سورة الرحمن

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا مع سورة الرحمن، سورة الرحمن سورة مكية في قول بعض العلماء، أو هي سورة مدنية في قول البعض الآخر، وكل من الفريقين ساق الأدلة على ذلك، فمنهم من قال إن أول من جهر بالقرآن في مكة بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) هو ابن مسعود حيث قال الصحابة‫:‬ لم تسمع قريش هذا القرآن يُجهَر به فَمَن رجل يُسمِعهُمُوه؟ فقال ابن مسعود‫:‬ أنا، وذهب عند المقام وقرأ‫:‬ (الرحمن علّم القرآن) ثم رفع صوته بها وأخذ يقرأ وصناديد قريش يجلسون في نواديهم، فسمعوا فتساءلوا‫:‬ ماذا يقول ابن أم عَبْد؟ فقيل لهم‫:‬ يقول شيئاً مما يَدَّعيه محمد أنه نزل عليه، فضربوه حتى أَدمَوْا وجهه، وقد كان هذا هو دليل القائلين بأن السورة مكية‫.‬ ومن عجب أن من بين القائلين بأن السورة مدنية هو ابن مسعود نفسه الذي قيل إنه قرأها بمكة‫.‬ والسورة المكية التي نزلت في مكة، والسورة المدنية التي نزلت في المدينة، ولا يمنع أن تنزل السورة مرتين وقد تنزل بمكة ثم تنزل مرة أخرى بالمدينة‫.‬ السورة يُعدِّد فيها ربنا (تبارك وتعالى) نِعَمَهُ، ويضرب أمثالاً لقدرته وآلائه على خلقه‫.‬ وفي معرِضِ تعداد النعمْ، أو تعداد جلائل النعم، بدأ في السورة بذكر أَجَلِّ النعم، وأعظم النعم شأناً ألا وهو القرآن‫.‬ السورة كلها تعد نعماً على الخلائق وتبين بعض من قدرة الله (تبارك وتعالى) ووصفاً لبعض ملكه، من هنا بدأت السورة بكلمة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿الرَّحْمَنُ(١)﴾ [سورة الرحمن آية‫:‬ ١]‬‬‬
‫السورة كلها تعد نعماً على الخلائق وتبين بعض من قدرة الله (تبارك وتعالى) ووصفاً لبعض ملكه، من هنا بدأت السورة بكلمة (الرحمن) لكي يعلم الناس أن كل ما ذُكِرَ في هذه السورة من فيض رحمة الله (تبارك وتعالى) والرحمن اسم ووصف‫.‬ فمن هو وصف جاء تابعاً على اسم الجلالة في قوله (تبارك وتعالى) بسم الله الرحمن الرحيم فوُصِفَ لفظ الجلالة بالرحمن، من هنا كان اسم الرحمن اسم ووصف‫.‬ ومن حيث هو اسم جاء غير تابعٍ للفظ الجلالة بل جاء ووَرَدَ في القرآن ورود العَلَم المحض، في قوله جلّ وعلا‫:‬ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٥]، وفي قوله (تبارك وتعالى): ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ١١٠]، وفي قوله في هذه السورة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴿1﴾ عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ ﴿2﴾
فالرحمن إسم ووصف‫.‬ وباقي الأسماء كلها صفات إلا الرحمن، أما لفظ الجلاله (الله) فهو عَلَم على الذات العلية وليس وصفاً، يوصَف ولا يَصِفْ، الله الرحمن الرحيم الملك القدوس وهكذا‫.‬ والرحمن مشتق من الرحمة، ورحمة الله (تبارك وتعالى) تفوق تقدير الناس وتفكير الناس، فلا يعرف الرحمن إلا الرحمن، ورحمة الله (تبارك وتعالى) تامة عامة، وهي تختلف عن رحمة العباد، فأنت قد ترحم عبداً أو فقيراً أو مسكيناً أو محتاجاً، لكن يحدث في نفسك ألم لما تراه في ألم هذا المحتاج وقد تستطيع أن توصل إليه حاجته و قد لا تتمكن من إيصال الحاجة إليه تريد أن تساعد ولكن لا تقدر أن تساعد، لكن الله (تبارك وتعالى) هو القادر على إيصال الحاجة للمحتاج دون عائق ودون رادٍّ لإرادته، فمن هنا رحمة الله تامة لأنه قادر على إيصال حاجة المحتاج، وهي رحمة عامه لأنها تَعُم المستحق وغير المستحق، ألا تراه يرزق من أطاعه ومن عصاه؟ ألا تراه يجيب المضطر إذا دعاه؟ ألا تراه لا يخيب رجاء من ارتجاه؟ فهو (سبحانه وتعالى) رحمته عامة تَعُم المستحقين وغير المستحقين‫.‬ (الرحمن) صفة للذات العلية وهي متعلقة بالذات ورحمة الله (تبارك وتعالى) غلبت غضبه‫.‬ و (الرحمن) يطلق على الله فقط ولا يطلق على سواه، فالرحيم مثلاً هو الله ويمكن أن يطلق على الرجل يشفق على غيره ويعطف على غيره، يطلق عليه فلان رحيم، لكن الرحمن لا تطلق إلا على الله، وصيغة (الرحمن) صيغة فِعلان، صيغة تفيد الكثرة والامتلاء، ورحمة الله كما قلنا تامة عامة ولا يُعرَف مداها ولا يُعرَف منتهاها وقد وسعت رحمته كل شيء، هو الرحمن، هو الله، ولا يعرف الرحمن إلا الرحمن‫.‬ وفي معرض ذكر جلائل النعم بدأ ربنا تبارك وتعالى بذكر أجلّها شأناً وأعظمها رفعة وهو القرآن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ علّمه النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) وعلّمه الأمة، فأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) تقرأ القرآن ظاهراً، فقلوب الأمة أوعية للقرآن، ولم يُحفَظ كتاب من كُتُب الله أبداً إلا القرآن، حُفِظَ في قلوب الناس‫.‬ القرآن عَلَّمَه ربنا (تبارك وتعالى) للنبي (صلى الله عليه وسلم) وللأمة، يسره للحفظ وللتلاوة مصداقاً لقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ١٧]. ﴿عَلَّمَ القرآن﴾ جعله علامة تَعَبَّدَ بها الخلائق، والقرآن أعظم شيء في الوجود فهو كلام الله (تبارك وتعالى) وأجلُّ نعمة وأعظم مِنَّة هي تعليم القرآن، ولذا قُدِّمَت على خَلْقِ الإنسان فقال‫:‬‬‬‬‬‬
خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ ﴿3﴾ عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ ﴿4﴾
‫﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ والإنسان هو آدم، اسم جنس‫.‬ ﴿عَلَّمَه البيان﴾: والبيان هو أن يعبر الإنسان عما في ضميره بالمنطق الفصيح‫.‬ والبيان أن تفهم عن غيرك، فالإنسان دون سائر الحيوان مِنطِيق يعبر عما في ضميره بالمنطق الفصيح، ويُفهِم غيره، ويَفهَم من غيره، فهو يتكلم ويعبر ويفهم أيضاً كلام غيره‫.‬ ﴿عَلَّمَه البيان﴾: عَلَّمَه القراءة والكتابة ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(٤)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(٥)﴾ [سورة العلق آية‫:‬ ٤- ٥]، عَلَّم كل ناس لغتهم فاختلفت الألسنة واللغات ولم يختلف البيان، فكل قوم يبيّنون ويعبرون بلسانهم وبلغتهم ولا يختلف البيان، ويتفاهم الناس ويتعلمون ألسنة بعض ولغة بعضهم البعض فيعبر كلهم بلغة قد تخالف لغة الآخر ومع ذلك يستطيع كل إنسان أن يبين عما في ضميره مهما اختلف اللسان، ومهما اختلفت اللغات، وصار اختلاف الألسنة واللغات من آيات الله التي قال في شأنها‫:‬ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٢٢]. وقد فُضِّلَ الإنسان دون سائر الحيوان بالمنطق والبيان، وأصبح مستعداً لتلقي العلوم، وأصبح مهيأً لفهم الوحي ولخلافة الأرض ففُضِّلَ بكل ذلك عن سائر الحيوان وعن سائر خلق الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍۢ ﴿5﴾ وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴿6﴾ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ ﴿7﴾ أَلَّا تَطْغَوْا۟ فِى ٱلْمِيزَانِ ﴿8﴾ وَأَقِيمُوا۟ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا۟ ٱلْمِيزَانَ ﴿9﴾
‫﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الحُسبان): قد يكون مصدر حَسَبَ يَحْسُبُ حُسْباناً وحساباً. وقد يكون (حُسبان) جمع حساب كشهاب وشُهبان‫.‬ (الشمس والقمر بحسبان) معنى ذلك أن الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى، فهما يجريان بحساب حَسَبَه الله (تبارك وتعالى) وقَدَّره لهما، حتى إذا انتهى الأجل فَنِيا وانتهيا ودُمِّرا‫.‬ (الشمس والقمر بحسبان): أي بهما تُعرَف السنون والشهور والأيام، ولولا الشمس ولولا القمر ما عُرِفَ اليوم، ما عُرِفَ الليل، ما عُرِفَ النهار، ما عُرِفَ الشهور، ما عرفت السنون، فأنت بجريان القمر تحسب الشهور العربية، وبشروق الشمس وغروبها تعرف الأيام، ويُعرَف الليل من النهار، وبحساب دوران الأرض وما إلى ذلك حول الشمس كل هذا الفلك الذي يجري بأمر الله، بحساب وبتقدير، يُعَلِّمنا نحن الحساب فنعرف السنين، نعرف الشهور، نعرف الأيام، ولولا ذلك ما قُدِّرَت الآجال وما عُرِفَ الأمس وما مُيِّزَ اليوم عن الغد، فالدنيا نهار مطلق أو الدنيا ليل مطلق‫.‬ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(٧١)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(٧٢)﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٧١- ٧٢]، لولا الليل ولولا النهار ما كانت الأيام، ولولا الأيام ما كانت الأسابيع، ولولا الأيام ما كانت الشهور، ولولا الشهور ما كانت السنين، كل ذلك تم وجرى بالشمس والقمر ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾. ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (النجم) مشتق من نَجَمَ ينجُمُ نُجُوماً: طلع وظهر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من هنا قيل إن النجم هو الشجر الذي لا ساق له، كل نبات يخرج من الأرض بغر ساق يسمى نَجْماً، وكل نبات يخرج بساق يسمى شَجَراً. (النجم والشجر يسجدان): أي النبات الذي لا ساق له والشجر ذو الساق يسجد لله (تبارك وتعالى). وقال العلماء في مسألة السجود أن السجود هو الاستسلام لغةً، الاستسلام والطاعة والانقياد والخضوع، فهو من المُكَلَّفين سجودٌ بالجسد ووَضْعُ الجبهة على الأرض، فهو السجود طوعاً. والسجود من الجمادات التي لا تتحرك وليس لها جسم يطيعها، أعضاء ومفاصل، فالسجود من هذه الجمادات هو الانقياد لما أراده الله بها طَبْعاً. فاالنجم والشجر يسجدان طبْعاً، والناس يسجدون طوعاً. فطبيعة النبات وطبيعة الشجر أنه ينقاد لإرادة الله النافذة فيه، فيُجتَنى ثمار الأشجار دون مقاومة ودون جهد وكذلك النجم‫.‬ وقيل إن النجم هنا هو النجم في السماء، اسم جنس عن النجوم، فالنجوم تسجد وسجود النجوم الشروق والغروب تسخيرها في السماء فلها مشارق ولها مغارب، وانقياد النجوم لله في الشروق وفي الغروب ذاك هو السجود، فهو سجود حال، ينطق حالها أنها منقادة لله يجُري فيها قضاءه، ويُجري فيها أمرَه وتنفذ فيها إرادتُه‫.‬ ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ والسماءَ بالنصب، والسماءُ بالرفع، قراءتان‫.‬ السماءُ بالرفع معطوفة على الشمس والقمر‫.‬ والسماءَ منصوبة بفعل يفسره ما بعده ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ أي رفع ربُّنا السماءَ، رفعها محلاً ورتبة‫.‬ فمن حيث الرفع المكاني والمحلي فهي فوق الأرض من كل اتجاهاتها، هذه الفوقية في المكان وهذه الرفعه في المحل، رُفِعَت السماء ورُفِعَ سَمْكُها بغير عَمَدٍ ترونها‫.‬ رفعها رتبة أيضاً، فالسماء هي منشأ أَقضِيَتِه ومُتَنَزَّل أحكامه وهي محل ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الميزان): العدل، بالعدل قامت السماء والأرض هكذا قال الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) نعم! رفع السماء ووضع الميزان، وضع العدل في الأرض وشرع العدل في الأرض، وبعدل الله استقامت أمور الدنيا واستقامت السماوات واستقامت الأرض واستقامت الأفلاك في دورانها وفي مساراتها وفي شروقها وفي غروبها‫.‬ بالعدل قامت الدنيا، ومن أجل العدل قامت الدنيا، وبالعدل يقام ميزان الآخرة‫.‬ شرع العدل وأمر به، وعَلَّمَ الناس العدل، وفَرَّقَ وبَيَّنَ بين العدل والظلم‫.‬ أو الميزان هنا هو الآلة المعروفة التي يُعرَف بها مقادير الأشياء، ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ أي‫:‬ خَلَقَ لنا الميزان، تلك الآلة ذات الكفتين والتي يُعرَف بها مقادير الأشياء، هو الذي خلقها، وإن كان الأمر كذلك فهو محتاج للتأمل، لأن الميزان ومقادير الأشياء تختلف في الميزان خفةً وثقلاً، فذاك أثقل من ذاك وهكذا، هذا الوزن وهذه الأثقال المتفاوتة كيف نشأت؟ وكيف وُضِعَت؟ منشأ هذا التباين والاختلاف في أوزان الأشياء أساسه سُنَّة وضعها الله في الأرض ألا وهي الجاذبية، هذه السُّنَّة التي وضعها في الأرض والقوة الخفية التي خُلِقَت في الأرض والتي بها تجد الأشياء تتفاوت قوةً وضعفاً بحسب حجم الشيء وكتلته، ولو جئت بالشيء الثقيل الذي يزن كذا وكذا وخرجتَ به من نطاق جاذبية الأرض فلا وزن له، ولذا رأيتم الناس الذين خرجوا إلى الفضاء يسبحون في الهواء، وكل شيء سابح في الهواء لا وزن له، لأن الوزن أساسه في الأرض، ولا يوجد الميزان إلا في الأرض، ولولا هذه الجاذبية، هذه القوة الغريبة التي لا يُعرِف كنهها، فلم يعرف العلماء كُنهَ لجاذبيه وإنما اكتشفوها واستغلوا قوانينها، لولا هذه الجاذبية لما كان هناك ميزان، ولاختلطت الأمور، ولم تتبين المقادير، و لطار الناس من على الأرض واختلط الحابل بالنابل، نعم! السماء رفعها ووضع الميزان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والسماء المرفوعة بغير عمد تُقارَن بالأرض التي رست بالجبال وتمسكت بكل شيء عليها، بالجاذبية التي وُضِعَت فيها‫.‬ ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ أي لئلا تطغَوْا في الميزان، و (الطغيان) تجاوز الحد والاعتدال‫.‬ وضع ربنا الميزان‫:‬ العدل، أو وضع ربنا الميزان‫:‬ آلة الوزن التي يُعرَف بها مقادير الأشياء، فَعَلَ ذلك وعَمَلَ ذلك كي لا تطغوا في الميزان‫:‬ لا تتجاوزوا الحد وتظلموا بعضكم بعضاً. ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ أي افعلوه مستقيماً بالعدل‫.‬ أو (أقيموا الوزن بالقسط) الإقامة باليد، والقسط بالقلب‫.‬ فأنت تقيم الميزان باليد وتعدل في الوزن، والقسط في القلب وهو العدل؛ ألا تَظلِم ولا تُظلَم‫.‬ ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ افعلوه قائماً بالعدل، أو (أقيموا) كقوله‫:‬ أقيموا الصلاة؛ أي ائتوا الصلاة لوقتها، وأقام الناسُ السوقَ: أي جاءوا السوق وحضروه في وقته‫.‬ من هنا (أقيموا الوزن): أي داوموا على التعامل بالميزان في جميع معاملاتكم، وفي جميع هذه المعاملات يجب أن يكون التعامل من خلال الوزن والكيل‫.‬ ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ﴾ أي لابد أن تواظبوا على التعامل بالميزان، ولا تعامل بغير ميزان و كَيْل حتى لا يتظالم الناس‫.‬ ﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ ﴿ولا تَخْسروا الميزان﴾ ﴿ولا تَخْسِرُوا الميزان﴾ ﴿ولا تَخْسُرُوا الميزان﴾ قراءات وكلها بمعنى واحد‫.‬ (ولا تخسروا الميزان): لا تنقصوه مصداقاً لقوله‫:‬ (ولا تنقصوا المكيال والميزان). إذاً فقد نهى ربنا عن أمرين في الميزان‫:‬ نهى عن الطغيان، ونهى عن البَخس والتطفيف‫.‬ (لا تطغوا في الميزان) وهو تجاوز الحد وأخذ ما ليس لك بحق، (ولا تبخس) أي ولا تظلم غيرك فتزن له أقل مما يستحق‫.‬ نهى عن التجاوز في الحد، ونهى عن البخس والتطفيف، إذاً فلابد وأن يكون الميزان والمكيال سواء بالعدل، لا تُظلِم ولا تُظلَم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكَرَّرَ ربنا لفظ الميزان تأكيداً على الأمر بالعمل به، وتنبيهاً للناس، وبياناً لأهمية التعامل بالميزان وبالعدل وبالقسط‫.‬‬‬‬
وَٱلْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴿10﴾ فِيهَا فَـٰكِهَةٌۭ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلْأَكْمَامِ ﴿11﴾ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ ﴿12﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿13﴾
‫﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ ﴿وَضَعَها﴾: ذَلَّلَها وبسطها وأصبحت الأرض وكأنها متواضعة للخلائق يمشون عليها في يُسرٍ وسهولة، فأنت تجد أن الأرض ممهدة لا تتعب من السير عليها ولا تعصي لك أمراً، إن ضربتَها أخرَجَت لك كل نافع، تضربها بالفأس فتُخرِج لك الماء، تضربها بالفأس فتُخرِج لك النبات، تضربها بالفأس فتُخرِج لك المعادن، فهي متواضعة وضعها الله وذَلَّلَها لخلائقه يسيرون عليها بيُسرٍ وسهولة ويستخرجون منها كل نافع‫.‬ و (الأنام): تُطلَق على كل ذي روح، وقد تُخَصَّص بالإنس والجن‫.‬ ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ (الفاكهة): ما يُتَلَذَّذ به وما يُتَفَكَّه به، والفاكهة ليست هي القوت الذي به قوام البدن، بل الفاكهة نِعَمٌ زائدة من فضل الرحمن، فالرحمن (سبحانه وتعالى) أعطانا الضرورات وأعطانا الحاجات، وأعطانا ما زاد عن الحاجه وما زاد عن الضرورة، وأعطانا امتيازات كثيرة تخرج عن حدود الاحتياج والضرورة، منها الفاكهة، وأنواع الفواكه لا عَدَّ لها ولا حصر‫.‬ ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ (الأكمام): جمع كِمّ، و (الكِمّ): غطاء الثمر، وغطاء النَّوْرْ. أو (الكِمّ): سَعَف النخيل، ذاك الليف الذي يغطي عنق النخلة‫.‬ و (كَمَّ) الشيء‫:‬ غَطَّاه، ومنه الكِمامة التي توضَع على فم البعير، وتوضع على فم الكلب حتى لا يعض، ومنه كُمّ القميص لأنه غطاء للذراع، فـ (كَمُّ) الشيء‫:‬ غَطَاه، وجمع الكِمّ: كِمام وأكمام وأَكِمَّة‫.‬ (والنخل ذات الاكمام) أي ذات الثمر المغطى بالكِمام حتى يُصان ويُحفَظ من الطيور وغيرها، فالنخيل إذا أثمر في بداية الثمر تجد بداية الطلع مغطى فيُحفَظ، يحفظه لك الرحمن (سبحانه وتعالى). كما أن أعناق النخيل أيضاً مُغطى بالليف الذي فيه فوائد للناس‫.‬ والنخل ذات الأكمام للرزق وللغذاء وللتَفَكُّه أيضاً. ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ﴾ (العَصْف): القِشر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫و (الحب): القمح، الشعير، البُرّ، وأنت تجد أن هذه الحبوب خلقها الله (تبارك وتعالى) وأنبتها لنا مُغلَّفة بقشر، وهذا القشر يسمى عصفاً، وسُمِّيَ القشر عصفاً لأنه خفيف لا وزن له وتأتي الرياح فتعصف به، كما قال‫:‬ ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل آية‫:‬ ٥] فسُمِّيَ القشر والتبن عصفاً لأن الرياح تعصف به‫.‬ (والحب ذو العصف والريحان) إذاً فالحب فيه شيئان‫:‬ فيه اللُّب وهو غذاء الإنسان، وفيه العصف وهو غذاء الحيوان، غذاء لكم ولدوابكم وأنعامكم‫.‬ و (الريحان): كل مشموم طيب الرائحة‫.‬ إذاً فقد خلق الله لك الفواكه لِتَتَفَكَّه وتَتَلَذَّذ بحلو الطعام وهو زيادة عن الرزق، وزيادة عن القوت، وزيادة عن حاجة البدن، أنواع، فاكهة في الصيف، وفاكهة في الشتاء لا عَدَّ لها ولا حصر‫.‬ والنخل كذلك يُحفَظ ويبقى بالسنين، ويتحول البلح تمراً، ويتحول التمر عجوة، ويُنتَفَع به، ويُنتَفَع بالنوى أيضاً، فالنوى رزق لبعض البهائم‫.‬ وكذلك خَلَقَ لك الرزق والقوت في هيئة الحب من القمح والشعير والذرة وما إلى ذلك، وخلق العصف غذاءً لدوابكم، ثم بعد ذلك أوجد لك نباتاً طيب الرائحة فينشرح الإنسان وتتفتح شعبه الهوائية، الشعب الهوائية تتفتح ويَرَاحُ الإنسان وينشرح إذا شم المشموم الطيب الرائحة، هذه الروائح الطيبة في الورود والزهور خلقها الله (تبارك وتعالى) إنعاماً على الناس العاصي منهم والطائع، الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، الرحمة العامة التي تعم المستحق وغير المستحق، الرحمة التامة التي تصل ويصل آثارها إلى كل إنسان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقد يكون (الريحان) بمعنى الرزق، من قولهم‫:‬ سبحان الله ورَيحانَه‫:‬ أي تنزيهاً لله واسترزاقاً، ومن قولهم‫:‬ خرجتُ أبتغي رَيحانَ الله، فقد يُطلَق لفظ (الريحان) على الرزق وهي لغة من لغات قبيلة من قبائل العرب، فإذا كان الريحان بمعنى الرزق يكون المعنى‫:‬ والحب ذا العصف‫:‬ رزق للدواب، و (الريحان) كذلك هو اللب وهو رزق الإنسان، الحب ذو الرزق لكم ولدوابكم‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ سؤال أهو للتوبيخ؟ أهو للتبكيت لهؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى؟ أهو للتقرير، يقررنا بالنعم ويذكرنا بها‫:‬ عَلَّمَ القرآن، خلق الإنسان، وجعل الشمس والقمر بحسبان، وأيضاً عَلَّمَ الإنسان البيان، ورفع السماء وزَيَّنَها بالكواكب ويهدينا بها في ظلمات البر والبحر، ووضع الأرض وسَهَّلَها ومَهَّدَها للناس وللدواب ولكل ذي روح، وأخرج منها الفاكهة والحب والنخل والريحان، كل ذلك فعله الله (تبارك وتعالى) هو الخالق هو الرازق هو المنعم، فبأي نعمة من هذه النعم وبأي قدرة من هذه القدرات تكذبوا أيها الناس وتجحدوا وتكفروا؟ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (آلاء): نِعَم، (آلاء): قدرة‫.‬ جمع (إِلَنْ)، مثل مِعَن وأمعاء، إلَن وآلاء‫.‬ أيضاً إِلْيٌ وآلاء مثل إِنْيٌ وآناء‫.‬ و (الإلي): النعمة، و (الإلي): القدرة المذهلة‫.‬ (فبأي آلاء ربكما) أي بأي نِعَمه وبأي قدرة من قدرته، قُدرة بعد قُدرة، وخَلْق بعد خَلْق، رَفَعَ السماء، كيف رفعها بغير عَمَد؟ وضع الأرض كيف ذَلَّلَها وسَهَّلَها؟ أخرج منها نبات كل شيء؛ الماء واحد والأرض واحدة تُخرِج الحلو والمر، تُخرِج الفاكهة والنبات، تُخرِج الحَبّ ذا العصف وتُخرِج النخل ذا الأكمام، بأي آلاء ربكما تكذبان؟ أهو تبكيت؟ أهو توبيخ؟ قد يكون كذلك للمكذبين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أهو تقرير؟ أهو تذكير؟ قد يكون كذلك للمؤمنين‫:‬ ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٥٥]، أم هو إلزام للحُجة حتى إذا جحدوا بها ألزمهم الحُجة‫.‬ أيها الأخ المسلم إن عددنا آلاء الله فلا تعد ولا تحصى، فإن كانت من النعم فإن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها، وإن كانت من القدرة فقدرة الله غير متناهية لأن الله تبارك وتعالى غير متناه، وقدرة الله (تبارك وتعالى) لا حد ولا حصر ولا مدى لها وكل المقدورات في قدرته سواء، هو الله، هو الرحمن‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه يوماً فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال لهم‫:‬ "لقد قرأتُها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم كلما أتيتُ على قوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا لابشيءٍ من نِعَمِك ربَّنا نكذّب فلك الحمد" أورد الحديث الترمذي، وبهذا الحديث استند بعض الناس إلى أن هذه السورة مكية، فقد قرأ نبينا (صلى الله عليه وسلم) على الجن بمكان يسمى نخلة قريباً من مكة قبل الهجرة‫.‬ كان الجن أحسن مردوداً، أي أحسن رداً، من هنا تعلمنا كلما سمعنا القارئ يقرأ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) علينا أن نقول‫:‬ لا بشيءٍ من نِعَمِك ربنا نُكَذِّب فلك الحمد‫.‬ وهذه الآية وردت في إحدى وثلاثين موضعاً في هذه السورة، جاءت في ثمان مواضع في أول السورة بعد ذِكر نِعَمِ الله وقدرة الله ومبدأ الإنسان ومعاده، لو عددت لوجدت العدد ثمانية‫.‬ ثم جاء ذِكر النار وذِكر شرِّها وشديد عذابها والمستحقين والمستوجبين لعذابها، فجاءت الآية‫:‬ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) سبع مرات بعدد أبواب جهنم‫.‬ ثم جاء وصف الجَنَّتين وما في الجَنَّتين فجاءت‫:‬ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ثمانية بعدد أبواب الجنة‫.‬ ثم جاء ذكر الجنتين اللتين هما من دون الجنتين؛ (ومن دونهما جنتان) فجاءت آية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ثمانية بعدد أبواب الجنة، فمن أيقن بالثمانية الأولى وقاه الله السبع الثانية ورزقه الثمانيتين‫:‬ الثمانية في الجنتين، والثمانية فيما دونها من جنتين، نعم! (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ذُكِرَت ووَرَدَت في إحدى وثلاثين موضعاً في هذه السورة، وهذا التكرار للتقرير وهذا التكرار للتذكير، وهذا التكرار للتبكيت والتوبيخ لمن لا يعمل بالقرآن أو جحد آيات الله أو جحد نِعَمه أو أشرك به‫.‬ تكررت بعد وصف النار ووصف ألمها سبع مرات وبعدد أبواب جهنم، وتكررت في ذكر الجنان ثمانية، ثم ثمانية، شيء يدعو للتأمل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الأمر الثاني ربما سائل يسأل (الرحمن) افتُتِحَت بها السورة، وكأنها إشارة إلى أن كل ما ذُكِرَ في هذه السورة من منبع الرحمة، كل ما ذُكِرَ في هذه السورة نِعَم وآلاء، (فبأي الاء ربكما تكذبان) فكيف وردت في ذِكر النار؟ (فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي الاء ربكما تكذبان)، وكيف ذُكِرَت أيضاً بعد قوله‫:‬ (كل من عليها فان) موت وفناء هل هذه نِعَم؟ نعم! هي نِعَم وكلها من منطلق الرحمة‫.‬ (كل من عليها فان) نعمة كبرى لأن الموت أول الطريق للقاء الرحمن، فالموت نعمة لأنه مَعبَر تعبر به إلى الحياة الأخرى، إلى النعيم المقيم، إلى رؤية ذي الجلال والإكرام، من هنا هي نِعمَة لأن الموت يتساوى فيه الناس، وتستوي فيه الأقدام، فيُدفَن الأمير إلى جوار الحقير، والغني إلى جوار الفقير، ويستوي كل الناس في الموت فذاك عدل ونعمة‫.‬ والموت أول مَعبَر للقاء الله (عز وجل) ومن فرح بلقاء الله فرح الله بلقائه فهو نعمة‫.‬ وأما ذكر النار وذكر جهنم فكيف يكون ذلك نِعَم؟ نعم! هي نعمة لأن الله يبين لنا الحِلم وكيف أخر عنا العذاب وكيف لم يعاجلنا بالعقوبة، وهي نعمة أيضاً لكل من ذكر الله وآمن بما ذُكِرَ في أول هذه السورة، فوقاية الناس من العذاب نعمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك جهنم التي يكذب بها المجرمون فإذا رأيتَها ورأيتَ الله قد نجاك منها (فمن زُحزِحَ عن النار وأُدخِلَ الجنة فقد فاز) ألا يكون ذلك نعمة؟ بلى هو نعمة، من هنا قال حتى في ذِكر النار‫:‬ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) هي نعمة للمتقين لأن الله ينجيهم، ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم فلا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، فذِكْر النار وذِكر أليم النار وعذاب النار من أَجَلّ النِّعَم؛ أولاً: من خَوَّفَك من شيء وشَرَح لك وبَيَّن لك ثم هيأ لك طريق النجاة، ألا يكون ذلك نعمة؟ ومن أخفى عنك، أنت تمشي في الطريق وفي الطريق حفرة، وقد غُطِّيَت الحفرة بأوراق الشجر ولم يبينها لك وتركك فوقعت فيها أفضل؟ أم يحذرك ويقول إياك إياك! احذر وحاذر إياك أن تُخدَع، هناك حفرة، وأخذ يخوفك، ألا يكون ذلك فضلاً منه؟ بلى هو فضل من الله، فضل من الرحمن أن بَيَّنَ لنا جهنم وبَيَّن لنا أحوالها وأحوال أهلها وحذرنا منها، من هنا كان يقول عقب ذلك‫:‬ (فبأي آلاء ربكما تكذبان)؟ لا بشيءٍ من نِعَمِك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬
لا تزال سورة الرحمن تبين لنا دلائل قدرة الله (تبارك وتعالى) وتوضح لنا من آلائه ونعمه وفضله وإحسانه مالا عَدَّ له ولا حصر، وقد افتُتِحَت النِّعَم بأجلِّها شأناً وأعظمها قدراً ألا وهو تعليم القرآن، وتتابعت النِّعَم والآلاء‫:‬ خَلْقُ السماوات، النجم والشجر يسجدان، الشمس والقمر بحسبان، وَضْعُ العدل والميزان، نِعَم وآلاء ودلائل على قدرة الباري (تبارك وتعالى) يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬
خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍۢ كَٱلْفَخَّارِ ﴿14﴾ وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍۢ مِّن نَّارٍۢ ﴿15﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿16﴾
نَعَمْ! خلق الإنسان من صلصال كالفخار، (الصلصال): الطين اليابس غير المطبوخ، وسُمِّيَ صلصالاً لأن له صلصلة؛ صوت يُسمَع‫.‬ وشُبِّهَ بالفخار، وهو الخزف المطبوخ، وقد ورد خَلْق الإنسان في القرآن في مواضع عدة بألفاظ مختلفة، وليس ذلك تبايناً أو اختلافاً، وإنما هي أطوار‫:‬ خُلِقَ من تراب‫:‬ ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ٥٩]، خُلِقَ من طين‫:‬ ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ [سورة ص آية‫:‬ ٧١]، خُلِقَ من صلصال من حمأٍ مسنون‫:‬ ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ٢٨]، خُلِقَ من طينٍ لازب، خُلِقَ من صلصال كالفخار‫:‬ ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾، جعل من الماء كل شيء حي‫.‬ هي أطوار‫:‬ تراب، عُجِنَ بالماء فصار طيناً، تُرِكَ الطين فترة حتى أصبح كالحمأ المسنون، أنْتَن؛ من صَلَى اللحم وأَصَل‫:‬ أَنْتَن‫.‬ صلصال من حمأٍ مسنون، سُلِّطَت عليه الشمس، أو سُلِّطَت عليه الحرارة فَجَفّ وأصبح كالفخار، ثم بعد ذلك أطوار وأطوار، والإنسان هنا آدم أبو البشر، ثم بعد ذلك خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من عظام، ثم كُسِيَت العظام لحماً، ثم أنشأه الباري خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين‫.‬ هي أطوار، خلق الإنسان من صلصال كالفخار‫.‬ ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ والجان جنس الجن، أو هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر‫.‬ (المارج): فاعل بمعنى المفعول كقوله (تبارك وتعالى): (من ماء دافق) أي مدفوق‫.‬ و (المرْج) في الأصل في اللغة‫:‬ الإرسال أو الخلط والاختلاط والاضطراب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿خُلِقَ من مارجٍ من نار﴾ إذاً فهو مخلوق من نار مرسلة لا تُمنَع، لهب لا يُطفَأ، وأعلى النار إن أُوقِدَت يتشكل اللهب من ألوان ثلاثة‫:‬ أحمر وأصفر وأخضر، فهو مخلوق من مختلط اللهب‫:‬ الأحمر والأصفر والأخضر، الذي يكون في أعلى النار إذا أوقدت واشتد لهيبها، فهو مخلوق من نار لا دخان فيها‫.‬ أو هو مخلوق من نار مرسلة لا تُمنَع، لها أوار قوية شديدة‫.‬ وقال بعض الناس إن الله (تبارك وتعالى) مَرَج ناريْن، خلط نارين ببعضهما، فأكلت إحداهما الأخرى، وهي نار السموم خُلِقَ منها إبليس، خُلِقَ من نار السموم‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ والكلام للإنس والجن، بأي قدرة من قدرات الله أو بأي نعمة من نِعَم الله تكذبان أيها الثقلان؟ هاهو الإنسان، أطوار الخلْق‫:‬ تراب، طين، صلصال من حمأٍ مسنون، صلصال كالفخار، ذاك منشؤه، فلينظر الإنسان لنفسه الآن؛ أعصاب، عضلات، لحم، وشحم، عروق، دم، ماء، سوائل، أجهزة تعمل تلقائياً؛ معدة، رئتان، شعب هوائية، كبد، طحال، كلى، خصيتان أو رحم، أجهزة وأدوات تعمل، وتعمل تلقائياً؛ كحركة الحجاب الحاجز ودقات القلب، ثم فوق ذلك يُدرِك ويَفهَم عن غيره، ورُزِقَ البيان فيعبر عن ما في ضميره، وله ذاكرة وله حافظة وله خيال، فهو مُدرِك، مُبَيِّن، مُتَكَلِّم، سميع، بصير، عاقل، كل ذلك من صلصال كالفخار‫.‬ والجان الذي خُلِقَ من مارج من نار، والنار تحرق، والنار تُطفَأ بالماء، وتُطفَأ بمنع الهواء عنها، وأيضاً النار تحرق ويأكل بعضها بعضاً، وهاهي الجن تحيا وتموت وتُرزَق، والنار تُضيء وتُرى على مسافات شاسعة في ظلام الليل، تُرى النار مهما كانت صغيرة أو ضئيلة، هاهو الجن المخلوق من النار لا يُرى، فهو مخلوق من النار لكنه لا يُرى، ويُغَيَّب في الثَّرى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ربنا (تبارك وتعالى) يبين للإنس والجن وهم مكلفون جميعاً، فهو منشأ الخلق، خلق الإنسان من صلصل كالفخار وخلق الجان من مارج من نار، ثم طوّر الخلق وأنعم وأعطى وأَمَدّ حتى صيّركما أحسن المخلوقات وخلاصة الكائنات، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ بمنشأ الخلق؟ أم بتطور الخلق؟ أم بما أصبح عليه الخلق؟ أم ببقاء الخلق بإمداد المنعم المنان؟ فبأي آلاء ربكما تكذبان؟‬‬
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ ﴿17﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿18﴾
‫(المشرقين): هما مشرق الشمس ومشرق القمر، ومغرب الشمس ومغرب القمر، إشارة إلى قوله تعالى في أول السورة‫:‬ ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾، أي أن الشروق والغروب للشمس والقمر بالحساب من ملايين السنين، بل بلايين السنين، لا يتغير المشرق ولا يتغير المغرب، مما يُعِين الناس على حساب الأيام والشهور والساعات‫.‬ أم هو مشرق الشمس في أطول يوم ومشرق الشمس في أقصر يوم، وكذلك مغربها ومشرقها، إذ أن الشمس لها مشارق ولها مغارب، وربنا في سورة الصافات يقول‫:‬ ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ٥] نعم! وللنجوم مشارق، وما من كوكب وما من نجم إلا وله مشرق ومغرب بل له مشارق ومغارب، وللشمس ثلاثمائة وستين مطلعاً، تطلع كل يوم من مشرق ثم لا تعود إليه حتى يعود العام، ويأتي اليوم من العام القابل بعدد أيام السنة عدد المشارق وعدد المغارب‫.‬ وقال ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ وحصر المشارق بأطول يوم وأقصر يوم للتدليل على اختلاف الفصول، فباختلاف الفصول لا يملّ الإنسان، شتاء يعقبه الخريف يعقبه الصيف يعقبه الربيع، وباختلاف الفصول تحدث أمور قد يغفل عنها الإنسان وهي الزرع، فكل مزروع له أوان، وكل زرع يطلع في فصل معين، فنباتات الصيف غير نباتات الشتاء، والفلاحون يعرفون ذلك جيداً بل يتربصون بالأيام والفصول، متى يَزرَع ومتى يَروي ومتى يَحصُد‫.‬ وبحدوث الفصول أيضاً تحدث هجرة لطعام رَزَق الله الناس إياه، ففي البرد الشديد في مكان ما تحدث هجرة الطيور فتأتينا طيور لا تعيش في بلادنا نُرزَقُها بفضل الله وكرمه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫باختلاف الفصول تحدث هجرة الأسماك في المحيطات والبحار، تنتقل من المياه الباردة إلى المياه الدافئة فتتكاثر وتتوالد، ثم تعود بعد ذلك من حيث أتت ويعود الأبناء ليس الآباء، فمن عَلَّمَ الأبناء طريق العودة وقد جاءت الآباء بغير أبناء! تأتي الآباء وتهاجر وتتكاثر وتلد وتبيض من طيور ومن أسماك وغيرها، ثم إذا دار الزمان دورته إذا بهذه المواليد وهذا النِّتَاج يعود في رحلة العودة إلى مَنشَئِه دون مُعلِّم، دون مرشد، لا بل بمرشد! ألا وهو الله! (رب المشرقين ورب المغربين) اختلاف الفصول، طول النهار وقِصَر الليل، وطول الليل وقِصَر النهار، بهذه المشارق المتعددة والمغارب المتعددة للشمس يختلف طول النهار وطول الليل وتحدث الفصول وهكذا‫.‬ وتحدث أمور منها ما عُلِمَ بالمشاهدة وبالتجربة، ومنها مازال خافياً على الناس‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ مَنِ الذي أمر الشمس بالشروق ومَنِ الذي أمرها بالغروب؟ مَنِ الذي حدد لها المسارات والمشارق والمغارب؟ من الذي فعل ذلك ولا زالت الشمس تُشرِق لا تتأخر عن موعدها طرفة عين ولا تتقدم عن موعدها طرفة عين من بلايين السنين؟ بحُسبان، مشارق ومغارب، رب المشارق ورب المغارب هو الله!‬‬‬‬
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴿19﴾ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌۭ لَّا يَبْغِيَانِ ﴿20﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿21﴾
‫(البحرين): هما العذب والملح، فذاك عذب فرات سائغ شرابه وذاك ملح أجاج، أرسلهما الله‫.‬ ﴿مَرَجَ﴾: أَرسَلَ أو خَلَط‫.‬ ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ أرسلهما فها هي الأنهار تجري، وهاهي البحار والمحيطات، هذا عذب وهذا مِلح، ويصب العذب في الملح ولا يختلط أحدهما بالآخر‫.‬ ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾ يتجاوران‫.‬ أو (يلتقيان): تلتقي أطرافهما فما من عذب إلا ويصب في ملح، وما من ملح إلا ويتبخر فيصير سحاباً فيجعله ركاماً فيُنزِلُ منه الوَدَق، ثم يجمعه ويُكّثِّفه ويُرسِله حيث شاء فإذا به ينزل عذباً فراتاً فيجري في مجاريه هكذا، وكأن الملح خزانة للعذب، وكأن الملح أسكنه الله في الأرض وما أنتم له بخازنين، هو الله! جعل بينهما برزخ، (البرزخ): الحاجز، إما هذا البرزخ هو أجرام الأرض؛ اليابسة، بين المياه توجد اليابسة فلا تختلط المياه لوجود الحاجز وهو أجزاء الأرض المختلفة‫.‬ أو البرزخ هنا هو قدرة الله (تبارك وتعالى) أن أبقى العذب على عذوبته وأبقى الملح على ملوحته‫.‬ أو (البرزخ): مدة الدنيا، (بينهما برزخ لا يبغيان) يسيران ويلتقيان كلاً في مجاريه، والبرزخ مدة الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا؛ (إذا البحار فُجِّرَت) بغى بعضُ البحار على بعض واختلط العذب بالمِلح وهاجت الدنيا وماجت، وسُجِّرَت البحار وفُجِّرَت‫.‬ ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ لا يبغيان على الأرض واليابسة فيغرقان أهلها، ولا يبغي بعضهم على بعض، أو لا يبغي الملح على العذب أو يبغي العذب على الملح فيزيل أحدهما خاصية الآخر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ومِن عجب أنك إذا نظرت إلى الأرض كلها كمساحة لوجدت أن مساحة اليابسة أقل بكثير من مساحة الماء، فمساحة الماء على الأرض قد تبلغ أربعة أخماس الأرض، واليابسة تشكل الخمس فقط، ومع ذلك ومع كروية الأرض تبقى المياه في أماكنها وتسري الأنهار في مجاريها ويبقى كلٌّ على صفته لا ينفذ ولا ينضب، سبحان الله! ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نِعَمِك ربَّنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱللُّؤْلُؤُ وَٱلْمَرْجَانُ ﴿22﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿23﴾
‫(يخْرُجُ) ﴿يُخْرَجُ منهما اللؤْلُؤُ﴾ ﴿يُخْرِجْ منهما اللؤْلؤَ﴾ ﴿نُخْرِجُ﴾ قراءات‫.‬ (يخرج منهما اللؤلؤ) وكما خرج من الأرض الحب ذو العصف والريحان، خرج من البحر اللؤلؤ والمرجان‫.‬ لا زرعتَ هذا ولا خلقتَ هذا، بل هو الله! أخرج الحب والعصف والريحان والنخل ذات الأكمام، وأخرج من البحر كذلك اللؤلؤ والمرجان‫.‬ وقال (منهما) ومن المعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من المِلح وليس من العذب، فلِمَ قال‫:‬ (يخرج منهما)؟ هكذا في اللغة العربية تجمع العرب الجنسين وتُخبِر أحدهما، وعلى هذا النمط جاء قول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٣٠] والرسل من الإنس دون الجن، فقال‫:‬ (رسل منكم) أي من الإنس رغم ذكر الجن والإنس، فيأتي في اللغة بالجنسين ويخبر عن أحدهما‫.‬ أيضاً كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا(١٥)وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا(١٦)﴾ [سورة نوح آية‫:‬ ١٥ - ١٦] والقمر في سماء الدنيا فقط، وجاء بذكر سبع سموات والقمر في سماء الدنيا فقط، هكذا يُعَبَّر عن صُنْعِ الفرد بالجماعة، ويُعَبَّر عن الجنسين بأحدهما، من هنا قال (يخرج منهما) ويقصد يخرج من الملح‫.‬ قد يكون كذلك وقد يكون على حذف المضاف وهو أيضاً من أنواع اللغة العربية، (يخرج منهما) يخرج من أحدهما، كقوله (تبارك وتعالى) حكاية عن قول الكفار‫:‬ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٣١] والرجل من قرية واحدة وليس من قريتين، فكذلك قد تكون على حذف المضاف‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ومن الأقوال العجيبة في هذه الآية (يخرج منهما) أي يخرج من مُجتَمَعَهما لؤلؤ ومرجان، يقول القائل‫:‬ (يخرج منهما) (منهما) ليس على سبيل حذف المضاف؛ أي من أحدهما، وليس على أساس التعبير عن فعل الواحد بذكر الجماعة، وكقولك خرجتُ من البلد وأنت قد خرجتَ من جزء فيها وليس من البلد كلها، ليس هذا ولا ذاك، إنما فعلاً يخرج منهما، قيل كيف يخرج منهما ونحن نعرف أنه يخرج من الملح فقط؟ قالوا العذب يصب في الملح فيصبح العذب للملح لقاحاً كتلقيح الذكر للأنثى، فيُنسَب الولد للأب والأم، ويُنسَب الوليد للذكر والأنثى وقد ولدته الأنثى فقط لأن الذكر لقح الأنثى، فكذلك العذب يلقح الملح ومن ذلك ينشأ اللؤلؤ والمرجان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ نِعَم، أخرج لنا اللؤلؤ والمرجان لنتحلى بها، وتتزين بها النساء، زينة فوق الكفاية، لم يكتفِ ربنا بالطعام الذي يقيم الأوَدْ فقط، بل أعطى الفواكه والنخل والحب والريحان؛ المشمومات الطيبة، أعطى فوق الكفاية، حتى اللباس ساتر العورة، نَوَّعَ وصَنَّفَ من الصوف والحرير وكذا وكذا، حتى الزينة؛ لم ينسَ ربنا الزينة فخلق لنا ما نتزين به، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟‬‬‬‬
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَـَٔاتُ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلْأَعْلَـٰمِ ﴿24﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿25﴾
‫(الجواري): جمع جارية، و (الجارية): السفينة، وسميت السفينة جارية لأنها تجري على الماء‫.‬ (المنشآت): المصنوعات المبنيات، من (أنشأ) إذا صَنَع، فهي مُنشَئات‫:‬ مصنوعات مبنيات، هذه السفن التي بُنِيَت وصُنِعَت‫.‬ (كالأعلام): جمع عَلَمْ، و (العَلَمْ): الجَبَل الطويل، وسمي الجبل عَلَمَاً لأنه من العلامات التي وضعها الله للناس في الأرض، في قوله (تبارك وتعالى): ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ١٦] فالجبل الطويل يسمى عَلَمَاً لأنه علامة تُعرَف بها الأماكن، فربنا يُشَبِّه السفن الكبيرة العظيمة البنيان‫.‬ أو (المنشآت): الرافعات للقُلُع، فكل سفينة ترفع قُلُعها وتنشر شراعها بالأعلام‫.‬ وقُرِئت ﴿المنشِئات﴾ بالكسر، أي الرافعات للقُلُع أو المنشِئات للسَّير أو المنشِئات للأمواج إذا شَقَّت المياه‫.‬ وقُرِئت ﴿الجَوَارُ﴾ بالضم، بالرفع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ(٢٤)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٢٥)﴾ السفن التي تنقل البضائع من قارة إلى قارة، ومن بلد إلى بلد، وتجتاز البحار والمحيطات الشاسعة، ورغم اختراع الإنسان للطائرات إلا أن السفن لازالت هم أهم، بل هي أكبر، بل هي الوسيلة الوحيدة حتى الآن لنقل الزيوت، ومواد الوقود البترول، المعدات، الآلات، السيارات، الركاب، المأكولات، المصنوعات، ولولا السفن ما عرف أهل قارة افريقيا أهل قارة أمريكا، لولا السفن ما تعارف الناس، ولولا السفن ما انتقلت البضائع والمصالح والمنافع، فكثير من البلاد تنتج من المصنوعات وتنتج من المزروعات مالا تنتجه البلاد الأخرى، والدنيا يُكمِلُ بعضُها بعضاً، فأنت محتاج إلى مزروعات من بلاد أخرى ذات أجواء معينة لا تنبت المزروعات إلا فيها كالمطاط مثلاً لا يُنتَج في مصر بل له غابات خاصة في أماكن حارة شديدة الحرارة، وهكذا البترول مثلاً يخرج من أرضِ بلاد ولا يخرج من أرض البلاد الأخرى، والحبوب والمصنوعات والأدوات والعِدَد وما إلى ذلك، و لولا السفن ما عَمُرَت الأرض، ما كانت العمارة وما كانت المنافع وما كان الانتقال، من الذي خَلَقَ سُنَّة الطفو في البحر؟ هو الله! من الذي ألهم الناس صنع السفن؟ هو الله! وهو الذي قال لنوح‫:‬ ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٣٧] ولم تكن الفلك قد عُرِفَت، هو الذي ألهمنا صنع الفلك، وهو الذي خلق المواد التي منها تُصنَع، وهو الذي خلق سُنّة الطفو في المياه، هو الذي ألهمنا كل ذلك، وإن شاء أجراها وإن شاء أغرقها، ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾: يغرقهن [سورة الشورى آية‫:‬ ٣٣- ٣٤]. نعم! له الجوار المنشئات في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان‫.‬‬‬‬‬‬‬
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍۢ ﴿26﴾ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلْإِكْرَامِ ﴿27﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿28﴾
‫﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قال (مَنْ) و (مَنْ) للعاقل‫.‬ إما الخطاب للثقلين؛ الإنس والجن‫.‬ وإما (مَنْ) للتغليب وهو أرجح، لأن كل مَن عليها فان، مِن عاقلٍ وغير عاقل، فجاءت لتغليب العاقل على غير العاقل، لكن كل شيء فان؛ نبات، زرع، حجر، مدر، صخر، دواب، طيور، كل شيء فان‫.‬ (فان): فاني، هالك‫.‬ فاني، مُدمَّر، إما يوم القيامة بتدمير كل شيء، وإما في طبيعة الأشياء، كل شيء فان فما من شيء يدوم سواءً كان الشيء مادياً أو حتى معنوياً أو حساً أو مشاعر، فأنت في هذا اليوم تحب شيئاً قد تكرهه في الغد، وما من زينة تُقام إلا وتُفَض، وما من نبات ينمو إلا ويُحصَد، وما من حيوان يُخلَق إلا ويموت، وما من إنسان يُولَد إلا ويفنى ويموت، وما من بناء يُبنى إلا ويقع ويُهدَم، ما من شيء يدوم، فكل شيء في هذه الدنيا زائل‫.‬ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(٢٦)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(٢٧)﴾ (ويبقى وجه ربك): أي تبقى الذات العلية، الوجه عبارة عنه وذلك قول ابن عباس (رضي الله عنهما) في هذه الآية، وفي قوله‫:‬ (كل شيء هالك الا وجهه). وقال أغلب العلماء ومعظم العلماء على مر العصور والأزمان‫:‬ (الوجه) هو الذات العلية، عبارة عن الوجود الإلهي، لأن الموصوف بالبقاء بعد تعرض الخلق للفناء هو وجود الباري تبارك وتعالى، والتعبير بكلمة (وجه) جاء في اللغة العربية من قولهم هذا وجه الصواب، هذا وجه الأمر، هذا وجه الحقيقة، فالتعبير بالوجه هو التعبير عن الوجود الإلهي لله (تبارك وتعالى). وقال قوم‫:‬ (الوجه) صفة زائدة عن الذات بلا تكييف، يحصل بها الإقبال من الرب على من أراد تخصيصه بالإكرام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال قوم آخرون رأي ثالث‫:‬ الوجه تعبير عن الجهة، بمعنى ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله قُطِعَ وانفصل، أي أن كل شيء في هذا الوجود فانٍ بطبعه غير مستحق للوجود بذاته، وإنما استمد الوجود من الله واهب الوجود وواجب الوجود، فالإنسان مثلاً من الجهة التي تلي الإنسان، من حيث ذات الإنسان، غير موجود، هالك، فاني، لأنه لا يمكن أن يوجد بنفسه، ولا يمكن أن يبقى بنفسه، لابد أن يوجده الموجِد، الله! ولابد أن يبقيه حياً، الله! ولابد أن يُفنيه ويُعدمه، الله! فالإنسان من حيث ذاته غير موجود، هالك‫.‬ أما من حيث جهة الله (تبارك وتعالى) فهو موجود بوَهْب الوجود له من رب الوجود‫.‬ من هنا (كل شيء هالك إلا وجهه) أي كل شيء مستحق للفناء بطبعه وبذاته، غير مستحق للوجود إلا من الجهة التي تلي الله (تبارك وتعالى) كقوله (تبارك وتعالى): ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١١٥] أي الجهة التي يتقبلها الله (تبارك وتعالى) فالوجه عبارة عن الجهة، وبالتالي كل موجود في هذا الوجود من جهة نفسه فانٍ، ومن جهة الموجد وهو الله باقٍ بإبقاء الله له بإيجاده أولاً ثم بإبقائه ثانياً ثم بإعدامه ثالثاً. ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الجلال): العظمة والكبرياء واستحقاق صفات المدح وكل ذلك لله‫.‬ جَلَّ يَجِلُّ جلالاً وجلالة‫:‬ عَظُمَ وأَجلَلْتُه عَظَّمْتُه‫.‬ وذو الجلال المطلق هو الله، العظمة والكبرياء واستحقاق صفات المدح، كل ذلك مختص به ربنا (تبارك وتعالى) فهو ذو الجلال المطلق‫.‬ (والإكرام): ربنا (تبارك وتعالى) ذو الإكرام بمعنى أنه أهل لأن يُكرَم عن الشرك، وأهل أن يُكرَم عن الوصف بما لا يليق بذاته وجلاله‫.‬ أيضاً هو ذو الإكرام لأنه ما من كرامة لعبد أو لشيء إلا وهو مصدرها وهي منه، فما من إكرام وما من نعمة إلا وربنا (تبارك وتعالى) هو مصدرها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫نعم! يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، هو ذو الجلال المطلق، وهو ذو الإكرام المطلق‫.‬ فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وهنا قد يتساءل الإنسان‫:‬ أيُّ نعمة في هذا الفناء؟ نَعَم هي نعمة كبرى! لأن بالموت تستوي الأقدام، ويسوّي الموت بين الناس جميعاً، غنيهم وفقيرهم، عظيمهم وحقيرهم‫.‬ أيضاً الموت والفناء من النِّعَم لأن الموت هو أول الطريق للقاء الله (عز وجل) وللنظر إلى وجه الكريم‫.‬ من هنا كانت الآية دلالة ونعمة، ويقول ربنا بعد قوله‫:‬ ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(٢٦)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(٢٧)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٢٨)﴾ نعم! فناء الخلق نعمة، لأنه يؤدي إلى الثواب وإلى النعيم وإلى النظر إلى وجه الكريم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ما من موجود إلا وهو محتاج في وجوده إلى واهب الوجود، لذا يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬
يَسْـَٔلُهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍۢ ﴿29﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿30﴾
‫﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من في السموات‫:‬ الملائكة، فالملائكة تسأل ربها الرزق لأهل الأرض، وتسأل ربها المغفرة لأهل الأرض، وتسأل ربها تحقيق الوعد للطائعين من أهل الأرض، فهم يسبحون الله ويؤمنون به ويَحُفُّون بعرشه ويسألونه‫:‬ ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(٧)رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٨)﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٧- ٨] هكذا يسأله مَن في السموات، يسألونه الرزق لأهل الأرض، يسألونه الحِلم على أهل الأرض، يسألونه المغفرة والرحمة للطائعين من عباده‫.‬ ويسأله من في الأرض أيضاً الرزق، فإذا تأخر المطر لجؤوا إليه، وإذا فسد الزرع لجؤوا إليه، والإنسان يلجأ إلى الله طلباً للرزق، وطلباً للعون، وطلباً لتفريج الكروب، وطلباً لمغفرة الذنوب، وطلباً لكل شيء‫.‬ فما من مخلوق في السماوات وما من مخلوق في الأرض إلا ويسأل الله (تبارك وتعالى) إن كان بلسان الحال أو بلسان المقال، فالناطقون يسألونه بلسان المقال كدعائنا لله، وكدعاء الملائكة لله‫.‬ وكذلك قد يُسأَل ربنا بلسان الحال، فالنبات هذا الذي تراه محتاج في وجوده للهواء، بل ونوع الهواء في النهار يختلف عن نوع الهواء بالليل، فهو محتاج بالنهار لثاني أكسيد الكربون، محتاج بالليل للأكسجين، محتاج في بقائه للماء، ومحتاج للغذاء ومحتاج للضياء، فما من موجود في الأرض إلا ومحتاج لله‫.‬ نعم! يسأله من في السماوات والأرض‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والسؤال تعبير عن الاحتياج، فمجرد الاحتياج كأنه سؤال، فأنت محتاج للتنفس، هل تسأل ربك النّفَس؟ أبداً! مَن مِنَّا يسأل الله أن يجعله يتنفس مثلاً؟ لا أحد! مَن مِنَّا يسأل الله أن يدق قلبه وأن يجري دمه في عروقه؟ مَن؟ لكن الجسم محتاج للهواء والنفس، والجسم محتاج لدقات القلب وحركة الحجاب الحاجز، ومحتاج للدورة الدموية وأن يتجدد الدم بصفة مستمرة لأن الدم يفسد ويتلف وهكذا، ولابد من التجديد، كل ذلك يحدث باحتياجك إلى الله ولو لم تسأل، فحاجتك تدل على السؤال‫.‬ ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تعبير عن الاحتياج المطلق لله، فما من موجود إلا وهو محتاج في وجود للباري (سبحانه وتعالى) يسأله من في السماوات والأرض بلسان المقال، بلسان الحال‫.‬ ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (كلَّ) نُصِبَ بالظرفية‫.‬ أو نُصِبَ بالظرفية للسؤال ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ ثم تبتدئ (هو في شأن) وإن كان ذاك رأي ضعيف‫.‬ (كل يوم هو في شأن) هل هما يومان فقط؟ الدهر يومان؛ يوم الدنيا بأسرها، ويوم القيامة‫.‬ أما شأنه في يوم الدنيا فهو الابتلاء والاختبار والابتلاء بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، ذاك شأنه في يوم الدنيا‫.‬ وشأنه في يوم القيامة‫:‬ الجزاء والحساب والثواب والعقاب، ذاك قول‫.‬ والقول الآخر‫:‬ (كل يوم) من أيام الدنيا، من أيام هذا الدهر، كل يوم هو في شأن، تُرى ما هو هذا الشأن؟ قالوا‫:‬ يغفر الذنوب ويستر العيوب ويكشف الكروب، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يُخرِج الحي من الميت ويُخرِج الميت من الحي، يُعافي مُبتَلى ويبتلي مُعافَى، يُعِزُّ ذليلاً ويَذِلُّ عزيزاً، يُغنِي فقيراً ويُفقِر غنياً، يُمرِض صحيحاً ويُصِحُّ مريضاً، وهكذا شئون الله لا عَدَّ لها ولا حصر‫.‬ و (الشأن) هنا بمعنى الجمع، و (الشأن) في اللغة‫:‬ الخَطْبُ العظيم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫و (الشأن) في هذه الآية بمعنى الجمع، بمعنى الشئون، (كل يوم هو في شأن): أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقوام ويضع آخرين، ولا يشغله شأن عن شأن‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ وانظر إلى أحوال الدنيا، في كل يوم الشمس تشرق والشمس تغرب، الرياح تهب، المطر ينزل، أمواج البحار، حركة المياه، حركة الإنسان، فلان مات، فلان وُلِد، فلان أفلس، فلان اغتنى، فلا ربح، فلان خَسِر، فلان عَزّ، فلان ذَلّ، فلان عوفي، فلان غُفِرَ له، فلان ابتُلي، وهكذا شئون وشئون، فسبحان من لا يشغله شأن عن شأن، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ثم يأتي التهديد ويأتي الوعيد بعد ذكر كل ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‫.‬‬‬‬‬‬‬
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ ﴿31﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿32﴾
و (الثقلان): مثنى ثَقَل، و (الثقلان): الإنس والجن، وأُطلِق على الإنس والجان الثقلان لأنهما أُثقِلا بالتكاليف، أو لأنهما أُثقِلا بالذنوب وبالمعاصي، أو لأن الأرض أُثقِلَت بهما، وقول الله ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [سورة الزلزلة آية‫:‬ ٢]. والثَّقَل في الأصل‫:‬ الشيء الذي له قَدْر ووَزْن يُنافَس به‫.‬ ﴿الثَّقَلَانِ﴾ هل لأمرهما شأن؟ هل لأنهما أعظم الخلق؟ هل لأنهما هما المكلفان دون الخلق؟ ثقُلا بالتكاليف أم ثقُلا بالذنوب أم ثَقُلَ أمرهما أم عَظُمَ شأنهما؟ (سنفرغ لكما): والفراغ بعد الشغل، فَرَغَ من الشيء يَفرُغ منه وفَرَغَ للشيء وتَفَرَّغَ للشيء‫:‬ أَفْرَغَ جهدَه فيه، فهل لربنا شغل يفرغ منه؟ حاشا وكلا ولله المثل الأعلى! هو الله ليس كمثله شيء! إذاً فمعنى (سنفرغ لكم) هنا‫:‬ سنقصد، ولذلك قُرِأَت (سنفرُغ إليكم) كما قُرِئت (سنفرغ لكم)، وقُرِأَت بقراءاتٍ عديدة‫:‬ سَنفْرُغُ سَيُفْرَغُ سَيَفْرُغُ سَنَفْرَغُ سَيَفْرَغُ. ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ فالفراغ هنا بمعنى القصد، أي سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم في يوم القيامة‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ ربنا (تبارك وتعالى) وعد وأوعد، وعد الطائعين بالنعيم، وأوعد الفجار بالجحيم، ولابد من أن يأتي يوم يقسم الله (تبارك وتعالى) فيه ذلك ويحقق الوعد والوعيد، ويوصل كل فريق إلى ما كُتِبَ له، هذا القَسْم وهذا الإيصال حيث يوصل أهل النعيم إلى النعيم وأهل الجحيم إلى الجحيم هو المقصود بمعنى (سنفرغ لكم أيها الثقلان) أي سنوصل كل فريق إلى نتيجة عمله‫.‬ ومنهم من قال ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ بمعنى أن يوم القيامة لن يكون هناك شأن لله إلا الجزاء والحساب والثواب والعقاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وهل في ذلك نعمة –سنفرغ لكم -؟ نعم! هو تهديد ووعيد لأهل العصيان والفجور، وهو في نفس الوقت أمل وبشرى لأهل الطاعة وأهل الإيمان، لأن الله (تبارك وتعالى) سيوصلهم إلى النعيم وإلى ما وُعِدوا وإلى الجنة وإلى لقاء الكريم، فبأي الآء ربكما تكذبان؟ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬
‫وتتوالى الآيات من سورة الرحمن، تُذَكِّر الناس بآلاء الله (تبارك وتعالى) وتُعَدِّد مظاهر من قدرة الله تبارك وتعالى في خلقه وإيجاده، كيف خلق الإنسان وكيف علّمه البيان، كيف جعل الشمس والقمر بحسبان، كيف رفع السماء ووضع الميزان، كيف مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، كيف امتن بتعليم القرآن، كيف خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار، كيف خلق المتضادات، كيف وفّق بين المركَّبات، كيف أَلَّفَ بين المتنافرات‫.‬ ثم بَيَّنَ لنا ربنا (تبارك وتعالى) أن ما من موجود إلا وهو فانٍ في ذاته غير مستحق للوجود بذاته، بَيَّنَ لنا أن كل موجود محتاج لواهب الوجود في بقائه، في رزقه، في أجله، في سيره، في حركته وسكونه‫.‬ يبين لنا كيف يسأله من في السموات والأرض بلسان المقال وبلسان الحال، فالكل ممدود من رب الوجود، فالزهرة على بستانها، والحبة في سنبلها، والنملة في جحرها، والنحلة في عشها، والجنين في بطن أمه، والفرخ في بيضه، وكل شيء ممدود من الله بمدد الوجود، فالكل يسأل بلسان المقال ويسأل بلسان الحال، وإذا نظرتَ في نفسك وجدتَ نفسك محتاجاً لله في نومك ويقظتك، بل في هضم طعامك وفي إخراج فضلاتك، بل في النَّفَس، في كل شيء، في الحركة وفي السكون، فما من موجود إلا وهو محتاج لواهب الوجود شاء أم أبى، سأل أو لم يسأل، فحاله ناطق باحتياجه‫.‬ ثم بَيَّنَ ربنا (تبارك وتعالى) أنه لم يخلق الخلق همَلْاً، بل خلقهم لغاية وخلقهم لحكمة، وما من بداية إلا ولها نهاية، فبَيَّنَ لنا أن هناك يوم يُسأَل فيه الإنسان عما جنته يداه ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ والخطاب للإنس والجان، سنقصد إلى مجازاتكم، ونوصل كل إنسان إلى منتهى سعيه، فمن عمل للآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن وجد نتيجة سعيه، ومن سعى للدنيا وكان جُلُّ همه تحصيل ما فيها من متع وزيف وجدها زخرفاً وغروراً وجاء إلى ما عمله فوجده هباءً منثوراً.‬‬‬‬‬
‫وفجأة يلتفت الخطاب لمن هم أهلٌ للخطاب، للمخاطَبين من الإنس والجن ألا وهم المكَلَّفون، وقد كانت السورة تسير على نَظْم من تعداد الآيات والآلاء، تُبَيِّن لكل من يسمع ويعقل وجود الله (تبارك وتعالى) وتُبَيِّن الهيمنة والسلطان والقدرة والإحكام، وفجأة يتوجه الخطاب صراحة‫:‬‬‬‬
يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا۟ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُوا۟ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَـٰنٍۢ ﴿33﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿34﴾
والخطاب الموجه مباشرة للمكَلَّفين وهم الإنس والجن يخيف ويرعب، أيضاً يلفت النظر إلى ما أمر غاية في الخطورة ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾ لفتة حيرت السلف (رضي الله عنهم وأرضاهم) فما كان يخطر على بالهم أن الإنسان يأتي عليه زمن يُعلِّمه الله فيه ما لم يعلم، فيصعد إلى أجواء الفضاء ويطير بالطائرات متنقلاً من بلد إلى بلد، بل ويرسل بالصواريخ عابرة القارات، ويرسل بالأقمار الصناعية ويصل إلى القمر وإلى أجواء الفضاء العليا، من هنا حين فسروا الآية فسروها بما هو متاح لهم في زمانهم، والقرآن نزل لكل زمان ومكان، فيه ما يخص الناس الأُوَل، وفيه ما يخصنا، وفيه ما يخص من هم مقبلون بعدنا، والله يعلم ما يكون عليه الحال وهو المعَلِّم للناس، فما من علم إلا والمعَلِّم هو الله، ونحن لا نعلم ما سوف يكون وربنا ينبئنا ويقول‫:‬ ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٨]. من هنا فسر الأوائل هذه الكلمة، قالوا هذا يحدث في الدنيا والناس في أسواقهم مشغولون ويتعاملون يأمر ربنا (تبارك وتعالى) السماء فتنشق بأهلها، وإذا الملائكة على أرجائها، ثم يأمر السماء الثانية فتنشق وإذا بسكانها من ملائكة الله على أطرافها، وهكذا حتى السماء السابعة، فتنزل الملائكة فتحيط بالأرض بما عليها، هنا يفر الإنس والجن فلا يجدون فراراً ولا ملجأً فقد أحاطت الملائكة بهم من كل مكان، هنا تتحقق الآية ويقال لهم‫:‬ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا؛ أمر على التعجيز لأنهم لن ينفذوا، لذا قال‫:‬ ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ بقوة وقهر، أو بعذر، أو بأمرٍ من الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم بل الآية في شأن الآخرة فإذا كان يوم القيامة انشقت السموات كقوله‫:‬ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(١)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(٢)﴾ [سورة الانشقاق آية‫:‬ ١ - ٢] تشققت السماء ونزلت الملائكة صفوفاً صفوفاً، صفٌّ وراء صف، ملائكة السماء الدنيا ثم ملائكة السماء الثانية وهكذا، ثم نزل المَلَك الأعظم في بهائه وجلاله وعن ميسرته جهنم، فأحاطت جهنم بالخلائق، هنا يحاول الإنس والجن فراراً فلا يجدون الفرار، فيناديهم ربهم‫:‬ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان، وهو أمر الله بالتجاوز عن أهل النعيم فيجتازوا الصراط ويساقون إلى النعيم‫.‬ وقال بعضهم أن الآية تفيد معنى أن قدرة الله محيطة بالعباد وأنه قد أحاط بخلقه، فالكلام يعني‫:‬ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، أي بالعلم، أي تعلموا ما وراء الأرض وما وراء السماوات، و (الأقطار): الجهات والأركان والحواف، وإذا استطعتم أن تتجاوزوا بعلمكم ما وراء الأرض وما وراء السماوات فانفذوا لتَعلَموا لا تَعلَموا شيئاً إلا بسلطان وهو البيِّنات التي أنزلها الله حتى يعرج بها الإنسان، بفكره وبعقله وبتأمله، لما يشاء الله أن يُعَلِّمه إياه، فالآية عن العلم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫تلك أقوال السلف (رضى الله عنهم وأرضاهم) فيما هو متاح، ولو تأملنا الآن بعد ما اخترع الإنسان الطائرات وتجاوز الفضاء وصعد إلى القمر، وهاهم يرسلون الصواريخ والأقمار الصناعية تطوف حول الأرض وتذهب إلى الزهرة وإلى الكواكب المختلفة والتي تشابه الأرض في شكلها ودورانها حول الشمس، أيكون الخطاب لهؤلاء؟ (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا) أي أن الإنسان مهما بلغ شأواً في العلم، ومهما تعلم وألهمه الله إلا أن له حدوداً لن يتجاوزها أبداً، وإذا نظرت إلى ما وصل إليه العلم، لا أقول بالطائرات أو الصواريخ أو الأقمار، لا أقول بذلك بل أقول بالنظر، بالتلسكوبات، بالأدوات والمجاهر الذي يمكن أن يصل الإنسان من خلالها لرؤية ملايين ملايين الأميال والفراسخ والمسافات بل والسنين الضوئية، بالنظر فقط لم يصل الإنسان بهذا النظر إلى أبعاد الكواكب والنجوم والفضاء المحيط بالكره الأرضية، ولم يصل العلم لا بالنظر ولا بالعلم ولا بالحساب حتى إلى السماء الدنيا، هل الكلام لهؤلاء؟ قد يكون، وقد يكون لمن يأتي بعدهم ويعلم الله ما سوف يتاح لهم من فرص العلم، وربنا فتح المجال وقال‫:‬ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٥٣]. ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾ قلنا إن الأمر‫:‬ (فانفذوا) أمر تعجيز لن يحدث، ثم يقول الله (تبارك وتعالى) ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(٣٣)﴾ و (السلطان): القهر، (السلطان): القوة، والقوة لصاحب القوة، والقهر للقهار، من أين تُستَمَد القوة؟ ومن أين يُستَمَد القهر؟ ومن أين تُستَمَد الحُجَّة والبينة والبرهان؟ (لا تنفذون إلا بسلطان).‬‬‬‬‬
‫وربنا (تبارك وتعالى) لم ينفِ النفوذ مطلقاً بل نفاه عن معشر الجن والإنس بإرادتهم وبمشيئتهم، لن تنفذوا، إن استطعتم أن تنفذوا فانفذوا؛ أمر تعجيز‫.‬ ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ إذا ً فقد يكون هناك نفوذ ألا وهو يوم القيامة حيث تصعد أرواح الصالحين إلى عليين وحيث يُهبَط بأرواح المجرمين إلى أسفل سافلين، حيث تنتهي الأرض وتنتهي السموات حيث يبرز الخلائق جميعاً إلى الواحد القهار، لاتنفذون إلا بسلطان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ هل في هذا الكلام آلاء ونعمة؟ هذا التهديد وهذا التعجيز هل فيه نعمة حتى يقول الله فبأي آلاربكما تكذبان؟ نعم! لأن الله إذا لفت أنظار العباد إلى قوته وقدرته وكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ثم بين لنا الحِلم والمساهلة والعفو مع كمال القوة والقدرة على المؤاخذة، أليس في ذلك نعمة؟ بلى! كل النِّعم في حِلمه وعفوه ومساهلته مع كمال قدرته ونفاذ مشيئته‫.‬ بعد أن بين عظمة الخلق في بعض آلائه وقدرته، الشمس والقمر بحسبان، السماء رفعها ووضع الميزان، وخلق الإنسان وخلق الجان، يبين لك عظمة الخالق (سبحانه وتعالى) ويبين لك أن الكل محتاج له، يلتفت إليك ويبين لك ضآلة هذا المخلوق، أتستطيع أن تنفذ من أقطار السماوات والأرض؟ هل يستطيع الإنسان أن يهرب من أمره وقضائه؟ هل يستطيع الإنسان أو الجن أن يفر من قدرته وإحاطته ومشيئته وأمره؟ ضآلهة، ليس في احتياجنا فقط له في وجدونا بل أيضاً نحن رغم احتياجنا في الوجود لواهب الوجود، إلا أننا لا زلنا ولا نزال وسوف نبقى على هذا الاحتياج والضآلة، فالقدرة التي مُنِحت لنا هي قدرة محدودة هدفها السعي في الأرض على الرزق والسعي لرضا الله (تبارك وتعالى) فبأي آلاء ربكما تكذبان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌۭ مِّن نَّارٍۢ وَنُحَاسٌۭ فَلَا تَنتَصِرَانِ ﴿35﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿36﴾
فُسِّرت الآية أيضاً كما فَسَّرَها السلف والعلماء الأفاضل رضي الله عنهم وأرضاهم وغفر لنا ولهم، قالوا (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) ذاك في يوم القيامة، أو ذاك في الدنيا والناس في أسواقهم حيث تشققت السماء ونزلت الملائكة وأحاطت بأهل الأرض من إنس وجن‫.‬ ويقولون عن الشُّواظ، والشُّواظ بالضم والشِّواظ بالكسر لغتان بمعنى واحد وهما قراءتان‫.‬ (الشُّواظ): اللهب الذي لادخان فيه‫.‬ (مِنْ نَارٍ) بيان‫.‬ (وَنُحَاسٌ) قالوا في شأن النحاس‫:‬ دخان لا نار فيه، أي يُرسَل عليكما شواظ من نار؛ لهب بغير دخان تارة، ثم يُرسَل عليكما دخان بغير لهب تارة أخرى‫.‬ والنحاس يستخدم في معنى الدخان، ويستخدم في معنى الطبيعة والأصل، فيقال فلان كريم النِّحاس‫:‬ أي كريم الأصل والطبع‫.‬ وقُرِأَت نُحاس بقراءات‫:‬ نُحاسْ، نِحاسْ، نَحْس، نُحُسْ، وقرأت (نَحُسُّ): نستأصل من قوله‫:‬ ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٥٢] تستأصلونهم، وكأن القراءة (يرسل عليكما شواظ من نار ونحسُّ فلا تنتصران) أي نستأصلكم‫.‬ قالوا النُّحاس والنِّحاس‫:‬ الصُّفْر المذاب‫.‬ ومادة النحاس معلومة، النحاس ذاك المعدن الأصفر كلنا يعرفه، لكنه يطلق على هذا الصُّفْر إذا أذيب وأصبح سائلاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ﴾ (نحاسٌ) معطوفه على (شواظٌ)، وقُرِأَت نُحاسٍ معطوفة على (نارٍ) على تقدير شيء محذوف، أي يُرسَل عليكما شواظٌ من نارٍ وشيءٌ من نحاسٍ، فحُذِفَ الكلام وقُرِأَت هكذا (يرسل عليكما شواظً من نارٍ ونحاسٍ) قراءات، وكلها في النهاية تفيد في حالة النفوذ، إن حدث ولن يحدث، يُرسَل على النافذ، أو الذي يحاول أن ينفذ، من أقطار السموات والأرض شواظ من نارٍ، يُصَبُّ عليه نحاس مذاب فيذيبه ويستأصله ويحرقه، أو يُرسَل عليه لهب تارة ودخان يعميه تارة ويغشي بصره فلايرى شيئاً، قالوا هذا يكون في يوم القيامة حيث جهنم بَرَزت وعُرِضَت ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ [سورة الفجر آية‫:‬ ٢٣] تأتي يجرّ سبعين ألف ملك زمامها، وتكاد تتفلت منهم فلتة فيدركونها، فوالله لو تفلتت لأحرقت أهل الموقف جميعاً، ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ١٠٠] فإذا جيء بجهنم وتشققت السموات هنا يُرسَل شواظ من نار ونحاس على محاولي الفرار، لأن الإنس والجن في هذه الحالة كلٌّ يحاول أن يفر، فيُرسَل على الفارين شواظ من نار ونحاس‫.‬ وقال بعضهم الآية ليست مختصة بالنفوذ فلن يكون هناك نفوذ مطلقاً من أقطار السماوات والأرض، وإنما الآية خاصة بالمكذبين، يُرسَل عليكما أيها المكذبون شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران، فلا تمتنعان، ولا ينصر بعضكم بعضاً، لانصير ولا وليّ إلا الله‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫وإن تأملنا في الآية، والله هو الملهم للصواب، إن تأملنا في الآية وجدنا الله يتكلم عن المستَرِقِين للسمع من الجن، ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ١٠] وتكلم عن النجوم فقال‫:‬ رجوماً للشياطين، فهل يمكن أن نفهم (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) أن هذا التهديد للمحاولين الاستراق للسمع من الجن في حالة الصعود، حيث كانت لهم في السماء مواضع لاستراق السمع، إذا بالشهب والنجوم تتلقفهم، وإذا بها تسعى وراءهم فتحرقهم، وقد أنبأنا العلم الحديث أن هذه الكواكب والنجوم موجودة مكونة من مواد ومعادن، هذا في شأن الكواكب كالقمر والزهرة والمريخ وما إلى ذلك، أما النجوم فهم بعيدون عن تخيل مكوناتها، أيكون من مكوناتها النار والنحاس؟ فإذا بالنار والنحاس يُقذَف على مسترق السمع؟ أيكون الكلام للإنسان إذا حاول في المستقبل أن يصعد إلى الأجواء العليا أو إلى الأقطار العليا من السماء الدنيا، أن الله لن يُمَكِّن الإنسان من ذلك، فإذا بالنجوم والكواكب وما إلى ذلك تتقاذف هذه الأدوات والآلات والمعدات المرسلة فترسَل على هذه الأدوات؟ أيكون الأمر كذلك؟ هو الله العالم بمراده‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ(٣٥)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٣٦)﴾ بأي قدرة من القدرات أو بأي نعمة من نِعَم الله (تبارك وتعالى)؟ وقد سبق وقلنا أن هناك نعمة قد يغفل الإنسان عنها ألا وهي نعمة الجاذبية، والتي اكشفها العلماء وتبين لهم أن بهذه الخاصية ثبت الكون على ما هو عليه، فالأرض فيها جاذبية وبهذه الجاذبية ثبتت الجبال وثبت الناس عليها، بل وثبتت المياه في البحار والمحيطات على الأرض، ولولا هذه الجاذبية لتناثرت الأشياء من على وجه الأرض إلى الفضاء وضاعت وتاهت، هذه الجاذبية معناها أنك إذا قذفت شيئاً إلى أعلى سقط مرة أخرى إلى الأرض، لِمَ يسقط ولِمَ لايذهب في الفضاء؟ يسقط بفعل الجاذبية، وكذلك كل شيء ساقط على الأرض يسقط بفعل جذب الأرض إليه، وهكذا ترى الأرض تمسكت بما عليها من ثابت وسائب، فكل الثوابت كالجبال متمسكة بها الأرض، والسوائب كالإنسان وكالبهائم وكالسيارات وكل شيء سائب تجد الأرض متمسكة به، وكذلك وجود الأرض في فَلَك الشمس ومدارها حول الشمس بجاذبية نشأت بين الشمس والأرض، بل هناك جاذبية نشأت بين الأرض والقمر، وبين المحيطات والقمر ينشأ عنه المد والجزر، وهكذا اكتشف العلم وجود هذه الخاصية الغريبة؛ التجاذب بين الأجرام المعلقة في الهواء، وما من نجم إلا وهو مجذوب لشيء، حتى الشمس تسعى وتجري في اتجاه النجم القطبي؛ ذاك النجم الثاقب ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(١)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(٢)النَّجْمُ الثَّاقِبُ(٣)﴾ [سورة الطارق آية‫:‬ ١ - ٣]، مركز الكون الأعلى، ذاك النجم شيء غريب فوق الخيال، تلك نعمة كبرى لولا هذه الخاصية ماثبتت هذه الأجرام السماوية وما ثبت الإنسان على الأرض، فبأي آلاء ربكما تكذبان‫.‬‬‬‬‬
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةًۭ كَٱلدِّهَانِ ﴿37﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿38﴾
إذاً فسوف يحدث انشقاق السماوات‫.‬ ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ (إذا) إجابتها محذوفة، إذا انشقت السماء ماذا يحدث؟ كأن الإجابة تقديرها‫:‬ رأيتَ ما يُفزع وما يُذهل، أمور أغرب من الخيال‫.‬ وما تفسير المفسرين إلا إشارات فقط، لكن الحقيقة لايعلمها إلا الله، لأننا لم نرَ هذا ولا نعرف كيف يكون الحال إذا أراد ربنا أن يَهُدَّ ويهدم هذا الكون ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٧] ثم يقول بعدها‫:‬ ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٨]. هو الذي بنى هذا الكون وهو الذي يهدمه بإرادته‫.‬ (فإذا انشقت السماء): تفتحت‫.‬ ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ فسروا كلمة (وردة) بالورد الأحمر وهم يطلقون على الورد الأحمر‫:‬ الورد‫.‬ (كانت وردة): أي كانت في حمرة الورد‫.‬ (كالدهان) الدهان جمع دُهن، والدُّهن إذا أذيب وسال، معنى هذا أن السماء إذا إنشقت فإذا هي في حمرة الورد وصفاء الدُّهن وذوبان الزيت، إذاً فالسماء سوف تذوب، وكيف تذوب السماء إلا إن كانت مبنية، وهي من معدن أيا ًكان نوعه، أهي من نحاس هي؟ انشقت فكانت كالورد في حمرته وكالدهان في ذوبانه وسيولته، قالوا هذا‫.‬ وقالوا (الوردة): الفَرَس‫.‬ الورد تجده أبيض اللون في الصيف فإذا جاء الشتاء ضرب إلى الحمرة، وكأن اللون يتغير فهي إشارة إلى أن السماء إذا انشقت تغيرت ألوانها حتى صارت في شدة الاحمرار، وفي شدة الذوبان كالدُّهن إذا ذاب‫.‬ أو (الدهان) مايُدهَن به ولونه أحمر في حمرة الورد‫.‬ تلك أوصاف يصفها المفسرون بما هو متاح من معاني الألفاظ، وحقيقة الأمر لا يعلمه إلا الله‫.‬ وقد يعجبنا قول أحد المفسرين الذي يقول إن السماء في أصلها لونها أحمر، وهي الآن حمراء لكننا نراها زرقاء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫قال إن السماء تُرى باللون الأزرق لشدة بُعدِها وطول المسافة ولوجود الحوائل بيننا وبينها، إذ بيننا وبين السماء غاز وفضاء وهواء وأتربة، هذه الحوائل تحول اللون الأحمر إلى اللون الأزرق، ودليله غريب‫.‬ قال انظر إلى عروقك في بدنك، إذا نظرتَ إليها وجدتَ لونها أزرق أهي زرقاء؟ أبداً! هذه العروق في البدن لونها أحمر بلون الدم، ولوجود الحائل وهو الجلد والشحم وما إلى ذلك، تُرى زرقاء وهي في حقيقتها حمراء، فكذلك السماء هي حمراء لوجود الحوائل نراها زرقاء، فإذا جاء يوم القيامة أُزيلَت الحوائل وانشقت السماء فرُئِيَت على حقيقها وهي حمراء‫.‬ أفكار وإلهامات وأقوال، جزاهم الله عنا كل خير والله (تبارك وتعالى) أعلم بمراده‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أفي هذا أيضا آلاء ونِعَمْ؟ نعمة لأن القادر إذا أخذك على غِرَّة، في هذا الأخذ شيء من القسوة، لكن القادر إذا أنذر وحذّر وبَيَّن فتلك نعمة، فالإنسان لايؤخذ على غِرَّة، بل نحن نعلم الآن أن هناك يوم القيامة، وأن هناك يوم تنشق فيه السماوات، وأن هناك يوم تهدم فيه الأرض، وأن هناك يوم يحاسب فيه الإنسان، فالإنذار والتحذير والتبيين والتخويف نعمة من القادر حتى نتعظ ونأخذ حذرنا، فنبعد عن المعاصي ونأتي بالطاعات‫.‬ فبأي آلاء ربكما تكذبان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يُسْـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٌۭ وَلَا جَآنٌّۭ ﴿39﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿40﴾
‫﴿ولاجأْن﴾ قراءة بالهمزة ﴿ولاجان﴾ قراءة‫.‬ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ كيف لا يُسأَل عن ذنبه إنس ولاجان وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [سورة الصافات آية‫:‬ ٢٤]؟ وهو القائل‫:‬ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(٩٢)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(٩٣)﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ٩٢ - ٩٣]؟ وقوله‫:‬ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [سورة التكاثر آية‫:‬ ٨]؟ آيات كثيرة تفيد وجود السؤال، وهنا يقول (فيؤمئذ لا يُسئل عن ذنبه إنس ولا جان) قال العلماء الأقوال الآتية، كلها صواب إن شاء الله والله أعلم بمراده، يقول بعضهم‫:‬ (فلا يُسئل عن ذنبه) أي ذنب المجرم، (إنس ولاجان) أي لا يُسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، أي المذنب إذا جاء لا يُسأل أحد غيره عن ذنبه، بل كل إنسان مسئول عن ذنبه، كل امرئٍ بما كسب رهين ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يُسأل أحد عن ذنب أحد‫.‬ وقال بعضهم (فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) سؤال استعتاب، أي يُسأل سؤال معاتب فيعتذر فيُقبَل عذره، وإنما السؤال سؤال تقريع وتوبيخ وإلزام للحجة ثم قَذْف على النار، ومن نوقِش الحساب هلك‫.‬ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٦] سؤال حُجة، سؤال تقريع وليس سؤال استعتاب، فهم لا يُستَعتَبون ولا يُؤذَن لهم فيعتذرون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم بل القيامة مواقف ومواطن، وما بالك بيوم القيامة، كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، يرونه بعيداً ونراه قريباً، فهذا اليوم مواطن، في موطن لا يُسألون وهو‫:‬ حين الحشر الكل يُحشَر ويخرج، وفي هذا الوقت هلع ورعب وفزع يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، الكل محشور‫:‬ وحوش وبهائم وحشرات وطيور وأسماك، الكل محشور، في ذلك الوقت لاسؤال، بل الكل في خوف، يومئذ لاتسمع إلا همساً، والهمس همس الرسل‫:‬ يارب سَلِّم سَلِّم يارب، فيومئذٍ لا يُسأَل عن ذنبه إنس ولا جان، ويتركهم ربنا ما شاء له أن يتركهم حتى يؤذن لسيد الخلائق أجمعين فيخر ساجداً تحت العرش، ويسأل ربنا (تبارك وتعالى) أن يقيم الميزان وينشر الديوان هنا تحدث المسألة‫.‬ أيضاً في وقت آخر وفي آخر يُسألون فيكذبون ويحلفون لله كما يحلفون لكم، ويقولون والله ربِّنا ما كنا مشركين، فيختم ربنا على أفواههم وتكلمه أيديهم وأرجلهم، هنا أيضاً لا يًسألون حيث يُختَم على أفواههم وتشهد عليهم الجوارح والجلود‫.‬ وقالوا أيضاً في مواطن أخرى إذا استقروا في جهنم قيل لهم اخسئوا فيها ولا تُكَلِّمون‫.‬ قال بعضهم (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) أي لا تسأل الملائكة الناس عن ذنوبهم، إذ يُعرَف المجرمون بسيماهم فلا يسأل الملائكة ربنا عن الصالح من الطالح أو الطائع من العاصي لأن الملائكة ترى الخلائق وقد كُشِفَت، وكُشِفَ عنهم الحجاب وكُشِفَ عنهم الستر وجاءت الفضيحة، ففُضِحَ العاصون وفُضِحَ الكافرون وظهر المعاصي والكفر والفجور على سيماهم، فهم زُرقُ العيون مُسوَدَّة وجوههم ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٠٦] ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [سورة طه آية‫:‬ ١٠٢]. إذاً يومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولاجان لأن الناس يُعرَفون بسيماهم، والدليل الآية التالية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫قالوا فالسؤالل، كما قلنا، يحدث في مواطن ولا يحدث في مواطن أخرى، أو عُرِفَ الناس بسيماهم، أو السؤال المنفي هو سؤال الاستعتاب والاعتذار الذي يتلوه، والسؤال المثبَت هو سؤال المناقشة ومن نوقش الحساب هلك، فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولاجان فبأي آلاء ربكما تكذبان‫.‬‬‬‬
يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَٰصِى وَٱلْأَقْدَامِ ﴿41﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿42﴾
‫﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ هذه الآية تؤكد قول القائلين إن السؤال غير موجود لأن المذنب معروف بالسيمة، (السيمة): العلامة، إذا فهم مُعَلَّمون يظهرون يوم القيامة لكل ناظر، سود الوجوه زُرق العيون‫.‬ ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ (النواصي): جمع ناصية، و (الناصية): شعر مقدم الرأس، فقال بعض العلماء أي يُسحَبون على وجوههم، تجرُّهم الملائكة من شعور رءوسهم من مقدم الرأس، يُجَر ويُسحَب على وجهه تارة ثم يُسحَب من قدمه تارة، إذا جُرَّ من قدمه سُحِبَ على رأسه، وإذا جُرَّ من ناصيته سُحِبَ على وجهه‫.‬ وقال بعضهم بل (يُؤخَذ بالنواصي والأقدام): يُجمَع بين الناصية والقدم بسلسلة تسحب رأسه إلى الخلف وتأخذ بناصيته إلى قدميه فيُقرَن بين الناصية والقدم بسلسلة‫.‬ وقالوا وقالوا وقالوا، ولا شأن لنا بما قالوا، بل نقول يارب سلم يارب، لانريد أن نرى ولا نريد أن نعرف، بل نريد أن ننجو‫.‬ ذلك يوم يشيب فيه الولدان، ذلك يوم لا يأمن فيه إلا الآمنون بأمن الله، ذلك يوم لا يستظل فيه إلا المستظلون بعرش الله، ذلك يوم لا ينجو إلا الفائزون بشفاعة الحبيب المختار (صلى الله عليه وسلم) ذلك يوم يقول الله فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، أهو نفي عن السؤال؟ أهي مواطن؟ أهو تهديد؟ قد يكون تهديداً، لأن القادر إذا قال‫:‬ لا يُسأَل عن ذنبه إنس ولا جان، معنى ذلك أنه لن يسأل أحداً، ولن يدع لأحد فرصة أن يُسأَل ويُجيب ويعتذر أو يستعجب وكيف يَسأَل وهو العلام، كيف يَسأل وقد أحصاها، كيف يَسأل وقد أمر الكَتَبة فكتبوا ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق آية‫:‬ ١٨] أهو تهديد؟ أهو إشعار للإنسان بأن كل شيء مكتوب مرصود مسجل عليه؟ حتى الملائكة التي سجلت في كُتُبها تراجع ما كتبته مع ما كُتِبَ من الأزل فتجده سواء، تنزل الملائكة وتسجل وقبل أن تصعد تَفُضُّ كتاباً مختوماً نزلوا به، فإذا بما كتبوه مسجل من الأزل، فالله (تبارك وتعالى) هو علام الغيوب، يسألهم وهو يعلم كل شيء، ما من حركة أو سكون إلا يعلمها، أهو إنذار؟ أهو تحذير حتى يتقي الإنسان الذين يسجلون عليه؟ إذا لم نَتَّقِ الملائكة الحفظة، إذا طعن المجرم في الصحائف بالتزوير، إذا اتهم الملائكة بأنهم غير عدول، إذا حلف، كيف له بجوارحه؟ كيف له بجلده؟ هل يمكن للإنسان أن يستتر من جلده؟ هل يمكن أن تعصي بغير جارحة؟ هل يمكن أن تسرق بغير يد؟ هل يمكن أن تغتاب بغير لسان؟ هل يمكن أن تنظر إلى المحارم بغير عين؟ هل يمكن أن تسمع بغير أذن؟ إذا كان هذا غير ممكناً فاحذر، فيؤمئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان، حيث تنطق الأيدي والأرجل والجلود ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٢١]، حتى الجلود لا تملك أن ترفض ولو استطاعت الجلود أن تنكر لأنكرت، لو استطاعت الجوارح أن تكذب لكذبت، لأن العذاب لا يطاق، ولأن الهول لا يُتَصَور، لكن الجلود لم تستطع أن تكذب ونطقت رغم أنفها، بدليل قولها ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ﴾ أي لم ننطق بذواتنا، ولم ننطق بإرادتنا، بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، وتعاتب الجلود أصحابها فتقول‫:‬ ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(٢٢)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(٢٣)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(٢٤)﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٢٢ - ٢٤] سواءٌ عليهم أصبروا أم لم يصبروا فيؤمئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان، نعم! يُعرَف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، أناس يُعرَفون بسيماهم فيُسحَبون على وجوههم، وأناس آمنون بسيماهم أيضاً ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ٨] وأولئك والعياذ بالله يُسحَبون ويؤخذ بالنواصي والأقدام، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هَـٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ ﴿43﴾ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍۢ ﴿44﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿45﴾
‫﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ﴾ ياستار يارب! تُرى من القائل‫:‬ (هذه جهنم)؟ من المشير إليها؟ ومن المتكلم؟ ومن خلق جهنم؟ القادر! وجاءت كلمة (جهنم) في أكثر من موضع في القرآن، حين يُقال عنها‫:‬ (هذه جهنم التي كنتم توعدون)، الكلام للكفار، وهنا يقول‫:‬ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ الكلام للمكذبين بالبعث، أهنا الخطاب كهناك؟ وكأن تلوين الخطاب يُشعِر بأن الكلام سوف يكون تارة للكُلّ: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) وكأن أهل الموقف جميعاً يرون جهنم، هل يراها المؤمنون؟ نعم! وهل يراها الرسل؟ نعم! لِمَ يرى الرسل ويرى المقربون جهنم، يرون جهنم ليعرفوا فضل الله عليهم ليشعروا بمدى النعمة، ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [سورة آل عمران آية‫:‬ ١٨٥] ليرى العبد الصالح هذا موطنه ومجلسه وموضعه من جهنم التي كذّب بها المجرمون وقد صدّق بها وآمن واتقى الله فنجّاه الله منها وأبدله بها الجنة، فيستشعر العبد فضل الله، إذ لولا الظل ما عُرِف الحَرور، ولولا الأعمى ما شكر البصير، وهكذا بضدها تتميز الأشياء، من هنا وكأن الكلام لأهل الموقف جميعاً أما هناك‫:‬ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(٦٣)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(٦٤)﴾ [سورة يس آية‫:‬ ٦٣ - ٦٤] الخطاب للمجرمين في حال سوقهم إلى جهنم، أما هنا الخطاب للكُلّ، لأهل الموقف‫:‬ (هذه جهنم) حتى يتبين للمصدقين بالغيب، ونحن المصدقون بالغيب والحمدلله، آمنا بالله وبكل ما أخبر به رسوله، يتبين لنا حينئذ أننا صدقنا بالغيب وهاهو الغيب قد ظهر‫.‬ (هذه جهنم) لكن نحن نراها من بعيد لا نسمع حسيسها، ونحن فيما اشتهت أنفسنا خالدون بإذن الله وبفضل الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(هذه جهنم) العَرضُ فقط كوصف النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قال‫:‬ "ومن نوقش الحساب هلك"، فقالت له زوجته‫:‬ كيف يارسول الله وربنا يقول‫:‬ ﴿فسوف يُحاسَب حساباً يسيراً﴾ قال‫:‬ "إنما هذا هو العرض فقط" وهو اجتياز الصراط وكلما قل نظرك إلى جهنم كلما ارتفع مقامك، فالجواز على الصراط ذاك هو العرض، فمارٌّ مَرّ البرق فهي لمحة لجهنم تكفي والحمد لله، وهناك من يمر بطيئاً مَرَّ السحاب، أو مَرَّ الراكب المسرع، أو يمر ماشياً، أو يمر حبْواً، فذاك يطول نظره إلى جهنم، وكلما طال نظره إلى جهنم امتلأ رعباً وخوفاً وما إلى ذلك‫.‬ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ(٤٣)يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ(٤٤)﴾ إذاً فهم في شغل، أما أصحاب الجنة فهم في شغل فاكهون، وأما هؤلاء فهم يشتغلون بالطواف بين الجحيم وبين الحميم، مرة في الجحيم فإذا استغاثوا أُغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، إذا قُرِّبَ إليهم ليشربوه تساقطت جلود وجوههم، تساقط اللحم من على العظم وتهرأ الوجه من حرارة الماء، فما بالك إن شربه؟ هؤلاء ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ (الحميم): الماء الحار الساخن، (آن): بلغ الغاية في الحرارة، من أَنَى‫:‬ نضج، إناهُ وأناهُ: نُضْجُه، وكأن الله (تبارك وتعالى) كما يقول بعض المفسرون، طبخ هذا الماء الحميم ولايزال يُطبَخ منذ خلق الله السموات والأرض ليبلغ الإنى ويبلغ أناه حين يشربونه‫.‬ (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي بلغ إناه الآن فهو يُطبَخ منذ خلق الله جهنم يَعُدُّه لأهل النار والعياذ بالله، تارة في الحميم وتارة في الجحيم‫.‬ وقال بعضهم (الحميم): وادي من أودية جهنم‫.‬ وقال بعضهم (الحميم): عصارة أهل النار، ما يسيل من جروحهم وحروقهم وتَهَرُّؤ جلودهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ نِعَمْ؟ نَعَمْ! التحذير نعمة، والتخويف نعمن، إذا جاءك المحب فحذرك من أمرٍ ما إذاً فهو محب له فضل عليك، وإذا سرت في طريق فجاءك من يقول إياك إياك ففي الطريق قُطَّاع طرق، أو في نهاية الطريق حُفَر فخوّفك وحذّرك إذاً فتلك نعمة، من هنا كان التحذير والذكر ليوم القيامة، والوصف لجهنم وأهلها نعمة من الله، نعمة على الطائعين حتى يتقوا شر غضب الله، من هنا قال‫:‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وجاءت الآية سبع مرات في ذكر جهنم وما فيها، بعدد أبواب جهنم، أعاذنا الله (تبارك وتعالى) منها‫.‬ أما في ذكر الجنان فجاءت ثمان مرات بعدد أبواب الجنة‫.‬ ومن رحمة الله أن زادت أبواب الجنة عن أبواب النار، حيث غَلَبت رحمتُه غضبَه، وبضدها تتميز الأشياء، وبعد ذكر الفجار يأتي ذكر الأبرار‫:‬ (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وما أدراك ما الجنتان! أهي جنة للإنس وجنة للجن؟ أهي جنة لكل طائع من الإنس وجنة لكل طائع من الجن؟ أهما جنتان لكل طائع من الإنس وجنتان لكل طائع من الجن؟ هل هي جنة أم جنان؟ بلى هي جنان وليست جنة واحدة! بل هي جنان وجنان، جنة عدن، جنة النعيم، جنة الخلد، جنة الإقامة، دار السلام، جِنان وجنانِ لا يعرف مداها إلا الرحمن الذي عَلَّمَ القرآن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ ﴿46﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿47﴾
إن الخوف نعمة، بل الخوف من أجلّ النِعم وأعظمها، وخوف الإنسان في الدنيا شعور إنساني حُرِمَ منه بعض الناس وأولئك هم الأشقياء، ومنح ربنا تبارك وتعالى لعباده الصالحين هذا الخوف، ومن أمثلة هذا الخوف، الذي هو من أجلّ النِّعَم، من خاف على نفسه الهلاك اهتم بطعامه وغذائه، ومن خاف على أولاده الضياع اهتم بتربيتهم وتنشئتهم، ومن خاف على نفسه المرض وقى نفسه من أسبابه، فالوقاية خير من العلاج، ومن خاف الفقر سعى في طلب الرزق، وكل خوف في هذه الدنيا يؤدي إلى سعادة وصلاح، فالخوف نعمة‫.‬ وأعلى مراتب الخوف‫:‬ الخوف من الله، وتلك نعمة لاتعدلها نعمة، وقديماً قالوا‫:‬ من خاف سَلِم‫.‬ وقد بشر نبينا (صلى الله عليه وسلم) الخائفين بأمرين‫:‬ الأمر الأول ظل العرش حيث لاظل إلا ظل العرش في يوم تقترب الشمس فيه من الرءوس؛ رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه يظله الله بظل عرشه‫.‬ والبشرى الثانية الأمان والسلامة من مس النار؛ عين بكت من خشية الله لا تمسها النار أبداً. وهذا التبشير في موقف الفزع، البشارى بالأمن، البشارى بالسلام، للخائفين‫.‬ نعم! فطوبى للخائفين، فالخوف نعمة وأيُّ نعمة‫.‬ والله أعد للخائفين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن رزقه الله (تبارك وتعالى) الخوف منه في الدنيا رزقه الأمان يوم القيامة، ومن حُرِمَ الخوف في الدنيا ابتُلِيَ بالخوف يوم القيامة‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ وبادئ ذي بدء سوف نتكلم في الألفاظ من حيث هي ألفاظ عربية، وكل لفظ يدل على مدلول، وأما ما شُرِحَ أو ما وُصِفَ أو ماجاء ذكره في الآيات التالية عن وصف لأمور ولأشياء في هذه الجنات فهو مما وراء العقل لن يصل إليه عقل مخلوق إلى أن تقوم الساعة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(ولمن خاف مقام ربه) (المقام): مصدر بمعنى القيام، وقد يكون المعنى‫:‬ من خاف قيام ربه عليه وهيمنته عليه ورقابته له في هذه الدنيا، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [سورة الرعد آية‫:‬ ٣٣] فالقيام‫:‬ المراقبة، الهيمنة، من هنا كان المعنى‫:‬ من خاف مقام ربه؛ أي خاف الهيمنة والرقابة والمباشرة والقيام في هذه الدنيا، هذا الخائف له جنتان، ذلك العبد الذي إذا هَمَّ بمعصية ذكر الله فارتدع خوفاً منه جزاؤه ماوُصِف فيما هو آت‫.‬ أو (من خاف مقام ربه) أي مقامه للحساب يوم الحساب، حيث يحاسب ربنا كل إنسان بنفسه ليس بينه وبين العبد ترجمان، فمن خاف هذا الموقف؛ موقف العبد بين يدي الله، و (المقام) قد يُنسَب إلى العبد، مقام العبد ويضاف إلى الله تعالى، كما حدث في الأجل حيث نُسِبَ مرة إلى الناس ونُسِبَ مرة إلى الله في قوله‫:‬ ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٤٩] قال عَزَّ مِن قائل‫:‬ ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة نوح آية‫:‬ ٤] فالأجل أجل العباد، نُسِبَ إليهم مرة، وقد يُضاف إلى الله مرة، فكذلك المقام هو مقام العبد وأضيف المقام لله؛ بمعنى قيام الله، أي موقف الله للحساب، أو موقف العباد بين يدي الله، أو قيام الله يعني بمراقبة الله للعبد وإشرافه عليه في هذه الدنيا، فإن الله (تبارك وتعالى) يرى ويسمع ولا يحول دون حِلمه حائل‫.‬ (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) و (الجنة): بستان من حيث اللفظ، سُمِّيَ البستان جنة إذا كثرت أشجاره والتفت أغصانه فسُتِرَ السائرون في هذه الجنة عن الأعين، من (الجَنّ) وهو التغطية والستر، و (الجِنَّة) سُمِّيَت جِنَّة لأنها لاتُرى، فالجنة ما سَتَرت أشجارها وأغصانها أرضها والسائرين فيها والجالسين فيها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(جنتان) تُرى جنتان للخائفين عموماً؟ أم هي جنتان جنة للخائف من الإنس وجنة للخائف من الجن لأن الخطاب للإنس والجن (يامعشر الجن والإنس)؟ وأرجح الأقوال الجنتان للخائف من الإنس، والجنتان للخائف من الجن، فلكل خائف جنتان، ففضل الله لا يُعَدُّ ولا يُحصى‫.‬ (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ولك الحمد، نِعَم في الدنيا ونِعَم في الآخرة لا تُعَدُّ ولا تُحصى منها الخوف، نعمة كبرى‫.‬‬‬‬‬
ذَوَاتَآ أَفْنَانٍۢ ﴿48﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿49﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴿50﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿51﴾ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـٰكِهَةٍۢ زَوْجَانِ ﴿52﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿53﴾ مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ فُرُشٍۭ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍۢ ۚ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍۢ ﴿54﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿55﴾ فِيهِنَّ قَـٰصِرَٰتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌۭ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّۭ ﴿56﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿57﴾ كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ ﴿58﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿59﴾ هَلْ جَزَآءُ ٱلْإِحْسَـٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَـٰنُ ﴿60﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿61﴾
‫﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ الوصف للجنتين، (الأفنان): جمع (فَن)، و (الفَنَّ): الصنف والنوع‫.‬ (ذواتا أفنان): أي ذواتا أنواع وألوان من الفاكهة والثمار لايعلمها إلا الله‫.‬ أو (أفنان): جمع فَنَنْ، و (الفنن): الغُصن الهيّن الليّن الطري الدقيق، (ذواتا أفنان): أي ذواتا أغصان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولابشيء من نعمك ربنا نكذّب فلك الحمد‫.‬ ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ (عينان): أَهُما من الماء؟ من أي شيء؟ عيون خمر؟ عيون عسل؟ عيون لبن؟ عينان تجريان من أين وإلى أين؟ أهما السلسبيل والتسنيم؟ (التسنيم) يشرب بها المقربون، أهي السلسبيل؟ عينان تجريان من الأعالي إلى الأسافل أم من الأسافل إلى الأعالي؟ أم تجريان بأمر صاحب الجنتين يُجريهما حيث يشاء؟ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ (زوجان): صنفان، قالوا رطب ويابس، قالوا صنف معروف لنا عُرِّفَ لنا في الدنيا وصنف غريب غير مألوف، قالوا وقالوا، ربنا يقول‫:‬ ﴿كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ صنفان، وفي موضع آخر يقول عن هذه الفواكه إذا رأوا هذه الثمار‫:‬ ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٥] أبداً! هو شيء آخر، والفواكه ليست قوت، وإنما الفواكه يُتَفَكَّه بها، لا تُؤكَل من جوع وإنما تؤكل للتَفَكُّه والتَّلَذُّذ، فإذا كان خالق اللذة هو الذي خلق الفاكهة ليتلذذ بها الصالحون تُرى أي صنف وأي لون وأي نوع وأي طعم؟ ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ هل هي فواكه الدنيا المألوفة؟ أو من كل فاكهة خلقها الله ولا يعلمها إلا الله؟ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم يقول الله واصفاً لأصحاب الجنتين‫:‬ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ(٥٤)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٥٥)﴾ ﴿متكئين على فُرُشٍ﴾ ﴿على فُرْشٍ﴾ قراءتان، ﴿جَنَى﴾ ﴿وجِنَى﴾ قراءتان‫.‬ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾ (الاتكاء): الاستناد، (الإتكاء): جلسة المسترخي المستريح، جلسة الآمن المطمئن، ليس فيها تحفظ وليس فيها استعداد لحركة، لقيام أو لنوم، الاتكاء منتهى الراحة، منتهى الاسترخاء، وهؤلاء أصحاب الجنتين متكئين على فُرُش، و (الفُرُش) و (الفُرْش) جمع فِراش، هم متكئين على فرش إذاً هم لا يعملون وهم لا ينامون وهم لا يتعبون، لاتعب ولا نصب ولا عمل، بل متكئين على فرش‫.‬ (بَطَائِنُهَا) (البطائن): جمع بِطانة، و (البِطانة) عكس الظِّهارة، فظاهر الثوب تلك الظهارة، وباطن الثوب تلك البطانة، والوصف للبطائن، بطائن الفرش أي مايلي الأرض من جهة الأرض بطائن، وما يجلسون عليه ويلاصقهم تلك الظهائر أو الظواهر، فالوصف للبطائن وهو ما يلي الأرض‫:‬ ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ والإستبرق ما غَلُظَ من الديباج، الحرير، تُرى كيف الظواهر؟ هذا ماهو موضوع على الأرض هي من إستبرق، أما الظهائر فلم يَرِد ذكرها ولا وصفها ولا يعلمها إلا الله‫.‬ ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ (جنى) اسم بمعنى المجني ما يُجتنى من الثمار والفواكه‫.‬ (دان): من الدنو، من القرب، فتلك شجرة عليها الثمار، فإن أردت ثمرة تدلت إليك الشجرة وجاءت الثمرة في يدك، لايمنع القاطف شوك ولا يمنعه بُعد، قطوفها دانية‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ (فيهن) جاءت هذه الكلمة مرة في هاتين الجنتين ومرة في الأُخريَين، وفي كل الكلام (فيهما)؛ (فيهما عينان تجريان)، (فيهما من كل فاكهة زوجان)، وجاء هنا وقال (فيهن) جمع، وهما جنتان لذا قال العلماء‫:‬ جَمَع الجنان؛ جنتين لهذا وجنتين لهذا، ففي كل الجنان فقال‫:‬ (فيهن). وقال بعضهم الأمر يلفت النظر، والوصف للجنتين وما ينطبق على هاتين الجنتين ينطبق على غيرهما من الجنان، فلِمَ قال (فيهن) عند ذكر الحور؟ قالوا (فيهن) بمعنى‫:‬ في كل مكان في الجنتين‫.‬ وقال آخرون (فيهن): في الفُرُش حور قاصرات الطرف لذا قال (فيهن) لبيان كثرة الحور الموجودة لهذا الخائف الذي خاف مقام ربه في الدنيا‫.‬ (قاصرات الطرف) (الطرف): مفرد أُضيف للجمع (قاصرات الطرف) لأن (الطرف) في معنى المصدر من قولهم‫:‬ طرفت عينه تَطرِفُ طَرْفاً، ثم سُمِّيَت العين به، وأطلق على الواحد والجمع‫.‬ (قاصرات الطرف): أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن، فنظر الحور مقصور على أزواجهن فقط، لاتنظر الحور إلى غير زوجها، قَصَرْنَ طرفهن وقصرن أنظارهن على أزواجهن‫.‬ ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ ﴿لم يطمُثْهن﴾ بالضم وبالكسر قراءتان وهما لغتان بمعنى واحد‫.‬ (الطمث) في الأصل‫:‬ هو الجماع المؤدي إلى خروج دم البِكر‫.‬ أُطلِقَ الطَّمْث بعد ذلك على كل جماع، ويُطلق الطَّمث أيضاً على اللمس‫.‬ ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ أي لم يَمَسُّهن ولم يجامعهن ولم يَفضُضْهُنَّ، فالطَّمْث‫:‬ الافتضاض، إزالة غشاء البكارة بالجماع‫.‬ (إنس قبلهم ولا جان) إذاً هم أبكار ولم يمسسهن أحد، وفي قوله (إنس ولا جان) أي الحور من الإنسيات للناس من الإنس لم يمسسهن إنس، والحور من الجنيات لمن خاف مقام ربه من الجن لم يمسسهن جان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذّب فلك الحمد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ والكاف للتشبيه والتمثيل، الكلام عن الحور (كأنهن الياقوت والمرجان)، وقال العلماء (الياقوت): ذاك الجوهر الصافي الذي إذا أدخلتَ فيه سِلكاً رأيت السِّلك من خارج هذا الجوهر، إذاً فالياقوت في صفائه والمرجان في لونه، كأنهن الياقوت والمرجان أي في صفاء البشرة وفي جمال اللون لون المرجان البياض المشرب بحمرة، قالوا كأنهن الياقوت والمرجان في بياض البشرة وحمره الوجنة؛ حمرة الخدود، قالوا وقالوا، ولن نعرف الحق إلا إذا رأينا الحور، فحين نرى إن شاء الله نعرف الوصف، وربنا يقول (كأنهن الياقوت والمرجان) في النفاسة، فتلك جواهر نفيسة في الصفاء، في اللون، في الحفظ، في الصيانة، كأنهن الياقوت والمرجان‫.‬ (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (هل) في الكلام تأتي على أربعة أوجه‫:‬ الوجه الأول (هل) بمعنى (قد) كما في قوله (تبارك وتعالى): ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [سورة الإنسان آية‫:‬ ١] هذا ليس سؤال وإنما (هل) بمعنى (قد)؛ قد أتى على الإنسان‫.‬ الوجه الثاني (هل) تأتي بمعنى الاستفهام كقوله‫:‬ ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٤٤] استفهام‫.‬ الثالث (هل) تأتي بمعنى الأمر، كما جاء في قوله (تبارك وتعالى) محرماً للخمر‫:‬ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٩١]. وكذلك (هل) تأتي بما يفيد معنى الجَحْد كقوله (تبارك وتعالى): ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٣٥] أي ليس على الرسل إلا البلاغ المبين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ فهي ليست بمعنى (قد)، وليست بمعنى الاستفهام، وليست بمعنى الأمر، وإنما هي جاءت بما يفيد الجحد، أي ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، أي هل جزاء من أحسن في الدنيا بالعمل الصالح وبخوفه من الله إلا أن يُحسَن إليه بالجنتين‫.‬ وقد يكون المعنى‫:‬ هل جزاء من أحسنتُ عليه بنعمتي وتوحيدي ومعرفتي إلا الجنة؟ وقد ورد عن الترمذي الحكيم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تلا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ ثم قال لأصحابه‫:‬ "أتدرون ماذا يقول ربكم؟ " قالوا‫:‬ الله ورسوله أعلم، قال‫:‬ "الله (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ هل جزاء من أنعمتُ عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا الجنة؟ " فأنتَ إذا وَحَّدتَ الله فتلك نعمة من الله، وأنت إذا عبدتَ الله فتلك نعمة من الله، إذاً فقد سبق منه الإحسان، ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية‫:‬ ١٠١] فهل جزاء الإحسان السابق من الله إلا الإحسان اللاحق من الله؟ أي هل جزاء من أنعمتُ عليه أزلاً إلا أن أحفظ عليه الإحسان أبداً. لأن الله هو رب الإحسان ومنه الإحسان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ولك الحمد‫.‬ ليس فقط لمن خاف مقام ربه جنتان بل هناك جنتان أخريان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿62﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿63﴾ مُدْهَآمَّتَانِ ﴿64﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿65﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿66﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿67﴾ فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌۭ وَنَخْلٌۭ وَرُمَّانٌۭ ﴿68﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿69﴾ فِيهِنَّ خَيْرَٰتٌ حِسَانٌۭ ﴿70﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿71﴾ حُورٌۭ مَّقْصُورَٰتٌۭ فِى ٱلْخِيَامِ ﴿72﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿73﴾ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌۭ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّۭ ﴿74﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿75﴾ مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍۢ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍۢ ﴿76﴾ فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿77﴾
‫﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ قال بعض الناس‫:‬ الجنتان الأُولَيان للمقربين، ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ أدنى منزلة وأقل رتبة لأصحاب اليمين‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل الأربع لمن خاف مقام ربه، وفضل الله واسع، وحين سئل النبي (صلى الله عليه وسلم): أَجَنَّة هي؟ قال‫:‬ "أَوَجنةٌ هي؟ بل هي جنان" ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ فَضَّلَ بعض العلماء الأوليين على الأُخرييْن، وفَضَّلَ آخرون الأخرييْن على الأولييْن، وهؤلاء ساقوا أدلة وهؤلاء ساقوا أدلة، وكلها تذهب أدراج الرياح، فلا يعلم ما في الجنتين الأُخريين إلا الله الذي خلق الجنان‫.‬ ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا﴾ أدنى، وقال بعضهم‫:‬ أدنى إلى العرش، فهي أعلى وأقرب إلى العرش‫.‬ وقالوا جنة المأوى، وجنة النعيم، وجنة الفردوس، وجنة عدن‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ (الدُّهمة) في الأصل‫:‬ سواد الليل، و (الدُّهمة): تُطلَق على الزرع إذا اشتد اخضراره وقارب الاخضرار غاية درجات النهاية في الخضرة من شدة الرِّي، من شدة الطراوة، فإذا كثر الرِّي للأخضر فازداد اخضراراً سُمِّيَ (مُدهامّ)، وادهامَّ الشيء يدهامُّ ادهيماماً: اسوَدّ أو اخضَرّ خضرة شديدة، والعرب تطلق على الأخضر أسود‫.‬ (الجنتان مدهامتان): خضراوان خضرة شديدة، أقصى درجات اللون الأخضر، كناية عن شدة الري‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ (نضاختان): فوّارتان‫.‬ (النضخ) أكثر وأشد من (النضح) بالحاء، (النضح): الرش، نضح الماء‫:‬ رش الماء‫.‬ أما النضخ أعلى وأكثر وأشد، (نضاختان): قالوا فوّارتان بالماء لاتقفان ولا تتوقفان، فوّارتان بالماء الزلال‫.‬ وقالوا فوّارتان بألوان الخمور والعسل واللبن والماء، وقال بعضهم‫:‬ بل نضاختان بالفواكه، ما لَذَّ وطاب من المأكول والمشروب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ نضاختان بالثياب الملونة والحور المزينة‫.‬ نضاختان بأي شيء؟ لم يقل ربنا بأي شيء تنضخ، بل قال‫:‬ (فيها عينان نضاختان) من حيث اللفظ‫:‬ فوّارتان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء ربنا من نعمك نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ في الجنتين الأُولَيين‫:‬ (من كل فاكهة زوجان)، هنا يقول‫:‬ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ هنا زيادة‫:‬ النخل والرمان، أهما من الفاكهة؟ قالوا ليستا من الفاكهة لأن الشيء لا يُعطَف على نفسه، كان يكفي أن يقول‫:‬ (فيهما فاكهة) كما قال في الجنتين الأُولَيين، فقال بعضهم ليستا من الفاكهة‫.‬ وقال بعضهم بل النخل والرمان من الفاكهة وخُصَّا بالذكر لمزيد فضلهما، فالنخل والرمان أفضل لأن النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، وكما اختص ربنا (تبارك وتعالى) جبريل وميكائيل في قوله‫:‬ ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٩٨] فقد جاء ذكْر الرسل والملائكة من قبل ثم اختص جبريل وميكائل بالذكر، يعلم الله‫.‬ (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) أهو نخل كنخل الدنيا؟ أو هو رمان كَرُمّان الدنيا؟ حتى نقول أهما من الفاكهة أم ليستا من الفاكهة‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ مرة أخرى قال (فيهن) ولم يقل (فيهما) كما حدث في الجنتين الأوليين‫.‬ (خَيْرَات) جمع خَيرة أي ذوات خير كثير‫.‬ ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ خيرات الخُلُق حسان الوجوه، وقُرِأت ﴿خَيِّرات﴾، و ﴿خَيِّرات﴾ ذوات الخير الكثير والخير العميم في الخُلُق، في السلوك، في الخَلْق، في اللبس، في كل شيء‫.‬ ﴿حِسَانٌ﴾ في الطلعة، في المنظر، في الوجه، في اللون، في الغضاضة، في البضاضة، في البياض، في كل شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ بل (خَيِّرات) أي مختارات؛ اختارهن الله بمشيئته فخلقهن باختياره فجعلهن لأحبابه‫.‬ (حسان) لا شك أن في الدنيا حُسن وقُبح، وتختلف أنظار الناس في الحُسن وفي تقديره، وكلما كان الواصف خبيراً بما يصف كلما كان وصفه أدق، فإذا وصف الفلاح شجرة أو زرعاً أو ثمرة بالحُسن فوصفه أدق من وصف غير الفلاح‫.‬ وحين يصف الرجل ذو الخبرة، مكتمل الرجولة، والذي دار وسافر ورأى كثيراً من النساء حين يصف امرأة بالحسن وصفه يكون أدق من الرجل الذي لم يرَ النساء في حياته أو رأى واحدة فقط‫.‬ هنا الواصف الخالق، الذي خلق الحُسن والحَسَن، فإذا كان الواصف للحُسن هو خالق الحُسن، تُرى هل نستطيع أن نصف هذا الحُسن؟ هو القائل‫:‬ (فيهن خيرات حسان) هو الذي خلق الحُسن في الدنيا وهو الذي خلق الحُسن في الآخرة، فإذا وصف الحور بأنهن حسان فهل بعد وصف الله وصف؟ ماذا نقول فيهن؟ وقد ورد عن الخيرات الحسان أنهن يتشابكن بالأيدي ويغنين بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها ولا أحسن منها، ويقُلنَ وهن يُغَنين بأصوات لا يعلم مدى حُسنها إلا الخالق للحُسن قائلات‫:‬ نحن المقيمات فلا نَظْعَن، أي لا نسافر، نحن الخالدات فلا نموت، نحن الناعمات فلا نبأس، نحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام‫.‬ تقول عائشة (رضى الله عنها): فيُجِبنَ المؤمنات من نساء أهل الدنيا قائلات‫:‬ نحن المصليات وما صَلَّيتُن، نحن الصائمات وما صُمتُنّ، نحن المتوضئات وما تَوضَّأتُنّ، نحن المتصدقات وما تَصَدَّقتُنّ. تقول عائشة فغَلَبْنَهُنَّ والله‫.‬ واختلف العلماء في فضل الحور على نساء المؤمنات، قال بعضهم‫:‬ الحور أفضل لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) في صلاة الجنازة يدعوللميت ويقول‫:‬ "أبدله زوجاً خيراً من زوجه"، وما وُصِفَت به الحور في القرآن‫.‬ وقال بعض الناس بل الأرجح والأقوى أن المؤمنة في الآخرة تَفْضُلُ الحور بسبعين ألف ضعف في كل ما وُصِف في الحور‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ(٧٠)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٧١)﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ الوصف للخَيْرات‫.‬ (حُور): جمع حَوراء، و (الحُور) فيها أقوال، (حَوراء) سُمِّيَت بذلك لأن الطَّرْف يحار في حُسنِها، فإذا نظرت إليها لاتدري أين تنظر، يَحَار الناظر في حُسنِها، أينظر إلى وجهها؟ أينظر إلى كفيها؟ أينظر إلى عينيها؟ أينظر إلى شفتيها؟ أينظر إلى شعرها؟ أين ينظر؟ فإذا بالنظر يتردد في كل شيء وفي كل جزء من أجزاء هذه الحَوراء فيَحَار الناظر في حُسنها، من هنا سُمِّيَت (حَوراء). وقال بعضهم‫:‬ (حَوراء) أي بيضاء من الحَوَرْ وهو البياض‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ (حَوراء) شدة بياض العين مع شدة سواء الحَدَق، فالحدقة سوداء والبياض في العين أبيض‫.‬ وقال بعضهم بل الحَوَر في العين‫:‬ شدة بياض العين مع الكُحل في الجفون؛ كُحل رَبَّاني، قالوا وقالوا وقالوا، يَعلَمُهُنَّ من خَلَقَهُنَّ، نسأل الله أن يكتبهن لنا حتى نعرف ونرى‫.‬ ﴿مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ امرأة مقصورة، امرأة قصيرة، امرأة مقصورة‫:‬ مُخَدَّرة في خِدْرِها، لا تتمشى ولا تخرج إلى الطرقات ولا تختلط، وذلك أمر تُمدَح به النساء الشريفات ذوات الشرف والمجد والسُّؤْدَد، في خِدْرِها لا تختلط بالرجال ولا بغيرها من النساء في الأسواق، لا يَطَّلِع عليها أحد، ربنا تبارك وتعالى يصف أولئك الحُور (مقصورات في الخيام): أي هُنَّ محبوسات، أو قُصِرنَ في الخيام فلا يختلطن بأحد‫.‬ (الخيام): جمع خيمة، والخيمة في الجنة ليست كخيمة الدنيا، الخيمة في الجنة من لؤلؤة واحدة لا فصل فيها ولا وصل، يقول الترمذي الحكيم‫:‬ أُخبِرنا بالرواية أن سحابة أمطرت من تحت العرش فخُلِقَت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضُرِبنَ عليها بالقباب والخيام من لؤلؤ على شواطئ الأنهار في الجنان‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(الخيمة) لؤلؤة واحدة لا فصل فيها ولا وصل وليس لها أبواب، فإذا جاء يوم القيامة وأُدخِلَ الخائفون في جنات ربهم، ودَخَلَ وَلِيُّ الله حيث شاء له الله في جنته أو جنتيه أو في جنانه، فإذا وصل إلى الخيمة، إلى لؤلؤة من هذه اللآلئ انصدعت عن باب يُخلَق في وقتها ولم يكن لها باب، فيعلم ولي الله أنهن مقصورات في الخيام لم ينظر إليهن مخلوق ولا مَلَك مُقَرَّب ولا إنس ولاجن، مقصورات في الخيام، فإذا نظر إلى اللؤلؤة انصدعت عن باب وكان أول ناظر لها‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬‬
‫ربنا (تبارك وتعالى) الخالق الذي أقام السماء بلا عمد، الذي جعل هذه الكواكب والنجوم مصابيح، أعداد مهولة ومسافات لا عَدَّ لها ولا حصر، وقصور ونِعَم، ربنا إذا خلق الجنة خلقها لأحبابه، فإذا رأيت في الدنيا نعيماً وقصوراً ومُلكاً كبيراً فذاك ربنا خلقه ليدمره ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٨]، كل ما تراه من نعيم في الدنيا خُلِقَ ليفنى، خُلِقَ ليُدَمَّر، بل خُلِقَ لكل بار وفاجر، أما نعيم الجنة فقد خُلِقَ ليبقى وخُلِقَ لأحبابه ولك أن تتخيل ما تشاء‫.‬ ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ(٧٢)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٧٣)لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ(٧٤)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٧٥)﴾ كما جاء في الحور اللاتي سبق ذكرهن، إذاً فَهُنَّ أبكار ويبقين هكذا، حتى إذا أتاها ولي الله كان هو الذي يفتض بكارتها، فإن أتاها مرة أخرى وجدها بكراً مرة أخرى‫.‬ ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ لم يطمث الإنسيات إنس ولم يطمث الجنيات من الحور جن، لأن الإنسيات لا يطمثهن جن في الدنيا حتى يقال لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ(٧٦)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(٧٧)﴾ ﴿متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان﴾ قراءة‫.‬ قالوا عن (الرفرف) ما يُفرَش من الثياب على السرير بمعنى الملاءة‫.‬ وقالوا (الرفرف) مازاد من كسر الخيمة‫.‬ وقالوا (الرفرف): الثياب الخضر‫.‬ وقالوا (الرفرف): الوسائد‫.‬ وكلمة (رفرف) أصلاً من (رَفَّ): علا وارتفع، ومنه (رفرف الطير) حرك أجنحته ليطير، ورفرف النبات يَرِفُّ رَفَّاً: زهى ونمى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فرفرف‫:‬ ارتفع ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ﴾ (الرفرف): بساط أخضر خلقه الله خصيصاً لأحبابه، إذا جلس عليه الولي، ذلك الذي خاف الله في الدنيا، تحرك به الرفرف حيث شاء فارتفع وانخفض وكان كالأرجوحة يؤرجحه حيث شاء، يطير به حيث شاء، يمر على خيمات أزواجه، ويمر على القصور، وينتقل به من جنة إلى جنة، كما قيل في الرفرف الذي جيء به لسيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) هناك حيث توقف جبريل وجاءه بالرفرف فجلس عليه فارتفع به إلى سند العرش‫.‬ فالرفرف ذاك البساط الذي يحمل من جلس عليه حيث شاء فيطير به حيث شاء في جناته، يطوف على أزواجه، يطوف على قصوره‫.‬ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ (العبقري): كل نفيس، كل جليل، كل خطير، كل جميل، كل غريب تُطلِق عليه العرب (عبقري) رجلاً كان أو امرأة، أياً كان من أشياء أو من ناس، ومنه حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن عمر بن الخطاب‫:‬ "فلم أرَ عبقرياً من الناس يَفري فَرِيَّه". و (العبقري): المُوَشّ من الثياب وكل ما كان الشيء جميلاً عظيماً نفسياً غالياً فخماً يقال عنه عبقري‫.‬ ورفرف ورفارف جَمع، وعبقري وعباقر جَمع، وقالوا عبقري اسم جمع وكذلك رفرف، وقالوا عباقري جمع الجمع‫.‬ المهم هي أشياء لا يعرفها إلا الذي خلقها فهو يبشرنا‫.‬ ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلْإِكْرَامِ ﴿78﴾
قُرِأَت بالرفع (تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) نعت لـ (اسم). ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ بالجر، نعت للذات العلية‫.‬ أما في أول السورة (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) قراءة واحدة بالرفع باتفاق، أما هنا فقُرِئت بالرفع وقُرِئت بالخفض‫.‬ (تبارك): تَفَاعُل من البركة‫.‬ البركة تعني النماء والزيادة، والبركة تعني الثبات والدوام، بَرَكَ البعير‫:‬ أناخ وثبت في محله فلم يتحرك، ومنه البِركة لثبات ماءها، فالبركة تعني الثبات وتعني الدوام وتعني النماء وتعني الزيادة‫.‬ (تبارك اسم ربك): كَثُرَ خيره ونما وزاد فضله‫.‬ أو (تبارك اسم ربك): جَلَّ وعلا وثبت، فهو الحق ثبت كما لم يزل ولا يزال‫.‬ ﴿ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ ربنا هو ذو الجلال والإكرام، جَلَّ يَجِلُّ جَلالاً: عَظُم، فإذا كان عظيماً في ذاته كريماً في فعاله فهو ذو الجلال والإكرام‫.‬ الإكرام لأنه أهل لأن يُكرَم عن الشرك وأن يُوصَف بمالا يليق‫.‬ الإكرام لأنه ما من نعمة ولا كرامة إلا وهو سبحانه وتعالى مصدرها فهو ذو الإكرام‫.‬ وهو ذو الجلال، الجلال‫:‬ العظمة، الجلال‫:‬ الكمال في كل شيء، الجلال‫:‬ التقديس، الجلال‫:‬ كل ما بلغ الغاية والنهاية من أوصاف الثناء والمدح‫.‬ ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ أو (ذو الجلال والإكرام) على أنها نعت للاسم‫.‬ قالوا الاسم هنا مُقحَم؛ (تبارك اسم ربك) أي تبارك ربك‫.‬ وقال بعضهم (تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) إذا كان الاسم ذو جلال وإكرام فكيف بالمسَمَّى (سبحانه وتعالى)؟ كيف بالذات العلية؟ وقال بعضهم‫:‬ (تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام) أيُّ اسم؟ الاسم الذي افُتِتَحت به السورة؛ (الرحمن)، فختام السورة متعلق بأولها؛ (الرحمن).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم أنشأ يحدثنا عن قدرته وخلقه للإنسان والجان والسموات والأرض، والشمس والقمر بحسبان، والبحرين يلتقيان، والجوار المنشآت في البحر كالأعلام، أوصاف للنِّعَم التي أنعم الله بها على الخلائق، ولقدرته ولإرادته، ولآلائه ونِعَمه وأفضاله، ثم وَصْفٌ لأهوال يوم القيامة، ثم وَصْفٌ للنار ولأهل النار، ثم وصف للجنتين، ووصف آخر للجنتين، ثم قال‫:‬ (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) أي أن كل ما ذُكِر في هذه السورة من فيض الرحمن، من فيض الرحمن، عَلَّمَ القرآن، الرحمن جعل لمن خاف مقامه جنتان، الرحمن أفاض عليه من فضله، جنة جزاء عمله، وجنة يرثها فضلاً من الله، جنة جزاء عمله وجنة جزاء خوفه، جنة له وجنة لأزواجه، جنة له وجنة لخَدَمِه، جنة فيها مقامه وجنة فيها تنزهه، أقوال وأقوال، وفضل الله (تبارك وتعالى) لا يَحُدُّه حَد ولا يُحصيه عَادّ ولا يصل إلى كنهه عقل، ولا يمكن أن يصل إلى كنهه فِكر، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هو الخالق وهو الخالق للحُسن، وهو الذي يصف ما خلقه بقوله‫:‬ (عبقري حسان) تُرى أيُّ حُسن خلقه رب الحُسن ورب الجمال، هو الله! تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام‫.‬‬‬‬‬‬