القرآن الكريم / سورة القمر / التفسير المقروء

سورة القمر

قال المشركون للنبي (صلى الله عليه وسلم): إن كنتَ نبياً حقاً فافلُق لنا القمر فِرقتين، وتعنتوا وطلبوا أن تكون فِرقة من القمر على جبل أبي قُبَيص والأخرى على جبل قَينُقَاع، طلبوا ذلك وسألهم النبي (صلى الله عليه وسلم): "وإن فعلتُ ذلك أتؤمنون؟ " قالوا‫:‬ نعم، فطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) من ربه هذه الآية طمعاً في إيمان قومه، وكان ذلك في السنة الخامسة من البعثة، سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) ربه فاستجاب الله له فانفلق القمر فِرقتين حتى رأى المشركون جبل حراء بين فِرقتي القمر، انفلق فِرقتين ونادى النبي (صلى الله عليه وسلم) عليهم بالاسم؛ يافلان، يافلان، اشهدوا، فلم يؤمنوا وقالوا هذا سِحرُ ابن أبي كبشة، نزلت سورة القمر، وسورة القمر كلها مكية يقول الله (تبارك وتعالى) فيها‫:‬‬‬‬‬

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ﴿1﴾ وَإِن يَرَوْا۟ ءَايَةًۭ يُعْرِضُوا۟ وَيَقُولُوا۟ سِحْرٌۭ مُّسْتَمِرٌّۭ ﴿2﴾ وَكَذَّبُوا۟ وَٱتَّبَعُوٓا۟ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍۢ مُّسْتَقِرٌّۭ ﴿3﴾
‫﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ دنت وقَرُبَت، ومن الغريب أن افتتاحية سورة القمر تُشعِر بقرب الساعة وختام سورة النجم تُشعِر بقرب الساعة؛ ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ(٥٧)لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ(٥٨)﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٥٧ - ٥٨]. وقُرب الساعة فيما يبدو للناس قد لا يكون متصوراً كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(٦)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(٧)﴾ [سورة المعارج آية‫:‬ ٦ - ٧]، وكل آتٍ قريب‫.‬ وقيل إن اقتربت الساعة لأن ما بقيَ من الدنيا أقل بكثير مما مضى منها، ورُوِيَ في الخبر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لهم يوماً وقد أوشكت الشمس على الغروب‫:‬ "لقد مضى من الدنيا كما مضى من يومكم هذا، ولم يبقَ من الدنيا إلا كما بقيَ من يومكم هذا"، أي أن الأمر قد حان‫.‬ (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وانشقاق القمر الآية التي حدثت بمكة حين انشق القمر، وقد وردت هذه الحادثة في أحاديث متواترة وموجودة في الصِّحاح‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ (اقتربت الساعة وانشق القمر) على التقديم والتأخير؛ أي انشق القمر واقتربت الساعة، وقد وقع فعلاً انشقاق القمر‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ (اقتربت الساعة وانشق القمر) هذا سوف يكون حين تقوم الساعة فعلاً حيث تنشق السماء ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ [سورة الانشقاق آية‫:‬ ١]، تنشق السماء بما فيها، وفيها القمر‫.‬ وقيل‫:‬ (انشق القمر): أي وَضَح الأمر، وَضَح الأمر أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) حق، والساعة حق، من قولهم في وضوح الأمر‫:‬ الأمر واضح كالقمر، أو وضح القمر‫:‬ بان وظهر الحق‫.‬ ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ هذه الآية تؤكد الرأي القائل بانشقاق القمر فعلاً وأن الآية مقصود بها ما حدث من انشقاق القمر، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ (وإن يروا آية يعرضوا) إذاً فقد رأوا الآيات، وهذه من الآيات الكبرى؛ انشقاق القمر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً﴾ أي مهما أرسلنا إليهم من الآيات ﴿يُعْرِضُوا﴾: يعرضوا عن الاستماع وعن الذكر وعن التأمل وعن التدبر وعن الإيمان‫.‬ ﴿وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ يقولون عن الآية التي رأوها، المعجزة، أنها ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ سحر ذاهب لا يبقى، مِن (مَرَّ الشيء واستمر): ذهب ومضى‫.‬ ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ باقي ودائم، استمرارية السحر، وها هو محمد كل يوم يأتيكم بسحر جديد، هذا هو كلامهم‫:‬ سِحرٌ مستمر، أي أنه يأتيكم بالتخيلات وبالسِّحْر وهو مستمر في هذا السحر‫.‬ ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾: شديد قوي ومُحكَم، من (المِرَّة): القوة، ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [سورة النجم آية‫:‬ ٦] فسِحرٌ مستمر، أي سِحرٌ قوي مُحكَم سَحَرَكم به حتى لا تستطيعون أن تميزوا بينه وبين الحقيقة‫.‬ أو ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾: مُرٌّ، (مَرَّ) الشيء (يَمَرُّ) فهو مُرّ، واستمر وأمَرَّهُ غيرُه‫:‬ سِحْرٌ مُرّ شديد متشبع من المرارة‫.‬ ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ تعني كل هذه المعاني‫.‬ ومن إعجاز القرآن أن تأتي الكلمة وتحتمل أكثر من معنى، وفي هذه الحالة يستشعر المرء أن الكلمة تفيد الغَرَض حيث قالوا كل ذلك؛ قالوا سوف يموت كما مات غيره من الشعراء والسحرة، قالوا عنه ساحر، كل ما قيل في هذه الآية أو في هذا المعنى قالوه، من هنا تجد إعجاز القرآن بأن يأتي بالكلمة التي تؤدي أكثر من معنى حيث يستشعر المرء كيف كان الأذى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ تَغَيَّر النَّسَق، النَّسَق كان بصيغة المضارعة، إذا بالنَّسَق يتحول إلى صيغة المُضِيِّ، (كذّبوا) فعل ماض جاء بهذه الصيغة ليدلل على أن تلك هي عادتهم، وأنهم نشأوا على ذلك فهم مستمرون على التكذيب، مستمرون على الإعراض، وكأن الإعراض والتكذيب عادة لهم نشأوا عليها‫.‬ ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (الأهواء): التخيلات وما تهواه النفس والغَرَض، والغَرَض مَرَض‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَكَذَّبُوا﴾ أي‫:‬ كذّبوا نبينا (صلى الله عليه وسلم) ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ ما تُمليه عليه نفوسهم وأهواؤهم وأغراضهم وأعراض الدنيا وما إلى ذلك‫.‬ ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ ذاك هو القرار، (كل أمر مستقر) كل شيء له نهاية، وكل أمر لابد وله غاية، وإذا وصل الأمر إلى غايته لابد وأن يستقر‫.‬ (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) وأمر محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) مستقر إلى الحق، وأمر الكفار مآله وغايته حيث النار وبئس القرار‫.‬ ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ كل أمر يستقر بصاحبه وكل عمل يستقر بعامله، فيستقر الخير بأهله في الجنة ويستقر الشر بأهله في النار‫.‬ وقُرِأَت (كل أمر مُستَقَرّ) أي له موعد لا يتقدم عنه ولا يتأخر، بمعنى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) له موعد لابد وأن يصل إليه، وكل شيء لابد وأن يحدث دون تقديم ودون تأخير كما قضى ربنا وقَدَّر، لابد وأن يحدث في موعده‫.‬ قُرِئت (وكل أمرٍ مُستَقِرٍّ) نعتُ كلمةِ أَمْر‫.‬ ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ الكلام فيه تهديد، فيه الوعيد، فيه بيان أن هذا الأمر الذي اختلفتم فيه لابد وأن يصل إلى غايته، فإن كان محمد (صلى الله عليه وسلم) صادقاً فلابد وأن يصل إلى الغاية من هذا الإبلاغ والإنذار‫.‬ أيضاً الآية تُشعِر بأن أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) واصل إلى غايته وليس ذاهب أو ماضٍ أو لا يبقى، مِن قولهم‫:‬ (سحر مستمر) أي أنه ذاهب ولا بقاء له، أيام تنخدع الناس بسحره ثم يُكشَف أمره ويذهب ولا يبقى، فيرد عليهم ربنا (تبارك وتعالى): بل هو أمر مستقر واصل لغايته ولقراره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلْأَنۢبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴿4﴾ حِكْمَةٌۢ بَـٰلِغَةٌۭ ۖ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ ﴿5﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ۘ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَىْءٍۢ نُّكُرٍ ﴿6﴾ خُشَّعًا أَبْصَـٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌۭ مُّنتَشِرٌۭ ﴿7﴾ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ ۖ يَقُولُ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌۭ ﴿8﴾
‫﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ (الأنباء): القصص، (الأنباء): الأخبار، (الأنباء): ما أخبرنا الله (تبارك وتعالى) به في كتابه عن الأولين والأمم السابقة‫.‬ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ (المزدَجَر): هو ما يزجر الإنسان وينهاه وينتهره، زَجَرَهُ فانزجر، وازدجرهُ فازدجر‫:‬ نَهَرَه ونهاه ومنعه‫.‬ وأصل (مزتجر) بالتاء، والتاء حرف مهموس والزاي السابقة لها حرف مجهور، فأُبدِلَت التاء بالدال القريبة منها في المخرج كي تتناسب مع الزاي في الجهر فأصبحت (مُزدَجَر)، و (المزدجر) كما قلنا هو الأمر الذي يَزجُر من يسمعه ومن يفهمه، يَرتَدِع، يَمتَنِع، ينتهي‫.‬ ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (حكمة بالغة): أي واصلة إلى غايتها، واصلة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه الحكمة، من الإحكام في المعاني والإحكام في كل شيء‫.‬ (النُّذُر): جَمعُ (نذير) أي المُنذِر، أو المُنذَر به‫.‬ و (النُّذُر) أيضاً مصدر كالإنذار، ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ أي لا تُغنِ النُّذُر معهم شيئاً، مهما جاءهم من الأخبار ما فيه مُزدَجَر ومهما جاءتهم الإنذارات يستحيل أن يُغني عنهم أو ينفعهم‫.‬ ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (ما) نافية‫.‬ وممكن أن تكون (ما) استفهام إنكاري بمعنى‫:‬ أنه وهل تُغني النُّذُر عنهم شيئاً؟ كفروا وأعرضوا، فكيف تُغني عنهم النُّذُر وقد أعرضوا ولم يستمعوا؟ وضعوا أصابعهم في آذانهم وانصرفوا عنه ولَغَوْا في القرآن، وكلما قَرَأَ عليهم القرآن رفعوا أصواتهم بالغناء والصفير والتصويت وما إلى ذلك حتى لا يسمعوه، فهل تُغني عنهم النُّذُر؟ هل يُجدي الإنذار؟ ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أَمْرٌ للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالإعراض، أَعرِض عنهم، والآية تمام للكلام‫.‬ وقيل منسوخة بآية السَّيف وهذا الكلام مرجوح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الأرجح أن الآية تمام الكلام، (فتولّ عنهم): أي أعرض عن كلامهم واستهزائهم وسبابهم وادعائهم إذ يَعُدُّ الله لهم عَدَّاً. ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ يعني تولّ عنهم وأَبْصِر وانتظر وتَرَبَّص، سوف يأتي يومُهم، هذا اليوم حيث وحيث وحيث‫.‬ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) والوقف هنا لازم في القراءة‫.‬ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (يدعُ) حُذِفَت منها الواو لالتقاء الساكنين، حُذِفَت لفظاً وحُذِفَت رسماً تَبَعاً للَّفظ، لكن الأصل فيها (يدعو) بالواو‫.‬ (الداعي) بالياء، وحُذِفَت الياء تخفيفاً، أيضاً لفظاً وحُذِفَت رسماً تَبَعاً للَّفظ فكُتِبَت‫:‬ ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ بغير واو وبغير ياء وتُقرَأ كذلك‫.‬ ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ و (الشيء النُّكُر): الشيء الذي تُنكِرُهُ النفوس وتخافه فلم تَعْهَد مثله من قبل؛ أهوال يوم القيامةلم تُعهَد من قبل، لم يُرَ مثلها من قبل، أهوال يوم القيامة مهما وُصِفَت في القرآن شيء، وحقيقتها شيء آخر، (إذا السماء انشقت) هل تخطر على البال؟ كيف ونحن لم نَرَ السماء؟ لم نرها، إنما نرى السحاب ونرى الفراغ ونرى الكواكب، كيف إذا الكواكب انتثرت؟ كيف يكون ذلك؟ كيف يوم تكون السماء كالمُهل؟ إذا بالسماء كالنحاس المغلي المذاب، أمور لم تُعهَد، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ والداعي (إسرافيل) حين يدعوهم فيستجيبون ويذهبون قِبَلَ الصوت‫.‬ ﴿يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ تُنكِرُهُ النفوس وتخافه وتهابه، وقُرِئت بالإسكان، بالسكون على الكاف (شيء نُكْر) والمعنى واحد كعُسر وعُسُر، وشُغْل وشُغُل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ﴾ ﴿خاشعاً أبصارهم﴾، ﴿خاشعةً أبصارهم﴾، ﴿خُشَّعٌ أبصارُهم﴾ قراءات كلها بمعنى واحد؛ (الخشوع): الذِّلَّة، (خشع ببصره): خَفَضَه، لكنه أضاف الخشوع إلى البصر لأن أثر العِزِّ وأثر الذُّل يُرى في عين الإنسان، مهما رأيت إنساناً، لو نظرتَ إليه ترى في عينيه أثر الذل أو ترى في عينيه أثر العز، فأضاف الخشوع للأبصار حيث يُرى فيها آثار العز والذل فقال‫:‬ (خاشعة أبصارهم) أي يوم يخرجون من الأجداث يخرجون وهم في ذل، كقول الله (تبارك وتعالى) عنهم‫:‬ ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ(٨)أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ(٩)﴾ [سورة النازعات آية‫:‬ ٨ - ٩]، ويقول‫:‬ ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [سورة الشورى آية‫:‬ ٤٥]، فكذلك هنا يحدثنا ربنا (تبارك وتعالى): (يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم). ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ (الأجداث): جمع (جَدَث)، و (الجَدَث): القبر، وكلمة (يوم) (يوم يدع الداع) منصوبة بِ (يخرجون)، ظرف لكلمة (يخرجون) وإن كان مُقَدَّم‫.‬ ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ (الجراد المنتشر): متوجه إلى قصد معين، وسِرب الجراد يحجب الشمس من كثرته ومن تلاحمه، ذاك موقفهم حين يستجيبون للداعي، (يوم يدع الداع) إذا بهم يذهبون في اتجاه الصوت رغم أنوف الجميع فيشبهون الجراد المنتشر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ولكن في مكان آخر يقول الله عن الناس في يوم البعث‫:‬ ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [سورة القارعة آية‫:‬ ٤]، هي أحوال، وقد قلنا من قبل‫:‬ القيامة مواقف وأحوال متغيرة، خمسون ألف سنة، ماذا يحدث في خمسين ألف سنة؟ مواقف وأحوال، حين يخرج الناس من قبورهم في أول خروجهم يخرجون فزعين‫:‬ مَنْ بَعَثَنا من مرقدنا؟ فزع وهلع وخوف ورعب فيتداخلون في بعضهم وكل واحد منهم يتجه في اتجاه مخالف، وتحدث هذه الرَّبْكة فيصبحون كالفراش المبثوب، فإذا سمعوا الداعي انتظموا واتجهوا جميعاً في اتجاه الصوت فيكونون كالجراد المنتشر، فهي أحوال‫.‬ ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾ هَطَعَ يهطَعْ: مَدَّ بصره إلى الشيء ولم يحوله عنه، و (أهطع): أسرع في عدوه وفي مشيه، و (أهطع): مَدَّ عنقه وصَلَّبَه في اتجاه واحد للأمام‫.‬ (مُهطِعِين) تعني هذا المعنى؛ أنهم مسرعين إلى اتجاه الصوت مادّين أعناقهم إلى الأمام، أبصارهم ثابتة لا تتحرك ولا تزيغ يمنة أو يسرى وهم مسرعون نحو الصوت‫.‬ ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾ ذاك وصف للناس في ذلك اليوم‫.‬ ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ يوم عسير، نعم! على الكافرين غير يسير، يقول الكافرون هذا يوم عَسِر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫لكن المؤمنين في ذلك اليوم يتولاهم الله تبارك وتعالى برحمته فلا يكون الإنسان وحده، الكفار والفجار كلهم آتِ الرحمن عبداً، وكلهم آتيه فرداً، هَلَك عنه ماله ولم ينفعه سلطانه، وفَرَّ المرء من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه، كل امرئٍ منهم يومئذٍ له شأن يغنيه، لا يعرف أحدٌ أحداً، وكل إنسان يتبرأ من الكل، يود لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وفصليته التي تؤويه بل ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه، حتى الرسل؛ نفسي ثم نفسي، يوم غاية في الخطورة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدَّاً فلا يكون العبد منفرداً أو خائفاً أو فزعاً، بل مطمئناً ولا يكون وحده، بل يطوف به ويحيط به أحبابه، أصحابه، أهله، إخوانه في الله الذين اجتمعوا معه على ذكر الله وعلى القرآن وعلى الطاعة، ربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(٦٧)يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(٦٨)﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٦٧ - ٦٨] الخُلَّة تنقطع، المحبة تذهب، لا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون، لكن هناك نَسَب يبقى حين يقول الله (تبارك وتعالى): "اليوم أضع أنسابكم وأرفع نسبي"، نَسَب الله باقٍ إلى يوم القيامة، حين ينادي‫:‬ "أين أهلي؟ أين جيراني؟ " فتقول الملائكة‫:‬ يارب من هذا الذي ينبغي له أن يجاورك؟ فيقول‫:‬ "أهل القرآن وعمار المساجد أهلي وجيراني."‬‬‬‬‬‬
‫لقد سِيقَ في هذه السورة قصص أُمَمٍ مُكَذِّبة، وربُّنا (تبارك وتعالى) قَصَّ علينا بعض القصص وسكت عن كثير من القصص، يُسَرِّي ربُّنا (تبارك وتعالى) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ويُعَزِّيه فيقول له‫:‬‬‬‬
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُوا۟ عَبْدَنَا وَقَالُوا۟ مَجْنُونٌۭ وَٱزْدُجِرَ ﴿9﴾ فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌۭ فَٱنتَصِرْ ﴿10﴾ فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍۢ ﴿11﴾ وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًۭا فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ ﴿12﴾ وَحَمَلْنَـٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍۢ وَدُسُرٍۢ ﴿13﴾ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءًۭ لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴿14﴾ وَلَقَد تَّرَكْنَـٰهَآ ءَايَةًۭ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿15﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿16﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿17﴾
‫﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ قوم نوح هم أول الأمم بعد آدم، وجاءت كلمة التكذيب مرتين في الآية وكأن الكلام تفصيل بعد إجمال، (كذبت) إجمال، (فكذبوا عبدنا) تفصيل‫.‬ أو (كذبت قبلهم قوم نوح): كذبوا بالرسل جميعاً ولم يؤمنوا بوجود رسل أصلاً، فهناك من يكذِّب برسولٍ واحد ويصدّق بباقي الرسل ويقول هذا ليس برسول، ويصدق برسل أخرى، وهناك من يكذّب بكل الرسل، فقوم نوح كذَّبوا بجميع الرسل ثم كذّبوا بنوح‫.‬ والمعنى قد يكون‫:‬ (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا) أي كذّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيب، فقد عَمَّر نوح في قومه مدة البعثة ألف سنة إلا خمسين عاماً ويأخذ الرجل ابنه ويذهب به إلى نوح قبل أن يموت ويقول له‫:‬ هذا كذّاب إياك أن تسمع له وقد مشى أبى بي إليه كما مشيتُ بك وقال لي مثل ما قلتُ لك، فيموت الأب على الكفر وينشأ الابن على الكفر، وكان الناس يمرون على نوح ما يمر عليه أحد إلا ويأخذ بتلابيبه ويخنقه حتى يخر مغشياً عليه، فإذا أفاق نوح قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، آذوه أشد الأذى وعَمَّرَ معهم ألف سنة إلا خمسين عاماً لا يلدون إلا فاجراً كفاراَ، كُفَّار من أصلاب كُفَّار، وكلما عَمَّرَ فيهم نوح لم تكن تلك عبرة لهم أو آية، فالناس يموتون وهو لا يموت، قرون، الآباء والأجداد والأبناء والأحفاد، كله يذهب ويبقى نوح ومع ذلك لا يؤمنون به ويقولون مجنون، أمر غريب! من يُرِدِ اللهُ فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، حقاً وصدقاً! من يُضلِلِ اللهُ فماله من هاد، سبحان الله! كذّبوه وكذّبوه واستمروا في التكذيب‫.‬ ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ اتهموه بالجنون وما من أُمَّة إلا واتهمت رسولها بالجنون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَازْدُجِرَ﴾ جاءت الكلمة بالبناء للمجهول، أو بالبناء للمفعول، للتناسق مع رؤوس الآي، لم يقل (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وزجروه)، (قالوا مجنون وازدُجِر) و (الزجر) كما قلنا زَجَرهُ فانزجر، وازدجره فازدجر، (قالوا مجنون وازدُجر) أي زُجِرَ بالأذى ومنع بالإذاية والسباب والشتم والضرب وما إلى ذلك‫.‬ (وازدُجر) تعقيب، ليس من كلامهم، هم قالوا مجنون، بعد ذلك (ازدُجِر) حكاية عنهم، كيف ازدجروه وزجروه وآذوه وشتموه وسبوه وفعلوا به ما فعلوا‫.‬ قال بعضهم بل هي من كلامهم أيضاً، (قالوا مجنون وازدُجر) أي ازدجرته الجنُّ فتخبطته الشياطينُ فهو لا يدري ما يقول‫.‬ ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾، (إني مغلوب) قراءة‫.‬ (أني) أي بأني، (وإني) على إرادة القول‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾ وما من نبي دعا على قومه إلا بإذن من ربه، فقد استمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول‫:‬ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ويسأل الله لهم الهدى مهما آذوه ومهما فعلوا فيه، إلى أن قيل له‫:‬ يا نوح لن يُؤمن من قومك إلا من قد آمن، انتهى! (لن) لا من الأحياء ولا من الذين سوف يأتون بعد ذلك وانتهى الأمر، فأُذِنَ له بالدعاء على قومه، ولكل نبي دعوة مُجابة في قومه، دعاها نبينا (صلى الله عليه وسلم) وطلب لنا الرحمة والعافية، وما من نبي إلا وله دعوة مُجابة في قومه، فأُذِنَ لنوح بالدعاء عليهم بأمر الله وما كان لنبي أن يدعو على قومه وقد أرسله الله لهدايتهم، أيُعقَل ذلك؟ هل يُعقَل؟ حين يرسل ربنا (تبارك وتعالى) رسولاً لهداية الناس فيذهب فيدعوهم فيُكَذِّبوه فيدعو الله أن يهلكهم، هل يمكن هذا؟ هل يُعقَل؟ فالذين قالوا أن نوح دعا على قومه ومحمد لم يدع على قومه أساءوا الأدب مع الرسل ومع الأنبياء وأخطأوا خطأً شنيعاً، فما كان لنوح أن يدعو على قومه إلا بوحي وبأمر من الله، ولكم في القرآن دليل في قوله (تبارك وتعالى): ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(٣٦)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٣٦ - ٣٧]، كيف كان يعرف نوح أنهم سوف يُغرَقون بالطوفان؟ هل يدعو عليهم بالطوفان وبالغرق ويغرق معهم ولم تكن صُنِعَت السفن؟ أول سفينة صُنِعَت في تاريخ البشرية سفينة نوح، لم يكن الناس يعرفون أن البحر يمكن أن يحملهم، لم يكن الناس قد اكتشفوا الطفو أو السفن مطلقاً، أول سفينة صُنِعَت سفينة نوح، عَلَّمَه الله كيف يصنعها بالوحي، ولذا يقول له‫:‬ ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٣٧]، من هنا كان دعاء نوح على قومه بأمر من الله، دعا ربه‫:‬ (أني مغلوب فانتصر) أو (إني مغلوب فانتصر) قراءتان، (فانتصِر) أي فانتقم لي، أو فانتصِر لدينك ولرسولك، فانتصِر للحق‫.‬ ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ (فَفَتَّحْنا) قراءة‫.‬ (أبواب السماء): المطر ينزل من السحاب، وقد أُطلِقَ على السحاب كلمة سماء تجوزاً، فكل ما علاك فهو سماء، كل سقف يُسَمَّى سماء، وكل شيء تستقر عليه بقدميك يسمى أرض، (أنزل من السماء ماء): أي أنزل من السحاب، وجاءت كلمة السحاب في آيات كثيرة، هنا يقول الله (تبارك وتعالى): (فَفَتَّحنا أبواب السماء) أهو السحاب؟ أبداً! أَمْطَرَتْهُم السماء أربعين يوماً، أربعين صباحاً دون توقف وبغير سحاب وبغير غمام وبدون سحاب، ماء يعلم الله من أين أتى‫.‬ ﴿بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ (مُنْهَمِر): مصبوب بقوة وبشدة وبكثرة، هَمَرَهُ ويهْمِرُهُ ويَهْمُرُهُ: صبّه بقوة وبكثرة واندفاع، وهَمَرَ هو وانهَمَر‫:‬ نزل وانْصَبَّ بنفسه‫.‬ (ففتحنا أبواب السماء بما منهمر): مُنْصَبّ بقوة، بشدة وكثرة غير معهودة، أربعين صباحاً لم يتوقف‫.‬ ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ القياس‫:‬ (فجّرنا عيون الأرض) أي العيون التي في الأرض، لكن الله يقول‫:‬ (فجّرنا الأرض عيوناً)، وكأن الأرض كلها أصبحت عيوناً منفجرة، لو كان في الأرض عيون فالنسق والسياق في الكلام‫:‬ (فجّرنا عيون الأرض)، (أجرينا أنهار الأرض)، إنما يُقال‫:‬ (فجّرنا الأرض عيوناً) إذاً معنى ذلك أن عيون الأرض لم تنفجر، العيون التي بها الماء أو الآبار المعهودة، وإنما عيون أخرى تفجرت الأرض بها، ولذلك كان ماء السماء بارداً كالثلج وكان ماء الأرض حاراً كالحميم، هذا نازل من السماء بارد كالثلج وهذا خارج من الأرض ساخن كالحميم‫.‬ ﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ ﴿فالتقى الماءان على أَمْرٍ قد قُدِر﴾، ﴿فالتقى الماوان على أَمْرٍ قد قُدِر﴾ ثلاث قراءات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يُطلَق الماء على الجمع والمفرد، أو لأن ماء السماء وماء الأرض حين اختلطا أصبحا ماءً واحداً، ثلاث قراءات، وأصح القراءات (الماء) لأنها توافق رسم المصحف‫.‬ (التقى الماء على أمرٍ قد قُدِر) أي قَدَّرَه الله (تبارك وتعالى) من الأزل، ومن هنا نعلم أن الأقوات قبل الأجساد، والقَدَر قبل البلاء، وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ١٠]، ولم تُخلَق بعد، فجاءت الأقوات قبل الأجساد، وكان القَدَر قبل البلاء، وربُّنا يقول‫:‬ (فالتقى الماء على أمرٍ قد قُدِر) إذاً فقد كان القَدَر قبل البلاء وقبل حدوث البلاء‫.‬ أو قَدَّرَه الله تبارك وتعالى عليهم بأن يغرقهم إن كفروا‫.‬ أو هو القضاء والقَدَر العام‫.‬ أو (على أمرٍ قد قُدِر) أي‫:‬ نزل ماء السماء بمقدار وخرج ماء الأرض بمقدار ولم يتجاوز أحدهما المقدار، نزل هذا بمقدار وانفجر ذلك بمقدار يساوي ذاك المقدار فالتقى المقداران على أمرٍ قد قُدِر فهو مُقَدَّر‫.‬ ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ (وحملناه): الكلمة فيها حنان غريب، (حملناه) وربنا المتكلم، على قدر قوة وشدة انتقام وعقوبة الله (تبارك وتعالى) على قدر حنانه وعفوه ورحمته، وفي القرآن كلمات تذوب رقة وحناناً، لو تتأمل فيها تجد فيها الحنان الدافق من الخالق (سبحانه وتعالى)، تصوّر الخالق الأزلي الأبدي القوي القادر القاهر حين يقول عن هذا المخلوق، الإنسان‫:‬ ﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾ وينسب الحَمْلَ لنفسه، أيُّ حنان! وأيُّ رعاية! وأيُّ عناية! ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ السفينة يصفها ربنا (تبارك وتعالى) لأنها لم تكن معهودة، فيصف لنا السفينة كيف صُنِعَت، وإذا وُصِفَ الشيء بما صُنِع منه كأنك تكلمت عن الشيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾ بطن السفينة ألواح عريضة من الخشب و (الدُّسُر) صدر السفينة الذي يَدْسَر الماء، (الدَّسْر): الدَّفْع بشدة، ﴿و دُسُر﴾: هو صدر السفينة، وكأن السفينة كان لها بطن؛ ألواح عريضة، ثم لها بعد ذلك صدر تمخر به عباب الماء، فهو يصف شكل السفينة‫.‬ أو (الدُّسُر): جمع (دَسْر) أو جمع (دِسَار): الرباط من ليف يُربَط به ويُحزَم به الألواح سوياً فتتجمع‫.‬ أو (الدِّسَار): المسمار، أصل كلمة (الدَّسْر): الدفع بقوة وقهر، فسُمِّيَ المسمار (دِسَاراً) لأنك تضع المسمار وتدق عليه فتدفعه بقوة وبقهر، و (دُسُر): مسامير رُبِطَت بها الأخشاب‫.‬ وإن كان في الصِّحَاح يصفون (الدُّسُر) بأنها حبال من ليف لتجميع الخشب، لربط ألواح السفينة وتجميعها حتى تتناسق وتتسق وتحمل ما أراد نوح أن يحمل فيها‫.‬ والمسامير ربما كانت من خشب أو كانت من حديد يعلم الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ كلمة (تجري) تبين الأمان المطلق للسفينة وركاب السفينة لأنك حين تسمع (ففتحنا أبواب السماء بما منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قُدِر)، وحين تسمع في مواضع أخرى‫:‬ ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٤٢]، وهنا (تجري بأعيننا) يبين لك أن الشدة والهول والغرق والعواصف والمياه النازلة والمياه الصاعدة، تلك مياه باردة وهذه مياه ساخنة، هذا الهلع وهذا الرعب وهذا الاضطراب لم يكن بالسفينة، بل هي تجري، ولا يجري الشيء إلا إذا كان مستقراً، لا يجري الشيء إلا إذا كان الطريق سالكاً ومستقيماً، أما إذا كان الطريق غير سالك لا يستطيع الإنسان أن يجري، بل يمشي ويتكفأ وهكذا، ويُصَدُّ ويتصادم وما إلى ذلك، أما الجري؛ كي تجري في طريق لابد أن يكون خالياً حتى تستطيع أن تجري، ولا يكون فيه الحُفَر أو العوائق أو ما إلى ذلك، فحين يُعبِّر القرآن عن سريان السفينة بالجريان، هنا وفي مواضع أخرى في سورة هود، نعلم من ذلك الهول والكرب كان بعيداً، فالسفينة محاطة بحجاب من الرعاية والعناية، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ بحفظنا وبرعايتنا وكلاءتنا‫.‬ وقيل (بأعيننا): أي بعيون الأرض، وكأن عيون الأرض هي التي حملت السفينة، (فجّرنا الأرض عيوناً) فهي عيون لإغراق قوم نوح وهي عيون لحمل السفينة أيضاً والجريان بها‫.‬ وقيل (بأعيننا) أي بأعين ملائكتنا الموكلين بحفظ السفينة، فملائكة الله هم أعينه لأنه بهم يصنع ما يريد، بهم يحفظ ويكلأ من يريد‫.‬ (بأعيننا): بأعين ملائكتنا، بأعين الأرض، بوحينا، لأنه قال في صُنْعِ السفينة‫:‬ (اصنع الفلك بأعيننا)، (اصنع الفلك بوحينا): بأمرنا، (تجري بأعيننا)، كل ذلك يعني الوحي، يعني الأمر، يعني العناية، يعني الرعاية، يعني الحفظ‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وإن كان هناك فريق من الناس قالوا إن هناك لله صفة وهي صفة العين لا تشبه عيون المخلوقات لكنها صفة من صفات الله، لا يعلم كنهها إلا الله‫.‬ ولكن أغلب المفسرين وأغلب العلماء فسروا كلمة ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) (ولتُصنَعَ على عيني) أغلب العلماء والمفسرين أجمعوا على أن كلمة العين تعني الرعاية والحفظ والكلاءة، (بأعيننا) أي بمرأى مِنَّا، كما قال لموسى‫:‬ (إنني معكما أسمع وأرى). ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ قُرِأَت‫:‬ ﴿لمن كان كَفَر﴾. (جزاءً لمن كان كُفِر) أي أن النجاة التي حدثت والعقوبة التي وقعت على هؤلاء جزاءً لمن كان كُفِر، (كُفِر): جُحِدَ نوح نعمة وما من نبي إلا وهو نعمة لقومه، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) نعمة للدنيا بأسرها، (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)، لكن الأنبياء، كل نبي نعمة لقومه فقوم نوح حين جاءتهم النعمة، جاءهم نوح جحدوه وكفروا فجزاؤهم أن أغرقهم الله‫.‬ ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ والكناية لنوح، وقد تكون الكناية لله، عقوبة لأنهم كفروا بالله‫.‬ لكن الكلام الأرجح والأقوى ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ﴾: نوح، انتقم الله له وانتصر له لأنه دعا بأمره وقال (إني مغلوب فانتصِر)، فنصره بأن أغرق الدنيا كلها، بل أغرق الوحوش والحشرات والطيور ولم تُذنِب، بشؤم معاصي القوم، فإياك أن تعتقد أن العاصي تؤثر معصيته على نفسه فقط، بل العاصي تؤثر معصيته على نفسه وعلى الجو الذي يحيط به، وعلى الناس الذين يصاحبونه، وعلى زوجته وأولاده وبيته، شؤم المعصية يحيط بالعاصي، ونور الطاعة يحيط بالطائع، ومن جَالَسَ جَانَس، وللصالحين جو، وللعاصين جو، لهؤلاء حَفَظَة ولهؤلاء لَعَنة، هؤلاء يُحفَظون وتدعوهم الملائكة اغفر وارحم لعبدك، وهؤلاء تلعنهم الملائكة، فانظر للجليس أيهما تجالس، ونبهنا النبي (صلى الله عليه وسلم) للجليس الصالح ولجليس السوء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫نوح كفر به قومه، حين أمره ربه أن يحمل فيها من كُلٍّ زوجين اثنين وأهله، وأغرق ربنا الأرض، في الأرض نمل غَرق، نعم! في الأرض وحوش، هل أغرقها الله؟ نعم! أغرق النبات وأغرق الشجر وأغرق الأرض وأغرق الطيور وأغرق الوحوش وأغرق البهائم، هل حمل نوح معه كل البقر؟ هل حمل معه كل الغنم؟ كل ذلك أُغرِق بشؤم معاصي القوم، ولذا حذَّرَنا النبي (صلى الله عليه وسلم) وحَذَّرَنا الصحابة وحَذَّرَنا العلماء، الكل حذرونا بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر أو يوشك أن يَعُمَّنا الله بعذاب من عنده‫:‬ ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ٢٥]. ها هم قوم نوح أُغرِقوا، كبارهم وصغارهم، هل أُغرِقَ فيهم الأطفال الرضع؟ نعم! أُغرِقَ الرضع، أُغرِقَ الكفار، أُغرِقَ الكبار وأُغرِقَ الصغار، الكل أُغرِقَ بشؤم معاصي القوم، نعم! (تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفِر)، أو قُرِئت ﴿جزاءً لمن كان كَفَر﴾ أي جزاءً للكفار الذين كفروا بنوح‫.‬ ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ ترك ربنا (تبارك وتعالى) السفينة آية ورآها أوائل الأُمَّة، قيل ذلك‫.‬ ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا﴾: الفَعْلة، القصة، الحادثة، فما من أُمَّة إلا ويذكرونها، وما من نبي إلا وحكى عنها لقومه وأمته‫.‬ ﴿فهل من مُدَّكِر﴾؟ وقُرِئت ﴿فهل من مُذتكر﴾ ذال وتاء، وقُرِئت ﴿فهل من مُذَّكِر﴾ التاء تُقلَب ذال والذال تُقلَب دال وتُدغَم‫.‬ المذدكر هو الذي يفتعل الاذدكار وتاء الافتعال دائما تقلب دال مع الذال والزاي، المذدكر هو الذي يفتعل الاذتكار، يتذكر وكأن الذكرى بعد ذلك تصبح من ذاته ومن كيانه، وهو والتذكر شيء واحد فلا يغفل لحظة‫.‬ ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ بمعنى‫:‬ لم يكن هناك مذتكر للأسف الشديد، السؤال يقرر عدم من اذَّكَر بدليل ما حدث، قرون كفرت بعد قوم نوح‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ لك أن تتخيل ما شئت، كيف كان عذاب الله لهؤلاء القوم؟ (نُذُر): أي ونُذري، (النُذُر): مصدر بمعنى الإنذار، (النُذُر): جمع نذير، و (النذير): المُنذَر به والمُنذِر أيضاً. (كيف كان عذابي ونذر) تأمل وتخيل كيف يكون لو تخيلت هذا الوصف في الأرض كيف يكون العذاب؟ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ تُختَم القصة بهذه الآية، وتكررت الآية بعد كل قصة؛ قوم نوح ثم قوم عاد وقوم صالح وقوم لوط، تكررت بعد كل قصة تقريراً لمضمون ما سبق من قوله‫:‬ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ(٤)حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(٥)﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ٤ - ٥] ما هي الحكمة البالغة؟ القرآن، الكلام، (قد يسرنا القرآن) سهَّلناه للقراءة ونزل بلسان عربي مبين، بلغة قريش، فهو سهل ميسور يستطيع كل إنسان أن يقرأه، يسرناه للذكر والقراءة وجعلناه محشواً مليئاً بالوعد والوعيد والتذكير والقصص والأخبار والأنباء‫.‬ ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ هل هناك من يتذكر ويَدَّكِر؟ (هل من مُدَّكِر) هنا تختلف عن (هل من مُدَّكِر) في قوله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ هناك أي‫:‬ لم يكن هناك المُدَّكِر ولم يتذكر أحد، ولكن في هذه الآية‫:‬ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ طَلَب، اللام للاستعراض والهاء للاستخراج، طَلَب، ربُّنا (تبارك وتعالى) يبسط كَفَّيه لكم ويقول يَسَّرنا القرآن للذكر فهل من طالب للنفع فننفعه؟ هل من طالب للعلم فنعلمه؟ هل من طالب للذكر فنذكّره؟ هل من طالب للبركة فنُبَرِّك عليه؟ ربنا يسأل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم (لقد يسرنا القرآن للذكر) للحفظ، فما من كتاب في أمة قُرِئَ ظاهراً إلا القرآن، الكتاب الوحيد الذي سَخَّر الله (تبارك وتعالى) له حَمَلَة من الناس، الكتاب الوحيد الذي سَهَّلَه الله (تبارك وتعالى) للناس يحفظوه ويقرؤوه عن ظهر قلب، فالآية في هذا، في الحفظ، (يسرنا القرآن للذكر): أي يسرنا القرآن للحفظ، من أراد حفظ القرآن يسره الله له، العبرة بالنية، إن خلصت النية حَفِظتَ القرآن مهما كان سنك ومهما كان عمرك ومهما كان شغلك‫.‬ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ هل من مُريد لأن يتذكر وأن يحفظ؟ إن أراد ذلك يسره الله (تبارك وتعالى) له‫.‬ ويُروَى لنا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "اقرأوا القران فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرأوا الزهراوين- البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان- أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فِرقان من طير صواف- يُحاجَّان عن صاحبهما يوم القيامة" البقرة وآل عمران، يوم القيامة إذا أُوقِفَ العبد للحساب والميزان فوجئ بطيور مصطفة أو غمام يأتي ويقف أمامه يحميه ويحفظه ويرد عنه السؤال، يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرقان من طير صواف يُحاجَّان، الحجة يعني إذا سُئِل فإذا بالبقرة وآل عمران يردان عنه، اقرأوا البقرة، إذا لم تستطع القرآن فعليك بالبقرة وآل عمران، إذا لم تستطع البقرة وآل عمران فعليك بالبقرة، أقل ما يمكن اقرأوا البقرة فإن أَخْذَهَا بَرَكة وتَرْكَهَا حسرة ولا تستطيعها البَطَلة، و (البَطَلة) هم السَّحَرَة‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫يقص الله (تبارك وتعالى) في سورة القمر على أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) قصص الأمم السابقة الذين كذبوا أنبياءهم فحاق بهم العذاب وبعد كل قصة يقول الله (تبارك وتعالى): (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل من طالب علم وخير فيُعان عليه؟ هل من ساعٍ لحفظ الكتاب فيُوَفَّق ويُؤَيَّد في مقصده؟ يقول الله (تبارك وتعالى) بعد ما قص قصة قوم نوح‫:‬‬‬‬
كَذَّبَتْ عَادٌۭ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿18﴾ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًۭا صَرْصَرًۭا فِى يَوْمِ نَحْسٍۢ مُّسْتَمِرٍّۢ ﴿19﴾ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍۢ مُّنقَعِرٍۢ ﴿20﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿21﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿22﴾
‫﴿كَذَّبَتْ عَادٌ﴾ عاد قوم هود، جاءهم هود بالبينات، جاءهم بالمعجزات، جاءهم بسعادة الدارين فكذبوه واتهموه، فيقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ سؤال فيه الوعيد وفيه التخويف، كيف كان عذابي لهؤلاء المكذبين ونُذُري؟ و (النُّذُر): جمع نذير، و (النذير): هو المنذِر؛ الرسول، و (النذير) ما يُنذِرْ أو ما يُنذَر به، فقد تكون بمعنى الإنذار (كيف كان عذابي وإنذاري) لهم بوقوع العذاب، وقُرِئت (نُذُر) بغير ياء وهي في ستة مواضع محذوفة الياء في المصحف وقُرِئت وصلاً ووقفاً بحذف الياء، وقرأها بعضهم بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وقرأها بعضهم بإثبات الياء وصلاً وحذف الياء وقفاً. ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ الريح المدمرة، ودائماً في القرآن إذا ذُكِرَت (الريح) فذاك يعني العذاب، وإذا ذُكِرَت (الرياح) فذاك يعني البشرى والمطر‫.‬ (الريح الصرصر): الشديدة ذات الصوت المزعج المخيف المرعب، صَرَّ يَصِرُّ صريراً: صَوَّت، ومنه صرير الباب‫.‬ أيضاً سُمِّيَت صِرّ، سُمِّيَت صِرّ لأن الجِلد من شدة البرودة يُصَرُّ وينقبض وينكمش، فهي شديدة البرودة عالية الصوت مفزعة مرعبة، سَلَّط عليهم ربنا (تبارك وتعالى) الريح وسمّاها صرصراً ذات صرير، صوت شديد وذات برد لا يطاق‫.‬ ﴿في يوم نَحسٍ مستمر﴾ وقرأت ﴿نَحِسٍ﴾ بكسر الحاء، (النحْس) و (النحِس): الشؤم، كان ذلك اليوم يوم شؤم على الكفار ونحس على الكفار ونصر للمؤمنين، وهو نفس اليوم ونفس المكان‫.‬ (مُسْتَمِرٍّ) أي دائم حتى أهلكهم واستأصلهم، أو (مستمر) من المرارة؛ (مرَّ) الشيء يَمَرّ: أصبح مُرَّاً شديد المرارة‫.‬ أو (مستمر) من المِرَّة، من القوة، من الشدة، فهي ريح شديدة قوية وعذاب أليم لا يطاق‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ حينما هبت عليهم الريح كانت شديدة وبدأت في هدم بيوتهم، لجؤوا إلى الحُفَر، حفروا في الأرض حُفَر ونزلوا فيها يحتمون بها من هذه االريح، ولجؤوا إلى الشعاب في الجبال يستترون بها وفيها من هذه الريح المدمرة، وتعلق بعضهم ببعض؛ الابن بأبيه والأخ بأخيه وتماسكوا وتعلقوا، فقلعتهم الريح كما تُقلَع النخيل من أصولها‫.‬ ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ﴾ نزعتهم من الحُفَر ونزعتهم من الشعاب ونزعتهم من البيوت ونزعت الابن من أبيه والأخ من أخيه‫.‬ ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ (الأعجاز): جمع عَجُزْ، وعَجُزْ الشيء مؤخره، وكان قوم عاد طوال الأجسام شديدي القوة مكتملي البنية، فكانوا في طولهم كالنخل وحين قلعهم ربنا (تبارك وتعالى) من أماكنهم ومن حُفَرهم ومما تشبثوا به، قلعهم كما تُقلَع النخلة، (قَعَرَ) النخلة‫:‬ قلعها من أصلها‫.‬ وأطارت الريح رءوسهم فبقيت أجسادهم بغير رؤوس فكانوا كأصول النخل المنقلعة بغير فروع بغير أغصان لأن رؤوسهم أطاحت بها الريح‫.‬ أو التشبيه للحُفَر التي نزعهم الله منها فأصبحت هذه الحُفَر كأمكنة نخل قُلِعَ من مكانه، والنخل يُذَكَّر ويُؤَنَّث، هنا مُذَكَّر، وفي مكان آخر‫:‬ (كأعجاز نخل خاوية) أُنِّثَت، فهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث‫.‬ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ كُرِّرَت هذه الآية بعد قصص كل أمة، تهديد ووعيد لكل من يسمع ولكل من يتعظ، سؤال للتهويل، سؤال لتعظيم العذاب وللوعيد ولعل الناس يتذكرون، كيف كان عذابي ونذر، وإنذاري لهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ سؤال آخر، يسرنا القرآن للذكر، جعلناه قرآناً عربياً بألسنتكم، كل من أراد أن يقرأ فيه وجده سهلاً ميسراً فهو بِلُغَتِكم، وكل من أراد أن يحفظه أعانه الله (تبارك وتعالى) على حفظه، وما من كتاب من كُتُبِ الله (تبارك وتعالى) يُقرأُ ظاهراً إلا القرآن، القرآن هو الذي يقرأه أهله عن ظهر قلب، ومن فضل الله (تبارك وتعالى) جعل صدور أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) حَمَلَة وأوعية للقرآن الكريم‫.‬ ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ هل من طالب خير وعلم فيُعان؟ هل من طالب حفظ فيُوَفَّق ويُؤَيَّد؟ وهذه الآية مكررة تأكيداً لمضمون ما جاء في قوله (تبارك وتعالى) في أول السورة‫:‬ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ٤ - ٥]، فهذه الآية (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تأكيد لمضمون ما دل عليه قوله (تبارك وتعالى): (حكمة بالغة)، نعم! هو حكمة بالغة‫.‬‬‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ ﴿23﴾ فَقَالُوٓا۟ أَبَشَرًۭا مِّنَّا وَٰحِدًۭا نَّتَّبِعُهُۥٓ إِنَّآ إِذًۭا لَّفِى ضَلَـٰلٍۢ وَسُعُرٍ ﴿24﴾ أَءُلْقِىَ ٱلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنۢ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌۭ ﴿25﴾ سَيَعْلَمُونَ غَدًۭا مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلْأَشِرُ ﴿26﴾ إِنَّا مُرْسِلُوا۟ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةًۭ لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ ﴿27﴾ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌۢ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍۢ مُّحْتَضَرٌۭ ﴿28﴾ فَنَادَوْا۟ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ ﴿29﴾ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿30﴾ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةًۭ وَٰحِدَةًۭ فَكَانُوا۟ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ ﴿31﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿32﴾
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ (النُّذُر): جمع نذير، أي كذبوا بالرسل وبرسولهم صالح‫.‬ أو كذبوا بالنذر‫:‬ أي بالإنذارات المتكررة التي أنذرهم بها نبيهم‫.‬ ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ وقرئت ﴿أَبَشَرٌ﴾ أي واحدٌ على الابتداء والخبر‫.‬ وقُرِئت ﴿أبشراً منا واحداً نتبعه﴾ أي هذا الذي أُرسِلَ إليهم تُهمَتُه أنه بشر، إنسان، إذالم يكن هذا الرسول إنساناً فكيف يعقلون عنه؟ إن كان مَلَكاً هل يروه؟ فكيف يروه؟ وإن نزل على هيئة البشر كيف يصدقون أنه من الملائكة؟ كيف يعقلون عنه؟ لا بد أن يكون الرسول من جنس من يُرسَل إليهم حتى يعقلوا عنه، فها هم يقولون أبشراً منا واحداً، أي منفرداً، لا نصير له ولا تبيع له ولا تبع ولا عزوة ولا جماعة، بل هو من عوام الناس وليس من أشرافهم‫.‬ ﴿إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ عكسوا عليه ورتبوا على اتِّبَاعهم إياه ما رتبه هو على انصرافهم عنه وتكذبيهم، أي لو اتبعوه فهم في ضلال، في بُعد عن الصواب، بُعد عن الطريق السليم، (وَسُعُرٍ) (السُّعُر): جمع سعير، أي في نار وفي عذاب واحتراق، أو (السُّعُر) بمعنى الجنون، ومنه ناقة مسعورة إذا جُنَّت وسارت على غير هدى وأسرعت في سيرها‫.‬ (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ) في جنون وبُعد عن الحق وبُعد عن الصواب، أو في عذابٍ واحتراق وضلال شديد‫.‬ هو يحذرهم إذا انصرفوا عنه وكذّبوه، يحذرهم بالضلال ويحذرهم بالسعير فعكسوا عليه ورتَّبوا على الإيمان به ورتَّبوا على اتِّباعه ما رتَّبه هو على انصرافهم وتكذيبهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ يستكبرون على صالح أن يكون رسولاً وهو من عامة القوم، كما قالت قريش‫:‬ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٣١] نفس الكلام، وكأن هؤلاء قد أوصى بعضُهم بعضاً مع بُعد الزمن وتفاوت المكان، إلا أن كلام الكفار واحد في كل زمان ومكان‫.‬ أأُلقِيَ الذكر عليه من بيننا؟ هذا الرجل من آحاد الناس، من عوام الناس، ليس أشرفنا حالاً ولا أكثرنا مالاً، أأُلقِيَ عليه الوحي من بيننا؟ نزل واختصه من بين آل ثمود جميعاً ذوي الشرف وذوي المال وذوي الجاه والسلطان؟ ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ زعموا أنه كذّاب أَشِر، (الأَشِرْ): البَطِر، (الأَشِر): الذي يضع نفسه في منزلة ليست له، يتعدى إلى منزلة لا يستحقها‫.‬ أَشَر يَأْشَرُ أَشَراً: كبَطَر يَبْطَرُ بَطَراً، فهو آشر وأَشِرْ وهم أُشارَى للجمع‫.‬ وقُرِئت ﴿بل هو كذّاب أَشُر﴾ بضم الشين وتخفيف الراء، وقُرِئت ﴿بل هو كذّابٌ أَشَرّ﴾ أي أَشَرّ الناس، أشدهم شَرَّاً. ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ وقُرِئت ﴿ستعلمون غداً من الكذاب الأَشِر﴾ بالتاء على الالتفات أو حكاية عن خطاب صالح لقومه‫.‬ قُرِئت كما في المصحف‫:‬ ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ و (غداً) تفيد معنى القرب وليس المقصود باليوم التالي مباشرة، أي المقصود في القريب العاجل‫.‬ ستعلمون، أو سيعلمون، غداً من الكذاب الأَشِر أهو صالح أم هم الذين كذبوا به واستكبروا عن الإيمان واستكبروا عن اتباع رجل منهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ من تعنتهم جاءوا بصالح وقالوا له‫:‬ إن كنت نبياً حقاً فسل ربك يأتنا بآية، قال‫:‬ أي آية؟ فأشاروا إلى صخرة صماء وقالوا‫:‬ أطلب من ربك أن يُخرِجَ من هذه الصخرة الصماء ناقة عُشَراء، حامل في شهرها الأخير، فصلى صالح ركعتين ودعا ربه فانفلقت الصخرة عن سنام الناقة، وخرجت ناقة عُشَراء بُراء جَرْداء، وحذرهم صالح‫:‬ لا تمسوها بسوء‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى) حكاية لهذه القصة‫:‬ ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾ أي مخرجوها وآتين بها آية‫.‬ ﴿فِتْنَةً لَهُمْ﴾ امتحان وابتلاء ليظهر المؤمن من الكافر‫.‬ ﴿فَارْتَقِبْهُمْ﴾ انتظر وتربص وأبصر ما يصنعون وما يُصنَع بهم‫.‬ ﴿فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ افتعال من الصبر، أي يُصابِر ويرغم نفسه ويحبسها على الصبر، والأصل في الطاء أنها تاء؛ (اصتبر)، قُلِبَت التاء طاء حتى تتفق مع الصاد‫.‬ ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ أي افتعل الصبر ومَرِّن نفسك على الصبر، وجاهدها على الصبر حين ترى منهم التكذيب والجحود والفجور‫.‬ ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ أخبرهم أن الماء مقسوم بينهم؛ بين الناقة وبين القوم، هم يشربون يوماً وهي تشرب يوماً، وفي يوم شربهم لا تَرِدُ هي الماء، وفي يوم شُربِها تشرب الماء كله ولا تُبقِي لهم شيئاً وهم لا يقربون الماء، وفي يوم شربها ووِرْدِها يحتلبونها فتسقي القوم جميعاً لَبَناً فتكفيهم، فالماء مقسوم بينهم‫.‬ ﴿كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ (الشِّرْب): الحظ والنصيب من الماء، ما قُسِمَ لك من الماء يُسمَّى شِرباً، ما صار لك حظاً فهو شِرْب، (كل شِرْب): أي كل نصيب وكل حظ‫.‬ (مُحتَضَر): يحضره أهله ومستحقوه، ففي يوم شربهم هم يحضرون وهي لا تحضر، وفي يوم شربها هي تحضر وهم يغيبون، يحتلبونها يوم وِرْدِها ويشربون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ (نادوا صاحبهم): أشقى الأولين، عاقر الناقة أشقى الأولين على الإطلاق، أشقى رجل على وجه الأرض منذ خُلِقَت الأرض وإلى أن تقوم الساعة عاقر الناقة‫.‬ نادوا صاحبهم؛ مَنْ تَزَعَّمَ هذا الإفك وهذا الظلم وهذا الجبروت‫.‬ ﴿فَتَعَاطَى﴾ تعاطى السيف فعقرها، أو تعاطي الفعلة النكراء‫.‬ و (التعاطي): الأخذ بتكلف‫.‬ تعاطى الفعلة النكراء فهو العاقر لها، أو تعاطى السيف فذبحها، تربص بها في أصل شجرة ورماها بسهم فأوقفها ثم هجم عليها فعقرها وذبحها، فرَغَتْ الناقة، انشقت بطنها ونزل منها سَقَطُها، وجرى الفصيل إلى الصخرة فرَغَى فانفلت فانفتحت فدخل وأُغْلِقَت عليه، وجاء صالح فرأى الناقة قد عُقِرَت فبكى وقال‫:‬ لقد كفرتم بآيات ربكم وعقرتم الناقة فتربصوا وانتظِروا ثلاثة أيام ذلك وعدٌ غير مكذوب، حذرهم بوقوع العذاب بعد ثلاثة أيام‫.‬ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) سؤال يُكَرَّر، وكأن كل قصة من القصص الخمس‫:‬ قوم نوح، عاد، ثمود، قوم لوط، فرعون وقومه، كل قصة كافية للازدجار، كل قصة مستقلة بإيجاب الادِّكَار ومع ذلك لم يحصل منهم اعتبار‫.‬ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ سؤال لتعظيم العذاب وتهويل العذاب الذي وقع بهم، وللتخويف وللوعيد‫.‬ عُذِّبَت ثمود بصيحة واحدة صاحها عليهم جبريل وهو في مكانه بالأفق الأعلى، ما نزل وما ذهب إليهم، هي صيحة واحدة صاحها جبريل‫.‬ ﴿فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ أو ﴿فكانوا كهشيم المحتَظَر﴾ بالفتح والكسر، (المحتظِر) الفاعل الذي يعمل الحظيرة، الحظيرة‫:‬ الزريبة كلكم يعرفها، فراعي الغنم والزارع يعمل الحظيرة من القش ومن هشيم الشجر ومن يابس الأوراق والفروع، و (الحظْر): المَنْع، حتى يمنع عن غنمه الذئاب أو الرياح، فالمحتظِر هو صانع الحظيرة‫.‬ و (المحتظَر): الحظيرة نفسها، كانوا كهشيم المحتظِر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(الهشيم): النبات اليابس إذا تكسر، (الهَشْم): كَسْرُ النبات اليابس، أو كَسْرُ النبات الأجوف كأعواد البوص، كل نبات أجوف إذا كَسَرتَه فقد هَشَّمتَه، وكذلك كل يابس إذا هَشَّمتَه فقد كسرتَه فأصبح هشيماً. أصبحوا من صيحة جبريل كالهشيم المتحطم المتكسر الذي يكسره ويهشمه صانع الحظيرة‫.‬ وهاهو الأمل ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ الناس تقرأ الغث والثمين، يقرؤون الكتب، يقرؤون الجرائد ويقرؤون المجلات، ويقرؤون مالا طائل وراءه، هاهو القرآن بين أيدينا مُيَسَّر سهل عربي، بلغة عربية فُصحى، والقرآن يُفَسِّر بعضُه بعضاً، ومن قرأه أعانه الله (تبارك وتعالى) على فهمه، ومن حفظه وفقه الله (تبارك وتعالى) على حفظه، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‫.‬‬‬‬‬
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍۭ بِٱلنُّذُرِ ﴿33﴾ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍۢ ﴿34﴾ نِّعْمَةًۭ مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ ﴿35﴾ وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا۟ بِٱلنُّذُرِ ﴿36﴾ وَلَقَدْ رَٰوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِۦ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا۟ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿37﴾ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌۭ مُّسْتَقِرٌّۭ ﴿38﴾ فَذُوقُوا۟ عَذَابِى وَنُذُرِ ﴿39﴾ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿40﴾
انتقال إلى أمة أخرى‫:‬ قوم لوط‫.‬ وحُكِيَ لنا عن شأنهم الكثير فيما سبق من قرآن ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ بالرسل، النذر بالإنذارات‫.‬ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ (الحاصِب): الريح التي تثير الحصباء؛ الحصى الصغير، إذا جاءت الريح وهَبَّت من الأرض وصعدت تدور وأخذت الحصباء من الأرض فقذفتها حيث سارت تُسمَّى حَصِبَة وتُسمَّى حصباء لأنها تقذف بالحصباء‫.‬ ﴿آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ و (السَّحَر) هو اختلاط ظلام آخر الليل بضياء أول النهار، ذاك هو السَّحَر، بين آخر الليل وأول النهار‫.‬ وكلمة (سَحَر) إذا صُرِفَت فهي نكرة، أيُّ سَحَر، لا يعني بها سَحَراً معيناً ليومٍ بعينه، وإذا لم تُصرَف فهي تُعَيِّن سَحَراً مُعَيَّناً ليومٍ مُعَيَّن، يقول الله (تبارك وتعالى): (آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) (آل لوط): لوط وابنتاه فقط هم الذين أنجاهم الله، وما سوى ذلك لم يُبْقِ منهم كبيراً ولا صغيراً، أَمَرَ جبريل فنزل بجناح واحد، قَلَعَ القرى، وكانت سبع قرى، قَلَعَها بجناح واحد من أصولها من الأرض ورفع بها جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح دِيَكِهم ثم قَلَبَها، فجعل عالِيَها سافِلَها ثم أَمْطَرَ عليها حجارة من سجيل‫.‬ ﴿آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) إنعام من الله على المؤمنين؛ على لوط وابنتيه‫.‬ (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي من شكر نعمة الله (تبارك وتعالى) بالإيمان والطاعة‫.‬ ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾ نعم! وما ربك بظلام للعبيد‫.‬ لم يأخذهم ربنا (تبارك وتعالى) على حين غفلة، لم يأخذهم وهم مصلحون، لم يأخذهم وهم غافلون، بل أنذرهم ﴿بَطْشَتَنَا﴾: أَخْذَتَنا وعقابَنا، و (البطش): العقاب الشديد الذي لا يُبقي ولا يَذَر، أنذرهم لوط بطشتنا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾ (التماري): افتعال من (المِرْية): الشك والتردد، شَكُّوا في صدقه، وشَكُّوا في إنذاره، وشَكَّوا في نبوته ولم يكتفوا بذلك‫.‬ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ رَاوَدَهُ رِواداً ومُراوَدَةً، ورَادَهُ يرُودهُ رِواداً، وارتاده وراوده‫:‬ أراده‫.‬ (راودوه عن ضيفه): طلبوا منه أن يُخَلِّي بينهم وبين الأضياف، فقد جاءت الملائكة على هيئة البشر، وظنوهم غرباء وأرادوا أن يفعلوا بهم الفحشاء، استدراج من الله، وقد كان من الممكن أن تنزل الملائكة على هيئتها ويراهم لوط، وكان من الممكن أن تنزل إلى لوط في غفلة من قومه، لكن الله (تبارك وتعالى) أراد أن يبتليهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون فأنزل ملائكته على هيئة البشر، شباب في غاية الجمال والحُسن، فحين رأوهم جاءوا وراودوه عن ضيفه أي أرادوا أن يُخَلِّي بينهم وبين أضيافه فيفعلون بهم الفاحشة، وحين هَمُّوا بالدخول ومنعهم لوط وقال‫:‬ ﴿قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٧٨] جادلوا وقالوا‫:‬ ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ٧٩] وأرادوا أن يدخلوا البيت عُنوة، فدخلوا البيت عُنوة فصفقهم جبريل صفقة فطمس أعينهم، فإذا عيونهم في الوجوه وكأنها لا أثر لها، أصبحت وجوههم بغير شَقِّ العين، انطمس فأصبح الوجه صَمَّاً مُصمَتاً لا شق فيه‫.‬ وقيل بل أعماهم عن الرؤية مع بقاء الأبصار‫.‬ وقيل بل أذهب أبصارهم‫.‬ لذا يقول الله‫:‬ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ و (الطَّمْس): المحو وإذهاب الأثر، ولذا فالقول الأرجح أن الوجوه ذهبت منها العيون، حتى المكان لم يبق له أثر، وجه بغير عين، بغير شَقّ.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي قيل لهم ذلك‫:‬ (ذوقوا عذابي ونذر). ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ (صَبَّحَهم): أي في الصباح‫.‬ (بُكرَة): أي الصباح الباكر‫.‬ تأكيد للموعد أنه في الصباح الباكر حيث تهدأ الأصوات وحيث يكون النوم أشد استغراقاً وثقلاً، في هدأة الصباح الباكر‫.‬ (صَبَّحَهم بُكرةً) أي في التبكير، في أول وقت الصباح‫.‬ ﴿عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ استقر بهم العذاب وبقي معهم ودام حتى يؤدي بهم إلى عذاب جهنم‫.‬ وكأن الآية تشير إلى أن قوم لوط منذ أهلكهم الله وأرسل عليهم الحاصِب وقَلَبَ قُراهم وجعل عالِيَها سافِلَها هم في العذاب إلى يومنا هذا، بل وإلى أن تقوم الساعة‫.‬ (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) مرة أخرى يُذاق هذا العذاب لهؤلاء‫.‬ هل هو تكرير للتأكيد؟ أم هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ وتُختَم القصة أيضاً بالختام الذي يدعو الناس وأمة محمد (عليه الصلاة والسلام) على وجه الخصوص‫:‬ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، القرآن بين أيدينا جعله الله لنا نوراً وهُدى، فيه الحكمة وفيه القصص، وفيه الأمر وفيه النهي، وفيه الأخبار وفيه الأنباء عن الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل، فيه الحُكم من لدن الحكيم، من لدن العلي الأعلى، هو أعلم بنا إذ خلقنا من تراب وهو أعلم بنا إذ نحن أجنة في بطون أمهاتنا، وصَوَّرَنا فأحسن صُوَرَنا ورزقنا، هو الصانع وهو أدرى بصنعته، هو أعلم بما يصلحها وبما يفسدها، هو أنزل هذا الكتاب إلينا لسعادتنا واستقرار أمورنا في حياتنا الدنيا ولسعادتنا في أُخرانا، ومع ذلك يشكو الرسول (صلى الله عليه وسلم) لربه ويقول‫:‬ ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٣٠]، هُجِرَ القرآن ولجأ الناس إلى وسائل التسلية، ولجأ الناس إلى قراءات لا تغني ولا تنفع ولا تشفع وهجروا كتاب الله‫.‬ كيف إذا جيء بك أمام ربك (تبارك وتعالى) وسألك، وليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان‫:‬ أرسلتُ لك كتاباً، هل قرأتَ كتابي؟ هل عملتَ بما فيه؟ هل تصفحتَه؟ لو أنك في كل يوم قرأت صفحة أو صفحتين من كتاب ربك في الصباح، في الفجر؛ ﴿إن قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ أو في المساء قبل أن تنام فتنام على كلام الله (تبارك وتعالى) فإذا قُبِضتَ قُبِضتَ على خير، آخر عمل يعمله الإنسان يُحشَر عليه، فلو جعلت آخر يومك قراءة لكتاب الله (تبارك وتعالى) فقُبِضتَ قُبِضتَ على ما أنت عليه، وبُعِثتَ على ما أنت عليه، فتُبعَث يوم القيامة وفي يدك المصحف، هل هذا خير أم يُبعَث يوم القيامة وفي يده الكأس أو في يده أوراق اللعب أو في عينيه المناظر التي يراها في وسائل الإعلام أو ما إلى ذلك؟ أيها الأخ المسلم، يكرر ربنا (تبارك وتعالى) علينا هذه الآية‫:‬ (فهل من مُدَّكِر).‬‬‬‬‬‬‬
‫وتأتي بعد ذلك قصة آخر أمة حُكِيَ لنا قصتها في سورة القمر؛ فرعون الذي طغى في البلاد وأكثر فيها الفساد، فرعون الذي ادعى الألوهية، وهو مثال لكثير غيره من الناس، وربنا (تبارك وتعالى) قص علينا بعض القصص الذي رأى أننا في حاجة إليها ولم يقص علينا باقي القصص، فالدنيا عمرها الماضي كثير وكبير، مئات السنين بل مئات الملايين من السنين، كم من أُمَّةٍ كَذَّبَت، وكم من أُمَّةٍ أُهلِكَت، وكم من فرعون في هذه الأرض كان وسوف يكون‫.‬‬‬‬
‫وقصة فرعون عبرة لكل من تحدثه نفسه أن يتعاظم أو يتعالى عن قدره، فقد خُلِقَ الإنسان ضعيفاً، وهو في كل حركاته وسكناته محتاج بعضه إلى بعض، فأنت محتاج إلى العين حتى تبصر، ومحتاج إلى القدم حتى تمشي، ومحتاج إلى اليد حتى تأخذ وتتعاطى الأشياء، ومن شُلَّت يده أو شُلَّت قدمه أو عَمِيَ بصره يعرف معنى الاحتياج لهذه الجوارح، وأنت محتاج لأجهزتك الداخلية، بل وسر باطنك أخطر من سر ظاهرك، فربنا (تبارك وتعالى) هو الظاهر والباطن، وربنا (تبارك وتعالى) يُعلَم وجوده بكل ما ظهر في الوجود ويُعلَم وجوده أكثر وأكثر بكل ما بطن في هذا الوجود، فظاهرك يدل على وجود الصانع وباطنك أدل على وجود الصانع، لأن الباطن الذي لا يُرى في تصريفه وتصرفه أعجب، وانظر إلى القلب كيف يدق، وانظر إلى الحجاب الحاجز كيف يرتفع وينخفض، ولماذا؟ هذه الحركه الجبرية، حركة الحجاب الحاجز كيف تحدث؟ وهل بإرادتك أن تُحدِثَها؟ كيف تُلْهَم النَّفَس ولا تتكلفه بل تُلْهَمه؟ فأنت تتنفس عن غير قصد، يقظان أو نائم، بل ومعدتك تهضم الطعام، لكل نوع من أنواع الطعام إفراز خاص، كيف تميز المعدة وكيف تفرز لكل طعام ما يناسبه؟ ثم كيف تمتص من هذا الطعام ما ينفع الجسد ثم يُلفَظ ما يضر الجسد أو ما هو زائد؟ ويقسم إلى سوائل وجوامد تخرج السوائل من مخرج وتخرج الجوامد من مخرج وبغير إرادة من الإنسان؟ باطن الإنسان أدل على وجود الله من ظاهره، وأنت ترى الشجرة وترى الثمرة، كل ذلك من زرعٍ ظاهر يدل على وجود الله (تبارك وتعالى) ولو تأملت في باطن الشجرة لوجدت أن في باطنها ما يدل دلالة قاطعة على وجود المدبر المهيمن ومع ذلك يكفر الإنسان ويسأل أيان يوم القيامة، ويفكر في الغد ماذا يفعل وماذا يصنع، ويجري في الدنيا جري الوحوش ولا يصيب منها إلا ما كُتِبَ له، ومع ذلك يذكّرنا ربنا (تبارك وتعالى) وهو الحليم، يرزق من أطاعه ويرزق من عصاه، ولا يعاجل بالعقوبة، هاهو ربنا (تبارك وتعالى)‬‬
‫يضرب لنا الأمثال ويحكي لنا القصص لعل الناس يتذكرون‫.‬‬‬‬
وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ ﴿41﴾ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَـٰهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍۢ مُّقْتَدِرٍ ﴿42﴾
‫﴿النُّذُر﴾: الرسل، نعم! جاء آل فرعون رسل منهم يوسف، يوسف وبنوه من قبل موسى، وقد قال الرجل المؤمن من قوم فرعون لفرعون ومَلَئِه‫:‬ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٣٤]. ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ (النُّذُر): الرسل، (النُّذُر): الإنذارات‫.‬ جاءهم موسى بتسع آيات؛ العصا واليد والسنون والطَّمْس والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، كذّبوا بكل الآيات، ما من آية أجدت، الضفادع تكاثرت حتى أن الرجل كان يخشى أن يفتح فمه لأنه لو فتح فاه لدخل الضفدع فيه، متكاثرة في فراشهم وفي بيوتهم وفي كل شيء، كفروا! سُلِّطَ عليهم الدم فإذا بالمياه تتلون بلون الدم بما فيهم نهر النيل، وترفع المرأة غطاء إنائها الذي وضعت فيه الطعام فإذا هو بلون الدم وما آمنوا! سُلِّطَ عليهم الطوفان وما آمنوا! سُلِّطَ عليهم الجدب والقحط وما آمنوا! كم من آية؟ (كذّبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيزٍ مقتدر). (العزيز): الغالب الذي لا يُغلَب، القوي القاهر الذي لا يُنال ولا يُدرَك‫.‬ (مُقتَدِر): قادر على كل شيء متمكن من كل شيء، ما أراده وقع‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، القرآن كلام الله أحسن الحديث، إذا قرأتَ القرآن فأنت تقرأ لكن المتحدث هو الله، والقرآن بصوتك أنت لكنه كلام الله، والقرآن مرسوم في المصحف لكنه كلام الله القديم القائم بذاته الذي لا يقبل الإنفصال والافتراق بالانتقال والحلول في الأوراق، كلام الله من قرأه كان مجالساً لله مؤتنساً بالله، كان مستمعاً لحديث الله فهو كلام الله‫.‬ إلى متى نهجره وإلى متى نتباعد عنه؟ ألا يكفينا أننا لا نحكم بما جاء فيه؟ ألا يكفينا أننا لا نحفظه؟ ألا يكفينا أننا لا نعرف إعرابه؟ هل ننتظر يوماً يُرفَع فيه القرآن فنلتمسه ولا نجده؟ نعم! يُرفَع القرآن إي وربي! وإذا بك تفتح المصحف في بيتك فتجد صفحاته بيضاء لاكتابة فيها ولا حرف، بل يقوم الحافظ الماهر من نومه فلا يجد في صدره آية ولا حرف، يُرفَع القرآن من الأرض‫.‬ هل ننتظر أن يُرفَع القرآن من الأرض؟ وإذا رُفِعَ القرآن من الأرض عَمَّ الأرضَ عذابُ الله‫.‬ أيها الأخ المسلم عد إلى ربك والجأ إلى كتابه فإذا ابتغيت الهُدى في كتاب الله وجدتَه‫.‬ وها هو ربنا (تبارك وتعالى) يُكَرِّر‫:‬ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.‬‬‬‬‬‬‬
‫قَصَّ علينا ربُّنا في سورة القمر قصص الأمم المكذبة، تلك الأمم التي جاءتها آيات الله (تبارك وتعالى) فجحدوها؛ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون، قص القصص لعل الناس يتذكرون، قص القصص لتكون حجة الله بالغة عليهم يوم القيامة، وبعد كل قصة قال سبحانه وتعالى‫:‬ (فكيف كان عذابي ونذر) وقال (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). ثم يتوجه الخطاب إلى أهل مكة، يقول الله (تبارك وتعالى) لهم‫:‬‬‬‬‬
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌۭ مِّنْ أُو۟لَـٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌۭ فِى ٱلزُّبُرِ ﴿43﴾
والخطاب من حيث اللغة غاية في الفصاحة، جاء الخطاب بأسلوب التجريد، هو يخاطب الكفار ومع ذلك يقول‫:‬ ﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ وكان القياس أن يقول‫:‬ ءأنتم خير أم أولئكم، فقال ﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ وكأن المخاطِب عز وجل أخرج منهم أشدهم كفراً وعتواً وأضافهم إليهم، فأخذ من كفار مكة كفاراً وجَرَّدَهم ثم أضافهم إليهم وتساءل‫:‬ ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾؟ (أولئكم): الذين قصصنا عليكم قصصهم؛ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون، كفار مكة خير منهم؟ أي أشد منهم قوة ومنعة، أو أفضل منهم من حيث النسب؟ فالله (تبارك وتعالى) ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، هل هم خير منهم خُلُقاً أم قوة أم منعة؟ أم خير منهم لأنهم أقل كفراً وغِلظَة وعناداً؟ أكفاركم خير من أولئكم الذين قصصنا عليكم قصصهم ودمرناهم فتلك مساكنهم لم تُسكَن من بعدهم إلا قليلاً وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا؟ ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ والسؤال سؤال إنكاري ومعناه النفي وإن كان جاء في صيغة الإنكار‫.‬ و (الزُّبُر): اللوح المحفوظ، (الزُّبُر): أم الكتاب، (الزُّبُر): جمع (زَبور)، و (الزَّبور): الكتاب، من الزَّبْر وهو ضم الأديم إلى الأديم بالخياطة، فسُمِّيَت الكتابة زَبْراً لأنك تضم الحروف إلى بعضها بالكتابة‫.‬ (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) في الكتب السماوية التي نزلت من قبل، هل جاء فيها براءة لكم، أي سلامة من العذاب، صك من الصكوك؟ وعدٌ من الله (تبارك وتعالى) ألا يعذبكم إذا كفرتم؟ ألا يعاملكم معاملة من كفر من قبل؟ كفاركم خير؟ ليس ذلك‫.‬ (أم لكم براءة): سلامة من العذاب وصَكٌّ ووعدٌ من الله في الكتب المنزَّلة أو في أم الكتاب؟ ليس كذلك‫.‬ فما الذي دفعكم إلى هذا العناد؟ وكيف اجترأتم على الكفر؟ أكفاركم خير من أولئكم؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌۭ مُّنتَصِرٌۭ ﴿44﴾ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ ﴿45﴾
‫﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ هل يقول كفار مكة ذلك (نحن جميع مُنتَصِر)؟ (نحن جميع): أي مجتمعون، أمرنا جميع، أو متحالفون يشد بعضنا أَزْرَ بعض، أو أمرنا مجتمع على أمر واحد، أو نحن قوة كبيرة مجتمعة لا تُغلَب ولا تُقهَر‫.‬ (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) جاء بكلمة (مُنتَصِر) بدلاً من منتصرون لمراعاة رؤوس الآي حتى تأتي على نسق رؤوس الآي، (نحن جميع منتصر) أي مُمتَنِع، نَصَرَه الله فانتَصَر‫:‬ مَنَعَه فامتَنَع‫.‬ أو (منتصِر): مُعانون نَغلِب ولا نُغلَب، ونَهزِم ولا نُهزَم، أو لا يمكن أن يصل إلينا أحد ولا نُغلَب‫.‬ ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ ﴿سنهزم الجمع وتُوَلُّون الدبر﴾ قراءة (الدُّبُر): اسم جنس، ودُبُر الشيء خَلْفُه، ظهرُه، أي تولون الأدبار حين تعطون ظهوركم لمحاربيكم وتجرون لا تلوون على شيء‫.‬ (سيُهزَم الجمع) والهازم هو الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والآية نزلت بمكة، والسورة كلها مكية، بين نزول هذه الآية وغزوة بدر سبع سنين، والآية نزلت قبل أن يُفرَض القتال وهي من أعلام النبوة إذ هي غيب، حتى أن الصحابة كعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص يقولان ويقول غيرهم حين نزلت‫:‬ ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ لم ندرِ ماهي حتى جاءت غزوة بدر فوجدنا رسول الله يلبس الدرع ويقول‫:‬ "سيُهزَم الجمع ويولون الدبر" فعرفنا ماهي، وذاك يدلنا على أدب الصحابة أن القرآن حين كان ينزل ما فهموه عملوا به ومالم يفهموه آمنوا به، فنزلت الآية‫:‬ ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ بمكة وقبل فرض القتال ولا يعلموا معناها ومن المقصود بالجمع ومن الهازِم ومن المهزوم، ولم يتساءلوا أو يسألوا، آمنوا بها حتى جاءت غزوة بدر بعد سبع سنين من نزول هذه الآية، علموا حينها معنى الآية‫:‬ (سيُهزَم الجمع) أي جمع قريش، صناديدهم في بدر، ويولون الدُّبُر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ﴿46﴾
‫(الساعة): القيامة، و (الساعة موعدهم): أي أن عذاب الدنيا بالقتل والأسر والتشريد والإذلال كل ذلك ماهو إلا طلائع تبشر بعذاب الآخرة، موعد عذابهم المستمر، موعد عذابهم الواقع بهم لا محالة، هو يوم القيامة وليس بدر، وما بدر إلا طلائع تبشرهم أن الساعة موعدهم‫.‬ (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى) (أدهى): من الداهية و (الداهية): الأمر العظيم الخطير الفظيع الذي لايُهتدى للخلاص منه‫.‬ دهاه دَهْواً ودَهياً وجاءته داهيةٌ دَهْياء وداهيةٌ دَهْواء دهاه دَهْواً ودَهْياً: أصابه بأمرٍ جَلَل، أمر لا يُهتَدى لدوائه، لا يُهتَدى للخلاص منه، تلك هي الداهية‫.‬ والساعة أدهى من عذاب الدنيا، أدهى من القتل والتشريد والتعذيب‫.‬ (وأَمَرُّ): أشد مرارة وأشد فظاعة، (مَرَّ الشيء يَمَرّ): اشتدت مرارته، أصبح مُرَّاً غاية المرارة في المذاق، فالساعة أدهى وأشد فظاعة وأخطر، ولا مهرب منها ولا ملجأ ولا محيص، تلك هي الساعة موعدهم وهي أدهى مما يصيبهم في الدنيا وأَمَرُّ.‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـٰلٍۢ وَسُعُرٍۢ ﴿47﴾ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا۟ مَسَّ سَقَرَ ﴿48﴾
يأتي بِوَصْف لبعض مرارة الساعة، لبعض مافيها من ألم وعذاب ومرارة، مايدهيهم يوم القيامة‫.‬ (المجرمون): المشركون، (المجرمون): الكفار‫.‬ ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ (الضلال): البُعد عن الصواب، البُعد عن الحق‫.‬ (الضلال): التِّيه، من قولهم‫:‬ ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن إذا خلطوا اللبن بالماء واختفى الماء في اللبن ولم يُعرَف غِشُّه، يُقال ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن أي اختلط باللبن وغاب فلا يمكن فصله، أو لا يمكن تمييزه، فالضلال‫:‬ الذهاب، الإبعاد في التيه، فهم في ضلال أي في بُعد شديد عن الحق والصواب‫.‬ (السُّعُر): جنون، من قولهم ناقة مسعورة كما قلنا من قبل في قول ثمود لصالح‫:‬ ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [سورة القمر آية‫:‬ ٣٤] رَدُّوا ونَكَسُوا وكأن ماهددهم به في حالة انصرافهم عنه هم يقولون أنه يصيبهم إذا اتَّبعوه، فربنا يرد على الكافة ويقول‫:‬ إن المجرمين في كل مكان وفي كل زمان هم في ضلال وسُعُر وجنون، لأن الكافر بالله مجنون لاشك، كيف يكفر بالله؟ ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(١٧)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(١٨)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(١٩)وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(٢٠)﴾ [سورة الغاشية آية‫:‬ ١٧- ٢٠]، ألا تنظر إلى نفسك؟ كيف تتنفس، كيف تتحرك، كيف يدق قلبك بغير إراده منك، كيف تهضم معدتك الطعام، كيف تأكل وكيف تشرب وكيف تُخرِج الفضلات، كيف تنام وكيف تستيقظ، كيف تسهو كيف تغفل، كيف وكيف وكيف‫.‬ ألا تنظر إلى الأرض؟ كانت ميتة فأحياها الله بنزول الماء، الماء واحد والأرض واحدة والنبات مختلف أشكاله وألوانه، من كفر بالله في جنون لاشك‫.‬ أو (سُعُر): جمع سعير، والسعير‫:‬ اللهيب الشديد، اسم من أسماء جهنم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ إذاً هم في ضلال في الدنيا عن الهداية والصواب، وهم في ضلال أيضاً في الآخرة عن النجاة، هم في الدنيا في بُعد عن الصواب وعن الحق وجنون، وهم في الآخرة في ضلال أيضاً، بُعد عن الطريق السوِيِّ، عن السلامة، عن النجاة، عن الجنة، عن المهرب، عن الملجأ، عن المحيص، عن الشفعاء، عن الحميم والصديق، هم في ضلال في الآخرة وسعير، والسعير ليس سعيراً واحداً بل هو سُعُر، كل سعير يخالف غيره، ألوان وأنواع من السُّعُر‫.‬ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ أشرف ما في جسم الإنسان وجهه فإن ذُلَّ أشرف ما فيك فبقية البدن في ذل وهوان، أشرف ما في الإنسان الوجه، ها هو أشرف ما في الإنسان على الأرض، فكيف بباقي الجسد‫.‬ كيف ذله وهوانه؟ كما أن جلد الوجه أرق ما في الإنسان من جلد، فأنت لو نظرت إلى كف يدك لوجدت باطن الكف أغلظ من ظاهر الكف، فباطن الكف يحتمل أكثر من ظاهر الكف، والجلد في جسم الإنسان يتفاوت غِلَظُه ويتفاوت سُمْكُه ويتفاوت تحمله، صنعة الله، فها هو باطن الكف يحتمل أكثر لأنك تعالج بها الأشياء، أما ظاهر اليد فجلدها رقيق لأنك لا تعالج الأشياء بظاهر يدك وهكذا‫.‬ أرق ما في الإنسان من جلد في وجهه، والوجه أشرف ما في الإنسان، ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الضرب على الوجه فقال‫:‬ "لاتضربوا الوجه ولا تقبحوه"، في معاملة الرجل لامرأته، وفي كل حال لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه، فجلد الوجه أرق ما في الإنسان من جلد، فإذا كان السَّحْبُ على الوجه كيف يكون العذاب؟ وترى حين يُسحَبون على وجوههم على أي شيء يُسحَبون؟ على رمل؟ على حصى؟ على صخر؟ على تراب؟ يُسحَبون على النار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ أي يقال لهم من ملائكة العذاب، زبانية غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون، وقال غلاظ شداد لتعلم أن هذه الملائكة خلت من كل رحمة، من كل رقة، من كل شفقة، بل هي الغِلَظ في حد ذاته، غِلَظ مُجَرَّد، ليس في هذه الملائكة مسكة من رحمة أو لمسة من شفقة، لا يشعرون بالشفقة أو الرحمة أو الرفق بل خُلِقَوا من غضبه‫.‬ ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ أي أَلَمَها وعذابَها‫.‬ و (سَقَر): اسم عَلَم ممنوع من الصرف للعَلَميَّة والتأنيث، كجهنم وكلَظَى، وهي اسم عَلَم على النار، من أسماء جهنم‫.‬ أو هي طَبَق من طِباق النار، فالنار طبقات، كل طبقة ولها اسم ولها لون من العذاب‫.‬ و (سقر) بالسين مِن سَقَرتهُ النار لَوَّحَته ولفحته، أذابته وأحرقته‫.‬ وأيضاً تُطلق بالصاد في اللغة وليس في القراءة، صقرته بالصاد لغة وليس قراءة، سقرته وصقرته النار‫:‬ لوّحته ولفحته وأذابته وحرقته، سُمِّيَت سقر لفعلها بهم‫.‬ ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مُعَلِّماً ومبيناً بأنه ليس كمثله شيء وليس كذاته شيء وليس كأفعاله أفعال وليس كصفاته صفات فيقول عَزَّ مِن قائل‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍۢ ﴿49﴾ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٌۭ كَلَمْحٍۭ بِٱلْبَصَرِ ﴿50﴾
‫﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ﴾ قُرِأَت بالرفع ﴿كلُّ﴾ وقراءة النصب أرجح‫.‬ ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي مُقَدَّراً، على وجه مخصوص، قَدَّرَ الله الأشياء من قبل خلقها فهي عنده في كتاب، عنده في اللوح المحفوظ أحوالها، زمانها، الصفات أين ومتى وكيف تقع، فكل شيء مخلوق مُقَدَّر‫.‬ ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٢] كما جاء في سورة الفرقان، هذا التقدير معناه أن كل شيء قبل أن يُخلَق من الأزل في علم الله (تبارك وتعالى) كهيئة، كمِقدار، كأحوال، كزمان؛ كيف يقع ومتى يقع وأين يقع ومتى يبدأ ومتى ينتهي، (ولكل أَجَلٍ كتاب)، كل ذلك مسطور مكتوب ثم أراد الله أن يوقع الأشياء فتقع كما قُدِّرَت من الأزل وِفقَ العِلم الأزلي وطبقاً للإرادة الأزلية‫.‬ أو المعنى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي أن كل شيء مكتوب من قبل أن يحدث، فالله (تبارك وتعالى) خَلَقَ الخَلْقَ وأعمالَهم، فالنحل وعسله والنمل ودأبه والقمر وفلكه والإنسان وعمله كل ذلك من خلق الله وتقديره، وهو منسوب إلى الناس على سبيل الاكتساب، فالله خلقك وخلق قدرتك وخلق كل شيء فيك، وخلق عملك ونُسِبَ العمل إليك على سبيل الإضافة والاكتساب، وأعطاك القدرة على أن تفعل ما أراده (سبحانه وتعالى) من الأزل، فلا يقع في ملكه إلا مايريد وهو الفَعَّال لما يريد، وهنا نعلم أن الأمور في الدنيا من خلق وإيجاد وعدم وفناء وحركة وسكون وكفر وإيمان ونقص وزيادة وطاعة وعصيان كل ذلك مُقَدَّر أزلاً، مكتوب أزلاً في اللوح المحفوظ، عَلِمَه الله أزلاً وأراد له الوقوع فوقع بإرادته وقدرته وفق علمه القديم الأزلي‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ إما مُقَدَّراً حدودُه وزمانُه، مثال ذلك الإنسان، قضى ربنا (تبارك وتعالى) أن يخلق فلاناً من الناس، ذاك قضاؤه، أما التقدير‫:‬ متى يولَد، من أي أب، من أي أم، طوله عرضه شكله لونه حركته عمله أثره شقي أم سعيد، حركته سكونه، إي وربي! حتى طرفة العين مكتوبة مُقَدَّرة، كل ذلك مكتوب مُقَدَّر فوقع وِفقَ إرادته وبقدرته طبقاً لعِلمِه الأزلي‫.‬ أو (إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي كل شيء موجود في هذا الوجود مُقَدَّر مكتوب مرصود محفوظ مسطور‫.‬ ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ أي مرة واحدة، ربنا (تبارك وتعالى) إذا أراد شيئاً كان مرة واحدة، دون معاناة ودون معالجة ودون أداة ودون جارحة، هو أَمْر، هو قضاء يَنفُذ فوراً. أو ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ كلمة، وهي كلمة (كُن)، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون، فهي كلمة واحدة‫.‬ (وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (اللمحة): المرة من اللَّمْح، و (اللَّمْح): النظر بالعجلة، النظرة الخفيفة، (لمح البصر) كلنا يعرفه، النظرة العاجلة السريعة للشيء والتي لا تستغرق وقتاً، وأنت تعرف كيف تلمح، فأنت وأنت متجه إلى الأمام بوجهك ممكن بغير حركة من الوجه وبغير حركة من العين، لمحة سريعة للشيء، تلمح الشيء لمح البرق، والبرق سريع فنقول‫:‬ لمح البرق لمحاً، أي أبصره سريعاً بلمحة واحدة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ربنا (تبارك وتعالى) يُشَبِّه نفاذ قضائه في مراده بلمحة البصر في السرعة واليسر والسهولة، تُرى لو أنت جالس أردت أن تلمح شيئاً لمحة أتبذل مجهوداً؟ أيصيبك تعب؟ أيصيبك نَصَب؟ هل تستغرق اللمحة وقتاً أو تستغرق جهداً أو تستنفذ مجهوداً؟ هكذا أمر الله كلمحة بالبصر في كل شيء، الكلام عن قضاء الله (تبارك وتعالى) في كل شيء، في الإيجاد، في الإبقاء، في كل حركة، في كل سكون، في كل شيء، أَمْرُهُ (سبحانه وتعالى) كلمحة بالبصر، وأَمْرُهُ مرة واحدة إما بكلمة واحدة؛ بكلمة (كُن) فيكون قبل انتهاء الكلمة فوجود الشيء، لا يتقدم الأمر ولا يتأخر عنه، بل الشيء موجود بالأمر ولا يمكن أن يكون مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، أَمْرُهُ بين الكاف والنون، كيف؟ لا نعرف كيف، هو الله! وكأن الله (تبارك وتعالى) يُقَرِّب إلى أذهاننا كيف تَنفُذ أوامره في الإيجاد والإعدام والإفناء، كيف تَنفُذ أوامره في المقدورات، يُشَبِّه لنا نفاذ قدرته في مقدوره وفق إرادته كلمحة بالبصر، بغير أداة وبغير جارحة وبغير معالجة وبغير معاناة‫.‬ أو الآية تشير إلى قيام الساعة مصداقاً لقوله (تبارك وتعالى) في سورة النحل‫:‬ ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [سورة النحل آية‫:‬ ٧٧] أي أقرب من لمح البصر، (أو) بمعنى الواو، أي‫:‬ وأقرب من لمح البصر، إذا أراد الله (تبارك وتعالى) قيام الساعة قامت بأمرٍ واحد كواحدة بِلَمحٍ بالبصر‫.‬ ويأتي التهديد والوعيد والإنذار لعلهم يتعظون‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ ﴿51﴾ وَكُلُّ شَىْءٍۢ فَعَلُوهُ فِى ٱلزُّبُرِ ﴿52﴾ وَكُلُّ صَغِيرٍۢ وَكَبِيرٍۢ مُّسْتَطَرٌ ﴿53﴾
‫﴿مُدَّكِر﴾: أصلها (مذتكر)، قُلِبَت التاء دالا وكذلك الذال وأُدغِمَت‫:‬ (فهل من مُدَّكِر) أي‫:‬ متذكِّر معتبِر‫.‬ و (الأشياع) في الأصل الأتباع، لكن المقصود هنا الأشباه‫.‬ ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ أي أشباهكم، كفار مثلكم؛ قوم نوح قوم عاد قوم هود قوم صالح قوم لوط قوم فرعون، أشباهكم في الكفر والغلظة والشدة والعناد والفجور‫.‬ (أشياعكم) جاءت الكلمة مجازاً للتعبير عن الأشباه، وكأنهم يتبع بعضُهم بعضاً وكأنهم أوصى بعضُهم بعض، ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [سورة الذاريات آية‫:‬ ٥٣]. ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ والسؤال يعني النفي، لأنه لم يتذكر منهم أحد، من هؤلاء الذين أُهلِكوا، ما تذكر قوم هود بما حدث لقوم نوح، وما تذكر قوم صالح بماحدث لقوم هود، وماتذكر قوم لوط بما حدث للأمم من قبلهم، وماتذكّر فرعون بل اجترأ لدرجة الجنون، وهذا يشير إلى معنى كلمة (إن المجرمين في ضلال وسُعُر)؛ جنون، كيف يكون جنوناً؟ انظر إلى فرعون؛ كَذَّبَ بالعصا، قال سِحر، كَذَّبَ باليد البيضاء، قال سِحر، كَذَّبَ بالطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، كَذَّبَ بالسنين ونَقْصِ الثمرات، كَذَّبَ بالطَّمْس والرِّجز، كَذَّبَ بكل ذلك، هاهو يرى موسى عند البحر يشق البحر بعصاه فينفلق فيكون كل فِرْقٍ كالطود العظيم، الماء يرتفع كالجبل وتُوقَف جرية الماء ويصبح كالجبل الأصم، هاهو موسى أمام عينيه يجتاز البحر هو ومن آمن معه، هل هذا سِحر؟ فرعون يرى البحر ويعلم أنه البحر، والبحر في مُلكِه وقد رآه من قبل ويعلم ذلك، وهاهو يرى الماء ويرى الناس تمشي كيف اجترأ على أن يجتاز البحر وراء موسى؟ كيف؟ تخيل هذا لتعلم أنه كان مجنوناً فعلاً، كيف أَمِن؟ كيف اجترأ أن يجتاز وراء موسى البحر؟ نعم صدق ربي! (إن المجرمين في ضلال وسُعُر).‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ (الزُّبُر): الكُتُب، الكتب السماوية، كُتُب الحَفَظَة، سَجَّلَت الحفظةُ عليهم أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم، كل شيء فعلوه، والكلام عن الأشياع الذين أُهلِكوا‫.‬ (ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه) أي فَعَلَه الأشياع؛ الكفار، الأمم السابقة التي أُهلِكَت‫.‬ ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ مكتوب مسطور عليهم فتُنشَر لهم الصحائف يوم القيامة ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٩]. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) سَطَرَ يَسطُرُ سَطْرَاً: كَتَب الكتابة المنسقة على نَسَقٍ واحد في خط واحد، ذاك هو السَّطْر، أن تكتب كتابة منسقة في خط واحد على استقامة واحدة‫.‬ واستَطَر‫:‬ أيضاً كَتَب‫.‬ أو (كل شيء فعلوه في الزُّبُر) أي أن الله تبارك وتعالى قد أحصى عليهم أعمالهم قبل أن يخلقهم وكُتِبَت الأعمال في اللوح المحفوظ من قبل الخلق، حين خلق الله (تبارك وتعالى) السماوات والأرض كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وخلق السماوات والأرض وكتب كل شيء كائن فهو في كتاب عنده، كل شيء فعلوه في الزُّبُر مكتوب من قبل أن يُخلَقوا، بل من قبل خلق آدم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ ثم بعد ذلك حين خُلِقُوا وكُلِّفُوا بدأت الحفظة في التسطير عليهم، فكل شيء فعلوه في اللوح المحفوظ قبل الخلق، ثم كل شيء فعلوه بعد ذلك سُطِرَ عليهم، وماهو مسطور في كُتُبِ الحفظة موافق لما هو مكتوب في الزُّبُر من قبل الخلق، لذلك إذا نزلت الحفظة، وهم يتعاقبون الناس بالليل والنهار، وينزل كاتب اليمين وكاتب الشمال ومعهم الصحائف بيضاء يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله، إن كانت حسنة فحسنة أو عشر أمثالها أو سبعمائة ضعف، وإن كانت سيئة فسيئة أو تُمحى بالاستغفار وبالحسنة، وبعد أن ينتهوا من التسطير وتنتهي دورتهم ونوبتهم وجاء الآخرون ليحلوا محلهم، قبل أن يصعدوا إلى ربهم وقد سطروا كل شيء، هم قد نزلوا ومعهم كتاب مختوم، قبل أن يصعدوا يقول مَلَك اليمين لمَلَك الشمال وهو أمين عليه‫:‬ هَلُمَّ نفتح ونَفُضَّ الخاتَم عن الكتاب الذي جئنا به مختوماً من السماء، فيُفَضُّ الخاتَم ويُفتَح الكتاب فإذا بما سطروه في كتاب العبد مسطور في الكتاب المختوم دون تغيير أو تبديل أو تقديم أو تأخير، مسطور منسوخ من اللوح المحفوظ ما قُدَّر لابد وأن يكون، كل صغير وكبير مُستَطَر‫.‬ أيها العبد المسلم، ربنا يعلم ما كان وما يكون، وعِلمُ الله عِلمٌ قديم أزلي قِدَم ذاته، عِلمُه قديم ليس حاصلاً بالتجدد أو بالانتقال، هو عِلم قديم، عِلم الله القديم الذي سَطَرهُ وكَتَبهُ في اللوح المحفوظ بكل شيء كائن، من هنا إذا خُلِقَ الإنسان وخُيِّر وجاءته الرسل وجاءته الكُتُب لن يعدو قضاء الله فيه أبداً ولا قَدَر الله فيه‫.‬‬‬‬‬‬
‫فإذا آمن العبد وصَدَّق ووُفِّق للطاعة صادف عَمَلُه عِلمَ الله لأن عِلمَ الله لا يخطيء ولابد أن يصادف حقيقة المعلوم، فهذا المكتوب ليس فيه إجباراً للعبد وإنما الكتابة كتابة عِلم، بمعنى لو أنك لو رُزِقتَ بولد وكنت حريصاً على تربيته ومراقبته وعَرَفتَ سلوكه وتقديره للأشياء، وحبه أو كُرْهُه لبعض الأصناف، فأنت تعرف عن ابنك مالا يعرفه غيرك، فإن جاءك ضيف وقَدَّمَ لابنك شيئاً فأنت تستطيع أن تقول سوف يفرح أو سوف لا يقبل هذا أو سوف يبكي أو سوف يعمل، فإن جاء الولد وفعل مثل ما قُلتَ أنت بالضبط لضيفك، هل أنت أجبرتَ ولدَك على ذلك؟ هل أَمَرْتَهُ بذلك؟ وإنما أنت تعلم من ابنك مالايعلمه غيرك؟ وهكذا عِلمُ الله من خَلْقِه، عَلِمَ المؤمنَ وعَلِمَ الكافرَ وعَلِمَ أفعالَهم وحركاتِهم وسكناتِهم فَسَطَّرَ كُلَّ ذلك، ولوشاء لأدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ وأهلَ النارِ النارَ من قبل خَلْقِ الدنيا، لكن الله لو فعل ذلك لقال أهلُ النار لم أدخلتنا النار؟ لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، ما الدليل على أننا كنا نُكذِّب أو نكفر؟ ما الدليل على ذلك؟ فَسَطَرَ اللهُ (تبارك وتعالى) عليهم كل شيء ثم خَلَقَهم وتركهم في الدنيا وأَذِنَ وأراد، هذا معنى أراد ولا يقع في ملكه إلا مايريد، إرادة الله غير إرادة البشر، معنى ذلك أن الله أَذِنَ بوقوع المعاصي وسمح بوقوع الكفر، فما وقع في الدنيا من شرور بإرادته لأنه المَلِك ولا يمكن أن يُعصَى قهراً، ولا يمكن أن يُعصَى ولا يَعلَم، بل أَذِنَ بوقوع الشرور وسمح بوقوع المعاصي حتى تكون حجة الله بالغة يوم القيامة على عباده، ومع ذلك بعد كتابة كل شيء من الأزل ثم إحصاء كل شيء بعد ذلك في الصحائف والكُتُب، حين يُبعَث الكفار يحلفون لله كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء، بل يطلبون من الله الإعادة ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(٩٩)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ(١٠٠)﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ٩٩ - ١٠٠]، وحين يكونون في النار يقولون‫:‬ ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ١٠٧]، يقول الله حاكياً عنهم‫:‬ ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٢٨]، لو رَدَّهم اللهُ من جهنم إلى الدنيا لعادوا لكفرهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتتساءل‫:‬ كيف يعود بعد أن رأى؟ إذا أعاده الله سوف يُنسيه جهنم ويُنسيه القيامة حتى يترك له الحرية والاختيار، لأن الله لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، والإيمان هنا يكون إيماناً جبرياً، هل تذكر حين أوقفك الله أمامه وقال لك ألستُ بربك فرددتَ عليه وقلتَ بلى؟ هل تذكر ذلك؟ أبداً ولكنه حدث! خلق اللهُ آدم وأخذ من صُلبِه الذُّرِّيَّة وخلقهم جميعاً، أوقفهم أمامه صفاً واحداً يتكلمون بلسان واحد، وأشهدهم على أنفسهم وأنه أخرجهم من العدم وسألهم‫:‬ ألستُ بربكم؟ قالوا جميعاً: بلى شَهِدْنا، فَحَذَّرَهم وقال‫:‬ ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(١٧٢)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(١٧٣)﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٧٢ - ١٧٣]، ثم أرجعهم إلى أصلاب الآباء، ثم إلى صُلْبِ آدم، ثم أدخل آدم الجنة ونَفَذَ قضاؤه، من هنا يأتي يوم القيامة ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا(٤٨)وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٤٨ - ٤٩] نعم صدق ربي! (كما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُه) فيقف الناسُ صفاً واحداً كما أوقفهم من قبل، الذين رَدُّوا وقالوا شَهِدْنا وكان رَدُّهُم قلباً وقالباً هم الساجدون يوم القيامة يوم يُكشَف عن ساق، والذين قالوا بلى شَهِدْنا بألسنتهم دون قلوبهم إذا كُشِفَ عن ساقٍ وأُمِروا بالسجود لا يستطيعون وقد كانوا يُدعَون إلى السجود وهم سالمون، فإذا بالرجل يريد أن يسجد، فالسجود نجاة، من سجد لله يوم القيامة نجا ولا يسجد له إلا الساجدون في الدنيا، والآخرون يذهب أحدهم ليسجد فإذا بظهره يذهب طبقاً واحداً يتصلب كعود حديد، يريد أن يسجد ولايستطيع ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [سورة القلم آية‫:‬ ٤٣]. أما المتقين، جعلنا الله وإياكم منهم، يُحشرون يوم القيامة وفداً، كل الناس آتيه يوم القيامة فرداً، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه حيث لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه، بل ويود المجرم أن يفتدي من عذاب يومئذ بفصليته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم يُنجيه، وكلهم آتيه (سبحانه وتعالى) يوم القيامة فرداً، أما المتقون فالله له معهم شأن آخر حيث يقول‫:‬ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [سورة مريم آية‫:‬ ٤٣] وفود، وفود الأنبياء والمصدّقون، الشهداء، العلماء، الصالحون، الإخوان في الله، الأحباب في الله، المتحابون في جلال الله، المجتمعون على كلام الله، هؤلاء يحشرون وفوداً وفوداً، فلا تجد نفسك وحدك أبداً، بل تجد نفسك في زمرة من إخوانك وأحبابك، أهلك وأصحابك، هؤلاء يُحشَرون يوم القيامة وفداً، بل ويجعل لهم الرحمن وُدَّاً ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٦٧] خُلَّتُهم قائمة، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله قُطِعَ وانفصل، هم خُلَّتُهم باقية، ومودتهم دائمة، ومحبتهم قائمة، هم الأخلاء، هم الأصحاب، هم الأحباب، هم الشفعاء، هم الشهداء، هم المحشورون في ظل الله حيث لا ظل إلا ظله‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى) مُبَشِّراً:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَنَهَرٍۢ ﴿54﴾ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍۭ ﴿55﴾
‫﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ وقُرِأَت ﴿نَهْر﴾ بسكون الهاء، وقُرِأَت ﴿نُهْر﴾ بضم النون وسكون الهاء، وقُرِأَت ﴿نُهُر﴾ بضم النون وضم الهاء‫.‬ ﴿وَنَهَرٍ﴾ اسم جنس، و ﴿نَهَر﴾ بمعنى أنهار، وجاء بكلمة (نَهَر) لموافقة رؤوس الآي‫.‬ إما المقصود أنهار الجنة؛ أنهار من لبن، وأنهار من ماء، أنهار من عسل مصفى، أنهار من خمر لذة للشاربين‫.‬ أو المقصود بالنُّهُر جمع نهار، فهم في نهار لا ليل معه، لا يأتيهم الليل أبداً، هم في نهار دائم، نهار مُضاء بضياء الله ونوره، فهم في ظل ممدود فليس لهم شمس وليس عندهم قمر، بل هم في نورهم الذي رزقهم الله إياه ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ٨] فيُحيطُ بهم النور من كل مكان، فهم في النور، والنور أمامهم وخلفهم، وفي كل مكان وفي كل اتجاه وهم في ظل ممدود‫.‬ ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ (جَنَّات) وليست جنة واحدة، إي وربي هي جنات! مصداقاً لقول الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) حين سألته امرأة عن ابنها وقد استُشْهِد‫:‬ أين هو يارسول الله؟ إن كان في النار بكيتُ عليه وإن كان في الجنة حمدتُ الله، قال‫:‬ "أَوَجَنَّةٌ هي؟ بل هي جَنًّات" واللهِ جَنَّات! إن المتقين في جنات ونَهَر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ وهذه الآية قيل فيها الكثير وأنا أعلن عجزي عن الكلام فيها فلا يعرفها إلا الله! ﴿مَقْعَد صِدْق﴾ (المقعَد): المكان، وقُرِأًت ﴿مَقَاعِد﴾، (مَقَاعِد): أماكن للقعود، هل هم يجلسون؟ هل هم على منابر من نور عن يمين العرش وكلتا يَدَيِ الرحمن يمين؟ هل هم جلوس؟ كيف حالهم؟ كيف هم؟ المقعد الذي أضاف الله إليه الصِّدق، نفس المقعد هل مكان صِدْق؟ هل هو مكان لا يجلس فيه إلا الصادقون؟ ما هو هذا المقعد؟ كيف شكله؟ نحن نعجز عن الكلام فيه، لا يعرفه إلا الذي خلقه، هو الله! ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ العِنْدِيَّة ليست عِنْدِيَّة مكان، فَجَلَّ وعلا وتعالى اللهُ عن المكان والزمان، وإنما العِنْدِيَّة‫:‬ القُربى، الزُّلفى، الكرامة، المكانة، المَقام، قُرب من الله، زُلفى من الله، مَكَانة؟ رُتبة؟ مَقام؟ عِنْدِيَّة مكانة وليست عِنْدِيَّة مكان، وهذه أيضا يعجز العقل عن الوصول إلى معرفتها وكُنهِهَا، كيف تكون هذه العِنْدِيَّة؟ (عند مليك) (مليك): صيغة مبالغة لمَلِك، والآية جاءت على صيغة الإبهام، غير مُعَرَّفة، لم يقل عند المَلِك، ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ هذا المَلِك مُلكُه فوق الخيال، فوق العقول والأفهام، مُلْكُه لا يخطر ببال ولا يُحصى وليس له نهاية وليس له حدود، وأما اقتداره فكل المقدورات في قُدرته سواء، وهذه المقدورات لاحدود لها ولانهاية لها، تلك المقدورات ما هي هذه المقدورات؟ وماهو الذي في قُدرتِه؟ وكيف يَقدِر على كل شيء؟ وما هو كل شيء؟ إحصاء المقدورات مستحيل، محال أن تحصي مقدورات الله، محال أن تعرف ماالذي يقدر عليه المليك، أبهم كل ذلك على ذوي الأفهام والعقول والأفكار‫.‬ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ فلا يعرف المقعد إلا المليك، ولا يعرف المليك إلا الملك، ولا يعرف المقتَدِر إلا القادر، هو الله هو الله!‬‬‬‬