً، (أتراباً): متساويات في السن، أو متساويات في الجمال والبهاء والكمال، أو متساويات في الخلق، أو متساويات في المحبة والمودة فلا غيرة بينهن، لا بغضاء ولاتباغض ولا تدابر ولا تحاسد ولا غيره، فهن جميعاً محبَّبات محِبَّات للأزواج، فللرجل سبعون زوجة من هؤلاء لاتغار إحداهن من الأخرى، كلهن أتراب‫.‬ والأتراب مأخوذه من الترائب، والترائب‫:‬ ضلوع الصدر وأحدها (تِرْب)، ويقال (أتراب) في النساء، ويقال (أقران) في الرجال، فالرجال على سن واحدة ودرجة واحدة يقال فيهم أقران، أما النساء فيقال فيهن أتراب، مأخوذة من الترائب وهي ضلوع الصدر، فهي متساوية في الشكل والحجم، فكذلك نساء الجنة جعلهن الله أتراباً متساويات في كل شيء لاترى واحدة أجمل من غيرها، بل الجمال المتناهي في كل واحدة، والخلق المتناهي في كل واحدة والتحبب والتودد والسن، في كل شيء‫.‬ ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ واللام لام التخصيص، لام الملكية، جعل الله كل ذلك من أجلهم لأصحاب اليمين، وانظر إلى الحنان والعطف والرحمة والنعمة لأصحاب اليمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ(٣٩)وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ(٤٠)﴾ الثلة كما قلنا الجماعة الكثيرة، من ثَلَّ الشيء إذا قَطَعه، فالثُلة‫:‬ الجماعة المنفردة عن غيرها، إن الكلام كما قلنا في أول السورة (ثلة من الأولين) من الأمم السابقة (وثلة من الآخرين) من أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) والرأي في الأرجح أن الثُّلَّتَين من أمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثلة من الأولين؛ ممن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه وآمن به من أصحابه من السابقين في الإسلام والسابقين في أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وثلة من الآخرين؛ من أواخر الأمة من حيث الزمن‫.‬ أيها الأخ المسلم؛ أهل الجنة نصفان؛ نصف أهل الجنة من الأمم السابقة كلها، والنصف الآخر من أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بل نحن شطر أهل الجنة، بل ونشاركهم في النصف الآخر، هكذا قال سيد الأنام (صلى الله عليه وسلم).‬‬‬‬
‫قد ميّز الله الأشياء بضدها؛ فبالظل عُرِفَ الحرور، نعم! وبالأضداد تتميز الأشياء، وكما ذكر الله أحوال السابقين المقربين وثَنَّى بأصحب اليمين، تأتي سورة الواقعة وتحدثنا عن أحوال أصحاب الشمال أعاذنا الله وإياكم من هذا المصير، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬
وَأَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ ﴿41﴾ فِى سَمُومٍۢ وَحَمِيمٍۢ ﴿42﴾ وَظِلٍّۢ مِّن يَحْمُومٍۢ ﴿43﴾ لَّا بَارِدٍۢ وَلَا كَرِيمٍ ﴿44﴾ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ ﴿45﴾ وَكَانُوا۟ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ ﴿46﴾ وَكَانُوا۟ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًۭا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿47﴾ أَوَءَابَآؤُنَا ٱلْأَوَّلُونَ ﴿48﴾ قُلْ إِنَّ ٱلْأَوَّلِينَ وَٱلْـَٔاخِرِينَ ﴿49﴾ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَـٰتِ يَوْمٍۢ مَّعْلُومٍۢ ﴿50﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ ﴿51﴾ لَـَٔاكِلُونَ مِن شَجَرٍۢ مِّن زَقُّومٍۢ ﴿52﴾ فَمَالِـُٔونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ ﴿53﴾ فَشَـٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ ﴿54﴾ فَشَـٰرِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ ﴿55﴾ هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ ﴿56﴾
‫﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ مبتدأ وخبر‫.‬ أو الكلام مكرر للتفظيع، فهناك (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) التكرير للتفخيم والتعظيم، وهنا التكرير للتفظيع والتشنيع، نعم! فقد كانوا مشائيم على أنفسهم، أُخِذَ بهم ناحية الشمال، وأوتوا كُتُبَهم بشمائلهم، وكانوا شؤماً على أنفسهم، فقد خانوها ودلسوا عليها ودسوها‫:‬ (وقد خاب من دساها) كما أفلح من زكاها‫.‬ ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(٤١)فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(٤٢)﴾ السًّموم‫:‬ تُطلَق على الريح الحارة جداً التي تدخل مسام الجسم فتفعل في الجسم فعل السُّم‫.‬ السَّموم هنا مقصود به لفح جهنم وحر جهنم كالسموم الذي يدخل في المسام فيفعل في الجسم فعل السم‫.‬ (وحميم) الحميم‫:‬ البالغ الغاية في الحرارة من ماء أو من غيره، قيل هو صديد أهل النار ما يسيل من الجروح والقروح، وقيل بل هو ماء مغلي‫.‬ وكأنهم إذا استغاثوا من السموم وجدوا أمامهم الحميم كالمستجير من الرمضاء بالنار‫.‬ ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ الظل يوهِم بالاسترواح، معنى الظل كما نفهم في الدنيا إذا أطلقت كلمة الظل تبادر إلى الذهن معنى الاسترواح واللجوء من الشمس إلى الظل والبرد، فربنا يقول عن هذا الظل‫:‬ ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ دخان أسود، واليحموم‫:‬ شديد السواد من الحَمَم وهو شدة السواد، أو الحِمَم وهو الفحم، والعرب تطلق على كل أسود شديد السواد يحموم، فهم في ظل من يحموم‫:‬ دخان أسود، ولكي لايتبادر إلى الذهن الاسترواح، ولنفي ماتوهِم به الكلمة يقول عن هذا الظل‫:‬ ﴿لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾ لابارد‫:‬ أي ليس فيه استرواح ولا برد، فإذا استجاروا من حر جهنم ولجأوا إلى الظل وجدوه من يحموم؛ لابارد ولا كريم‫:‬ لانفع فيه ولاخير فيه، فالكريم هو ما فيه نفع وخير، فهذا الظل لابارد فيه استرواح؛ لايُغني من حر جهنم، ولا كريم؛ لانفع فيه ولاخير فيه لمن يلجأ إليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫نعم! النار سوداء، أرأيتم نار الدنيا؟ حمراء صفراء، لهبها فيه ألوان‫:‬ أحمر وأصفر وأخضر وتضيء بالليل وينتفع بها الناس، حرارتها تتفاوت، أما نار الآخرة فهي سوداء، أرأيتم النار السوداء؟ كيف تكون تلك النار السوداء؟ لاتضيء بل تُظلِم، بل تطفئ أيَّ ضياء، وظلها أسود وأهلها سود ولهبها أسود‫.‬ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ هذا جزاؤهم، وهذا التعليل لِمَ كان هذا مصيرهم‫.‬ (كانوا قبل ذلك) أي في الدنيا، (مترفين) متنعمين مترفهين بالحرام وبالمعاصي‫.‬ تَرِفَ الرجل‫:‬ تنعّم، والتُرفة‫:‬ كل شيء جميل تهديه لصاحبك أو تعده لفرح أو لشيء جميل، والتُرفة والتَّرَف‫:‬ التنعم والتبطر، والمترَف‫:‬ المتنعِّم البَطِر، كانوا في الدنيا مترفين متنعمين متلذذين متفكهين بطرين، إذا راوا الذين آمنوا ورأوا الصالحين إذا هم منهم يضحكون وعليهم يتغامزون ويدّعون أن أولئك هم الضالون‫.‬ ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ الحِنث‫:‬ الذنب، والِحنث أيضاً ضد البِرّ، حَنِثَ في يمينه‫:‬ خلاف بَرَّ في يمينه‫.‬ والحِنث‫:‬ الحُلُم، بلغ الغلام الحُلُم‫:‬ أي بلغ السن الذي يؤاخذ فيها عن ذنوبه ومعاصيه‫.‬ (كانوا يصرون على الحنث العظيم): الذنب العظيم، وليس أعظم من الشرك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أو الحِنث هنا مقصود به الحِنث في اليمين هل كانوا يُقسِمون ويحنثون؟ نعم! ربنا يحكي عنهم ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٣٨] هل بروا في قسمهم؟ ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ﴾ تأكيد لحِنثهم ولذنبهم ولشركهم ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وكَرَّرَ الهمزة ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾: للتأكيد على تكذيبهم وضلالهم وكفرهم بالبعث، كانوا يقولون أذا متنا وكنا تراباً وعظاماً يحيينا ربنا؟ كيف يحيي هذه العظام وكيف ينشئنا مرة أخرى؟ وكيف بعد أن كنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعثون؟ ﴿أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ ﴿أوْءاباؤنا الأولون﴾ بالفتح وبالسكون قراءتان، استبعاد للبعث، أئنا لمبعوثون؟ وكذلك الآباء الذين مضت عليهم قرون في قبورهم؟ استبعاد لأمر البعث وإصرار على الإنكار‫.‬ ﴿قُلْ﴾ الكلام للنبي، يأمره بالرد عليهم تهديداً ووعيداً ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ﴾ من لدن آدم إلى آخر الناس، ﴿لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ واللام في كلمة (لمجموعون) تفيد القَسَم الموجود في المعنى، وكأن الله يرد عليهم بالقَسَم الحق نافياً قَسَمَهم الباطل‫.‬ ﴿لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ﴾ وقت ﴿يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ معلوم لله (تبارك وتعالى) يوم القيامة‫.‬ ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(٥١)﴾ والكلام لأهل مكة ومن كان على شاكلتهم، أيها الضالون عن الهدى المكذبون بالبعث والإعادة ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ وقُرِئت ﴿من شجرة من زقوم﴾.‬‬‬‬‬‬
‫(الزقوم) لا يُعرَف، وإنما العرب تتكلم عن التَزَقُّم‫:‬ أن يأكل الإنسان شيئاً كريهاً في رائحته كريهاً في منظره لا تشتهيه نفسه، فيأكله غصباً فلا يَتَبَلَّعه ولا يَتَبَلَّغه، فلا يجري في المريء، لا يُبتَلَع بسهولة، فهو يتزقمه؛ يتبلَّعه بشدة وكراهة، ذاك هو معنى الكلمة، أما الزقوم فقد وُصِفَ لنا في القرآن‫:‬ ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(٦٤)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(٦٥)﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ٦٤- ٦٥] تلك هي شجرة الزقوم، شجرة خلقها الله في جهنم ولا تُحرَق، إذاً فهي من نار، وطلعها؛ ثمارها، ما يؤكَل كأنه رءوس الشياطين، تشبيه ونحن لم نر الشياطين ولارءوس الشياطين، لكن العرب تتكلم عن كل قبيح مستكرَه تصفه بأنه كرأس الشيطان، فهذه الشجرة شجرة الزقوم يهددهم ربهم ويتوعدهم‫.‬ ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ ﴿مِن﴾ الأولى؛ ﴿مِن شَجَر﴾ إبتدائية، و (مِن) الثانية؛ ﴿مِن زقوم﴾ بيانية، لبيان نوع الشجرة‫.‬ ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ أي من هذه الشجرة، إذاً فهو يأكل مضطراً، رغم قبحها وكراهيتها ونتنها ومرارتها، يأكل رغم أنفه حتى يملأ بطنه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ على الزقوم ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(٥٤)﴾ يسلط عليهم ربنا (تبارك وتعالى) الجوع الذي لا يُعرَف مثاله، فيأكلون من هذه الشجرة حتى يملأون البطون، ثم يسلط عليهم العطش فيذهبون إلى الحميم، يشوي الوجوه! مجرد الاقتراب منه يتساقط لحم الوجه فكيف إذا دخل الأمعاء؟ ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(٥٤)فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(٥٥)﴾ يعرِّف الشرب، فقد يشرب قليلاً، أو يشرب بعض الشيء ويمتنع لشدة حرارة الماء، وإنما يبين لك ربنا (تبارك وتعالى) أنهم يشربون منها شرب الهيم، الهيم‫:‬ الإبل العطاش، يُسَلَّط عليها داء يسمى داء الهُيام، داء الهُيام إذا أصاب الإبل عطشت وتظل تشرب حتى تموت، ولا تروى من الماء أبداً ولايرويها شيء، فتشرب وتشرب حتى تموت، ويُطلَق على البعير (أَهْيَم) إذا أصابه الهُيام، و (هيماء) للناقة إذا أصابها الهُيام، فهؤلاء يشربون من الحميم شرب الهِيم‫:‬ أي الإبل التي أصابها داء الهُيام‫.‬ وقد يكون معنى الهِيم أيضاً: جمع هيام، وهيام‫:‬ الرمل اللين الذي لا يتماسك وينساب من بين يديك، فهم شاربون شرب الرمل، هل يرتوي الرمل؟ هل يبقى فيه الماء؟ هل يتأثر بالماء فتصيبه الطراوه أو اللين أو يُنبِت؟ (فشاربون شرب الهيم) شرب الرمل اللين، أو شرب الإبل التي أصابها داء الهُيام لايرتوون أبداً. ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ (هذا) الذي وُصِف؛ شجر الزقوم، الحميم، يملأون البطون، شاربون شرب الهيم، هذا وَصْفُ نُزُلهم يوم الدين‫.‬ (نُزْلُهم) قراءة بالسكون‫.‬ (نُزُلهم) النُزُل‫:‬ هوما يُقدَّم للنازل أول نزوله، إذا جاءك ضيف غالٍ عزيز فهو نازل عليك، أول شيء تقدمه لهذا الضيف تحية وتكرمة يسمى نُزُلاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(هذا نزلهم) أي مايُقدَّم لهم في أول لقاء، في أول حضور، وسُمِّيَ نُزُلاً تَهَكُّماً بهم، كما قال في موضع آخر‫:‬ ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٣] والبُشرى لا تكون إلا بما يُفرِح، هنا يتهكم بهم ويقول‫:‬ ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ إذا كان هذا هو النُزُل فكيف بما بعد النُّزُل؟ لك أن تتخيل، إذا جاءك الضيف ونزل عليك تقدم له تحية في أول حضوره؛ كوب من الشاي، فنجان من القهوة، شيء من الشراب البارد، ثم بعد ذلك تعد له الطعام والشراب، فهو تحية حتى تستعد لتقديم الطعام الأساسي والشراب الأساسي، فكذلك‫:‬ الشجر من زقوم، والحميم، وهذا الشُّرب؛ شرب الهيم، كل ذلك نُزُل، فما بالنا بما بعد النُزُل؟‬‬‬‬‬‬
‫ثم يقول الله لهم فاتحاً لهم أبواب الرجوع إلى الحق، مبيناً لهم الأدلة على أنه الخالق الواحد الباريء المصور‫:‬ (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) تصدقون بالخلق، هل لم يكونوا مصدقين بذلك؟ بل كانوا مصدقين ولكنهم خلطوا تصديقهم بما يخالف المعنى، فحين سئلوا‫:‬ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [سورة لقمان آية‫:‬ ٢٥] إذاً فقد أقروا بأن الله خالقهم، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٨٧] لكنهم خلطوا ذلك بالشرك فاتخذوا الأصنام والأوثان وزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، فهنا يقول‫:‬ (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) تصديقاً يقينياً فلا تشركوا بالله شيئاً طالما هو الخالق والرازق فلا تشركوا به شيء‫.‬ أو (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) بالبعث، لأن الإعادة أسهل من الابتداء، والله (تبارك وتعالى) ليس في قدرته سهل وعسير‫.‬
وتتوالى الآيات لتدلل على الخالق الباريء المصور، تدلل على قدرته، على البعث والابتداء والإعادة بأربع أمور هن أساس كل شيء في هذه الدنيا‫:‬ خَلْق الإنسان، خَلْق النبات، خَلْق الماء، خَلْق النار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتأتي آيات سورة الواقعة تسوق الدلائل على قدرة الله على الخلق والإنشاء، وعلى قدرته على الإعادة بعد الإفناء، ويأتي في السياق أربعة أمور‫:‬ خَلْق الإنسان، وخَلْق طعامه، وخَلْق شرابه، ثم خَلْق النار، والتي بها يُتَوَصَّل إلى أمور كثيرة، هي الحياة بنفسها وبذاتها، يقول الله بعد السؤال‫:‬ (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)؟‬‬‬‬
نَحْنُ خَلَقْنَـٰكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴿57﴾ أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿58﴾ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلْخَـٰلِقُونَ ﴿59﴾ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾
‫﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ والمنيُّ معروف، وهو السائل الذي يقذفه الرجل بعد الجماع، وسُمِّيَ مَنِيَّاً لأنه يُصَبّ ويُراق‫.‬ أو سُمِّيَ مَنِيَّاً لأنه فيه التقدير، حيث قَدَّرَ الله قَدْرَه ومقداره، وقَدَّرَ منه الخَلْق‫.‬ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ أو (ما تَمنون) قراءة، وكلنا رآه، وما من بالغ مُكَلَّف إلا رآه، والخطاب للمكلَّفين، كلنا رأى هذا، نطفة مذرة لا تتماسك، لاحياة فيها، يقذفها الرجل ولايبالي أين قذفها وكيف قذفها، وتُقذَف بالجماع، وقد تُقذَف بالاحتلام، لا إرادة له فيها ولا تقدير له فيها، فمقدارها قدّره الخالق‫.‬ هذه النطفة إذا رُئيت تحت المجهر وُجِد فيها عالم، آلاف بل مئات الآلاف بل ملايين من الأشياء الدقيقة التي تشبه ورق الشجر تسعى وتتحرك وكلها حياة، وتتفاوت في الحياة في بعضها عن البعض، بل وتتفاوت المقادير وقدرة هذه الحيوانات على الحياة من رجل لآخر دون إرادة منا، هذا هو الإنسان‫.‬ ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ تُصوِّرونه فتجعلون منه الذكر والأنثى والأبيض والأحمر والأسود والطويل والقصير والعالِم والجاهل والمؤمن والكافر؟ ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ هو الله! هو الله الذي يصوركم في الأرحام كيف شاء، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يحول المضغة إلى عظام ثم تُكسى العظام لحماً. ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ وقرأت ﴿قَدَرْنا﴾. ﴿قَدَّرنا بينكم الموت﴾: قضينا عليكم الموت‫.‬ ﴿قَدَرنا بينكم الموت﴾: سوّينا بينكم في الموت، بل سوّينا بين أهل الأرض وأهل السماء، فكل من عليها فان‫.‬ (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) إذاً فالمميت هو الله، والخالق هو الله، ومن قَدَرَ على الابتداء وقدر على الإفناء، قَدَرَ بعد ذلك على الإنشاء‫.‬ ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾: ما نحن بمغلوبين، سَبَقَ: غَلَب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫لا يَتَقَدَّم مُتَأَخِّر، ولا يَتَأَخَّر مُتَقَدِّم ولكل أجلٍ كتاب، فما من نفس يجيء أجلُها إلا وتستوفي أجلَها‫.‬ (وما نحن بمسبوقين): لا يسبقنا شيء ولا يتأخر عنا شيء، كُنْ فيكون‫.‬ ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ نُبَدِّل خلقاً آخر، نخلق أناساً آخرين، ونحن نرى الدنيا؛ أناس تموت وأناس تولد وهكذا، قرون تزول وقرون تنشأ، إنسان يولد وإنسان يموت، ربنا يُبَدِّل، والأرض هذه التي نحيا عليها كم رأت وكم عاش عليها أناس، أين هم؟ ذهبوا وجاء غيرهم، وغداً نذهب ويأتي غيرنا‫.‬ (على أن نبدل امثالكم) أشباهكم‫.‬ أو (نبدّل أمثالكم): نبدّل صُوَرَكم، والاية قد تكون تهديد شديد ووعيد للمكذبين الضالين، فربنا يقدر أن يبدل أمثالهم بمعنى أن يجعلهم قردة وخنازير كما مُسِخَ من كان قبلهم، حيث قال لهم ربهم حين كذّبوا‫:‬ كونوا قردة وكونوا خنازير‫.‬ ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فربنا (تبارك وتعالى) يقدر على أن ينشئ الإنسان بعد الموت فيما لايعلم من حيث الصورة، من حيث المكان، من حيث الهيئة والمقدار، (ننشئكم): النشأة الأخرى أو حياة البرزخ‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من حيث الصورة، من حيث التركيب، من حيث المكان، فمن الناس من أنشأهم الله بعد الموت نشأة أخرى كالشهداء؛ جعل الله أرواحهم في حواصل طير خُضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها، تلك صورة أنشأ الله الشهداء فيها، وهكذا يستطيع ربنا (تبارك وتعالى) ويقدر أن ينشئ الناس بعد الموت في نشأة لا يعرفونها، ونحن فعلاً لا نعرف النشأة بعد الموت، فحياة البرزخ سر لم يصل إليه إنسان إلا من مات، وحين نموت نعرف ساعتها ما هي حياة البرزخ، وكيف يكون الإنسان بين الدنيا والآخرة، هذه الفترة بين وفاته إلى أن يُبعَث، أين يكون؟ وفي أي شيء يكون؟ وفي أي مكان يكون؟ وفي أي جو يكون؟ وفي أي صورة يكون؟ فهو لا يفنى بعد الموت؛ إما مُعَذَّب وإما مُنَعَّم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار، ربنا يقول‫:‬ ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿النَّشاءة الأولى﴾ قراءة‫.‬ نعم! عَلِمنا النشأة الأولى، رأينا النطفة كيف تحولت إلى علقة؟ كيف تحولت إلى مضغة، أين كنت أيها الإنسان؟ حين كنتَ في النطفة أكنت تشعر بنفسك؟ ألم تكن نطفة من منيّ يمنى؟ بلى حدث! قذفك أبوك في لحظة لذة؟ حدث ولكنك لا تشعر ولا تدري، بل كنتَ نطفة إذا بك في رَحِمِ الأم تتحول من طَور إلى طَور، ومن خَلْق إلى خَلْق، عَلِمنا هذه النشأة‫.‬ ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ لولا حرف تحضيض بمعنى (هَلَّا)؛ هَلَّا تَذَكَّرون؟ من قدر على النشأة الأولى يقدر على النشأة الأخرى‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫وينتقل الكلام بعد ذلك إلى مافيه دوام الحياة، ها وقد خَلَقَنا الخالقُ سبحانه، وقَدَّر بيننا الموت، وهو يقدر على أن يبدل أمثالنا وينشئنا فيما لا نعلم، ولكن استمرار الحياة بيده أيضاً، فهو خالق الحياة وبيده استمرار الحياة بما جعل لنا من أسباب ووسائل منها الطعام والشراب والنار‫.‬‬‬‬
أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿63﴾ ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ﴿64﴾ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـٰهُ حُطَـٰمًۭا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿65﴾ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿66﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿67﴾
‫﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ الحَرْث في الأصل‫:‬ تسوية الأرض وتمهيد الأرض وتهيئة الأرض لبذر الحب، عُبِّرَ عن بذر الحب هنا بالحرث، (أفرءيتم ما تحرثون): أفرءيتم ما تبذرون من حبوب‫.‬ ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (تزرعونه): تُنبِتونه، فالزارع والحارث يضع الحب في الأرض، حيثما وُضِعت الحبة وكيفما وُضِعت الحبة؛ مقلوبة، معدولة، على جنبها، كيفما اتُّفِق، يُبذَر الحب، ليس مستوياً في بَذرِه ومع ذلك يخرج من الحبة فرعان؛ فرع ينزل إلى الأرض، وفرع يخرج إلى الهواء، ولا يمكن أن يُعكَس الوضع أبداً، تُبذَر الحبة ومع ذلك ينزل الجذر إلى أسفل ويخرج الساق إلى أعلى‫.‬ (أءنتم تزرعونه) تُنبتونه، تُخرجون سنابله، تُخرجون أوراقه وثماره وفروعه أم نحن الزارعون؟ ولذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال‫:‬ "لا يقولَنَّ أحدُكم زرعت وليقل حرثت فإنما الزارع هو الله". والنهي هنا نهي إرشاد وليس نهي تحريم وإيجاب، لأنه يطلق على الحارث الذي يبذر الحب زارع تجوزاً، وقد جاءت في القرآن في قوله (تبارك وتعالى): (يعجب الزُّرَّاع) فقد يطلق اللفظ تجوزاً، لكن الحقيقة الزارع هو الله، فإن قلتَ أن فلاناً زارع بمعنى أنه يمهد ويسوي الأرض كي يخرج منها الزرع لا أنه هو يزرع لأن الزارع هو الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ متفتتاً متكسراً متيبساً هشيماً لانفع فيه، لأنه هو الزارع فإن شاء أخرجه زرعاً يانعاً مثمراً، وإن شاء جعله حطاماً، لذا أوصانا شيوخنا إذا زرعنا زرعاً أن نتلو هذه الآية‫:‬ ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(٦٣)أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ()لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ(٦٧)إِنَّا لَمُغْرَمُونَ(٦٧)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(٦٧)﴾ بلى ربنا (تبارك وتعالى) هو الزارع والمنبِت والمبلِّغ، اللهم صلِّ وسلم على محمد، اللهم ارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لنعمك من الشاكرين ولآلائك من الذاكرين وبارك لنا فيه يارب العالمين‫.‬ فإن قال الزارع ذلك بورِك له في زرعه ويستحيل أن تصيبه آفة، وإن جاء الجراد تجاوزه ولم ينزل عليه، وإن جاءت الآفة أُهلِكَت قبل أن تصل إليه، فكل زارع يقرأ الآية ثم يُقِرُّ بأن الزارع هو الله، ثم يسأله ثمره ويسعيذ من ضرره ويسأله البركة ويصلي على سيد الخلائق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ (فظللتم) وحُذِفَت اللام الأولى تخفيفاً. (فظلتم تفكهون) أصل التفكه من فَكِهَ الرجل إذا كان طيب النفس مَزَّاحاً. أيضاً التَفَكُّه‫:‬ التَنَقُّل بأصناف الفواكه، استُعير للتنقل في الحديث؛ أن تنتقل من شيء إلى شيء إلى شيء في الحديث، بعد أن كان في الأصل التَفَكُّه‫:‬ الأكل من الطعام صنف وراء صنف والتنقل بين هذه الأصناف، فأصبحت تُعَبِّر عن التَفَكُّه في الحديث‫:‬ بمعنى التَنَقُّل في الحديث، تُرى كذا أو تُرى كذا، فربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ لجعلنا الزرع بدلاً أن يكون يانعاً يافعاً مثمراً نافعاً لجعلناه حطاماً. (فَظَلْتُمْ) أصحاب الزرع، ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ تندمون، تتحدثون متلاونين، تعتقدون وتظنون بأنفسكم أنكم معاقبون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ المغرَم‫:‬ الهالك، من الغرام‫:‬ وهو الهلاك‫.‬ أو المغرَم‫:‬ من ضاع ماله دون عوض ومنه الغُرْم، المغرَم من الناس‫:‬ من ذهب مالُه بغير عوض‫.‬ (إنا لمغرمون) لَزِمَنا الغُرم بما أنفقنا في الأرض من إصلاح وتسوية وبَذْر ورَيّ وما إلى ذلك، وذهب كل ذلك هباءً منثوراً. أو (إنا لمغرمون) من الهلاك، هلكنا بهلاك زرعنا وهلاك أقواتنا وهلاك أموالنا‫.‬ وقُرِأَت (أئنا لمغرمون) بصيغة الاستفهام‫.‬ ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ هكذا هو التَفَكُّه في الحديث، تُرى أهم مغرمون؟ ترى أهم محرومون؟ هكذا يتلاومون ويتندمون وهكذا‫.‬ ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ والمحروم ضد المرزوق، فلان مرزوق رزقه الله، فلان محروم لم يرزقه الله قَتَّر عليه أو قَدَّر عليه‫.‬ (بل نحن محرمون): أي محرومون من الزرق‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ ﴿68﴾ ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ ﴿69﴾ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجًۭا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾
‫﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾ وجاء بالماء عقب الطعام لأن الطعام يلزمه ماء، والأكل مقدم على الشرب‫.‬ (أفرايتم الماء الذي تشربون) هذا الذي نزل، هذا الذي نبع من الأرض، من الآبار والأنهار، الزُّلال العذب السائغ شرابه‫.‬ ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ المُزن‫:‬ السحاب، واحدها مُزنة‫:‬ سحابة، والسحاب الأبيض على وجه الخصوص‫.‬ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزِلون؟ من الذي ينزِل المطر من السحاب؟ هو الله! أنت ترى السحاب ولا تدري من أين جاء ولا إلى أين يذهب وهل يمطر أم لا، ثم ينزل منه المطر، المنزِل هو الله‫.‬ (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) كما أنزله عذباً فهو يستطيع أن ينزله مِلحاً مُرَّاً. الأُجاج‫:‬ المِلح المُرّ، وسُمِّيَ أُجاجاً من الأَجيج، والأَجيج‫:‬ تَلَهُّب النار وتَوَقُّد النار، لأن الماء المالح إذا شربه الإنسان زاده عطشاً، لا يُذهِب العطش ولا يَروي بل يؤجج العطش، فسمي أُجاجاً يُلهِب العطش ويُلهِب الشفاه‫.‬ ﴿فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ فهَلَّا تشكرون الله الذي أنزل لكم الماء بغير جهد منكم ولاجهد ولا مال ولا نفقة ولا مسألة؟ بل نزل الماء من الله، فلولا تشكرون؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَرَءَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى تُورُونَ ﴿71﴾ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِـُٔونَ ﴿72﴾ نَحْنُ جَعَلْنَـٰهَا تَذْكِرَةًۭ وَمَتَـٰعًۭا لِّلْمُقْوِينَ ﴿73﴾
تورون‫:‬ توقِدون‫.‬ العرب تُوقِد النار بالقَدْح، هناك شجر يَنبُت في البوادي، يُقدَح الفرع بالفرع قطعة من هذا وقطعة من هذا تُقدَح، العُليا تسمى الزَّنْد والسُّفلى تسمى الزَّندة والجمع الزِّناد، فإذا حُكَّ بعضه ببعض خرج الشرار فأوقد النار في الشجر الأخضر، والذي خلق النار من الشجر الأخضر الرطب هو الله! (أفرأيتم النار التي تورون): تقدحونها وتقدحون زنادها؟ ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ شجرة النار هي الشجرة التي تُقدَح فيخرج منها النار، قال المفسرون ذلك‫.‬ ويمكن أن تكون شجرة النار هو أصل النار، من أين نشأت وكيف توجد النار؟ الإنسان لا يصنعها وإنما تشتعل، الإنسان يستطيع أن يُوَلِّد بدايتها وهو الشرر، قَدْحُ الزناد يُخرِج الشرر ثم تشتعل الأشياء، أأنتم أنشأتم الشجرة التي توقَد أو الشجرة التي يُقدَح منها الزناد أو أصل النار والتي لاندري عن كُنهِها شيئاً، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون؟ أم نحن المخترعون المبتدئون الخالقون؟ ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ (جعلناها تذكرة): تبصرة، فبالنار تُبصِر طريقك في الظلام‫.‬ والتذكرة أيضا تذكرك بنار الآخرة، ونار الدنيا جزء من سبعين جزء من نار الآخرة‫.‬ وقد يُصاب الإنسان بحرق بسيط وبمجرد أن تلسعه النار يتذكر‫:‬ إذا كان هذا حالي بلسعة لا تستغرق ثانية، لا تستغرق لمحة، فكيف بنار جهنم؟ فنار الدنيا تذكرة‫.‬ ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ نفعاً وانتفاعاً. (للمُقوين): المسافرين، أقوى الرجل‫:‬ خَرَج إلى القَواء، القوى والقواء والقِيّ: الأرض الخلاء التي لا أنيس فيها، القفر، الصحراء، المفازة‫.‬ و (أقوى) كلمة من الأضداد؛ (قَوِيَ) الرجل‫:‬ قويت دوابه وكثر ماله، (أقوى) الرجل‫:‬ افتقر وكأنه خرج إلى القَواء وأصبح خالياً من الزاد والمال والأعوان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ إنتفاعاً للمسافرين في القَواء، تصرف عنهم الذئاب وتصرف عنهم الوحوش، ولا يمكن أن يسافر المرء في الخلاء وينام إلا أن يوقد النار، لأنه لو لم يوقد النار لجاءته السباع الضارية فافترسته‫.‬ النار هي أساس الصناعات، ولو نظرت الآن في جميع الصناعات الموجودة، فالحديد يلزمه النار، وجميع المعادن التي صُنِعَت منها الأشياء يلزمها النار، حتى البناء؛ الأحجار والطوب واللبِن يلزمه النار، والفخار والآنية يلزمها النار، كل شيء مصنوع لابد من النار لتسويته‫.‬ فكذلك ربنا (تبارك وتعالى) ذكر الطعام وذكر الماء وبهما الحياة، وذكر النار وهي سبب رئيسي وهام في وسائل الانتفاع بكل ما سخر لنا في هذه الأرض، فبدون النار لن توجد الصناعات، وبدون النار لا يُطهى الطعام، وبدون النار لا يمكن أن يرتقي الإنسان إلى أفضل مما هو عليه‫.‬‬‬‬‬‬
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ ﴿74﴾
بعد ذكر هذه الآيات والدلائل أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وأُمِرنا معه أن ننزه الله (تبارك وتعالى) عن كل مالا يليق بجلاله وكماله مما وصفه به الجاحدون والمنكرون والكافرون‫.‬ أيضاً أًمِرنا أن نشكر الله (تبارك وتعالى) على نعمه وآلائه التي ذكرها لنا؛ هو الزارع، هو المطعِم، هو الساقي، هو الخالق، هو المميت، هو المحيي، هو القادر على كل شيء‫.‬ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قد تكون الباء زائدة‫:‬ (فسبح اسم ربك)، وقد تكون المعنى‫:‬ فاذكر اسم ربك أو اذكر ربك (تبارك وتعالى) والاسم كلمة مُقحَمة، والاسم والمسمى معاني، ولكن حين نزلت‫:‬ (فسبح باسم ربك العظيم) قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوها في ركوعكم" فأصبحنا نقول في الركوع‫:‬ سبحان ربي العظيم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌۭ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُۥ لَقُرْءَانٌۭ كَرِيمٌۭ ﴿77﴾ فِى كِتَـٰبٍۢ مَّكْنُونٍۢ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ ﴿79﴾ تَنزِيلٌۭ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿80﴾
‫﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ (لا أقسم): بمعنى أُقسِم، و (لا) هنا مزيدة للتأكيد‫.‬ أو (لا) هنا على عادة العرب في الحلف والقَسَم، يبدأ بالنفي، أي نفي ماسوى المقسَمْ عليه، فتقول‫:‬ لا وأبيك الأمر كذا وكذا وكذا، لا والله، فكأنه ينفي سوى ما أقسم عليه‫.‬ (فلا أقسم) نفي لكلامٍ سبق؛ هو كلامهم، هو إنكارهم للبعث، إنكارهم للإعادة، إنكارهم للإنشاء‫.‬ (فلا أقسم) إذاً فهو نفي للكلام السابق ثم استأنف وقال (أُقسِم) ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾. وقال بعضهم (لا) للتنبيه لأهمية الكلام القادم، كقوله‫:‬ ألا هل بلّغت، للتنبيه لأهمية الكلام وأهمية القَسَم وما أُقسِمُ عليه‫.‬ وقال بعضهم (لا) للنفي – نفي القَسَم- (فلا أقسم): أي أن الأمر أوضح من أن أُقسِم عليه، الأمر غير محتاج لقَسَم، فها أنتم تشاهدون بأنفسكم الخلق والإماتة والإحياء والزرع والإنبات والتحوّل والإفناء والإعادة، ها أنتم تشاهدون كل ذلك فالأمر غير محتاج لقَسَم عليه رغم أن القَسَم عظيم‫.‬ والرأي الأرجح أنه قَسَم ولله أن يقسم بما شاء على ما يشاء‫.‬ وقد قُرِأَت ﴿فَلَأُقسم﴾ بموقع النجوم، وقُرِئت (بمواقع النجوم). الموقِع والمواقِع‫:‬ الغروب‫.‬ وَقَع النجم‫:‬ غَرَب، سَقَط‫.‬ فلا أُقسِم بمساقطها ومغاربها، واختص المغارب والمساقط لأن بغروب النجوم وسقوط النجوم يظهر لك زوال أثر النجوم من ضياء وإرشاد وهداية، وزوال الأثر يدل على وجود المؤثِّر، والمؤثِّر هو الله الذي لا يتأثَّر، يُحوِّل ولا يَتَحَوَّل ويُغَيِّر ولا يعتريه تغيير، فأقسم بمواقع النجوم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ (وإنه): ذاك القَسَم، (لو تعلمون) بعِظَم هذا القَسَم، والخطاب لأمة أمية، نعم عَلِموا بمواقع النجوم واستدلوا بها على الأماكن والاتجاهات واهتدوا بها في أسفارهم، لكنهم لم يعلموا ما عُلِمَ اليوم من أعداد لا عَدَّ لها ولا حصر من النجوم والمجرات والأحجام والأشكال والأصناف والأنواع وما إلى ذلك، وربنا يعلم ما خلق، من هنا يقول‫:‬ ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾. ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ إذاً فهو ليس بسحر ولا بشعر ولا بكهانة ولاأساطير الأولين كما زعمتم، وسُمِّيَ القرآن كريماً لأنه كلام رب العالمين، ولأنه مليء بالمنافع والفوائد في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ولأنه يُكَرَّم حافظه ويُعَظَّم قارئه‫.‬ (إنه لقرآن كريم): أي غير مخلوق، غير مُفترى‫.‬ ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ (مكنون): مصون، هو اللوح المحفوظ، مصون عن التبديل والتغيير، مصون عن أن يمسه غير المطهَّرين‫.‬ ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ الصحف المكرمة بأيدي سفرة كرام بررة‫.‬ ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ إذا كان الكلام عن اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهَّرون‫:‬ الملائكة المطهَّرون من الشهوات ومن الذنوب ومن المعاصي ومن كل شيء، فقد خلقهم الله (تبارك وتعالى) أطهاراً، الملائكة الحَفَظَة الحَمَلَة الذين بأيديهم الصحف المطهرة‫.‬ أو المطهَّرون الذين ينزلون به مُنَجَّماً على الرسل الذين نسخوه من اللوح المحفوظ إلى الصحف‫.‬ أو الكلام عن المصحف الذي بأيدينا، والكلام إنباء بالغيب، فلم يكن إذ ذاك مصاحف، لم تكن هناك مصاحف حين نزلت الآية، والآية إخبار بالغيب عن القرآن، (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون): المصحف، مكنون‫:‬ مصون من التبديل والتحريف والتغيير كما أُنزَل‫.‬ ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ المتوضئون الطاهرون من الأحداث والأنجاس‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقد اختلف العلماء في مسألة مس المصحف، فقال بعضهم لا يمس المصحف إلا طاهر واستدلوا بحديث للنبي (صلى الله عليه وسلم) قال فيه‫:‬ "لايمس المصحف إلا طاهر". وقال بعضهم بل يمسه غير الطاهر ولكن يمسكه بعُلَاقة أو بحاشيته ولا يضع يده على الكتابة أو بغلاف أو على وسادة‫.‬ وقال بعضهم بل يمسه الطاهر والمحدِث والكافر واستدلوا بكتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) لقيصر، حيث أرسل لقيصر وقال فيه‫:‬ (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) فهي آية، فكيف أرسلها لكافر ولمشرك؟ وقال بعضهم بل لايصح مس المصحف مطلقاً إلا لطاهر متوضئ طاهر من الحدثين الأكبر والأصغر، وأجازوا المَسّ للمتعلِّم والمعلِّم على غير وضوء لكن يكون طاهراً من الحدث الأكبر، وقالوا عن الغلمان الصغار يمسه الغلمان حتى يحفظوه‫.‬ ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي نزل هذا القرآن من الله (تبارك وتعالى) رب العالمين الذي خلق العوالم وخلق أسباب الحياة والإيجاد واستمرار الوجود لهم، لم يفتريه محمد (صلى الله عليه وسلم) ولم يختلقه من تلقاء نفسه، تنزيل من رب العالمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴿81﴾ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴿82﴾
‫﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ مدهنون‫:‬ مكذبون‫.‬ الإدهان في الأصل‫:‬ أن يدهن الرجل الجلد – الأديم- بشيء من الدّثهن فيصبح أملساً. عُبِّر بالمدهِن عن المنافق لأنه يُلين جانبَه فيُظهِر غير ما يُخفي، يُخفي الكفر ويُظهِر الإسلام، وكل من ألان جانبه ليُخفي ما يُبطِن فهو مُدهِن، فالمداهنة‫:‬ المداراة، الممالأة، المداهنة‫:‬ التهاون في الأمر وعدم التصلب فيه، يصبح أملساً، ينزلق عليه الشيء، فكذلك يقول الله لهم‫:‬ (أفبهذا الحديث) بهذا القرآن وبهذا الكلام أنتم مدهِنون مكذبون ممالئون متهاونون في خطورته وفي شأنه؟ ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ الرزق‫:‬ الشُّكر، وعُبِّرَ عن الشُّكر بالرزق لأن الشكر سبب للرزق ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [سورة إبراهيم آية‫:‬ ٧] فإن شكرتَ جاءك الرزق ودِيمَ عليك‫.‬ قيل عن الآية أنها في شأنهم حين مُطِروا قالوا مُطِرنا بنَوء كذا وكذا، والآية عامة‫.‬ (تجعلون رزقكم): شُكرَكُم على رزق الله لكم؛ الطعام الذي ذُكِر أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ والماء والنار والخَلْق وكل شيء، تجعلون شُكرَكم على هذه النِّعَم والآلاء أنكم تَكذِبون على الله أو تُكَذِّبون بالقرآن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَلَوْلَآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ ﴿83﴾ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍۢ تَنظُرُونَ ﴿84﴾ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴿85﴾ فَلَوْلَآ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴿86﴾ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿87﴾ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴿88﴾ فَرَوْحٌۭ وَرَيْحَانٌۭ وَجَنَّتُ نَعِيمٍۢ ﴿89﴾ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ ﴿90﴾ فَسَلَـٰمٌۭ لَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ ﴿91﴾ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ ﴿92﴾ فَنُزُلٌۭ مِّنْ حَمِيمٍۢ ﴿93﴾ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴿94﴾ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ ﴿95﴾ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ ﴿96﴾
وهنا يتوجه الخطاب لكل الناس بأمرٍ لاشك فيه ولا مراء ألا وهو الموت‫.‬ والموت حق، ومن أراد واعظاً فالموت يكفيه‫.‬‬‬‬‬
‫تُختَم سورة الواقعة ببيان النهاية وبإلزام الناس الحُجة ولا سيما المكذبين منهم‫.‬ ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ (لولا) كما قلنا كلمة تحضيض بمعنى (هَلَّا)، ما هو المطلوب إذا بلغت الحلقوم؟ الروح، النفس‫.‬ والحلقوم‫:‬ آخر العنق عند مجتمع العنق بالصدر، بعظام الترقوة، ومَلَك الموت له أعوان يأتون لمن كُتِبَ عليه الموت فيقطعون من العروق، ويجمعون النفس أو الروح من أطراف أصابع قدميه، ويسحبونها شيئاً فشيئاً من جميع أجزاء الجسد حتى تجتمع عند الحلقوم فيُغَرغِر، هنا يقبضها ملك الموت‫.‬ (لولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون): حول الميت حول المحتَضَر، أهله، أولاده، زوجته، أصحابه، أطباؤه‫:‬ فللطبيب عِلمٌ يدلي به ما دام في أجل الإنسان تأخيرُ حتى إذا انقضت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقيرُ. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) والميت في النَّزع، والمحتَضَر يُغَرغِر وأنتم حوله لاتملكون له شيئاً ولاترون شيئاً ولا تدرون ماذا يُصنَع به ويُفعَل به، وهو لا يتكلم؛ زاغ منه البصر وارتعدت منه القدمان وتراخت اليدان وهاهو في النزع الأخير‫.‬ ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ(٨٤)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ(٨٥)فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(٨٦)﴾ تأكيد للأولى، (فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي‫:‬ فَهَلَّا‫.‬ ﴿إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ غير مجزيين، غير مُحاسَبين، (والحياة نموت وتحيا وما يهلكنا إلا الدهر) كما تقولون وتزعمون‫.‬ أو (مدينين) بمعنى مقهورين، مربوبين، من دَانَهُ: أَذَلَّهُ وقَهَرَهُ واستعبده‫.‬ ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ مقهورون من الله، تحت سلطانه، في قبضته وقدرته‫.‬ ﴿تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ترجعون الروح إلى مكانها فلا تخرج، بل تعود إلى ما كانت عليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتنقسم الناس إلى درجات؛ ثلاث درجات ذُكِرَت في أول السورة وهاهي تُذكَر مرةً أخرى في آخر السورة‫.‬ ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ والمقربون هم السابقون، (والسابقون السابقون، أولئك المقربون)، إن كان الميت من المقربين‫:‬ ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ الرَّوح‫:‬ الراحة، الرَّوح‫:‬ الاستراحة، راحة من الدنيا، هو سعيد بأن يترك الدنيا وما فيها، استراح منها الراحة الأبدية‫.‬ ﴿رَوْحٌ ورَيحان﴾ رِزق، يُطلَق على الريحان رِزق، فهو راحة من عناء الدنيا ومكابدته فيها، لاعبادة ولا تكاليف ولا مشقة ولا جوع ولا عطش، رَوح‫:‬ راحة، وريحان‫:‬ رزق، وبعد ذلك جنة نعيم يُنَعَّم فيها‫.‬ وقُرِأَت‫:‬ ﴿فرُوحٌ وريحانٌ وجنةُ نعيم﴾ الرُّوح‫:‬ الرحمة، وسُمِّيَت الرحمة رُوحاً لأنها للمرحوم كالرُّوح للحي بها يحيى، فرُوح‫:‬ رحمة‫.‬ وريحان‫:‬ يأتيه ملك الموت بغُصنَين من الريحان، من ريحان الجنة فيُسَلِّم عليه ويقدم له غصن الريحان يشمها المقرَّب، وبشمه لها يُقبَض في الريحان رُوحُه، فتخرج الروح إلى الريحان وتبقى فيها إلى حيث يشاء الله‫.‬ ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(٩٠)فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(٩١)﴾ بمعنى يا أيها السامع، يا من تعي وتفهم وتعقل وتؤمن، سلامٌ لك من أصحاب اليمين، هم يسلمون عليك‫.‬ أو سلام لك يا محمد مِن أصحاب اليمين، فهم يصلون ويسلمون عليك‫.‬ أو (سلام لك) أي لا تغتم بشأنهم ولا تهتم، فهم في كذا وكذا، ما من شيء تحب أن تراه فيهم إلا ورأيتَه من حُسن وبهجة وسلامة من الآفات، سلامة من الذنوب والمعاصي والعيوب، سلامة من كل شيء‫.‬ أو هو سلامٌ لك يا صاحب اليمين إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك أنتَ من أصحاب اليمين، هكذا يقال له، يأتيه ملك الموت ويقول له ربك يُقرؤك السلام، سلامٌ لك وسلامٌ عليك، وتُقبَض رُوحُه في سلام وبسلام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ﴾ وهم أصحاب الشمال، ذَكَرَهم في أول السورة‫:‬ أصحاب الشمال، وفي آخر السورة‫:‬ ذكرهم بأفعالهم وأعمالهم زجراً عن هذه الأفعال وإشعاراً بأن أفعالهم كانت سبباً لسوء مصيرهم‫.‬ وأما إن كان من المكذبين بالنبي (صلى الله عليه وسلم) مكذبين بالبعث الضالين عن الهدى‫.‬ ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ والنُزُل ما يُقَدَّم للنازل، التكرُمة الأولى للضيف، إذا نزل عليك أول ما يُقَدَّم للضيف، وهذا الكلام تهكم بهم، كقوله‫:‬ ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٣٤] هؤلاء إن كانوا من أصحاب الشمال والعياذ بالله نُزُلٌ من حميم، حين تُقبَض الأرواح يضربون وجوهَهم وأدبارَهم ويُقَدِّمون لهم شيئاً من الحميم ويقولون ذوقوا عذاب الحميم‫.‬ ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(٩٤)﴾ النُّزُل من الحميم، الإكرام لهم من الحميم، أول ما يشربون حين ينتقلون إلى حياة البرزخ يشربون من الحميم، لايشمون الريحان ولارَوح ولارَيحان ولاسلام، بل نزلٌ من حميم وتصلية جحيم، التصلية‫:‬ إدخال الشيء النار، صَلَاهُ النار وأَصْلَاهُ: أَدْخَلَهُ النار يصلاها‫.‬ ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ إذاً يقذفونهم إلى الجحيم، أو يجعلون قبورهم قطعة من الجحيم‫.‬ ﴿إِنَّ هَذَا﴾ ما قُصَّ عليكم، ما ذُكِرَ لكم من شأن الدنيا والآخرة، من شأن الفِرَق والطوائف، والناس درجات، والناس مقامات‫.‬ ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ اليقين‫:‬ صفة للحق، والحق واليقين شيء واحد، وقد يكون الكلام من باب إضافة الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ أي الحق اليقين، الحق الصادق، الحق الذي لازيف فيه، الحق الذي لا باطل فيه‫.‬ واليقين‫:‬ الأمر المتيَقَّن، اليقين‫:‬ الحق الذي لا شبهة فيه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أصل الكلمة‫:‬ إذا كان هناك بئر ورَاقَ الماء وشَفَّ حتى ظهر قعرُ البئر فنظرتَ في الماء فرأيتَ قعر البئر يُقال‫:‬ يَقِنَتِ البئر؛ رَاقَ ماؤها وشَفَّ وظَهَر قعرُها، فاليقين‫:‬ العلم المؤكَّد المتيَقَّن الحق‫.‬ إن هذا ما قُصَّ علينا لهو حق اليقين‫.‬ ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ داوِم على ذكر الله، داوِم على تنزيه الله، داوِم على شُكرِ الله على نِعَمِه، داوِم على الاستغفار‫.‬ وحين نزلت‫:‬ ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوها في ركوعكم"، وحين نزلت‫:‬ (سبح اسم ربك الأعلى) قال‫:‬ "اجعلوها في سجودكم" نعم! سبحان ربنا العظيم، سبحان ربنا العظيم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬