
القرآن الكريم / سورة النجم / التفسير المقروء
سورة النجم
لقاؤنا مع سورة النجم، وسورة النجم سورة مكية، وهي أول سورة أعلنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وقد قرأها (صلى الله عليه وسلم) في المسجد الحرام واستمع لها المؤمنون والمشركون، وسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) وسجد المؤمنون وسجد المشركون ما عدا رجل واحد وهو أمية بن خلف، أخذ كفاً من حصباء أو من تراب ووضعه على جبهته وقال يكفيني هذا، فقُتِل كافراً في غزوة بدر. وقد سجد للسورة الإنس والجن، وكانت أول ما أُعلِنَ على الملأ من قريش في مكة حيث أعلنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سورة النجم أقسم الله (تبارك وتعالى) في أولها بالنجم، والنجم أصلاً من (نَجَمَ): أي ظَهَرَ، نَجَمَ السِّنُّ: خرج وظهر، ونَجَمَ فلان بالبلاد أو ببلاد كذا: خرج على السلطان، فأصل كلمة النجم من نَجَمَ وهو الطلوع أو الظهور أو الخروج.
وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿1﴾
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿2﴾
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ ﴿3﴾
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ هَوَيَ يهوِي هُوِيَاً وهَوِيَّاً: سقط من أعلى إلى أسفل. أما هَوِيَ يهْوَى هَوىً: أي أَحَب. قيّد ربنا (تبارك وتعالى) القَسَم بالنجم بسقوطه. (النجم) قيل هي الثريا؛ كوكب، وكوكب الزهرة كان يُعبَد من دون الله، كانت فئة من كفار مكة يعبدون هذا الكوكب وتلك الثريا، فأقسم الله (تبارك وتعالى) بهذا النجم وقَيَّدَ القَسَم بسقوطه، وما يسقط يتغير ويتحول ويكون بعد ما كان وذاك ليس حال الإله، فإلهنا يُغيِّر ولا يتغير. وقيل ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ أي القرآن إذا نزل، لأن القرآن نزل مُنَجَّما ًسورة سورة، آية آية، مُنَجَّماً أي مُفَرَّقاً. وقيل (وَالنَّجْمِ) رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ﴿إِذَا هَوَى﴾ إذا نزل من السماء حين عُرِجَ به. و (هوى) قد تعني ارتفع، هوى هُوِيَّاً: ارتفع، أو هَويّاً: سقط، أو العكس. وقيل (النجم): الزرع بغير ساق كالقثاء، إذا سقط، إذا نَبَتَ، إذا وقع وجُنِيَ ونزل وطاب. وقيل (والنجم اذا هوى) أقسم الله (تبارك وتعالى) بجنس النجوم، و (النجم): أي النجوم، (إذا هوى): إذا غربت. وقَيَّدَ القَسَم في حالة غروب النجم لأن النجم إذا كان في كبد السماء، في وسط السماء، مرتفعاً لا يتبين الإنسان المشرق من المغرب أو الشمال من الجنوب، فإذا سقط النجم ومال إلى الغروب تَبَيَّن حال غروبه المشرق من المغرب والشمال من الجنوب، فاهتدى السائر واهتدى المسافر، وذاك أرجح الأقوال لأن الله قد أقسم في موضعٍ آخر وقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [سورة الواقعة آية: ٧٥] وكأن النجم ذاك الذي خلقه الله (تبارك وتعالى) جنس النجوم، جُعِلَت زينة وتهدي الناس أيضاً في ظلمات البر والبحر يعرفون بها اتجاهات المسير، يعرفون المشرق من المغرب والشمال من الجنوب، وأشد المعرفة تكون حين يسقط النجم، حين يغرب، فإذا نزل عُرِفَ الغروب من الشروق والشمال من الجنوب.
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(١)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(٢)وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(٣)﴾ إجابة القَسَم، (والنجم إذا هوى) قَسَم، (ما ضل صاحبكم وما غوى) إجابة القَسَم، والخطاب لأهل مكة ولقريش. (صاحبكم) هو النبي (صلى الله عليه وسلم) والتعبير بكلمة الصاحب لأنهم صاحبوه أربعين سنة قبل النبوة، عرفوا صدقه وعرفوا أمانته وعرفوا نسبه وحسبه وعرفوا خُلُقَه، فهو ليس بغريب وليس بدعاً من الرسل، فهو مصاحب لهم على مدار أربعين عاماً ما جربوا عليه كذباً قط، بل هو الأمين وهو الصادق، وتلك ألقاب هم لقبوه بها. ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى، نفى ربنا (تبارك وتعالى) عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة أشياء وأقسم على ذلك: (ما ضل) والضلال: الميل والبعد عن طريق الاستقامة، وقد يضل المرء وهو لا يدري، يذهب في مسير، في طريق، في سفر، فإذا به يضل عن طريقه دون أن يقصد، فالضلال: البعد عن القصد والبغية، الميل والعدول عن طريق الاستقامة، فنفى عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) الضلال: (ما ضل). (وما غوى): الغَيّ ضد الرَّشَد، والغَيّ قول الباطل، والغَيّ ينشأ من اعتقاد فاسد، فالغاوي هو الذي اعتقد اعتقاداً فاسداً وأصر على اعتقاده، فجَهِلَ الأمور ولم يعرفها على حقيقتها. غَوَى يغوِي غُوِيَّاً. ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ إذاً فما ضل النبي (صلى الله عليه وسلم) وما اعتقد اعتقاداً فاسداً أو قال قولاً باطلاً نتيجة لاعتقاده غير الصحيح. ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ ما يتلفظ وما يتكلم (عن الهوى): عن نفسه وعن رأيه ومن تلقاء ذاته. والهوى هوى النفس، والهوى ما تريده النفس وما تشتهيه، والهوى رأي الإنسان وما يعتقده وما يقوله وما يهواه، والهوى يُردي، والهوى يُصِم، والهوى يُعمي.
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(١)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(٢)وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(٣)﴾ إجابة القَسَم، (والنجم إذا هوى) قَسَم، (ما ضل صاحبكم وما غوى) إجابة القَسَم، والخطاب لأهل مكة ولقريش. (صاحبكم) هو النبي (صلى الله عليه وسلم) والتعبير بكلمة الصاحب لأنهم صاحبوه أربعين سنة قبل النبوة، عرفوا صدقه وعرفوا أمانته وعرفوا نسبه وحسبه وعرفوا خُلُقَه، فهو ليس بغريب وليس بدعاً من الرسل، فهو مصاحب لهم على مدار أربعين عاماً ما جربوا عليه كذباً قط، بل هو الأمين وهو الصادق، وتلك ألقاب هم لقبوه بها. ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى، نفى ربنا (تبارك وتعالى) عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة أشياء وأقسم على ذلك: (ما ضل) والضلال: الميل والبعد عن طريق الاستقامة، وقد يضل المرء وهو لا يدري، يذهب في مسير، في طريق، في سفر، فإذا به يضل عن طريقه دون أن يقصد، فالضلال: البعد عن القصد والبغية، الميل والعدول عن طريق الاستقامة، فنفى عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) الضلال: (ما ضل). (وما غوى): الغَيّ ضد الرَّشَد، والغَيّ قول الباطل، والغَيّ ينشأ من اعتقاد فاسد، فالغاوي هو الذي اعتقد اعتقاداً فاسداً وأصر على اعتقاده، فجَهِلَ الأمور ولم يعرفها على حقيقتها. غَوَى يغوِي غُوِيَّاً. ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ إذاً فما ضل النبي (صلى الله عليه وسلم) وما اعتقد اعتقاداً فاسداً أو قال قولاً باطلاً نتيجة لاعتقاده غير الصحيح. ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ ما يتلفظ وما يتكلم (عن الهوى): عن نفسه وعن رأيه ومن تلقاء ذاته. والهوى هوى النفس، والهوى ما تريده النفس وما تشتهيه، والهوى رأي الإنسان وما يعتقده وما يقوله وما يهواه، والهوى يُردي، والهوى يُصِم، والهوى يُعمي.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌۭ يُوحَىٰ ﴿4﴾
عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ﴿5﴾
ذُو مِرَّةٍۢ فَٱسْتَوَىٰ ﴿6﴾
وَهُوَ بِٱلْأُفُقِ ٱلْأَعْلَىٰ ﴿7﴾
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴿8﴾
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴿9﴾
فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ ﴿10﴾
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ أي ما يقوله وما ينطق به مُوحى إليه من رب العزة (تبارك وتعالى). و (الإيحاء): الإلقاء بسرعة، ويُطلَق شرعاً على ما يلقيه الله (تبارك وتعالى) إلى جبريل فيلقيه جبريل إلى الرسل. والآية دليل على أن السُّنَّة -وهي أقوال النبي جميعها وأفعاله وتقريراته- هي من الوحي، وهي والقرآن سواء، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يصح له الاجتهاد في الأمور، لأن الاجتهاد إعمالٌ للرأي، وذاك خطأ لأنه قد يُوحَى إليه أن يجتهد فيصبح اجتهاده بوحي من الله. إذاً فما يقوله النبي (صلى الله عليه وسلم) من قرآن يتلى هو كلام رب العالمين أقسم الله (تبارك وتعالى) على ذلك. ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ من هذه الآية يبدأ الكلام بالضمائر مما أوقع العلماء في حيرة شديدة فكثرت أقوالهم واجتهاداتهم وتباينت واختلفت، فمن الناس ما نسب الضمائر إلى الذات العلية وأَوَّلَ على هذا الأساس، ومن الناس من نسب الضمائر إلى جبريل، ومن الناس من نسب الضمائر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنهم من نسب إلى الله ثم إلى جبريل ثم إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) واختلفت الأقوال. ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ الضمير عائد على النبي (صلى الله عليه وسلم) (علّمه) أي علّم النبي (صلى الله عليه وسلم) لأن الكلام عن النبي؛ (ما ينطق عن الهوى) إذا ً هو النبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ هو القرآن عَلَّمَه المتعلِّم هو النبي، ذاك أرجح الأقوال.
وإن كان بعضهم قد قال إن المتعلِّم جبريل (عَلَّمه) عَلَّم اللهُ جبريلَ أو عَلَّم جبريلُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ إن كان المعلِّم هو الله عَلَّم النبيَّ أو عَلَّمَ جبريلَ فربنا (تبارك وتعالى) هو ذو القوة المتين، ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾: هو نعت للذات العليّة، أي هو القوي الشديد المتين. عَلَّم القوي (سبحانه وتعالى) جبريلَ أو عَلَّم القويُّ (شديد القوى) وهو الله محمداً (صلى الله عليه وسلم) ونحن نعتقد والله أعلم أن المعلِّمُ هنا هو جبريل والمتعلَّم منه هو النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تلقى الوحي من جبريل وليس من الله رأساً، القرآن نزل على جبريل ونزل به جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم) وذاك أرجح الأقوال. و (شديد القوى) هو جبريل، ألا ترى أنه أخذ قُرى لوط، سبع قُرى ببيوتها وأناسها وبهائمها وما فيها، من الأرض السابعة بجناح واحد، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الدِّيَكة ونباح الكلاب ثم قَلَبَها؟ ألا تراه قد صاح صيحة واحدة بثمود، الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، صيحة واحدة صاحها جبريل فإذا هم خامدين، أصبحوا جاثمين؟ ألا تراه ينزل من السماء السابعة إلى الأرض ويصعد في أقل من طرفة عين فيوحي إلى الأنبياء بما يأمره الله في أقل من طرفة عين؟ ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ الوصف لجبريل أيضاً وإن كان بعضهم قال إن الوصف لله تعالى. (ذو مِرةٍ) أي متانة، و (المِرَّة) من فَتْل الحبل فَتلاً شديداً حتى يصعب حلُّه. وكأن ﴿ذو مِرَّة﴾ أي المتين وصفٌ لله، ونحن نعتقد والرأي الأرجح أن الوصف لا زال لجبريل.
﴿ذو مِرَّة﴾ تُطلق على صاحب العقل والحصافة والرأي السديد، (ذو مِرَّة) تُطلق على القوي حَسَن الخَلْق والسَّمْت، عافيته تامة وجسمه فيه الكمال، من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تَحِلُّ الصدقة لغني أو لذي مِرَّة سَوِيّ) أي مستوي في خَلْقِه متكامل الخَلْق حَسَن الخِلقة وذو رأي حصيف. من هنا فالوصف لجبريل وينطبق عليه فهو أقرب الملائكة إلى الله. (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) القائلون بالأوصاف أنها لله (تبارك وتعالى) قالوا (فاستوى) أي استوى الله على العرش، وهذا ليس محلاً لهذا الكلام، الكلام عن الوحي والقرآن والتعاليم فهو رأي مرجوح. ومنهم من قال (فاستوى) أي فاستوى محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ استوى في الكمال، استوى في الخلق، استوى في العلم بعد ما عَلَّمه جبريل. ومن قائل (فاستوى) أي استوى النبي (صلى الله عليه وسلم) في السماء على الرفرف الأخضر، حيث دنا الرفرف فجلس عليه المصطفى فارتفع به الرفرف إلى السماوات العُلى. ومن قائل فاستوى جبريل وذاك أرجح الأقوال؛ لأن الوصف لجبريل: (شديد القوى)، (ذو مِرَّة)، (فاستوى) جبريل استوى وارتفع، أو (استوى): استولى على ما أمره الله به من مقدورات، من معجزات، من تأييد للأنبياء، من إظهار لخوارق فعلها بأمر الله كإهلاك القرى؛ قرى لوط، وكتدمير ثمود وعاد، فاستوى: ارتفع وذاك أرجح الأقوال. ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ (الأُفُق)، (والأُفْق) بإسكان الفاء وبضمها: جهة السماء في المشرق، و (الأعلى): من العلو. ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(٨)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(٩)﴾ ﴿فكان قاب﴾ ﴿فكان قيب﴾ ﴿فكان قاد﴾ ﴿فكان قِيد﴾ ﴿فكان قدْر﴾ قوسين أو أدنى، قراءات. مَنِ الذي دنا فتدلى؟ ومن الذي كان قاب قوسين أو أدنى؟ وممن كان؟ أقوال كثيرة.
قيل هو النبي (صلى الله عليه وسلم)، كان قاب قوسين أو أدنى من رب العزة حين عُرِجَ به إلى السماوات العُلى، وخافوا من اشتباه الكلام بتحديد المكان لله (تبارك وتعالى) فقالوا أن المكان أو القرب قاب قوسين أو أدنى ليس قرب مكان بل قرب مكانة، فنال من الرفعة والتشريف والكرامة والتقريب قُرب منزلة وقُرب مقام. وقالوا (كان قاب قوسين أو أدنى) جبريل من رب العزة، لأنه أقرب الملائكة إلى الله. تلك أقوال نقولها فقط لأمانة العلم، وأما الرأي الأرجح والواضح والذي يتفق مع النسق والسياق سأل النبي (صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه على صورته التي خلقه اللهُ عليها، فقد كان جبريل ينزل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) على هيئة رجل في صورة بشرية، وحين نزل عليه في أول مرة: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ نزل في صورة البشر وضَمَّه وغَطَّهُ كما جاء في الأحاديث عن بدء الوحي، فطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يراه على صورته التي خلقه الله عليها، ولم ير نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل جبريل على صورته الحقيقية مطلقاً إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) ورآه مرتين؛ مرة في الأرض ومرة في السماء، وبين المرتين عشر سنوات، هذه هي المرة الأولى وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في غار حراء وجاءه جبريل وطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يراه على الصورة التي خلقه الله عليها فاستجاب جبريل بإذن من الله (تبارك وتعالى).
﴿عَلَّمَهُ﴾: أوحى إليه في غار حراء، (شَدِيدُ الْقُوَى): جبريل، (ذُو مِرَّةٍ): جبريل، (فَاسْتَوَى): جبريل فارتفع فاستوى، ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ كي يُرى على صورته الحقيقية لابد وأن يرتفع في السماء، في الفضاء، فَسَدَّ الأفق من المشرق إلى المغرب حين استوى على صورته الحقيقة، فوقع النبي (صلى الله عليه وسلم) مغشياً عليه، فدنا جبريل فتدلّى من النبي (صلى الله عليه وسلم): فاقترب منه وعاد إلى صورته البشرية، فضمَّهُ إليه ومسح التراب عن وجهه ورَبَتَ عليه، فكان جبريل من النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الحالة قاب قوسين أو أدنى، فأفاق النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: "يا جبريل ما كنت أظن أن الله خلق خَلْقاً كذلك" فقال: يا محمد لقد فردت في الأفق جناحين فقط ولي ستمائة جناح وما أنا بأعظم خَلْق الله فقد خَلَق الله إسرافيل وله ستمائة جناح كل جناح منها قدر أجنحتي جميعاً". ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ وقيل الكلام فيه التقديم والتأخير؛ (ثم تدلّى فَدَنا)، (التدلِّي): الاسترسال مع البقاء في المكان كتدلّي الثمار، حين تتدلَّى الثمرة من الشجرة فهي مربوطة بالشجرة متصلة بها ولكنها تَدَلَّت، فالاسترسال هو التدلِّي، والتدلِّي هو الاسترسال مع البقاء في المكان، أي تدلَّى جبريل وهو بالأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وسلم) عاد إلى صورته البشرية، ذاك رأي. والرأي الآخر أن الكلام انتقل لكيفية العُرُوج بالنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ جبريل في الملأ الأعلى، وهو في مكانه في الملأ الأعلى تدلّى، كما تقول: (أدلى دلوه)، (دَلَّى الدلو في البئر)، أو (دَلَّى رِجْلَه): أنزلها. فتدلَّى جبريل وهو مكانه، لم يبرح المكان في الملأ الأعلى، فَدَنَا من النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخذه، وكان قاب قوسين منه أو أدنى، ورفعه إلى السموات العُلى دون أن يبرح مكانه، فعَرَج به على الرفرف الأخضر إلى الملأ الأعلى.
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ (القاب من القوس): المقبض، أو المسافة بين المقبض و وَتَرِ القوس، والعرب تُقَدِّر الأطوال بالذراع والباع والرمح والقوس. وكلمة (قوس) تُذَكَّر وتُؤَنَّث، وتُجمَع على: أقواس وقياس وقُسِىّ وقِسِيّ. (قاب قوسين): تقدير للمسافة، وقالوا: العرب في الجاهلية إذا تحالفوا جاءوا بقوسين وألصقوهما، القاب بالقاب فكأنهما قوس واحد، ثم نزعوا القوسيْن فرمَوْا بهما سهماً واحداً للتدليل على أن رضا أحد الأطراف فيه رضا الآخر وسخط أحد الأطراف المتحالفين فيه سخط للآخر، ويصبح معنى الكلام (وكان قاب قوسين)، أو كان قَدْرَ قوسين، أو كان قيب قوسين، أن جبريل (عليه السلام) حين استوى وهو بالأفق الأعلى وغُشِّيَ على النبي (صلى الله عليه وسلم)، دنا جبريل منه وتَدَلَّى وعاد إلى صورته البشرية وضَمَّهُ إلى صدره ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ كما أُلصِقَ القوس بالقوس فالتصق جبريل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وضَمَّه، وهي أيضاً تَدُلُّ وتُشعِر على أن رضا جبريل في رضا النبي (صلى الله عليه وسلم) كما كانت تفعل العرب في الجاهلية حين يتحالفون. ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ عدنا إلى الضمائر، أوحى اللهُ إلى عبده جبريل (ما أوحى)، مبهمة للإشعار بفخامة الوحي، كقوله ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [سورة النجم آية: ٥٤]. أو فأوحى جبريلُ إلى عبده، إلى عبد الله محمد، ما أوحى، تفخيم للوحي. أو أوحى الله إلى جبريل، عبده، (ما أوحى) ليست مبهمة للتفخيم وإنما أي الذي أوحاه جبريل إلى محمد، ويصبح الكلام ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾: أوحى الله إلى جبريل، وأوحى جبريل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وذاك أرجح الأقوال والله أعلم بمراده.
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ جبريل من النبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ أوحى جبريل إلى عبد الله، الذي هو النبي، ما أوحاه الله إليه، للدلالة على أن الوحي الذي تلقاه النبي (صلى الله عليه وسلم) من جبريل تلقاه وجبريل يَضُمُّه، وجبريل قريب منه قدر قوسين أو أدنى، أي بل أدنى من ذلك، أو (أو) بمعنى الواو كما قلنا من قبل، (فكان قاب قوسين أو أدنى): أي قاب قوسين، قَدْرَ هذه المسافة وأدنى، أي وأقرب. أو (قاب قوسين أو أدنى) في زعمكم أو كما تقولون، كقوله (تبارك وتعالى) في موضع آخر: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [سورة الصافات آية: ١٤٧] في تقديركم. وحين يكون جبريل قريباً من النبي ويوحي إليه ما أوحاه الله إليه فلا مجال للخطأ ولا مجال للاختلاف ولا مجال للاختلاط ولا مجال للشك ولا مجال لعدم السماع.
وإن كان بعضهم قد قال إن المتعلِّم جبريل (عَلَّمه) عَلَّم اللهُ جبريلَ أو عَلَّم جبريلُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ إن كان المعلِّم هو الله عَلَّم النبيَّ أو عَلَّمَ جبريلَ فربنا (تبارك وتعالى) هو ذو القوة المتين، ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾: هو نعت للذات العليّة، أي هو القوي الشديد المتين. عَلَّم القوي (سبحانه وتعالى) جبريلَ أو عَلَّم القويُّ (شديد القوى) وهو الله محمداً (صلى الله عليه وسلم) ونحن نعتقد والله أعلم أن المعلِّمُ هنا هو جبريل والمتعلَّم منه هو النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تلقى الوحي من جبريل وليس من الله رأساً، القرآن نزل على جبريل ونزل به جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم) وذاك أرجح الأقوال. و (شديد القوى) هو جبريل، ألا ترى أنه أخذ قُرى لوط، سبع قُرى ببيوتها وأناسها وبهائمها وما فيها، من الأرض السابعة بجناح واحد، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الدِّيَكة ونباح الكلاب ثم قَلَبَها؟ ألا تراه قد صاح صيحة واحدة بثمود، الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، صيحة واحدة صاحها جبريل فإذا هم خامدين، أصبحوا جاثمين؟ ألا تراه ينزل من السماء السابعة إلى الأرض ويصعد في أقل من طرفة عين فيوحي إلى الأنبياء بما يأمره الله في أقل من طرفة عين؟ ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ الوصف لجبريل أيضاً وإن كان بعضهم قال إن الوصف لله تعالى. (ذو مِرةٍ) أي متانة، و (المِرَّة) من فَتْل الحبل فَتلاً شديداً حتى يصعب حلُّه. وكأن ﴿ذو مِرَّة﴾ أي المتين وصفٌ لله، ونحن نعتقد والرأي الأرجح أن الوصف لا زال لجبريل.
﴿ذو مِرَّة﴾ تُطلق على صاحب العقل والحصافة والرأي السديد، (ذو مِرَّة) تُطلق على القوي حَسَن الخَلْق والسَّمْت، عافيته تامة وجسمه فيه الكمال، من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تَحِلُّ الصدقة لغني أو لذي مِرَّة سَوِيّ) أي مستوي في خَلْقِه متكامل الخَلْق حَسَن الخِلقة وذو رأي حصيف. من هنا فالوصف لجبريل وينطبق عليه فهو أقرب الملائكة إلى الله. (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) القائلون بالأوصاف أنها لله (تبارك وتعالى) قالوا (فاستوى) أي استوى الله على العرش، وهذا ليس محلاً لهذا الكلام، الكلام عن الوحي والقرآن والتعاليم فهو رأي مرجوح. ومنهم من قال (فاستوى) أي فاستوى محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ استوى في الكمال، استوى في الخلق، استوى في العلم بعد ما عَلَّمه جبريل. ومن قائل (فاستوى) أي استوى النبي (صلى الله عليه وسلم) في السماء على الرفرف الأخضر، حيث دنا الرفرف فجلس عليه المصطفى فارتفع به الرفرف إلى السماوات العُلى. ومن قائل فاستوى جبريل وذاك أرجح الأقوال؛ لأن الوصف لجبريل: (شديد القوى)، (ذو مِرَّة)، (فاستوى) جبريل استوى وارتفع، أو (استوى): استولى على ما أمره الله به من مقدورات، من معجزات، من تأييد للأنبياء، من إظهار لخوارق فعلها بأمر الله كإهلاك القرى؛ قرى لوط، وكتدمير ثمود وعاد، فاستوى: ارتفع وذاك أرجح الأقوال. ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ (الأُفُق)، (والأُفْق) بإسكان الفاء وبضمها: جهة السماء في المشرق، و (الأعلى): من العلو. ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(٨)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(٩)﴾ ﴿فكان قاب﴾ ﴿فكان قيب﴾ ﴿فكان قاد﴾ ﴿فكان قِيد﴾ ﴿فكان قدْر﴾ قوسين أو أدنى، قراءات. مَنِ الذي دنا فتدلى؟ ومن الذي كان قاب قوسين أو أدنى؟ وممن كان؟ أقوال كثيرة.
قيل هو النبي (صلى الله عليه وسلم)، كان قاب قوسين أو أدنى من رب العزة حين عُرِجَ به إلى السماوات العُلى، وخافوا من اشتباه الكلام بتحديد المكان لله (تبارك وتعالى) فقالوا أن المكان أو القرب قاب قوسين أو أدنى ليس قرب مكان بل قرب مكانة، فنال من الرفعة والتشريف والكرامة والتقريب قُرب منزلة وقُرب مقام. وقالوا (كان قاب قوسين أو أدنى) جبريل من رب العزة، لأنه أقرب الملائكة إلى الله. تلك أقوال نقولها فقط لأمانة العلم، وأما الرأي الأرجح والواضح والذي يتفق مع النسق والسياق سأل النبي (صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه على صورته التي خلقه اللهُ عليها، فقد كان جبريل ينزل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) على هيئة رجل في صورة بشرية، وحين نزل عليه في أول مرة: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ نزل في صورة البشر وضَمَّه وغَطَّهُ كما جاء في الأحاديث عن بدء الوحي، فطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يراه على صورته التي خلقه الله عليها، ولم ير نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل جبريل على صورته الحقيقية مطلقاً إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) ورآه مرتين؛ مرة في الأرض ومرة في السماء، وبين المرتين عشر سنوات، هذه هي المرة الأولى وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في غار حراء وجاءه جبريل وطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يراه على الصورة التي خلقه الله عليها فاستجاب جبريل بإذن من الله (تبارك وتعالى).
﴿عَلَّمَهُ﴾: أوحى إليه في غار حراء، (شَدِيدُ الْقُوَى): جبريل، (ذُو مِرَّةٍ): جبريل، (فَاسْتَوَى): جبريل فارتفع فاستوى، ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ كي يُرى على صورته الحقيقية لابد وأن يرتفع في السماء، في الفضاء، فَسَدَّ الأفق من المشرق إلى المغرب حين استوى على صورته الحقيقة، فوقع النبي (صلى الله عليه وسلم) مغشياً عليه، فدنا جبريل فتدلّى من النبي (صلى الله عليه وسلم): فاقترب منه وعاد إلى صورته البشرية، فضمَّهُ إليه ومسح التراب عن وجهه ورَبَتَ عليه، فكان جبريل من النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الحالة قاب قوسين أو أدنى، فأفاق النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: "يا جبريل ما كنت أظن أن الله خلق خَلْقاً كذلك" فقال: يا محمد لقد فردت في الأفق جناحين فقط ولي ستمائة جناح وما أنا بأعظم خَلْق الله فقد خَلَق الله إسرافيل وله ستمائة جناح كل جناح منها قدر أجنحتي جميعاً". ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ وقيل الكلام فيه التقديم والتأخير؛ (ثم تدلّى فَدَنا)، (التدلِّي): الاسترسال مع البقاء في المكان كتدلّي الثمار، حين تتدلَّى الثمرة من الشجرة فهي مربوطة بالشجرة متصلة بها ولكنها تَدَلَّت، فالاسترسال هو التدلِّي، والتدلِّي هو الاسترسال مع البقاء في المكان، أي تدلَّى جبريل وهو بالأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وسلم) عاد إلى صورته البشرية، ذاك رأي. والرأي الآخر أن الكلام انتقل لكيفية العُرُوج بالنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ جبريل في الملأ الأعلى، وهو في مكانه في الملأ الأعلى تدلّى، كما تقول: (أدلى دلوه)، (دَلَّى الدلو في البئر)، أو (دَلَّى رِجْلَه): أنزلها. فتدلَّى جبريل وهو مكانه، لم يبرح المكان في الملأ الأعلى، فَدَنَا من النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخذه، وكان قاب قوسين منه أو أدنى، ورفعه إلى السموات العُلى دون أن يبرح مكانه، فعَرَج به على الرفرف الأخضر إلى الملأ الأعلى.
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ (القاب من القوس): المقبض، أو المسافة بين المقبض و وَتَرِ القوس، والعرب تُقَدِّر الأطوال بالذراع والباع والرمح والقوس. وكلمة (قوس) تُذَكَّر وتُؤَنَّث، وتُجمَع على: أقواس وقياس وقُسِىّ وقِسِيّ. (قاب قوسين): تقدير للمسافة، وقالوا: العرب في الجاهلية إذا تحالفوا جاءوا بقوسين وألصقوهما، القاب بالقاب فكأنهما قوس واحد، ثم نزعوا القوسيْن فرمَوْا بهما سهماً واحداً للتدليل على أن رضا أحد الأطراف فيه رضا الآخر وسخط أحد الأطراف المتحالفين فيه سخط للآخر، ويصبح معنى الكلام (وكان قاب قوسين)، أو كان قَدْرَ قوسين، أو كان قيب قوسين، أن جبريل (عليه السلام) حين استوى وهو بالأفق الأعلى وغُشِّيَ على النبي (صلى الله عليه وسلم)، دنا جبريل منه وتَدَلَّى وعاد إلى صورته البشرية وضَمَّهُ إلى صدره ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ كما أُلصِقَ القوس بالقوس فالتصق جبريل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وضَمَّه، وهي أيضاً تَدُلُّ وتُشعِر على أن رضا جبريل في رضا النبي (صلى الله عليه وسلم) كما كانت تفعل العرب في الجاهلية حين يتحالفون. ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ عدنا إلى الضمائر، أوحى اللهُ إلى عبده جبريل (ما أوحى)، مبهمة للإشعار بفخامة الوحي، كقوله ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [سورة النجم آية: ٥٤]. أو فأوحى جبريلُ إلى عبده، إلى عبد الله محمد، ما أوحى، تفخيم للوحي. أو أوحى الله إلى جبريل، عبده، (ما أوحى) ليست مبهمة للتفخيم وإنما أي الذي أوحاه جبريل إلى محمد، ويصبح الكلام ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾: أوحى الله إلى جبريل، وأوحى جبريل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وذاك أرجح الأقوال والله أعلم بمراده.
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ جبريل من النبي (صلى الله عليه وسلم) ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ أوحى جبريل إلى عبد الله، الذي هو النبي، ما أوحاه الله إليه، للدلالة على أن الوحي الذي تلقاه النبي (صلى الله عليه وسلم) من جبريل تلقاه وجبريل يَضُمُّه، وجبريل قريب منه قدر قوسين أو أدنى، أي بل أدنى من ذلك، أو (أو) بمعنى الواو كما قلنا من قبل، (فكان قاب قوسين أو أدنى): أي قاب قوسين، قَدْرَ هذه المسافة وأدنى، أي وأقرب. أو (قاب قوسين أو أدنى) في زعمكم أو كما تقولون، كقوله (تبارك وتعالى) في موضع آخر: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [سورة الصافات آية: ١٤٧] في تقديركم. وحين يكون جبريل قريباً من النبي ويوحي إليه ما أوحاه الله إليه فلا مجال للخطأ ولا مجال للاختلاف ولا مجال للاختلاط ولا مجال للشك ولا مجال لعدم السماع.
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ ﴿11﴾
أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴿12﴾
وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴿13﴾
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴿14﴾
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰٓ ﴿15﴾
﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ الكلام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) باتفاق وهنا اتفق العلماء أن الكلام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) (الفؤاد): القلب. ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي ما رآه البصر. الكلام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولكن الاختلاف فيما رآه النبي، وما الذي رآه النبي ولم يكذّبه الفؤاد. وقُرِأَت ﴿ما كذَّب﴾ بالتشديد. قال بعضهم (الفؤاد): القلب، وما كذب الفؤاد ما رأى، فقد رأى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ربَّه بفؤاده، وما كذب القلب في ذلك حيث ارتد البصر إلى البصيرة فرأى مَن ليس كمثله شيء. وقالوا ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي ما كَذَّبَ الفؤاد ما رأى البصر، فتواطأ العلم بالقلب مع العلم برؤية البصر وقد رأى رَبَّه بعينه.
وقالوا، وذاك أرجح الأقوال وأسلمها، ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي حين رأى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ على صورته الملائكية رآه بعيني رأسه فعرفه بقلبه، ومهما جاء جبريل على أي صورة للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد كان يأتيه على هيئة صلصلة الجرس، ويأتيه على هيئة البشر متمثلاً برجل من الصحابة يدعى دِحيَة الكلبي، ورآه على هيئته الملائكية، فحين يراه على أي صورة يراه القلب والعين تُصَدِّق أن هذا جبريل ولا خلاف ولا شك، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) أي حين رآه على صورته الحقيقية ببصره لم يقل قلبه لا ليس هذا جبريل ولا أعرفه، أبداً! صَدَّق القلبُ ما رأى البصر، ولذا قُرِأَت: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي ما كَذَّب القلبُ العينَ، لأن الإنسان قد يرى بعينه شيئاً ويعرفه وتصبح المعرفة في القلب، ويأتي وقت يرى الشيء مرة أخرى على صورة أخرى فينكر قلبُه ما رأته عينيه، وقد حدث مع إبراهيم حيث جاءه الضيف: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٤] حين دخلوا عليه وهم ملائكة قال: ﴿قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٥] أنكرهم لأنهم جاءوه على صورة لم يعهدها من قبل، أما النبي (صلى الله عليه وسلم) والكلام عنه: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي صَدَّق القلبُ ما رأته العين وعرف أن هذا هو جبريل لا محالة. وانتقل الخطاب لقريش ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ وقُرِأَت ﴿أفتَمْرونه﴾ ﴿أفتُمْرونه﴾. و (المماراة): الجدال، من مَرَيْتُ الناقة أمْريها: مَسَحتُ على الضرع حتى تَدِرَّ اللبن، وكأن المجادِل والممارِي يستخرج ما عند الخصم من حُجَج أو من رأي حتى يُلزِمه الحُجَّة، فهو يجادله حتى يستخرج ما عنده ويرد عليه. ﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾ أفتجادلونه على ما يرى؟ على ما يراه بعينيه؟ ﴿أفتَمْرونه﴾: تجحدونه، مَرَيتُه عن حقه ومَرَيتُه على حقه: جحدتُه، أنكرتُه.
﴿أفتُمْرونه﴾: أفتشككونه فيما رآه؟ تشككه فيما هو متيقن منه؟ والسؤال استفهام توبيخ وإنكار على قريش، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين حَدَّثَهم بليلة الإسراء وأخبرهم بأنه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يكن قد تحدث عن المعراج بعد، قالوا كَذَبْت، وقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ نحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل شهراً رواحاً وشهراً إياباً وتحدثنا أنك ذهبتَ وعدتَ في ليلة؟ ثم وقفوا يجادلونه ويمارونه ويقولون له: صِفْ لنا بيتَ المقدس طالما ذهبت وأنت لم تذهب أصلا ً إلى الشام أو إلى بيت المقدس في حياتك، فكُرِب كربة شديدة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يتوقع أن يُسأَل مثل هذا السؤال، ولم يضع في نفسه أن يحفظ المكان، لم يحفظ الشكل في مخيلته، فجاء جبريل فحمل بيت المقدس على جناحيه فأراه له فنظر إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) نَظَر عَين وأخذ يصف لهم بيت المقدس، حتى وصف لهم قافلة في الطريق ضل منها بعير وقال سلوهم حين يأتون، فأتوْا في الصباح فسألوهم فقالوا نعم ضل بعير فلان في شِعب كذا وكذا كما أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) (أفتمارونه على ما يرى) فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريل مرتين؛ مرة في بدء البعثة وتلك التي حكينا عنها حين طلب أن يراه على صورته التي خلقها الله عليها فاستوى جبريل بالأفق الأعلى ورآه النبي (صلى الله عليه وسلم) وغُشِّيَ عليه، ثم نزل إليه جبريل ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى وضَمَّه حتى أفاق، وفي المرة الثانية تلك كانت ليلة أُسريَ به إلى المسجد الأقصى ثم عُرِجَ به إلى السموات العُلى، وبين المرتين حوالي عشر سنوات حيث كانت المرة الثانية وهي في الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، وفي رأي آخر كانت قبل الهجرة بثلاث سنين.
يقول الله (تبارك وتعالى) يحدثنا عن المرة الثانية بعد أن قال: (أفتمارونه على ما يرى): ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(١٣)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(١٤)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(١٥)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(١٦)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(١٧)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(١٨)﴾ القائلون بأن الكلام عن رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) لله قالوا في الآية ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ (نزلة) مصدر أقيم مقام الحال، أي حال نزوله، وقالوا إن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين عُرِجَ به إلى السموات العُلى أَمَرَه ربُّنا (تبارك وتعالى) بالصلاة خمسين صلاة، فنصحه موسى بمراجعة ربه، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يتردد بين موسى وبين الله (تبارك وتعالى) في كل مرة يوضَع عن أُمَّته عشر صلوات، وفي مرة من هذه المرات، نزلة من النزلات وهو نازل رأى ربه مرة أخرى، وكأنه رأى الله (تبارك وتعالى) مرتين حين عُرِجَ به، مرة بمجرد ما وصل حين بُدِءَ الوحي عند سدرة المنتهى حين تخلف جبريل عنه واحتجب بعد السماء السابعة وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "هل هذا مقام يترك فيه الخليلُ خليلَه؟ " وذاك قبل أن يعلم أن الله قد اتخذه خليلاً، فقال: يا محمد ما منا إلا له مقام معلوم لو تقدمتُ خطوة لاحترقت، أنت المدعو، فامتنعت عنه الأصوات، هنا أُعطيَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة أشياء: أُعطيَ الصلوات وذاك يدل على فضل الصلاة، وأُعطيَ خواتيم سورة البقرة وذاك يدل أنها كانت في كنز تحت العرش ولم تأخذها أُمَّة من قبل، وأُعطيَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لأُمَّتِه: من أتى الله لا يشرك به شيئاً غُفِرَ له المقحمات، الذنوب الكبار التي تُقحِم صاحبها في النار، وحين نزل النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم التقى بموسى في السماء السادسة ثم صعد مرة أخرى وأخذ يتردد في الصعود وفي النزول، رأى ربنا (تبارك وتعالى) مرة أخرى، ذاك قول بعض الناس الذين يقولون أن الرؤية كانت لله (تبارك وتعالى) وهو رأي مرجوح.
والرأي الأرجح والأصوب والأسلم والله أعلم أن الكلام عن جبريل ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ أي رأى جبريل مرة ثانية، متى ذاك؟ حينما عُرِجَ به إلى السماوات العُلى فظهر جبريل على هيئته الملائكية رآه نزلة أخرى. ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ (سدرة المنتهى) شجرة، وربنا على كل شيء قدير كما أنبت شجرة الزقوم في النار قَدَر على أن يُنبِتَ السِّدرةَ في السموات العُلى. والسِّدْر شجر النَبِقْ ونَبْق بالسكون وبالكسر، نَبِقَة ونَبْقَة. و (المنتهى) اسم مكان، وإضافة الشيء إلى المكان. أو (المنتهى) مصدر ميمي من الانتهاء. سُمِّيَت (سدرة المنتهى) حيث ينتهي إليها علم الخلائق أجمعين، وما وراء ذلك لا يعلمه إلا الله، لا مَلَكٌ مُقرَّب ولا أحد من خلقه يعلم شيئاً، فهي سدرة المنتهى تنتهي عندها علوم الخلائق. أو ينتهي عندها ما يُعرَج به من الأرض، كل ما يُعرَج به من الأرض من أعمال العباد وأقوال العباد ينتهي عندها فيُقبَض منها، وكل ما ينزل عليها من فوقها يُقبَض منها، فعندها ينتهي النازل من العلو وعندها ينتهي الصاعد من أسفل، ولذا سُمِّيَت سدرة المنتهي. وقيل بل ينتهي إليها أرواح الشهداء، أو تنتهي إليها أرواح المؤمنين، أو ينتهي إليها مقام الأولياء من أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو ينتهي إليها علم الأنبياء، أو ينتهي إليها علم الخلائق.
وأرجح الأقوال وأحسن ما قيل والله أعلم أن هذه الشجرة، السدرة، والتي وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال عنها:"إذا بها ورقها كآذان الفِيَلة" في الشكل وليس في الحجم "وثمرها كقلال هَجَرْ" (القلال): الجرار الكبيرة، (هَجَرْ): المكان، حيث في هَجَر يصنعون القلال كما نقول عنه هنا الزير، "الثمر نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة يسير الراكب المسرع في ظل الفرع الواحد مائة عام لا يقطع الظل" تلك سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل ما يصعد من العالم السفلي من الصلوات، من تسبيح الملائكة، من رفع الأعمال، من أقوال، لأن سدرة المنتهى أصلها في السماء السادسة كما قيل وفرعها في السماء السابعة، هذه الشجرة التي في السماء السابعة رُئيَ في أصلها أربعة أنهار؛ نهران ظاهران ونهران باطنان، أما الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان فأنهار من أنهار الجنة. وقيل يخرج من أصلها أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء غير آسن، وُصِفَت بأوصاف عديدة، تلك سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل ما يصعد من أسفلها من الأرض السابعة إلى السماء السابعة، هنا ينتهي ويُقبَض منها حيث تقبضه الحفظة أو الملائكة أو ما قدّر الله وقضى في شأنه، وأيضا كل ما ينزل من فوقها من العلو حيث لا يعلم أحد من الخلائق ما وراء الشجرة، ولا يعلم أحد من الخلائق ما فوق ذلك إلا الله، فالنازل من لدن العلي الأعلى ينتهي عند الشجرة فيُقبَض منها أيضاً، فإذا نزل من عند الله القضاء، القَدَر، الرزق، الوحي، الكلام، كل ما ينزل ينزل وينتهي عند سدرة المنتهى فيُقبَض منها، وكأن الملائكة تقبض منها الأوامر من العلي الأعلى ثم تنزل بها بعد ذلك، تلك سدرة المنتهى حيث رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ عند هذه السدرة.
أيها الأخ المسلم يقول أبو ذر الغفاري فيما يرويه عنه مسلم: سألتُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم): هل رأيتَ ربَّك؟ فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "نورٌ أنَّى أراه؟ " أي أن النور غشاني فلم أستطع أن أرى شيئاً، أي ما عَمَّهُ من نور وما غشاه من أنوار منع عنه الرؤية. والأصرح من ذلك قول (رضي الله عنها) في ما يرويه مسلم في صحيحه حيث قالت: "من زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" وهي التي قالت أن المقصود بهذه الآيات جبريل، فقد رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) على صورته الملائكية، الصورة التي خلقه الله عليها مرتين؛ مرة في بدء البعثة حيث استوى وهو بالأفق الأعلى، ومرة عند سدرة المنتهى، وذاك رأيٌ أسلم، لأننا إذا قلنا بما قالته عائشة سَلِمْنا في ديننا ولا نبيح لعقولنا بالعمل، وربنا هو الذي رفع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المقام، ومقامه فوق كل المقامات كونه رأى الله أو لم يَرَ الله ذاك شأن الله، وذاك أمر لا يُغيّر من مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) شيئاً، فإذا اجترأنا وقلنا أنه قد رآه ولم يكن قد حدث أعظمنا على الله الفِرية كما قالت عائشة، وإذا قلنا بقول عائشة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يَرَ ربه لِمْ نخسر شيئاً حتى ولو كان قد رآه فنحن نقلد أم المؤمنين. ألا يمكن أن تكون قد سَأَلَتْه؟ هل يمكن لأم المؤمنين أن تجزم بعدم الرؤية دون أن تسأل زوجها وحبيبها وأقرب الناس إليها؟ من هنا الأسلم لديننا ولعقيدتنا وتنزيهاً لله عن أن تحيط به الأبصار الفانية نقول بقول عائشة: من زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية.
فقد رقى نبيُّنا إلى سدرة المنتهى، تلك السدرة التي ينتهي إليها علم الخلائق، تلك السدرة التي سميت بسدرة المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه، فكلمة المنتهى هي اسم مكان، أو هي مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، هل ينتهي إليها ما يَعرُج من الأرض وينتهي إليها ما يهبط من فوقها؟ هل ينتهي إليها علم الأنبياء وعلم الملائكة المقربين؟ هل ينتهي إاليها الأعمال؟ يُقبَض منها كل ما يُعرَج به إليها، ويُقبَض منها كل ما يَهبِط عليها من فوقها؟ تلك سدرة المنتهى حيث رأى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ مرة أخرى. (ولقد رآه نزله أخرى) والتعبير بكلمة (نزلة)، فَعْلة، من النزول، قامت مقام (مرة)، بل ونُصِبَت نَصبَها للإشعار بأن الرؤية التالية أو الرؤية الثانية، وبينها وبين الرؤية الأولى عشر سنوات، كانت كالرؤية الأولى وكان فيها ما كان في الرؤية الأولى من الدنو والتدلي والقرب: (دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) فلإشعارك بهذه المعاني جاء بكلمة (نزلة) بدلاً من كلمة (مَرَّة) ليُفيد ويُشعر بالنزول والتدني والتدلي، والكلام عن جبريل كما قلنا إن ذلك هو الرأي الأرجح، ومن زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريل على هيئته وصورته الملائكية له ستمائة جناح. ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ جنة المأوى التي يأوى إليها المتقون، جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء. أو جنة المأوى التي آوى إليها آدم قبل أن يُهبَط إلى الأرض، وقُرِأت (عند سدرة المنتهى، عندها جنَّهُ المأوى) والضمير للرسول (صلى الله عليه وسلم).
وقالوا، وذاك أرجح الأقوال وأسلمها، ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي حين رأى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ على صورته الملائكية رآه بعيني رأسه فعرفه بقلبه، ومهما جاء جبريل على أي صورة للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد كان يأتيه على هيئة صلصلة الجرس، ويأتيه على هيئة البشر متمثلاً برجل من الصحابة يدعى دِحيَة الكلبي، ورآه على هيئته الملائكية، فحين يراه على أي صورة يراه القلب والعين تُصَدِّق أن هذا جبريل ولا خلاف ولا شك، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) أي حين رآه على صورته الحقيقية ببصره لم يقل قلبه لا ليس هذا جبريل ولا أعرفه، أبداً! صَدَّق القلبُ ما رأى البصر، ولذا قُرِأَت: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي ما كَذَّب القلبُ العينَ، لأن الإنسان قد يرى بعينه شيئاً ويعرفه وتصبح المعرفة في القلب، ويأتي وقت يرى الشيء مرة أخرى على صورة أخرى فينكر قلبُه ما رأته عينيه، وقد حدث مع إبراهيم حيث جاءه الضيف: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٤] حين دخلوا عليه وهم ملائكة قال: ﴿قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٥] أنكرهم لأنهم جاءوه على صورة لم يعهدها من قبل، أما النبي (صلى الله عليه وسلم) والكلام عنه: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ أي صَدَّق القلبُ ما رأته العين وعرف أن هذا هو جبريل لا محالة. وانتقل الخطاب لقريش ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ وقُرِأَت ﴿أفتَمْرونه﴾ ﴿أفتُمْرونه﴾. و (المماراة): الجدال، من مَرَيْتُ الناقة أمْريها: مَسَحتُ على الضرع حتى تَدِرَّ اللبن، وكأن المجادِل والممارِي يستخرج ما عند الخصم من حُجَج أو من رأي حتى يُلزِمه الحُجَّة، فهو يجادله حتى يستخرج ما عنده ويرد عليه. ﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾ أفتجادلونه على ما يرى؟ على ما يراه بعينيه؟ ﴿أفتَمْرونه﴾: تجحدونه، مَرَيتُه عن حقه ومَرَيتُه على حقه: جحدتُه، أنكرتُه.
﴿أفتُمْرونه﴾: أفتشككونه فيما رآه؟ تشككه فيما هو متيقن منه؟ والسؤال استفهام توبيخ وإنكار على قريش، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين حَدَّثَهم بليلة الإسراء وأخبرهم بأنه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يكن قد تحدث عن المعراج بعد، قالوا كَذَبْت، وقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ نحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل شهراً رواحاً وشهراً إياباً وتحدثنا أنك ذهبتَ وعدتَ في ليلة؟ ثم وقفوا يجادلونه ويمارونه ويقولون له: صِفْ لنا بيتَ المقدس طالما ذهبت وأنت لم تذهب أصلا ً إلى الشام أو إلى بيت المقدس في حياتك، فكُرِب كربة شديدة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يتوقع أن يُسأَل مثل هذا السؤال، ولم يضع في نفسه أن يحفظ المكان، لم يحفظ الشكل في مخيلته، فجاء جبريل فحمل بيت المقدس على جناحيه فأراه له فنظر إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) نَظَر عَين وأخذ يصف لهم بيت المقدس، حتى وصف لهم قافلة في الطريق ضل منها بعير وقال سلوهم حين يأتون، فأتوْا في الصباح فسألوهم فقالوا نعم ضل بعير فلان في شِعب كذا وكذا كما أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) (أفتمارونه على ما يرى) فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريل مرتين؛ مرة في بدء البعثة وتلك التي حكينا عنها حين طلب أن يراه على صورته التي خلقها الله عليها فاستوى جبريل بالأفق الأعلى ورآه النبي (صلى الله عليه وسلم) وغُشِّيَ عليه، ثم نزل إليه جبريل ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى وضَمَّه حتى أفاق، وفي المرة الثانية تلك كانت ليلة أُسريَ به إلى المسجد الأقصى ثم عُرِجَ به إلى السموات العُلى، وبين المرتين حوالي عشر سنوات حيث كانت المرة الثانية وهي في الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، وفي رأي آخر كانت قبل الهجرة بثلاث سنين.
يقول الله (تبارك وتعالى) يحدثنا عن المرة الثانية بعد أن قال: (أفتمارونه على ما يرى): ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(١٣)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(١٤)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(١٥)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(١٦)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(١٧)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(١٨)﴾ القائلون بأن الكلام عن رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) لله قالوا في الآية ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ (نزلة) مصدر أقيم مقام الحال، أي حال نزوله، وقالوا إن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين عُرِجَ به إلى السموات العُلى أَمَرَه ربُّنا (تبارك وتعالى) بالصلاة خمسين صلاة، فنصحه موسى بمراجعة ربه، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يتردد بين موسى وبين الله (تبارك وتعالى) في كل مرة يوضَع عن أُمَّته عشر صلوات، وفي مرة من هذه المرات، نزلة من النزلات وهو نازل رأى ربه مرة أخرى، وكأنه رأى الله (تبارك وتعالى) مرتين حين عُرِجَ به، مرة بمجرد ما وصل حين بُدِءَ الوحي عند سدرة المنتهى حين تخلف جبريل عنه واحتجب بعد السماء السابعة وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "هل هذا مقام يترك فيه الخليلُ خليلَه؟ " وذاك قبل أن يعلم أن الله قد اتخذه خليلاً، فقال: يا محمد ما منا إلا له مقام معلوم لو تقدمتُ خطوة لاحترقت، أنت المدعو، فامتنعت عنه الأصوات، هنا أُعطيَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة أشياء: أُعطيَ الصلوات وذاك يدل على فضل الصلاة، وأُعطيَ خواتيم سورة البقرة وذاك يدل أنها كانت في كنز تحت العرش ولم تأخذها أُمَّة من قبل، وأُعطيَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لأُمَّتِه: من أتى الله لا يشرك به شيئاً غُفِرَ له المقحمات، الذنوب الكبار التي تُقحِم صاحبها في النار، وحين نزل النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم التقى بموسى في السماء السادسة ثم صعد مرة أخرى وأخذ يتردد في الصعود وفي النزول، رأى ربنا (تبارك وتعالى) مرة أخرى، ذاك قول بعض الناس الذين يقولون أن الرؤية كانت لله (تبارك وتعالى) وهو رأي مرجوح.
والرأي الأرجح والأصوب والأسلم والله أعلم أن الكلام عن جبريل ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ أي رأى جبريل مرة ثانية، متى ذاك؟ حينما عُرِجَ به إلى السماوات العُلى فظهر جبريل على هيئته الملائكية رآه نزلة أخرى. ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ (سدرة المنتهى) شجرة، وربنا على كل شيء قدير كما أنبت شجرة الزقوم في النار قَدَر على أن يُنبِتَ السِّدرةَ في السموات العُلى. والسِّدْر شجر النَبِقْ ونَبْق بالسكون وبالكسر، نَبِقَة ونَبْقَة. و (المنتهى) اسم مكان، وإضافة الشيء إلى المكان. أو (المنتهى) مصدر ميمي من الانتهاء. سُمِّيَت (سدرة المنتهى) حيث ينتهي إليها علم الخلائق أجمعين، وما وراء ذلك لا يعلمه إلا الله، لا مَلَكٌ مُقرَّب ولا أحد من خلقه يعلم شيئاً، فهي سدرة المنتهى تنتهي عندها علوم الخلائق. أو ينتهي عندها ما يُعرَج به من الأرض، كل ما يُعرَج به من الأرض من أعمال العباد وأقوال العباد ينتهي عندها فيُقبَض منها، وكل ما ينزل عليها من فوقها يُقبَض منها، فعندها ينتهي النازل من العلو وعندها ينتهي الصاعد من أسفل، ولذا سُمِّيَت سدرة المنتهي. وقيل بل ينتهي إليها أرواح الشهداء، أو تنتهي إليها أرواح المؤمنين، أو ينتهي إليها مقام الأولياء من أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو ينتهي إليها علم الأنبياء، أو ينتهي إليها علم الخلائق.
وأرجح الأقوال وأحسن ما قيل والله أعلم أن هذه الشجرة، السدرة، والتي وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال عنها:"إذا بها ورقها كآذان الفِيَلة" في الشكل وليس في الحجم "وثمرها كقلال هَجَرْ" (القلال): الجرار الكبيرة، (هَجَرْ): المكان، حيث في هَجَر يصنعون القلال كما نقول عنه هنا الزير، "الثمر نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة يسير الراكب المسرع في ظل الفرع الواحد مائة عام لا يقطع الظل" تلك سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل ما يصعد من العالم السفلي من الصلوات، من تسبيح الملائكة، من رفع الأعمال، من أقوال، لأن سدرة المنتهى أصلها في السماء السادسة كما قيل وفرعها في السماء السابعة، هذه الشجرة التي في السماء السابعة رُئيَ في أصلها أربعة أنهار؛ نهران ظاهران ونهران باطنان، أما الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان فأنهار من أنهار الجنة. وقيل يخرج من أصلها أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء غير آسن، وُصِفَت بأوصاف عديدة، تلك سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل ما يصعد من أسفلها من الأرض السابعة إلى السماء السابعة، هنا ينتهي ويُقبَض منها حيث تقبضه الحفظة أو الملائكة أو ما قدّر الله وقضى في شأنه، وأيضا كل ما ينزل من فوقها من العلو حيث لا يعلم أحد من الخلائق ما وراء الشجرة، ولا يعلم أحد من الخلائق ما فوق ذلك إلا الله، فالنازل من لدن العلي الأعلى ينتهي عند الشجرة فيُقبَض منها أيضاً، فإذا نزل من عند الله القضاء، القَدَر، الرزق، الوحي، الكلام، كل ما ينزل ينزل وينتهي عند سدرة المنتهى فيُقبَض منها، وكأن الملائكة تقبض منها الأوامر من العلي الأعلى ثم تنزل بها بعد ذلك، تلك سدرة المنتهى حيث رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ عند هذه السدرة.
أيها الأخ المسلم يقول أبو ذر الغفاري فيما يرويه عنه مسلم: سألتُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم): هل رأيتَ ربَّك؟ فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "نورٌ أنَّى أراه؟ " أي أن النور غشاني فلم أستطع أن أرى شيئاً، أي ما عَمَّهُ من نور وما غشاه من أنوار منع عنه الرؤية. والأصرح من ذلك قول (رضي الله عنها) في ما يرويه مسلم في صحيحه حيث قالت: "من زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" وهي التي قالت أن المقصود بهذه الآيات جبريل، فقد رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) على صورته الملائكية، الصورة التي خلقه الله عليها مرتين؛ مرة في بدء البعثة حيث استوى وهو بالأفق الأعلى، ومرة عند سدرة المنتهى، وذاك رأيٌ أسلم، لأننا إذا قلنا بما قالته عائشة سَلِمْنا في ديننا ولا نبيح لعقولنا بالعمل، وربنا هو الذي رفع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المقام، ومقامه فوق كل المقامات كونه رأى الله أو لم يَرَ الله ذاك شأن الله، وذاك أمر لا يُغيّر من مقام النبي (صلى الله عليه وسلم) شيئاً، فإذا اجترأنا وقلنا أنه قد رآه ولم يكن قد حدث أعظمنا على الله الفِرية كما قالت عائشة، وإذا قلنا بقول عائشة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يَرَ ربه لِمْ نخسر شيئاً حتى ولو كان قد رآه فنحن نقلد أم المؤمنين. ألا يمكن أن تكون قد سَأَلَتْه؟ هل يمكن لأم المؤمنين أن تجزم بعدم الرؤية دون أن تسأل زوجها وحبيبها وأقرب الناس إليها؟ من هنا الأسلم لديننا ولعقيدتنا وتنزيهاً لله عن أن تحيط به الأبصار الفانية نقول بقول عائشة: من زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية.
فقد رقى نبيُّنا إلى سدرة المنتهى، تلك السدرة التي ينتهي إليها علم الخلائق، تلك السدرة التي سميت بسدرة المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه، فكلمة المنتهى هي اسم مكان، أو هي مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، هل ينتهي إليها ما يَعرُج من الأرض وينتهي إليها ما يهبط من فوقها؟ هل ينتهي إليها علم الأنبياء وعلم الملائكة المقربين؟ هل ينتهي إاليها الأعمال؟ يُقبَض منها كل ما يُعرَج به إليها، ويُقبَض منها كل ما يَهبِط عليها من فوقها؟ تلك سدرة المنتهى حيث رأى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) جبريلَ مرة أخرى. (ولقد رآه نزله أخرى) والتعبير بكلمة (نزلة)، فَعْلة، من النزول، قامت مقام (مرة)، بل ونُصِبَت نَصبَها للإشعار بأن الرؤية التالية أو الرؤية الثانية، وبينها وبين الرؤية الأولى عشر سنوات، كانت كالرؤية الأولى وكان فيها ما كان في الرؤية الأولى من الدنو والتدلي والقرب: (دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) فلإشعارك بهذه المعاني جاء بكلمة (نزلة) بدلاً من كلمة (مَرَّة) ليُفيد ويُشعر بالنزول والتدني والتدلي، والكلام عن جبريل كما قلنا إن ذلك هو الرأي الأرجح، ومن زعم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) جبريل على هيئته وصورته الملائكية له ستمائة جناح. ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ جنة المأوى التي يأوى إليها المتقون، جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء. أو جنة المأوى التي آوى إليها آدم قبل أن يُهبَط إلى الأرض، وقُرِأت (عند سدرة المنتهى، عندها جنَّهُ المأوى) والضمير للرسول (صلى الله عليه وسلم).
إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ﴿16﴾
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴿17﴾
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ ﴿18﴾
﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ إبهام فيه التفخيم، فيه التعظيم، تُرى ماالذي غشيها؟ قيل غَشيها فَرَاشٌ من ذهب، قيل تغشاها الملائكة وتسبح الله عندها، قيل ما من ورقة من أوراقها إلا وعليها مَلَك يسبح لله، ورقها كآذان الفِيَلة ونَبْقُها كقلال هَجَر من حيث الشكل لا من حيث الحجم، فالراكب المسرع يسرع في ظلها مائة عام ولا يبلغها، والورقة الواحدة منها تُظِلُّ الأُمَّة بكاملها، يخرج من أصلها أربعة أنهار؛ نهران ظاهران ونهران باطنان، أما الباطنان من أنهار الجنة، وأما الظاهران فهما النيل والفرات كما حدثنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ قيل فيها أقوال عديدة وقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحق بالاتباع حيث روى عنه مسلم في صحيحه أنه قال: "ثم رُفِعتُ أو رُفِعَت إليَّ سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشي فتغيَّرَت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حُسنِها" غشيها من أمر الله أنوار؟ نور الله (تبارك وتعالى)؟ أمرُه؟ ما الذي غشيها؟ أُبهِم، وطالما أُبهِمَ في القرآن فليس لأحد أن يستنتج أو يستنبط أو يقول بغير علم. ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ والكلام عن بصر المصطفى (صلى الله عليه وسلم) (الزيغ): الميْل، ما زاغ البصر إذاً فلم يتحول البصر يُمنةَ ولا يُسرة، بل ثَبَت واستيقن في اتجاهٍ أُمِرَ به وما انحرف عنه قيد أُنمُلة.
(وما طغى): ما تجاوز الحد الذي ضُرِبَ له، والطغيان تجاوز الحد، من قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [سورة الحاقة آية: ١١] تُرى هذه الآية ألا تفيد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يَرَ ربَّه؟ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لو كان قد رأى ربه إلى أين يزيغ البصر وربنا (تبارك وتعالى) متقدس الذات عن الاختصاص بالجهات؟ فهل إذا كان النظر إلى الذات العلية أكان يصح التعبير بقوله ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾؟ هل وراء الله شيء؟ هو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس تحته شيء هو الأول وهو الآخر، ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ تدل على أن الرؤية التي حُدِّدَت للنبي هي رؤية خاصة محدودة باتجاه ومحدودة بمسافة، (ما زاغ البصر وما طغى) وتقدس ربي (جل جلاله) عن أن يحده زمان أو يحويه مكان. (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) لقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) من آيات ربه الكبرى، وبهذا اتضح الأمر أنه رأى آيات، لم يَرَ ربَّه وإنما رأى آيات، أي آيات؟ ﴿رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (مِن) للتبعيض، (الكبرى) مفعولة لكلمة (رأى) وهي في الأصل صفة للآيات، إذا ًفقد رأى بعض الآيات الكبرى. أو في الكلام تقديم وتأخير، أي ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾، لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى، والكلمة محذوفة وذاك تقديرها ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. أو (مِن) زائدة للتأكيد، وتصبح الرؤية للآيات الكبرى جميعاً، لقد رأى آيات ربه الكبرى.
تلك الآيات الكبرى التي رآها أو الآية الكبرى من بين الآيات، ما هي؟ قيل هو جبريل حيث رآه على صورته الحقيقة، وقيل بل هو الرفرف الأخضر؛ و (الرفرف): البساط، رأى الرفرف الأخضر قد سد الأفق وتدلى فجلس عليه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وارتفع به الرفرف، وقيل بل رأى من الآيات الكبرى ما قَصَّهُ (صلى الله عليه وسلم) علينا في مسراه ليلة أُسريَ به من أمور عجيبة وقَصَّها علينا، قالوا في هذه الآيات الكبرى كثيراً وكلها اجتهادات وكفانا أن نؤمن بقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. وفجأة يتوجه الخطاب هابطاً بك من أعلى عليين إلى ما وصل إليه أهل مكة من سفاهة وسفالة ونزول، فالسورة بدأت بالقَسَم (والنجم إذا هوى) والكلام عن الآيات وعن النبي (صلى الله عليه وسلم)، كيف رأى جبريل على صورته الحقيقية، وكيف حدث الوحي، دُنُو وتدلّى واقتراب وكان جبريل منه قاب قوسين أو أدنى، وأوحى إلى عبده ما أوحاه الله إليه، وأوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى النبي، والسؤال التبكيتي والتوبيخي (أفتمارونه على ما يرى)؟ لقد رأى بعينيه وما كَذَب فؤاده ما رأته عيناه، ثم رآه نزلة أخرى، والكلام عن الملأ الأعلى وعن سدرة المنتهى وعن جنة المأوى، ثم ينزل الكلام لتقارِن وليقارِن كل من يعقِل
(وما طغى): ما تجاوز الحد الذي ضُرِبَ له، والطغيان تجاوز الحد، من قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [سورة الحاقة آية: ١١] تُرى هذه الآية ألا تفيد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يَرَ ربَّه؟ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لو كان قد رأى ربه إلى أين يزيغ البصر وربنا (تبارك وتعالى) متقدس الذات عن الاختصاص بالجهات؟ فهل إذا كان النظر إلى الذات العلية أكان يصح التعبير بقوله ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾؟ هل وراء الله شيء؟ هو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس تحته شيء هو الأول وهو الآخر، ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ تدل على أن الرؤية التي حُدِّدَت للنبي هي رؤية خاصة محدودة باتجاه ومحدودة بمسافة، (ما زاغ البصر وما طغى) وتقدس ربي (جل جلاله) عن أن يحده زمان أو يحويه مكان. (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) لقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) من آيات ربه الكبرى، وبهذا اتضح الأمر أنه رأى آيات، لم يَرَ ربَّه وإنما رأى آيات، أي آيات؟ ﴿رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (مِن) للتبعيض، (الكبرى) مفعولة لكلمة (رأى) وهي في الأصل صفة للآيات، إذا ًفقد رأى بعض الآيات الكبرى. أو في الكلام تقديم وتأخير، أي ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾، لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى، والكلمة محذوفة وذاك تقديرها ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. أو (مِن) زائدة للتأكيد، وتصبح الرؤية للآيات الكبرى جميعاً، لقد رأى آيات ربه الكبرى.
تلك الآيات الكبرى التي رآها أو الآية الكبرى من بين الآيات، ما هي؟ قيل هو جبريل حيث رآه على صورته الحقيقة، وقيل بل هو الرفرف الأخضر؛ و (الرفرف): البساط، رأى الرفرف الأخضر قد سد الأفق وتدلى فجلس عليه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وارتفع به الرفرف، وقيل بل رأى من الآيات الكبرى ما قَصَّهُ (صلى الله عليه وسلم) علينا في مسراه ليلة أُسريَ به من أمور عجيبة وقَصَّها علينا، قالوا في هذه الآيات الكبرى كثيراً وكلها اجتهادات وكفانا أن نؤمن بقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. وفجأة يتوجه الخطاب هابطاً بك من أعلى عليين إلى ما وصل إليه أهل مكة من سفاهة وسفالة ونزول، فالسورة بدأت بالقَسَم (والنجم إذا هوى) والكلام عن الآيات وعن النبي (صلى الله عليه وسلم)، كيف رأى جبريل على صورته الحقيقية، وكيف حدث الوحي، دُنُو وتدلّى واقتراب وكان جبريل منه قاب قوسين أو أدنى، وأوحى إلى عبده ما أوحاه الله إليه، وأوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى النبي، والسؤال التبكيتي والتوبيخي (أفتمارونه على ما يرى)؟ لقد رأى بعينيه وما كَذَب فؤاده ما رأته عيناه، ثم رآه نزلة أخرى، والكلام عن الملأ الأعلى وعن سدرة المنتهى وعن جنة المأوى، ثم ينزل الكلام لتقارِن وليقارِن كل من يعقِل
أَفَرَءَيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ ﴿19﴾
وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلْأُخْرَىٰٓ ﴿20﴾
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلْأُنثَىٰ ﴿21﴾
تِلْكَ إِذًۭا قِسْمَةٌۭ ضِيزَىٰٓ ﴿22﴾
إِنْ هِىَ إِلَّآ أَسْمَآءٌۭ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰٓ ﴿23﴾
أَمْ لِلْإِنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ ﴿24﴾
فَلِلَّهِ ٱلْـَٔاخِرَةُ وَٱلْأُولَىٰ ﴿25﴾
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ نزل الكلام ليقارن كل من يعقل؛ هذا ما رآه محمد (صلى الله عليه وسلم) وتلك مكانته وهذا ما وصل إليه حيث ينتهي علم الخلائق، إلى سدرة المنتهى، أرأيتم أنتم ما تعبدون؟ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(١٩)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ أصنام لقريش ولغيرها من القبائل كانت بالكعبة، أو كان أحدها بالكعبة والآخر في ثقيف والآخر في الطائف وهكذا. (اللات) تحريف وإلحاد في أسماء الله، (اللات) تحريف في اسم الجلالة (الله)، و (العزى) تأنيث (الأعز) فقد جعلوا الأصنام إناثاً كما جعلوا الملائكة إناثاً، فسمُّوا الأصنام بأسماء الإناث. وقُرِأَت (اللات) بالتشديد و (العزى) إلحاد في اسم العزيز، و (العزى) تأنيث الأعز. (ومناة) بالوقف على الهاء وقراءتكم، قراءة حفص، بالوقف على التاء، (ومناة) فالتاء تاء التأنيث، ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ تبكيت وتوبيخ ونقلة، (ومناه) بالهاء لأنهم يقولون مَنَى الشيء: قَدَّره، ومَنَى الشيء أيضاً: أهرقه، وكانوا يهرقون عندها الدماء بذبح القرابين، ولذا سُمِّيَت (مِنى) في مناسك الحج لما يُهراق عندها من دماء، هدْي للكعبة.
﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ (الثالثة): صفة، (والأخرى): أيضاً نعت للثالثة، ولكن الغريب أن العرب لا تقول الأخرى للثالثة أبداً، وإنما العرب يقولون الأخرى للثانية وليس للثالثة، فجاء التعبير غريب على الأذن العربية مخالف لما اعتادوه من إطلاق الأخرى نعتا ً للثانية، فجاءت الأخرى هنا نعتاً للثالثة، كانت (مناة) في عُرفِهِم مقدمة فهي أفضل من اللات وأفضل من العزى، فأخّرها الله ونسب إليها الثالثة الأخرى، المؤخرة، أخّرها ذَمَّاً لها وتحقيراً لها، فإن حُقِّرت العليا والكبرى عندهم فالأولى الثانية أحقر و أصغر، فتلك التي كانوا يقدمونها على اللات والعزى أخّرها ربنا (تبارك وتعالى) ونعتها بالتأخير وقال (الثالثة الأخرى) تحقيراً لها، وبالتالي تحقيراً لما سبقها. هذا ما رآه محمد (عليه الصلاة والسلام) وذاك ما قاله محمد، وحي من الله أوحاه إليه جبريل، ذو مِرَّة، شديد القوى، هل أوحت إليكم الأصنام؟ هل تضر وتنفع؟ هل تتكلم؟ هل تسمع؟ المقارنة: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى). ثم وبخهم بقولهم إن الملائكة بنات الله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ أصطفيتم الذكور لأنفسكم ووأدتم البنات وعققتم الأمهات ووصفتم الملائكة بأنهم بنات؟ لكم الذكر وله الأنثى؟ لله العلي الأعلى الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فنسبتم إليه الولد؟ بل وجعلتم الولد أنثى فاخترتم له ما تستنكفون أن يُنسب إليكم؟ ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة الزخرف آية: ١٧] ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى(٢١)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ (ضيزى): جائرة ظالمة، ضَازَهُ يضيزُه ضَيْزاً: نقصه وبخسه وانتقص حقه، وضازه يضوزه ضوْزاً، وضَأَزه يَضأَزه ضَأزاً، وقُرِئت: (تلك إذا قسمة ضِئْزى) قِسمة جائرة.
إذا قسمتم البنين والبنات فجعلتم لأنفسكم البنين وجعلتم لله البنات، تلك قسمتكم إذاً فهي قسمة جائرة لأنكم اصطفيتم لأنفسكم بأفضل الجنسين ونسبتم إلى الله أدنى الجنسين. ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ تلك اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أسماء، من الذي أطلق هذه الأسماء على هذه الأحجار؟ أنتم سميتموها، هل الإله يسمي نفسه أم يطلق عليه العبد اسماً يشاء؟ هل يُعقَل أن يُباح للعبد أن يسمى معبودَه؟ أم أن المعبود الحق هو الذي يفرض على عبده كيف يناديه وكيف يناجيه؟ تلك آلهة أنتم أطلقتم الأسماء عليها، أنتم وآباؤكم، وما هي إلا أسماء بغير حقيقة، فلكل اسم مُسمَّى ولابد وأن ينطبق الاسم على المسمى، فتلك ليست آلهة وما ينبغي لها أن تكون كذلك، وإنما هي مجرد أسماء أنتم أطلقتموها وآباؤكم كذلك، ليس لها مضامين ولاتحتوي على شيء. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (السلطان): البرهان، (السلطان): الحُجَّة القاهرة التي تتسلط على الإنسان فيقتنع بها ويترك ما سواها من حجج أخرى، (ما أنزل الله بها من سلطان) لأن الله (تبارك وتعالى) هو الذي يسمي نفسه، وهو الذي يُعرِّف العباد عن صفاته وعن أسمائه وعن أفعاله، هل أنزل الله (تبارك وتعالى) برهاناً يُتلى أو أنزل حُجَّة بهذه الأسماء؟ تلك أسماء أنتم سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إذاً فليس هناك برهان ولا حُجَّة على هذه الأسماء فضلاً عن كونها آلهة، ليس هناك حُجَّة ولا برهان على الاسم فكيف بالمسمَّى؟ ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ إذاً فالأمر كذلك، هم يتبعون الظن، والظن أكذب الحديث، و (الظن): التوهم لا برهان له، هؤلاء يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وما تميل الأنفس إليه وما تشتهيه وما تهواه.
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ إذاً فلا عذر لهم، العذر لو لم يوجد برهان، العذر لو لم يُرسَل نبي، العذر لو لم يأتِ ما يخالف ما يَدَّعون، ها هم يتبعون الظن وما تهواه الأنفس، أما الحق وأما الهدى فقد جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) فلا عذر لهم، لِمَ تتبعون الظن والحق قائم؟ لِمَ تتبعون الوهم والحق مشرق؟ لقد جاءهم من ربهم الهدى، إذا ً فلا عذر لهم، تهديد ووعيد تستشعره من سياق الكلام (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ (أم) هنا منقطعة، والهمزة فيها للإنكار. ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ والمعنى ليس له ذلك، هل كل ما يتمنى المرء يدركه؟ ليس اللإنسان أن يحقق أمانيه فليس بيده شيء، فالله (تبارك وتعالى) هو الفَعَّال لما يريد. ولو تأملنا لوجدناهم يتمنون لأنفسهم الذكور ولكن لا يستطيعون ذلك، فقد يجد امرأته عاقراً، وقد يجد نفسه عقيماً، وقد يُرزَق بالبنات ويُحرَم البنين، وقد يُرزَق بالبنين ويُحرَم الإناث، وقد تأتي المرأة بتوأم أو ثلاثة وليس الأمر بيده، فهل تَحَصُل على ما تتمناه في حياتك من الولد؟ إذا كنت أنت لا تستطيع أن تحصل على ما تتمناه من جنس المولود فكيف حكمت وقَدَّرت وقَرَّرت أن البنات بنات الله والملائكة إناث؟ كيف تحكم على الله بما لا تستطيع أنت تمنعه عن نفسك؟ قد يكون المعنى كذلك.
وقد يكون المعنى أيضاً ما زعموه حيث قال قائلهم: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [سورة فصلت آية: ٥٠] وجاء بحرف الشك فهو متشكك في القيامة، متشكك في البعث، فإن حدث وكان هناك بعث (إنَّ لي عنده للحسنى)، من أين أتيت بذلك؟ ومن أين حكمت بذلك؟ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [سورة الزخرف آية: ٣١]، ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٠]، ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(٩٢)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ(٩٣)﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٢ - ٩٣]، تلك مقالات لكفار مكة، ربنا (تبارك وتعالى) يقول: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، هو الله الفَعَّال لما يريد، قدرته نافذة وإرادته حاصلة وعلمه أزلي، وله الآخره وله الأولى، ولا تأتي الأمور على غير إرادته، أما الإنسان فليس له ما تمنى لكن الله (تبارك وتعالى) له الآخرة والأولى، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
زعم مشركو مكة أن الأصنام تشفع لهم عند الله حين سألهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من خلقكم؟ " قالوا الله، "مَن خلق السماوات والأرض؟ " قالوا الله، فآمنوا بالربوبية، آمنوا بأن الله (تبارك وتعالى) هو رب كل شيء، وحين اتخذوا الأصنام ليعبدوها كفروا بالألوهية لأنهم زعموا أن الأصنام شركاء لله، فوَحَّدوا الربوبية بقولهم إن الله خلق كل شيء وكفروا بالألوهية حين قولهم إن الأصنام تشفع لهم، ولذا سألهم عنها قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى، فجعلوا لها من الأمر شيء. يقول الله (تبارك وتعالى) راداً عليهم حماقتهم وجهالاتهم وسفاهتهم.
﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ (الثالثة): صفة، (والأخرى): أيضاً نعت للثالثة، ولكن الغريب أن العرب لا تقول الأخرى للثالثة أبداً، وإنما العرب يقولون الأخرى للثانية وليس للثالثة، فجاء التعبير غريب على الأذن العربية مخالف لما اعتادوه من إطلاق الأخرى نعتا ً للثانية، فجاءت الأخرى هنا نعتاً للثالثة، كانت (مناة) في عُرفِهِم مقدمة فهي أفضل من اللات وأفضل من العزى، فأخّرها الله ونسب إليها الثالثة الأخرى، المؤخرة، أخّرها ذَمَّاً لها وتحقيراً لها، فإن حُقِّرت العليا والكبرى عندهم فالأولى الثانية أحقر و أصغر، فتلك التي كانوا يقدمونها على اللات والعزى أخّرها ربنا (تبارك وتعالى) ونعتها بالتأخير وقال (الثالثة الأخرى) تحقيراً لها، وبالتالي تحقيراً لما سبقها. هذا ما رآه محمد (عليه الصلاة والسلام) وذاك ما قاله محمد، وحي من الله أوحاه إليه جبريل، ذو مِرَّة، شديد القوى، هل أوحت إليكم الأصنام؟ هل تضر وتنفع؟ هل تتكلم؟ هل تسمع؟ المقارنة: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى). ثم وبخهم بقولهم إن الملائكة بنات الله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ أصطفيتم الذكور لأنفسكم ووأدتم البنات وعققتم الأمهات ووصفتم الملائكة بأنهم بنات؟ لكم الذكر وله الأنثى؟ لله العلي الأعلى الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فنسبتم إليه الولد؟ بل وجعلتم الولد أنثى فاخترتم له ما تستنكفون أن يُنسب إليكم؟ ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة الزخرف آية: ١٧] ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى(٢١)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ (ضيزى): جائرة ظالمة، ضَازَهُ يضيزُه ضَيْزاً: نقصه وبخسه وانتقص حقه، وضازه يضوزه ضوْزاً، وضَأَزه يَضأَزه ضَأزاً، وقُرِئت: (تلك إذا قسمة ضِئْزى) قِسمة جائرة.
إذا قسمتم البنين والبنات فجعلتم لأنفسكم البنين وجعلتم لله البنات، تلك قسمتكم إذاً فهي قسمة جائرة لأنكم اصطفيتم لأنفسكم بأفضل الجنسين ونسبتم إلى الله أدنى الجنسين. ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ تلك اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أسماء، من الذي أطلق هذه الأسماء على هذه الأحجار؟ أنتم سميتموها، هل الإله يسمي نفسه أم يطلق عليه العبد اسماً يشاء؟ هل يُعقَل أن يُباح للعبد أن يسمى معبودَه؟ أم أن المعبود الحق هو الذي يفرض على عبده كيف يناديه وكيف يناجيه؟ تلك آلهة أنتم أطلقتم الأسماء عليها، أنتم وآباؤكم، وما هي إلا أسماء بغير حقيقة، فلكل اسم مُسمَّى ولابد وأن ينطبق الاسم على المسمى، فتلك ليست آلهة وما ينبغي لها أن تكون كذلك، وإنما هي مجرد أسماء أنتم أطلقتموها وآباؤكم كذلك، ليس لها مضامين ولاتحتوي على شيء. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (السلطان): البرهان، (السلطان): الحُجَّة القاهرة التي تتسلط على الإنسان فيقتنع بها ويترك ما سواها من حجج أخرى، (ما أنزل الله بها من سلطان) لأن الله (تبارك وتعالى) هو الذي يسمي نفسه، وهو الذي يُعرِّف العباد عن صفاته وعن أسمائه وعن أفعاله، هل أنزل الله (تبارك وتعالى) برهاناً يُتلى أو أنزل حُجَّة بهذه الأسماء؟ تلك أسماء أنتم سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إذاً فليس هناك برهان ولا حُجَّة على هذه الأسماء فضلاً عن كونها آلهة، ليس هناك حُجَّة ولا برهان على الاسم فكيف بالمسمَّى؟ ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ إذاً فالأمر كذلك، هم يتبعون الظن، والظن أكذب الحديث، و (الظن): التوهم لا برهان له، هؤلاء يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وما تميل الأنفس إليه وما تشتهيه وما تهواه.
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ إذاً فلا عذر لهم، العذر لو لم يوجد برهان، العذر لو لم يُرسَل نبي، العذر لو لم يأتِ ما يخالف ما يَدَّعون، ها هم يتبعون الظن وما تهواه الأنفس، أما الحق وأما الهدى فقد جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) فلا عذر لهم، لِمَ تتبعون الظن والحق قائم؟ لِمَ تتبعون الوهم والحق مشرق؟ لقد جاءهم من ربهم الهدى، إذا ً فلا عذر لهم، تهديد ووعيد تستشعره من سياق الكلام (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ (أم) هنا منقطعة، والهمزة فيها للإنكار. ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ والمعنى ليس له ذلك، هل كل ما يتمنى المرء يدركه؟ ليس اللإنسان أن يحقق أمانيه فليس بيده شيء، فالله (تبارك وتعالى) هو الفَعَّال لما يريد. ولو تأملنا لوجدناهم يتمنون لأنفسهم الذكور ولكن لا يستطيعون ذلك، فقد يجد امرأته عاقراً، وقد يجد نفسه عقيماً، وقد يُرزَق بالبنات ويُحرَم البنين، وقد يُرزَق بالبنين ويُحرَم الإناث، وقد تأتي المرأة بتوأم أو ثلاثة وليس الأمر بيده، فهل تَحَصُل على ما تتمناه في حياتك من الولد؟ إذا كنت أنت لا تستطيع أن تحصل على ما تتمناه من جنس المولود فكيف حكمت وقَدَّرت وقَرَّرت أن البنات بنات الله والملائكة إناث؟ كيف تحكم على الله بما لا تستطيع أنت تمنعه عن نفسك؟ قد يكون المعنى كذلك.
وقد يكون المعنى أيضاً ما زعموه حيث قال قائلهم: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [سورة فصلت آية: ٥٠] وجاء بحرف الشك فهو متشكك في القيامة، متشكك في البعث، فإن حدث وكان هناك بعث (إنَّ لي عنده للحسنى)، من أين أتيت بذلك؟ ومن أين حكمت بذلك؟ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [سورة الزخرف آية: ٣١]، ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٠]، ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(٩٢)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ(٩٣)﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٢ - ٩٣]، تلك مقالات لكفار مكة، ربنا (تبارك وتعالى) يقول: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، هو الله الفَعَّال لما يريد، قدرته نافذة وإرادته حاصلة وعلمه أزلي، وله الآخره وله الأولى، ولا تأتي الأمور على غير إرادته، أما الإنسان فليس له ما تمنى لكن الله (تبارك وتعالى) له الآخرة والأولى، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
زعم مشركو مكة أن الأصنام تشفع لهم عند الله حين سألهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من خلقكم؟ " قالوا الله، "مَن خلق السماوات والأرض؟ " قالوا الله، فآمنوا بالربوبية، آمنوا بأن الله (تبارك وتعالى) هو رب كل شيء، وحين اتخذوا الأصنام ليعبدوها كفروا بالألوهية لأنهم زعموا أن الأصنام شركاء لله، فوَحَّدوا الربوبية بقولهم إن الله خلق كل شيء وكفروا بالألوهية حين قولهم إن الأصنام تشفع لهم، ولذا سألهم عنها قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى، فجعلوا لها من الأمر شيء. يقول الله (تبارك وتعالى) راداً عليهم حماقتهم وجهالاتهم وسفاهتهم.
وَكَم مِّن مَّلَكٍۢ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ لَا تُغْنِى شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْـًٔا إِلَّا مِنۢ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰٓ ﴿26﴾
﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ﴾ (مَلَك) مفرد ومعناه الجمع، أو هي مفرد واكتفى بكلمة (كم) ليفيد الجمع. ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي الملائكة، ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ تلك أحجار، تلك أصنام، ملائكة الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، الملائكة في الملأ الأعلى، الملائكة أفضل المخلوقات، كم من مَلَكٍ في السموات ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ (الشفاعة) في الأصل من الشَّفع، و (الشفع): الزَّوج، و (الوتر): الفرد، و (الشافع): المتوسط لغيره، كأنه ضم نفسه إليه في طلبه لحاجته، فأصبح المشفوع فيه شَفْعاً بعد أن كان وتراً، فإذا كنت فرداً ولك حاجة عند مَلِك فجئتُ أنا وضممتُ صوتي إلى صوتك وطالبتُ بحاجتك وتوسطتُ، أصبحتَ أنت لستَ وحدك، أصبحتَ معك آخر فأصبحتَ شفعاً بعد أن كنت وتراً، تلك أصل كلمة (الشفاعة). من هنا يقول الله: ﴿كم مِن مَلَك﴾ وكلمة (كم) للتكثير، فوق ما يُحصى من عدد، (كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً) لا تنفع، والغِنَى عدم الحاجة، ليس الغِنى بكثرة الموجود وإنما الغِنى بالاستغناء عن الشيء، لذا ربنا تبارك وتعالى هو الغني، وبالتالي (لا تُغني) أي لا تنفع، لا تمنع عنه الضُّر، لا تمنع عنه العذاب، لا تجعله غير محتاج، فطالب الشفاعة محتاج والشفاعة تزيل حاجته، وزوال الحاجة والاحتياج هو الغِنى.
﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ والآية نفي وإثبات، نفي لشفاعة الأصنام والأحجار، نفي لشفاعة الشافعين بغير إذن، والآية إثبات لوجود الشفاعة ولكن بشرطين؛ الشرط الأول أن يأذن ربنا (تبارك وتعالى) للشافع فلا يتكلم أحد إلا بإذنه، يأذن للشافع أن يتكلم بين يديه وأن يشفع، ثم يرضى عن المشفوع فيه، فلابد من إذنين؛ إذن لمن يشفع بالكلام، ثم إذن بمن يُشفَع فيه، حتى المصطفى (صلى الله عليه وسلم) صاحب الشفاعة العظمى والحوض الأوفى وكأس الرواء الأشفى يُحَدُّ له الحدود كما قال: "فيُحَدُّ لي حَدَّاً فأشفع فيهم"، فلا يمكن له ولا لغيره أن يشفع في أحد إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
أو إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء، أي يأذن لمن يُشفَع فيه ويرضى عن الشافِع فيما يقول، فالكلام بين يدي رب العالمين، تُرى كيف يشفع الشافع وماذا يقول إذا أُذِنَ له بالكلام وإذا أُذِنَ له بالشفاعة؟ أينطق من تلقاء ذاته؟ أيتكلم بما توحيه إليه نفسُه؟ أم يؤذن له ويُلهَم بما يقول حتى يرضى ربنا تبارك وتعالى؟ ولذا حين يذهب الناس للأنبياء طالبين للشفاعة ويتبرى الكل ويلجئون للنبي (صلى الله عليه وسلم) ويخر تحت العرش، يحمد الله بمحامد لم يُحمَد بها الله من قبل ولا يعرفها النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يعرفها، سوف يعرفها وهو ساجد تحت العرش، يُلهَم في وقتها وفي ساعتها كما قال هو عن نفسه: "فيلهمني ربي بمحامد لم يُحمَد بها من قبل فأحمده بها فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسَلْ تُعطَ واشفع تُشَفَّع" نعم! تراه تحت العرش ساجداً والخوف في نفوس الجمع يصول، يا محمد سَلْ مابد لك فمن قبل المسألة أجاب المسئول، نعم! (وكم من ملك في السموات لاتغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) كما قال في موضع آخر ﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [سورة طه آية: ١٠٩] نعم! إذا نظرنا إلى ذلك الموقف ووجدنا السؤال من الله (تبارك وتعالى) للأنبياء، ويُسأَل العلماء فيما يُسأَل فيه الأنبياء، مِنَ المسئولين يوم القيامة عيسى بن مريم، وقد قُصَّ علينا السؤال وقُصَّ علينا الجواب ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(١١٧)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(١١٨)﴾ [سورة المائدة آية: ١١٦ - ١١٨]، هل يتغير كلام عيسى يوم القيامة عن هذا الكلام؟ أيمكن أن يتغير السؤال والجواب؟ هاهو السؤال وهاهو الجواب قُضِيَ من الأزل، من هنا لا يشفع شافع بين يدي الله إلا من بعد أن يؤذن له في الشفاعة ثم يُلهَم بما يقول، فالكلام في حضرة مَلِك الملوك.
﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ والآية نفي وإثبات، نفي لشفاعة الأصنام والأحجار، نفي لشفاعة الشافعين بغير إذن، والآية إثبات لوجود الشفاعة ولكن بشرطين؛ الشرط الأول أن يأذن ربنا (تبارك وتعالى) للشافع فلا يتكلم أحد إلا بإذنه، يأذن للشافع أن يتكلم بين يديه وأن يشفع، ثم يرضى عن المشفوع فيه، فلابد من إذنين؛ إذن لمن يشفع بالكلام، ثم إذن بمن يُشفَع فيه، حتى المصطفى (صلى الله عليه وسلم) صاحب الشفاعة العظمى والحوض الأوفى وكأس الرواء الأشفى يُحَدُّ له الحدود كما قال: "فيُحَدُّ لي حَدَّاً فأشفع فيهم"، فلا يمكن له ولا لغيره أن يشفع في أحد إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
أو إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء، أي يأذن لمن يُشفَع فيه ويرضى عن الشافِع فيما يقول، فالكلام بين يدي رب العالمين، تُرى كيف يشفع الشافع وماذا يقول إذا أُذِنَ له بالكلام وإذا أُذِنَ له بالشفاعة؟ أينطق من تلقاء ذاته؟ أيتكلم بما توحيه إليه نفسُه؟ أم يؤذن له ويُلهَم بما يقول حتى يرضى ربنا تبارك وتعالى؟ ولذا حين يذهب الناس للأنبياء طالبين للشفاعة ويتبرى الكل ويلجئون للنبي (صلى الله عليه وسلم) ويخر تحت العرش، يحمد الله بمحامد لم يُحمَد بها الله من قبل ولا يعرفها النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يعرفها، سوف يعرفها وهو ساجد تحت العرش، يُلهَم في وقتها وفي ساعتها كما قال هو عن نفسه: "فيلهمني ربي بمحامد لم يُحمَد بها من قبل فأحمده بها فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسَلْ تُعطَ واشفع تُشَفَّع" نعم! تراه تحت العرش ساجداً والخوف في نفوس الجمع يصول، يا محمد سَلْ مابد لك فمن قبل المسألة أجاب المسئول، نعم! (وكم من ملك في السموات لاتغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) كما قال في موضع آخر ﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [سورة طه آية: ١٠٩] نعم! إذا نظرنا إلى ذلك الموقف ووجدنا السؤال من الله (تبارك وتعالى) للأنبياء، ويُسأَل العلماء فيما يُسأَل فيه الأنبياء، مِنَ المسئولين يوم القيامة عيسى بن مريم، وقد قُصَّ علينا السؤال وقُصَّ علينا الجواب ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(١١٧)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(١١٨)﴾ [سورة المائدة آية: ١١٦ - ١١٨]، هل يتغير كلام عيسى يوم القيامة عن هذا الكلام؟ أيمكن أن يتغير السؤال والجواب؟ هاهو السؤال وهاهو الجواب قُضِيَ من الأزل، من هنا لا يشفع شافع بين يدي الله إلا من بعد أن يؤذن له في الشفاعة ثم يُلهَم بما يقول، فالكلام في حضرة مَلِك الملوك.
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْـَٔاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلْأُنثَىٰ ﴿27﴾
وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًۭٔا ﴿28﴾
التبكيت والتوبيخ والتصغير والإهانة، الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، جعلوا الملائكة إناثاً وقالوا الملائكة بنات الله فحَكَمَ عليهم ربنا (تبارك وتعالى) أنهم لا يؤمنون بالآخرة لأنهم يسمون الملائكة تسمية الأنثى. (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) زيادة في إلزامهم الحجة لأنهم ادَّعَوا ما ليس لهم به علم.
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ هناك قال ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [سورة النجم آية: ٢٣] إذاً فهناك ألزمهم الحُجَّة بأنهم يتبعون الظن وما تهواه الأنفس رغم وجود الهدى والدليل والبرهان، وهنا ألزمهم الحُجَّة أنهم يقولون ظناً بغير علم، و (العلم) أن يصادف قولُك حقيقةَ الحق، فلكل حق حقيقة، وحقيقة المعلوم لا تُعلَم إلا بعلم، فأنت إذا تكلمتَ عن شيء ونسبتَ شيئاً إلى شيء لابد أن يصادف قولُك حقيقةَ المعلوم الذي عَلِمَته وتكلمتَ عنه، مصادفة الحقيقة للمعلوم لا تتأتى بالظن ولا تتأتى بالتخمين ولا تتأتى بالحدس ولا تتأتى بضرب الودع، وإنما تتأتى بالعلم اليقيني، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (الظن): التوهم، و (الحق): عِلْم، (الظنّ): ضربٌ بالتخمين وحدس، أما العِلم فهو مصادفة حقيقة المعلوم، كيف نصادف حقيقة المعلوم؟ المعلوم أن هناك ملائكة، أما جنس الملائكة فلا يمكن أن يُعلَم إلا بأمرٍ من اثنين؛ أن تشهد خَلْقَهم كما تشهد ولادة ابنك أو ابنتك فتستطيع أن تميّز أَذَكَرٌ هو أو أنثى، أو أن يخبرك الخالق كأن تشهد امرأتك حين تلد وترى جنس المولود، أو يخبرك الطبيب فيخرج إليك ويبشرك بأن الله قد رزقك بالأنثى، فهؤلاء إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، الحق الذي لا يُعلم إلا بأن يشهدوا خَلْقَ الملائكة أو بأن يخبرهم الخالق، وقد أخبرهم الخالق بأن الملائكة ليسوا ذكوراً وليسوا إناثاً، ولا يتزاوجون ولا يأكلون ولا يشربون، وهم خَلقٌ من النور.
ويتوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الدلالات والبراهين والمقارنات بين العلو والسفل، بين الحق والظن، بين الحقيقة والتخمين، فيقول له موجهاً:
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ هناك قال ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [سورة النجم آية: ٢٣] إذاً فهناك ألزمهم الحُجَّة بأنهم يتبعون الظن وما تهواه الأنفس رغم وجود الهدى والدليل والبرهان، وهنا ألزمهم الحُجَّة أنهم يقولون ظناً بغير علم، و (العلم) أن يصادف قولُك حقيقةَ الحق، فلكل حق حقيقة، وحقيقة المعلوم لا تُعلَم إلا بعلم، فأنت إذا تكلمتَ عن شيء ونسبتَ شيئاً إلى شيء لابد أن يصادف قولُك حقيقةَ المعلوم الذي عَلِمَته وتكلمتَ عنه، مصادفة الحقيقة للمعلوم لا تتأتى بالظن ولا تتأتى بالتخمين ولا تتأتى بالحدس ولا تتأتى بضرب الودع، وإنما تتأتى بالعلم اليقيني، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (الظن): التوهم، و (الحق): عِلْم، (الظنّ): ضربٌ بالتخمين وحدس، أما العِلم فهو مصادفة حقيقة المعلوم، كيف نصادف حقيقة المعلوم؟ المعلوم أن هناك ملائكة، أما جنس الملائكة فلا يمكن أن يُعلَم إلا بأمرٍ من اثنين؛ أن تشهد خَلْقَهم كما تشهد ولادة ابنك أو ابنتك فتستطيع أن تميّز أَذَكَرٌ هو أو أنثى، أو أن يخبرك الخالق كأن تشهد امرأتك حين تلد وترى جنس المولود، أو يخبرك الطبيب فيخرج إليك ويبشرك بأن الله قد رزقك بالأنثى، فهؤلاء إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، الحق الذي لا يُعلم إلا بأن يشهدوا خَلْقَ الملائكة أو بأن يخبرهم الخالق، وقد أخبرهم الخالق بأن الملائكة ليسوا ذكوراً وليسوا إناثاً، ولا يتزاوجون ولا يأكلون ولا يشربون، وهم خَلقٌ من النور.
ويتوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الدلالات والبراهين والمقارنات بين العلو والسفل، بين الحق والظن، بين الحقيقة والتخمين، فيقول له موجهاً:
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ﴿29﴾
إذا ًفهم يريدون السلطة والسلطان والحياة الدنيا بتعظيم الأصنام وبذبح القرابين وبالكهنوتية، ولا كهنوتية في الإسلام، أن يكونوا سَدَنة للأصنام وأن يخيفوا الناس ويرعبوهم، وأن يأتي الناس بالقرابين، وأن يضربوا لهم بالسهام، وأن وأن وأن، إذاً فهؤلاء يريدون الحياة الدنيا فأعرِض عنهم يا محمد. ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ أي انصَرَفَ وابتَعَدَ عن وحينا وعن قولنا وعن كلامنا وعن الحق الذي سقناه على لسانك، أعرَضوا عن كل تلك الحقائق، أعرضوا عن الحق وتمسكوا بالظن والوهم.
ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ ﴿30﴾
﴿ذَلِكَ﴾ أي ذلك الإعراض وتلك المقالات وما صنعوه. ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ تلك النهاية والغاية التي وصلوا إليها من علم، وهو علم حقير، علم زائل، علم بظواهر الأشياء وليس بحقائقها، فجميع علوم الدنيا بكاملها وكل ما وصل إليه العلماء في عصرنا هذا ما هو إلا ظاهر الأشياء، فقد استُخدِمَت الكهرباء وجُهِلَ سرُّها حتى الآن، واستُخدِمَت النجوم في الهداية والدلالة وجُهِلَت حقيقة مواقعها حتى الآن ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [سورة الواقعة آية: ٧٥] وعُرِفَت الجاذبية وما عُرِفَ سرُّها، فكل علوم الدنيا ظاهر، أما الباطن فيعلمه الله، وأشرف العلوم العلم بالله. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) التعليل للأمر بالإعراض، وهناك جملة معترضة (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) واعترض الكلام قول الله (تبارك وتعالى) عنهم: (ذلك مبلغهم من العلم) أَمَرَهُ بالإعراض، العلة والتعليل للأمر بالإعراض عنهم ما هو؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ إذاً فواجب النبي (صلى الله عليه وسلم) الإبلاغ والإبلاغ فقط ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [سورة الشورى آية: ٤٨] أما الهداية فربنا هو الهادي وهو المضِل، وهو أعلم بمن يستحق الهداية وهو أعلم بمن يستحق الضلال، أما أنت فما عليك إلا البلاغ وقد أديتَ ما عليك وقد أبلغتَ الرسالة وأديتَ الأمانة، فأعرِض عن هؤلاء ولا تبالي بهم ولا تُعَظِّم من شأنهم ولا تحزن على كفرهم، ربنا (تبارك وتعالى) أعلم بمن يستحق الهداية وأعلم بمن يستحق الإضلال، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
أنبأ ربنا تبارك وتعالى حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن وظيفته البلاغ و أنه لا يهدي من أحب وأن الهادي هو الله، إذاً فربنا بعلمه القديم الأزلي يعلم ما يكون عليه أمر الإنسان فييسره لما خُلِقَ له، ولذا من تحرى الخير وجده ويُعطاه والعبرة بالنية، والحساب على النية وليس على العمل، والأعمال بالنية، من يستعفف يُعِفُّهُ الله، من يستغني يُغنِهِ الله، من يتصبر يُصَبِّرُه الله، من يتحرى الخير يُعطِه، ما تريد أنت؟ إن أردتَ الهُدى هداك الله، وإن لم تطلب الهدى وَكَلَك إلى نفسك، فمن هداه الله فبفضل الله وللعبد نصيب وهو الطلب والسؤال، التضرع، اللجوء، الإحساس بالفقر والإحساس بالاحتياج، ومن أَضَلَّه الله فالله يفعل ما يشاء ولكن للعبد فيه نصيب لم يسأل، لم يطلب، وربنا (تبارك وتعالى) إذا لم يُسأَل غضب، وكلما قَلَّلَ العبد من السؤال كلما ابتعد عن رب العزة، وكلما أَلَحَّ في السؤال وفي الرجاء كلما أعطاه الله لأنه الغني وخزائنه لا تنضب، لذا يقول الله (تبارك وتعالى) عقب ذلك:
أنبأ ربنا تبارك وتعالى حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن وظيفته البلاغ و أنه لا يهدي من أحب وأن الهادي هو الله، إذاً فربنا بعلمه القديم الأزلي يعلم ما يكون عليه أمر الإنسان فييسره لما خُلِقَ له، ولذا من تحرى الخير وجده ويُعطاه والعبرة بالنية، والحساب على النية وليس على العمل، والأعمال بالنية، من يستعفف يُعِفُّهُ الله، من يستغني يُغنِهِ الله، من يتصبر يُصَبِّرُه الله، من يتحرى الخير يُعطِه، ما تريد أنت؟ إن أردتَ الهُدى هداك الله، وإن لم تطلب الهدى وَكَلَك إلى نفسك، فمن هداه الله فبفضل الله وللعبد نصيب وهو الطلب والسؤال، التضرع، اللجوء، الإحساس بالفقر والإحساس بالاحتياج، ومن أَضَلَّه الله فالله يفعل ما يشاء ولكن للعبد فيه نصيب لم يسأل، لم يطلب، وربنا (تبارك وتعالى) إذا لم يُسأَل غضب، وكلما قَلَّلَ العبد من السؤال كلما ابتعد عن رب العزة، وكلما أَلَحَّ في السؤال وفي الرجاء كلما أعطاه الله لأنه الغني وخزائنه لا تنضب، لذا يقول الله (تبارك وتعالى) عقب ذلك:
وَلِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔوا۟ بِمَا عَمِلُوا۟ وَيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ بِٱلْحُسْنَى ﴿31﴾
ولله ما في السموات وما في الأرض خلقا ً ومُلكا ً وتدبيرا ً وتصريفا ً وتقديراً، له ما في السموات وما في الأرض ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (ليجزي) اللام هنا فيها أقوال، والقرآن لغة عربية فصحى، أحسن الكلام وأحسن الحديث، وبلاغة القرآن أعجزت العلماء ﴿لِيَجْزِيَ﴾ اللام لام العِلَّة، بمعنى لله ما في السموات وما في الأرض ومن أجل هذا المُلك يَضِل أناس ويُهدى أناس فيجزيهم ربنا كلٌ بما سعى وكلٌ بعمله. وقيل (لله ما في السموات وما في الأرض) جملة معترضة والتقدير (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) بمعنى أنه أعلم، وطالما هو أعلم بمن اهتدى وهو أعلم بمن ضل هو المحاسب وهو المجازي، من أجل هذا العلم الأزلي سوف يجزي هذا بعمله ويجزي هذا بعمله، وله ملك السموات والأرض وله ما في السموات والأرض. وقال بعض الناس بل اللام لام العاقبة، لام الصيرورة، أي يصير الأمر إلى كذا، يفعل كذا ليحدث كذا ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ﴾ إذاً فعاقبة هذا المُلك وهذه الدنيا التي خلقها الله الجزاء كُلٌّ بعمله. أو هي للعلة، علة هذا الخلق، لِمَ خلق الله السماوات والأرض؟ خلق السموات والأرض وجعل الدنيا ليبتلي الناس، فيجازي المحسن بإحسانه ويجازي المسيء بإساءته، فهي لام العلة أو هي لام العاقبة أو هي متعلقة بقوله (تبارك وتعالى): ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾.
أما الجزاء ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ أي ليجزي الذين أساءوا بعقوبة ما عملوا وما ربك بظلام للعبيد، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا أي بعقوبة ما عملوا لا يجازيهم بالعمل نفسه من شرب الخمر في الدنيا، أيجازي بهذا العمل بشرب الخمر؟ وإنما بسببه، أو يجازي بعقوبته، أو يجازي بسوء عمله، فالباء للسببية، أي بسبب ما عملوا، أو بعقوبة ما عملوا، وبمثل ما عملوا، والباء تحتمل هذه المعاني الثلاثة وكلها صواب. ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (الحسنى) تأنيث الأحسن، (يجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أي بالمثوبة الحسنى ألا وهي الجنة. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي بسبب أعمالهم الحسنى، أو يجزي الذين أحسنوا بالحسنى أي بأحسن مما عملوا جزاءً يفوق مقدار ما عملوا، نعم! ربنا (تبارك وتعالى) أعطانا الجزيل وكَلَّفَنا القليل، وتَأَمَّل في عطاء الله في الدنيا، في كل شيء وما فُرِضَ علينا، في اليوم أربع وعشرين ساعة، أربع وعشرون ساعة أنت حُرٌّ فيها، أخذ منك دقائق ألا وهي أوقات الصلوات الخمس، وانسب وقت الصلاة لليوم وقت الصلاة كم دقيقة؟ ساعة؟ الخمس صلوات ساعة؟ لك أربع وعشرين ساعة أنت حُرٌّ فيها.
المال أعطاك وأعطاك من المال والكفاية والحاجة والضرورة وما فوق ذلك وكان يكفيك طعاماً واحداً كالبهائم أو مشروب واحد، ولكن آلاف الأطعمة وآلاف الأشربة، أعطاك الضرورات والحاجات وما فوق ذلك ثم طلب منك، لا لنفسه بل للفقراء، ربع العُشْر، الحج مرة في العمر، الصيام شهر في السنة، اثنا عشر شهراً تأكل وتمرح وشهر واحد تُريح فيه أجهزة جسمك وتنتبه إلى نفسك وتهيئ نفسك للقاء الله (عز وجل) أعطانا الجزيل وكلفنا القليل، حتى في الآخرة؛ ما ذُكِرَ لنا من ثواب الآخرة فوق الخيال، مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لِمَ كل ذلك؟ مقابل هذه السويعات في حياتك التي تذكر فيها الله؟ حتى هذه السويعات؛ سويعات الطاعة واللهِ لا فضل لنا فيها، بل هو صاحب الفضل ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة الحجرات آية: ٨] نعم! ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وتأتي بعض أوصاف المحسنين، وقارن بين ماوُصِفَوا به وبين ما أُعِدَّ لهم كي تعلم أن فضل الله (تبارك وتعالى) فوق الخيال و فوق ما يختلج به الضمير أو يقضي به التفكير.
أما الجزاء ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ أي ليجزي الذين أساءوا بعقوبة ما عملوا وما ربك بظلام للعبيد، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا أي بعقوبة ما عملوا لا يجازيهم بالعمل نفسه من شرب الخمر في الدنيا، أيجازي بهذا العمل بشرب الخمر؟ وإنما بسببه، أو يجازي بعقوبته، أو يجازي بسوء عمله، فالباء للسببية، أي بسبب ما عملوا، أو بعقوبة ما عملوا، وبمثل ما عملوا، والباء تحتمل هذه المعاني الثلاثة وكلها صواب. ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (الحسنى) تأنيث الأحسن، (يجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أي بالمثوبة الحسنى ألا وهي الجنة. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي بسبب أعمالهم الحسنى، أو يجزي الذين أحسنوا بالحسنى أي بأحسن مما عملوا جزاءً يفوق مقدار ما عملوا، نعم! ربنا (تبارك وتعالى) أعطانا الجزيل وكَلَّفَنا القليل، وتَأَمَّل في عطاء الله في الدنيا، في كل شيء وما فُرِضَ علينا، في اليوم أربع وعشرين ساعة، أربع وعشرون ساعة أنت حُرٌّ فيها، أخذ منك دقائق ألا وهي أوقات الصلوات الخمس، وانسب وقت الصلاة لليوم وقت الصلاة كم دقيقة؟ ساعة؟ الخمس صلوات ساعة؟ لك أربع وعشرين ساعة أنت حُرٌّ فيها.
المال أعطاك وأعطاك من المال والكفاية والحاجة والضرورة وما فوق ذلك وكان يكفيك طعاماً واحداً كالبهائم أو مشروب واحد، ولكن آلاف الأطعمة وآلاف الأشربة، أعطاك الضرورات والحاجات وما فوق ذلك ثم طلب منك، لا لنفسه بل للفقراء، ربع العُشْر، الحج مرة في العمر، الصيام شهر في السنة، اثنا عشر شهراً تأكل وتمرح وشهر واحد تُريح فيه أجهزة جسمك وتنتبه إلى نفسك وتهيئ نفسك للقاء الله (عز وجل) أعطانا الجزيل وكلفنا القليل، حتى في الآخرة؛ ما ذُكِرَ لنا من ثواب الآخرة فوق الخيال، مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لِمَ كل ذلك؟ مقابل هذه السويعات في حياتك التي تذكر فيها الله؟ حتى هذه السويعات؛ سويعات الطاعة واللهِ لا فضل لنا فيها، بل هو صاحب الفضل ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة الحجرات آية: ٨] نعم! ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وتأتي بعض أوصاف المحسنين، وقارن بين ماوُصِفَوا به وبين ما أُعِدَّ لهم كي تعلم أن فضل الله (تبارك وتعالى) فوق الخيال و فوق ما يختلج به الضمير أو يقضي به التفكير.
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلْإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌۭ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ ﴿32﴾
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ هؤلاء هم الذين أحسنوا وأعد الله (تبارك وتعالى) لهم الحسنى ماذا فعلوا؟ يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، (كبائر الإثم): الشرك، وقُرِئت: (كبير) بالتوحد على الإفراد. ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ (كَبَائِرَ) اسم جنس، أو هو الشرك على وجه الخصوص لأن الشرك أكبر الكبائر. وقالوا (كبائر الإثم): هو كل ذنب ذُكِرَ في القرآن وخُتِمَ بالنار، كل ذنب ذُكِرَ في القرآن وتُوُعِّدَ فاعله بالنار كقوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [سورة النساء آية: ٩٧]. والكبائر غير معدودة، والرأي الأرجح ورأي العلماء الراسخين أنها موهمة، أوْهمها الله (تبارك وتعالى) وأبهمها حتى يتقي الإنسان الوقوع فيها. وبعض الناس عَدَّدَها وذكروها لكن الرأي الأرجح أن الكبائر مبهمة، معلوم منها القتل، الشرك، لكن الأحاديث النبوية في الكبائر كثيرة، معلوم منها: القتل، الشرك، الزنا، الربا، السرقة، شرب الخمر، الغيبة، النميمة، بل الإصرار على الصغيرة كبيرة. المهم أنهم قالوا إن (كبائر الإثم): كل ذنب ذُكِرَ في القرآن وخُتِمَ بالنار، أي تَوَعَّدَ ربنا فاعلَه بالنار، و (الفواحش) قالوا الزنا على وجه الخصوص، وما من كلمة (فاحشة) جاءت في القرآن إلا وتعني الزنا على وجه الخصوص إلا في موضع واحد وقد ذكرناه لكم من قبل. وقالوا (الفواحش) ما قَبُحَ واستقبحه الناس من الذنوب. هؤلاء يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، الاستثناء إما متصل وإما منفصل، فإن كان الاستثناء منفصلاً فاللمم شيء آخر بمعنى هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم أي لكنهم يقعوا في اللمم، و (اللمم): صغائر الذنوب التي تكفّرها الصلوات الخمس، من الصلاة إلى الصلاة كفارة، (اللمم): كل مادون الزنا من نظرة، من لمسة، وما إلى ذلك.
(اللمم) كتعريف أيضاً: كل ذنب ذُكِرَ ولم يُحَدَّد له حَدَّاً، أي من الذنوب التي ليس عليها الحدود كقطع اليد والجَلد، فهو ذنب بين الحدين ليس فيه الوعيد بالعذاب في الآخرة ولا يُقام عليه الحد في الدنيا كالنظرة ﴿قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ هل ذُكِرَت عقوبة؟ هل حُدِّدَت للنظرة حدود؟ أي من نظر إلى امرأة فعلينا أو على الحاكم المسلم أن يفعل كذا؟ أبداً، فالنظرة من اللمم، إذاً فاللمم هو كل ذنب لم يحدث عليه وعيد محدد بعذاب معين في الآخرة ولم يُذكَر له حَدٌّ من الحدود. ربنا (تبارك وتعالى) يجازي هؤلاء المحسنين بالحسنى ويصفهم بالإحسان، فهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، واللمم صغائر لا يسلم منها إلا من عصمه الله وحفظه، من هنا يعفو ربنا (تبارك وتعالى) عن هذا اللمم. ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ فيعفو عن اللمم لأنه لا يسلم منه إنسان إلا من عصمه الله (تبارك وتعالى) وهذا القول؛ الاستثناء منفصل فاللمم غير ما ذُكِرَ من كبائر وفواحش وهو صغائر الذنوب مصداقاَ لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١] فمجرد اجتناب الكبائر يكفر السيئات، إن ربك واسع المغفرة حيث لم يؤاخذ الناس على هذه الصغائر وحمد لهم اجتنابهم الكبائر.
وقال البعض بل الاستثناء متصل، واللمم يتعلق بالكلام السابق؛ الكبائر والفواحش، ويكون المعنى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ أي ارتكبوها مرة وتابوا، العرب تقول: لا يأتيني إلا لِماماً فاللمم والإلمام الفعل مرة بعد مرة بغير تعمق فيه وبغير إقامة عليه، فلا يزورني إلا لِماماً، أي بين الحين والحين يزورني مرة ولكنه لا يمكث عندي كثيراً، ذاك هو اللمم، وأَلَمَّ بالشيء: فَعَلَ الشيء ولكن ظاهراً لم يتعمق فيه ولم يُقيم عليه، ويصبح المعنى أنَّ الذين اجتنبوا الكبائر وقعوا فيها مرة فزنا ثم تاب، لأنه أَلَمَّ به، شرب الخمر مرة، زنا مرة، فعل كذا مرة، وهل مرة واحدة في العمر؟ أبداً، بل لا يقيم على الذنب إنما يُلِمُّ به، أي يقع فيه ثم يتوب، ولو وقع فيه في اليوم ألف مرة، طالما تاب يتوب الله عليه، إن ربك واسع المغفرة.
لا تتعجب! واللهِ لو أذنب العبد في اليوم ألف مرة طالما استغفر غفر الله له، وذاك حديثٌ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفيه نص وليس فيه اجتهاد، فلا تتعجب! مهما ارتكبوا من شرور، واللهِ لو أتيت ربك بملء الأرض خطايا، ولو بلغت خطاياك عنان السماء ثم جئتَ الله (تبارك وتعالى) لا تشرك به شيئا لغفر لك، لجاءك بملء الارض مغفرة، إن ربك واسع المغفرة، لا تضره المعاصي ولا تنفعه الطاعات، العبد لا يغفر الإساءة، لماذا؟ لأن العبد كلما تذكر الإساءة تذكر مرارتها وتذكر الألم، فأنت إذا أسأت إلى إنسان، نقصت حقه أو ظلمت حقه أو أسأت إليه أو أشعْت عنه إشاعة أو تكلم الناس، إساءتك لغيرك تؤثر فيه، تنتقص من مُلْكِه أو مِلكه أو شرفه أو سمعته أو ماله أو عِرضه، فإساءة الإنسان للإنسان تنتقص من المُساء إليه، أما الله هل ينتقص ملكه؟ هل تضره المعاصي؟ هل لو كفر العالم كله يُضار؟ هل لو وقف الإنس والجن والأول والآخر، كل الخلائق حتى الحيوانات والبهائم في صعيد واحد وكفروا بالله أيبالي ربنا بهم؟ كان الله ولم يكن شيء غيره فلا تضره المعاصي، إذا ً فالعبد إذا استغفر ربنا تبارك وتعالى يغفر له ما لا يضره ويعطيه ما لا ينفعه، لأن الله (تبارك وتعالى) لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي، نعم! إن ربك واسع المغفرة، يذنب العبد ثم يتوب، يذنب ثم يتوب، لكنه لا يقيم على الذنب فإذا ارتكب الذنب، ولو كان من الكبائر، تاب وأناب تاب الله عليه، ذاك هو اللمم، ذاك هو الرأي الآخر الذي يقول إن الاستثناء متصل، والرأي الأول أنَّ الاستثناء منفصل ويصبح اللمم شيء آخر؛ صغائر الذنوب ويكفرها الصلوات الخمس وما إلى ذلك، مجرد اجتناب الكبائر فضل من الله تُغفَر لك الصغائر.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ نعم أي والله! هو أعلم بكم من أنفسكم لأنه هو الخالق الصانع، هو الذي خلقنا وصنعنا من التراب، خلق المادة وخلقنا من المادة وأعطانا القدرات، هو الذي حددها، أعطانا الأعصاب والعضلات والمفاصل، أعطانا الوهم وأعطانا التفكير وأعطانا التقدير وأعطانا النفس وأعطانا الضمير، وأعطانا الروح وأعطانا القلب والقُوى والإمكانيات وألهمنا كيفية استخدام كل ذلك، وهو القائل: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية: ٢٨]، هو القوي ونحن الضعفاء، نحن نخطئ وهو يعفو، نحن نخطئ وهو يغفر، نحن نتوب وهو يتوب علينا، نحن نسأل وهو يعطي، نعم! ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ أي أنشأ أباكم آدم من الأرض، أنشأكم من الأرض لأن الأصل مخلوق من الأرض. وقال بعض الناس رأيا ً عجيباً؛ قالوا هو أنشأكم من الأرض ليس الكلام عن آدم بل عن كل واحد منا، فما من إنسان يموت إلا ويُدفن في البقعة التي خُلِق منها، فقد قبض الله قبضة من الأرض وخلق منها الناس جميعاً ثم دخلت هذه الأجزاء التي خُلِقوا منها في الماء، في خَلْق آدم، في الأصلاب وفي الذراري، وكلنا مخلوق من التراب وليس آدم فقط. ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ (أجِنَّة): جمع جنين، و (الجنين): الولد ما دام في البطن، وسُمِّيَ الجنين جنيناً لاجتنانه واستتاره، (جَنَّهُ): سَتَرَهُ، والجِنُّ سُمِّيَت جِنَّة لأننا لا نراها، والمجنون سُتِرَ عقلُه، فالجنين سُمِّيَ جنيناً لأن الله ستره في بطن أمه فهو مستور.
﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ هو أعلم بكم، ما أنت عليه من شكل، من صورة، من جنس ذكر أو أنثى، من هوية مصري أو عربي أم إفريقي، من لون، من خُلُق، من عمل، من نية، من أثر، من أي شيء، مَنِ الذي سوّاك وصوّرك في الرحم وخط عيناك وشق الأذن وشق الفم الأنف ورتب الأعصاب والعضلات والقلب والصمامات والشرايين ومن الشعرات الدموية والمفاصل والأعضاء؟ بل والفكر والعقل والوهم والتفكير؟ هو الله! ألا يعلم من خَلَقَ؟ عَلِمَ ما كان وما يكون، وأَمَرَ المَلَك فكتب رزقَك، أجلَك، أثرَك شقي أم سعيد، هو أعلم بكم.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ هذا هو الأمر، هذا هو المربط، هذا هو عماد الأمر، (لا تزكوا أنفسكم): لا تمتدحوا أنفسكم بما ليس فيها، ولا تمتدحوا أنفسكم بما فيها لأنك لم تَخلُق هذا بل أُعطيتَه، أعطاكه الله، فالمنشيء هو الله وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم، المصوّر هو الله، تزكي نفسك على أي أساس؟ أنت عاقل من أين اشتريت عقلك؟ كيف اكتسبت هذه الحكمة؟ أنت غني هل خُيِّرتَ بين الغنى والفقر فكنت حكيماً فاخترت الغنى؟ أنت صحيح الجسم قوي البنية هل نشكرك على ذلك؟ هل نحمدك على ذلك؟ من أين أتيت بهذه القوة والعضلات؟ أسعيت إليها ونحن تكاسلنا فلم نسعَ إلى القوة فأصبحنا ضعاف البنية؟ أنت تقيّ وتأتي المسجد وتصلي القيام وتصوم وتفعل إذاً فأنت اخترت ذلك وكانت أمامك المعاصي والفواحش وأمامك الطائرات الخاصة والأموال بالملايين مكنزة والنساء جاءتك من كل مكان وعصمت نفسك كيوسف أم أن الله وفقك لهذا؟ أو ربما ليس لك شيء تفعله إلا أن تأتي إلى المسجد؟ لاتملك شيئاً ولا تستطيع أن تذهب إلى مكان ولا يمكن لك أن تفعل شيئاً من المعاصي، عَجْزٌ منك فجئت إلى المسجد؟ تزكي نفسك على التقوى والله هو الذي رزقك التقوى بل ورزقك الإسلام؟ فأنت وُلِدتَ مسلماً ولا خيار لك ولا فضل لك، ورزقك الأعضاء والعضلات والجسم، ورزقك المسجد الذي تذهب إليه، فكم من بلاد وليس فيها مساجد، فلا تزكوا أنفسكم، وربنا يقول في موضع آخر: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [سورة النساء آية: ٤٩] ويقول في موضع آخر: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(٢١)﴾ [سورة النور آية: ٢١]، من هنا ينهانا ربنا (تبارك وتعالى) عن أن نزكي أنفسنا ويعلمنا التواضع والخشوع لله (تبارك وتعالى)،
ويعلمنا ألا نعتمد على العمل ولا نضمن أنفسنا والعبرة بالخواتيم، والخواتيم مجهولة. ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ هو أعلم بمن اتقى أزلاً، هو أعلم بمن يتقي الله (تبارك وتعالى) فلا يشرك به شيئاً، ويتقي الوقوع في المعاصي ويتقي إغضاب الله (تبارك وتعالى)، ونسأل الله أن يرزقنا التقوى.
كان المشركون بمكة يتخبطون في شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرة يقولون ساحر، مرة يقولون مجنون، مرة يقولون شاعر، مرة يقولون كذا، واجتمع رأيهم على رجل منهم يذهب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال ذاك الرجل والله لقد علمتم أني أعلم الناس بالشعر وأعلم الناس بالكهانة وسافرتُ وارتحلتُ ورأيتُ، دعوني أذهب إلى هذا الدَّعِيِّ فأرى ما يقول، واجتمعوا وأرسلوه وانتظروه وذهب الرجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال وقال وقال، إن كنتَ تريد كذا أعطيناك وإن كنت تريد كذا أعطيناك، لِمَ تُسفِّه آلهتك وآلهة آبائك؟ لِمَ تُسفِّه أحلامهم وتُضَلِّل أفعالهم؟ وكذا وكذا، واستمع النبي (صلى الله عليه وسلم) بكل الحِلم وانتظره حتى انتهى من كلامه، دون انفعال ودون حمية، ثم قال: "هل انتهيت؟ " قال: نعم، قال: "هل تسمع مني؟ " قال: أجل، فقرأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من القرآن من سورة فصلت وفي أولها وصف الخلق: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(٩)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(١٠)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(١١)﴾ [سورة فصلت آية: ٩ - ١١] إلى آخر ما قرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) استمع الرجل وأنصت، وهذا أدب في الدعوة يعلمنا كيف استمع له النبي (صلى الله عليه وسلم) بحِلم وتركه حتى أنهى حديثه، فحين قال له اسمع لا يستطيع أن يرفض، أنظر إلى حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) (ادع الى سبيل ربك بالحكمة)، فاستمع الرجل وقرأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى انتهى، قام الرجل وقد امتلأ قلبه بالاقتناع وأوشك أن يؤمن أو كاد أن يفعل، وخرج وعاد إلى قومه وهم منتظرون له فرأوه قادماً من بعيد، فقال بعضهم لبعض: والله لقد جاءكم بوجه غير الذي ترككم عليه، وجاء الرجل فنظروا إليه وقالوا: أَسَحَرَكَ محمد؟ ماذا جرى؟ فقال: اسمعوا، واللهِ ماهو بالشعر، واللهِ ما هو بالسحر، واللهِ ماهو بالكهانة، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، ماهو بالهزل، بل هو القول الفصل، وأخذ الرجل يتكلم، هاج الصناديد من حوله وقالوا صبأت وتركت دين آبائك؟ ضَلَّلْتَ أجدادَك؟ أصدقاء السوء، ومن جالس جانس، وانتبه! أحاطوا به ونفخوا فيه العزة والكبرياء والأَنَفَة وحميّة الجاهلية، فقال: يا أيها الناس إنه حذرني بالعذاب فقال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [سورة فصلت آية: ١٣] فإني أخاف عذاب الله، فقال له رجل منهم: أنت تخاف العذاب؟ إذاً دعني أنا أحمل عنك العذاب وادفع لي كذا وكذا وأتعهد لك بذلك أمام الملأ، قال: إذاً أدفع لك وتتحمل عني؟ قال: أتحمل عنك العذاب والوزر، فنُكِسَ على رأسه ودعا إلى كفره ودفع للرجل شيئاً ثم بخل بما بقي فامتنع عن الدفع، فيحدثنا ربنا (تبارك وتعالى) وتَأَمَّل واعتبر أن الفَعَّال هو الله وأن العبد ليس له إلا أن يسأل الفَعَّال، هو الفعال
(اللمم) كتعريف أيضاً: كل ذنب ذُكِرَ ولم يُحَدَّد له حَدَّاً، أي من الذنوب التي ليس عليها الحدود كقطع اليد والجَلد، فهو ذنب بين الحدين ليس فيه الوعيد بالعذاب في الآخرة ولا يُقام عليه الحد في الدنيا كالنظرة ﴿قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ هل ذُكِرَت عقوبة؟ هل حُدِّدَت للنظرة حدود؟ أي من نظر إلى امرأة فعلينا أو على الحاكم المسلم أن يفعل كذا؟ أبداً، فالنظرة من اللمم، إذاً فاللمم هو كل ذنب لم يحدث عليه وعيد محدد بعذاب معين في الآخرة ولم يُذكَر له حَدٌّ من الحدود. ربنا (تبارك وتعالى) يجازي هؤلاء المحسنين بالحسنى ويصفهم بالإحسان، فهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، واللمم صغائر لا يسلم منها إلا من عصمه الله وحفظه، من هنا يعفو ربنا (تبارك وتعالى) عن هذا اللمم. ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ فيعفو عن اللمم لأنه لا يسلم منه إنسان إلا من عصمه الله (تبارك وتعالى) وهذا القول؛ الاستثناء منفصل فاللمم غير ما ذُكِرَ من كبائر وفواحش وهو صغائر الذنوب مصداقاَ لقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [سورة النساء آية: ٣١] فمجرد اجتناب الكبائر يكفر السيئات، إن ربك واسع المغفرة حيث لم يؤاخذ الناس على هذه الصغائر وحمد لهم اجتنابهم الكبائر.
وقال البعض بل الاستثناء متصل، واللمم يتعلق بالكلام السابق؛ الكبائر والفواحش، ويكون المعنى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ أي ارتكبوها مرة وتابوا، العرب تقول: لا يأتيني إلا لِماماً فاللمم والإلمام الفعل مرة بعد مرة بغير تعمق فيه وبغير إقامة عليه، فلا يزورني إلا لِماماً، أي بين الحين والحين يزورني مرة ولكنه لا يمكث عندي كثيراً، ذاك هو اللمم، وأَلَمَّ بالشيء: فَعَلَ الشيء ولكن ظاهراً لم يتعمق فيه ولم يُقيم عليه، ويصبح المعنى أنَّ الذين اجتنبوا الكبائر وقعوا فيها مرة فزنا ثم تاب، لأنه أَلَمَّ به، شرب الخمر مرة، زنا مرة، فعل كذا مرة، وهل مرة واحدة في العمر؟ أبداً، بل لا يقيم على الذنب إنما يُلِمُّ به، أي يقع فيه ثم يتوب، ولو وقع فيه في اليوم ألف مرة، طالما تاب يتوب الله عليه، إن ربك واسع المغفرة.
لا تتعجب! واللهِ لو أذنب العبد في اليوم ألف مرة طالما استغفر غفر الله له، وذاك حديثٌ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفيه نص وليس فيه اجتهاد، فلا تتعجب! مهما ارتكبوا من شرور، واللهِ لو أتيت ربك بملء الأرض خطايا، ولو بلغت خطاياك عنان السماء ثم جئتَ الله (تبارك وتعالى) لا تشرك به شيئا لغفر لك، لجاءك بملء الارض مغفرة، إن ربك واسع المغفرة، لا تضره المعاصي ولا تنفعه الطاعات، العبد لا يغفر الإساءة، لماذا؟ لأن العبد كلما تذكر الإساءة تذكر مرارتها وتذكر الألم، فأنت إذا أسأت إلى إنسان، نقصت حقه أو ظلمت حقه أو أسأت إليه أو أشعْت عنه إشاعة أو تكلم الناس، إساءتك لغيرك تؤثر فيه، تنتقص من مُلْكِه أو مِلكه أو شرفه أو سمعته أو ماله أو عِرضه، فإساءة الإنسان للإنسان تنتقص من المُساء إليه، أما الله هل ينتقص ملكه؟ هل تضره المعاصي؟ هل لو كفر العالم كله يُضار؟ هل لو وقف الإنس والجن والأول والآخر، كل الخلائق حتى الحيوانات والبهائم في صعيد واحد وكفروا بالله أيبالي ربنا بهم؟ كان الله ولم يكن شيء غيره فلا تضره المعاصي، إذا ً فالعبد إذا استغفر ربنا تبارك وتعالى يغفر له ما لا يضره ويعطيه ما لا ينفعه، لأن الله (تبارك وتعالى) لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي، نعم! إن ربك واسع المغفرة، يذنب العبد ثم يتوب، يذنب ثم يتوب، لكنه لا يقيم على الذنب فإذا ارتكب الذنب، ولو كان من الكبائر، تاب وأناب تاب الله عليه، ذاك هو اللمم، ذاك هو الرأي الآخر الذي يقول إن الاستثناء متصل، والرأي الأول أنَّ الاستثناء منفصل ويصبح اللمم شيء آخر؛ صغائر الذنوب ويكفرها الصلوات الخمس وما إلى ذلك، مجرد اجتناب الكبائر فضل من الله تُغفَر لك الصغائر.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ نعم أي والله! هو أعلم بكم من أنفسكم لأنه هو الخالق الصانع، هو الذي خلقنا وصنعنا من التراب، خلق المادة وخلقنا من المادة وأعطانا القدرات، هو الذي حددها، أعطانا الأعصاب والعضلات والمفاصل، أعطانا الوهم وأعطانا التفكير وأعطانا التقدير وأعطانا النفس وأعطانا الضمير، وأعطانا الروح وأعطانا القلب والقُوى والإمكانيات وألهمنا كيفية استخدام كل ذلك، وهو القائل: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء آية: ٢٨]، هو القوي ونحن الضعفاء، نحن نخطئ وهو يعفو، نحن نخطئ وهو يغفر، نحن نتوب وهو يتوب علينا، نحن نسأل وهو يعطي، نعم! ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ أي أنشأ أباكم آدم من الأرض، أنشأكم من الأرض لأن الأصل مخلوق من الأرض. وقال بعض الناس رأيا ً عجيباً؛ قالوا هو أنشأكم من الأرض ليس الكلام عن آدم بل عن كل واحد منا، فما من إنسان يموت إلا ويُدفن في البقعة التي خُلِق منها، فقد قبض الله قبضة من الأرض وخلق منها الناس جميعاً ثم دخلت هذه الأجزاء التي خُلِقوا منها في الماء، في خَلْق آدم، في الأصلاب وفي الذراري، وكلنا مخلوق من التراب وليس آدم فقط. ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ (أجِنَّة): جمع جنين، و (الجنين): الولد ما دام في البطن، وسُمِّيَ الجنين جنيناً لاجتنانه واستتاره، (جَنَّهُ): سَتَرَهُ، والجِنُّ سُمِّيَت جِنَّة لأننا لا نراها، والمجنون سُتِرَ عقلُه، فالجنين سُمِّيَ جنيناً لأن الله ستره في بطن أمه فهو مستور.
﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ هو أعلم بكم، ما أنت عليه من شكل، من صورة، من جنس ذكر أو أنثى، من هوية مصري أو عربي أم إفريقي، من لون، من خُلُق، من عمل، من نية، من أثر، من أي شيء، مَنِ الذي سوّاك وصوّرك في الرحم وخط عيناك وشق الأذن وشق الفم الأنف ورتب الأعصاب والعضلات والقلب والصمامات والشرايين ومن الشعرات الدموية والمفاصل والأعضاء؟ بل والفكر والعقل والوهم والتفكير؟ هو الله! ألا يعلم من خَلَقَ؟ عَلِمَ ما كان وما يكون، وأَمَرَ المَلَك فكتب رزقَك، أجلَك، أثرَك شقي أم سعيد، هو أعلم بكم.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ هذا هو الأمر، هذا هو المربط، هذا هو عماد الأمر، (لا تزكوا أنفسكم): لا تمتدحوا أنفسكم بما ليس فيها، ولا تمتدحوا أنفسكم بما فيها لأنك لم تَخلُق هذا بل أُعطيتَه، أعطاكه الله، فالمنشيء هو الله وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم، المصوّر هو الله، تزكي نفسك على أي أساس؟ أنت عاقل من أين اشتريت عقلك؟ كيف اكتسبت هذه الحكمة؟ أنت غني هل خُيِّرتَ بين الغنى والفقر فكنت حكيماً فاخترت الغنى؟ أنت صحيح الجسم قوي البنية هل نشكرك على ذلك؟ هل نحمدك على ذلك؟ من أين أتيت بهذه القوة والعضلات؟ أسعيت إليها ونحن تكاسلنا فلم نسعَ إلى القوة فأصبحنا ضعاف البنية؟ أنت تقيّ وتأتي المسجد وتصلي القيام وتصوم وتفعل إذاً فأنت اخترت ذلك وكانت أمامك المعاصي والفواحش وأمامك الطائرات الخاصة والأموال بالملايين مكنزة والنساء جاءتك من كل مكان وعصمت نفسك كيوسف أم أن الله وفقك لهذا؟ أو ربما ليس لك شيء تفعله إلا أن تأتي إلى المسجد؟ لاتملك شيئاً ولا تستطيع أن تذهب إلى مكان ولا يمكن لك أن تفعل شيئاً من المعاصي، عَجْزٌ منك فجئت إلى المسجد؟ تزكي نفسك على التقوى والله هو الذي رزقك التقوى بل ورزقك الإسلام؟ فأنت وُلِدتَ مسلماً ولا خيار لك ولا فضل لك، ورزقك الأعضاء والعضلات والجسم، ورزقك المسجد الذي تذهب إليه، فكم من بلاد وليس فيها مساجد، فلا تزكوا أنفسكم، وربنا يقول في موضع آخر: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [سورة النساء آية: ٤٩] ويقول في موضع آخر: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(٢١)﴾ [سورة النور آية: ٢١]، من هنا ينهانا ربنا (تبارك وتعالى) عن أن نزكي أنفسنا ويعلمنا التواضع والخشوع لله (تبارك وتعالى)،
ويعلمنا ألا نعتمد على العمل ولا نضمن أنفسنا والعبرة بالخواتيم، والخواتيم مجهولة. ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ هو أعلم بمن اتقى أزلاً، هو أعلم بمن يتقي الله (تبارك وتعالى) فلا يشرك به شيئاً، ويتقي الوقوع في المعاصي ويتقي إغضاب الله (تبارك وتعالى)، ونسأل الله أن يرزقنا التقوى.
كان المشركون بمكة يتخبطون في شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرة يقولون ساحر، مرة يقولون مجنون، مرة يقولون شاعر، مرة يقولون كذا، واجتمع رأيهم على رجل منهم يذهب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال ذاك الرجل والله لقد علمتم أني أعلم الناس بالشعر وأعلم الناس بالكهانة وسافرتُ وارتحلتُ ورأيتُ، دعوني أذهب إلى هذا الدَّعِيِّ فأرى ما يقول، واجتمعوا وأرسلوه وانتظروه وذهب الرجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال وقال وقال، إن كنتَ تريد كذا أعطيناك وإن كنت تريد كذا أعطيناك، لِمَ تُسفِّه آلهتك وآلهة آبائك؟ لِمَ تُسفِّه أحلامهم وتُضَلِّل أفعالهم؟ وكذا وكذا، واستمع النبي (صلى الله عليه وسلم) بكل الحِلم وانتظره حتى انتهى من كلامه، دون انفعال ودون حمية، ثم قال: "هل انتهيت؟ " قال: نعم، قال: "هل تسمع مني؟ " قال: أجل، فقرأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من القرآن من سورة فصلت وفي أولها وصف الخلق: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(٩)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(١٠)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(١١)﴾ [سورة فصلت آية: ٩ - ١١] إلى آخر ما قرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) استمع الرجل وأنصت، وهذا أدب في الدعوة يعلمنا كيف استمع له النبي (صلى الله عليه وسلم) بحِلم وتركه حتى أنهى حديثه، فحين قال له اسمع لا يستطيع أن يرفض، أنظر إلى حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) (ادع الى سبيل ربك بالحكمة)، فاستمع الرجل وقرأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى انتهى، قام الرجل وقد امتلأ قلبه بالاقتناع وأوشك أن يؤمن أو كاد أن يفعل، وخرج وعاد إلى قومه وهم منتظرون له فرأوه قادماً من بعيد، فقال بعضهم لبعض: والله لقد جاءكم بوجه غير الذي ترككم عليه، وجاء الرجل فنظروا إليه وقالوا: أَسَحَرَكَ محمد؟ ماذا جرى؟ فقال: اسمعوا، واللهِ ماهو بالشعر، واللهِ ما هو بالسحر، واللهِ ماهو بالكهانة، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، ماهو بالهزل، بل هو القول الفصل، وأخذ الرجل يتكلم، هاج الصناديد من حوله وقالوا صبأت وتركت دين آبائك؟ ضَلَّلْتَ أجدادَك؟ أصدقاء السوء، ومن جالس جانس، وانتبه! أحاطوا به ونفخوا فيه العزة والكبرياء والأَنَفَة وحميّة الجاهلية، فقال: يا أيها الناس إنه حذرني بالعذاب فقال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [سورة فصلت آية: ١٣] فإني أخاف عذاب الله، فقال له رجل منهم: أنت تخاف العذاب؟ إذاً دعني أنا أحمل عنك العذاب وادفع لي كذا وكذا وأتعهد لك بذلك أمام الملأ، قال: إذاً أدفع لك وتتحمل عني؟ قال: أتحمل عنك العذاب والوزر، فنُكِسَ على رأسه ودعا إلى كفره ودفع للرجل شيئاً ثم بخل بما بقي فامتنع عن الدفع، فيحدثنا ربنا (تبارك وتعالى) وتَأَمَّل واعتبر أن الفَعَّال هو الله وأن العبد ليس له إلا أن يسأل الفَعَّال، هو الفعال
أَفَرَءَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ ﴿33﴾
وَأَعْطَىٰ قَلِيلًۭا وَأَكْدَىٰٓ ﴿34﴾
أَعِندَهُۥ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰٓ ﴿35﴾
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ ﴿36﴾
وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰٓ ﴿37﴾
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌۭ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴿38﴾
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾
وَأَنَّ سَعْيَهُۥ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾
ثُمَّ يُجْزَىٰهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلْأَوْفَىٰ ﴿41﴾
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴿42﴾
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾ السؤال تعجيبي، ربنا تبارك وتعالى يسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) النبي رآه، فحين يقول: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ يسأله ولا يطلب الإجابة، وإنما السؤال سؤال تَعَجُّب، يُعَجِّبُه من هذا الرجل الذي أوشك على الإيمان وانفتح قلبه ثم أخذته العزة بالإثم، تخلّى عنه الله، لم يوفقه ولم يمد إليه يد الإعانة، (أفرأيت) أي أرأيت حاله؟ أرأيت كيف تصرف؟ أرأيت أن القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء؟ أعلمت أن قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن؟ أعلمت أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه؟ أعلمت أن الهادي هو الله؟ ﴿وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى﴾ أعطى قليلاً، تكلم كلاماً قليلاً في شأن القرآن وصِدق القرآن ثم امتنع. أو المعنى على حسب أسباب النزول، (وَأَكْدَى) الرجل حين يحفر البئر كلما حفر ونزل فإذا صادف صخرة صلدة صلبة تُسمَّى هذه الصخرة (كُدْيَة)، فالكُدْيَة التي لا يعمل فيها الفأس ولا يستطيع أن ينال منها الحافر، فتقول: (أكدى الرجل)، أو (أكدى الحافر) أي حفر حتى وصل إلى الكُدْية فيمتنع، ويقال: (كَدِيَتْ يداه): كَلَّتْ وتَعِبَتْ، و (أكدى الرجل): امتنع خيرُه، ويقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(٣٣)وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى(٣٤)﴾ اتفق معه على أن يعطيه مبلغاً من المال، فأعطاه الربع أو الثلث أو النصف ثم توقف ولم يسدد ماعليه مقابل أن يحمل عنه الآخر وزره، (أكدى): امتنع.
﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ هل يرى الغيب رأي عين فيشاهد ويعلم أن الله (تبارك وتعالى) وافق على هذا الاتفاق وضَمِنَ أن ينفذ هذه المعاهده بين ذاك الأحمق وذاك الجاهل؟ ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ يرى أن العذاب الذي سوف يقع به سوف يحمله الآخر؟ هل يضمن أن يَصدُقَ الآخرُ حتى في وعده إن فُرِضَ؟ هل يضمن أن الآخر ينفذ ما وعد به حين يرى العذاب؟ قد يتراجع، هل يمكن أن يحدث هذا؟ ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(٣٦)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(٣٧)﴾ صحف إبراهيم وصحف موسى خُصَّت بالذكر وجاءت في سورة الأعلى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(١٨)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(١٩)﴾ [سورة الأعلى آية: ١٨ - ١٩]، ما الذي في صحف إبراهيم وموسى؟ الذي في صحف إبراهيم وموسى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، جاءت صحف موسى لأن التوراة كانت أشهر في الجزيرة العربية، كانت أشهر من الإنجيل لأن اليهود كانوا مقيمين بالجزيرة العربية والمدينة، والتجارة مع اليهود وما إلى ذلك، فكانت التوراة شهيرة فجاء ذِكر التوراة وذِكر موسى، أما إبراهيم فهو الذي بنى البيت الحرام وكلهم يعرفه، كما أن الناس بين نوح وبين إبراهيم في هذه الفترة كانوا يأخذون الرجل بذنب غيره، فيأخذون الرجل بذنب ابنه وأبيه وأخيه وعمه ووليه وعبده وهكذا، فإذا قتل رجلٌ رجلاً وهرب قتلوا أباه، قتلوا ابنه، قتلوا أخاه، يأخذون الرجل بجريرة غيره، الزوج بالزوجة، والزوجة بالزوج، فربنا (تبارك وتعالى) نهى عن ذلك وأنزل في صحف إبراهيم الحُكم: ألا تزر وازرة وزر أخرى، أي لا يحمل أحد ذنب أحد.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ وقُرِأَت (وَفَى) وقُرِأَت (وَفَّى)، (وفَّى) أي أَتَمّ وقام بما كُلِّفَ به كاملاً وأدّاه على الوجه الأكمل، وربنا تبارك وتعالى يقول في موضع آخر عن الخليل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [سورة البقرة آية: ١٢٤] إذاً فقد أتم إبراهيم ما كُلِّفَ به، وابتُلِيَ إبراهيم بمالم يُبتلى به أحد، ابتُلِيَ بالنار، بالنمرود حين قذفه فيها، ابتُلِيَ بالأب الكافر، ابتُلِيَ بالأمر بذبح الابن الوحيد، ابتُليَ بلاءً شديداً. صحف موسى جاء فيها: ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، نعم! لا تحمل وازرة وزر أخرى، ذاك جاء في صحف إبراهيم وموسى، إذاً فربنا (تبارك وتعالى) ينبئ هذا الذي أعطى قليلا وأكدى أنه مهما فعل وفدى نفسه بمال أو أو أو لا يمكن أن يحمل غيرُه عنه وزرَه، فكل وازرة تحمل وزرها، حتى المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لأن في ذلك اليوم لكل امرئٍ شأن يغنيه، بل يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ليس ببنيه فقط بل وفصيلته التي تؤويه بل من في الأرض جميعاً ثم يُنجِيه، كلا! لا تحمل وازرة وزر أخرى. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا فاطمة سليني من الدنيا ما شئتِ فإني لا أغني عنكِ من الله شيئاً" يقول لعمته: "يا صفية عمة محمد، يا فاطمة ابنة محمد، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً" وقال: "لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". لا تزر وازرة وزر أخرى، فلا يُحَمِّل ربُّنا نفساً ذنبَ نفسٍ أخرى، كل امرئٍ بما كسب رهين، كل نفس بما كسبت رهينة.
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ وذاك موضوع آخر، هل للإنسان ما سعى فقط؟ أم أن للإنسان ما سعى وما سعى له غيره؟ ذاك محتاج لكلام والآراء فيه كثيرة، ولكنا نعتقد أن المؤمن من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) له سعيه وسعيُ من سَعَى له، فدعاؤك لأخيك بظهر الغيب ينفعه، وصَدَقَتُكَ للميت تنفعه، وصلاتك عليه تنفعه، ويُشَفِّعُك ربك في ابنك، ويُشَفِّع ابنك فيك.
كان الناس في الزمن قبل إبراهيم (عليه السلام) ما بين نوح وما بين إبراهيم، يأخذون الرجل بجريرة أخيه، ويأخذون الابن بذنب أبيه، والفترة بين الرسل تجد الناس دائماً وأبداً تبعد عن الأحكام وتنسى، دائماً ما بين الرسل، إذا مات الرسول من الرسل ظل الناس، ظل أصحابه، ظل تابعوه، لكن إذا طال الأمد قَسَتِ القلوب وهذا الذي يحذرنا منه ربنا، لا تكونوا ﴿...كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [سورة الحديد آية: ١٦] البعد عن الرسل أو عن نهضة الرسل أو عن الحياة التي أحيا بها الرسول من الرسل أمته بالشرع وبالاتباع وليس بالابتداع، فإذا انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى إذا بالناس يتباعدون عن الوحي وبركة الوحي ووجود الرسول، وتنتهي الأصحاب وينتهي أيضاً التابعون، ينتهي زمنهم وتبدأ الأمم في التفسخ. وقد نجا نوح ولم ينجُ مع نوح إلا كل مؤمن، ولم يبقَ على الأرض إلا المؤمنين فقط، ومع ذلك تباعدت الفترة ونسوا الشرائع وبدأوا يؤاخذون الناس بغير ذنب، فإذا قتل الرجلُ رجلاً جيء بابنه أو أبيه أو بزوجته وبأخيه واقتُصَّ منهم، فيؤخَذ الرجلُ بذنب زوجته، والعبدُ بذنب سيده، والسيدُ بذنب عبده، واختلطت الأمور.
وجاء إبراهيم ليصحح العقائد، جاء إبراهيم الخليل وجاء معه بالصحف، وفي صحف إبراهيم كان الأساس في التوجيه الرباني للناس (لا تزر وازرة وزر أخرى) نعم! وما ربك بظلام للعبيد، لا يجب أن يحتمل أحدٌ ذنبَ أحد، من هنا حين جاء ذلك الرجل الذي أوشك أن يؤمن بالنبي بعدما سمع القرآن ثم راوده الكفار وراوده جلساء السوء وسألوه أن يكفر و يحملوا وزره ويدفع لهم من المال كذا وكذا، فأعطى قليلا وأكدى، ربنا (تبارك وتعالى) يقول عن هؤلاء: (أفرأيت الذي تولى) والكلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) وفيه التعجيب، يُعَجِّبُه ويُعَجِّب كلَّ من يسمع: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(٣٣)وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى(٣٤)﴾ أي أعطى قليلا من المال الذي شارطه عليه وأكدى؛ امتنع وتوقف.
﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ وَثَقَ من ذلك واطمأنَّ لوفاء صاحبه بوعده؟ أو اطمأن لقبول الله لهذه الصفقة الشيطانية؟ ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(٣٦)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(٣٧)﴾ وجاء ذِكر صحف موسى وصحف إبراهيم، صحف موسى هي التوراة ونزلت مكتوبة وموسى يسمع صرير القلم، نزل في صحف موسى وصحف إبراهيم: (ألا تزر وازرة وزر أخرى)، وربنا (تبارك وتعالى) حين يُثني على عبده فليس بعد ثناء الله ثناء، هو الشكور المطلَق، هاهو يُثنى على إبراهيم فيقول: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ وقُرِأَت (وفَى)، (وفَى): صَدَق في قوله وعمله، (وَفَّى): التوفية من التمام، وذاك يذكرنا بقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [سورة البقرة آية: ١٢٤]، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) من التوفية، من التمام، أدّى ما عليه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، وقيل أنه أدى ما شَارَطَ عليه، أو أدى الشرط حيث قال له الله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ١٣١]، حين قال ﴿أسلمتُ لربِّ العالمين﴾ فما حقيقة الإسلام وما شرطه؟ فابتلاه الله (تبارك وتعالى) في نفسه وماله وأبيه، ابتلاه بالنار، وابتلاه بالنمرود، ابتلاه بالأمر بالذبح لابنه، ابتُلِيَ بتلاءات شديدة جداً فوفَّى وصَدَق وأدَّى ما عليه. ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الوازرة): الحاملة، (الوِزْر): في الأصل الحِمل، الثقل، واستُعير للتعبير عن الذنب الثقيل الذي يؤاخَذ صاحبه بجهنم.
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تَحمِلُ حامِلةٌ حِمْلَ أخرى أياً كان، والكلام عن النفس الإنسانية والنفس البشرية، (فالوِزر): الثقل والحِمل، ومنه (الوزير) ذاك المنصب لأنه يحمل أوزار الرعية وسوف يُسأل عنها يوم القيامة، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالوزير حامل للأوزار إلا من عصم الله. ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لا تحمل نفسٌ إثمَ نفسٍ أخرى، وكل نفس بما كسبت رهينة، والعقوبات في الدنيا لا تنتقل وإنما يُعاقَب المرء على قدر جنايته وجريمته، ولا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدِ أو عقوبةَ أحدٍ. ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(٣٩)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(٤٠)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى(٤١)وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى(٤٢)﴾ [سورة النجم آية: ٣٣- ٤٢] ونتوقف عند هذه الآية (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره ولا يُجزى بعمل غيره، كل نفس مسئولة عن الذنوب وعن الطاعات فلا يُثاب أحدٌ بعمل أحد ولا يُعاقَب أحدٌ بعمل أحد، كل نفس مسئولة عن نفسها، كل إنسان بما كسب رهين (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، لا ينفع أحداً عملُ أحد، هل هي كذلك بالنسبة لأمة محمد (عليه الصلاة والسلام) وقد ورد في السُّنَّة أن الإنسان ينتفع بعمل غيره؟ كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، هذا العمل الذي انقطع يتصل بدعاء الابن الصالح، "ولد صالح يدعو له"، فيستفيد الأب الميت بدعاء الابن الصالح، وهذا ليس من سعيه ولا من عمله، هاهو يأخذ من سعي غيره، "ولد صالح يدعو له."
قالوا في الآية أقوال؛ أول الأقوال قول ابن عباس أن الآية منسوخة والآية التي نسختها قول الله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة الطور آية: ٢١] إذاً فقد شَفَّع الله الآباء في الأبناء وشَفَّع الأبناء في الآباء، ورفع منزلة الأدنى إلى منزلة الأعلى فانتفع الأدنى بسعي الأعلى والآية منسوخة. وقال البعض أبداً الآية ما نُسِخَت إنما الآية مُحكَمَة ولا ينفع أحداً عملُ أحد أبداً، والولد الصالح الذي يدعو قالوا هو من عمل الأب لأنه ربّاه ونَشَّأَه على الطاعة، فالولد الصالح من عمل الأب ولا ينفع أحداً عمل أحدٍ أبداً، حتى أنهم منعوا الحج عن الغير وقالوا لا يجوز الحج عن الغير إلا أن يكون قد مات وأوصى بذلك فيجوز أن يُحَجَّ عنه تنفيذاً للوصية. وقال بعض الناس الآية خاصة بقوم إبراهيم وقوم موسى والكلام عنهم في صحف إبراهيم وصحف موسى (أن ليس اللإنسان إلا ما سعى)، أما أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) فلها ما سعت ولها ما سعى غيرها لها، أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) مفضلة على الأمم ورُفِعَت عنها الآصار التي كانت على الأمم قبلها ولا تحمل مالا طاقة لها به كما حملت الأمم من قبل، فهي أمة خاصة مفضلة، خير الأمم، لها سعيها وسعي غيرها لها.
وقال بعض الناس لو كان الأمر كذلك ما استشهد القرآن بهذه الآيات (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر اخرى وأن ليس اللانسان إلا ما سعى) فإذا كان الكلام لا يعنينا وإنما يعني أمة أخرى فما هي المناسبة التي من أجلها يُستشهَد بهذا الكلام؟ قال بعض الناس إذاً الآية خاصة بالكافر ليست للمسلم (ألا تزر وازرة وزر اخرى) لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدٍ، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، (الإنسان) هنا أي الكافر، ليس له إلا ما سعى: بمعنى إذا كان الكافر في هذه الدنيا مُصلِحاً وعَمِلَ من الصالحات؛ تَصَدَّق أو أحسن أو عَمِلَ صالحاً بغير إيمان لا يُقبَل منه العمل في الآخرة، شرط قبول العمل الإيمان، فإذا عَمِلَ صالحاً ولم يؤمن جوزيَ على عمله الصالح في الدنيا، يوفيهم ربهم (تبارك وتعالى) أجورهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من نصيب، إذاً فالكلام عن سعي الكافر الصالح يُجزى به في الدنيا فقط ولا يُجزى به في الآخرة. وقال بعض الناس: (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي إلا ما نوى وإنما الأعمال بالنيات. وقال بعض الناس (ليس للإنسان إلا ما سعى) باعتبار أنه إذا آمَن فذاك سعيه، فإن سعى غيرُه له نفعه السعي بشرط أن يكون سعيُه وسعيه هو الإيمان، مجرد الإيمان لأن المؤمنون إخوة، فإذا آمنتَ فهذا سعيُك، فإن نفعك أخوك المؤمن فهو سعيُك لأنك آمنتَ والمؤمنون إخوة.
الكلام كثير في هذه الآية، وخير ما يقال فيها و ما نعتقد أنه أرجح الأقوال: اللام (وأن ليس للإنسان) هذه اللام لام الخفض، تُسمَّى لام الجر، لام الخفض في اللغة العربية تفيد المِلك والإيجاب، فإن قلنا: (لفلان كذا) أوجبنا له كذا، أو (لفلان هذه الدار) إذاً فهو ملكه بغير أن تقول هو يملك هذه الدار، يكفي أن تقول: (لفلان دار في بلدة كذا) يعني أنه يملك هذه الدار، وإن قلت: (لفلان على فلان كذا) إذاً فقد أوجبتَ له حقاً، فاللام، لام الخفض، تستخدم للتعبير عن المِلك والإيجاب، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ما يجب للإنسان هو سعيُه فقط، ذاك هو الواجب، ذاك هو العدل، أما الفضل فبأمر الله وبيد الله، فإن عَمِلتَ حسنة وَجَبَت لك حسنة، لك سعيُك، فإن زاد الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف فذاك فضل الله وليس سعيك، والآية تخص الأمة وتخص جميع الأمم، (ليس للإنسان إلا ما سعى) أي ذاك حقه لا يجب له إلا ما يوازي العمل الصالح الذي عمله، أما فضل الله فلا تَحُدُّه الحدود، والدليل على ذلك يشفع النبي (صلى الله عليه وسلم) شفاعة عظمى يوم القيامة، كي يُقضى بين الخلائق، انتفع الخلائق جميعاً بغيرهم، بمحمد (عليه الصلاة والسلام) إذ لولا شفاعته ما نُصِبَ الميزان ولا نُشِرَ الديوان، ثم يشفع لأمته فتُحاسَب أولاً وتدخل الجنة أولاً، ثم يشفع لمن في النار فيخرج أناس من النار إلى الجنة، انتفعوا بشفاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجاب، إذاً فقد انتفعتَ بدعاء غيرك. ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد يوماً فوجد رجلاً يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " إذاً فيستفيد المصلي بأن يصلي معه آخر فيكسب ثواب الجماعة، هو يصلي منفرداً فجاء رجلٌ فصلى خلفه هل حصل على ثواب الجماعة؟ نعم، بمن؟ بغيره.
والولد الصالح يدعو لأبيه، والحج عن الغير ثبت بالسُّنَّة حين سألت امرأة من خثعم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أدرَكَتْ فريضةُ الحج أبي شيخاً كبيراً لا يَثْبُتُ على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم"، إذاً فالحج عن الغير جائز، فيستفيد الميت بحج غيره عنه حج الفريضة. أيضاً سعد بن عبادة حين سأل رسول الله فقال: ماتت أمي يارسول الله أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فما خير الصدقة؟ قال: "سقي الماء" وجيء برجل ميت ليصلي النبي (صلى الله عليه وسلم) عليه صلاة الجنازة فسأل: "أعليه دَين؟ " قيل: نعم، قال: "صلوا على أخيكم"، فقال أبو قتادة: يارسول الله صلِّ عليه، قال: "لا أصلي على من مات مديوناً"، كان ذلك في البداية، فقال: أنا أقضي دينه يارسول الله، قال: "نعم"، فقضى أبو قتادة دَين الرجل فصلى عليه النبي، إذاً فقد انتفع بقضاء الدَّين من غيره، انتفع بعمل غيره. وكذلك من الثابت شرعاً أن الرجل إذا كانت عليه ديون وقضاها غيرُه سقط الحق من عليه وجاز ذلك، إذا كان الرجل عليه تبعات؛ اغتاب رجلاً أو آذى أحداً كان عليه تبعات فتحلل منها فحُلِّل سقطت عنه، ظلمتَ رجلاً فسامحك سقط عنك الوزر، إذاً فقد انتفعتَ بمسامحة غيرك. وسأل رجلٌ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): افتُتِلَت نفس أمي وكنت أظن إذا تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم". وجاء آخر: ماتت أمي وقد نَذَرَتْ صياماً أفأصوم عنها؟ قال: "نعم". فثبت بالسُّنَّة أن الصدقة عن الغير تنفع، والصيام عن الغير ينفع، والحج عن الغير ينفع، وهكذا كثير من الأعمال ثبت نفعها للناس من غير سعيهم. بل وفي القرآن: ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾ [سورة الكهف آية: ٨٢] فانتفع الغلامان بالأب الصالح وليس ذلك من سعيهما.
أطفال المؤمنين، بل الأطفال عموماً الذين لم يبلغوا الحُلُم وماتوا، أين يذهبون؟ إلى الجنة، بأي سعي وبأي عمل؟ ماهو سعيهم الذي أوجب لهم الجنة أو الذي أدخلهم الجنة؟ وقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [سورة الطور آية: ٢١] شَفَّع الآباء في الأبناء فانتفع الأبناء بعمل الآباء، وشَفَّع الأبناء في الآباء فانتفع الآباء بعمل الأبناء، وتشير إلى هذا آية يقول الله فيها: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ [سورة النساء آية: ١١] نعم! فكثير من الأعمال وردت ينتفع الإنسان بسعي غيره. صلاة الجمعة تتم بوجود الجماعة فينتفع الحضور ببعضهم إذ لو انتقص العدد ما صحت الصلاة، وثواب الجماعة، كثير من الأمور تجد أن الإنسان ينتفع بعمل غيره، ولذلك نرى وكما يرى الأئمة من قبلنا وعلى رأسهم الأمام أحمد بن حنبل أن العبد ينتفع بسعي غيره من جميع الأعمال؛ الحج، الصيام، الصدقة، الصلاة، قراءة القرآن، فإن قرأتَ القرآن لأبيك الذي تُوُفِّي وصل ثوابُه إلى الأب، قراءة القرآن حتى للصديق تصل، ثواب قراءة القرآن، الدعاء، الإستغفار للغير، كل ذلك يُجدي وينفع ولا يتعارض مع قول الله (تبارك وتعالى): (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، عدم التعارض لأن الآية فيها اللام (للإنسان)، لام الخفض، توجب المِلك والإيجاب، لا يجب لك إلا سعيك، ذاك حقك، وفضل الله لا أحد يناقش فيه، إذا عملت حسنة حقك حسنة، فإن زادها الله عشر حسنات فهو فَضلُه، إلى سبعمائة ضعف فهو فَضلُه، دعا لك رجل بظهر الغيب وأنت نائم لا تدري وغيرك يدعو لك فاستجاب الله فضل الله، لا يجب ذلك لأنك ليس لك إلا ما سعيت، ذاك هو الواجب، ذاك هو العدل، أما ما سوى ذلك فهو محض فضل من الله.
وقال بعض الناس (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي السيئة والكلام عن السيئات فقط، بمعنى لا تزر وازرة وزر أخرى: لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحد وللإنسان ما سعى، لكل منهم ما سعى في تحصيله من السيئات، فلا يُكتَب عليه إلا السيئة والآية خاصة بالسيئات وليست الآية خاصة بالصالحات أو الحسنات، واستدل القائل بهذا الرأي على رأيه بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله (تبارك وتعالى) يقول: "إذا هَمَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتُها له حسنة، فإن عَمِلَها كتبتُها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هَمَّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتُبْها عليه فإن عَمِلَها كتبْتُها عليه سيئة واحدة". من الكلام أيضاً الواضح في هذا الشأن أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين سَنَّ لنا صلاة الجنازة، مات الميت، فإذا صلى الناس عليه جنازة أينتفع أم لا؟ ينتفع، حتى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من صلى عليه ثلاثة صفوف غُفِرَ له" بل ويقول أيضاً: "من شَهِدَ له جماعة من المسلمين فهو كما شهدوا"، و وَرَدَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجلس يوماً فمرت به جنازة فأثنى الناسُ عليها خيراً؛ ذاك رجل صالح، فقال النبي: "وَجَبَتْ"، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "وَجَبَتْ" فقال عمر: يارسول الله ما وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ قال: "هذه أثنيتم عليها خيراً فوَجَبَتْ لها الجنة وهذه أثنيتم عليها شراً فوَجَبَتْ لها النار، أيما امرئٍ شهد له جماعةٌ من المسلمين فهو كما شهدوا."
فللإنسان ما سعى عدلاً وللإنسان ما سعى له غيره فضلاً من الله، والعبد يتقلب بين العدل والفضل، فليس في هذه الدنيا إلا عدل الله أو فضل الله، وما ربك بظلام للعبيد، إما عدل وإما فضل، فإن أصابتك سراء فبفضل الله، وإن أصابتك ضراء فبعدل الله ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [سورة النساء آية: ٧٩] نعم! وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) إذاً في يوم القيامة يوجد الأشهاد، أيضاً الناس وهم مجتمعون جميعاً منهم الفخور بعمله الحامد لربه، ومنهم الخازي الذي أخزاه الله وفضحه وأهانه، والكل يرى الكل وذلك يوم مشهود، فتجد أصحاب الحسنات والأعمال الصالحة الطيبة يهتفون من أعماقهم فرحين: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية: ١٩]، هاهو يُنادي، أوتيَ كتابَه بيمينه، صحائفه منشورة بريئة من كل عيب، ليس فيها أي ذنب، بيضاء من غير سوء، فهو ينادي: ﴿فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(١٩)إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(٢٠)﴾ [سورة الحاقة آية: ١٩ - ٢٠]. والآخرون حين يُؤتَون كُتُبَهم بشمائلهم أو من وراء ظهورهم يقول أحدهم: ﴿فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(٢٥)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(٢٦)﴾ [سورة الحاقة آية: ٢٥ - ٢٦] نعم! (وأن سعيه سوف يُرى) يراه الله (تبارك وتعالى) ويراه الشهود، وتراه الملائكة، ويراه الناس ويُجزى عليه. ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ جزيتُه الجزاء وجزيتُه بالجزاء سواءً في المعنى، ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾: أي يجزيه الله تبارك وتعالى على عمله بالتمام والكمال، لا تُظلَم نفسٌ شيئاً ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء آية: ٤٧]، نعم! (وأن سعيه سوف يُرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى).
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ نعم! منه المِنَّة وإليه الأمان، مِنَ الله ابتداء المنّة وإلى الله انتهاء الأمان، هناك من الناس من توقف عن هذه الآية ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ من حيث ظاهر اللفظ؛ إليه المرجع وإليه المآب، إليه المصير، إليه تُرجَعون، (المنتهى): النهاية؛ نهاية الدنيا، نهاية العالم، نهاية الإنسان، نهاية العمل فيُجازى عليه، ذاك هو معنى الكلام. وهناك من الناس من توقف عن هذه الآية، معناها يعلمه الله (تبارك وتعالى) حقيقة المعنى يعلمه الله، أما ظاهر اللفظ فيفيد معنى: إليه المرجع وإليه المآب وإليه المصير ثم إليه تُرجَعون، وقُرِأَت (وإنَّ إلى ربك المنتهى) بالقطع عن الكلام السابق وإنشاء كلام جديد.
﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ هل يرى الغيب رأي عين فيشاهد ويعلم أن الله (تبارك وتعالى) وافق على هذا الاتفاق وضَمِنَ أن ينفذ هذه المعاهده بين ذاك الأحمق وذاك الجاهل؟ ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ يرى أن العذاب الذي سوف يقع به سوف يحمله الآخر؟ هل يضمن أن يَصدُقَ الآخرُ حتى في وعده إن فُرِضَ؟ هل يضمن أن الآخر ينفذ ما وعد به حين يرى العذاب؟ قد يتراجع، هل يمكن أن يحدث هذا؟ ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(٣٦)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(٣٧)﴾ صحف إبراهيم وصحف موسى خُصَّت بالذكر وجاءت في سورة الأعلى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(١٨)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(١٩)﴾ [سورة الأعلى آية: ١٨ - ١٩]، ما الذي في صحف إبراهيم وموسى؟ الذي في صحف إبراهيم وموسى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، جاءت صحف موسى لأن التوراة كانت أشهر في الجزيرة العربية، كانت أشهر من الإنجيل لأن اليهود كانوا مقيمين بالجزيرة العربية والمدينة، والتجارة مع اليهود وما إلى ذلك، فكانت التوراة شهيرة فجاء ذِكر التوراة وذِكر موسى، أما إبراهيم فهو الذي بنى البيت الحرام وكلهم يعرفه، كما أن الناس بين نوح وبين إبراهيم في هذه الفترة كانوا يأخذون الرجل بذنب غيره، فيأخذون الرجل بذنب ابنه وأبيه وأخيه وعمه ووليه وعبده وهكذا، فإذا قتل رجلٌ رجلاً وهرب قتلوا أباه، قتلوا ابنه، قتلوا أخاه، يأخذون الرجل بجريرة غيره، الزوج بالزوجة، والزوجة بالزوج، فربنا (تبارك وتعالى) نهى عن ذلك وأنزل في صحف إبراهيم الحُكم: ألا تزر وازرة وزر أخرى، أي لا يحمل أحد ذنب أحد.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ وقُرِأَت (وَفَى) وقُرِأَت (وَفَّى)، (وفَّى) أي أَتَمّ وقام بما كُلِّفَ به كاملاً وأدّاه على الوجه الأكمل، وربنا تبارك وتعالى يقول في موضع آخر عن الخليل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [سورة البقرة آية: ١٢٤] إذاً فقد أتم إبراهيم ما كُلِّفَ به، وابتُلِيَ إبراهيم بمالم يُبتلى به أحد، ابتُلِيَ بالنار، بالنمرود حين قذفه فيها، ابتُلِيَ بالأب الكافر، ابتُلِيَ بالأمر بذبح الابن الوحيد، ابتُليَ بلاءً شديداً. صحف موسى جاء فيها: ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، نعم! لا تحمل وازرة وزر أخرى، ذاك جاء في صحف إبراهيم وموسى، إذاً فربنا (تبارك وتعالى) ينبئ هذا الذي أعطى قليلا وأكدى أنه مهما فعل وفدى نفسه بمال أو أو أو لا يمكن أن يحمل غيرُه عنه وزرَه، فكل وازرة تحمل وزرها، حتى المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لأن في ذلك اليوم لكل امرئٍ شأن يغنيه، بل يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ليس ببنيه فقط بل وفصيلته التي تؤويه بل من في الأرض جميعاً ثم يُنجِيه، كلا! لا تحمل وازرة وزر أخرى. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا فاطمة سليني من الدنيا ما شئتِ فإني لا أغني عنكِ من الله شيئاً" يقول لعمته: "يا صفية عمة محمد، يا فاطمة ابنة محمد، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً" وقال: "لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". لا تزر وازرة وزر أخرى، فلا يُحَمِّل ربُّنا نفساً ذنبَ نفسٍ أخرى، كل امرئٍ بما كسب رهين، كل نفس بما كسبت رهينة.
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ وذاك موضوع آخر، هل للإنسان ما سعى فقط؟ أم أن للإنسان ما سعى وما سعى له غيره؟ ذاك محتاج لكلام والآراء فيه كثيرة، ولكنا نعتقد أن المؤمن من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) له سعيه وسعيُ من سَعَى له، فدعاؤك لأخيك بظهر الغيب ينفعه، وصَدَقَتُكَ للميت تنفعه، وصلاتك عليه تنفعه، ويُشَفِّعُك ربك في ابنك، ويُشَفِّع ابنك فيك.
كان الناس في الزمن قبل إبراهيم (عليه السلام) ما بين نوح وما بين إبراهيم، يأخذون الرجل بجريرة أخيه، ويأخذون الابن بذنب أبيه، والفترة بين الرسل تجد الناس دائماً وأبداً تبعد عن الأحكام وتنسى، دائماً ما بين الرسل، إذا مات الرسول من الرسل ظل الناس، ظل أصحابه، ظل تابعوه، لكن إذا طال الأمد قَسَتِ القلوب وهذا الذي يحذرنا منه ربنا، لا تكونوا ﴿...كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [سورة الحديد آية: ١٦] البعد عن الرسل أو عن نهضة الرسل أو عن الحياة التي أحيا بها الرسول من الرسل أمته بالشرع وبالاتباع وليس بالابتداع، فإذا انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى إذا بالناس يتباعدون عن الوحي وبركة الوحي ووجود الرسول، وتنتهي الأصحاب وينتهي أيضاً التابعون، ينتهي زمنهم وتبدأ الأمم في التفسخ. وقد نجا نوح ولم ينجُ مع نوح إلا كل مؤمن، ولم يبقَ على الأرض إلا المؤمنين فقط، ومع ذلك تباعدت الفترة ونسوا الشرائع وبدأوا يؤاخذون الناس بغير ذنب، فإذا قتل الرجلُ رجلاً جيء بابنه أو أبيه أو بزوجته وبأخيه واقتُصَّ منهم، فيؤخَذ الرجلُ بذنب زوجته، والعبدُ بذنب سيده، والسيدُ بذنب عبده، واختلطت الأمور.
وجاء إبراهيم ليصحح العقائد، جاء إبراهيم الخليل وجاء معه بالصحف، وفي صحف إبراهيم كان الأساس في التوجيه الرباني للناس (لا تزر وازرة وزر أخرى) نعم! وما ربك بظلام للعبيد، لا يجب أن يحتمل أحدٌ ذنبَ أحد، من هنا حين جاء ذلك الرجل الذي أوشك أن يؤمن بالنبي بعدما سمع القرآن ثم راوده الكفار وراوده جلساء السوء وسألوه أن يكفر و يحملوا وزره ويدفع لهم من المال كذا وكذا، فأعطى قليلا وأكدى، ربنا (تبارك وتعالى) يقول عن هؤلاء: (أفرأيت الذي تولى) والكلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) وفيه التعجيب، يُعَجِّبُه ويُعَجِّب كلَّ من يسمع: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(٣٣)وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى(٣٤)﴾ أي أعطى قليلا من المال الذي شارطه عليه وأكدى؛ امتنع وتوقف.
﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ وَثَقَ من ذلك واطمأنَّ لوفاء صاحبه بوعده؟ أو اطمأن لقبول الله لهذه الصفقة الشيطانية؟ ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(٣٦)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(٣٧)﴾ وجاء ذِكر صحف موسى وصحف إبراهيم، صحف موسى هي التوراة ونزلت مكتوبة وموسى يسمع صرير القلم، نزل في صحف موسى وصحف إبراهيم: (ألا تزر وازرة وزر أخرى)، وربنا (تبارك وتعالى) حين يُثني على عبده فليس بعد ثناء الله ثناء، هو الشكور المطلَق، هاهو يُثنى على إبراهيم فيقول: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ وقُرِأَت (وفَى)، (وفَى): صَدَق في قوله وعمله، (وَفَّى): التوفية من التمام، وذاك يذكرنا بقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [سورة البقرة آية: ١٢٤]، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) من التوفية، من التمام، أدّى ما عليه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، وقيل أنه أدى ما شَارَطَ عليه، أو أدى الشرط حيث قال له الله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ١٣١]، حين قال ﴿أسلمتُ لربِّ العالمين﴾ فما حقيقة الإسلام وما شرطه؟ فابتلاه الله (تبارك وتعالى) في نفسه وماله وأبيه، ابتلاه بالنار، وابتلاه بالنمرود، ابتلاه بالأمر بالذبح لابنه، ابتُلِيَ بتلاءات شديدة جداً فوفَّى وصَدَق وأدَّى ما عليه. ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الوازرة): الحاملة، (الوِزْر): في الأصل الحِمل، الثقل، واستُعير للتعبير عن الذنب الثقيل الذي يؤاخَذ صاحبه بجهنم.
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تَحمِلُ حامِلةٌ حِمْلَ أخرى أياً كان، والكلام عن النفس الإنسانية والنفس البشرية، (فالوِزر): الثقل والحِمل، ومنه (الوزير) ذاك المنصب لأنه يحمل أوزار الرعية وسوف يُسأل عنها يوم القيامة، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالوزير حامل للأوزار إلا من عصم الله. ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لا تحمل نفسٌ إثمَ نفسٍ أخرى، وكل نفس بما كسبت رهينة، والعقوبات في الدنيا لا تنتقل وإنما يُعاقَب المرء على قدر جنايته وجريمته، ولا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدِ أو عقوبةَ أحدٍ. ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(٣٩)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(٤٠)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى(٤١)وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى(٤٢)﴾ [سورة النجم آية: ٣٣- ٤٢] ونتوقف عند هذه الآية (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره ولا يُجزى بعمل غيره، كل نفس مسئولة عن الذنوب وعن الطاعات فلا يُثاب أحدٌ بعمل أحد ولا يُعاقَب أحدٌ بعمل أحد، كل نفس مسئولة عن نفسها، كل إنسان بما كسب رهين (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، لا ينفع أحداً عملُ أحد، هل هي كذلك بالنسبة لأمة محمد (عليه الصلاة والسلام) وقد ورد في السُّنَّة أن الإنسان ينتفع بعمل غيره؟ كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، هذا العمل الذي انقطع يتصل بدعاء الابن الصالح، "ولد صالح يدعو له"، فيستفيد الأب الميت بدعاء الابن الصالح، وهذا ليس من سعيه ولا من عمله، هاهو يأخذ من سعي غيره، "ولد صالح يدعو له."
قالوا في الآية أقوال؛ أول الأقوال قول ابن عباس أن الآية منسوخة والآية التي نسختها قول الله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة الطور آية: ٢١] إذاً فقد شَفَّع الله الآباء في الأبناء وشَفَّع الأبناء في الآباء، ورفع منزلة الأدنى إلى منزلة الأعلى فانتفع الأدنى بسعي الأعلى والآية منسوخة. وقال البعض أبداً الآية ما نُسِخَت إنما الآية مُحكَمَة ولا ينفع أحداً عملُ أحد أبداً، والولد الصالح الذي يدعو قالوا هو من عمل الأب لأنه ربّاه ونَشَّأَه على الطاعة، فالولد الصالح من عمل الأب ولا ينفع أحداً عمل أحدٍ أبداً، حتى أنهم منعوا الحج عن الغير وقالوا لا يجوز الحج عن الغير إلا أن يكون قد مات وأوصى بذلك فيجوز أن يُحَجَّ عنه تنفيذاً للوصية. وقال بعض الناس الآية خاصة بقوم إبراهيم وقوم موسى والكلام عنهم في صحف إبراهيم وصحف موسى (أن ليس اللإنسان إلا ما سعى)، أما أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) فلها ما سعت ولها ما سعى غيرها لها، أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) مفضلة على الأمم ورُفِعَت عنها الآصار التي كانت على الأمم قبلها ولا تحمل مالا طاقة لها به كما حملت الأمم من قبل، فهي أمة خاصة مفضلة، خير الأمم، لها سعيها وسعي غيرها لها.
وقال بعض الناس لو كان الأمر كذلك ما استشهد القرآن بهذه الآيات (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر اخرى وأن ليس اللانسان إلا ما سعى) فإذا كان الكلام لا يعنينا وإنما يعني أمة أخرى فما هي المناسبة التي من أجلها يُستشهَد بهذا الكلام؟ قال بعض الناس إذاً الآية خاصة بالكافر ليست للمسلم (ألا تزر وازرة وزر اخرى) لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدٍ، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، (الإنسان) هنا أي الكافر، ليس له إلا ما سعى: بمعنى إذا كان الكافر في هذه الدنيا مُصلِحاً وعَمِلَ من الصالحات؛ تَصَدَّق أو أحسن أو عَمِلَ صالحاً بغير إيمان لا يُقبَل منه العمل في الآخرة، شرط قبول العمل الإيمان، فإذا عَمِلَ صالحاً ولم يؤمن جوزيَ على عمله الصالح في الدنيا، يوفيهم ربهم (تبارك وتعالى) أجورهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من نصيب، إذاً فالكلام عن سعي الكافر الصالح يُجزى به في الدنيا فقط ولا يُجزى به في الآخرة. وقال بعض الناس: (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي إلا ما نوى وإنما الأعمال بالنيات. وقال بعض الناس (ليس للإنسان إلا ما سعى) باعتبار أنه إذا آمَن فذاك سعيه، فإن سعى غيرُه له نفعه السعي بشرط أن يكون سعيُه وسعيه هو الإيمان، مجرد الإيمان لأن المؤمنون إخوة، فإذا آمنتَ فهذا سعيُك، فإن نفعك أخوك المؤمن فهو سعيُك لأنك آمنتَ والمؤمنون إخوة.
الكلام كثير في هذه الآية، وخير ما يقال فيها و ما نعتقد أنه أرجح الأقوال: اللام (وأن ليس للإنسان) هذه اللام لام الخفض، تُسمَّى لام الجر، لام الخفض في اللغة العربية تفيد المِلك والإيجاب، فإن قلنا: (لفلان كذا) أوجبنا له كذا، أو (لفلان هذه الدار) إذاً فهو ملكه بغير أن تقول هو يملك هذه الدار، يكفي أن تقول: (لفلان دار في بلدة كذا) يعني أنه يملك هذه الدار، وإن قلت: (لفلان على فلان كذا) إذاً فقد أوجبتَ له حقاً، فاللام، لام الخفض، تستخدم للتعبير عن المِلك والإيجاب، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ما يجب للإنسان هو سعيُه فقط، ذاك هو الواجب، ذاك هو العدل، أما الفضل فبأمر الله وبيد الله، فإن عَمِلتَ حسنة وَجَبَت لك حسنة، لك سعيُك، فإن زاد الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف فذاك فضل الله وليس سعيك، والآية تخص الأمة وتخص جميع الأمم، (ليس للإنسان إلا ما سعى) أي ذاك حقه لا يجب له إلا ما يوازي العمل الصالح الذي عمله، أما فضل الله فلا تَحُدُّه الحدود، والدليل على ذلك يشفع النبي (صلى الله عليه وسلم) شفاعة عظمى يوم القيامة، كي يُقضى بين الخلائق، انتفع الخلائق جميعاً بغيرهم، بمحمد (عليه الصلاة والسلام) إذ لولا شفاعته ما نُصِبَ الميزان ولا نُشِرَ الديوان، ثم يشفع لأمته فتُحاسَب أولاً وتدخل الجنة أولاً، ثم يشفع لمن في النار فيخرج أناس من النار إلى الجنة، انتفعوا بشفاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجاب، إذاً فقد انتفعتَ بدعاء غيرك. ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد يوماً فوجد رجلاً يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " إذاً فيستفيد المصلي بأن يصلي معه آخر فيكسب ثواب الجماعة، هو يصلي منفرداً فجاء رجلٌ فصلى خلفه هل حصل على ثواب الجماعة؟ نعم، بمن؟ بغيره.
والولد الصالح يدعو لأبيه، والحج عن الغير ثبت بالسُّنَّة حين سألت امرأة من خثعم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أدرَكَتْ فريضةُ الحج أبي شيخاً كبيراً لا يَثْبُتُ على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم"، إذاً فالحج عن الغير جائز، فيستفيد الميت بحج غيره عنه حج الفريضة. أيضاً سعد بن عبادة حين سأل رسول الله فقال: ماتت أمي يارسول الله أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فما خير الصدقة؟ قال: "سقي الماء" وجيء برجل ميت ليصلي النبي (صلى الله عليه وسلم) عليه صلاة الجنازة فسأل: "أعليه دَين؟ " قيل: نعم، قال: "صلوا على أخيكم"، فقال أبو قتادة: يارسول الله صلِّ عليه، قال: "لا أصلي على من مات مديوناً"، كان ذلك في البداية، فقال: أنا أقضي دينه يارسول الله، قال: "نعم"، فقضى أبو قتادة دَين الرجل فصلى عليه النبي، إذاً فقد انتفع بقضاء الدَّين من غيره، انتفع بعمل غيره. وكذلك من الثابت شرعاً أن الرجل إذا كانت عليه ديون وقضاها غيرُه سقط الحق من عليه وجاز ذلك، إذا كان الرجل عليه تبعات؛ اغتاب رجلاً أو آذى أحداً كان عليه تبعات فتحلل منها فحُلِّل سقطت عنه، ظلمتَ رجلاً فسامحك سقط عنك الوزر، إذاً فقد انتفعتَ بمسامحة غيرك. وسأل رجلٌ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): افتُتِلَت نفس أمي وكنت أظن إذا تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم". وجاء آخر: ماتت أمي وقد نَذَرَتْ صياماً أفأصوم عنها؟ قال: "نعم". فثبت بالسُّنَّة أن الصدقة عن الغير تنفع، والصيام عن الغير ينفع، والحج عن الغير ينفع، وهكذا كثير من الأعمال ثبت نفعها للناس من غير سعيهم. بل وفي القرآن: ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾ [سورة الكهف آية: ٨٢] فانتفع الغلامان بالأب الصالح وليس ذلك من سعيهما.
أطفال المؤمنين، بل الأطفال عموماً الذين لم يبلغوا الحُلُم وماتوا، أين يذهبون؟ إلى الجنة، بأي سعي وبأي عمل؟ ماهو سعيهم الذي أوجب لهم الجنة أو الذي أدخلهم الجنة؟ وقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [سورة الطور آية: ٢١] شَفَّع الآباء في الأبناء فانتفع الأبناء بعمل الآباء، وشَفَّع الأبناء في الآباء فانتفع الآباء بعمل الأبناء، وتشير إلى هذا آية يقول الله فيها: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ [سورة النساء آية: ١١] نعم! فكثير من الأعمال وردت ينتفع الإنسان بسعي غيره. صلاة الجمعة تتم بوجود الجماعة فينتفع الحضور ببعضهم إذ لو انتقص العدد ما صحت الصلاة، وثواب الجماعة، كثير من الأمور تجد أن الإنسان ينتفع بعمل غيره، ولذلك نرى وكما يرى الأئمة من قبلنا وعلى رأسهم الأمام أحمد بن حنبل أن العبد ينتفع بسعي غيره من جميع الأعمال؛ الحج، الصيام، الصدقة، الصلاة، قراءة القرآن، فإن قرأتَ القرآن لأبيك الذي تُوُفِّي وصل ثوابُه إلى الأب، قراءة القرآن حتى للصديق تصل، ثواب قراءة القرآن، الدعاء، الإستغفار للغير، كل ذلك يُجدي وينفع ولا يتعارض مع قول الله (تبارك وتعالى): (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، عدم التعارض لأن الآية فيها اللام (للإنسان)، لام الخفض، توجب المِلك والإيجاب، لا يجب لك إلا سعيك، ذاك حقك، وفضل الله لا أحد يناقش فيه، إذا عملت حسنة حقك حسنة، فإن زادها الله عشر حسنات فهو فَضلُه، إلى سبعمائة ضعف فهو فَضلُه، دعا لك رجل بظهر الغيب وأنت نائم لا تدري وغيرك يدعو لك فاستجاب الله فضل الله، لا يجب ذلك لأنك ليس لك إلا ما سعيت، ذاك هو الواجب، ذاك هو العدل، أما ما سوى ذلك فهو محض فضل من الله.
وقال بعض الناس (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي السيئة والكلام عن السيئات فقط، بمعنى لا تزر وازرة وزر أخرى: لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحد وللإنسان ما سعى، لكل منهم ما سعى في تحصيله من السيئات، فلا يُكتَب عليه إلا السيئة والآية خاصة بالسيئات وليست الآية خاصة بالصالحات أو الحسنات، واستدل القائل بهذا الرأي على رأيه بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله (تبارك وتعالى) يقول: "إذا هَمَّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتُها له حسنة، فإن عَمِلَها كتبتُها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هَمَّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتُبْها عليه فإن عَمِلَها كتبْتُها عليه سيئة واحدة". من الكلام أيضاً الواضح في هذا الشأن أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين سَنَّ لنا صلاة الجنازة، مات الميت، فإذا صلى الناس عليه جنازة أينتفع أم لا؟ ينتفع، حتى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من صلى عليه ثلاثة صفوف غُفِرَ له" بل ويقول أيضاً: "من شَهِدَ له جماعة من المسلمين فهو كما شهدوا"، و وَرَدَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجلس يوماً فمرت به جنازة فأثنى الناسُ عليها خيراً؛ ذاك رجل صالح، فقال النبي: "وَجَبَتْ"، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "وَجَبَتْ" فقال عمر: يارسول الله ما وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ قال: "هذه أثنيتم عليها خيراً فوَجَبَتْ لها الجنة وهذه أثنيتم عليها شراً فوَجَبَتْ لها النار، أيما امرئٍ شهد له جماعةٌ من المسلمين فهو كما شهدوا."
فللإنسان ما سعى عدلاً وللإنسان ما سعى له غيره فضلاً من الله، والعبد يتقلب بين العدل والفضل، فليس في هذه الدنيا إلا عدل الله أو فضل الله، وما ربك بظلام للعبيد، إما عدل وإما فضل، فإن أصابتك سراء فبفضل الله، وإن أصابتك ضراء فبعدل الله ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [سورة النساء آية: ٧٩] نعم! وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) إذاً في يوم القيامة يوجد الأشهاد، أيضاً الناس وهم مجتمعون جميعاً منهم الفخور بعمله الحامد لربه، ومنهم الخازي الذي أخزاه الله وفضحه وأهانه، والكل يرى الكل وذلك يوم مشهود، فتجد أصحاب الحسنات والأعمال الصالحة الطيبة يهتفون من أعماقهم فرحين: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية: ١٩]، هاهو يُنادي، أوتيَ كتابَه بيمينه، صحائفه منشورة بريئة من كل عيب، ليس فيها أي ذنب، بيضاء من غير سوء، فهو ينادي: ﴿فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(١٩)إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(٢٠)﴾ [سورة الحاقة آية: ١٩ - ٢٠]. والآخرون حين يُؤتَون كُتُبَهم بشمائلهم أو من وراء ظهورهم يقول أحدهم: ﴿فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(٢٥)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(٢٦)﴾ [سورة الحاقة آية: ٢٥ - ٢٦] نعم! (وأن سعيه سوف يُرى) يراه الله (تبارك وتعالى) ويراه الشهود، وتراه الملائكة، ويراه الناس ويُجزى عليه. ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ جزيتُه الجزاء وجزيتُه بالجزاء سواءً في المعنى، ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾: أي يجزيه الله تبارك وتعالى على عمله بالتمام والكمال، لا تُظلَم نفسٌ شيئاً ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء آية: ٤٧]، نعم! (وأن سعيه سوف يُرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى).
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ نعم! منه المِنَّة وإليه الأمان، مِنَ الله ابتداء المنّة وإلى الله انتهاء الأمان، هناك من الناس من توقف عن هذه الآية ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ من حيث ظاهر اللفظ؛ إليه المرجع وإليه المآب، إليه المصير، إليه تُرجَعون، (المنتهى): النهاية؛ نهاية الدنيا، نهاية العالم، نهاية الإنسان، نهاية العمل فيُجازى عليه، ذاك هو معنى الكلام. وهناك من الناس من توقف عن هذه الآية، معناها يعلمه الله (تبارك وتعالى) حقيقة المعنى يعلمه الله، أما ظاهر اللفظ فيفيد معنى: إليه المرجع وإليه المآب وإليه المصير ثم إليه تُرجَعون، وقُرِأَت (وإنَّ إلى ربك المنتهى) بالقطع عن الكلام السابق وإنشاء كلام جديد.
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴿43﴾
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴿44﴾
تلاشت الوسائط وبقيت الحقائق، لا فَعَّال إلا الله، وأنه هو أضحك وأبكى، هو فَعَّال لما يريد، أضحك وأبكى، أسباب الفرح في الدنيا وأسباب الغم، أَفْرَحَ هذا فَأَضْحَكَه وغَمَّ هذا فَأَحْزَنَه وأبكاه. قالوا ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ أَضْحَكَ في الآخرة وأَبْكى في الآخرة، ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(٣٤)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(٣٥)هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(٣٦)﴾ [سورة المطففين آية: ٣٤ - ٣٦]. قالوا (أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أَضْحَكَ السِّنَّ وأَبْكى القلبَ. (أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أَضْحَكَ الأرضَ بالنبات وأَبْكى السماءَ بالمطر. ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ أَضْحَكَ قلوبَ العارفين بشمس معرفته وأَبْكى قلوبَ الكافرين بشؤم معصيتهم. ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ أَضْحَكَ في الدنيا الكفارَ وأبكاهم في الآخرة. (أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أسباب الفرح وأسباب الحزن. ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ نرى منها بعض المعاني من حيث وقائع حدثت، تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها) فيما يرويه عنها صحيح مسلم تقول: "لا واللهِ ما قال رسول الله قط أن الميت يعذب ببكاء أحد وإنما قال إن الكافر يزيده الله عذاباً ببكاء أهله، واللهُ أَضْحَكَ وأَبْكى ولاتزر وازرة وزر أخرى". وتروي لنا أيضاً فتقول: مَرَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قوم من أصحابه وهم يتضاحكون فقال: "لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فنزل عليه جبريل قال: يا محمد إن الله يقول لك (وأنه هو أضحك وأبكى)، فرجع النبي إلى أصحابه وقال: "ما مشيت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال لي: يا محمد إيتِ هؤلاء فقل لهم أن الله هو أضحك وأبكى"، الضحك والبكاء من الله كأسباب، أسباب فرح فتجعلك تضحك، الأسباب خلقها الله وساقها إليك، وأسباب تجعلك تحزن، خالق الأسباب هو الله.
أو نفس الضحك ونفس البكاء من فِعلِ الله تبارك وتعالى، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يضحك ويبكي، وقال بعض العلماء: القرود تضحك فقط والإبل تبكي فقط، ولكن ما وُجِدَ مخلوق يضحك ويبكي إلا الإنسان، والله (تبارك وتعالى) أضحكه وأبكاه، الضحك والبكاء من الله (تبارك وتعالى) كأسباب بل وكأفعال، ومن هنا يتبين لك أن الحقائق الواضحة هي أن الله (تبارك وتعالى) هو خالق الأفعال وهو الفَعَّال لما يريد، خلقكم وما تعملون، ولكن الإنسان نُهيَ عن التضاحك بصوت عالٍ كالقهقهة وما إلى ذلك، والبكاء مفيد لأنه يذكّر الإنسان بالله (تبارك وتعالى) ويُظهِر الإنسان به الخشوع ويُظهر الإنسان به الخوف من الله، والدموع تغسل الذنوب والنبي (صلى الله عليه وسلم) يتكلم عن عين ضِمْنَ عينين لا تمسها النار أبداً وهي عينٌ بكت من خشية الله، ويحدثنا عن الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه فأظله الله بظل عرشه، بل ويُروى لنا أن جبريل نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) فوجد عنده رجلاً يبكي فقال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا فلان"، قال: إنا أُمِرنا أن نزن أعمال ابن آدم كلها إلا البكاء فإن الله (تبارك وتعالى) يطفئ بالدمعة الواحدة بحوراً من جهنم. نعم! ما بكى عبدٌ مرة في عمره من خشية الله ودخل النار أبداً، ولذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يلج الجنة مُصِرٌّ على معصية الله."
إن الله (تبارك وتعالى) هو أمات وأحيا، الحياة سر ولكنا نراها متمثلة في أنفسنا وفي الناس، في الحركة وفي السكون، في نمو النبات؛ نرى النبات ينمو ويزهو ويخضر. لكن الموت سره أعظم، فنحن لم نجربه، ونحن نرى الناس يتحدثون ويتكلمون ويذهبون ويجيئون وفجأة يصمتون وبلا حراك، وفجأة نحملهم على الأعناق وقد كانوا ملء البصر والعين، نمشي بهم سراعاً ثم نضعهم في حفرة وإذا بالتراب يُهال عليهم، لا فرق بين أمير وخفير وغني وفقير، الكل في حفرة والتراب يُهال على الجميع، سر غريب! أُمِرنا أن نؤمن بما وراء الموت من سؤال الملكين في القبر ومن فتنة القبر، وأُمِرنا أن نؤمن أن القبر إما حفرة من حُفَرِ النار وإما روضة من رياض الجنة. ورأينا للموت أسباباً ورأينا للحياة أسباباً، رأينا للموت أسباب من المرض، من الحوادث، من القتل، ورأينا للحياة كذلك أن يروي الرجلُ أرضَه فتنبت وتزهو، أن يتزوج الرجل بامرأة فتحمل، أن تلد جنيناً ويُحمل ويُسَمَّى وما إلى ذلك.
لكن الأسباب قد تُعمي الغافلين عن رب الأسباب، فقد كان الله (تبارك وتعالى) ولم يكن شيء غيره، الله! وبعد ذلك خلق ربنا (تبارك وتعالى) الأسباب وخلق المسببات، وربط بين الأسباب والمسببات وإن شاء لغي الأسباب، ولذا تجد في الدنيا الأسباب، لكل شيء سبب، لكن الله (تبارك وتعالى) يخرق السُّنَّة التي هو واضعها ويأتي بالأشياء بغير أسباب، ويأتي بالأشياء بعكس أسبابها ليبين للناس أنه هو الله! فنجد أن إبراهيم قُذِفَ في النار فكانت النار بَرْدَاً عليه وسلاماً، شيء خارق مخالف لطبيعة النار، ونرى موسى يضرب البحر بعصاه فينفلق فإذا كل فِرْقٍ كالطود العظيم، شيء مخالف لسُنَّة المياه، المياه سُنَّتُها الميوعة، السيولة، الجريان، أما أن يقف الماء كالطود الشامخ، كالجبل، كالصخر، أمر مخالف، هو الله! يدلل بهذا على صدق أنبيائه ورسله، يؤيدهم بالمعجزات ويبين للعارفين والمتأملين والمؤمنين أن الله (تبارك وتعالى) هو رب الأسباب. ولذلك إذا سمعت عن أوصاف الجنة لوجدت أن الفارق الجوهري بين الجنة وبين الدنيا هو الأسباب، الدنيا أسباب ومسببات، الجنة مسببات بلا أسباب فأنت لا تزرع ولا تحصد، وقطوفها دانية، وأنت لا تجوع ولا تعرى ولا تظمأ ولا تضحى، في الجنة لا أسباب، تلبس الحرير والسندس وتُحَلَّى بالأساور من فضة ومن الذهب، أنت تأكل ولا تشبع ولكنك لا تجوع، وتشرب ولا تعطش ولكنك تُروى، وتتزوج ولكنك لا تُنجِب، وكل شيء في الجنة بلا سبب، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، لأن الله (تبارك وتعالى) الذي خلق الأسباب ألغى الأسباب في الجنة. من هنا يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) للناس أن الأسباب وسائط ولا تُغني عن الحقائق، هذه الوسائط ما هي إلا ربط بين السبب والمسبب، هذه الوسائط يختبر ربنا تبارك وتعالى بها الناس، فمن وقف عند حدود الوسيلة غفل عن الغاية، ومن تجاوز ببصره وبصيرته الوسيلة وصل إلى المقصد والغاية.
فأنت إذا جاءك الرزق ونظرتَ إلى الرزق، ونظرتَ إلى جهدك وكسبك وعملك وكَدِّك، نظرتَ إلى السبب وغفلتَ عن المسبِّب، وإذا كنت من ذوي البصائر تجاوزت الأسباب وتجاوزت النعمة ورأيت يدَ المنعِم ممتدة إليك بالنعمة، لو نظرت إلى كل شيء حولك لرأيت الله في كل شيء، آثار ذاته وأنوار صفاته في كل شيء، هو الله! من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) منبهاً ومُسقِطاً للوسائط ومُبقياً للحقائق، هو الفَعَّال لما يريد:
أو نفس الضحك ونفس البكاء من فِعلِ الله تبارك وتعالى، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يضحك ويبكي، وقال بعض العلماء: القرود تضحك فقط والإبل تبكي فقط، ولكن ما وُجِدَ مخلوق يضحك ويبكي إلا الإنسان، والله (تبارك وتعالى) أضحكه وأبكاه، الضحك والبكاء من الله (تبارك وتعالى) كأسباب بل وكأفعال، ومن هنا يتبين لك أن الحقائق الواضحة هي أن الله (تبارك وتعالى) هو خالق الأفعال وهو الفَعَّال لما يريد، خلقكم وما تعملون، ولكن الإنسان نُهيَ عن التضاحك بصوت عالٍ كالقهقهة وما إلى ذلك، والبكاء مفيد لأنه يذكّر الإنسان بالله (تبارك وتعالى) ويُظهِر الإنسان به الخشوع ويُظهر الإنسان به الخوف من الله، والدموع تغسل الذنوب والنبي (صلى الله عليه وسلم) يتكلم عن عين ضِمْنَ عينين لا تمسها النار أبداً وهي عينٌ بكت من خشية الله، ويحدثنا عن الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه فأظله الله بظل عرشه، بل ويُروى لنا أن جبريل نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) فوجد عنده رجلاً يبكي فقال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا فلان"، قال: إنا أُمِرنا أن نزن أعمال ابن آدم كلها إلا البكاء فإن الله (تبارك وتعالى) يطفئ بالدمعة الواحدة بحوراً من جهنم. نعم! ما بكى عبدٌ مرة في عمره من خشية الله ودخل النار أبداً، ولذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يلج الجنة مُصِرٌّ على معصية الله."
إن الله (تبارك وتعالى) هو أمات وأحيا، الحياة سر ولكنا نراها متمثلة في أنفسنا وفي الناس، في الحركة وفي السكون، في نمو النبات؛ نرى النبات ينمو ويزهو ويخضر. لكن الموت سره أعظم، فنحن لم نجربه، ونحن نرى الناس يتحدثون ويتكلمون ويذهبون ويجيئون وفجأة يصمتون وبلا حراك، وفجأة نحملهم على الأعناق وقد كانوا ملء البصر والعين، نمشي بهم سراعاً ثم نضعهم في حفرة وإذا بالتراب يُهال عليهم، لا فرق بين أمير وخفير وغني وفقير، الكل في حفرة والتراب يُهال على الجميع، سر غريب! أُمِرنا أن نؤمن بما وراء الموت من سؤال الملكين في القبر ومن فتنة القبر، وأُمِرنا أن نؤمن أن القبر إما حفرة من حُفَرِ النار وإما روضة من رياض الجنة. ورأينا للموت أسباباً ورأينا للحياة أسباباً، رأينا للموت أسباب من المرض، من الحوادث، من القتل، ورأينا للحياة كذلك أن يروي الرجلُ أرضَه فتنبت وتزهو، أن يتزوج الرجل بامرأة فتحمل، أن تلد جنيناً ويُحمل ويُسَمَّى وما إلى ذلك.
لكن الأسباب قد تُعمي الغافلين عن رب الأسباب، فقد كان الله (تبارك وتعالى) ولم يكن شيء غيره، الله! وبعد ذلك خلق ربنا (تبارك وتعالى) الأسباب وخلق المسببات، وربط بين الأسباب والمسببات وإن شاء لغي الأسباب، ولذا تجد في الدنيا الأسباب، لكل شيء سبب، لكن الله (تبارك وتعالى) يخرق السُّنَّة التي هو واضعها ويأتي بالأشياء بغير أسباب، ويأتي بالأشياء بعكس أسبابها ليبين للناس أنه هو الله! فنجد أن إبراهيم قُذِفَ في النار فكانت النار بَرْدَاً عليه وسلاماً، شيء خارق مخالف لطبيعة النار، ونرى موسى يضرب البحر بعصاه فينفلق فإذا كل فِرْقٍ كالطود العظيم، شيء مخالف لسُنَّة المياه، المياه سُنَّتُها الميوعة، السيولة، الجريان، أما أن يقف الماء كالطود الشامخ، كالجبل، كالصخر، أمر مخالف، هو الله! يدلل بهذا على صدق أنبيائه ورسله، يؤيدهم بالمعجزات ويبين للعارفين والمتأملين والمؤمنين أن الله (تبارك وتعالى) هو رب الأسباب. ولذلك إذا سمعت عن أوصاف الجنة لوجدت أن الفارق الجوهري بين الجنة وبين الدنيا هو الأسباب، الدنيا أسباب ومسببات، الجنة مسببات بلا أسباب فأنت لا تزرع ولا تحصد، وقطوفها دانية، وأنت لا تجوع ولا تعرى ولا تظمأ ولا تضحى، في الجنة لا أسباب، تلبس الحرير والسندس وتُحَلَّى بالأساور من فضة ومن الذهب، أنت تأكل ولا تشبع ولكنك لا تجوع، وتشرب ولا تعطش ولكنك تُروى، وتتزوج ولكنك لا تُنجِب، وكل شيء في الجنة بلا سبب، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، لأن الله (تبارك وتعالى) الذي خلق الأسباب ألغى الأسباب في الجنة. من هنا يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) للناس أن الأسباب وسائط ولا تُغني عن الحقائق، هذه الوسائط ما هي إلا ربط بين السبب والمسبب، هذه الوسائط يختبر ربنا تبارك وتعالى بها الناس، فمن وقف عند حدود الوسيلة غفل عن الغاية، ومن تجاوز ببصره وبصيرته الوسيلة وصل إلى المقصد والغاية.
فأنت إذا جاءك الرزق ونظرتَ إلى الرزق، ونظرتَ إلى جهدك وكسبك وعملك وكَدِّك، نظرتَ إلى السبب وغفلتَ عن المسبِّب، وإذا كنت من ذوي البصائر تجاوزت الأسباب وتجاوزت النعمة ورأيت يدَ المنعِم ممتدة إليك بالنعمة، لو نظرت إلى كل شيء حولك لرأيت الله في كل شيء، آثار ذاته وأنوار صفاته في كل شيء، هو الله! من هنا يقول الله (تبارك وتعالى) منبهاً ومُسقِطاً للوسائط ومُبقياً للحقائق، هو الفَعَّال لما يريد:
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴿43﴾
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴿44﴾
وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰ ﴿45﴾
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ﴿46﴾
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْأُخْرَىٰ ﴿47﴾
وَأَنَّهُۥ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ﴿48﴾
وَأَنَّهُۥ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ ﴿49﴾
الضحك والبكاء تكلمنا عنه، هو المُضحِك وهو المُبكي بالأسباب وبغير أسباب. الموت والحياة؛ ربنا (تبارك وتعالى) يقول إنه خلق الموت والحياة ليبلونا، والموت مخلوق والحياة مخلوقة، والحياة سِرٌّ، وسِرُّ الحياة وجود الروح في الجسد، وهذا الروح من أَمْرِ ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، واتصال الروح بالجسد أَمْرٌ لا يقوى عليه إلا الله، وانفصال الروح عن الجسد أَمْرٌ لا يقدر عليه إلا الله، فما بال القاتل والمقتول؟ القاتل إذا ضَرَبَ بسيف أو برمح أو بآلة أو بأي شيء، إذا ضرب أتلف البدن، نَقَضَ البُنية، هَدَمَ البناء، أما المميت هو الله، بدليل أنك ترى الرجل قد صُدِمَ صدمة شديدة بسيارة مسرعة ومات في التو واللحظة، والآخر صُدِمَ وحُمِلَ إلى دار الاستشفاء ونجا، لِمَ نجا هذا ولِمَ هلك هذا؟ لأن الله هو المميت، هو الذي يُميت، أنت تَقتُل وتَضرِب وتُصيب، أنت تُتلِف البُنية، البدن فقط، أما فَصْلُ الروح عن ذاك البدن فذاك عمل الله.
من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): (وأنه هو أمات وأحيا)، وجاء بالموت قبل الحياة لأن الموت سابق على الحياة، فقد كان الله الحي المطلق ولم يكن هناك شيء، كان هناك الموات والعدم فجاء بالناس فأحياهم، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٨]، سَبَقَ الموتُ الحياةَ، فقد كانت الحياة عَدَم وكان الناس أموات فأحياهم ربنا تبارك وتعالى، والموت أصل والحياة عارض، فالكون عَدَم وليس هناك إلا الله، والله هو الحق وكل ما خلا اللهَ باطل، من هنا كان الأصل الموت، هذه الحياة التي نَنْعَم بها مِنَّة وفضل وإحسان من الله، وما كانت الحياة واجبة على الله، ولا إيجاد الخلق واجب على الله وإنما هو مَنٌّ وفضل وإحسان، هو أمات وأحيا قبل الإنشاء، ثم أحيا الناس، ثم يُميتُ الناس، ثم يبعثهم إلى يوم القيامة، أمات الأرض وأحياها ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [سورة الروم آية: ٥٠] إذاً هو المميت والمحيي للأرض، أيضاً الأرض تموت وتحيا بالزرع والنبات. (أمات وأحيا) أَنامَ وأَيقَظَ، فالنوم شبيه الموت وصِنوُه، واليقظة كذلك شبيهة الحياة، وربنا يقول: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٥٩]، أي أَنامَه، وأهل الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [سورة الكهف آية: ١١]، وكذلك: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [سورة الزمر آية: ٤٢]، إذا ً فالموت بنهاية الحياة يُسمَّى موتاً، وكذلك النوم يُسمَّى موتاً، فهو يُميت بالنوم ويُحيي باليقظة.
أيضاً يُميت الكافرَ بكُفرِه ويُحيي المؤمنَ بإيمانِه ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [سورة الأنعام آية: ١٢٢] فإحياء القلوب بالإيمان وإماتة القلوب بالكفر. أحيا بفضله وأمات بِعَدلِه، أحيا قلوبَ العارفين بشمس معرفته، أحيا الناسَ في يوم البعث وجَمَعَهم ليومٍ لا ريب فيه، الله (تبارك وتعالى) هو أمات وأحيا. ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ تَأَمَّل! ما مِن شيء في هذه الدنيا إلا وقد خَلَقَه الله من زوجين ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٩]، فإذا نظرتَ إلى أي شيء لوَجَدْتَ له الضد والند والشبيه والمثيل إلا الله؛ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعلم أن خالق الأشياء كلِّها وِتر مطلق، الفرد المطلق، الواحد الأحد، هو الله! وماسوى ذلك فلِكُلِّ شيء ضد أو ند أو شبيه أو مثيل. ربنا (تبارك وتعالى) خلق الزوجين الذكر والأنثى من شيء واحد، فمَنِ الذي قسم الخلق إلى ذكور وإناث؟ من الفَعَّال لذلك؟ والرجل قد أَمْنَى ولا يدري عن مَنِيِّه شيء، ربنا خلق من هذه النطفة ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(٤٥)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ من شيء واحد؛ النُّطفة، وسُمِّيَت النُّطفة نُطفة من (نَطَف الماء) إذا تقاطر، نزل نقطة نقطة، ونَطَفَت القِربة إذا تقاطر الماءُ منها، والنُّطفة: الماء القليل المتقاطر. وأَمنى الرجل ومَنى بمعنى واحد من المنِيّ، ومَنَيْتُ له: قَدَّرتُ له، ومَنى لك الماني: قَدَّر لك المقدِّر، ومِنى سُمِّيَت مِنى، حيث هي موطن لذبح الهَدْي في مناسك الحج، لكثرة ما يُراق فيها من دم فسُمِّيَت مِنى لأن الإمناء: الإراقة والصَّب.
خَلَق الزوجين الذكر والأنثى من نطفةٍ إذا تُمنى: تُدفَق وتُصَبُّ في الرَّحِم، هذا معنى الإمناء، أَمنى ومَنى من الصَّب والإهراق والإدفاق. وقد تكون بمعنى التقدير؛ مَنى لك الماني: قَدَّر لك المقدِّر، مَنَيتُ له: قَدَّرتُ له، وكأن النُّطفة إذا سقطت في الرَّحِم ودُفِقَت بأمر الله قُدِّرَت وقُدِّرَ المطلوب منها والمقدِّر هو القادر، وصُوِّرَت بِيَدِ القدرة ويد المصوِّر ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سورة آل عمران آية: ٦]. من نطفة واحدة، لحظة من لحظات الشهوة والتلذذ بين رجل وامرأته يأتي خَلْق، ليس على بال الزوج ولا على بال الزوجة ولا بيده ولا بيدها، لا بتقديره ولا بتقديرها وليس في فكرهما أصلاً ولا دخل لهما، ولكن الله إذا شاء أَوْجَد، وما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، خلق الزوجين الذكر والأنثى، إذاً فالخالق هو الله، وَتر مطلق لا شبيه له، لأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من شيء واحد؛ من نطفة إذا تُمنى. وقد يُطلَق على ماء المرأة مَنيّاً تجاوزاً، فالمنيّ يُطلق على ماء الرجل وماء المرأة، والإنسان يُخلق من الماءين. ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ ﴿وأن عليه النشاءة الأخرى﴾ قراءتين. (النشأة الأخرى): البعث. (وأنَّ عليه) لأنه هو الذي أَوْجَد وأمات وأحيا وخَلَق، هو عليه النشأة الأخرى: البعث. وسُمِّيَت (نشأة) لأن الناس فيها ينشأون من جديد، إذا نُفِخَ في الصُّور وصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وترك الله (تبارك وتعالى) الخَلْق والكون مدة لا تُدرى ولا تُعلَم ما فيها، بين النفختين أربعون بغير تمييز، بغير تعريف، أربعون ساعة؟ أربعون يوماً؟ أربعون قرناً؟ يعلم الله.
ترك الله (تبارك وتعالى) الخلق ولم يبقَ إلا الباقي، هو الله! حيث كان ولم يكن شيء، ثم بعد ذلك يُمطر ربُّنا الأرضَ بماءٍ من السماء فإذا بالأجساد تنبت كما ينبت الزرع ويُبعَث الناسُ ليوم الحساب، وكما حكى لنا النبي (صلى الله عليه وسلم): "تُحشَرون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرلاً" أي غير مختونين، كل الناس، وأول الخلائق يُكسى إبراهيم الخليل ثم تُكسى الخلائق بعد ذلك كلٌّ بحسب مقامه وبحسب مكانه من الله (تبارك وتعالى) ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ وسُمِّيَت (نشأة) وكأن الحياة الأخرى تخالف هذه الحياة من وجوه عديده، مثال ذلك أن العبد في الجنة مهما أَكَل، مهما شَرِب، لا يتغوطون ولا يتبولون، رَشْحُهُم المِسك، كأنهم ورود، كأنهم رياحين، مهما سَقَيتَ الورود ومهما سَقَيتَ الزهور ومهما سَمَّدتَ الأرض لها ومهما تَغَذَّت الورود، فضلات الورود رائحة زكية، فكذلك الناس في الجنة، الفضلات رَشْحٌ كرَشْحِ المِسك، وكأنهم ورود وكأنهم زهور، شيء غريب! لا يتمخطون، لا يبصقون، البصاق والمخاط كل ذلك غير موجود، إذاً فهي نشأة أخرى، ولو نظرتَ إلى أهل النار لوجدتَ الجلود كلما نَضِجَت بُدِّلَت جلوداً غيرها، يأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين، أَمْرٌ في غاية الغرابة! لأن الله (تبارك وتعالى) إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أُتِيَ بالموت على هيئة كبش ووُضِعَ بين الجنة والنار، إذاً فالموت مخلوق، ليس الموت معناه أن يتلف الجسد وأن تخرج الروح من الجسد فقط، الموت شيء موجود، خروج الروح من الجسد وموتُك أنت أو موتي أنا شيء ووجود الموت نفسه شيء آخر، الموت شيء موجود والحياة شيء، لأن الله (تبارك وتعالى) أمات وأحيا وقال: (خلق الموت والحياة) وهذا الحديث يدل على أن الموت مخلوق إذ يؤتى بالموت على هيئة كبش يوضع بين الجنة والنار، يُؤمَر به فيُذبَح ثم ينادي المنادي من قبل العلي الأعلى: يا أهل الجنة خلود ولا
موت، يا أهل النار خلود ولا موت، نعم! فقد ذُبِحَ الموت. ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ سبحانه وتعالى (أغنى): أعطى، وأعطى المال على حسب مفهوم الناس. (غَنِيَ) الرجل (يغنى): صار غنياً وصار ذا مال، أغناه الله، أعطاه من المال ما يكفيه. وأن الله (تبارك وتعالى) أغنى. و (أقنى): أرضى، (أقنى): أعطى ما يُقتنى، المال الذي تتأثله، الذي تعتبره رأس مالك والذي لا تتخلى عنه، القُنية والقِنية ما يُقتتنى ويتأثل كرأس المال أو الكنز أو ما تعده وتدخره للمستقبل. ﴿هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أعطى المال وأعطى ما يُدَّخَر أو ما يُحتَفَظ به أو ما يتأثل. أو ﴿هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أغناه ورَضَّاه بما أعطاه، (أقنى): أرضَى، (أقناه الله) و (قَنَّاه الله): أرضاه، و (قَنيَ) الرجل (يقْنَى) (قِنيً): رضي الرجل رضاً، وكأن الله يُعطي ويُرضي. وقد تكون (أقنى) بمعنى أًفْقَر؛ أغنى وأفقر، والهمزة في (أقنى) للسَّلْب والإزاحة والإزالة، مثال: شكى الرجلُ له فأشكاه؛ أزال شكواه، شَكَيتُ لك وشكوت لك فأشكيتَني: أزلت شكواي، الهمزة تدخل على الفعل تَسْلُبُه، (قَنِي) الرجل: غَنِي الرجل ورَضِي الرجل وصار ذا مال، (أقنى) الرجل: الهمزة سَلَبت الفعل: أفقر، وأنه هو أغنى وأفقر، فذاك غني وذاك فقير. الغِنى والفَقر بالمال وبالعطاء، وممكن أن يكون الغِنى والفَقر بالرضا والقناعة، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ليس الغِنى عن كثرة العَرَض وإنما الغِنى غِنى النَّفْس". وأيضاً يأتي حديث قدسي يقول الله (تبارك وتعالى) فيه: "ابن آدم تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرَك غِنى وأَسُدُّ فقرَك وإلا تفعل ملأتُ يديك شُغلاً ولا أَسُدُّ فقرَك."
كم من الناس معهم الأموال لكنهم فقراء بأحاسيسهم ومشاعرهم، وكم من الناس لا يملك إلا قوت يومه وهو غني بالقناعة والرضا، غني بنفسه لايحتاج إلى شيء، فالغَني هو المستغني عن الشيء، وليس الغِنى عن كثرة العَرَض، ولذا ربنا (تبارك وتعالى) هو الغني، سُمِّيَ (تبارك وتعالى) الغني لكثرة ما عنده من مال أم سُمِّيَ الله (تبارك وتعالى) غنياً لأنه مُستَغنٍ بذاته عما سواه؟ فالغني الحقيقي هو الذي يستغني عن الشيء، ربنا (تبارك وتعالى) هو أغنى وأقنى. ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ (الشِّعرى): كوكب، وربُّنا ربُّ الشِّعرى وغير الشِّعرى، ربُّ الكواكب وربُّ المخلوقات كلها، لكن الشِّعرى اختُصَّت بالذكر لأن العرب، أو بعض قبائل العرب، كانوا يعبدونها من دون الله، والقبائل التي لم تكن تعبد الشِّعرى كانت تُعَظِّمها وتعتقد أن لها تأثيراً في الكون، فالشِّعرى اليمانية كوكب مضيء في برج الجوزاء، فهناك من يعبدها وهناك من يُعَظِّمها فربنا (تبارك وتعالى) يبين لهم أن الشِّعرى مربوبة وليست ربَّاً وأن الربَّ هو الله وأنه هو ربُّ الشِّعرى.
من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): (وأنه هو أمات وأحيا)، وجاء بالموت قبل الحياة لأن الموت سابق على الحياة، فقد كان الله الحي المطلق ولم يكن هناك شيء، كان هناك الموات والعدم فجاء بالناس فأحياهم، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٨]، سَبَقَ الموتُ الحياةَ، فقد كانت الحياة عَدَم وكان الناس أموات فأحياهم ربنا تبارك وتعالى، والموت أصل والحياة عارض، فالكون عَدَم وليس هناك إلا الله، والله هو الحق وكل ما خلا اللهَ باطل، من هنا كان الأصل الموت، هذه الحياة التي نَنْعَم بها مِنَّة وفضل وإحسان من الله، وما كانت الحياة واجبة على الله، ولا إيجاد الخلق واجب على الله وإنما هو مَنٌّ وفضل وإحسان، هو أمات وأحيا قبل الإنشاء، ثم أحيا الناس، ثم يُميتُ الناس، ثم يبعثهم إلى يوم القيامة، أمات الأرض وأحياها ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [سورة الروم آية: ٥٠] إذاً هو المميت والمحيي للأرض، أيضاً الأرض تموت وتحيا بالزرع والنبات. (أمات وأحيا) أَنامَ وأَيقَظَ، فالنوم شبيه الموت وصِنوُه، واليقظة كذلك شبيهة الحياة، وربنا يقول: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٥٩]، أي أَنامَه، وأهل الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [سورة الكهف آية: ١١]، وكذلك: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [سورة الزمر آية: ٤٢]، إذا ً فالموت بنهاية الحياة يُسمَّى موتاً، وكذلك النوم يُسمَّى موتاً، فهو يُميت بالنوم ويُحيي باليقظة.
أيضاً يُميت الكافرَ بكُفرِه ويُحيي المؤمنَ بإيمانِه ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [سورة الأنعام آية: ١٢٢] فإحياء القلوب بالإيمان وإماتة القلوب بالكفر. أحيا بفضله وأمات بِعَدلِه، أحيا قلوبَ العارفين بشمس معرفته، أحيا الناسَ في يوم البعث وجَمَعَهم ليومٍ لا ريب فيه، الله (تبارك وتعالى) هو أمات وأحيا. ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ تَأَمَّل! ما مِن شيء في هذه الدنيا إلا وقد خَلَقَه الله من زوجين ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٩]، فإذا نظرتَ إلى أي شيء لوَجَدْتَ له الضد والند والشبيه والمثيل إلا الله؛ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعلم أن خالق الأشياء كلِّها وِتر مطلق، الفرد المطلق، الواحد الأحد، هو الله! وماسوى ذلك فلِكُلِّ شيء ضد أو ند أو شبيه أو مثيل. ربنا (تبارك وتعالى) خلق الزوجين الذكر والأنثى من شيء واحد، فمَنِ الذي قسم الخلق إلى ذكور وإناث؟ من الفَعَّال لذلك؟ والرجل قد أَمْنَى ولا يدري عن مَنِيِّه شيء، ربنا خلق من هذه النطفة ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(٤٥)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ من شيء واحد؛ النُّطفة، وسُمِّيَت النُّطفة نُطفة من (نَطَف الماء) إذا تقاطر، نزل نقطة نقطة، ونَطَفَت القِربة إذا تقاطر الماءُ منها، والنُّطفة: الماء القليل المتقاطر. وأَمنى الرجل ومَنى بمعنى واحد من المنِيّ، ومَنَيْتُ له: قَدَّرتُ له، ومَنى لك الماني: قَدَّر لك المقدِّر، ومِنى سُمِّيَت مِنى، حيث هي موطن لذبح الهَدْي في مناسك الحج، لكثرة ما يُراق فيها من دم فسُمِّيَت مِنى لأن الإمناء: الإراقة والصَّب.
خَلَق الزوجين الذكر والأنثى من نطفةٍ إذا تُمنى: تُدفَق وتُصَبُّ في الرَّحِم، هذا معنى الإمناء، أَمنى ومَنى من الصَّب والإهراق والإدفاق. وقد تكون بمعنى التقدير؛ مَنى لك الماني: قَدَّر لك المقدِّر، مَنَيتُ له: قَدَّرتُ له، وكأن النُّطفة إذا سقطت في الرَّحِم ودُفِقَت بأمر الله قُدِّرَت وقُدِّرَ المطلوب منها والمقدِّر هو القادر، وصُوِّرَت بِيَدِ القدرة ويد المصوِّر ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سورة آل عمران آية: ٦]. من نطفة واحدة، لحظة من لحظات الشهوة والتلذذ بين رجل وامرأته يأتي خَلْق، ليس على بال الزوج ولا على بال الزوجة ولا بيده ولا بيدها، لا بتقديره ولا بتقديرها وليس في فكرهما أصلاً ولا دخل لهما، ولكن الله إذا شاء أَوْجَد، وما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، خلق الزوجين الذكر والأنثى، إذاً فالخالق هو الله، وَتر مطلق لا شبيه له، لأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من شيء واحد؛ من نطفة إذا تُمنى. وقد يُطلَق على ماء المرأة مَنيّاً تجاوزاً، فالمنيّ يُطلق على ماء الرجل وماء المرأة، والإنسان يُخلق من الماءين. ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ ﴿وأن عليه النشاءة الأخرى﴾ قراءتين. (النشأة الأخرى): البعث. (وأنَّ عليه) لأنه هو الذي أَوْجَد وأمات وأحيا وخَلَق، هو عليه النشأة الأخرى: البعث. وسُمِّيَت (نشأة) لأن الناس فيها ينشأون من جديد، إذا نُفِخَ في الصُّور وصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وترك الله (تبارك وتعالى) الخَلْق والكون مدة لا تُدرى ولا تُعلَم ما فيها، بين النفختين أربعون بغير تمييز، بغير تعريف، أربعون ساعة؟ أربعون يوماً؟ أربعون قرناً؟ يعلم الله.
ترك الله (تبارك وتعالى) الخلق ولم يبقَ إلا الباقي، هو الله! حيث كان ولم يكن شيء، ثم بعد ذلك يُمطر ربُّنا الأرضَ بماءٍ من السماء فإذا بالأجساد تنبت كما ينبت الزرع ويُبعَث الناسُ ليوم الحساب، وكما حكى لنا النبي (صلى الله عليه وسلم): "تُحشَرون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرلاً" أي غير مختونين، كل الناس، وأول الخلائق يُكسى إبراهيم الخليل ثم تُكسى الخلائق بعد ذلك كلٌّ بحسب مقامه وبحسب مكانه من الله (تبارك وتعالى) ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ وسُمِّيَت (نشأة) وكأن الحياة الأخرى تخالف هذه الحياة من وجوه عديده، مثال ذلك أن العبد في الجنة مهما أَكَل، مهما شَرِب، لا يتغوطون ولا يتبولون، رَشْحُهُم المِسك، كأنهم ورود، كأنهم رياحين، مهما سَقَيتَ الورود ومهما سَقَيتَ الزهور ومهما سَمَّدتَ الأرض لها ومهما تَغَذَّت الورود، فضلات الورود رائحة زكية، فكذلك الناس في الجنة، الفضلات رَشْحٌ كرَشْحِ المِسك، وكأنهم ورود وكأنهم زهور، شيء غريب! لا يتمخطون، لا يبصقون، البصاق والمخاط كل ذلك غير موجود، إذاً فهي نشأة أخرى، ولو نظرتَ إلى أهل النار لوجدتَ الجلود كلما نَضِجَت بُدِّلَت جلوداً غيرها، يأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين، أَمْرٌ في غاية الغرابة! لأن الله (تبارك وتعالى) إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أُتِيَ بالموت على هيئة كبش ووُضِعَ بين الجنة والنار، إذاً فالموت مخلوق، ليس الموت معناه أن يتلف الجسد وأن تخرج الروح من الجسد فقط، الموت شيء موجود، خروج الروح من الجسد وموتُك أنت أو موتي أنا شيء ووجود الموت نفسه شيء آخر، الموت شيء موجود والحياة شيء، لأن الله (تبارك وتعالى) أمات وأحيا وقال: (خلق الموت والحياة) وهذا الحديث يدل على أن الموت مخلوق إذ يؤتى بالموت على هيئة كبش يوضع بين الجنة والنار، يُؤمَر به فيُذبَح ثم ينادي المنادي من قبل العلي الأعلى: يا أهل الجنة خلود ولا
موت، يا أهل النار خلود ولا موت، نعم! فقد ذُبِحَ الموت. ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ سبحانه وتعالى (أغنى): أعطى، وأعطى المال على حسب مفهوم الناس. (غَنِيَ) الرجل (يغنى): صار غنياً وصار ذا مال، أغناه الله، أعطاه من المال ما يكفيه. وأن الله (تبارك وتعالى) أغنى. و (أقنى): أرضى، (أقنى): أعطى ما يُقتنى، المال الذي تتأثله، الذي تعتبره رأس مالك والذي لا تتخلى عنه، القُنية والقِنية ما يُقتتنى ويتأثل كرأس المال أو الكنز أو ما تعده وتدخره للمستقبل. ﴿هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أعطى المال وأعطى ما يُدَّخَر أو ما يُحتَفَظ به أو ما يتأثل. أو ﴿هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أغناه ورَضَّاه بما أعطاه، (أقنى): أرضَى، (أقناه الله) و (قَنَّاه الله): أرضاه، و (قَنيَ) الرجل (يقْنَى) (قِنيً): رضي الرجل رضاً، وكأن الله يُعطي ويُرضي. وقد تكون (أقنى) بمعنى أًفْقَر؛ أغنى وأفقر، والهمزة في (أقنى) للسَّلْب والإزاحة والإزالة، مثال: شكى الرجلُ له فأشكاه؛ أزال شكواه، شَكَيتُ لك وشكوت لك فأشكيتَني: أزلت شكواي، الهمزة تدخل على الفعل تَسْلُبُه، (قَنِي) الرجل: غَنِي الرجل ورَضِي الرجل وصار ذا مال، (أقنى) الرجل: الهمزة سَلَبت الفعل: أفقر، وأنه هو أغنى وأفقر، فذاك غني وذاك فقير. الغِنى والفَقر بالمال وبالعطاء، وممكن أن يكون الغِنى والفَقر بالرضا والقناعة، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ليس الغِنى عن كثرة العَرَض وإنما الغِنى غِنى النَّفْس". وأيضاً يأتي حديث قدسي يقول الله (تبارك وتعالى) فيه: "ابن آدم تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرَك غِنى وأَسُدُّ فقرَك وإلا تفعل ملأتُ يديك شُغلاً ولا أَسُدُّ فقرَك."
كم من الناس معهم الأموال لكنهم فقراء بأحاسيسهم ومشاعرهم، وكم من الناس لا يملك إلا قوت يومه وهو غني بالقناعة والرضا، غني بنفسه لايحتاج إلى شيء، فالغَني هو المستغني عن الشيء، وليس الغِنى عن كثرة العَرَض، ولذا ربنا (تبارك وتعالى) هو الغني، سُمِّيَ (تبارك وتعالى) الغني لكثرة ما عنده من مال أم سُمِّيَ الله (تبارك وتعالى) غنياً لأنه مُستَغنٍ بذاته عما سواه؟ فالغني الحقيقي هو الذي يستغني عن الشيء، ربنا (تبارك وتعالى) هو أغنى وأقنى. ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ (الشِّعرى): كوكب، وربُّنا ربُّ الشِّعرى وغير الشِّعرى، ربُّ الكواكب وربُّ المخلوقات كلها، لكن الشِّعرى اختُصَّت بالذكر لأن العرب، أو بعض قبائل العرب، كانوا يعبدونها من دون الله، والقبائل التي لم تكن تعبد الشِّعرى كانت تُعَظِّمها وتعتقد أن لها تأثيراً في الكون، فالشِّعرى اليمانية كوكب مضيء في برج الجوزاء، فهناك من يعبدها وهناك من يُعَظِّمها فربنا (تبارك وتعالى) يبين لهم أن الشِّعرى مربوبة وليست ربَّاً وأن الربَّ هو الله وأنه هو ربُّ الشِّعرى.
وَأَنَّهُۥٓ أَهْلَكَ عَادًا ٱلْأُولَىٰ ﴿50﴾
وَثَمُودَا۟ فَمَآ أَبْقَىٰ ﴿51﴾
وَقَوْمَ نُوحٍۢ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ﴿52﴾
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ ﴿53﴾
فَغَشَّىٰهَا مَا غَشَّىٰ ﴿54﴾
عاد قوم هود، (عاداً الأولى) لأنها أول أُمَّة أُهلِكَت بعد قوم نوح عليه السلام. وقالوا (عاداً الأولى) لأنها قبل ثمود. قالوا بل عاد عادان؛ عاد التي أُهلِكَت بالريح الصرصر، عاد التي أُهلِكَت بالصيحة، عاد قوم هود، وعاد إِرَمْ ذات العماد. وقُرِأت ﴿عاداً الأولى﴾ قُرِأَت ﴿عاداً الاولى﴾ بغير همز، وقُرِأَت بالإدغام (عاداً لُّولى). ﴿وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾ وقُرِأَت ﴿ثموداً فما أبقى﴾، فما أبقى شيئاً من ثمود، نعم! كانوا كهشيم المحتظر، صيحة واحدة صاحها جبريل إذا هم في ديارهم جاثمين، إذا هم خامدون، هي صيحه واحدة، ربُّنا (تبارك وتعالى) يُحذِّر قريش ويُحذِّر قومَ النبي الذين كذَّبوه. ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ﴾ من قبل عاد وثمود أُهلِكوا أيضاً. ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾ كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود، أو كانوا أظلم وأطغى من قومك يا محمد، أو كانوا، قوم عاد وثمود قوم نوح الجميع، إنهم كانوا أظلم وأطغى فالضمير عائد عليهم، أظلم وأطغى من قريش ومن أهل مكة، تسلية للنبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يَغُرَّك بأسُهم ولا تبالي بتكذيبيهم فالله قد دَمَّرَ من هو أشد منهم قوة وأكثر جَمْعاً.
أو (إنهم) الضمير عائد على قوم نوح فقط، كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود، نعم! لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، مدة الرسالة، ليس عمر نوح بل مدة الرسالة فقط، تسعمائة وخمسون سنة، هو حي وهم يموتون، ليست الأعمار للجميع، كانت من ضمن معجزات نوح، عمره، ومع ذلك كان الأب يمشي ويأخذ بيد ابنه ويذهب به إلى نوح (عليه السلام) ويقول له يابني احذر هذا إنه كذاب وقد مشى أبي بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلتُ لك، فيموت الأب على الكفر وينشأ الابن على الكفر، من أجل ذلك قال نوح: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [سورة نوح آية: ٢٧] سبحان الله! ألف سنة إلا خمسين عاماً لبث نوح يدعو قومَه، هو يدعوهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، والأب يوصي ابنه بألا يؤمن به، أمر غريب! ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾. ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ (المؤتفكة): المنقلبة. أَفِكَ يَأْفِك: قَلَب وصَرَف، أَفَكَهُ ويَأْفِكه: قَلَبه على رأسه وصَرَفَه، قَلَبَه وصَرَفَه عن وجهه. قُرى لوط، سبع قُرى عامرة بالناس ولكنهم فَسَقَة فَجَرَة، خالفوا سُنَّةَ الله (تبارك وتعالى) تركوا الحلال وانغمسوا في الحرام، تركوا الطهارة وانغمسوا في النجاسة، أتوا الذُّكْران من العالمين وتركوا ما خَلَقَ لهم ربُّهم من أزواج، نعم! كانوا قوماً عادين، نزل جبريل وبجناح واحد، وله ستمائة جناح، بجناح واحد أخذ القرى السبع على جناحه وصعد بها حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح الدِّيَكة ثم قَلَبَها فأهواها، فأسقطها. هَوَى يهوي هَوِيَّاً وهَوِيَّاً: سَقَطَ، وأَهْوى: أَسْقط. و (المؤتفكة): أي قُرى لوط المنقلبة، (أهوى): أسقطها من شاهق.
﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ (غشّاها): أَلْبَسَها، (غشّاها): غَطَّاها، (غشّاها ما غشى) وأبهم، إبهام، مالذي غشاها؟ لَمْ يخبرنا، الإبهام يأتي في القرآن للتهويل والتعميم والتفخيم والتعظيم لكي تفهم أن الأمر فوق الوصف، (غَشَّاها ما غَشَّى) ولك أن تتخيل، فالأمر مبهم يستحيل وصفه، مالذي غشاها؟ وُصِفَ لنا في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(٨٢)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(٨٣)﴾ [سورة هود آية: ٨٢ - ٨٣] على كل حَجَر اسم صاحبه يتبعه أينما سار، فلم يترك منهم شاردة أو واردة، إذا كان مسافراً أو نائماً أو مستيقظاً، في أي مكان تَبِعَه الحَجَر. (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) والله أعلم بما غَشَّاها فالكلام عن قُرى لوط. أو الكلام عن الأمم المهلَكة؛ عاد وثمود وقوم نوح، (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغَشَّاها ما غَشَّى) غَشَّى الأممَ جميعاً لأن كل أُمَّة من هذه الأمم أُهلِكَت بنوعٍ من أنواع العذاب لايقدر عليه إلا الله ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٠] أُمَم أُهلِكَت بدروب من العذاب مختلفة.
أو (إنهم) الضمير عائد على قوم نوح فقط، كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود، نعم! لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، مدة الرسالة، ليس عمر نوح بل مدة الرسالة فقط، تسعمائة وخمسون سنة، هو حي وهم يموتون، ليست الأعمار للجميع، كانت من ضمن معجزات نوح، عمره، ومع ذلك كان الأب يمشي ويأخذ بيد ابنه ويذهب به إلى نوح (عليه السلام) ويقول له يابني احذر هذا إنه كذاب وقد مشى أبي بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلتُ لك، فيموت الأب على الكفر وينشأ الابن على الكفر، من أجل ذلك قال نوح: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [سورة نوح آية: ٢٧] سبحان الله! ألف سنة إلا خمسين عاماً لبث نوح يدعو قومَه، هو يدعوهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، والأب يوصي ابنه بألا يؤمن به، أمر غريب! ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾. ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ (المؤتفكة): المنقلبة. أَفِكَ يَأْفِك: قَلَب وصَرَف، أَفَكَهُ ويَأْفِكه: قَلَبه على رأسه وصَرَفَه، قَلَبَه وصَرَفَه عن وجهه. قُرى لوط، سبع قُرى عامرة بالناس ولكنهم فَسَقَة فَجَرَة، خالفوا سُنَّةَ الله (تبارك وتعالى) تركوا الحلال وانغمسوا في الحرام، تركوا الطهارة وانغمسوا في النجاسة، أتوا الذُّكْران من العالمين وتركوا ما خَلَقَ لهم ربُّهم من أزواج، نعم! كانوا قوماً عادين، نزل جبريل وبجناح واحد، وله ستمائة جناح، بجناح واحد أخذ القرى السبع على جناحه وصعد بها حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح الدِّيَكة ثم قَلَبَها فأهواها، فأسقطها. هَوَى يهوي هَوِيَّاً وهَوِيَّاً: سَقَطَ، وأَهْوى: أَسْقط. و (المؤتفكة): أي قُرى لوط المنقلبة، (أهوى): أسقطها من شاهق.
﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ (غشّاها): أَلْبَسَها، (غشّاها): غَطَّاها، (غشّاها ما غشى) وأبهم، إبهام، مالذي غشاها؟ لَمْ يخبرنا، الإبهام يأتي في القرآن للتهويل والتعميم والتفخيم والتعظيم لكي تفهم أن الأمر فوق الوصف، (غَشَّاها ما غَشَّى) ولك أن تتخيل، فالأمر مبهم يستحيل وصفه، مالذي غشاها؟ وُصِفَ لنا في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(٨٢)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(٨٣)﴾ [سورة هود آية: ٨٢ - ٨٣] على كل حَجَر اسم صاحبه يتبعه أينما سار، فلم يترك منهم شاردة أو واردة، إذا كان مسافراً أو نائماً أو مستيقظاً، في أي مكان تَبِعَه الحَجَر. (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) والله أعلم بما غَشَّاها فالكلام عن قُرى لوط. أو الكلام عن الأمم المهلَكة؛ عاد وثمود وقوم نوح، (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغَشَّاها ما غَشَّى) غَشَّى الأممَ جميعاً لأن كل أُمَّة من هذه الأمم أُهلِكَت بنوعٍ من أنواع العذاب لايقدر عليه إلا الله ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [سورة العنكبوت آية: ٤٠] أُمَم أُهلِكَت بدروب من العذاب مختلفة.
فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴿55﴾
هَـٰذَا نَذِيرٌۭ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلْأُولَىٰٓ ﴿56﴾
أَزِفَتِ ٱلْـَٔازِفَةُ ﴿57﴾
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴿58﴾
أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ﴿59﴾
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ﴿60﴾
وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ ﴿61﴾
فَٱسْجُدُوا۟ لِلَّهِ وَٱعْبُدُوا۟ ۩ ﴿62﴾
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ (آلاء): نِعَم، جَمْعُ (إلَنْ)، كمِعَن وأمعاء، مِعَن واحد وأمعاء، (إلَنْ): نِعمة، و (آلاء): نِعَم، (آلاء) جمع (إلَنْ) و (أَلَن) و (إليا)، أيُّ آلاء ربك (تتمارى): تتشكك. (الآلاء): النِّعَم، هل في السوره نِعَمْ؟ في السورة نِعَم ونِقَم، (وأنه هو أضحك وأبكى) (أمات وأحيا) (أغنى وأقنى)، السورة فيها حديث عن النِّعَم وحديث عن النِّقَم، النِّقَم: (أَهْلَكَ عاداً الأولى) (وثمود فما أبقى) (وقوم نوح إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) وكذلك (المؤتفكة أهوى) نِقَم، لكن الله يقول: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ وكأن النِّقَم نِعَم، نعم! كلها نِعَم لأن ما ذُكِرَ في السورة من نِعَم فهو نِعَم، وماذُكِرَ من نِقَم فالغرض منه التذكير والعبرة، فإذا كانت النقمة التي حدثت اللأمم المكذبة فيها العبرة لنا فهي نعمة، لأنك إذا اتعظت واعتبرت تلك نعمة، وصَدَقَ القائل (صلى الله عليه وسلم): "العاقل من اتعظ بغيره والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أَتْبَعَ نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني" ويقول (صلى الله عليه وسلم): "عقل المرء محسوب عليه من رزقه."
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) أيُّ نعمة مَحَل للشك؟ أيُّ نعمة؟ ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(٢٠)وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(٢١)﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٠ - ٢١] في أيِّ نعمة تتشكك أن الله هو الفَعَّال؟ الله (تبارك وتعالى) هو الفَعَّال لكل ما فعل ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٩]، بل يقول عَزَّ مِن قائل: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة الحديد آية: ٢٢]، وربُّنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات آية: ٩٦] فالنحل وعسله، والنمل ودأبه، والقمر وفلكه، والإنسان وعمله من خَلْقِ الله وإيجاده، من تقديره وتدبيره، هو المقدِّر والمدبِّر والمهيمِن والمتصرِّف والفَعَّال، هو الله! (فبأي آلاء ربك تتمارى)؟ في أي شيء يحدث الشك؟ والخطاب لكل من يعقل. ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ تحذير، (هَذَا نَذِيرٌ): القرآن؛ نذير يُنذِر بالحق كما أنذرت الكتب السماوية السابقة. أو (هَذَا) إشاره للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [سورة فاطر آية: ٢٣]، ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [سورة فاطر آية: ٢٤]، (هذا): أي محمد (عليه الصلاة والسلام) (نذير من النذر الأولى): أي رسول ينذركم كما أَنْذَرَت الرسلُ من قبل. أو هذه الأخبار والقصص، ما قصصنا عليكم في هذه السورة من أخبار الأمم المهلَكة (نذير من النذر الأولى): أي تتعظون لئلا يصيبكم مثل ما أصابهم، و (النذر) بمعنى الإنذار، كالنُّكُر بمعنى الإنكار.
﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ (أَزِفَت): قَرُبَت، أَزِفَ الترحل: قَرُب ودَنَا، أَزِفَ الرجل: تَعَجَّل، أَزِفَ يَأزَف أَزفاً وأُزوفاً: تَعَجَّل. ﴿أَزِفَتِ﴾: قَرُبَت ودَنَت. (الْآزِفَةُ): القيامة، وسُمِّيَت (الآزفة) لأنها آتية قريبة، وكل آتٍ قريب، وهي قريبة بالنسبة لله، أما بالنسبة لنا فقد تكون بعيدة، فكم من قرون مضت، آلاف بل ملايين السنين ولم تقم الساعة، ونحن نعيش ومن يدري متى تقوم؟ ربما بعد ألف أو ألفين من السنين، لكن الله يتكلم من حيث هو الله، وقد أخبر من قبل في قرآنه وقال: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(٦)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(٧)﴾ [سورة المعارج آية: ٦ - ٧]. من هنا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ لأنها عند الله قريبة. ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ (كاشفة): بمعنى لايعلم وقتها إلا الله ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [سورة الأعراف آية: ١٨٧] أي لا يَكشِف عنها ولا يُبديها أحدٌ، هو الله! هو الذي يقيم الساعة. (ليس لها من دون الله كاشفة) لا يكشفها مخلوق، ولا يقدمها ولا يؤخرها. أو (ليس لها من دون الله كاشفة) إذا وَقَعَت، وقيل (كاشفة) لأنها سُمِّيَت غاشية ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [سورة الغاشية آية: ١] فإذا كانت القيامة غاشية فَرَدُّها يحتاج إلى كاشفة، (ليس لها من دون الله كاشفة) يكشفها عنهم ويكشف العذاب الذي هو فيها أو يوقف قيامها، و (كاشفة) بمعنى كاشف، والهاء فيها كالهاء في العافية والعاقبة وما إلى ذلك. أو هو نعت لمؤنث محذوف. أو اسم بمعنى المصدر.
﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ أي تُكَذِّبون وتتحيرون في شأنه؟ ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ تضحكون استهزاءً ولا تبكون خوفاً من الوعيد وخوفاً من التهديد؟ حديث خطير، المتحدث هو الله والمتكلم هو الله، والله (تبارك وتعالى) يحكي لنا عن أممٍ سابقة، أمم أُهلِكَت، وأمم كانت وكانت ملء الأعين والآذان، أمم كانت لم يُخلَق مثلَها من قبل كعاد، ومع ذلك دُمِّرَت ولم يبقَ منهم أثر، ومع هذا الناس تلهو وتغفل وتلعب، فيقول الله معاتِباً وموبِّخاً: أفمن هذا الحديث الخطير تعجبون؟ تُكَذِّبون وتترددون فيه وتتحيرون وتضحكون؟ كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قرأ القرآن تضاحكوا وتغامزوا وقهقهوا، وبعضهم يغني وبعضهم يغلوش بصوته ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [سورة فصلت آية: ٢٦]، الغَوا فيه، اللغو، مِن لغى، كلام وإثارة جدل، وبعضهم يغني وبعضهم يقهقه وبعضهم يضحك حتى لا يسمعوا القرآن. (وتضحكون ولا تبكون) أي تبكون خوفاً من الوعيد والتهديد. ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ لاهون معرضون، سَمَدَ يسمد سُمُوداً: لهى وأعرض، وسَمَدَ ويسمد: رَفَعَ رأسَه واستكبر وعلا، ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾: متكبرون عن الذكر، متكبرون عن الاستماع. وقال بعضهم: (التسميد): الغِناء، أَسْمِدِينا يا مغنية: تَغَنِّي، سَمِّدْنا يافلان: غني لنا، فهي تحمل المعاني: الكبر والعلو من السُّمود والارتفاع، وتعني اللهو والإعراض من سَمَدَ يسمد لَهَى وأعرض، تحمل هذه المعاني. ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ سجدة تلاوة، وإذا نزل الإمام وسجد سجد الكل سجدة تلاوة لله (تبارك وتعالى) وتسألوا الله (تبارك وتعالى) فيها سجودكم أن يرفع بها عنكم وزراً وأن يجعل لكم بها أجراً وأن يجعلها لكم ذُخراً.
خُتِمَت السورة بالأمر بالسجود، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وحين سأل أنسٌ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) الشفاعة قال: "سلني حاجة يا أنس" قال: أسألك الشفاعة، قال: "سلني حاجة من حاجات الدنيا"، قال: والذي بعثك بالحق لا أسالك غير الشفاعة يارسول الله، قال: "إذاً يا أنس أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" وإذا سجد العبدُ وَلَّى الشيطان مدبراً يصرخ ويولول يقول: ياويله -على نفسه- أُمِرَ ابنُ آدم بالسجود فَسَجَد وأُمِرَ هو بالسجود فأبى، فما يغيظ الشيطان أكثر من السجود، ومايُرضي الرحمن أكثر من السجود، ولا يمكن أن تكون أقرب من ربك الديان إلا وأنت ساجد، لذا أُمِرنا في ختام السورة أن نسجد لله سجود التلاوة. وقال بعضهم: الأمر بالسجود على الإطلاق، السجود في الفرائض والصلوات وما إلى ذلك أيضاً. أيها الأخ المسلم، لا يصح مطلقا أن تسأل الله حاجة من حوائج الدنيا وأنت ساجد، إياك إياك أن تسأل نجاح ابنتك أو الزواج بامرأة أو الغِنى بالمال، إياك أن تسأل الله شيئاً من الدنيا وأنت ساجد، وإياك أن تقرأ شيئاً من القرآن وأنت ساجد، فالقرآن مكانه الرفع أثناء القيام، والدنيا تُسأَل خارج الصلاة، أما في داخل الصلاة فتُسأل الآخرة، وخير ما يقال في سجودك ما قاله المصطفى (صلى الله عليه وسلم): " سَجَدَ لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي وأقر بك لساني وها أنا ذا بين يديك يا عظيم يامن تغفر الذنب العظيم "
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) أيُّ نعمة مَحَل للشك؟ أيُّ نعمة؟ ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(٢٠)وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(٢١)﴾ [سورة الذاريات آية: ٢٠ - ٢١] في أيِّ نعمة تتشكك أن الله هو الفَعَّال؟ الله (تبارك وتعالى) هو الفَعَّال لكل ما فعل ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٩]، بل يقول عَزَّ مِن قائل: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة الحديد آية: ٢٢]، وربُّنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات آية: ٩٦] فالنحل وعسله، والنمل ودأبه، والقمر وفلكه، والإنسان وعمله من خَلْقِ الله وإيجاده، من تقديره وتدبيره، هو المقدِّر والمدبِّر والمهيمِن والمتصرِّف والفَعَّال، هو الله! (فبأي آلاء ربك تتمارى)؟ في أي شيء يحدث الشك؟ والخطاب لكل من يعقل. ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ تحذير، (هَذَا نَذِيرٌ): القرآن؛ نذير يُنذِر بالحق كما أنذرت الكتب السماوية السابقة. أو (هَذَا) إشاره للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [سورة فاطر آية: ٢٣]، ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [سورة فاطر آية: ٢٤]، (هذا): أي محمد (عليه الصلاة والسلام) (نذير من النذر الأولى): أي رسول ينذركم كما أَنْذَرَت الرسلُ من قبل. أو هذه الأخبار والقصص، ما قصصنا عليكم في هذه السورة من أخبار الأمم المهلَكة (نذير من النذر الأولى): أي تتعظون لئلا يصيبكم مثل ما أصابهم، و (النذر) بمعنى الإنذار، كالنُّكُر بمعنى الإنكار.
﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ (أَزِفَت): قَرُبَت، أَزِفَ الترحل: قَرُب ودَنَا، أَزِفَ الرجل: تَعَجَّل، أَزِفَ يَأزَف أَزفاً وأُزوفاً: تَعَجَّل. ﴿أَزِفَتِ﴾: قَرُبَت ودَنَت. (الْآزِفَةُ): القيامة، وسُمِّيَت (الآزفة) لأنها آتية قريبة، وكل آتٍ قريب، وهي قريبة بالنسبة لله، أما بالنسبة لنا فقد تكون بعيدة، فكم من قرون مضت، آلاف بل ملايين السنين ولم تقم الساعة، ونحن نعيش ومن يدري متى تقوم؟ ربما بعد ألف أو ألفين من السنين، لكن الله يتكلم من حيث هو الله، وقد أخبر من قبل في قرآنه وقال: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(٦)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(٧)﴾ [سورة المعارج آية: ٦ - ٧]. من هنا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ لأنها عند الله قريبة. ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ (كاشفة): بمعنى لايعلم وقتها إلا الله ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [سورة الأعراف آية: ١٨٧] أي لا يَكشِف عنها ولا يُبديها أحدٌ، هو الله! هو الذي يقيم الساعة. (ليس لها من دون الله كاشفة) لا يكشفها مخلوق، ولا يقدمها ولا يؤخرها. أو (ليس لها من دون الله كاشفة) إذا وَقَعَت، وقيل (كاشفة) لأنها سُمِّيَت غاشية ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [سورة الغاشية آية: ١] فإذا كانت القيامة غاشية فَرَدُّها يحتاج إلى كاشفة، (ليس لها من دون الله كاشفة) يكشفها عنهم ويكشف العذاب الذي هو فيها أو يوقف قيامها، و (كاشفة) بمعنى كاشف، والهاء فيها كالهاء في العافية والعاقبة وما إلى ذلك. أو هو نعت لمؤنث محذوف. أو اسم بمعنى المصدر.
﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ أي تُكَذِّبون وتتحيرون في شأنه؟ ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ تضحكون استهزاءً ولا تبكون خوفاً من الوعيد وخوفاً من التهديد؟ حديث خطير، المتحدث هو الله والمتكلم هو الله، والله (تبارك وتعالى) يحكي لنا عن أممٍ سابقة، أمم أُهلِكَت، وأمم كانت وكانت ملء الأعين والآذان، أمم كانت لم يُخلَق مثلَها من قبل كعاد، ومع ذلك دُمِّرَت ولم يبقَ منهم أثر، ومع هذا الناس تلهو وتغفل وتلعب، فيقول الله معاتِباً وموبِّخاً: أفمن هذا الحديث الخطير تعجبون؟ تُكَذِّبون وتترددون فيه وتتحيرون وتضحكون؟ كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قرأ القرآن تضاحكوا وتغامزوا وقهقهوا، وبعضهم يغني وبعضهم يغلوش بصوته ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [سورة فصلت آية: ٢٦]، الغَوا فيه، اللغو، مِن لغى، كلام وإثارة جدل، وبعضهم يغني وبعضهم يقهقه وبعضهم يضحك حتى لا يسمعوا القرآن. (وتضحكون ولا تبكون) أي تبكون خوفاً من الوعيد والتهديد. ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ لاهون معرضون، سَمَدَ يسمد سُمُوداً: لهى وأعرض، وسَمَدَ ويسمد: رَفَعَ رأسَه واستكبر وعلا، ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾: متكبرون عن الذكر، متكبرون عن الاستماع. وقال بعضهم: (التسميد): الغِناء، أَسْمِدِينا يا مغنية: تَغَنِّي، سَمِّدْنا يافلان: غني لنا، فهي تحمل المعاني: الكبر والعلو من السُّمود والارتفاع، وتعني اللهو والإعراض من سَمَدَ يسمد لَهَى وأعرض، تحمل هذه المعاني. ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ سجدة تلاوة، وإذا نزل الإمام وسجد سجد الكل سجدة تلاوة لله (تبارك وتعالى) وتسألوا الله (تبارك وتعالى) فيها سجودكم أن يرفع بها عنكم وزراً وأن يجعل لكم بها أجراً وأن يجعلها لكم ذُخراً.
خُتِمَت السورة بالأمر بالسجود، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وحين سأل أنسٌ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) الشفاعة قال: "سلني حاجة يا أنس" قال: أسألك الشفاعة، قال: "سلني حاجة من حاجات الدنيا"، قال: والذي بعثك بالحق لا أسالك غير الشفاعة يارسول الله، قال: "إذاً يا أنس أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" وإذا سجد العبدُ وَلَّى الشيطان مدبراً يصرخ ويولول يقول: ياويله -على نفسه- أُمِرَ ابنُ آدم بالسجود فَسَجَد وأُمِرَ هو بالسجود فأبى، فما يغيظ الشيطان أكثر من السجود، ومايُرضي الرحمن أكثر من السجود، ولا يمكن أن تكون أقرب من ربك الديان إلا وأنت ساجد، لذا أُمِرنا في ختام السورة أن نسجد لله سجود التلاوة. وقال بعضهم: الأمر بالسجود على الإطلاق، السجود في الفرائض والصلوات وما إلى ذلك أيضاً. أيها الأخ المسلم، لا يصح مطلقا أن تسأل الله حاجة من حوائج الدنيا وأنت ساجد، إياك إياك أن تسأل نجاح ابنتك أو الزواج بامرأة أو الغِنى بالمال، إياك أن تسأل الله شيئاً من الدنيا وأنت ساجد، وإياك أن تقرأ شيئاً من القرآن وأنت ساجد، فالقرآن مكانه الرفع أثناء القيام، والدنيا تُسأَل خارج الصلاة، أما في داخل الصلاة فتُسأل الآخرة، وخير ما يقال في سجودك ما قاله المصطفى (صلى الله عليه وسلم): " سَجَدَ لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي وأقر بك لساني وها أنا ذا بين يديك يا عظيم يامن تغفر الذنب العظيم "