
القرآن الكريم / سورة الطور / التفسير المقروء
سورة الطور
لقاؤنا مع سورة الطور، وسورة الطور مكية أقسم الله في مفتتحها بخمسة أشياء، أقسم بها ليدلل على عظيم قدرته وشامل حكمته، أقسم بها ليدلل على ضبط أعمال عباده للجزاء، يقول الله (تبارك وتعالى):
وَٱلطُّورِ ﴿1﴾
وَكِتَـٰبٍۢ مَّسْطُورٍۢ ﴿2﴾
فِى رَقٍّۢ مَّنشُورٍۢ ﴿3﴾
وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ ﴿4﴾
وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ ﴿5﴾
وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ ﴿6﴾
﴿وَالطُّورِ﴾: الطور هو طور سينين، هو طور سيناء، هو الجبل الذي كلم الله (تبارك وتعالى) موسى عليه، ذلك الجبل الذي شهد كلام الله (تبارك وتعالى) لموسى وهو من جبال الجنة. وكلمة (الطور) بالسريانية تعني الجبل، وقيل كل جبل يُنبِت فهو طور، وما لا يُنبِت فليس بطور. والطور أقسم الله (تبارك وتعالى) به لرفعة شأن ما حدث فيه من كلامه للكليم سيدنا موسى. ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ (المسطور): المكتوب. والسَّطْرُ في الأصل: ترتيب حروف الكلمات في صف واحد باتساق وبانتظام. والكتاب (المسطور) المكتوب هو القرآن، يقرؤه المؤمنون في المصاحف، وتقرؤه الملائكة في الصحف. أو (الكتاب المسطور): هو التوراة حيث كتبها الله (تبارك وتعالى) لموسى بيده، وموسى يسمع صريف القلم. أو (الكتاب المسطور): هو اللوح المحفوظ. أو (الكتاب المسطور): الكتب السماوية جميعها. أو (الكتاب المسطور): هو الكتاب الذي جعله الله في الملأ الأعلى للملائكة يقرؤون فيه ما كان وما يكون. أو (الكتاب المسطور): هو صحائف الأعمال فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [سورة التكوير آية: ١٠]، وكقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ١٣]. أو (الكتاب المسطور): هو ما كتبه الله (تبارك وتعالى) في قلوب عباده المؤمنين، كقوله (تبارك وتعالى): ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [سورة المجادلة آية: ٢٢].
﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾ (الرَّق): الجلد المرقق الذي يُكتَب فيه. وتستخدم الكلمة لكل ما يُكتَب فيه من لوح وغيره. (مَنْشُورٍ) مفتوح تَطَّلِع عليه الأنظار غير مطوي، إلماعاً وإشعاراً بأنه لا عيب فيه ولا نقص، بأنه لا كذب فيه ولا اختلاف، فهو منشور يُقرَأ ويُنظَر إليه. والكلام يعود على القرآن، أو على التوراة، أو على الكتب السماوية، فما من كتاب إلا وكتبه أتباعه في الرقاق. ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾: بيت الله الحرام، يَعمُرُه الحجيج كل عام. أو (البيت المعمور): هو البيت الذي رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) في السماء السابعة حيث عُرِجَ به إلى السموات حتى وصل إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: بُعِثَ إليه، ففُتِح، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "فإذا أنا بإبراهيم مسندا ً ظهره إلى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة". و (البيت المعمور) تَعْمُرُه الملائكة إن كان ذلك البيت الذي في السماء السابعة، أو تعمره الناس بالحج والعمرة إن كان بيت الله الحرام. ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ السماء، ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٧] وسُمِّيَت السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت، مرفوعة بغير عَمَد، ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [سورة النازعات آية: ٢٨]، و (السقف المرفوع): السماء رُفِعَت بغير عَمَد. أو هو العرش، والعرش سقف الجنة. ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ المملوء. أو (البحر المسجور): الموقَد، سَجَرْتُ النار أسجُرها سَجْراً: أحميتُها. و (البحر المسجور) وكأن البحار تشتعل يوم القيامة ناراً ويتحول الماء إلى نار. و (البحر المسجور): المفجور، لقوله (تبارك وتعالى) ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [سورة التكوير آية: ٦]، ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ [سورة الانفطار آية: ٣].
أو (البحر المسجور): المختلط عذبه بمالحه، من (السَّجير): وهو الخليط. (البحر المسجور): الذي فرغ ماؤه، نشف وشربته الأرض. وأرجح الأقوال أن كلمة (المسجور) أي الموقَد المشتَعِل ناراً. تلك هي الأقسام التي أقسم الله بها، أقسام خمسة بمخلوقات عظيمة تدل على كمال القدرة وعظيم الحكمة، تدل على ضبط الله (تبارك وتعالى) لأفعال العباد وأعمالهم وأقوالهم للجزاء، فكما ضُبِطَت السماء ورُفِعَت بغير عَمَد، وكما سُجِّرَت البحار، وكما كُلِّمً موسى على الطور، وثَبَتَت الجبال ورَسَت، جواب القسم:
﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾ (الرَّق): الجلد المرقق الذي يُكتَب فيه. وتستخدم الكلمة لكل ما يُكتَب فيه من لوح وغيره. (مَنْشُورٍ) مفتوح تَطَّلِع عليه الأنظار غير مطوي، إلماعاً وإشعاراً بأنه لا عيب فيه ولا نقص، بأنه لا كذب فيه ولا اختلاف، فهو منشور يُقرَأ ويُنظَر إليه. والكلام يعود على القرآن، أو على التوراة، أو على الكتب السماوية، فما من كتاب إلا وكتبه أتباعه في الرقاق. ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾: بيت الله الحرام، يَعمُرُه الحجيج كل عام. أو (البيت المعمور): هو البيت الذي رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) في السماء السابعة حيث عُرِجَ به إلى السموات حتى وصل إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: بُعِثَ إليه، ففُتِح، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "فإذا أنا بإبراهيم مسندا ً ظهره إلى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة". و (البيت المعمور) تَعْمُرُه الملائكة إن كان ذلك البيت الذي في السماء السابعة، أو تعمره الناس بالحج والعمرة إن كان بيت الله الحرام. ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ السماء، ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٧] وسُمِّيَت السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت، مرفوعة بغير عَمَد، ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [سورة النازعات آية: ٢٨]، و (السقف المرفوع): السماء رُفِعَت بغير عَمَد. أو هو العرش، والعرش سقف الجنة. ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ المملوء. أو (البحر المسجور): الموقَد، سَجَرْتُ النار أسجُرها سَجْراً: أحميتُها. و (البحر المسجور) وكأن البحار تشتعل يوم القيامة ناراً ويتحول الماء إلى نار. و (البحر المسجور): المفجور، لقوله (تبارك وتعالى) ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [سورة التكوير آية: ٦]، ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ [سورة الانفطار آية: ٣].
أو (البحر المسجور): المختلط عذبه بمالحه، من (السَّجير): وهو الخليط. (البحر المسجور): الذي فرغ ماؤه، نشف وشربته الأرض. وأرجح الأقوال أن كلمة (المسجور) أي الموقَد المشتَعِل ناراً. تلك هي الأقسام التي أقسم الله بها، أقسام خمسة بمخلوقات عظيمة تدل على كمال القدرة وعظيم الحكمة، تدل على ضبط الله (تبارك وتعالى) لأفعال العباد وأعمالهم وأقوالهم للجزاء، فكما ضُبِطَت السماء ورُفِعَت بغير عَمَد، وكما سُجِّرَت البحار، وكما كُلِّمً موسى على الطور، وثَبَتَت الجبال ورَسَت، جواب القسم:
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِعٌۭ ﴿7﴾
مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٍۢ ﴿8﴾
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ صِدْقٌ حَقٌّ لا كَذِبَ فيه ولا اختلاق. ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ ذلك هو جواب القسم، عذاب ربك واقع بالكفار وبالمشركين في يوم القيامة. ﴿مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ لا يمكن أن يُدفَع، من الذي يدفع عذاب الله؟!
يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْرًۭا ﴿9﴾
وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْرًۭا ﴿10﴾
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾ ذلك هو يوم وقوع العذاب، (الموْر): الاختلاط. (الموْر): الموج. (الموْر): التردد والذهاب والمجيء والدوران. (الموْر): التَكَفُّؤ والانقلاب، فالسماء المبنية تَمُور بأهلها، تدور بهم كما تدور الرحى، تختلط فيها الأمور ويختلط الحابل بالنابل، تُهَدَّم وتقع وتتشقق وتتفتت وتنقلب وتجيء ذهابا وإيابا. أو (السماء): الفَلَك والمجرات والنجوم والنظم الكوكبية والشمسية، (تَمُور): تختلط في نظْمها وتختلف في سيرها، تذهب وتجيء وتتصادم النجوم، وتتفتت الكواكب وتختلط الأمور، فتشتعل السموات كلها ناراً، تصبح السماء كالمُهل، كالنحاس المذاب. ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾ آيتان فقط تصفان أهوال يوم القيامة، أما السماء بما فيها وبمن فيها، سبع سموات بالكواكب، بالنجوم، بكل ذلك، كل هذا يَمور مَوْراً، يدور ويموج ويختلط ويَتَكَفَّأ، ذاك شأن السموات. أما شأن الأرض فيكفي أن يقال فيها (يوم تسير الجبال سيراً)، الجبال عظيمة الحجم الراسخة الراسية، الصخور الصلدة، المعادن، هذه الجبال إذا سارت وتحركت وتنقلت من أماكنها، كيف يكون حال القرى والدور؟ كيف يكون حال البيوت؟ كيف يكون حال المدن؟ إذا سارت الجبال اكتسحت في طريقها كل شيء ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة النمل آية: ٨٨]. (تسير الجبال سيراً) تأكيد للدلالة على قدرة الله (تبارك وتعالى) وحدوث ما أنبأنا به. (تسير الجبال سيراً) فإذا سارت أزاحت من طريقها كل شيء واختل نظام الأرض وحدثت الزلازل وتفجرت البراكين وتَفَتَّتَتِ الجبال فإذا بها تذروها الرياح فتصبح كالعِهْنِ المنفوش ثم تصبح كالسراب.
فَوَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾
ٱلَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍۢ يَلْعَبُونَ ﴿12﴾
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴿13﴾
هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿14﴾
أَفَسِحْرٌ هَـٰذَآ أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ﴿15﴾
ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوٓا۟ أَوْ لَا تَصْبِرُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿16﴾
(ويل) كلمة تُقال للهالك الذي أهلكه الله، فليس كل هالك كمن أهلكه الله. ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في ذلك اليوم الذي تمور فيه السماء مَوْراً وتسير الجبال سيراً الذين كَذَّبوا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) الذين كَذَّبوا بالجزاء وبالبعث وبالثواب وبالعقاب، الذين كَذَّبوا بوحدانية الله (تبارك وتعالى) وكَذَّبوا بالقرآن، ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ والقائل هو الجبار. ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ (الخوض): الدخول في كل مائع كالماء والطين، والمكان يسمى (مخاضة) و (مخاض). واستُعيرت الكلمة للتعبير عن كل دخول فيه تلويث، لأن الداخل في الماء أو الطين يتلوث وتتلوث ثيابه، فتُستَخدَم الكلمة للتعبير عن كل دخول فيه تلويث، ثم عُبِّرَ بها مجازاً عن القول الباطل وكأن القائل للباطل يخوض في الحديث فيتلوث بما تحدث به. ﴿فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ لاهون عن يوم القيامة، ساهون عن يومٍ تَمُور فيه السماء مَوْراً وتسير فيه الجبال سيراً. ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ (الدَّع): الدَّفع بعنف وبشدة، ومنه قول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [سورة الماعون آية: ٢]. (دَعَتُّهُ): دَفَعتُهُ بعنف وبشدة. ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ تأكيد للدَّع، حيث تُقْرَن أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل، وتُقرَن نواصيهم بأقدامهم بالسلاسل، يؤخذ بالنواصي والأقدام ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(٣٠)ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(٣١)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(٣٢)﴾ [سورة الحاقة آية: ٣٠ - ٣٢]. ﴿يُدَعُّون﴾: يُدفَعون بعنف فيُسحَبون على وجوههم. وقُرِئت: ﴿يُدْعَوْن﴾ من الدُّعاء، أي الدُّعاء إليهم بوسيلة الدَّعِّ والدَّفع بعنف، بمقامع من حديد وبسحب على الوجوه، يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعَّاً.
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي يقال لهم ذلك حين يُعرضون عليها ويُسحبون إليها ويلفحهم حَرُّها ولهيبُها، يقال لهم من الخزنة: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا وتقولون لا بعث ولا جزاء ولا ثواب ولا عقاب، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٣٧].
﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ سؤال توبيخ، سؤال تبكيت، هذا الذي ترونه الآن رأي العين، النار وجهنم ولهيبها، أفسحرٌ هذا؟ كما كانوا يقولون في الدنيا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنه ساحر، ويقولون عن القرآن إنه سِحرٌ مبين وأساطير الأولين، بل لو فُتِحَت عليهم أبواب السماء لقالوا سُكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون، فتسألهم الملائكة تبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾؟ أم أن الأعين سُكِّرَت الآن كما سُكِّرَت في الدنيا؟ وأُغلِقت الآن كما أُغلِقت في الدنيا فلا تبصرون جهنم؟ أو المعنى ﴿أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ "أم" بمعنى "بل" لا تبصرون، أي لم تكونوا تبصروا هذا وتتوقعوه في حياتكم الدنيا. ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ صَلَيتُ الشاة أَصْليها: شويتُها. (اصلَوْها): أي ادخلوا هذه النار تُشوى بها الجباه والجلود والوجوه. (اصلوْها): أي ادخلوها وذوقوا حَرَّها ولهيبها حيث تُشوى الجلود منها. ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يستوى الصبر وعدم الصبر. الصبر في الدنيا مفتاح الفرج، النصر مع الصبر، الابتلاء والبلاء في الدنيا إذا صَبَرتَ عليه أثابك الله لأنه امتحان، البلاء في الدنيا امتحان النجاح فيه بالصبر، فمن صبر نجا. الصبر على جهنم لا يُنجي ولا ينفع، والجزع في جهنم والصراخ والعويل لا يُجدي ولا ينفع، ولذا هم يقولون في جهنم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [سورة إبراهيم آية: ٢١]. (فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم): أي يستوي الأمر بالنسبة لكم، فالعذاب واقع صبرتم أولم تصبروا، صبرتم أو جزعتم سواء عليكم.
﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تعليل لاستواء الصبر وعدمه، لأنه إن صبر أو لم يصبر لا فائدة لأنه يُجزى بعمله، فالأمر ليس امتحان أو ابتلاء أو اختبار، إنما هو عقاب وجزاء على عمل، صبر أو لم يصبر لابد وأن يُجزى، لابد وأن يقع به العذاب، ولابد أن يقع له الجزاء، ذلك حال المكذبين وذاك هو حال أهل النار، أعاذنا الله من شر هذه الحال. وبضدها تتميز الأشياء، وينتقل الكلام عن أهل النعيم، عن أهل الجنة جعلنا ربنا منهم:
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي يقال لهم ذلك حين يُعرضون عليها ويُسحبون إليها ويلفحهم حَرُّها ولهيبُها، يقال لهم من الخزنة: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا وتقولون لا بعث ولا جزاء ولا ثواب ولا عقاب، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٣٧].
﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ سؤال توبيخ، سؤال تبكيت، هذا الذي ترونه الآن رأي العين، النار وجهنم ولهيبها، أفسحرٌ هذا؟ كما كانوا يقولون في الدنيا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنه ساحر، ويقولون عن القرآن إنه سِحرٌ مبين وأساطير الأولين، بل لو فُتِحَت عليهم أبواب السماء لقالوا سُكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون، فتسألهم الملائكة تبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾؟ أم أن الأعين سُكِّرَت الآن كما سُكِّرَت في الدنيا؟ وأُغلِقت الآن كما أُغلِقت في الدنيا فلا تبصرون جهنم؟ أو المعنى ﴿أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ "أم" بمعنى "بل" لا تبصرون، أي لم تكونوا تبصروا هذا وتتوقعوه في حياتكم الدنيا. ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ صَلَيتُ الشاة أَصْليها: شويتُها. (اصلَوْها): أي ادخلوا هذه النار تُشوى بها الجباه والجلود والوجوه. (اصلوْها): أي ادخلوها وذوقوا حَرَّها ولهيبها حيث تُشوى الجلود منها. ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يستوى الصبر وعدم الصبر. الصبر في الدنيا مفتاح الفرج، النصر مع الصبر، الابتلاء والبلاء في الدنيا إذا صَبَرتَ عليه أثابك الله لأنه امتحان، البلاء في الدنيا امتحان النجاح فيه بالصبر، فمن صبر نجا. الصبر على جهنم لا يُنجي ولا ينفع، والجزع في جهنم والصراخ والعويل لا يُجدي ولا ينفع، ولذا هم يقولون في جهنم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [سورة إبراهيم آية: ٢١]. (فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم): أي يستوي الأمر بالنسبة لكم، فالعذاب واقع صبرتم أولم تصبروا، صبرتم أو جزعتم سواء عليكم.
﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تعليل لاستواء الصبر وعدمه، لأنه إن صبر أو لم يصبر لا فائدة لأنه يُجزى بعمله، فالأمر ليس امتحان أو ابتلاء أو اختبار، إنما هو عقاب وجزاء على عمل، صبر أو لم يصبر لابد وأن يُجزى، لابد وأن يقع به العذاب، ولابد أن يقع له الجزاء، ذلك حال المكذبين وذاك هو حال أهل النار، أعاذنا الله من شر هذه الحال. وبضدها تتميز الأشياء، وينتقل الكلام عن أهل النعيم، عن أهل الجنة جعلنا ربنا منهم:
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَنَعِيمٍۢ ﴿17﴾
فَـٰكِهِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَىٰهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ ﴿18﴾
كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ هَنِيٓـًٔۢا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿19﴾
مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ سُرُرٍۢ مَّصْفُوفَةٍۢ ۖ وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ عِينٍۢ ﴿20﴾
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ أيُّ جنات؟ وأيُّ نعيم؟ الكلام نكرة وهذا التنكير أهو لتعظيم شأن الجنات والنعيم حيث لا يخطر أمرهما على بال؟ أم هذا التنكير للإشعار بأنها جنات مخصوصة ونعيم مخصوص أُعِدَّ للمتقين؟ و (جنات) بمعنى جنة، والجنة كثيرة الشجر وكثيرة الثمار ملتفة أغصانها فلا يدخل إليها شمس أو حر فهي مغطاة مستورة. و (نعيم) وما أدراك ما هو ذلك النعيم؟ لا يعرفه إلا المنعِم، هو الله! ﴿فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ وقُرِئت ﴿فَكِهين﴾ بغير أَلِف، (فكِهَ) الرجل فَكَاهةً فهو فاكِهْ: طاب عيشُه وتَلَذَّذَ بالنِّعَمْ ونَشَط وقَويَ بدنُه وطاب مزاجُه، ذاك هو (الفاكِهْ). (فاكهين): ذوي فاكهة، (فاكهين): متنعمين متلذذين مُحِسِّين بكل ما هم فيه من نعيم، طيبة نفوسهم، طَيِّب مزاجُهم، لا كَدَر ولا تنغيص ولا أَلَم. (فاكهين بما آتاهم) بما أعطاهم وأمدهم به من أصناف اللذائذ والمتع والنعيم. ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ نعم! من زُحْزِحَ عن النار وأُدخِلَ الجنة فقد فاز، وهم في نعيمهم إذا اطَّلَعوْا ورأوْا أهل جهنم أحسوا وعلموا مقدار الفضل الذي منحهم الله إياه. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يقال لهم ويُعرض عليهم ويُقدم لهم ويُحَضُّون على الأكل الشرب ويُدعَون إليه. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الهنيء): مالا تنغيص فيه.
(الهنيء): الدائم، لأن النعمة إذا لم تدم أو إذا لم تتمتع أنت بها إلى الأبد ففيها التنغيص، فيها الكدر، لأنك تشعر بأنها زائلة أو أنت زائل عنها، فأنت في النعيم إما يزول عنك النعيم وإما تزول أنت عنه، وقد يمرض العبد ولا يستطيع أن يأكل، يكبر ولا يستطيع أن يتزوج، أو نِعَم الدنيا موجودة لكنه قد حِيلَ بينه وبينها، أما (الهنيء) فهو الدائم الأبدي الذي لا يزول ولا ينقص، غير مقطوع وغير مجذوذ، (الهنيء) يهنأ به صاحبه. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا﴾ أي كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي هذا الأكل وهذا الشرب الهنيء جزاء لأعمالكم الطيبة والصالحة في الدنيا. ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الاتكاء): الاستناد، وكلمة (متكئين) تفيد أنهم لا يعملون ولا يتعبون ولا يعرقون، فلا تعب ولا نصب. و (الاتكاء) حالة يأتيها الإنسان حين الراحة وحين طيب المزاج وهناء العيش، فالشقي في حياته لا يتكئ، بل هو قائم في نصب، في تعب، في ذهاب وفي مجيء، في رواح، في عمل، في تعب، في صعود، في نزول، أما (الاتكاء) فهو ليس نوم، لأنهم لا ينامون، يتمتعون بكل لحظة ولا يمرضون، مهما أكل ومهما شرب خرج كل ذلك رَشْحٌ كريح المسك، أرأيتم الورود؟ أرأيتم الزهور؟ مهما أعطيت الوردة ماءً، مهما سقيت الزهور بالماء، هذا الماء والغذاء الذي تأخذه الورود من الأرض أين يذهب؟ أكلُنا وشرابُنا فضلات، وكذلك البهائم، أما الورود والزهور أكلُها وشربُها، فضلاته أين تذهب؟ ليس هناك فضلات للورود وإنما يخرج الزائد على هيئة الرشح، الروائح الزكية الطيبة، ذاك حال أهل الجنة يأكلون ويشربون لا يتغوطون ولا يتبولون، لا يعرقون، وإنما يخرج منهم الرشح أطيب ما يكون، أطيب من ريح المسك.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾ (السُّرُر): جمع سرير، (مصفوفة): أُلصِقَت ببعضها وجُمِعَت صفاً صفاً بأوصاف يعلم الله حقيقتها، فقد قالوا إن السرير الواحد من مكة إلى أيْلة، وقالوا أنها بأعمدة من ذهب مُكلَّلة بالدُّر والزبرجد والياقوت، قل ما شئت، كل ما خطر ببالك فنعيم الجنة خلاف ذلك! قالوا إن العبد من أهل الجنة إذا أراد أن يتكئ على السرير تواضع له السرير ونزل إليه فيجلس ثم يرتفع به السرير، قالوا (متكئين على سرر مصفوفة) الذي صَفَّها هو الله، فرشها وزينها هو الله، أعدها هو الله، تُرى كيف هي؟ ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ والآية تحتاج لوقفة، (زوجناهم بحور عين) الباء هنا غريبة! العرب لا تقول زوجته (بامرأة) وإنما تقول زوّجته (امرأة) وتزوجت (امرأة) وتزوجتني (امرأة)، لا تأتي الباء أبداً! هنا يقول: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ لِمَ هذه الباء؟ قيل: الباء تفيد الإلصاق. وقيل: إن الباء تفيد القَرْن، وكأن الحور ملازمين مقرونين لا ينفكون عن أزواجهم أبدا ًفي لحظة من ليل أو نهار، قُرِنوا بالحور العين فهم لا ينفكون عن الحور أبداً. (الحُور) سُمُّوا حُوراً لأن الطَّرْف يَحار في حُسْنِهنّ وجمالهن، أين تنظر؟ إلى شعرها أم إلى عينها أم إلى وجهها أم إلى بياض جلدها أم إلى رقتها أم إلى صوتها؟ إلى أين تنظر؟ وكيف تنتقل العين في هذا الحسن البارع؟ فالعين تَحار والطَّرف يَحار في الحسن والجمال، من هنا هُنَّ حُور. وقيل بل (الحُور): البِيض، فهن بِيض لدرجة أنك ترى ساقها من خلف ثيابها لشدة بياضها، بل ترى مخ عظمها، بل يرى الناظر وجهه في كعبها لبياض بشرتها ونصاعتها وبياضها كالمرآة لو اطَّلعت إحداهن، لا بل لو أخرجت سوارها فقط، إي وربي! السِّوار الذي تتحلى به، لو ظهر سوارها من الملأ الأعلى لانطفأ ضوء الشمس والقمر! قالوا (الحوراء): شديدة بياض العين مع شدة سواد الحدق.
وقالوا (الحوراء) عيونهن كعيون الظباء مُكحَّلة بكُحلٍ رباني. الحور (العِين): جمع عَيناء، و (العَيناء) من النساء: واسعة العين في جمال. والرجل في الجنة يتزوج في الشهر الواحد ألف حوراء يعانق الواحدة منهن مدة عمرة في الدنيا! بل ويصف لنا النبي (صلى الله عليه وسلم): "يتنعم الرجل بزوجته من الحور في تَكِئَةٍ واحدة سبعين عاماً لا يَمَلُّها ولا تَمَلُّه، فتناديه أخرى أبهى وأحلى وأجمل: أما آن لنا منك دولة بعد؟ " أي ألم يأت الدور علينا؟ "فيلتفت إليها ويقول: فمن أنت؟ فتقول: أنا من اللاتي قال الله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ٣٥]، فينتقل إليها في غُرفةٍ أخرى فيتنعم بها في تَكِئةٍ سبعين عاماً، فتناديه أخرى أبهى وأحلى وأجمل: أما آن لنا منك دولة بعد؟ فيلتفت إليها ويقول: فمن أنت؟ فتقول أنا من اللاتي قال الله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [سورة السجدة آية: ١٧]، فينتقل إليها فيتنعم بها في غُرفة أخرى سبعين عاماً"، هذا هو حال أهل النعيم بعد ما ذُكِرَ حال أهل الجحيم، فاختر لنفسك أيها العبد الصالح أي الطريقين تختار.
هؤلاء المكذبون يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعَّا، ً في السلاسل يُسحَبون، في الحميم ثم في النار يُسجرون، وهؤلاء في الجنة يُنعَّمون ويُزوَّجون بالحور العين، مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أولئك الذين أنعم الله عليهم فأسكنهم جنته، هؤلاء الذين يصف ربنا (تبارك وتعالى) حالهم في جنات ونعيم متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحورٍ عِين، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، هؤلاء الذين يقال لهم كلوا واشربوا، أمحتاجون هم إلى هذا؟ أمامهم الأكل وأمامهم الشرب، لِمَ يُقال لهم كلوا واشربوا؟ تحضيض، وكأنك تأكل الأكل وتشرب الشرب تعتقد أنك قد ذقت طعمه وعرفت نوعه فإذا قيل لك كُلْ، تأكل فإذا بالطعم مختلف (أُتُوا به متشابهاً) إي وربي! متشابهاً لكن الطعوم مختلفة، ما يأكل مرة من ثمرة إلا وطعمها جديد وما يشرب كأساً مرة فيعيد الشرب إلا وطعم جديد ومذاق جديد ورائحة جديدة، نعم يُبدِئ ويُعيد، متكئين على سرر مصفوفة، وجوههم في وجوه بعض فلا ينظر أحدهم إلى قفا صاحبه أبداً، كلما دار بسريره دارت السُّرُر فهم متقابلين، وزوجناهم، المزوِّج هو الله، تخيل لو لك أب يحبك ويحدب عليك ويعطف عليك، غني مُقتدِر ذو جاه وسلطان ومال، وأراد أن يختار لك زوجة، وكل النساء والعذارى يأتمرن بأمره، تُرى كيف يختار لك؟ فما بالك والمختار لك هو الله؟ بل هو يخلق لك، يصنع لك الزوجة، يخلقها خلقاً، يُنشِئها إنشاءً، إي وربي! ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴾ [سورة الواقعة آية: ٣٥ - ٣٦]، كلما تأتيها تجدها بِكراً، تعانقها العناق فقط سبعين عاماً لا تَمَلّ ولا تُمَلّ، ترى كيف هُنّ؟ وأوصاف مهما قيل فيها لا يمكن أن نبلغ حقيقتها، فحقيقتها لا يعلمها إلا الله.
يدخل التقي المؤمن في هذا النعيم والجنات، فإذا دخل واستقر بحث: أين أبي؟ أين أمي؟ فلا يجد الأب ولا يجد الأم، يبحث عن الزوجة فلا يجدها، يبحث عن أولاده، وحين لا يجد أحداً منهم ينادي ويقول: يارب أين أبي وأين أمي؟ أين زوجتي وأين أولادي؟ فيقول الله (تبارك وتعالى) أو يُقال له: لم يبلغوا درجتك ولم يعملوا بعملك، فيقول: يارب كنت أعمل لي ولهم، فيأمر الله (تبارك وتعالى) فيُلحَقوا به لِتَقَرَّ عينُه بهم ويقول الله (تبارك وتعالى):
(الهنيء): الدائم، لأن النعمة إذا لم تدم أو إذا لم تتمتع أنت بها إلى الأبد ففيها التنغيص، فيها الكدر، لأنك تشعر بأنها زائلة أو أنت زائل عنها، فأنت في النعيم إما يزول عنك النعيم وإما تزول أنت عنه، وقد يمرض العبد ولا يستطيع أن يأكل، يكبر ولا يستطيع أن يتزوج، أو نِعَم الدنيا موجودة لكنه قد حِيلَ بينه وبينها، أما (الهنيء) فهو الدائم الأبدي الذي لا يزول ولا ينقص، غير مقطوع وغير مجذوذ، (الهنيء) يهنأ به صاحبه. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا﴾ أي كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي هذا الأكل وهذا الشرب الهنيء جزاء لأعمالكم الطيبة والصالحة في الدنيا. ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الاتكاء): الاستناد، وكلمة (متكئين) تفيد أنهم لا يعملون ولا يتعبون ولا يعرقون، فلا تعب ولا نصب. و (الاتكاء) حالة يأتيها الإنسان حين الراحة وحين طيب المزاج وهناء العيش، فالشقي في حياته لا يتكئ، بل هو قائم في نصب، في تعب، في ذهاب وفي مجيء، في رواح، في عمل، في تعب، في صعود، في نزول، أما (الاتكاء) فهو ليس نوم، لأنهم لا ينامون، يتمتعون بكل لحظة ولا يمرضون، مهما أكل ومهما شرب خرج كل ذلك رَشْحٌ كريح المسك، أرأيتم الورود؟ أرأيتم الزهور؟ مهما أعطيت الوردة ماءً، مهما سقيت الزهور بالماء، هذا الماء والغذاء الذي تأخذه الورود من الأرض أين يذهب؟ أكلُنا وشرابُنا فضلات، وكذلك البهائم، أما الورود والزهور أكلُها وشربُها، فضلاته أين تذهب؟ ليس هناك فضلات للورود وإنما يخرج الزائد على هيئة الرشح، الروائح الزكية الطيبة، ذاك حال أهل الجنة يأكلون ويشربون لا يتغوطون ولا يتبولون، لا يعرقون، وإنما يخرج منهم الرشح أطيب ما يكون، أطيب من ريح المسك.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾ (السُّرُر): جمع سرير، (مصفوفة): أُلصِقَت ببعضها وجُمِعَت صفاً صفاً بأوصاف يعلم الله حقيقتها، فقد قالوا إن السرير الواحد من مكة إلى أيْلة، وقالوا أنها بأعمدة من ذهب مُكلَّلة بالدُّر والزبرجد والياقوت، قل ما شئت، كل ما خطر ببالك فنعيم الجنة خلاف ذلك! قالوا إن العبد من أهل الجنة إذا أراد أن يتكئ على السرير تواضع له السرير ونزل إليه فيجلس ثم يرتفع به السرير، قالوا (متكئين على سرر مصفوفة) الذي صَفَّها هو الله، فرشها وزينها هو الله، أعدها هو الله، تُرى كيف هي؟ ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ والآية تحتاج لوقفة، (زوجناهم بحور عين) الباء هنا غريبة! العرب لا تقول زوجته (بامرأة) وإنما تقول زوّجته (امرأة) وتزوجت (امرأة) وتزوجتني (امرأة)، لا تأتي الباء أبداً! هنا يقول: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ لِمَ هذه الباء؟ قيل: الباء تفيد الإلصاق. وقيل: إن الباء تفيد القَرْن، وكأن الحور ملازمين مقرونين لا ينفكون عن أزواجهم أبدا ًفي لحظة من ليل أو نهار، قُرِنوا بالحور العين فهم لا ينفكون عن الحور أبداً. (الحُور) سُمُّوا حُوراً لأن الطَّرْف يَحار في حُسْنِهنّ وجمالهن، أين تنظر؟ إلى شعرها أم إلى عينها أم إلى وجهها أم إلى بياض جلدها أم إلى رقتها أم إلى صوتها؟ إلى أين تنظر؟ وكيف تنتقل العين في هذا الحسن البارع؟ فالعين تَحار والطَّرف يَحار في الحسن والجمال، من هنا هُنَّ حُور. وقيل بل (الحُور): البِيض، فهن بِيض لدرجة أنك ترى ساقها من خلف ثيابها لشدة بياضها، بل ترى مخ عظمها، بل يرى الناظر وجهه في كعبها لبياض بشرتها ونصاعتها وبياضها كالمرآة لو اطَّلعت إحداهن، لا بل لو أخرجت سوارها فقط، إي وربي! السِّوار الذي تتحلى به، لو ظهر سوارها من الملأ الأعلى لانطفأ ضوء الشمس والقمر! قالوا (الحوراء): شديدة بياض العين مع شدة سواد الحدق.
وقالوا (الحوراء) عيونهن كعيون الظباء مُكحَّلة بكُحلٍ رباني. الحور (العِين): جمع عَيناء، و (العَيناء) من النساء: واسعة العين في جمال. والرجل في الجنة يتزوج في الشهر الواحد ألف حوراء يعانق الواحدة منهن مدة عمرة في الدنيا! بل ويصف لنا النبي (صلى الله عليه وسلم): "يتنعم الرجل بزوجته من الحور في تَكِئَةٍ واحدة سبعين عاماً لا يَمَلُّها ولا تَمَلُّه، فتناديه أخرى أبهى وأحلى وأجمل: أما آن لنا منك دولة بعد؟ " أي ألم يأت الدور علينا؟ "فيلتفت إليها ويقول: فمن أنت؟ فتقول: أنا من اللاتي قال الله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [سورة ق آية: ٣٥]، فينتقل إليها في غُرفةٍ أخرى فيتنعم بها في تَكِئةٍ سبعين عاماً، فتناديه أخرى أبهى وأحلى وأجمل: أما آن لنا منك دولة بعد؟ فيلتفت إليها ويقول: فمن أنت؟ فتقول أنا من اللاتي قال الله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [سورة السجدة آية: ١٧]، فينتقل إليها فيتنعم بها في غُرفة أخرى سبعين عاماً"، هذا هو حال أهل النعيم بعد ما ذُكِرَ حال أهل الجحيم، فاختر لنفسك أيها العبد الصالح أي الطريقين تختار.
هؤلاء المكذبون يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعَّا، ً في السلاسل يُسحَبون، في الحميم ثم في النار يُسجرون، وهؤلاء في الجنة يُنعَّمون ويُزوَّجون بالحور العين، مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أولئك الذين أنعم الله عليهم فأسكنهم جنته، هؤلاء الذين يصف ربنا (تبارك وتعالى) حالهم في جنات ونعيم متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحورٍ عِين، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، هؤلاء الذين يقال لهم كلوا واشربوا، أمحتاجون هم إلى هذا؟ أمامهم الأكل وأمامهم الشرب، لِمَ يُقال لهم كلوا واشربوا؟ تحضيض، وكأنك تأكل الأكل وتشرب الشرب تعتقد أنك قد ذقت طعمه وعرفت نوعه فإذا قيل لك كُلْ، تأكل فإذا بالطعم مختلف (أُتُوا به متشابهاً) إي وربي! متشابهاً لكن الطعوم مختلفة، ما يأكل مرة من ثمرة إلا وطعمها جديد وما يشرب كأساً مرة فيعيد الشرب إلا وطعم جديد ومذاق جديد ورائحة جديدة، نعم يُبدِئ ويُعيد، متكئين على سرر مصفوفة، وجوههم في وجوه بعض فلا ينظر أحدهم إلى قفا صاحبه أبداً، كلما دار بسريره دارت السُّرُر فهم متقابلين، وزوجناهم، المزوِّج هو الله، تخيل لو لك أب يحبك ويحدب عليك ويعطف عليك، غني مُقتدِر ذو جاه وسلطان ومال، وأراد أن يختار لك زوجة، وكل النساء والعذارى يأتمرن بأمره، تُرى كيف يختار لك؟ فما بالك والمختار لك هو الله؟ بل هو يخلق لك، يصنع لك الزوجة، يخلقها خلقاً، يُنشِئها إنشاءً، إي وربي! ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴾ [سورة الواقعة آية: ٣٥ - ٣٦]، كلما تأتيها تجدها بِكراً، تعانقها العناق فقط سبعين عاماً لا تَمَلّ ولا تُمَلّ، ترى كيف هُنّ؟ وأوصاف مهما قيل فيها لا يمكن أن نبلغ حقيقتها، فحقيقتها لا يعلمها إلا الله.
يدخل التقي المؤمن في هذا النعيم والجنات، فإذا دخل واستقر بحث: أين أبي؟ أين أمي؟ فلا يجد الأب ولا يجد الأم، يبحث عن الزوجة فلا يجدها، يبحث عن أولاده، وحين لا يجد أحداً منهم ينادي ويقول: يارب أين أبي وأين أمي؟ أين زوجتي وأين أولادي؟ فيقول الله (تبارك وتعالى) أو يُقال له: لم يبلغوا درجتك ولم يعملوا بعملك، فيقول: يارب كنت أعمل لي ولهم، فيأمر الله (تبارك وتعالى) فيُلحَقوا به لِتَقَرَّ عينُه بهم ويقول الله (تبارك وتعالى):
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَـٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍۢ ۚ كُلُّ ٱمْرِئٍۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌۭ ﴿21﴾
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ ﴿والذين آمنوا وأتبعناهم ذريتهم﴾ قراءة أخرى، أي: مَنَّ الله (تبارك وتعالى) على الذرية فجعلها تتبع الآباء في الإيمان. ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ وجاء بكلمة إيمان نكرة ليُشعِر بفيض الرحمة وعظيم المَنِّ، إذ مجرد اتباع الأبناء للآباء في الإيمان كافٍ لإلحاقهم بالدرجات العُلا. وكلمة (ذرية) لا تعني الأبناء والأحفاد فقط بل تعني الآباء والأمهات أيضاً، فالذرية تُطلق على الأب كما تُطلق على الابن لأن الله يقول: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [سورة يس آية:٤١] ومن حُمِلَ في الفُلك المشحون الآباء وليس الأبناء، فالذين حُمِلوا مع نوح آباؤنا وأجدادنا وليس أولادنا، إذا ًفالذرية تطلق على الآباء كما تطلق على الأبناء. إذا ًإذا دخل رجل الجنة وكان في درجة عالية لا يبلغها الأب أُلحِقَ الأبُ بابنه، أو لا يبلغها الابن أُلحِقَ الابن بأبيه واجتمع الشمل وقرّت العين وسَعِدتَ بصحبة المؤمنين وبوجود الأهل والآباء والزوجات والأبناء وبالحور العين. وقد تتساءل الزوجة إذا كان هذا حال الحور العين وذاك وصفهن، فكيف تكون المؤمنة؟ صَلَّت وصامت وحَجَّت وتَصَدَّقَت وحَفِظَت فرجها وأطاعت زوجها، والحور لم يفعلن ذلك؟ يقال لهذه الزوجة ما بينك وبين تلك الحور سبعون ضِعفاً، أنت أفضل وأحلى وأبهى وأجمل بسبعين ضعف، الزوجات المؤمنات في الجنة أعلى وأجلّ وأبهى من الحور بسبعين ضِعفاً.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ﴿ألحقنا بهم ذرياتهم﴾ قراءة أخرى، (ألحقنا بهم ذريتهم) في الدرجة، في النعيم، يكفي من الأسرة واحد في العليين طالما زُحْزِحَ الأب أو الابن أو الزوجة عن النار ودخل الجنة ولو في أدنى درجة رُفِعَ إلى الدرجة العليا بشرط لا ينقص من درجة الأعلى أبداً. ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وما نقصناهم، أَلَتَهُ يأْلِتُه: نَقَصَهُ. وقُرِئت: ﴿وما آلتناهم﴾، ﴿وما ألِتْناهم﴾، ﴿وما لِتْناهم﴾. لاَتَهُ يَأْلِتْهُ آلتهُ يُؤْلِته إيلاتاً: نَقَص. ربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إذا ً فمن رُفِعَ إلى عِلِّيِّين إذا أُلحِقَ الآباء والأمهات أو الأبناء أو الزوجات لا يأخذوا من ثوابه، ولا يأخذوا من عمله، ولا تنقص درجته، وإنما يُرفَعُ الأدنى إلى الأعلى فتستوي الدرجة. ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ الكلام هنا كلام عام عن كل الناس، كل امرئ بما كسب رهين، فالمسلم والمؤمن مرهون بعمله الصالح ينجيه، والكافر والكاذب والمكذِّب مرهون بعمله السيئ فيرديه. أهو كذلك؟ أم أن الكلام (كل امرئ بما كسب رهين) مختص بأهل النار فقط؟ قولان أرجحهما والله أعلم أن الكلام خاص بأهل جهنم، إذ أهل النار مرهونون بعملهم وأهل الجنة صاروا إلى نعيمهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)، والدليل أن الآية تخص أهل جهنم قول الله (تبارك وتعالى) في موضع آخر: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(٣٨)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(٣٩)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(٤٠)عَنِ الْمُجْرِمِينَ(٤١)﴾ [سورة المدثر آية: ٣٨ - ٤١] إذا ًفأهل النعيم صاروا إلى نعيمهم، وأهل الجحيم مرهونون بعملهم.
أو الكلام عن الذرية التي لم تتبع الآباء في الإيمان فَرَهَنَهُم كفرُهم في جهنم، (كل امرئ بما كسب رهين).
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ﴿ألحقنا بهم ذرياتهم﴾ قراءة أخرى، (ألحقنا بهم ذريتهم) في الدرجة، في النعيم، يكفي من الأسرة واحد في العليين طالما زُحْزِحَ الأب أو الابن أو الزوجة عن النار ودخل الجنة ولو في أدنى درجة رُفِعَ إلى الدرجة العليا بشرط لا ينقص من درجة الأعلى أبداً. ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وما نقصناهم، أَلَتَهُ يأْلِتُه: نَقَصَهُ. وقُرِئت: ﴿وما آلتناهم﴾، ﴿وما ألِتْناهم﴾، ﴿وما لِتْناهم﴾. لاَتَهُ يَأْلِتْهُ آلتهُ يُؤْلِته إيلاتاً: نَقَص. ربنا (تبارك وتعالى) يقول: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إذا ً فمن رُفِعَ إلى عِلِّيِّين إذا أُلحِقَ الآباء والأمهات أو الأبناء أو الزوجات لا يأخذوا من ثوابه، ولا يأخذوا من عمله، ولا تنقص درجته، وإنما يُرفَعُ الأدنى إلى الأعلى فتستوي الدرجة. ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ الكلام هنا كلام عام عن كل الناس، كل امرئ بما كسب رهين، فالمسلم والمؤمن مرهون بعمله الصالح ينجيه، والكافر والكاذب والمكذِّب مرهون بعمله السيئ فيرديه. أهو كذلك؟ أم أن الكلام (كل امرئ بما كسب رهين) مختص بأهل النار فقط؟ قولان أرجحهما والله أعلم أن الكلام خاص بأهل جهنم، إذ أهل النار مرهونون بعملهم وأهل الجنة صاروا إلى نعيمهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)، والدليل أن الآية تخص أهل جهنم قول الله (تبارك وتعالى) في موضع آخر: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(٣٨)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(٣٩)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(٤٠)عَنِ الْمُجْرِمِينَ(٤١)﴾ [سورة المدثر آية: ٣٨ - ٤١] إذا ًفأهل النعيم صاروا إلى نعيمهم، وأهل الجحيم مرهونون بعملهم.
أو الكلام عن الذرية التي لم تتبع الآباء في الإيمان فَرَهَنَهُم كفرُهم في جهنم، (كل امرئ بما كسب رهين).
وَأَمْدَدْنَـٰهُم بِفَـٰكِهَةٍۢ وَلَحْمٍۢ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿22﴾
يَتَنَـٰزَعُونَ فِيهَا كَأْسًۭا لَّا لَغْوٌۭ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌۭ ﴿23﴾
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌۭ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌۭ مَّكْنُونٌۭ ﴿24﴾
﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أمددنا أهل الجنة، أمدّهم ربنا (تبارك وتعالى) إذا ًفما عندهم لا ينفد ولا ينتهي، ومع كثرة الموجود ووفرة الموجود ربنا (تبارك وتعالى) يمدّهم بكل جديد ولذيذ. ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ الفاكهة تُرى ما شكلها؟ تُرى ما طعمها؟ تُرى ما لونها؟ تُرى ما رائحتها؟ فاكهة الجنة فاكهة أعدّها الله ولم يزرعها الإنسان، ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾. ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ وقُرِئت: ﴿لا لغوَ فيها ولا تأثيماً﴾، (الكأس): الإناء مملوء بالخمر، فإذا فرغ الإناء فهو ليس بكأس، ولا يطلق على الإناء كلمة كأس إلا إذا كان فيه شراب. هذا التنازع ليس تنازع كتنازع الدنيا، مشاكل وصراع، وإنما التنازع التجاذب والتمازح، هو والحُور، فهي تعطيه وهو يعطيها، ويعطي زوجته ويأتيه الأب وهكذا يتجاذبون ويتعاطون. ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ (اللغو): كل مالا طائل وراءه من الكلام، ليس في خمر الآخرة كما في خمر الدنيا الكلام القبيح، أو اللسان المعوج، أو الكلام الذي لا طائل وراءه، أو التافه من الحديث، لا لغو في هذه الكأس، لا تؤثر فيهم فيأتون بالكلام القبيح أو الكلام الذي لا طائل وراءه. (ولا تأثيم): أي لا يُؤثَّم شاربها، لا يأتي إثماً ولا يفعل ما يُؤثَّم به أو يعاتَب عليه. هذا في شأن الكأس، لا لغو فيها ولا تأثيم. أو الكلام عن الجنة، (لا لغو فيها) أي في الجنة، (ولا تأثيم) أي ولا إثم يُرتَكَب ولا كَذِب، فليس في الجنة كَذِب، بل الجنة فيها الصدق والصدق فقط. ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ و (الغلام): من لم يبلغ الحُلُم. و (غلمان) جمع غلام، مَن هؤلاء الغلمان؟ قالوا: أولادهم الذين ماتوا وهم صغار، يبعثهم الله في الجنة ولا يكبرون فيها أبداً.
وقالوا: الغلمان أولاد المشركين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحُلُم، فهم خَدَمُ أهل الجنة. وقيل: هم غلمان خلقهم الله (تبارك وتعالى) خصيصاً للجنة كما خلق الحور العين. ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ﴾ كم؟ أدنى رجل منزلة في الجنة له ألف خادم، ينادي أحدكم على الخادم فيجيبه ألف، كلهم لبيك لبيك. ويخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن الألف لأدنى منزلة، كل غلام في عمل ليس عليه صاحبه، تُرى ماذا يفعلون؟ وهل يحتاج الإنسان في الجنة إلى خِدمة وقطوفها دانية؟ ماذا يفعل هؤلاء الغلمان؟ أنت غير محتاج لخدمة، إذا أردت أن تتكئ على السرير نزل إليك السرير، وإذا أردت أن تقطف ثمرة تَدَلَّت إليك: (قطوفها دانية)، لا تعب ولا نصب، تُرى ماذا يفعل الغلمان؟ ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ (اللؤلؤ) معروف، ذلك الجوهر الذي يخرج من البحر. (مكنون): محفوظ مستور، أَكْنَنتُ الشيء وكَنَنْتُه: سَتَرْتُه ببيت أو بجدار أو بثوب، و أَكْنَنْتُ الشيء في نفسي: أَسْرَرتُه وأخفيتُه. فالغلمان كأنهم لصفاء ألوانهم وبياض بشرتهم وجمالهم كأنهم لؤلؤ مكنون في الأصداف، محفوظ لم تمسسه الأيدي، لم يتعرض لخدش أو لجرح أو للمس أو لغبار أو لتراب، (مكنون): محفوظ، والذي كَنَّهم هو الله. ذاك حال الخدم، لذا قال الصحابة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله إذا كان هذا حال الخادم فكيف حال المخدوم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وأصغر الكواكب". إذا كان الخادم كاللؤلؤ المكنون تُرى كيف يكون المخدوم؟ كيف من يُطاف عليه؟ كيف شكله؟ كيف وضعه؟
وقالوا: الغلمان أولاد المشركين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحُلُم، فهم خَدَمُ أهل الجنة. وقيل: هم غلمان خلقهم الله (تبارك وتعالى) خصيصاً للجنة كما خلق الحور العين. ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ﴾ كم؟ أدنى رجل منزلة في الجنة له ألف خادم، ينادي أحدكم على الخادم فيجيبه ألف، كلهم لبيك لبيك. ويخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن الألف لأدنى منزلة، كل غلام في عمل ليس عليه صاحبه، تُرى ماذا يفعلون؟ وهل يحتاج الإنسان في الجنة إلى خِدمة وقطوفها دانية؟ ماذا يفعل هؤلاء الغلمان؟ أنت غير محتاج لخدمة، إذا أردت أن تتكئ على السرير نزل إليك السرير، وإذا أردت أن تقطف ثمرة تَدَلَّت إليك: (قطوفها دانية)، لا تعب ولا نصب، تُرى ماذا يفعل الغلمان؟ ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ (اللؤلؤ) معروف، ذلك الجوهر الذي يخرج من البحر. (مكنون): محفوظ مستور، أَكْنَنتُ الشيء وكَنَنْتُه: سَتَرْتُه ببيت أو بجدار أو بثوب، و أَكْنَنْتُ الشيء في نفسي: أَسْرَرتُه وأخفيتُه. فالغلمان كأنهم لصفاء ألوانهم وبياض بشرتهم وجمالهم كأنهم لؤلؤ مكنون في الأصداف، محفوظ لم تمسسه الأيدي، لم يتعرض لخدش أو لجرح أو للمس أو لغبار أو لتراب، (مكنون): محفوظ، والذي كَنَّهم هو الله. ذاك حال الخدم، لذا قال الصحابة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله إذا كان هذا حال الخادم فكيف حال المخدوم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وأصغر الكواكب". إذا كان الخادم كاللؤلؤ المكنون تُرى كيف يكون المخدوم؟ كيف من يُطاف عليه؟ كيف شكله؟ كيف وضعه؟
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ يَتَسَآءَلُونَ ﴿25﴾
قَالُوٓا۟ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِىٓ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴿26﴾
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ ﴿27﴾
إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ ﴿28﴾
وهم في نعيمهم تعارفوا والتقوا وتساءلوا وسأل بعضهم بعضاً: بِمَ بَلَغْتَ هذه الدرجة؟ أو هم يتساءلون ويتحدثون عن فضل الله كيف نجاهم ويتذاكرون أحوالهم في الدنيا. (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) خائفين من الله، معتنين بطاعته، نذهب إلى المساجد، ونرعى حق الله، ونرعى حق الأب والأم، ونرعى حق الجار، نأتمر بأمر الله وننتهي بنهيه، نخاف عذابه ونخشى حسابه. أيها الأخ المسلم أتريد مزيداً من الحور العين؟ أنت في الدنيا تدفع كذا كذا مهراً لفتاة قد تكون جميلة وقد لا تكون أمينة أو لا تكون، أتدري ما هو المهر للحور؟ أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم): قبضات التمر وفِلَق الخبز، الصدقات اليسيرة، ذاك هو مهر الحور العين، أتدرون ما هو المهر للحور العين؟ كنس المساجد وإخراج القمامة، قال ذلك الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) فحافظوا على نظافة المساجد واكنسوها وقُمُّوها، أزيلوا منها القمامة، وإياكم أن تلوثوها، ذاك مهر الحور العين، مهر يسير، والصدقات الخفيفة؛ فِلَق الخبز وقبضات التمر، أقل القليل من الصدقة ذاك هو مهر الحور العين. من نِعَمِ الله (تبارك وتعالى) على الإنسان الذِّكرى والتذكُّر، مِنَّةٌ كبرى من الله تبارك وتعالى أن يكون اللإنسان حافظة، هذه الحافظة تُختَزَن فيها الحوادث والوقائع والأحداث والأقوال، فإذا تذكر الإنسان ما مضى أخذ العبرة وأخذ العظة وتعلم من أخطائه. أيضاً قد يجلس الإنسان وحيداً وخصوصاً في شيخوخته فتأتيه الذكريات فيتذكر أوقاتاً سعيدة وأياماً جميلة يعش ذكراها فيسعد من جديد بمجرد الذكرى، وقد يتذكر الإنسان أياماً عصيبة، أُصيبَ في بدنه أو في ولده أو في ماله، ثم يذكر نعمة الله عليه بالصبر ثم بالفرج ثم بالرحمة فيحمد الله (تبارك وتعالى) على ذلك، فالمؤمن في كل تذكّره وفي جميع ذكرياته شاكر لله (تبارك وتعالى) حامد لفضله متحدث بنعمة الله (تبارك وتعالى) عليه.
أما الكافر فما من ذكرى إلا وهي حسرة، وما من تذكر إلا وهو ندم، لذا يقول الله (تبارك وتعالى) في شأن الكفار: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٦٧]، والحسرة والندم لون من ألوان العذاب في القبر، بل لون من ألوان العذاب أيضاً في يوم القيامة. وأما المؤمنون الذين هم في جنات ونعيم، هؤلاء الذين أَلحَقَ اللهُ بهم ذريتهم وما أَلَتَهم من عملهم من شيء، هؤلاء الذين هم في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، هؤلاء أيضاً تأتيهم الذكريات فيتذكرون أحوالهم في الدنيا، ويُذَكِّرون بعضهم بعضاً، هؤلاء إذا بُعِثوا من القبور بُعِثوا آمنين، بُعِثوا حامدين لله ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٢] يخرجون من القبور حامدين لله (تبارك وتعالى) مسبحين له، يتعارفون بينهم كما كانوا يعرفون بعضهم في الدنيا، فهم أيضاً يتعارفون في الآخرة، وإذا حُشِروا حُشِروا في جماعة، فما من عبد إلا وآت الله يوم القيامة فرداً إلا المتقون ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٦٧] هؤلاء الذين اتقوا في الدنيا يجعل ربنا (تبارك وتعالى) لهم يوم القيامة وُدَّاً، فيتصل الود في الدنيا، بل وبعد الموت في حياة البرزخ يلتقي الأخلاء المتقون فهم أيضا في نعيم الذكريات، وفي أمل دخول الجنات، فإذا حُشِروا يوم القيامة حُشِروا جماعات، لا خوف ولا حَزَن ولا قلق. بعد أن قَصَّ ربنا علينا في سورة الطور أحوال المؤمنين والمتقين، وكيف يُطاف عليهم بكأسٍ من معين، وكيف أنَّ الغلمان الذين يطوفون بهم كاللؤلؤ المكنون، يقول: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ يسأل بعضهم بعضاً عن حاله الآن، ويسأله عن مقامه وكيف وصل إليه، يتساءلون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، متجاورين في المساجد متحابين في جلال الله مجتمعين على كلامه.
﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ تذكُّر لأحوال الدنيا، كيف كانوا وكيف وصلوا إلى هذا المقام الرفيع، كانوا في الدنيا مشفقين، و (الإشفاق): خوف مختلط بالعناية والاعتناء، فإذا قُلتَ: (أشفق في) فالعناية أظهر من الخوف، وإذا قُلتَ: (أشفق مِن) فالخوف أظهر من الاعتناء، وذا عُدِّيَ بـ (مِن) فالخوف أظهر، وإذا عُدِّيَ بـ (في) فالاعتناء أظهر. من هنا إذا نظرنا لقولهم: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ إذا ً فقد كانوا معتنين بطاعة الله اعتناء زائد وعناية كاملة، والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، وهم أيضاً خائفين من عقابه وحسابه، فعَبَّروا بالإشفاق عن الخوف من الحساب والعناية بالعبادة والطاعة فكانوا يأتون بها على وجهها الأمثل والأكمل. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ مَنَّ الله (تبارك وتعالى) بالقبول، لأن الله لا يجب عليه شيء، هو منحك الطاعة، هو منحك العبادة، هو منحك العافية لأداء العبادات، هو منحك العقل للتمييز بين الضار والنافع، ورغم ذلك قَبِلَ منك ما أعطاه لك، أعطاك المال ووفقك للصدقة ثم قَبِلَها منك، فمَنَّ الله علينا بالقبول، بالعناية، بالرعاية، بالتوفيق، بالنجاة من النار. ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ (السَّموم): اسم من أسماء جهنم، أو هي طَبَقة من طِبَاق جهنم، وسُمِّيَت (السَّموم) لأنها تنفذ إلى المسام فتُحدِث في الجسم ما يُحدِثه السُّم. وتُسمَّى الريح الحارة الساخنة التي تنفذ في مسام الجسم (السَّموم)، فكذلك جهنم تُسمَّى (السَّموم) لأن لهيبها و حَرَّها يدخل في مسام الجسم يؤثر فيه تأثير السُّم. ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ (الدُّعاء): السؤال، نسأله السلامة، ونسأله العافية، ونسأله التوفيق للطاعة، ونسأله العصمة من المعصية، ونسأله الرضا، ونسأله الجنة.
(كنا من قبل ندعوه) ومن دَعا استُجيبَ له، ما من داعٍ إلا ويُجابُ حتى ولو كان كافراً لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [سورة النمل آية: ٦٢] المضطر مسلماً كان أو كافراً، بل يحدثنا عن الكفار: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [سورة لقمان آية: ٣٢] وقد كان يعلم لكنهم حين دَعَوْا استجاب لهم، قريب يجيب الداعي إذا دعاه. ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ نسأله. وقد يكون المعنى (إنا كنا من قبل ندعوه) أي: نعبده، لأن الدعاء عبادة، فالدعاء أيضا يأتي بمعنى العبادة. ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ قراءة ﴿أنَّه هو البَرُّ الرحيم﴾ قراءة أخرى، أي: لأنه هو البَرُّ الرحيم. ﴿البَرُّ﴾: الواسع في فضله، الباسط لرزقه، ﴿البَرُّ﴾: الكريم المتوسع في كل فضل وإفضال وإنعام وعطاء، ﴿البَرُّ﴾: المعطي المانح العاطي لكل ما يُسعِد، ذاك هو البَرُّ، ولا يعرف البَرُّ إلا البَرُّ، هو الله! كنا ندعوه من قبل إنه هو البَرُّ الرحيم، أمل في الله، حسن ظن بالله، وربنا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيراً فخير)، هؤلاء كانوا يظنون بالله خيراً فكانوا يدعوه، وكانوا يعتقدون أنه هو البَرُّ الرحيم.
ويلتفت الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الأوصاف، أقسام في أول السورة بخمسة أشياء عظيمة أقسم الله بها في مُفتَتَح سورة الطور، وبعد هذه الأقسام كان جواب القسم: (إن عذاب ربك لواقع)، بيّن أنه ليس لهذا العذاب دافع، بَيَّن يوم القيامة، يوم تَمورُ السماء مَوْراً، بَيَّن أحوال المكذبين والكافرين كيف يُعرَضون على جهنم ويُقال لهم ذوقوا فتنتكم، ثم بَيَّن أحوال أهل النعيم وكيف هم في روضة يُحبرون، وكيف يتذكرون حين البعث ما كانوا عليه من إشفاق ووجل وخوف وعبادة ودعاء، التفت الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم):
أما الكافر فما من ذكرى إلا وهي حسرة، وما من تذكر إلا وهو ندم، لذا يقول الله (تبارك وتعالى) في شأن الكفار: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٦٧]، والحسرة والندم لون من ألوان العذاب في القبر، بل لون من ألوان العذاب أيضاً في يوم القيامة. وأما المؤمنون الذين هم في جنات ونعيم، هؤلاء الذين أَلحَقَ اللهُ بهم ذريتهم وما أَلَتَهم من عملهم من شيء، هؤلاء الذين هم في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، هؤلاء أيضاً تأتيهم الذكريات فيتذكرون أحوالهم في الدنيا، ويُذَكِّرون بعضهم بعضاً، هؤلاء إذا بُعِثوا من القبور بُعِثوا آمنين، بُعِثوا حامدين لله ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٢] يخرجون من القبور حامدين لله (تبارك وتعالى) مسبحين له، يتعارفون بينهم كما كانوا يعرفون بعضهم في الدنيا، فهم أيضاً يتعارفون في الآخرة، وإذا حُشِروا حُشِروا في جماعة، فما من عبد إلا وآت الله يوم القيامة فرداً إلا المتقون ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٦٧] هؤلاء الذين اتقوا في الدنيا يجعل ربنا (تبارك وتعالى) لهم يوم القيامة وُدَّاً، فيتصل الود في الدنيا، بل وبعد الموت في حياة البرزخ يلتقي الأخلاء المتقون فهم أيضا في نعيم الذكريات، وفي أمل دخول الجنات، فإذا حُشِروا يوم القيامة حُشِروا جماعات، لا خوف ولا حَزَن ولا قلق. بعد أن قَصَّ ربنا علينا في سورة الطور أحوال المؤمنين والمتقين، وكيف يُطاف عليهم بكأسٍ من معين، وكيف أنَّ الغلمان الذين يطوفون بهم كاللؤلؤ المكنون، يقول: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ يسأل بعضهم بعضاً عن حاله الآن، ويسأله عن مقامه وكيف وصل إليه، يتساءلون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، متجاورين في المساجد متحابين في جلال الله مجتمعين على كلامه.
﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ تذكُّر لأحوال الدنيا، كيف كانوا وكيف وصلوا إلى هذا المقام الرفيع، كانوا في الدنيا مشفقين، و (الإشفاق): خوف مختلط بالعناية والاعتناء، فإذا قُلتَ: (أشفق في) فالعناية أظهر من الخوف، وإذا قُلتَ: (أشفق مِن) فالخوف أظهر من الاعتناء، وذا عُدِّيَ بـ (مِن) فالخوف أظهر، وإذا عُدِّيَ بـ (في) فالاعتناء أظهر. من هنا إذا نظرنا لقولهم: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ إذا ً فقد كانوا معتنين بطاعة الله اعتناء زائد وعناية كاملة، والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، وهم أيضاً خائفين من عقابه وحسابه، فعَبَّروا بالإشفاق عن الخوف من الحساب والعناية بالعبادة والطاعة فكانوا يأتون بها على وجهها الأمثل والأكمل. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ مَنَّ الله (تبارك وتعالى) بالقبول، لأن الله لا يجب عليه شيء، هو منحك الطاعة، هو منحك العبادة، هو منحك العافية لأداء العبادات، هو منحك العقل للتمييز بين الضار والنافع، ورغم ذلك قَبِلَ منك ما أعطاه لك، أعطاك المال ووفقك للصدقة ثم قَبِلَها منك، فمَنَّ الله علينا بالقبول، بالعناية، بالرعاية، بالتوفيق، بالنجاة من النار. ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ (السَّموم): اسم من أسماء جهنم، أو هي طَبَقة من طِبَاق جهنم، وسُمِّيَت (السَّموم) لأنها تنفذ إلى المسام فتُحدِث في الجسم ما يُحدِثه السُّم. وتُسمَّى الريح الحارة الساخنة التي تنفذ في مسام الجسم (السَّموم)، فكذلك جهنم تُسمَّى (السَّموم) لأن لهيبها و حَرَّها يدخل في مسام الجسم يؤثر فيه تأثير السُّم. ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ (الدُّعاء): السؤال، نسأله السلامة، ونسأله العافية، ونسأله التوفيق للطاعة، ونسأله العصمة من المعصية، ونسأله الرضا، ونسأله الجنة.
(كنا من قبل ندعوه) ومن دَعا استُجيبَ له، ما من داعٍ إلا ويُجابُ حتى ولو كان كافراً لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [سورة النمل آية: ٦٢] المضطر مسلماً كان أو كافراً، بل يحدثنا عن الكفار: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [سورة لقمان آية: ٣٢] وقد كان يعلم لكنهم حين دَعَوْا استجاب لهم، قريب يجيب الداعي إذا دعاه. ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ نسأله. وقد يكون المعنى (إنا كنا من قبل ندعوه) أي: نعبده، لأن الدعاء عبادة، فالدعاء أيضا يأتي بمعنى العبادة. ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ قراءة ﴿أنَّه هو البَرُّ الرحيم﴾ قراءة أخرى، أي: لأنه هو البَرُّ الرحيم. ﴿البَرُّ﴾: الواسع في فضله، الباسط لرزقه، ﴿البَرُّ﴾: الكريم المتوسع في كل فضل وإفضال وإنعام وعطاء، ﴿البَرُّ﴾: المعطي المانح العاطي لكل ما يُسعِد، ذاك هو البَرُّ، ولا يعرف البَرُّ إلا البَرُّ، هو الله! كنا ندعوه من قبل إنه هو البَرُّ الرحيم، أمل في الله، حسن ظن بالله، وربنا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيراً فخير)، هؤلاء كانوا يظنون بالله خيراً فكانوا يدعوه، وكانوا يعتقدون أنه هو البَرُّ الرحيم.
ويلتفت الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الأوصاف، أقسام في أول السورة بخمسة أشياء عظيمة أقسم الله بها في مُفتَتَح سورة الطور، وبعد هذه الأقسام كان جواب القسم: (إن عذاب ربك لواقع)، بيّن أنه ليس لهذا العذاب دافع، بَيَّن يوم القيامة، يوم تَمورُ السماء مَوْراً، بَيَّن أحوال المكذبين والكافرين كيف يُعرَضون على جهنم ويُقال لهم ذوقوا فتنتكم، ثم بَيَّن أحوال أهل النعيم وكيف هم في روضة يُحبرون، وكيف يتذكرون حين البعث ما كانوا عليه من إشفاق ووجل وخوف وعبادة ودعاء، التفت الخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم):
فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍۢ وَلَا مَجْنُونٍ ﴿29﴾
﴿فَذَكِّرْ﴾ أي ذكّر بهذا الكلام وذكّر بهذا القرآن من يخاف وعيد، ذكّر أولئك، ذكّر الطائعين فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وذكّر الآخَرين فيكون الذكر لهم وعليهم حُجَّة. ﴿فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ أي ما أنت بما أنعم الله عليك، ما أنت بإنعامه عليك بالرسالة بكاهن ولا مجنون. و (الكاهن) يخبر ما يكون في غد كذباً وادعاءً، الكاهن صاحب فطنة، الكاهن دقيق النظر دقيق الملاحظة، الكاهن ينظر في وجهك ويرى أسارير الوجه وتلوّن وتغيّر الوجه وبذلك يستطيع أن ينفذ إلى ما في نفسك فيحدثك بما تريد، وكَذَبَ المنجمون لو صدقوا. أما (المجنون) هو من غُطِّيَ عقلُه، من (الجَنَّ) وهو التغطية. والمجنون لا يدري ما يقول، بل يهرّف ويخرّف. وقد اتهموا النبي (صلى الله عليه وسلم) مرة بالكهانة واتهموه مرة بالجنون واتهموه مرة بالسحر واتهموة أخرى بالشعر، تناقُض! الكاهن صاحب فطنة ودقة نظر، والمجنون لا يدري ما يقول، أما الشاعر فهو صاحب خيال واسع يقول كلاماً موزوناً مرتباً فيه الخيال والتخيل، وأما الساحر يستخدم الطلاسم والتهويل ويسحر أعين الناس بغريب الكلام، فالكاهن لا يمكن أن يكون مجنوناً، والمجنون لا يمكن أن يكون شاعراً، والشاعر يستحيل أن يكون ساحراً، ومع ذلك اتهموه بكل ذلك، تناقُض، لا عقل لهم ولا حكمة ولا اجتماع حتى على الباطل. ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ وقد يكون الكلام قَسَمْ بمعنى: (وبنعمة الله عليك ما أنت بكاهن ولا مجنون) وكأنه أقسم بالنعمة وأقسم بالرسالة لبيان شرفها وفضلها. وقد لا تكون قَسَماً وإنما كقولك لأخيك: (ما أنت بحمد الله بجاهل)، (فذكِّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) أي هذه النعمة وهذه الرسالة لا تؤدي بك إلى الكهانة فتخبر من غير وحي، أو تهرّف بما لا تعرف.
ويأتي ربنا (سبحانه وتعالى) في هذه السورة ويذكر أقوالهم ويصدّر الكلام بكلمة (أم)، وكلمة (أم) في اللغة العربية قد تكون عاطفة تعطف الكلام، (أم) هنا في سورة الطور هي (أم) المنقطعة، هي (أم) أداة استفهام للتوبيخ والتبكيت والتقرير، وتأتي بمعنى (بل). جاءت (أم) هنا في هذه السورة خمس عشرة مرة وإذا سِرنا مع الآيات سوف نرى أن لهذا العدد رمزاً وأثراً ومعنى.
ويأتي ربنا (سبحانه وتعالى) في هذه السورة ويذكر أقوالهم ويصدّر الكلام بكلمة (أم)، وكلمة (أم) في اللغة العربية قد تكون عاطفة تعطف الكلام، (أم) هنا في سورة الطور هي (أم) المنقطعة، هي (أم) أداة استفهام للتوبيخ والتبكيت والتقرير، وتأتي بمعنى (بل). جاءت (أم) هنا في هذه السورة خمس عشرة مرة وإذا سِرنا مع الآيات سوف نرى أن لهذا العدد رمزاً وأثراً ومعنى.
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌۭ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ ﴿30﴾
قُلْ تَرَبَّصُوا۟ فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ ﴿31﴾
(أم) الأولى جاءت استفهام للتوبيخ والتبكيت وللتقرير عليهم بمقالتهم حتى يُحاسَبوا عليها، (نتربص): ننتظر. (رَيْبَ الْمَنُونِ) كلمة (ريب) في القرآن كله تعني الشك ما عدا هنا في هذه السورة فقط كلمة (ريب) تعني الحوادث المقلقة، من قولهم (رابهُ) الشيء: أقلقه وهزه. (ريب) أُطلِقَ على حوادث الدهر، من فَقْدِ المال وفَقْدِ الولد والمرض والمصائب والبلايا التي تقلق الإنسان في حياته ولا تجعله مستقرا أو سعيداً، هنا بهذا المعنى من (رابهُ): أقلقه. (رَيْبَ الْمَنُونِ) (المنون): الدهر، (المنون): الموت. (المنون) مفرد لا جمع له، أو (المنون) جمع لا مفرد له، (المنون) يُذَكَّر ويُؤنَّث، فإن ذَكَّرتَ كلمة (المنون) فأنت تعني الدهر، وإن أَنَّثتَ كلمة المنون فأنت تعني المنيّة. وأصل كلمة (المنون) من المنّ، والمنّ: القَطْع، وسُمِّيَ الموت مَنيّة لأنها تقطع الآمال والأعمار والآجال، وسُمِّيَ الدَّهر كذلك بهذا اللفظ (المنون) لأن الدهر والليل والنهار يقطعان العمر ويقطعان الآجال. زعموا أن هذا شاعر ننتظر به حتى يموت كما مات شاعر بني فلان، وقد مات شاعر في وقت من أوقاتهم فقالوا هذا مثل ذاك، شاعر نتربص به ريب المنون، ننتظر الموت يأتيه فيكفيكموه، أو حوادث الدهر ومصائب الزمان تأتي فتكبته وتكفيكموه، وقد مات أبوه شاباً صغيراً، عَبدُ الله مات شاباً وهو ابنه قد يموت صغيراً كما مات أبوه. ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ انتظروا فإني أيضا أنتظر أن تقع بكم المصائب والقوارع والعذاب والقتل والإهلاك، إني معكم من المتربصين.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـٰمُهُم بِهَـٰذَآ ۚ أَمْ هُمْ قَوْمٌۭ طَاغُونَ ﴿32﴾
(أَمْ) سؤال تقرير، توبيخ، تبكيت. ﴿تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا﴾ بهذا القول المختلط؛ كاهن، ساحر، شاعر. (الأحلام) جمع حِلْم ويطلق على العقل، والحِلم في الأصل ضَبْطُ النفس عن تهيج الغضب، أُطلِقَ الحِلمُ على العقل لأن العقل منشأ الحِلم. لكن يلفت النظر أنه لم يقل عَقْل، قال أحلامهم وتُطلق الأحلام على العقول، واعتاد العرب ذلك باعتبار أن العقل منشأ للحِلم، لكن حين يقول: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا﴾ نرجع لحديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى نستوعب اللفظ واستخدام اللفظ، فما من حرف في القرآن إلا وله معنى، وله ظاهر وله باطن وله معانٍ كثيرة، ولا يمكن لمخلوق مهما أوتي من الفصاحة أن يضع حرفا مكان حرف، يستحيل، لا يؤدي نفس المعنى أبداً. في يوم من الأيام قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): يارسول الله ما أَعْقَل فلاناً النصراني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "مَه! إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله (تبارك وتعالى) عنهم حين يقولون: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [سورة الملك آية: ١٠] إن العاقل من عمل بطاعة الله" لذا نفهم حين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ قُرِأَت هنا: ﴿بل هم قوم طاغون﴾ (طاغون): متجاوزون الحد في الكفر والجحود والنكران والطغيان، لأن الكلام غير متناسق؛ الكاهن ذو فطنة، والشاعر صاحب خيال، والساحر صاحب طلاسم وتهويل، والمجنون بغير عقل، ولا يمكن أن تجتمع هذه الصفات في شخص واحد، أم تأمرهم أحلامهم بهذا؟ يستحيل أن يأمر العقل بذلك، يستحيل أن يقول عقل أن تجتمع هذه الصفات في شخص واحد، إذاً فهم طاغون.
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥ ۚ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾
فَلْيَأْتُوا۟ بِحَدِيثٍۢ مِّثْلِهِۦٓ إِن كَانُوا۟ صَـٰدِقِينَ ﴿34﴾
مقالة أخرى لهم، ادَّعَوْا أنه اختلقه وكتبه بنفسه. (التقوُّل): الاختلاق، (التقوُّل): تكلف القول، ويستخدم دائماً وأبداً في الكذب، أنت تقول: (تَقَوَّل فلان عليَّ) أي ادَّعى عليَّ كذباً، وتقول: (قَوَّلتَني مالم أَقُل) أي ادعيت عليَّ كذباً. ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أي اختلقه وألّفه. ﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الأمر أنهم لا يؤمنون، لأن الكلام غير متفق، متناقض، اختلفوا؛ شاعر، كاهن، مجنون، إذا ً فهم لا يؤمنون، هم أولاً طاغون وتجاوزوا الحد في الكفر، وهم أيضاً لايؤمنون. ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ إن كان محمداً، هذا الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، استطاع أن يقول هذا الكلام ويتقوّل على الله مالم يقل، وأنتم أرباب الفصاحة، أرباب اللغة، أصحاب المعلقات وأشعار لم يَجُد بمثلها الزمان على أحد، هَلُمَّ وأْتُوا بحديث مثله كما فعل محمد إن كنتم صادقين في زعمكم أنه تقوّله. (فليأتوا بحديثِ مثلِهِ) قراءة بالإضافة، والهاء هنا (مثلِهِ) الضمير عائد على النبي (صلى الله عليه وسلم) بمعنى إن كانوا يزعمون أنه تقوّله فليأتوا بحديث متقوّل لشخص آخر مثل محمد، ويذكّرنا هذا بسؤال قيصر لأبي سفيان: هل قال أحد قبله مثل ما يقول؟ قال: لا، قال: إن قلت نعم لقلنا رجل يتتبع آثار غيره، هل قال أحد مثل ما قال محمد؟ هل تَقَوَّلَ أحد مثله كما تزعمون؟ من هو؟ هاتوا حديث ذلك المتقوِّل. أو الضمير عائد على القرآن إذا قُرِئت القراءة بالتنوين: (بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) هذا التحدي الذي جاء في القرآن، تحدي بالقرآن كله، وحين عجزوا تحداهم ربنا أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، عجزوا فتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة أو حتى مثل أقصر سورة، سورة الكوثر ثلاث الآيات، فلم يستطع مخلوق أن يأتي بمثل هذا الحديث.
أَمْ خُلِقُوا۟ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ ﴿35﴾
أَمْ خَلَقُوا۟ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴿36﴾
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ سؤال تبكيتي توبيخي أيضاً، أم خُلِقُوا من غير شيء؟ كيف خُلِقوا من غير شيء؟ وُجِدوا بلا سبب؟ من غير أب ومن غير أم؟ من غير رحم؟ ألم يكن نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خَلَقَهُ فسوّاه ثم رزقه وأحياه؟ هل خُلِقوا من غير شيء؟ وقد تعني كلمة (من غير شيء) لغير شيء، هل خُلِقوا لغير شيء؟ ﴿أيحسب الإنسان أن يُتْرَكَ سُدى﴾؟ خُلِقَ وتُرِك؟ خُلِقوا لغير شيء لا لعبادة ولا لطاعة ولا ولا؟ خُلِقوا هكذا هَمْلاً، لعباً، تسليةً؟ خُلِقوا لغير غرض؟ خُلِقوا لغير هدف؟ ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ لما كان الأمر مستحيل فمن المستحيل أن يوجَد شيء بغير مُوجِد، فما تلبسه لابد له من صانع، وما تأكله لابد من زارع له، ما من شيء إلا وله موجِد وصانِع، هل وُجِدَ شيء بغير صانع؟ إذاً (خُلِقوا من غير شيء) يستحيل لم يبق إلا أنهم هم خلقوا أنفسهم، ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾؟ أي خَلَقوا أنفسهم، وإن كانوا خَلَقوا أنفسهم، كيف خَلَقوا أنفسهم؟ ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ الإشارة للخالق، الاتجاه للموجِد، الاتجاه للأعظم والأكبر، الله! ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ لِمَ قال هنا (بل لا يوقنون)؟ لأنهم حين سُئِلوا من خَلَقَهم قالوا الله، وحين سُئِلوا من خَلَقَ السموات والأرض قالوا الله، حين قالوا إن الخالق هو الله لِمَ لَمْ يعبدوه؟ لِمَ لَمْ يُقِرُّوا له؟ لِمَ عبدوا الأصنام وتركوه؟ ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ لأنهم لو كانوا يوقنون بما قالوه أن الخالق هو الله لعبدوه، لأطاعوه، لخافوه، ولكنهم لا يوقنون.
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَۣيْطِرُونَ ﴿37﴾
(الخزائن): جمع خَزينة، والخزينة يُجمع فيها الأشياء ذات القيمة أو يُخزَّن بها الأشياء المحتاج إليها. و (خزائن ربك) أي خزائن مقدوراته، خزائن علمه، خزائن قدرته، كل المقدورات، كل ما يمنحه الله (تبارك وتعالى) خزائن الله فيها المطر، فيها الرزق، فيها الآجال، فيها العافية، فيها التقوى، فيها كل شيء. فالخزائن كلمة يُكَنَّى بها عن مقدورات الله (تبارك وتعالى) ومقدورات الله (تبارك وتعالى) لا تُحصى ولا تُعَدّ، فهل عندهم خزائن ربك؟ إذا كانت عندهم الخزائن إذاً فهم مستغنون عن الله، من الذي أغناهم وما الذي أغناهم عن الإله الحق فتركوه وعبدوا غيره؟ هل ملكوا الخزائن فإن أرادوا المطر أتوا به وإن أرادوا الرزق أخذوه؟ هل يفتحون الخزائن ويأخذون ما يشاءون عنوة؟ من الخزائن الرحمة، ومن الرحمة النبوة، فهل عندهم الخزائن فيأخذون النبوة يمنحوها لمن يشاءون؟ ﴿أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ (المصيطرون) بالصاد، (المسيطرون) بالسين، (المزيطرون) بإشمام الصاد في الزاي. (المسيطر) المتسلط، (المسيطر) القاهر، (المسيطر) الذي يرعى الشيء ويحفظه ويحفظ عليه أعماله ويشرف عليه. وأصل الكلمة من (التسطير)، والكتاب يُسطَّر ويُحفَظ فيه العِلم، ومن يكتب هذا الكتاب ويسطره يُسمَّى مُسَطِّر ومسيطر، فالكلمة هنا (أم هم المسيطرون) أي هم الحافظون على الناس أعمالهم فيجازوا من يشاءون بالخير ويجازوا من يشاءون بالشر؟ أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون؛ المشرفون على الناس، المتسلطون عليهم، القاهرون لهم، الحافظون لأعمالهم، المدونون عليهم أفعالهم وأقوالهم؟
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌۭ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ۖ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍ ﴿38﴾
أم لهم سلمٌ صاعدٌ إلى السماء يستمعون فيه؟ أي يصعدون فيه إلى الملأ الأعلى فيستمعون إلى كلام الملائكة عمّا كان وعمّا يكون؟ أو (يستمعون فيه) بمعنى يستمعون به إلى الملأ الأعلى. أو (فيه) بمعنى (على)؛ أم لهم سلم يستمعون عليه يصعدون عليه، كقوله في شأن فرعون حين هدد السحرة (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل، وكذلك هنا ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ﴾ للوحي ويعرفون الحق من الباطل؟ ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ من استمع منهم وصعد على هذا السلم واستمع إلى الوحي واستمع إلى كلام الله وكلام الملائكة، ليأت هذا المستمع بحُجَّةٍ واضحةٍ وبرهانٍ قاطعٍ أن ما يقوله محمد ليس بوحي، أما الوحي فهو الذي جاء به المستمِع.
أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ ﴿39﴾
أَمْ تَسْـَٔلُهُمْ أَجْرًۭا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍۢ مُّثْقَلُونَ ﴿40﴾
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿41﴾
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًۭا ۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ ﴿42﴾
أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ ۚ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿43﴾
﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ تسفيه لأحلامهم وبيان أنهم منعدمي العقول كالأنعام بل هم أضل، لأنهم نسبوا لله (تبارك وتعالى) ما يأنف أحدهم منه، فتمنوا لأنفسهم البنين ونسبوا لله البنات، ومن يفعل ذلك لا عقل له ولا فكر له ولا تفكير، لأنه حين ينسب لنفسه البنين ويتمنى لنفسه البنين وينسب إلى الله (تبارك وتعالى) أدنى الصنفين منزلة ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة النحل آية: ٥٨]، ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة الزخرف آية: ١٧]، ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ من قال هذا هل يؤخذ برأيه؟ من قال هذا يمكن أن يصل لما يُعقَل؟ من قال هذا هل يمكن أن يؤمن أو يُهدى إلى الطريق الصحيح والصواب؟ ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا﴾ هل سأل محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) قومَه أجراً على البلاغ؟ هل سألهم سلطاناً أو مُلْكاً أو مالاً أو جاهاً؟ كان يسأل الله لهم، كان يعطيهم من عنده، ما شبع من خبز الشعير أبداً. ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ (المغرمْ) و (الغُرم) ما ينوب المال، يجتاح المال ويصيب المال من أضرار بغير جناية منك أو خيانة، كأن تأتي السماء بالعواصف فتجتاح المزرعة، تجتاح الزراعة فتدمرها، ذاك غرم، أن تَدَّان دَيناً ولا تُوفِّي لسداد الدَّين فأنت غارم، ذاك رغماً عنك من غير خيانة ومن غير جناية.
والحِمل إذا أثقل الحامل وأتعبه يقال أثقله الحِمل، أجهده وأتعبه، فربنا يقول: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ أي مما حَمَّلتَهُم من مَغرَم وغرم بأخذك من أموالهم (مُثقلون): مُجهدون مُتعبون؟ طَلَبْتَ منهم وسَأَلْتَ أموالهم وأَخَذْتَ منهم النصيب الأعظم والأكبر فأُثقلوا بهذا الغرم؟ ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ هل عندهم عِلم الغيب فهم يكتبون للناس أرزاقهم وآجالهم؟ يكتبون للناس ما ينفعهم ويضرهم؟ هل عندهم الغيب فيعلمون الحق من الباطل والوحي من الزيف؟ وقد تكون كلمة (يكتبون) بمعنى (يحكمون)، كَتَبَ: حَكَم، كقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٤] حَكَم، ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [سورة المائدة آية: ٣٢] حَكَمْنا. ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ يحكمون؛ هذا نبي وهذا ليس بنبي، هذا صادق وهذا كاذب. ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ نعم انكشف أمرهم! هم يريدون كيداً، و (الكيد): الخُبث والمكر والحيلة، وقد كادوا للنبي (صلى الله عليه وسلم) في دار الندوة حيث اجتمعوا وقرروا، والسورة مكية، حيث نزلت بمكة ففَضَحَتْهُم في كيدهم، حيث دَبَّروا واحتالوا واجتمعوا على أن يحاصروه ليلاً، من كل قبيلة صارم في يد فارع شاب قوي بيده سيف، فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٠] فخرج المعصوم (صلى الله عليه وسلم) على الأعادي مُكَبِّراً يحثو التراب على الرؤوس بلا مُمانِع. ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ أي هم الذين يُكاد لهم والذي يكيد لهم الله.
﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ يسترزقونه ويعبدونه ويسألونه ويحتمون به من الله، هل لهم إلهٌ غير الله يرزقهم ويخلقهم ويحييهم ويميتهم؟ ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نَزَّهَ نفسه (سبحانه وتعالى) عن كل مالا يليق بجلاله وكماله، نَزَّه نفسه عن الصاحبة والولد.
والحِمل إذا أثقل الحامل وأتعبه يقال أثقله الحِمل، أجهده وأتعبه، فربنا يقول: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ أي مما حَمَّلتَهُم من مَغرَم وغرم بأخذك من أموالهم (مُثقلون): مُجهدون مُتعبون؟ طَلَبْتَ منهم وسَأَلْتَ أموالهم وأَخَذْتَ منهم النصيب الأعظم والأكبر فأُثقلوا بهذا الغرم؟ ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ هل عندهم عِلم الغيب فهم يكتبون للناس أرزاقهم وآجالهم؟ يكتبون للناس ما ينفعهم ويضرهم؟ هل عندهم الغيب فيعلمون الحق من الباطل والوحي من الزيف؟ وقد تكون كلمة (يكتبون) بمعنى (يحكمون)، كَتَبَ: حَكَم، كقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [سورة الأنعام آية: ٥٤] حَكَم، ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [سورة المائدة آية: ٣٢] حَكَمْنا. ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ يحكمون؛ هذا نبي وهذا ليس بنبي، هذا صادق وهذا كاذب. ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ نعم انكشف أمرهم! هم يريدون كيداً، و (الكيد): الخُبث والمكر والحيلة، وقد كادوا للنبي (صلى الله عليه وسلم) في دار الندوة حيث اجتمعوا وقرروا، والسورة مكية، حيث نزلت بمكة ففَضَحَتْهُم في كيدهم، حيث دَبَّروا واحتالوا واجتمعوا على أن يحاصروه ليلاً، من كل قبيلة صارم في يد فارع شاب قوي بيده سيف، فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٠] فخرج المعصوم (صلى الله عليه وسلم) على الأعادي مُكَبِّراً يحثو التراب على الرؤوس بلا مُمانِع. ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ أي هم الذين يُكاد لهم والذي يكيد لهم الله.
﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ يسترزقونه ويعبدونه ويسألونه ويحتمون به من الله، هل لهم إلهٌ غير الله يرزقهم ويخلقهم ويحييهم ويميتهم؟ ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نَزَّهَ نفسه (سبحانه وتعالى) عن كل مالا يليق بجلاله وكماله، نَزَّه نفسه عن الصاحبة والولد.
وَإِن يَرَوْا۟ كِسْفًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطًۭا يَقُولُوا۟ سَحَابٌۭ مَّرْكُومٌۭ ﴿44﴾
فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُوا۟ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴿45﴾
يَوْمَ لَا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًۭٔا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿46﴾
﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا﴾ ﴿كِسَفا ً﴾ قراءتان. جواب على قولهم: (لن نؤمن لك) ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٩٢] و (الكِسْفة): القطعة من الشيء، و (الكِسَفْ): جَمْع، فمن قرأ: ﴿كِسْفاً﴾ بسكون السين فهي مفرد، ومن قرأ: ﴿كِسَفاً﴾ بفتح السين فهي جمع. (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا) قِطَعاً من السماء أو قطعة من السماء ساقطة عليهم بالعذاب يقولون سحاب مركوم، طغيان وعناد، حتى لو تساقطت عليهم السماء لقالوا هذا ليس بعذاب وليس بالسماء وإنما هو سحاب مركوم، أي متراكم بعضه فوق بعض، كما قال السابقون من الكفار حين رأوه عارضاً مستقبِلَ أوديتِهِم قالوا هذا عارضُ مُمطِرُنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، فيقول الله (تبارك وتعالى) لو أجبناهم إلى ما طلبوا ﴿أَسْقِط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين﴾، لو أجبناهم وأنزلنا عليهم الكسف وأسقطنا عليهم السماء لقالوا سحاب مركوم. ﴿فَذَرْهُمْ﴾ اتركهم، (ذَرْ): اترك. وقلنا قبل ذلك أن كلمة (ذَرْ) و (يَذَر) ليس فيها فعل ماضٍ، (فذرهم): اتركهم واطرحهم وسفاهاتهم وجهالاتهم وتكذيبهم وإساءتهم. ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا﴾ قُرِئت: ﴿حتى يَلْقَوْا﴾ ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ ﴿يَصعقون﴾ قراءة أخرى. صَعِقَ وصُعِقَ مثل سَعِدَ وسُعِد بنفس المعنى، لغتان في الكلمة.
عَدَدنا كلمة (أم) فوجدناها خمس عشرة، وحين حسبنا غزوة بدر حيث قُتِلوا القائلون شاعر عُقبة بن أبي مُعَيط، عتبة بن ربيعة، شيبة بن ربيعة، الوليد بن عتبة، الصناديد الذين قالوا شاعر، كاهن، ساحر، مجنون، تَقَوَّل، اختلق أساطير الأولين، كلهم قُتِلوا في يوم بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الخامسة عشرة للبعثة بعدد كلمات (أم) التي جاء في سورة الطور، تلك إشارة، مرت خمس عشرة سنة على أقوالهم ثم قُتِلوا في بدر فهم في القليب، سَلْهُم من الصادق ومن الكاذب؟ وهل عابه في الحق عائب؟ هل كانت له في الدنيا مآرب؟ أم لهم إله غير الله؟ سبحان الله عما يشركون. ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ الكيد الذي كادوه والحيلة والتدبير لا يُغني عنهم، قُتِلوا وأُلْقُوا في القليب، ووقف عليهم يسأل: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ " قالوا: يا رسول الله وهل يسمعون؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم". ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ لا أحد ينصرهم أو يمنعهم من عذاب الله.
عَدَدنا كلمة (أم) فوجدناها خمس عشرة، وحين حسبنا غزوة بدر حيث قُتِلوا القائلون شاعر عُقبة بن أبي مُعَيط، عتبة بن ربيعة، شيبة بن ربيعة، الوليد بن عتبة، الصناديد الذين قالوا شاعر، كاهن، ساحر، مجنون، تَقَوَّل، اختلق أساطير الأولين، كلهم قُتِلوا في يوم بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الخامسة عشرة للبعثة بعدد كلمات (أم) التي جاء في سورة الطور، تلك إشارة، مرت خمس عشرة سنة على أقوالهم ثم قُتِلوا في بدر فهم في القليب، سَلْهُم من الصادق ومن الكاذب؟ وهل عابه في الحق عائب؟ هل كانت له في الدنيا مآرب؟ أم لهم إله غير الله؟ سبحان الله عما يشركون. ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ الكيد الذي كادوه والحيلة والتدبير لا يُغني عنهم، قُتِلوا وأُلْقُوا في القليب، ووقف عليهم يسأل: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ " قالوا: يا رسول الله وهل يسمعون؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم". ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ لا أحد ينصرهم أو يمنعهم من عذاب الله.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ عَذَابًۭا دُونَ ذَٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿47﴾
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴿48﴾
وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَـٰرَ ٱلنُّجُومِ ﴿49﴾
﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾ و (الظلم) كما قلنا هنا بمعنى الكُفر، فالذين ظلموا هم الكفار، وجاء باللفظ بدلاً من الضمير للتذكير عليهم أنهم هم الكفار الذين اتهموا النبي (صلى الله عليه وسلم) وقالوا فيه ذلك. ﴿عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾: أي عذاباً غير ذلك، أو ﴿عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾: أقل من ذلك، ألا وهو القتل ببدر، الأسر، الأمراض، الأوجاع، الأثقال، الفضيحة، فساد الحال، فساد المزاج، فساد العقل، عذاب القبر، كل ذلك لهم وفي يوم القيامة العذاب الأكبر.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لأنهم لو عَلِموا لآمنوا، وهم لا يعقلون لأنهم لو عَقِلوا لآمنوا، العاقل من عمل بطاعة الله، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلقى من عَنَتِ قريش مالا تحتمله الجبال، ثلاث عشرة سنة يُكَذَّب، ثلاث عشرة سنة يُؤذَى، حتى وصل بهم الأمر أن وضعوا على ظهره وهو ساجد في الكعبة بقايا ذبيحة من الذبائح وبقيَ ساجداً حتى جاءت فاطمة ابنته فأزالت النَّجَسَ عن ثيابه فقام من سجوده، كم وكم وكم! لم يُؤمَر بالهجرة، لم يُؤمَر بالفرار أو الهروب، أَمَرَ أصحابه فهاجروا إلى الحبشة، ثم هاجروا بعد ذلك إلى المدينة ولكنه لم يُهاجر، لم يأته الأمر بالهجرة، بل ولم يُقاتِل وأُمِرَ بالصبر، وأمر المسلمون معه صبروا على الأذى ثلاث عشر سنة فيُسرِّي ربنا عنه في مُختَتَم السورة ويقول: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ تسرية وتطمين، حنان الحنّان المنّان، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي واصبر لما حَكَمَ به الله (تبارك وتعالى) من إبقائك في هذه البلدة واحتمالك للأذى، وتَرْكِهِم في غَيِّهم، وتَرْكِهِم في خوضهم، حَكَمَ ربُّنا أن تبقى هذه السنين في أذى واحتمال وإيذاء لك ولآل بيتك ولأهلك ولأصحابك وللمسلمين، اصبر لهذا الحُكْم، قضى ربنا بذلك أن تبقى في وسطهم ومعهم وهم المكذبون الجاحدون المنكرون، امتلأت قلوبهم بالقسوة والغلظة، واصبر لذلك ولا تخشَ شيئاً فإنك بأعيننا، هذه الكلمة كما قلنا فيها من المتشابهات، ورأي الخَلَفُ فيها أنها تُؤَوَّل بمعنى الحفظ والعناية والرعاية، كقوله لموسى ﴿ولتُصْنَعَ على عيني﴾ هنا قال: (بأعيننا) جَمَع، وكأن الجمع هنا يؤدي إلى معنى كثرة وتعدد أسباب الحفظ، فهو ليس محفوظاً بسبب واحد بل محفوظ بأسباب كثيرة، من هنا قال: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي برعايتنا، نرى ونسمع ونحفظك ونرعاك ونعتني بك. أما رأي السَّلَف فهو منع الخوض في تعيين التأويل بعد إقامة الدليل على أن ظاهر اللفظ غير مراد. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ وكأن التسبيح يُعين على الصبر، لأنك إذا سَبَّحتَ الله ذَكَرتَ الله وذَكَرتَ قدرة الله، من هنا كان صبرك بالله. ﴿حِينَ تَقُومُ﴾ حين تقوم من مكانك، حين تقوم إلى الصلاة، حين تقوم من نومك، حين تقوم، وتُرِكَت مُطْلَقَة. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ وكذلك ليلاً ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بعد غروب النجوم، أي قبل الفجر. أو هما ركعتا الفجر، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. وقُرِئت: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بالفتح، (أدبار): جمع دُبُر، (أدبار النجوم) أي خَلْف، بعد غروب النجوم. والتسبيح هنا تُرى حين يقوم من أي شيء؟ واسمع الوصايا واعمل كي تفوز، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا جلس الرجل مجلساً كَثُرَ فيه لَغَطُه ثم قال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غُفِرَ له ما كان في ذلك المجلس" خرج من المجلس وقد مُحيَت ذنوبُه وغُفِرَ له جميعُ ما قاله من لغو إذا لم يكن من الذين هم عن اللغو معرضون ووقع في اللغو وكَثُرَ لغطه. هذه الكلمة ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ التسبيح بالحمد، التَّنزيه مُتَلَبِّسا ً بالحمد، التسبيح فقط: (سبحان الله)، أما التسبيح بالحمد فهو: (سبحان الله وبحمده)، كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن (سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده). ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ إلى الصلاة (وَجَّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) يقولها النبي (صلى الله عليه وسلم).
أيضاً بعد تكبيرة الإحرام كان يسكت، فسُئِلَ: بأبي وأمي أنت يا رسول الله إسكاتك بعد تكبيرة قبل قراءة الفاتحة ماذا تقول؟ كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك من كل ذنب وأتوب إليك سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك أستغفرك من كل ذنب وأتوب اليك"، دعاء الاستفتاح. وقيل أيضاً أنه تسبيح في الصلوات (سبحان ربي العظيم)، (سبحان ربي الأعلى). وقيل أيضاً بل هو التسبيح في كل آنٍ وحين. (ومن الليل) صلوات القيام، وركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها، وهناك حديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشمل يقول فيه: "من تَعَارَّ في الليل" (استيقظ) "فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استُجيب له فإن توضأ وصَلَّى قُبِلَت صلاته"، ذاك ﴿ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم﴾ وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا استيقظ من بعض الليل مسح النوم عن عينيه وقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم من الليل فيقول: "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قَيّم السموات والأرض ولك الحمد أنت مَلِكُ السموات والأرض ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمدٌ (صلى الله عليه وسلم) حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر ولا إله إلا أنت"
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لأنهم لو عَلِموا لآمنوا، وهم لا يعقلون لأنهم لو عَقِلوا لآمنوا، العاقل من عمل بطاعة الله، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلقى من عَنَتِ قريش مالا تحتمله الجبال، ثلاث عشرة سنة يُكَذَّب، ثلاث عشرة سنة يُؤذَى، حتى وصل بهم الأمر أن وضعوا على ظهره وهو ساجد في الكعبة بقايا ذبيحة من الذبائح وبقيَ ساجداً حتى جاءت فاطمة ابنته فأزالت النَّجَسَ عن ثيابه فقام من سجوده، كم وكم وكم! لم يُؤمَر بالهجرة، لم يُؤمَر بالفرار أو الهروب، أَمَرَ أصحابه فهاجروا إلى الحبشة، ثم هاجروا بعد ذلك إلى المدينة ولكنه لم يُهاجر، لم يأته الأمر بالهجرة، بل ولم يُقاتِل وأُمِرَ بالصبر، وأمر المسلمون معه صبروا على الأذى ثلاث عشر سنة فيُسرِّي ربنا عنه في مُختَتَم السورة ويقول: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ تسرية وتطمين، حنان الحنّان المنّان، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي واصبر لما حَكَمَ به الله (تبارك وتعالى) من إبقائك في هذه البلدة واحتمالك للأذى، وتَرْكِهِم في غَيِّهم، وتَرْكِهِم في خوضهم، حَكَمَ ربُّنا أن تبقى هذه السنين في أذى واحتمال وإيذاء لك ولآل بيتك ولأهلك ولأصحابك وللمسلمين، اصبر لهذا الحُكْم، قضى ربنا بذلك أن تبقى في وسطهم ومعهم وهم المكذبون الجاحدون المنكرون، امتلأت قلوبهم بالقسوة والغلظة، واصبر لذلك ولا تخشَ شيئاً فإنك بأعيننا، هذه الكلمة كما قلنا فيها من المتشابهات، ورأي الخَلَفُ فيها أنها تُؤَوَّل بمعنى الحفظ والعناية والرعاية، كقوله لموسى ﴿ولتُصْنَعَ على عيني﴾ هنا قال: (بأعيننا) جَمَع، وكأن الجمع هنا يؤدي إلى معنى كثرة وتعدد أسباب الحفظ، فهو ليس محفوظاً بسبب واحد بل محفوظ بأسباب كثيرة، من هنا قال: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي برعايتنا، نرى ونسمع ونحفظك ونرعاك ونعتني بك. أما رأي السَّلَف فهو منع الخوض في تعيين التأويل بعد إقامة الدليل على أن ظاهر اللفظ غير مراد. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ وكأن التسبيح يُعين على الصبر، لأنك إذا سَبَّحتَ الله ذَكَرتَ الله وذَكَرتَ قدرة الله، من هنا كان صبرك بالله. ﴿حِينَ تَقُومُ﴾ حين تقوم من مكانك، حين تقوم إلى الصلاة، حين تقوم من نومك، حين تقوم، وتُرِكَت مُطْلَقَة. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ وكذلك ليلاً ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بعد غروب النجوم، أي قبل الفجر. أو هما ركعتا الفجر، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. وقُرِئت: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بالفتح، (أدبار): جمع دُبُر، (أدبار النجوم) أي خَلْف، بعد غروب النجوم. والتسبيح هنا تُرى حين يقوم من أي شيء؟ واسمع الوصايا واعمل كي تفوز، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا جلس الرجل مجلساً كَثُرَ فيه لَغَطُه ثم قال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غُفِرَ له ما كان في ذلك المجلس" خرج من المجلس وقد مُحيَت ذنوبُه وغُفِرَ له جميعُ ما قاله من لغو إذا لم يكن من الذين هم عن اللغو معرضون ووقع في اللغو وكَثُرَ لغطه. هذه الكلمة ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ التسبيح بالحمد، التَّنزيه مُتَلَبِّسا ً بالحمد، التسبيح فقط: (سبحان الله)، أما التسبيح بالحمد فهو: (سبحان الله وبحمده)، كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن (سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده). ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ إلى الصلاة (وَجَّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) يقولها النبي (صلى الله عليه وسلم).
أيضاً بعد تكبيرة الإحرام كان يسكت، فسُئِلَ: بأبي وأمي أنت يا رسول الله إسكاتك بعد تكبيرة قبل قراءة الفاتحة ماذا تقول؟ كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك من كل ذنب وأتوب إليك سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك أستغفرك من كل ذنب وأتوب اليك"، دعاء الاستفتاح. وقيل أيضاً أنه تسبيح في الصلوات (سبحان ربي العظيم)، (سبحان ربي الأعلى). وقيل أيضاً بل هو التسبيح في كل آنٍ وحين. (ومن الليل) صلوات القيام، وركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها، وهناك حديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشمل يقول فيه: "من تَعَارَّ في الليل" (استيقظ) "فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استُجيب له فإن توضأ وصَلَّى قُبِلَت صلاته"، ذاك ﴿ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم﴾ وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا استيقظ من بعض الليل مسح النوم عن عينيه وقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم من الليل فيقول: "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قَيّم السموات والأرض ولك الحمد أنت مَلِكُ السموات والأرض ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمدٌ (صلى الله عليه وسلم) حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر ولا إله إلا أنت"