
القرآن الكريم / سورة الذاريات / التفسير المقروء
سورة الذاريات
لقاؤنا مع سورة الذاريات، سورة الذاريات سورة مكية نزلت بمكة وفيها أقسام، أَقْسَمَ الله (تبارك وتعالى) بأشياء، فقال عَزَّ مِنْ قائل:
وَٱلذَّٰرِيَـٰتِ ذَرْوًۭا ﴿1﴾
فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْرًۭا ﴿2﴾
فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْرًۭا ﴿3﴾
فَٱلْمُقَسِّمَـٰتِ أَمْرًا ﴿4﴾
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌۭ ﴿5﴾
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌۭ ﴿6﴾
﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾: الرياح تذرو التراب، تذروه ذَروا، ً وتذريه ذَرْيا، ً وذَرَت الرياحُ الترابَ: طَيَّرَته وسَفَتْهُ. ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾: السَّحاب يحمل المطر، و (الوِقر): الحِمْل والثِّقل، أما (الوَقر) بالفتح فهو الثِّقل في الأُذُن، وَقَرَت أُذُنُه: لا يسمع، صَمَّتْ. ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾: السُّفُن تجري بيُسرٍ في المياه. ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾: الملائكة تَقْسِمُ بين العباد أَمْرَ الله من جَدْبٍ أو خِصْبٍ أو خير أو شر أو مطر أو ريح أو حوادث. تلك أشياء أقسم الله (تبارك وتعالى) بها، و (الفاء) هنا؛ فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات، لترتيب الأقسام الدالة على قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث، ولذا كان جواب القسم: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ أي: أن وعد الله بالبعث صادق، إن ما توعدون هو الصدق من البعث ومن الجزاء. ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾: النساء الولودات، إذ إن المرأة تذري الذُّرِّية، فهن الولودات الوُلَّدْ، يذرين الناس، يذرين الخلْق، يذرين الذُّرِّية. ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾: النساء إذا ثَقُلَ بهن الحمل. ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾: السُّفُن أو النجوم التي تجري في مساراتها في السماء، أو السحاب. ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾: الملائكة. وقالوا (الفاء) في الأقسام لترتيب الأفعال والمُقْسَم به شيء واحد؛ ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾: الرياح ذَرَت التُّراب، تذروه وتذريه ذَرْواً وذَرْياً: سَفَتْهُ وطَيَّرته. ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾: هي أيضا الرياح، فالرياح تذرو بخار الماء في الجو، والرياح تحمل السحاب. ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾: الرياح تجري باليُسر والخير حيث أَمَرَ الله، أو تجري جَرياً ذا يُسر في الجو، ترى السحاب يجري جَرياً فيه يُسر، فالرياح تجري بالسحاب أيضا.
﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾: الرياح تَقْسِمُ السحاب، هنا يُمطر وهنا لا يُمطر، فالقَسَم كُلُّه بالرياح؛ (الذاريات) هي الرياح، (الحاملات) هي الرياح تحمل السحاب، ﴿فالجاريات يُسراً﴾ الرياح تجري بالسحاب حيث أراد الله ويَسَّرَ لها، ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ تَقْسِمُ السحاب بين الناس هنا مطر وهنا جدب ولا مطر. تلك أقوالٌ للعلماء في شرح تلك الأقسام وهي أقوال الخَلَف من العلماء، أما السَّلَف فكانوا لا يسألون عن ذلك، وقد رُوِيَ أنَّ عمر بن الخطاب في خلافته كان في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرأ القرآن، ودخل عليه رجل فانتظر حتى انتهى عمر ثم جاء إليه وقال: يا أمير المؤمنين ما الذَّاريات ذَرواً؟ فقام عمر فَشَمَّرَ عن يديه وجَلَدَه لأنه يسأل عن مُشْكِلٍ في القرآن وعن مُتَشَابِهِه. و رُوِيَ أن عَلِيَّاً (رضى الله عنه) في إمارته جاءه رجل أيضا وقال: يا أمير المؤمنين ما الذَّاريات ذَرواً؟ فقال علي ابن أبي طالب: ويلك! سَلْ تَفَقُّهاً ولا تسأل تَعَنُّتاً. ذلك قول السلف. ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ أهي الرياح؟ أهي النساء؟ ما هي الذاريات؟!!! هي قَسَم. ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(١)فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا(٢)فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا(٣)فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا(٤)﴾ أقسام أربعة أَقْسَمَ ربُّ العزة بها، والقَسَم في القرآن معناه أن الله (تبارك وتعالى) يرفع شأن ما أقسم به، ويرفع شأن ما أقسم عليه. فربنا (تبارك وتعالى) حين يُقسِم، وهو في غير حاجة إلى القَسَم فهو الصادق ومن أصدق من الله قيلا؟ لا أحد، فهو يُقسِم بأشياء لرفع شأنها وللدلالة على أهميتها، أيضاً القَسَم يدل على أهمية ما أقسم الله عليه. ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ نعم! وَعَدَ اللهُ الخلائقَ بالبعث، ووعدهم بالجزاء، هذا الوعد هو الوعد الصادق.
﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ (الدِّين): بمعنى الجزاء، و (يوم الدِّين): هو يوم الجزاء، وقد يأتي (الدَّين) بمعنى الشريعة والشَّرع، بمعنى أَنَّهُ هو الذي يحقق لك الجزاء الطيب إن اتبعته، وهو الذي يوجب عليك الجزاء السيئ إن رفضته. ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ أي: إن الجزاء لواقع إِنْ خيراً فخَير وإِنْ شَرَّاً فَشَرّ، أولئك للجنة وأولئك للنار. ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ أي: وإِنَّ الجزاء لواقع بكم، مُحَقَّق لا خُلْفَ فيه. ثم يعود ربنا (تبارك وتعالى) فيُقسِمُ قَسَماً آخر:
﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾: الرياح تَقْسِمُ السحاب، هنا يُمطر وهنا لا يُمطر، فالقَسَم كُلُّه بالرياح؛ (الذاريات) هي الرياح، (الحاملات) هي الرياح تحمل السحاب، ﴿فالجاريات يُسراً﴾ الرياح تجري بالسحاب حيث أراد الله ويَسَّرَ لها، ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ تَقْسِمُ السحاب بين الناس هنا مطر وهنا جدب ولا مطر. تلك أقوالٌ للعلماء في شرح تلك الأقسام وهي أقوال الخَلَف من العلماء، أما السَّلَف فكانوا لا يسألون عن ذلك، وقد رُوِيَ أنَّ عمر بن الخطاب في خلافته كان في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرأ القرآن، ودخل عليه رجل فانتظر حتى انتهى عمر ثم جاء إليه وقال: يا أمير المؤمنين ما الذَّاريات ذَرواً؟ فقام عمر فَشَمَّرَ عن يديه وجَلَدَه لأنه يسأل عن مُشْكِلٍ في القرآن وعن مُتَشَابِهِه. و رُوِيَ أن عَلِيَّاً (رضى الله عنه) في إمارته جاءه رجل أيضا وقال: يا أمير المؤمنين ما الذَّاريات ذَرواً؟ فقال علي ابن أبي طالب: ويلك! سَلْ تَفَقُّهاً ولا تسأل تَعَنُّتاً. ذلك قول السلف. ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ أهي الرياح؟ أهي النساء؟ ما هي الذاريات؟!!! هي قَسَم. ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(١)فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا(٢)فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا(٣)فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا(٤)﴾ أقسام أربعة أَقْسَمَ ربُّ العزة بها، والقَسَم في القرآن معناه أن الله (تبارك وتعالى) يرفع شأن ما أقسم به، ويرفع شأن ما أقسم عليه. فربنا (تبارك وتعالى) حين يُقسِم، وهو في غير حاجة إلى القَسَم فهو الصادق ومن أصدق من الله قيلا؟ لا أحد، فهو يُقسِم بأشياء لرفع شأنها وللدلالة على أهميتها، أيضاً القَسَم يدل على أهمية ما أقسم الله عليه. ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ نعم! وَعَدَ اللهُ الخلائقَ بالبعث، ووعدهم بالجزاء، هذا الوعد هو الوعد الصادق.
﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ (الدِّين): بمعنى الجزاء، و (يوم الدِّين): هو يوم الجزاء، وقد يأتي (الدَّين) بمعنى الشريعة والشَّرع، بمعنى أَنَّهُ هو الذي يحقق لك الجزاء الطيب إن اتبعته، وهو الذي يوجب عليك الجزاء السيئ إن رفضته. ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ أي: إن الجزاء لواقع إِنْ خيراً فخَير وإِنْ شَرَّاً فَشَرّ، أولئك للجنة وأولئك للنار. ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ أي: وإِنَّ الجزاء لواقع بكم، مُحَقَّق لا خُلْفَ فيه. ثم يعود ربنا (تبارك وتعالى) فيُقسِمُ قَسَماً آخر:
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ ﴿7﴾
إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍۢ مُّخْتَلِفٍۢ ﴿8﴾
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴿9﴾
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ (السَّماء): كل ما أظلك فهو سماء، هل هو السحاب؟ و (السماء) أي: والسحاب ذات الحُبُك؟ أم هي السماء المَبنِيَّة؟ ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٧]، ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [سورة النبأ آية: ١٢]. ﴿الحُبُك﴾: الخَلْق المستوي المتكامل، مِن حَبَكَ الثوب يَحبِكُه حَبْكاً: أتقنه وأجاد نَسْجَه، وكل شيء أتقنتَه وأحسنتَه فقد احتبكتَه. ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ ﴿الحُبُك﴾: جمع حَبيكة؛ كطُرق وطريقة، أو جمع حِبَاك؛ كَمُثُل ومِثَال، أي السماء المتقنة في بنائها، المكتملة في بنائها، التي أَحْسَنَ اللهُ خَلْقَها. أو (الحُبُك) بمعنى الطُّرُق، و ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾: ذات الطرائق، طُرُق النجوم والكواكب السيارة، وطُرُق صعود الملائكة، وطُرُق استبصار المؤمنين والعارفين. إذا مَرَّت الريح الليِّنة على الرَّمل والماء تكسّر وتموّج، هذا التكسر والتَثَنِّي في الرمل وفي الماء الذي ينشأ من مرور الريح اللينة يسمى (حُبُك). وقُرِأَت: ﴿والسماء ذات الحُبُك﴾، ﴿ذات الحُبْك﴾، ﴿ذات الحَبَك﴾، ﴿ذات الحِبْك﴾، ﴿ذات الحِبِك﴾، ﴿ذات الحِبَكْ﴾، ﴿ذات الحُبَكْ﴾ كُلُّها قراءات تفيد معنى الشِّدَّة ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾. ﴿والسماء ذات الحُبُك﴾: ذات الشدة والقوة في البناء، أو ذات الزينة وذات النجوم المضيئة المنيرة، أو ذات الطُّرُق؛ طُرُق النجوم ومسارات الكواكب، وطُرُق وصعود الملائكة.
﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ والكلام لمن كفر بمحمد (عليه الصلاة والسلام)، الخطاب لمشركي مكة والسورة مكية، ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ أي: أقوالكم مختلفة، ما اتفقتم على شيء. ففي شأن الذات العليّة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [سورة الزخرف آية: ٨٧] ثم يعبدون الأصنام. وفي شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فهم في قول مختلف، قالوا ساحر، شاعر، كاهن، مجنون، كاذب، اختلفوا فيه. وفي شأن القرآن قالوا سِحر، قالوا شِعر، قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بُكرةً وأصيلاً. وفي شأن البعث أنكروا البعث وقالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون؟ ثم جاءوا بعد ذلك فقالوا إن الأصنام تُقَرِّبنا إلى الله زُلفى وتشفع لنا يوم البعث، قد أنكرتم البعث وأنكرتم يوم القيامة، فكيف تشفع لكم الأصنام في يوم قد أنكرتم حدوثه؟ إنكم لفي قول مختلف في الله وفي البعث وفي الجزاء وفي محمد (عليه الصلاة والسلام) وفي القرآن.
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ (يؤفَك): يُصرف، (أَفَكَ) الشيء: قَلَبَهُ وصَرَفَهُ، ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [سورة النجم آية: ٥٣]، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ [سورة الأحقاف آية: ٢٢] لِتَصرِفَنا. ﴿يؤفَك عنه﴾: يُصرَف عنه. يُصرف عن ماذا؟ يُصرَف عن القرآن، يُصرَف عن الإيمان، يُصرَف عن نور سيد الأنام، ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾، ﴿مَنْ أُفِكْ﴾: من صُرِفَ صَرْفاً لا مزيد عليه، صَرْفاً لا مثيل له، (من أُفِك): أي صُرِف وفَسَد عقلُه وفَسَد وجهُه وفَسَد اتجاهُه وفَسَد طريقُه وفسد فِكرُه، هذا الذي يؤفك عنه الإيمان، الذي يُصرف عن الإيمان، من صُرِفَ أصلاً، أي من أُفِكَ وصُرِفَ صَرْفاً لا مزيد عليه. أو (يؤفك عنه من أُفِك) أي: من صَرَفَه الله في قضائه وقدره عن الإيمان، وحَجَبهُ عن سَيِّد الأكوان. وقُرِئت ﴿يُؤفك عنه من أَفَكْ﴾ أي: من أَفَك الناس وصَرَفَهم عن الإسلام وقال لهم لا تسمعوا لمحمد فهو ساحر أو كاذب أو شاعر، هذا الذي صَرَفَ الناس عن الإسلام صُرِفَ عن الإيمان، هذا الذي أَفَك غيرَه يَأْفِكْهُ اللهُ بقلبه ويصرفه عن الإيمان. وقُرِأَت ﴿يُؤفَنُ عنه مَنْ أُفِن﴾ و (الأَفَن): فساد العقل، و (الأَفَن): الحِرمان، (أَفَن) الضَّرع: أَنْهَكَه حَلْبَاً. ﴿يؤفَنُ عنه مَنْ أُفِن﴾ أي: يُحرَم عن هذا الإيمان وعن هذا النور وعن هذه الرحمة، يُحرَم عنه من حُرم أزلاً بقضاء الله وقدره. ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مُتَوَعِّداً ومُعَلِّماً لنا ماذا نقول:
﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ والكلام لمن كفر بمحمد (عليه الصلاة والسلام)، الخطاب لمشركي مكة والسورة مكية، ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ أي: أقوالكم مختلفة، ما اتفقتم على شيء. ففي شأن الذات العليّة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [سورة الزخرف آية: ٨٧] ثم يعبدون الأصنام. وفي شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فهم في قول مختلف، قالوا ساحر، شاعر، كاهن، مجنون، كاذب، اختلفوا فيه. وفي شأن القرآن قالوا سِحر، قالوا شِعر، قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بُكرةً وأصيلاً. وفي شأن البعث أنكروا البعث وقالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون؟ ثم جاءوا بعد ذلك فقالوا إن الأصنام تُقَرِّبنا إلى الله زُلفى وتشفع لنا يوم البعث، قد أنكرتم البعث وأنكرتم يوم القيامة، فكيف تشفع لكم الأصنام في يوم قد أنكرتم حدوثه؟ إنكم لفي قول مختلف في الله وفي البعث وفي الجزاء وفي محمد (عليه الصلاة والسلام) وفي القرآن.
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ (يؤفَك): يُصرف، (أَفَكَ) الشيء: قَلَبَهُ وصَرَفَهُ، ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [سورة النجم آية: ٥٣]، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ [سورة الأحقاف آية: ٢٢] لِتَصرِفَنا. ﴿يؤفَك عنه﴾: يُصرَف عنه. يُصرف عن ماذا؟ يُصرَف عن القرآن، يُصرَف عن الإيمان، يُصرَف عن نور سيد الأنام، ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾، ﴿مَنْ أُفِكْ﴾: من صُرِفَ صَرْفاً لا مزيد عليه، صَرْفاً لا مثيل له، (من أُفِك): أي صُرِف وفَسَد عقلُه وفَسَد وجهُه وفَسَد اتجاهُه وفَسَد طريقُه وفسد فِكرُه، هذا الذي يؤفك عنه الإيمان، الذي يُصرف عن الإيمان، من صُرِفَ أصلاً، أي من أُفِكَ وصُرِفَ صَرْفاً لا مزيد عليه. أو (يؤفك عنه من أُفِك) أي: من صَرَفَه الله في قضائه وقدره عن الإيمان، وحَجَبهُ عن سَيِّد الأكوان. وقُرِئت ﴿يُؤفك عنه من أَفَكْ﴾ أي: من أَفَك الناس وصَرَفَهم عن الإسلام وقال لهم لا تسمعوا لمحمد فهو ساحر أو كاذب أو شاعر، هذا الذي صَرَفَ الناس عن الإسلام صُرِفَ عن الإيمان، هذا الذي أَفَك غيرَه يَأْفِكْهُ اللهُ بقلبه ويصرفه عن الإيمان. وقُرِأَت ﴿يُؤفَنُ عنه مَنْ أُفِن﴾ و (الأَفَن): فساد العقل، و (الأَفَن): الحِرمان، (أَفَن) الضَّرع: أَنْهَكَه حَلْبَاً. ﴿يؤفَنُ عنه مَنْ أُفِن﴾ أي: يُحرَم عن هذا الإيمان وعن هذا النور وعن هذه الرحمة، يُحرَم عنه من حُرم أزلاً بقضاء الله وقدره. ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مُتَوَعِّداً ومُعَلِّماً لنا ماذا نقول:
قُتِلَ ٱلْخَرَّٰصُونَ ﴿10﴾
ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍۢ سَاهُونَ ﴿11﴾
يَسْـَٔلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ ﴿12﴾
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ ﴿13﴾
ذُوقُوا۟ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿14﴾
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ (قُتِل): بمعنى لُعِنَ، وعُبِّر عن اللعن بالقتل لأن من لعنه الله كان كالمقتول الهالك، طُرِدَ من الرحمة فذاك كالمقتول الهالك. أو هو دعاء عليهم ليعلِّمنا. أو ﴿قُتِلَ الخَرَّاصون﴾ بمعنى: أن الخراصون الكذابون وَجَبَ قتلُهم على أيدي المؤمنين، هؤلاء الذين اخترصوا في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وكَذَبوا في حقه، وزعموا عنه كذا وكذا، وزعموا عن القرآن كذا وكذا، وَجَبَ قتلُهم، فَهُم الكفار الذين يجب قتلهم على أيدي المؤمنين. ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ أهو تعليم لنا؟ أو هو تعليم لنا للدعاء عليهم لنقول في شأنهم ﴿قُتِلَ الخَرَّاصون﴾؟ و (الخَرْص): الكذب، (خَرَصَ واخْتَرَص): خَلَقَ واخْتَلَق: كذب، خَرَصَ يخرُصُ خرْصا ً: كَذَبْ. وأصل الخَرْص التخمين والظن، وخَرَصَ ما على النَّخل من الرُّطَب تَمْراً: قَدَّرَ وخَمَّن ما سوف تأتي به النخلة من رُطَب بالنظر، بالتخمين، بالظن، ذاك أصل الخَرْص. فالخَرْص تخمين و ظن، عُبِّرَ به عن الكذب لأنه ظَنّ وكلام بغير علم. قُتِلَ الخراصون: الكذابون. ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ و (الغَمْر): التغطية والسَّتْر، و (غَمَرهُ الماء): غَطَّاه. و (الغَمْرة): ما يُغَطِّي الشيء تغطية كاملة، فَهُم جَهَالاتهم غَطَّتْهُم فَهُم لا يرون الحق أبداً، كالماء إذا غَمَرَ الأشياء، نَزَلَ الشيءُ تحت الماء فلا يرُى له أَثَر. و (السَّهو): الغفلة، (السَّهو): النسيان، هم في غمرة ساهون: أي غَطَّتهم جهالاتُهم فَهُم غافلون عن ما ينتظرهم، غافلون عن يوم البعث والجزاء. ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ ﴿يسألون إِيَّان يوم الدين﴾ قراءتان.
﴿أَيَّانَ﴾: متى وأين يوم الجزاء؟ فهم يستهزئون بالبعث، يستهزئون بالقيامة، يتساءلون سؤال مُستهزِئ مُنكِر مُكَذِّب، لا يسألون سؤال مُتعلِّم أو طالبٍ لِعِلم، بل يسألون استهزاءً واستنكاراً وإنكاراً للبعث، يسألون: أيَّان يوم الدين؟ فيُجيبُهم ربُّنا (تبارك وتعالى) ويقول: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ إذا كنتم تسألون عن موعد يوم الجزاء فموعد يوم الجزاء الذي تسألون عنه هو اليوم الذي تُحرَقون فيه بالنار. وقال: ﴿عَلَى النَّارِ﴾ لتضمين الكلام معنى العَرْض، أنهم يُعرَضون على جهنم، يُعرَضون عليها فقال (على) ولم يقل (في). ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ والفتنة أصلا إحراق الذهب حتى يذوب فيتميز تِبْرُه من خَبَثِه ويُنَقَّى، تلك هي الفتنة؛ إحراق الذهب. والغريب أن الفتنة جاءت بمعنى الاختبار، وجاءت الفتنة بمعنى العذاب، وإذا جاءت الفتنة بمعنى العذاب وبمعنى الإحراق تَبَيَّنَ لك أن الذَّهب، والذَّهب بالذات، يحتاج لنار شديدة قوية فوق ما يحتمله أي معدن وأي شيء، فأنت إذا أردت أن تحرق وَرَقاً فيلزمك نار خفيفة، أردت أن تحرق قَشَّاً لزمتك نار خفيفة، فإذا أردت أن تُذيبَ مَعدِناً لزمتك نار أَشَدّ، أَشَدُّ النيران هي التي تُذيب الذَّهب، فكأن الله (تبارك وتعالى) يُشعِرُهم بأن نار يوم القيامة أشد من نار الذهب، وأن النار درجات خفيفة وقوية وشديدة. ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ذاك جواب تساؤلهم أيان يوم الدين. ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي: يُقال لهم ذوقوا فِتنَتَكُم، أي: ذوقوا عذابكم يوم على النار، يُفتَنون، يُحرَقون، ويُعذَّبون، (ذوقوا فتنتكم): ذوقوا عذابكم، ذوقوا إحراقكم.
(هَذَا) أي: هذا العذاب، ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ به في الدنيا وتقولون أَمْطِر علينا حجارة من السماء، وتقولون فَأْتِنَا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وطالما ذُكِرَ الكفار وذُكِرَ مآلُهم، لابد أن يُذْكَرَ مآلُ المتقين، وبضدها تتميز الأشياء، وما في يوم القيامة إلا جنة أو نار.
﴿أَيَّانَ﴾: متى وأين يوم الجزاء؟ فهم يستهزئون بالبعث، يستهزئون بالقيامة، يتساءلون سؤال مُستهزِئ مُنكِر مُكَذِّب، لا يسألون سؤال مُتعلِّم أو طالبٍ لِعِلم، بل يسألون استهزاءً واستنكاراً وإنكاراً للبعث، يسألون: أيَّان يوم الدين؟ فيُجيبُهم ربُّنا (تبارك وتعالى) ويقول: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ إذا كنتم تسألون عن موعد يوم الجزاء فموعد يوم الجزاء الذي تسألون عنه هو اليوم الذي تُحرَقون فيه بالنار. وقال: ﴿عَلَى النَّارِ﴾ لتضمين الكلام معنى العَرْض، أنهم يُعرَضون على جهنم، يُعرَضون عليها فقال (على) ولم يقل (في). ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ والفتنة أصلا إحراق الذهب حتى يذوب فيتميز تِبْرُه من خَبَثِه ويُنَقَّى، تلك هي الفتنة؛ إحراق الذهب. والغريب أن الفتنة جاءت بمعنى الاختبار، وجاءت الفتنة بمعنى العذاب، وإذا جاءت الفتنة بمعنى العذاب وبمعنى الإحراق تَبَيَّنَ لك أن الذَّهب، والذَّهب بالذات، يحتاج لنار شديدة قوية فوق ما يحتمله أي معدن وأي شيء، فأنت إذا أردت أن تحرق وَرَقاً فيلزمك نار خفيفة، أردت أن تحرق قَشَّاً لزمتك نار خفيفة، فإذا أردت أن تُذيبَ مَعدِناً لزمتك نار أَشَدّ، أَشَدُّ النيران هي التي تُذيب الذَّهب، فكأن الله (تبارك وتعالى) يُشعِرُهم بأن نار يوم القيامة أشد من نار الذهب، وأن النار درجات خفيفة وقوية وشديدة. ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ذاك جواب تساؤلهم أيان يوم الدين. ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي: يُقال لهم ذوقوا فِتنَتَكُم، أي: ذوقوا عذابكم يوم على النار، يُفتَنون، يُحرَقون، ويُعذَّبون، (ذوقوا فتنتكم): ذوقوا عذابكم، ذوقوا إحراقكم.
(هَذَا) أي: هذا العذاب، ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ به في الدنيا وتقولون أَمْطِر علينا حجارة من السماء، وتقولون فَأْتِنَا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وطالما ذُكِرَ الكفار وذُكِرَ مآلُهم، لابد أن يُذْكَرَ مآلُ المتقين، وبضدها تتميز الأشياء، وما في يوم القيامة إلا جنة أو نار.
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍ ﴿15﴾
ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿16﴾
كَانُوا۟ قَلِيلًۭا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿17﴾
وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿18﴾
وَفِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّۭ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ ﴿19﴾
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ و (المتقين): الذين اتَّقَوْا الشِّرك، واتَّقَوْا الله (تبارك وتعالى) واتَّقَوْا المعاصي، واتَّقَوْا أن ينشغل قلبهم بغير الله، والتقوى مقامات ودرجات. و (جَنَّات): جمع جَنَّة و (الجَنَّة): البستان كثير الأشجار، كثير الأغصان، كثير الثمار الذي يغطي ما تحته ولا تنزل إليه رياح، أو تصل إليه شمس أو حر، فهو متكاتف الأغصان مُلتَفّ الفروع كثير الثِّمار. و (العُيون): جمع عَين، و (العَين): الماء النابع من الأرض، السلسبيل العذب. ﴿جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ تشبيه، والله لا يعرفها إلا الله! فهي تمثيل تقريب للأذهان. ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ قابلين العطايا والمِنَن والمِنَح من النعيم الأخروي، آخذينه أخْذ القبول، فرحين به طَيِّبةً به نفوسُهم. (آخذين ما آتاهم ربهم) دلالة على أن كل شيء من النعيم هُيِّئَ لهم فهم راضين به، قابلين له. أيضا (آخذينه) لا يَحُولُ بينهم وبين النعيم حائل، فقد يُساق إليك الخير ويَحُولُ بينك وبينه حائل؛ ينزعه منك آخر أو تُنازَع فيه أو تُحارَب عليه، أو لا تقوى على الوصول إليه، أو يفنى قبل أن يصل إليك، أما هؤلاء (آخذين ما آتاهم ربهم) ما هُيِّئَ لهم من النعيم واصل إليهم لا محالة وهم يتلقونه بالقبول والرضا. أو الكلام عن الدنيا؛ آخذين الفرائض والأوامر والنواهي أخذ القبول، مطيعين لله ولرسوله مؤمنين به. ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ تعليل لما فازوا به مِن (جنات وعيون)؛ (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين): قبل يوم القيامة، قبل البعث، في حياتهم كانوا محسنين، أحسنوا العمل وأحسنوا الظن بالله وأحسنوا العبادة وأحسنوا السلوك والمنهج.
وجاء بأوصافٍ لبعض إحسانهم: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(١٧) ﴾ (الهُجُوع): النوم بالليل، و (التِّهْجاع) أو (التَّهْجاع): النومة الخفيفة. فالنوم غير الهجوع، النوم قد يكون ثقيلاً، أما الهُجوع فهو النوم الخفيف الذي تُوقَظ فيه لأقل حركة ولا يكون إلا ليلاً. فهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، إذاً فهم يقومون الليل يصلون ويسبحون ويحمدون ويهللون ويكبرون وكان نومهم نوما قليلاً. ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ و (الأسحار) جمع سَحَر، و (السَّحَر): الثُّلث الأخير من الليل قبل الفجر، ذاك هو وقت السحر، وقت إجابة الدعاء، وقت تجلّي الرحمن على العباد، وقت النداء الإلهي: (هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من مُستغفِرٍ فأَغفِرُ له؟). والعجب أنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، إذاَ هم يقومون الليل، فما بالُكَ بالنهار؟ ماذا يفعلون بالنهار إذا كانوا يقومون في وقت الراحة ولا ينامون إلا قليلاً نوماً هجوعاً؟ هؤلاء رغم هذه العبادة ورغم هذا القيام بالليل يستغفرون بالأسحار، مِمَّ يستغفرون؟ مِنْ أي شيء يستغفرون؟ وكأنهم قد أجرموا، وكأن قيامهم بالليل جُرم وذنب فهم يستغفرون! هؤلاء القائمون الرُّكَّع السجود الذين هم قليلاً من الليل ما يهجعون يأتون بالأسحار أيضاً فيستغفرون، نعم! لأنهم هم العارفون بالله، الفاهمون والعارفون بأن الله (تبارك وتعالى) لا يجب عليه شيء، فإن كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون فبفضله وبِمَنِّه وبكرمه، هو الذي حَبَّبَ إليهم الإيمان وهو الذي نشّطهم وقوّاهم وأقامهم وأوقفهم بين يديه، هو الله الذي فعل بهم ذلك، فهم يستغفرون عن التقصير، يستغفرون خوفا من رد العمل، يستغفرون لأنهم ليس بأيديهم شيء من الفضل بل الفضل كله لله. ورغم هذا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون.
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أوجبوا في أموالهم حقاً لكل سائل يسألهم ولكل محروم حُرِمَ المال. (السَّائل): الذي يسأل الناس لفاقةٍ أصابته أو لفقرٍ يعانيه. و (المحروم): هو الذي يتعفف عن السؤال فيظن الناس أنه على غِنَى فيُحرَم الصدقة؛ ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٣] تحسبهم أغنياء فيُحرَمون الصدقة، فهؤلاء الذين ذكرهم الله ومدحهم وأثنى عليهم في أموالهم حَقٌّ، فرضوا على أنفسهم جزءاً من أموالهم لكل سائل ولكل محروم، و (المحروم): الذي أصابته جائحة، كقوله (تبارك وتعالى) في أصحاب الجنة: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(٢٦)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(٢٧)﴾ [سورة القلم آية: ٢٦ - ٢٧] (المحروم): الذي حُرِمَ الرزق، (المحروم): الذي يسعى في الدنيا ولا يتكسب ما يكفيه، (المحروم): المتعفف، تلك صفات لهؤلاء المتقين من أهل الجنة. أيها الأخ المسلم، عَرَضنا أعمالنا على أهل النار فوجدنا أن الله (تبارك وتعالى) مَنَّ علينا بالإيمان وأنقذنا من أفعالهم، فهم يكفرون بالله ويكفرون برسول الله ويكفرون بالقرآن، حمدنا الله (تبارك وتعالى) عافانا ورزقنا الإسلام. وعَرَضنا أعمالنا على أهل الجنة فوجدنا أنفسنا ليس منهم، هم قليلا من الليل ما يهجعون أنحن كذلك؟ هم بالأسحار يستغفرون أنحن كذلك؟ في أموالهم حق للسائل والمحروم أنحن كذلك؟ حين عَرَضنا أعمال أهل الجنة وجدنا أن أعمالنا تَقصُرُ عن أعمالهم، وليست صفاتنا كصفاتهم، هم شيء ونحن شيء آخر، فأين نحن؟ لا أمل لنا إلا أن نكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم.
إذا أردت أن تعرف مكانك وأردت أن تعرف مقامك فاعرض نفسك على القرآن، واعرض عملك على الأعمال التي ذُكِرَت، وكما قلنا إذا عرضنا أعمالنا على أعمال الكفار وجدنا أن الله مَنَّ علينا بالإسلام، وحمدنا الله على ذلك وسألناه دوام النعمة، وسألناه أن يَتَوفَّنا على الإسلام ويحشرنا على الإسلام. وإذا عرضنا أعمالنا على أعمال أهل الجنة وجدنا أنفسنا مقصرين تقصيرا شديداً، واعرض نفسك واسمع الصفات: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ١]، من هم؟ ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٢]، هل تخشع في صلاتك أم تسهو وتنسى وتفكر في كذا وكذا؟ اسمع الصفات، إذا سمعتُ لا أجدُ نفسي بين هؤلاء ولا بين هؤلاء فيحدوني الأمل أن أكون من الذين قال الله فيهم: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة التوبة آية: ١٠٢]، و"عسى" مِنَ الله إطماع، وربنا إذا أطمع العبد لا يُخَيِّب رجاءه، فنحن نطمع في التوبة والمغفرة وأن يغفر لنا وأن يرحمنا. والله (تبارك وتعالى) بعد ما ذكر مآل أهل الجنة ومآل أهل النار يخاطب الناس، يخاطب فيهم العقول الواعية، يخاطب فيهم الأبصار النافذة، وليست الأبصار الزائغة:
وجاء بأوصافٍ لبعض إحسانهم: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(١٧) ﴾ (الهُجُوع): النوم بالليل، و (التِّهْجاع) أو (التَّهْجاع): النومة الخفيفة. فالنوم غير الهجوع، النوم قد يكون ثقيلاً، أما الهُجوع فهو النوم الخفيف الذي تُوقَظ فيه لأقل حركة ولا يكون إلا ليلاً. فهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، إذاً فهم يقومون الليل يصلون ويسبحون ويحمدون ويهللون ويكبرون وكان نومهم نوما قليلاً. ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ و (الأسحار) جمع سَحَر، و (السَّحَر): الثُّلث الأخير من الليل قبل الفجر، ذاك هو وقت السحر، وقت إجابة الدعاء، وقت تجلّي الرحمن على العباد، وقت النداء الإلهي: (هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من مُستغفِرٍ فأَغفِرُ له؟). والعجب أنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، إذاَ هم يقومون الليل، فما بالُكَ بالنهار؟ ماذا يفعلون بالنهار إذا كانوا يقومون في وقت الراحة ولا ينامون إلا قليلاً نوماً هجوعاً؟ هؤلاء رغم هذه العبادة ورغم هذا القيام بالليل يستغفرون بالأسحار، مِمَّ يستغفرون؟ مِنْ أي شيء يستغفرون؟ وكأنهم قد أجرموا، وكأن قيامهم بالليل جُرم وذنب فهم يستغفرون! هؤلاء القائمون الرُّكَّع السجود الذين هم قليلاً من الليل ما يهجعون يأتون بالأسحار أيضاً فيستغفرون، نعم! لأنهم هم العارفون بالله، الفاهمون والعارفون بأن الله (تبارك وتعالى) لا يجب عليه شيء، فإن كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون فبفضله وبِمَنِّه وبكرمه، هو الذي حَبَّبَ إليهم الإيمان وهو الذي نشّطهم وقوّاهم وأقامهم وأوقفهم بين يديه، هو الله الذي فعل بهم ذلك، فهم يستغفرون عن التقصير، يستغفرون خوفا من رد العمل، يستغفرون لأنهم ليس بأيديهم شيء من الفضل بل الفضل كله لله. ورغم هذا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون.
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أوجبوا في أموالهم حقاً لكل سائل يسألهم ولكل محروم حُرِمَ المال. (السَّائل): الذي يسأل الناس لفاقةٍ أصابته أو لفقرٍ يعانيه. و (المحروم): هو الذي يتعفف عن السؤال فيظن الناس أنه على غِنَى فيُحرَم الصدقة؛ ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٣] تحسبهم أغنياء فيُحرَمون الصدقة، فهؤلاء الذين ذكرهم الله ومدحهم وأثنى عليهم في أموالهم حَقٌّ، فرضوا على أنفسهم جزءاً من أموالهم لكل سائل ولكل محروم، و (المحروم): الذي أصابته جائحة، كقوله (تبارك وتعالى) في أصحاب الجنة: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(٢٦)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(٢٧)﴾ [سورة القلم آية: ٢٦ - ٢٧] (المحروم): الذي حُرِمَ الرزق، (المحروم): الذي يسعى في الدنيا ولا يتكسب ما يكفيه، (المحروم): المتعفف، تلك صفات لهؤلاء المتقين من أهل الجنة. أيها الأخ المسلم، عَرَضنا أعمالنا على أهل النار فوجدنا أن الله (تبارك وتعالى) مَنَّ علينا بالإيمان وأنقذنا من أفعالهم، فهم يكفرون بالله ويكفرون برسول الله ويكفرون بالقرآن، حمدنا الله (تبارك وتعالى) عافانا ورزقنا الإسلام. وعَرَضنا أعمالنا على أهل الجنة فوجدنا أنفسنا ليس منهم، هم قليلا من الليل ما يهجعون أنحن كذلك؟ هم بالأسحار يستغفرون أنحن كذلك؟ في أموالهم حق للسائل والمحروم أنحن كذلك؟ حين عَرَضنا أعمال أهل الجنة وجدنا أن أعمالنا تَقصُرُ عن أعمالهم، وليست صفاتنا كصفاتهم، هم شيء ونحن شيء آخر، فأين نحن؟ لا أمل لنا إلا أن نكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم.
إذا أردت أن تعرف مكانك وأردت أن تعرف مقامك فاعرض نفسك على القرآن، واعرض عملك على الأعمال التي ذُكِرَت، وكما قلنا إذا عرضنا أعمالنا على أعمال الكفار وجدنا أن الله مَنَّ علينا بالإسلام، وحمدنا الله على ذلك وسألناه دوام النعمة، وسألناه أن يَتَوفَّنا على الإسلام ويحشرنا على الإسلام. وإذا عرضنا أعمالنا على أعمال أهل الجنة وجدنا أنفسنا مقصرين تقصيرا شديداً، واعرض نفسك واسمع الصفات: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ١]، من هم؟ ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية: ٢]، هل تخشع في صلاتك أم تسهو وتنسى وتفكر في كذا وكذا؟ اسمع الصفات، إذا سمعتُ لا أجدُ نفسي بين هؤلاء ولا بين هؤلاء فيحدوني الأمل أن أكون من الذين قال الله فيهم: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة التوبة آية: ١٠٢]، و"عسى" مِنَ الله إطماع، وربنا إذا أطمع العبد لا يُخَيِّب رجاءه، فنحن نطمع في التوبة والمغفرة وأن يغفر لنا وأن يرحمنا. والله (تبارك وتعالى) بعد ما ذكر مآل أهل الجنة ومآل أهل النار يخاطب الناس، يخاطب فيهم العقول الواعية، يخاطب فيهم الأبصار النافذة، وليست الأبصار الزائغة:
وَفِى ٱلْأَرْضِ ءَايَـٰتٌۭ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿20﴾
وَفِىٓ أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿21﴾
وَفِى ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿22﴾
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ إِنَّهُۥ لَحَقٌّۭ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴿23﴾
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ نعم! في الأرض آيات ودلائل على قدرة الله، وعلى وجود الله وقدرته وإرادته وعلمه وفيض رحمته. في الأرض معادن؛ ذهب ونحاس ورصاص وبترول وغازات، ألوان وأشكال من المعادن تحت الأرض. و فوق الأرض ألوان وأشكال من النباتات، وأحوال؛ نبات يزهو ونبات يصبح هشيما تذروه الرياح، وجبال وأودية وبحار ومياه؛ عذبٌ و مالح، لؤلؤ ومرجان بين البحار حلية وأسماك ولحما طريا وسفن جاريات في البحر كالأعلام. في الأرض آيات ودلائل للموقنين؛ هم الذين ينتفعون بذلك، والموقنون الموحدون الذين عرفوا لله قَدْرَه، الموقنون هؤلاء الذين آمنوا بالله وبرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إيمانا يقينياً لا يتزعزع، لا تشوبه شائبة ثم لم يرتابوا، آمنوا ولم يرتابوا أبدا في حياتهم، لم يَشُكُّوا لحظة في قدرة الله وفي وجود لله وفي صدق الله وفي صدق النبي (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ لو تكلمنا عن الآيات التي في الأرض والله لا ننتهي حتى العام القادم! والله لا ننتهي حتى نموت! في الأرض آيات للموقنين؛ فيها الحصى وفيها الدر، فيها النبات الحلو وفيها المر، فيها السموم، فيها الوحوش، فيها البهائم، فيها الركائب، فيها الطيور، فيها الحشرات، فيها الميكروبات، فيها وفيها ما لا عَدَّ له ولا حَصر، سبحان الخالق! دلائل على وجود الصانع القادر. ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ وفي أنفسكم أيضا آيات، وانظر لنفسك؛ رجل يجتمع بامرأة في لحظة لذة وشهوة لا يدري شيئا، وإذا بنطفة تخرج منه بغير إرادة منه، وهذه النطفة تتشكل: علقة، مضغة، عظام، لحم، أعصاب، وشعر، وعيون، وآذان، وأعصاب، وعضلات، ومفاصل. وانظر إلى الجسم يتحرك حركات غريبة، جعل الله فيه مفاصل، هذه المفاصل التي جعلها الله له تَتَثَنَّى و تَتَلَوَّى وتجعل الجسم يتحرك حركات غريبة يستطيع بها أن ينال كل ما يريد ويصنع ما يريد.
ثم العقول، والقلوب جعلها أوعية للعقول، والعقول أوعية للعلوم والفنون والتَفَنُّن والأفكار والكمالات والصناعات والحِرَف، الإنسان عالَم، كل ما في العالم الكبير موجود في الإنسان. وفي الإنسان أمور غريبة لا عَدَّ لها ولا حَصر؛ خلايا، إفرازات تأكل الطعام، والمعدة تعمل، والأمعاء تعمل، إذا بالخارج يخرج منك بغير إرادة، وتأكل وتشرب من مكان واحد وتخرج الفضلات من مكانين؛ مكان للماء ومكان للغائط. وقد تقول: نعم، أنت تُدخِلُ الماء وتُدخِلُ الطعام، فالماء يخرج من مَخرج والغائط يخرج من مَخرج لأنك تأكل وتشرب، فما بالك بمن يشرب اللبن واللبن فقط كالطفل؟ واللبن سائل، إذا تغذى الطفل باللبن فقط هذا اللبن ينقسم فيخرج منه سائل ويخرج منه غائط، اللبن شراب واحد! وفي أنفسكم آيات ودلائل لا عَدَّ لها ولا حَصر، أفلا تبصرون بَصَرَ مُتأَمِّل مُتفَكِّر فتجدون الله في كل شيء؟ هو القادر المريد الفعّال العالِم، هو الله. ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ و (السماء) هنا قد تكون السحاب، وفي السحاب رزقكم أي المطر، لأن المطر به تحيا الأرض ويخرج النبات الذي هو رزق اللإنسان ورزق للحيوان. ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ من خيرٍ أو من شرٍّ، من ثوابٍ أو من عقابٍ. (في السماء) أي: في الكتاب المكتوب والذي هو فوق السموات السبع، مكنوناً عن الخلائق بائناً عن حيز الإدراك. أو (في السماء) بمعنى السماء المبنية، إذاً فالمعنى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي: أَنَّ في السماء و فوق السماء الكتابُ، اللَّوح المحفوظ، الذي سُطِّرَ فيه من الأزل رزقُك وأجلُك وأَثَرُك وشقيٌّ أنت أم سعيد، عند الله كتاب محفوظ مكنون عن الخلائق لا يَطَّلع عليه أحد، مرفوعاً عن حيز الإدراك، فيه الرزق والأجل والأثر والشقاوة والسعادة.
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾ ومن كان رزقه على الله فلا يحزن، في السماء وليس في الأرض، إذا ً فالساعين في الأرض للرزق هم ساعين في شيء قد كُتب لهم، نعم! (عبدي خلقتُك لعبادتي فلا تلعب وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب إن قَلَّ فلا تحزن وإن كَثُرَ فلا تفرح إن أنت رضيتَ بما قَسَمْتُهُ لك أَرَحتُ بَدَنَكَ وعقلك وكُنتَ عندي محموداً وإن لم ترضَ بما قَسَمْتُهُ لك أَتعَبْتُ بَدَنَك وعقلك وكُنتَ عندي مذموماً وعِزَّتي وجلالي لَأُسَلِّطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها رَكْضَ الوحش في الفلاة ولا تُصيبُ منها إلا ما كَتَبْتُهُ لك) نعم! وفي السماء رزقكم وما توعدون. ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مُقسِما ً بذاته العلية: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ أقسم ربنا بذاته العلية إنه لَحَقّ، كل ما ذُكِرَ في السورة من وعد: (إن ما توعدون لصادق إن الدين لواقع)، ومآل الكفار: (قتل الخراصون)، وهم (على النار يفتنون) يوم القيامة حين سألوا أيان يوم الدين، وكذلك المتقين الذين هم: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)، (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، (وفي الأرض آيات)، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، كل ما ذُكِر أَقْسَمَ الله (تبارك وتعالى) على كل ذلك بذاته العلية إنه لَحَقّ. وقد يكون القَسَمُ خاصاً بقوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فإذا كان الرزق في السماء وجب علينا التوكل على الله، وعَلِمنا أن الرزق إن زاد فبفضل الله وليس بجهدنا، وإن قل الرزق فبإرادة الله وليس بتقصيرنا، فقد يُرزَقُ العاجز وقد يُحرَمُ الحازم، وتجد الرجل ذا عقل وكياسة وحيلة وتدبير ومحروم في الرزق، وتجد الرجل به السَّفَهْ أو لا يدري ما يصنع أو غير مُتَعَلِّم أو لا حِرفَةَ له وتجد الرزق يأتيه وفيراً.
إذا ًفي السماء رزقكم وما توعدون ولكنا أُمِرنا أن نأخذ بالأسباب ونتوكل على الله، إن كَثُرَ الرزق حمدنا الله، وإن قَلَّ الرزق حمدنا الله، إن كَثُرَ فلا تفرح وإن قَلَّ فلا تحزن، ولذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(٢٢)لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(٢٣)﴾ [سورة الحديد آية: ٢٢ - ٢٣].
أيها الأخ المسلم، أقسم الله (تبارك وتعالى) على ما ذُكِرَ في سورة الذاريات من أولها (فورب السموات والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) أو (مِثْلُ) قراءة. جاء بالنُّطق الذي ينطقه الإنسان، هذا النُّطق هل يمكن لك أن تنطق على لسان غيرك؟ أنت تتكلم وحين تتكلم فأنت تتكلم بلسانك وليس بلسان أحد، قد تُكَرِّر الكلام نعم لكنا نتكلم عن النطق وليس عن الكلام، (النُّطق) وهو حركة اللسان مع الشفتين لإخراج الهواء مُقَطَّعاً إلى حروف، ذاك هو النُّطق، كل إنسان ينطق، أَنْطَقَهُ الله، وينطق بنفسه، بلسانه، فكما أنك تنطق بلسانك وليس بلسان أحد، فكذلك رِزْقُك هو رِزْقُك وليس رِزْقَاً لأحد، ولن يأخذ أحدٌ رِزْقَ أحدٍ أبدا، إي وربي إنه لَحَقّ! (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (إنه لَحَقٌّ مثل ما أنكم تنطقون)، فكما أنك تنطق ولا تدري كيف أنطقك الله، ولا يمكن أن تنطق على لسان غيرك أو تستخدم لسان غيرك للنطق، فكذلك لن تأخذ رزق غيرك ولن يأخذ غيرك رزقك، فلكل نفس رزقها ولكل نفس أجلها، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لو كُنْتُ حالِفاً لَحَلَفْتُ على ثلاث: لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رِزْقَهَا، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ أَجَلَها، وما نقص مالٌ من صدقة."
وتمضي بنا الآيات من سورة الذاريات تُحذِّر كفار مكة ومن نَهَجَ نَهْجَهُم، تُحَذِّرُهُم الأخذ الوبيل، تُحَذِّرُهُم الصَّعْقة، تُحَذِّرُهُم الإهلاك كما أُهلِكَ من كان قبلهم، يقول الله (تبارك وتعالى):
ثم العقول، والقلوب جعلها أوعية للعقول، والعقول أوعية للعلوم والفنون والتَفَنُّن والأفكار والكمالات والصناعات والحِرَف، الإنسان عالَم، كل ما في العالم الكبير موجود في الإنسان. وفي الإنسان أمور غريبة لا عَدَّ لها ولا حَصر؛ خلايا، إفرازات تأكل الطعام، والمعدة تعمل، والأمعاء تعمل، إذا بالخارج يخرج منك بغير إرادة، وتأكل وتشرب من مكان واحد وتخرج الفضلات من مكانين؛ مكان للماء ومكان للغائط. وقد تقول: نعم، أنت تُدخِلُ الماء وتُدخِلُ الطعام، فالماء يخرج من مَخرج والغائط يخرج من مَخرج لأنك تأكل وتشرب، فما بالك بمن يشرب اللبن واللبن فقط كالطفل؟ واللبن سائل، إذا تغذى الطفل باللبن فقط هذا اللبن ينقسم فيخرج منه سائل ويخرج منه غائط، اللبن شراب واحد! وفي أنفسكم آيات ودلائل لا عَدَّ لها ولا حَصر، أفلا تبصرون بَصَرَ مُتأَمِّل مُتفَكِّر فتجدون الله في كل شيء؟ هو القادر المريد الفعّال العالِم، هو الله. ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ و (السماء) هنا قد تكون السحاب، وفي السحاب رزقكم أي المطر، لأن المطر به تحيا الأرض ويخرج النبات الذي هو رزق اللإنسان ورزق للحيوان. ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ من خيرٍ أو من شرٍّ، من ثوابٍ أو من عقابٍ. (في السماء) أي: في الكتاب المكتوب والذي هو فوق السموات السبع، مكنوناً عن الخلائق بائناً عن حيز الإدراك. أو (في السماء) بمعنى السماء المبنية، إذاً فالمعنى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي: أَنَّ في السماء و فوق السماء الكتابُ، اللَّوح المحفوظ، الذي سُطِّرَ فيه من الأزل رزقُك وأجلُك وأَثَرُك وشقيٌّ أنت أم سعيد، عند الله كتاب محفوظ مكنون عن الخلائق لا يَطَّلع عليه أحد، مرفوعاً عن حيز الإدراك، فيه الرزق والأجل والأثر والشقاوة والسعادة.
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾ ومن كان رزقه على الله فلا يحزن، في السماء وليس في الأرض، إذا ً فالساعين في الأرض للرزق هم ساعين في شيء قد كُتب لهم، نعم! (عبدي خلقتُك لعبادتي فلا تلعب وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب إن قَلَّ فلا تحزن وإن كَثُرَ فلا تفرح إن أنت رضيتَ بما قَسَمْتُهُ لك أَرَحتُ بَدَنَكَ وعقلك وكُنتَ عندي محموداً وإن لم ترضَ بما قَسَمْتُهُ لك أَتعَبْتُ بَدَنَك وعقلك وكُنتَ عندي مذموماً وعِزَّتي وجلالي لَأُسَلِّطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها رَكْضَ الوحش في الفلاة ولا تُصيبُ منها إلا ما كَتَبْتُهُ لك) نعم! وفي السماء رزقكم وما توعدون. ثم يقول الله (تبارك وتعالى) مُقسِما ً بذاته العلية: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ أقسم ربنا بذاته العلية إنه لَحَقّ، كل ما ذُكِرَ في السورة من وعد: (إن ما توعدون لصادق إن الدين لواقع)، ومآل الكفار: (قتل الخراصون)، وهم (على النار يفتنون) يوم القيامة حين سألوا أيان يوم الدين، وكذلك المتقين الذين هم: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)، (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، (وفي الأرض آيات)، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، كل ما ذُكِر أَقْسَمَ الله (تبارك وتعالى) على كل ذلك بذاته العلية إنه لَحَقّ. وقد يكون القَسَمُ خاصاً بقوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فإذا كان الرزق في السماء وجب علينا التوكل على الله، وعَلِمنا أن الرزق إن زاد فبفضل الله وليس بجهدنا، وإن قل الرزق فبإرادة الله وليس بتقصيرنا، فقد يُرزَقُ العاجز وقد يُحرَمُ الحازم، وتجد الرجل ذا عقل وكياسة وحيلة وتدبير ومحروم في الرزق، وتجد الرجل به السَّفَهْ أو لا يدري ما يصنع أو غير مُتَعَلِّم أو لا حِرفَةَ له وتجد الرزق يأتيه وفيراً.
إذا ًفي السماء رزقكم وما توعدون ولكنا أُمِرنا أن نأخذ بالأسباب ونتوكل على الله، إن كَثُرَ الرزق حمدنا الله، وإن قَلَّ الرزق حمدنا الله، إن كَثُرَ فلا تفرح وإن قَلَّ فلا تحزن، ولذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(٢٢)لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(٢٣)﴾ [سورة الحديد آية: ٢٢ - ٢٣].
أيها الأخ المسلم، أقسم الله (تبارك وتعالى) على ما ذُكِرَ في سورة الذاريات من أولها (فورب السموات والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) أو (مِثْلُ) قراءة. جاء بالنُّطق الذي ينطقه الإنسان، هذا النُّطق هل يمكن لك أن تنطق على لسان غيرك؟ أنت تتكلم وحين تتكلم فأنت تتكلم بلسانك وليس بلسان أحد، قد تُكَرِّر الكلام نعم لكنا نتكلم عن النطق وليس عن الكلام، (النُّطق) وهو حركة اللسان مع الشفتين لإخراج الهواء مُقَطَّعاً إلى حروف، ذاك هو النُّطق، كل إنسان ينطق، أَنْطَقَهُ الله، وينطق بنفسه، بلسانه، فكما أنك تنطق بلسانك وليس بلسان أحد، فكذلك رِزْقُك هو رِزْقُك وليس رِزْقَاً لأحد، ولن يأخذ أحدٌ رِزْقَ أحدٍ أبدا، إي وربي إنه لَحَقّ! (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (إنه لَحَقٌّ مثل ما أنكم تنطقون)، فكما أنك تنطق ولا تدري كيف أنطقك الله، ولا يمكن أن تنطق على لسان غيرك أو تستخدم لسان غيرك للنطق، فكذلك لن تأخذ رزق غيرك ولن يأخذ غيرك رزقك، فلكل نفس رزقها ولكل نفس أجلها، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لو كُنْتُ حالِفاً لَحَلَفْتُ على ثلاث: لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رِزْقَهَا، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ أَجَلَها، وما نقص مالٌ من صدقة."
وتمضي بنا الآيات من سورة الذاريات تُحذِّر كفار مكة ومن نَهَجَ نَهْجَهُم، تُحَذِّرُهُم الأخذ الوبيل، تُحَذِّرُهُم الصَّعْقة، تُحَذِّرُهُم الإهلاك كما أُهلِكَ من كان قبلهم، يقول الله (تبارك وتعالى):
هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ ﴿24﴾
إِذْ دَخَلُوا۟ عَلَيْهِ فَقَالُوا۟ سَلَـٰمًۭا ۖ قَالَ سَلَـٰمٌۭ قَوْمٌۭ مُّنكَرُونَ ﴿25﴾
فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجْلٍۢ سَمِينٍۢ ﴿26﴾
فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿27﴾
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةًۭ ۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍۢ ﴿28﴾
فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُۥ فِى صَرَّةٍۢ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌۭ ﴿29﴾
قَالُوا۟ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ ﴿30﴾
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (هل أتاك) سؤال للنبي (صلى الله عليه وسلم) لا يحتاج لإجابة، فالمعنى: (أَلَم يأتِكَ حديث ضيف إبراهيم)، أو (قد أتاك حديث ضيف إبراهيم) لأن الله قد قَصَّ عليه قَصَصَ إبراهيم من قبل، (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم) كقوله (تبارك وتعالى): ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾؟ [سورة الإنسان آية: ١]، نعم! قد أتى عليه. (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم) أي: (قد أتاك حديث ضيف إبراهيم). و (ضيف) في الأصل مصدر، ولذلك تُطلَق للواحد والمتعدد. وبداية الكلام بهذا الأسلوب يُشعِر بفخامة هذا الحدث، ويُشعٍر بأن إبراهيم قد أوحيَ إليه. (ضيف إبراهيم) سمّاهم (ضيفاً) لأنهم أتوا في صورة الأضياف وهم ملائكة الرحمن. (الْمُكْرَمِينَ) المكرمين عند الله مصداقاً لقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية: ٢٦]. مُكرَمين عند الله، أو المكرمين عند إبراهيم فقد خَدمهم إبراهيم بنفسه وخدمتهم زوجتُه. ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ ﴿دخلوا عليه فقالوا سلاماً﴾، وقُرِئت: (سلامٌ)، دخلوا عليه فقالوا (سلامٌ) أي: (سلامٌ عليك). والتحية تحية أَمْنٍ وأمان، وتحية تدل على أن القائلين لها من أهل الإسلام، لذلك أنكرهم إبراهيم، فأنّى للسلام أن يكون في هذا الزمان وفي هذا المكان وقد كَذَّبه قومه بل وأعدوا له ناراً يلقوه فيها؟ أو حين رد عليهم قال: (سلامٌ)، وقُرِئت (قال سلاماً)، وقُرِئت (قال سِلْمٌ) أي: رَدِّي عليكم سلام، أو عليكم سلام، أو أمري سلام، أو هو طالب للسِّلْم.
﴿سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ قالها في نفسه ولم يواجههم بهذه المقالة، فليس ذلك من أدب المَضيف وليس من أدب الأنبياء والرسل، قالها في نفسه، أنكرهم لأنهم جاءوا على صورة البشر ولم يكن يعرفهم، غرباء. أو أنكرهم لأنهم دخلوا بغير استئذان. أو أنكرهم لمقالتهم (سلام) وأنّى للسلام أن يتواجد في هذه البلاد. أو أنكرهم بمعنى خافهم، (أنكر الشيء): خَافَه. ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ (رَاغَ): مَالَ وحَادَ في خِفية. رَاغ يروغ رَوْغا وروغاناً: مَالَ وعَدَلَ على سبيل الاحتيال أو في اختفاء. والتعبير هنا: (راغ إلى أهله) يدل على أن ذلك منتهى الأدب واللياقة من المضيف، لأنه أولاً أراد أن يُقَدِّمَ القِرى فَورَ مجيئهم فلا ينتظرون. وأراد أيضا أن يذهب لإعداد القِرى والطعام دون أن يشعروا، في خِفية، لأنه لو ذهب لإعداد الطعام عَلَناً أو أمامهم أو ظاهرا قد يستوقفوه، فأنت إذا سألت الضَّيف أتُريدَ طعاماً؟ قد يستحي ويقول لا وهو جائع، وقد يستوقفك وقد وقد. (فراغ إلى أهله) حتى لا يستوقفه الأضياف ويرفضوا طعامه، أو يمنعهم الحياء، أو ينتظروا الطعام والقِرى فبادر وذهب في خِفية. (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) انتقى أطيب ما عنده من طعام، وقدم لأضيافه أحسن ما يمكن، جاء بعجل سمين. ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ قرّبه إليهم حتى لا يُحَمِّلهم مَشَقَّةَ الانتقال إلى الطعام، بل وضع الطعام بين أيديهم سهلاً في متناولهم. ﴿قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ إن كان الكلام بمجرد وضع الطعام أمام الأضياف فالهمزة للطلب والحَثِّ والعَرْض، (ألا تأكلون) وكأنه يحثهم على الطعام. وإن كان الكلام بعد ما وُضِعَ الطعام وامتنعوا عن الأكل (ألا تأكلون) تصبح الهمزة للإنكار أي: لماذا لا تأكلون؟ ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ هنا دخل الخوف في نفسه، (أوجس): أضمر، امتلأ صدره بالخوف.
قيل أن الخوف مَرَدُّهُ أنه اعتقد أنهم يريدون به شَرَّاً، لأن من أكل طعامك فقد أَمِنْتَه وأَمِنَ على نفسه منك، أَكْلُ الطعام يُحَرِّم عليك وعلى الآكل أي أذى، فحين لم يأكلوا تَوَجَّسَ وتَوَقَّعَ الشَّر، لِمَ لَمْ يأكلوا؟ لِمَ لَمْ يتحرَّموا بأكل طعامه؟ ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي: أضمر في نفسه الخوف. ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ وهنا أحسُّوا بخوفه فأزالوا الخوف عنه، قيل بأنهم أخبروه بأنهم ملائكة، وقيل بل دعوا الله (تبارك وتعالى) فإذا بالعجل الحنيذ المشوي يحيا ويَدْرَج ويمشي ويلحق بأُمِّه. (جاء بعجل سمين) وفي موضع آخر يقول: (جاء بعجل حنيذ) والدليل على أن العجل السمين كان نضيجاً أنه قال ﴿فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ(٢٦)فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ(٢٧)﴾ إذا ً فقد كان نضيجاً حنيذا ً مشوياً. ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ ومسح جبريل بجناحه على العجل فقام، فاطمأن واستبشر وعَلِمَ أنهم ملائكة الرحمن. ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ بشروه بمولود يولَد له يَبْلُغُ ويُصبِحُ عليماً بالله وبدينه، فإذا بَلَغَ مَبْلَغَ الرجال تكامل عِلْمُه. ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ ليس معنى أقبلت أنها جاءت من مكان إلى مكان فقد كانت قائمة، لأنه في موضع آخر يقول: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ [سورة هود آية: ٧١] أي: كانت واقفة تخدم الأضياف بنفسها، وإنما أقبلت بمعنى أَخَذَت، كقولك: (أَقْبَلَ يكلمني) أي: أخذ في الكلام. (أقبلت في صرة) (الصّرة): الصوت الشديد والضَّجَّة، ومنه (الصرير) صرير الباب، صوت الباب إذا فُتِحَ أو أُغلِق، فالصرير: الصوت، والصَّرَّة: الضَّجَّة والصوت.
فأقبلت في صرة إذاً فقد غَمْغَمَت أو صَرَخَت أو أَخْرَجَت صوتاً يدل على التعجب الشديد حين سَمِعَت بشارة الملائكة لزوجها بغلام عليم، مِنْ أين وكيف؟ فأقبلت في صَرَّة. ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ (الصَّكّ): الضرب الشديد بشيء عريض، (صَكَّت وجهها): ضربت جبهتها بأطراف أصابعها علامة على التعجب كما تفعل النساء، تعجبت من الخبر والبشارة فقد كان عمرها تسعة وتسعين عاماً وكان إبراهيم قد تعدى المائة من السنين ويبشروه بغلام عليم؟! مِن هنا أقبلت في صَرَّة وصَكَّت وجهَها، خَبَطَت وضربت جبهتَها بأصابعها تَعَجُّباً، ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ سببان لمنع الحمل ولمنع الوَلَد؛ عجوزٌ وعقيمٌ، كل سَبَبٍ منهما كافٍ لمنع الوَلَد، (قالت عجوز عقيم) أي ءألد وأنا عجوز عقيم؟ ﴿قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (قَالُوا) الملائكة (كَذَلِكِ) أي الأمر كما أخبرناكِ، أي قالوا: كذلكِ الأمر كما أخبرناكِ وقلناه لكِ، قال ربُّكِ وما علينا إلا البلاغ، أبلغناكِ بما قاله الرب، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾: الحكيم في أفعاله العليم بمصالح عباده. انتهى العجب طالما كان الله تبارك وتعالى هو القائل وهو الآمر، انتهى العجب فقدرة الله (تبارك وتعالى) فوق كل القدرات وليست مَحِلَّا ً للشك.
الجزء السابع والعشرون
وهنا اطمأن إبراهيم وذهب عنه الرَّوع وجاءته البشرى لكنه تساءل:
﴿سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ قالها في نفسه ولم يواجههم بهذه المقالة، فليس ذلك من أدب المَضيف وليس من أدب الأنبياء والرسل، قالها في نفسه، أنكرهم لأنهم جاءوا على صورة البشر ولم يكن يعرفهم، غرباء. أو أنكرهم لأنهم دخلوا بغير استئذان. أو أنكرهم لمقالتهم (سلام) وأنّى للسلام أن يتواجد في هذه البلاد. أو أنكرهم بمعنى خافهم، (أنكر الشيء): خَافَه. ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ (رَاغَ): مَالَ وحَادَ في خِفية. رَاغ يروغ رَوْغا وروغاناً: مَالَ وعَدَلَ على سبيل الاحتيال أو في اختفاء. والتعبير هنا: (راغ إلى أهله) يدل على أن ذلك منتهى الأدب واللياقة من المضيف، لأنه أولاً أراد أن يُقَدِّمَ القِرى فَورَ مجيئهم فلا ينتظرون. وأراد أيضا أن يذهب لإعداد القِرى والطعام دون أن يشعروا، في خِفية، لأنه لو ذهب لإعداد الطعام عَلَناً أو أمامهم أو ظاهرا قد يستوقفوه، فأنت إذا سألت الضَّيف أتُريدَ طعاماً؟ قد يستحي ويقول لا وهو جائع، وقد يستوقفك وقد وقد. (فراغ إلى أهله) حتى لا يستوقفه الأضياف ويرفضوا طعامه، أو يمنعهم الحياء، أو ينتظروا الطعام والقِرى فبادر وذهب في خِفية. (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) انتقى أطيب ما عنده من طعام، وقدم لأضيافه أحسن ما يمكن، جاء بعجل سمين. ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ قرّبه إليهم حتى لا يُحَمِّلهم مَشَقَّةَ الانتقال إلى الطعام، بل وضع الطعام بين أيديهم سهلاً في متناولهم. ﴿قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ إن كان الكلام بمجرد وضع الطعام أمام الأضياف فالهمزة للطلب والحَثِّ والعَرْض، (ألا تأكلون) وكأنه يحثهم على الطعام. وإن كان الكلام بعد ما وُضِعَ الطعام وامتنعوا عن الأكل (ألا تأكلون) تصبح الهمزة للإنكار أي: لماذا لا تأكلون؟ ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ هنا دخل الخوف في نفسه، (أوجس): أضمر، امتلأ صدره بالخوف.
قيل أن الخوف مَرَدُّهُ أنه اعتقد أنهم يريدون به شَرَّاً، لأن من أكل طعامك فقد أَمِنْتَه وأَمِنَ على نفسه منك، أَكْلُ الطعام يُحَرِّم عليك وعلى الآكل أي أذى، فحين لم يأكلوا تَوَجَّسَ وتَوَقَّعَ الشَّر، لِمَ لَمْ يأكلوا؟ لِمَ لَمْ يتحرَّموا بأكل طعامه؟ ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي: أضمر في نفسه الخوف. ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ وهنا أحسُّوا بخوفه فأزالوا الخوف عنه، قيل بأنهم أخبروه بأنهم ملائكة، وقيل بل دعوا الله (تبارك وتعالى) فإذا بالعجل الحنيذ المشوي يحيا ويَدْرَج ويمشي ويلحق بأُمِّه. (جاء بعجل سمين) وفي موضع آخر يقول: (جاء بعجل حنيذ) والدليل على أن العجل السمين كان نضيجاً أنه قال ﴿فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ(٢٦)فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ(٢٧)﴾ إذا ً فقد كان نضيجاً حنيذا ً مشوياً. ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ ومسح جبريل بجناحه على العجل فقام، فاطمأن واستبشر وعَلِمَ أنهم ملائكة الرحمن. ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ بشروه بمولود يولَد له يَبْلُغُ ويُصبِحُ عليماً بالله وبدينه، فإذا بَلَغَ مَبْلَغَ الرجال تكامل عِلْمُه. ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ ليس معنى أقبلت أنها جاءت من مكان إلى مكان فقد كانت قائمة، لأنه في موضع آخر يقول: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ [سورة هود آية: ٧١] أي: كانت واقفة تخدم الأضياف بنفسها، وإنما أقبلت بمعنى أَخَذَت، كقولك: (أَقْبَلَ يكلمني) أي: أخذ في الكلام. (أقبلت في صرة) (الصّرة): الصوت الشديد والضَّجَّة، ومنه (الصرير) صرير الباب، صوت الباب إذا فُتِحَ أو أُغلِق، فالصرير: الصوت، والصَّرَّة: الضَّجَّة والصوت.
فأقبلت في صرة إذاً فقد غَمْغَمَت أو صَرَخَت أو أَخْرَجَت صوتاً يدل على التعجب الشديد حين سَمِعَت بشارة الملائكة لزوجها بغلام عليم، مِنْ أين وكيف؟ فأقبلت في صَرَّة. ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ (الصَّكّ): الضرب الشديد بشيء عريض، (صَكَّت وجهها): ضربت جبهتها بأطراف أصابعها علامة على التعجب كما تفعل النساء، تعجبت من الخبر والبشارة فقد كان عمرها تسعة وتسعين عاماً وكان إبراهيم قد تعدى المائة من السنين ويبشروه بغلام عليم؟! مِن هنا أقبلت في صَرَّة وصَكَّت وجهَها، خَبَطَت وضربت جبهتَها بأصابعها تَعَجُّباً، ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ سببان لمنع الحمل ولمنع الوَلَد؛ عجوزٌ وعقيمٌ، كل سَبَبٍ منهما كافٍ لمنع الوَلَد، (قالت عجوز عقيم) أي ءألد وأنا عجوز عقيم؟ ﴿قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (قَالُوا) الملائكة (كَذَلِكِ) أي الأمر كما أخبرناكِ، أي قالوا: كذلكِ الأمر كما أخبرناكِ وقلناه لكِ، قال ربُّكِ وما علينا إلا البلاغ، أبلغناكِ بما قاله الرب، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾: الحكيم في أفعاله العليم بمصالح عباده. انتهى العجب طالما كان الله تبارك وتعالى هو القائل وهو الآمر، انتهى العجب فقدرة الله (تبارك وتعالى) فوق كل القدرات وليست مَحِلَّا ً للشك.
الجزء السابع والعشرون
وهنا اطمأن إبراهيم وذهب عنه الرَّوع وجاءته البشرى لكنه تساءل:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ﴿31﴾
قَالُوٓا۟ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍۢ مُّجْرِمِينَ ﴿32﴾
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةًۭ مِّن طِينٍۢ ﴿33﴾
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴿34﴾
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿35﴾
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍۢ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴿36﴾
وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةًۭ لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ ﴿37﴾
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ ما شأنكم وما حالكم؟ (الخطْب): الشأن والحال لكن إذا كان الشأن عظيماً والأمر جَدُّ خطير حتى يُخطَب له ويقوم الناس فيَخْطُبُون، ويقوم الخُطَباءُ لأن الأمر جَدُّ خطير، هنا يسمى خَطْب وليس شأناً. من هنا يقول: (فما خطبكم) أي ما هو الخبر وما هو الخطر وما هو الشأن العظيم الذي استدعى نزولكم ومجيئكم؟ لأن الملائكة كانوا عدداً، قيل كانوا ثلاثاً: جبريل وميكائيل وروفائيل، وقيل كانوا ثمانية، إذا ً فنزول الملائكة مجتمعين يدل على أن هناك أمرا ً خطيراً، من هنا قال: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)؟ ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ والكلام كناية عن قوم لوط، والإجرام هنا هو الكفر، وكلمة (المجرمين) إذا جاءت في القرآن فإنما تعني الكفار على وجه الخصوص ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٧٤]. فالمجرم هو الكافر والمشرك الذي كُتِبَ عليه الخُلد في جهنم. ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ الحجارة من طين، أي ليست حجارة من بَرَد، لأن الحجارة إذا نزلت من السماء فالمعتاد أن تنزل حجارة من ماء الثلج والبَرَد، وهذه الحجارة نازلة من السماء فأزالوا التَوَهُّم أنها حجارة ماء بأنها من طين، والطين المتحجر الذي جاء ذكره في موضع آخر: ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [سورة هود آية: ٨٢]. ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ (مُسوَّمة): مُرسَلَة من أُسيمَت الماشية، أو (مُسوَّمة): مُعلَّمة، وذاك أرجح، من السُّوْمة وهي العلامة. قيل كان على كل حجر اسم صاحبه. وقيل بل خُتِمَت بخَاتَم.
هذه الأحجار ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ الذين تجاوزوا الحد في الطغيان والكفر والشرك وتكذيب الأنبياء، إذا ً فهي حجارة موجودة ولم تنتهي، أُرسِلَت على قُرى لوط، وأُرسِلَت على من أرادوا أن يغزوا الكعبة؛ أرسل طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، أصحاب الفيل، وهي حجارة موجودة مُعَدَّة لكل من استحقها. (مسوّمة عند ربك): إذاً فهي موجودة ولم تَفْرَغ ولم تنتهي. ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ المتجاوزين للحد. وهذه الحجارة نزلت على قُرى قوم لوط، كان الحَجَرُ منهم يتبع صاحبه أينما سار وأينما ذهب، فلم يترك منهم شاذَّة ولا نادَّة إلا ولَحِقَ به، أهلكهم جميعاً. ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي من القرية والكلام مفهوم من السياق. ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي غير أهل بيت من المسلمين. في الآية الأولى جاء بكلمة "مؤمنين" وفي الآية الثانية جاء بكلمة "مسلمين"، هل المؤمن هو المسلم؟ قالوا نعم. وقال أصحاب الرأي الأرجح: جاء بكلمة مؤمن ثم بكلمة مسلم والإيمان غير الإسلام، الإيمان تصديق القلب والإسلام الانقياد بالظاهر، فجاء بمؤمنين ثم بمسلمين لتجنيس اللفظ حتى لا يحدث تكرار، فَجَنَّس اللفظ وترك لك أن تعلم أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، وطالما ذَكَرَ الإيمان في الآية الأولى جاء بالإسلام في الآية الثانية وعُلِمَ أنهم مؤمنون مسلمون. ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لوط و ابنتاه فقط. ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ في القرية (آيَةً) دلالة وعلامة وعِظَة. (لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم المعتَبِرون بذلك. قيل تَرَكَ فيها الماء آسنا متعطنا نتناً، وقيل بل ترك القُرى مُهدَّمة مقلوبة مُؤتَفِكَة، وقيل بل ترك الحجارةَ نفسَها، ترك فيها آية دلالة وعلامة للذين يخافون العذاب الأليم.
هذه الأحجار ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ الذين تجاوزوا الحد في الطغيان والكفر والشرك وتكذيب الأنبياء، إذا ً فهي حجارة موجودة ولم تنتهي، أُرسِلَت على قُرى لوط، وأُرسِلَت على من أرادوا أن يغزوا الكعبة؛ أرسل طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، أصحاب الفيل، وهي حجارة موجودة مُعَدَّة لكل من استحقها. (مسوّمة عند ربك): إذاً فهي موجودة ولم تَفْرَغ ولم تنتهي. ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ المتجاوزين للحد. وهذه الحجارة نزلت على قُرى قوم لوط، كان الحَجَرُ منهم يتبع صاحبه أينما سار وأينما ذهب، فلم يترك منهم شاذَّة ولا نادَّة إلا ولَحِقَ به، أهلكهم جميعاً. ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي من القرية والكلام مفهوم من السياق. ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي غير أهل بيت من المسلمين. في الآية الأولى جاء بكلمة "مؤمنين" وفي الآية الثانية جاء بكلمة "مسلمين"، هل المؤمن هو المسلم؟ قالوا نعم. وقال أصحاب الرأي الأرجح: جاء بكلمة مؤمن ثم بكلمة مسلم والإيمان غير الإسلام، الإيمان تصديق القلب والإسلام الانقياد بالظاهر، فجاء بمؤمنين ثم بمسلمين لتجنيس اللفظ حتى لا يحدث تكرار، فَجَنَّس اللفظ وترك لك أن تعلم أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، وطالما ذَكَرَ الإيمان في الآية الأولى جاء بالإسلام في الآية الثانية وعُلِمَ أنهم مؤمنون مسلمون. ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لوط و ابنتاه فقط. ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ في القرية (آيَةً) دلالة وعلامة وعِظَة. (لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم المعتَبِرون بذلك. قيل تَرَكَ فيها الماء آسنا متعطنا نتناً، وقيل بل ترك القُرى مُهدَّمة مقلوبة مُؤتَفِكَة، وقيل بل ترك الحجارةَ نفسَها، ترك فيها آية دلالة وعلامة للذين يخافون العذاب الأليم.
وَفِى مُوسَىٰٓ إِذْ أَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿38﴾
فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِۦ وَقَالَ سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌۭ ﴿39﴾
فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌۭ ﴿40﴾
أي هناك آية أخرى في قصة موسى، تَرَكْنا في قصة موسى آية، فهي معطوفة على ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ أي: وفيه أيضاً، في موسى. أو هي معطوفة على قوله (تبارك وتعالى): ﴿وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ بعد ذلك عَطَفَ عليها ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾. (السلطان المبين): العصا واليد والمعجزات المختلفة. ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ تولّى فرعون بركنه كناية عن شدة الإعراض، (الرُّكن): الجانب من الإنسان، تولّى بركنه: أعرض إعراضا شديدا، كقولك (نأى بجانبه): ابتعد بجانبه، وكقولك ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾، فالعِطْف والجانب والرُّكن: جانب الإنسان من الجسم. وقيل بل (الرُّكن): الجنود الذين يتقوّى بهم فرعون، يُسمَّى الجُندُ رُكناً لأنه يتقوى ويحتمي بهم، (فتولّى بركنه): بجنوده الذين أُغرِقوا معه لأنهم أطاعوه. وقيل (الرُّكن): العِزَّة والمَنَعة. (فتولّى بركنه): بجبروته وسلطانه وقوته وعزته المزعومة ومَنَعَته المزعومة. وهناك في موضع آخر يتبين لك أنَّ معنى الركن العشيرة أو العزة أو المنعة، حيث يقول: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [سورة هود آية: ٨٠] من قَولِ لوط، فالرُّكن الشديد: العزة والمنعة.
فرعون حين جاءه موسى بسلطان مبين (تولّى بركنه): أعرض إعراضا شديدا ﴿وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ هل قال ساحر أو مجنون؟ فرعون قال عن موسى مرة ساحر، ومرة قال: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [سورة الشعراء آية: ٢٧] إذا ًفقد قيل الأمران؛ ساحر ومجنون. وكلمة (أو) هنا تعني (و)، (أو) جاءت محل واو العطف، أي: وقال ساحر ومجنون. وتأتي (أو) في القرآن بمعنى الواو كقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [سورة الإنسان آية: ٢٤] أي: (و كَفوراً). وقد تأتي الواو بمعنى (أو)، تأتي هذا محل ذاك وتأتي تلك محل هذا فقال الله (تبارك وتعالى): ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [سورة النساء آية: ٣] أي: مثنى أو ثلاث أو رُباع. (أو) تأتي محلا ً للواو وتأتي الواو أيضا محل (أو). تولى فرعون وأعرض، وتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، أي قيل في شأن موسى الأمران معا. ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أخذ الله فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر، وهذا يؤكد معنى (فتولّى بركنه) أي تولّى بجنوده، (فنبذناهم): طرحناهم، (النَّبْذ): الطرح والإلقاء، طرحناهم. (في اليَمِّ): البحر. (وهو مُليم): أتى ما يُلام عليه. أما الملوم فهو الذي يلومه الناس بحق أو بغير حق. أما (المليم) فهو المستحق لِلَّوم فعلاً، فقد أتى ما يُلام عليه. هاهو فرعون نُبِذَ وطُرِحَ هو وجنوده في اليَمِّ وهو آثم، لأنه كفر وطغى وتجبّر وقال أنا ربكم الأعلى.
فرعون حين جاءه موسى بسلطان مبين (تولّى بركنه): أعرض إعراضا شديدا ﴿وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ هل قال ساحر أو مجنون؟ فرعون قال عن موسى مرة ساحر، ومرة قال: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [سورة الشعراء آية: ٢٧] إذا ًفقد قيل الأمران؛ ساحر ومجنون. وكلمة (أو) هنا تعني (و)، (أو) جاءت محل واو العطف، أي: وقال ساحر ومجنون. وتأتي (أو) في القرآن بمعنى الواو كقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [سورة الإنسان آية: ٢٤] أي: (و كَفوراً). وقد تأتي الواو بمعنى (أو)، تأتي هذا محل ذاك وتأتي تلك محل هذا فقال الله (تبارك وتعالى): ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [سورة النساء آية: ٣] أي: مثنى أو ثلاث أو رُباع. (أو) تأتي محلا ً للواو وتأتي الواو أيضا محل (أو). تولى فرعون وأعرض، وتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، أي قيل في شأن موسى الأمران معا. ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أخذ الله فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر، وهذا يؤكد معنى (فتولّى بركنه) أي تولّى بجنوده، (فنبذناهم): طرحناهم، (النَّبْذ): الطرح والإلقاء، طرحناهم. (في اليَمِّ): البحر. (وهو مُليم): أتى ما يُلام عليه. أما الملوم فهو الذي يلومه الناس بحق أو بغير حق. أما (المليم) فهو المستحق لِلَّوم فعلاً، فقد أتى ما يُلام عليه. هاهو فرعون نُبِذَ وطُرِحَ هو وجنوده في اليَمِّ وهو آثم، لأنه كفر وطغى وتجبّر وقال أنا ربكم الأعلى.
وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ ﴿41﴾
مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ ﴿42﴾
﴿وَفِي عَادٍ﴾ (عاد) معطوفة أيضا، أي: آية أخرى تركناها في عاد. ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ (العقيم): إمرأة عقيم لا تَلِد وسُمِّيَت الريحُ عقيماً لأنها قطعت دابرهم وقطعت نسلهم فكانت كالمرأة العقيم التي لا نسل لها. أو سُمِّيَت الريحُ عقيماً لأنها ليس فيها بركة أو نفع، لا تُلقِحُ شجرا ًولا تُنْبِتُ ثمرا ً ولا تُسقِطُ مطراً، ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ وهي الدَّبور كما جاء في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ ما تترك شيئاً مَرَّت عليه هذه الريح إلا تركته مُتَفَتِّتَاً مُتَهَشِّما ً رَمِيماً، ما تذر من شيء، أي شيء، بيت أو إنسان أو دابة أو حيوان أو طير أو نبات أو شجر أو حجر، ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ﴾ حتى الأحجار ﴿أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ متفتت يابس. (رَمَّ) الشيء يرِمُّ رِمَّةً فهو رميم، والجمع رِمَام ورِمَّة: تفتت وتكسّر، و (رمّ العظمُ): بَليَ وتَفَتَّت.
وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا۟ حَتَّىٰ حِينٍۢ ﴿43﴾
فَعَتَوْا۟ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿44﴾
فَمَا ٱسْتَطَـٰعُوا۟ مِن قِيَامٍۢ وَمَا كَانُوا۟ مُنتَصِرِينَ ﴿45﴾
تذكرون أن صالحاً حين أتاهم بالناقة التي طلبوها قالوا إن كنت رسولا ونبيا حقا فأَخرِجْ لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عاشوراء، حامل، فدعا ربه فانفلقت الصخرة وخرجت ناقة عاشوراء وحَذَّرهم: (لا تمسوها بسوء) فعقروها، فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. من هنا يقول الله: ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ آية أخرى، ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ الأجل والوعد المضروب ثلاثة أيام. أو (تمتعوا حتى حين) أي: أسلِموا يمَتِّعكم ربكم مَتَاعا ً حَسَنا ًويُؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضله، ويرسل عليكم السماء مدراراً. ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ حتى نهاية الأجل، إن أسلم العبد تمتع بحياته إلى نهاية عمره، أسلِموا تَتَمَتَّعُوا بفضل الله وببركاته حتى يأتي الأجل. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) استكبروا وعتَوْا، و (عتَى يعتُو): تجاوز الحد في الطغيان. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ من أشنع العقوبات أن يرى الإنسان العقوبة نازلة به، يراها ولا يستطيع لها دفْعاً. هؤلاء قوم ثمود، قوم صالح، كما فعل بعاد فأخذتهم الصاعقة، قُرِئت: ﴿الصَّاعِقَةُ﴾، وقُرِئت: ﴿الصَّعقة﴾ وهي مرة الصَّعْق. وكلمة (صاعقة) إذا جاءت في القرآن تعني العذاب الشديد النازل من السماء. (قيل لهم تمتعوا حتى حين) ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾، قوم ثمود، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾: جاءتهم نهاراً جهاراً وهم يترقبونها وينظرون إليها. ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ (من قيام): من نهوض، أي تركتهم جاثمين فأصبحوا في ديارهم جاثمين باركين على الرُّكَب لا يستطيعون النهوض. أو (فما استطاعوا من قيام) أي ما استطاعوا من احتمال أو مقاومة، من قولك (لا أقوم بهذا الأمر) أي لا أطيقه، (فلان يقوم بالأمر) أي يقوى عليه، و (فلان لا يقوم بالأمر) أي لا يقوى عليه. (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ) فما استطاعوا من مواجهة أو احتمال.
﴿وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ ما وجدوا ناصرا ينصرهم، مَنْ ينصرهم مِنَ الله؟ لا أحد!
﴿وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ ما وجدوا ناصرا ينصرهم، مَنْ ينصرهم مِنَ الله؟ لا أحد!
وَقَوْمَ نُوحٍۢ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًۭا فَـٰسِقِينَ ﴿46﴾
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ﴾ أي وأهلكنا قوم نوح وقرئت (وقومِ نوحٍ) معطوفة وفي عاد وفي ثمود وفي قومِ نوحٍ وقُرِأَت (وقومَ نوحٍ) على تقدير (وأهلكنا قَومَ نوحٍ) من قبل أي من قبل هؤلاء الذين قصصنا عليك قصصهم ثمود وعاد وفرعون من قبل هؤلاء كان هناك قوم نوح أهلكناهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾. أيها الأخ المسلم تلك قصص فيها عبرة ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [سورة يوسف آية: ١١١] أناس وأقوام كانوا يَعمُرُون الديار نَقَّبوا في الأرض ونَقِبُوا فيها وبنوا الديار والدور وفعلوا وفعلوا إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد فرعون هاهو قبره ذلك الهرم الأكبر قبره ترى كيف كان قصره؟ أين هم؟ من يشترى مني تركة عاد بدرهمين مَنْ؟ لا أحد هل تركوا من شيء؟ أين الديار وأين الأموال وأين وأين وأين؟!! بعد أن ذُكِرَت أحداثُ هذه الأمم ووقائعهم وما أوقعه الله بهم يقول الله (تبارك وتعالى):
وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَـٰهَا بِأَيْي۟دٍۢ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾
وَٱلْأَرْضَ فَرَشْنَـٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـٰهِدُونَ ﴿48﴾
وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾
﴿وَالسَّمَاءَ﴾ أي وفي السماء أيضاً كما قُرِأَت هذه الآيات في هذه الأقوام، كذلك السماء فيها الآيات التي لا عَدَّ لها ولا حَصر. ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ بقوة. (آدَ يَئيِدُ أَيْداً): صار ذا قوة و شِدَّة، (آدَ الرجل): قَوِيَ. ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾: بقوة. ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (أَوسَعَ الرجل): صار ذا وِسع، ذا سِعة، ذا غِنى. ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾: وإنا لقادرون، وإنا لأصحاب الغِنى والسِّعة والقدرة. (وإنا لموسعون): في الخَلْق، فَحَجْمُ السماء لا يخطر على بال، (لموسعون) المسافة بين السماوات وبين الأرض، (لموسعون): في الأرزاق، (لموسعون): لمطيقون ومقتدرون؛ ﴿لِيُنفِقْ ذو سَعَةِ من سَعَتِه﴾، فالموسع صاحب السِّعة صاحب الغِنى صاحب الطَّوْل. ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾: بقوة، (وإنا لموسعون): في خَلْقِها، متوسعون في هذا الخلْق فهو فوق كل خيال من حيث الحجم. أو لموسعون المسافات بينها وبين غيرها كالأرض. أو لموسعون في الأرزاق. أو (لموسعون): أصحاب القدرة والسلطان والقوة. ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا﴾ مَهَّدناها وجعلناها كالفِراش لتستقروا عليها، وانظر لنفسك إذا مشيت في هذه الأرض التي خلقها الله أتجد صعوبة؟ مَهَّدها وسلك فيها سُبُلاً، جعل فيها السهل والجبل، جعل فيها الطُّرُق، جعل فيها العلامات. (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) أي نِعْمَ الماهدون نحنُ، والجمع هنا للتعظيم، فالله (تبارك وتعالى) هو العظيم. ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (من كل شيء خلقنا زوجين) الذكر والأنثى، الأرض والسماء، الشمس والقمر، الليل والنهار، الضياء والظلام، القعود والقيام، الصحة والمرض، الكبير والصغير، الحلو والمر، الطويل والقصير، الكبير والصغير، من كل شيء خلقنا زوجين، نوعين، صنفين.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ماذا نتذكرٍ؟ إذا نظرتَ ووجدتَ كل شيء في هذه الدنيا صنفان؛ ذكر وأنثى، في الحيوان، في الفَرَاش، في الطيور، في النبات، في كل شيء أصناف وألوان تتزواج، حتى في الجمادات حجر ومدر، وصخر وجوهر، ومائع وجامد، حتى في الروائح كريه وجميل، حتى في الطُّعوم حلو ومُرّ، نافع وضار، في الحركة نوم ويقظة، موت وحياة، كل شيء يدل على أن الخالق واحد ليس كمثله شيء هو الوِترُ الوحيد وكل ما عداه صنفين صنفين، زوجين زوجين، هو الوتر هو الواحد هو الخالق، لا يَصِحُّ في وصفه قعود أو قيام، حركة أو سكون، ضياء أو ظلام، نوم أو يقظة، موت أو حياة، هو الوِترُ وليس كمثله شيء، هو الله! ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾! يا رب لا ملجأ منك إلا إليك. ربنا (تبارك وتعالى) يأمر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن يحذر الناس وينذرهم ويأمرهم بالفرار إلى الله:
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ماذا نتذكرٍ؟ إذا نظرتَ ووجدتَ كل شيء في هذه الدنيا صنفان؛ ذكر وأنثى، في الحيوان، في الفَرَاش، في الطيور، في النبات، في كل شيء أصناف وألوان تتزواج، حتى في الجمادات حجر ومدر، وصخر وجوهر، ومائع وجامد، حتى في الروائح كريه وجميل، حتى في الطُّعوم حلو ومُرّ، نافع وضار، في الحركة نوم ويقظة، موت وحياة، كل شيء يدل على أن الخالق واحد ليس كمثله شيء هو الوِترُ الوحيد وكل ما عداه صنفين صنفين، زوجين زوجين، هو الوتر هو الواحد هو الخالق، لا يَصِحُّ في وصفه قعود أو قيام، حركة أو سكون، ضياء أو ظلام، نوم أو يقظة، موت أو حياة، هو الوِترُ وليس كمثله شيء، هو الله! ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾! يا رب لا ملجأ منك إلا إليك. ربنا (تبارك وتعالى) يأمر حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن يحذر الناس وينذرهم ويأمرهم بالفرار إلى الله:
فَفِرُّوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿50﴾
وَلَا تَجْعَلُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿51﴾
قَصَّت علينا سورة الذاريات قصص الأمم التي كذبت رسلها فأهلكهم الله وترك في كل قريةٍ آية لعلهم يتذكرون، وبيّن (سبحانه وتعالى) أنه خلق السموات والأرض وأنه هو المنشئ والمبدئ والمعيد، وأن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء. وبيّن أن الرزق في السماء (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، وبيّن (سبحانه وتعالى) أنه خلق من كل شيء زوجين وصنفين لعل الناس يتذكرون ويعلمون أن الفرد المطلق هو الله. يقول: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ الفرار إلى الله، الفرار من أي شيء؟ الفرار من المعصية إلى الطاعة، الفرار من الذنوب بالتوبة، الفرار من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، الفرار من التدبير والحيلة والحَول والقوة إلى حَول الله وقوته، ففي السماء رزقكم وما توعدون فمهما دبر الإنسان ومهما احتال للحصول على الرزق لا يصيبه إلا ما كُتِبَ له. الفرار من كل ما سوى الله إلى الله، الفرار من نفسك إلى الله، الفرار من الله إلى الله، الفرار من عقوبته إلى معافاته، الفرار من سخطه إلى رضاه، الفرار منه إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله. ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (نذير): مُنذِر. (مبين): واضح بالمعجزات مؤيد بالدلالات والآيات، مبيِّن لما يُخشى ويُخاف، موضّح للطريق؛ طريق الفرار، فقد أوضح النبي (صلى الله عليه وسلم) لنا الطريق إلى الله. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ إفراد لأخطر ما يجب أن يفر منه المرء ألا وهو الشِّرك، الفرار من الشرك إلى التوحيد، الفرار من الكفر إلى الإيمان، إفراد لبيان أخطر ما يجب أن يحذره المرء ألا وهو الشَّرك. ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ تكرير للتأكيد.
أو الآية الأولى موجهة للعصاة من الموحدين (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فِرُّوا من المعاصي إلى الطاعة، من الفسوق والعصيان إلى الطاعة والعبادة، فالآية تحذير للعصاة من الموحدين، والآية الثانية إنذار وتحذير للمشركين والملحدين.
أو الآية الأولى موجهة للعصاة من الموحدين (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فِرُّوا من المعاصي إلى الطاعة، من الفسوق والعصيان إلى الطاعة والعبادة، فالآية تحذير للعصاة من الموحدين، والآية الثانية إنذار وتحذير للمشركين والملحدين.
كَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا۟ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿52﴾
أَتَوَاصَوْا۟ بِهِۦ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌۭ طَاغُونَ ﴿53﴾
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍۢ ﴿54﴾
وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾
تسلية للنبي (صلى الله عليه وسلم). ﴿كَذَلِكَ﴾: أي الأمر كذلك، الأمر مثل ذلك، فإن كَذَّبَك أهل مكة فقد كذبت أمم من قبلهم وقصصنا عليك قصصهم: ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الذاريات آية: ٣٨]، ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤١] ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [سورة الذاريات آية: ٤٣]. فإن كذّبك هؤلاء فقد كَذَّب أولئك وأهلكناهم، كذلك الأمر مثل ذلك. ﴿مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾. "أو" تأتي بمعنى الواو كما قلنا لأنهم قالوا ساحر وقالوا مجنون، وكذلك الواو تأتي بمعنى (أو) أيضاً كقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بمعنى مثنى أو ثلاث أو رباع. ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(٥٢)﴾ فكما قال كفار مكة عن النبي ساحر ومجنون كذلك قال الذين من قبلهم، فالأمر ليس جديد. (أَتَوَاصَوْا بِهِ) الألف والهمزة سؤال توبيخ وسؤال تعجب.
﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ هل حدث أن أوصى الأولون الآخرين بهذا؟ إذا جاءكم رسول فقولوا ساحر أو مجنون؟ الكلمة واحدة في كل عصر، في كل زمان، كل الكفار قالوا عن رسلهم ساحر وقالوا مجنون، قالوا عن نوح، قالوا عن هود، قالوا عن صالح، قالوا عن لوط، قالوا عن موسى، قالوا عن كل الرسل، هل تواصوْا؟ هل أوصى بعضهم بعضا بذلك؟ كيف وقد أُهلك قومُ نوح وأُغرِقوا؟ فكيف أوصى قومُ نوح قومَ هود؟ وهل أوصى قومُ هود قومَ صالح وقد أُهلك قومُ هود؟ هل أوصى قومُ صالح قومَ فرعون وقد أُهلك قومُ صالح من قبل أن يأتي فرعون؟ تباعد الزمان وتباعدت الأيام حتى المكان! هل تواصوْا؟ كيف؟ أتوصوْا به؟ أبداً! وإنما الأمر جَمَعَهم الطغيانُ، لذا جاء بكلمة (بل) للإعراض ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أي ليس الأمر وصية أوصى بها الكفار الأوائل كفار الأواخر، وإنما الأمر الطغيان، تجاوُزُ الحد في الكفر والفجور والعصيان، إذاً فلم يكن الأمر تواصي وإنما الأمر أن الطغيان قد جمعهم فكفروا وكذبوا رسلهم. ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ (فتولَّ عنهم): أمر من الله للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالإعراض عن هؤلاء الكفار والمشركين، والإعراض عن جهالاتهم وسفاهاتهم وما ادَّعُوه، تَوَلَّ عنهم وأعرِض. (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي: لن يلومك الله على تقصير، فما قصّرت وأديت الذي عليك ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [سورة الشورى آية: ٤٨] وقد أبلغت، إن عليك إلا الإنذار وقد أنذرت فلا لوم عليك ولا تثريب ولا عتاب، لا تُسأل عن إعراضهم ولا تُسأل عن كفرهم ولا تُسأل عن تقصير تَمَّ منك فقد أديت ما عليك. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذكِّر بالموعظة، ذكِّر بالقرآن، ذكِّر بالعقوبات وما حدث اللأمم السابقة، ذكِّر بأيام الله.
﴿فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقد خَصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالتذكير، فأنت إن ذَكَّرت الكافر لا يذكُر، وإن تكلمت معه صَمَّ أُذُنَه كما فعلوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوْا فيه لعلكم تَغلِبون، وكما فعل أسلافهم مع نوح؛ وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المؤمن فقط هو الذي ينتفع بالتذكير. أو من قضى الله إيمانه من الأزل فإن ذُكِّر بالقرآن انشرح صدره للإسلام وآمن، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ هل حدث أن أوصى الأولون الآخرين بهذا؟ إذا جاءكم رسول فقولوا ساحر أو مجنون؟ الكلمة واحدة في كل عصر، في كل زمان، كل الكفار قالوا عن رسلهم ساحر وقالوا مجنون، قالوا عن نوح، قالوا عن هود، قالوا عن صالح، قالوا عن لوط، قالوا عن موسى، قالوا عن كل الرسل، هل تواصوْا؟ هل أوصى بعضهم بعضا بذلك؟ كيف وقد أُهلك قومُ نوح وأُغرِقوا؟ فكيف أوصى قومُ نوح قومَ هود؟ وهل أوصى قومُ هود قومَ صالح وقد أُهلك قومُ هود؟ هل أوصى قومُ صالح قومَ فرعون وقد أُهلك قومُ صالح من قبل أن يأتي فرعون؟ تباعد الزمان وتباعدت الأيام حتى المكان! هل تواصوْا؟ كيف؟ أتوصوْا به؟ أبداً! وإنما الأمر جَمَعَهم الطغيانُ، لذا جاء بكلمة (بل) للإعراض ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أي ليس الأمر وصية أوصى بها الكفار الأوائل كفار الأواخر، وإنما الأمر الطغيان، تجاوُزُ الحد في الكفر والفجور والعصيان، إذاً فلم يكن الأمر تواصي وإنما الأمر أن الطغيان قد جمعهم فكفروا وكذبوا رسلهم. ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ (فتولَّ عنهم): أمر من الله للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالإعراض عن هؤلاء الكفار والمشركين، والإعراض عن جهالاتهم وسفاهاتهم وما ادَّعُوه، تَوَلَّ عنهم وأعرِض. (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي: لن يلومك الله على تقصير، فما قصّرت وأديت الذي عليك ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [سورة الشورى آية: ٤٨] وقد أبلغت، إن عليك إلا الإنذار وقد أنذرت فلا لوم عليك ولا تثريب ولا عتاب، لا تُسأل عن إعراضهم ولا تُسأل عن كفرهم ولا تُسأل عن تقصير تَمَّ منك فقد أديت ما عليك. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذكِّر بالموعظة، ذكِّر بالقرآن، ذكِّر بالعقوبات وما حدث اللأمم السابقة، ذكِّر بأيام الله.
﴿فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقد خَصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالتذكير، فأنت إن ذَكَّرت الكافر لا يذكُر، وإن تكلمت معه صَمَّ أُذُنَه كما فعلوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوْا فيه لعلكم تَغلِبون، وكما فعل أسلافهم مع نوح؛ وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المؤمن فقط هو الذي ينتفع بالتذكير. أو من قضى الله إيمانه من الأزل فإن ذُكِّر بالقرآن انشرح صدره للإسلام وآمن، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍۢ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ ﴿58﴾
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هذه الآية أُشكِلَت على الكثير من الناس! إذا أُخِذَت الآية على ظاهرها كيف كفر الناس وربنا يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾؟ وطالما خلقهم ليعبدوه ما كان لأحد أن يكفر أبدا فكيف كفروا؟ ثم إن الله (تبارك وتعالى) يقول في موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٧٩]، إذا ً فهناك خَلْقٌ خُلِقُوا لجهنم. من هنا قال العلماء في هذه الآية أقوال؛ قالوا: الآية واللفظ فيها على العموم والمراد الخصوص (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: وما خَلَقْتُ أهل السعادة من الإنس والجن إلا ليعبدون، وهناك من خُلِقَ للشقاوة: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾، فالآية ظاهرها يفيد العموم لكن المراد بها الخصوص.
وكثير من الآيات في القرآن مُشابِه لهذا كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [سورة الحجرات آية: ١٤] هل قال الأعراب جميعاً هذا الكلام؟ بعض الأعراب قال هذا الكلام، فَمِنَ الأعراب من يُنفِق ومن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُرُباتٍ عند الله وصلوات الرسول، ومنهم من يتخذ ما يُنفِقُ مَغْرَمَاً ويتربص بكم الدوائر، فبعض الأعراب قالوا، والقصة في بعض الأعراب الذين جاءوا وقالوا آمَنَّا، وربنا يقول: (قالت الأعراب) اللفظ عام والمراد الخاص أن بعض الأعراب قالوا، كذلك هنا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هذا العموم مخصص على القطع، لأن الله (تبارك وتعالى) خلق أناساً لجهنم، ولو كان الله قد خلق الكل للعبادة إرادة الله نافذة ولا يقع في ملكه إلا مايريد، فإن كان قد خلق الكل للعبادة فكيف عصوا وكيف كفروا وكيف طغوا؟ إذا ً فالآية مخصوصة: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليعبدون. وقول آخر يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلا ليعرفوني، فلولا الخَلْق ما عُرِفَ الله (تبارك وتعالى) ولا عُرِفَ توحيده ولا عُرِفَت عبادتُه، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى ليعرفون. وقال بعضهم (ليعبدون) بمعنى الخضوع والتذلل، فالتعبيد: التذليل، طريق (مُعبَّد): مُذَلَّل للسائرين، و (استعبده): جعله عَبْداً، خَضَّعَه وأَخْضَعَه، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي ليخضعوا لي ويذلُّوا لي، فخضعوا وذلوا طوعاً وكرهاً. وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلا لآمرهم بالعبادة، فمن أطاع نجا ومن عصى أُهلِك.
وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى أنه خَلَقَ الخَلْقَ مهيئين للعبادة بالفطرة، فكل مولود يُولَد على الفطرة، أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، لكن الخَلْقَ خُلق على الفطرة، والفطرة عبادة الله ومعرفة الله، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي مستعدين للمعرفة مهيئين للتعلم في أعضائهم وحركاتهم ومفاصلهم وأعصابهم وعقولهم وتفكيرهم، في فطرتهم، رُكِّبَت في هذه الفطرة معرفةُ الله، فمن أطاع الله (تبارك وتعالى) وسار على فطرته آمن وعَبَدَ ونجا، ومن استكبر وعصى فِطرَتَه وخرج عن استعداده الذي خُلق له هَلَك. وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى العبادة طوعا ً أو كرهاً والخضوع بإرادتهم أو بغير إرادتهم، والدليل على ذلك أن من الناس من سجد لله طوعا ًومن الناس من سجد ظِلُّهُ لله كرهاً. آثار صنعة الله في الكفار، فالكافر يمشي ولكنه خاضع لله، إذ تجري دماؤه بأمر الله، وتهضم معدته الطعام بأمر الله، وتعمل أمعاؤه وتتحرك أعضاؤه، وظِلًّه يسجد (وظلالهم بالغدو والآصال) فمن سجد طوعا ً نجا، ومن سجد كرها ً هَلَك. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ لآمرهم بالعبادة مصداقا لقوله في سورة التوبة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١]، ومصداقا لقوله في سورة البينة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة البينة آية: ٥]. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ للأمر بالعبادة، (لِيَعْبُدُونِ) ليعرفون، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ليخضعوا ويتذللوا، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ليطيعون.
﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ الآية تُشعِر بأمور، الأمر الأول أن الله (تبارك وتعالى) غير محتاج للرزق، (ما أريد أن يطعمون) إذا ً فربنا (تبارك وتعالى) لا يكلفهم بشيء كما اعتادوا في الأسياد، لأن الأسياد يتخذون العبيد بهدف إعانتهم على التكسب والرزق، فالسيد يُسخِّر عبده في تحصيل الرزق؛ في الزراعة، في الحرفة، في الصناعة، يُسَخِّر العبيد كي يعينوه على تحصيل الرزق، لكن الله (تبارك وتعالى) لا يُذَلُّ له عبادُه لِنَفْعٍ يَحْصُلُ لديه. أيضا الآية تُشعِر أن العبد ليس مُكَلَّفاً بأن يرزق نفسه ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾ أي: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم، لأن في السماء رزقكم وما توعدون والرزق على الله، إذا ً فأنت غير مكلف بالسعي على رزقك أو تحصيل الرزق، أنت مكلّف بالأخذ بالأسباب فقط أما الرازق الحقيقي فهو الله. (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي ما أريد من العبيد أن يرزقوا غيرهم. إذاً فربنا (تبارك وتعالى) لايريد من الناس أن يرزقوه فهو غير محتاج للرزق، أو يطعموه وهو غير محتاج لِعَون العبيد، فقد كان الله ولم يكن شيء، أيضاً العبد غير مُكَلَّف بأن يرزق غيره. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وقُرِأَت ﴿إن الله هو الرازق﴾.
وما من شيء يحتاج إلى رزق إلا وربنا (تبارك وتعالى) هو الرازق، ولا تعتقد أن الإنسان فقط هو المحتاج إلى الرزق، بل الجن يُرزَق، بل الجماد يُرزَق، فما من شيء خُلِق إلا ومحتاج في بقائه للإمداد، فالنبات يُرزَق، والأرض تُرزَق، والشمس بضيائها لابد من مَدَد يُمِدُّها حتى تستمر في الشروق والغروب، والقمر كذلك، ما من شيء في هذا الكون إلا وهو محتاج في بقائه لمدَد، والمدد من الله هو الرزاق! وإلا لانطفأ ضوء الشمس، ولَكَفَّت النجوم عن الحركة، ولامتنعت الأرض عن الإنبات، ولامتنعت الأنهار عن الجريان، ولَجَفَّت البحار، ولماتت الأسماك، فما من شيء إلا ويُرزَق. والرزق ليس الطعام والشراب فقط، بل أنت تُرزَق الظِّل، فالظِّل رزق، والعقل رزق وعقل المرء محسوب من رزقه، والكساء رزق، والدِّين رزق، والعبادة رزق، والسَّتر رزق، والسكينة رزق، والزوجة رزق، والأولاد رزق، ما من شيء إلا وهو رزق، وما من رزق إلا وهو من الله. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ ﴿المتينُ﴾: نعت للرزاق. وقُرِأَت ﴿المتينِ﴾: نعت للقوة، وذُكِّر والقوة مؤنثة لإرادة الإتقان والإحكام، كقول الله (تبارك وتعالى): (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [سورة البقرة آية: ٢٧٥] أي: جاءه وعظ، وفي موضع آخر: ﴿جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ ﴿يونس: ٥٧﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الشديد القوي، شديد المحال، الغالب القاهر، لا يعجزه شيء هو الفعال لمايريد، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد.
وتُختَم سورة الذاريات بتهديد ووعيد لهؤلاء المستعجلين بالعذاب، لم يكتفِ كفار مكة بالاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكتفوا بالتكذيب وبالكفر وإنما استهزأوا بالوعيد، واستهزأوا بالعذاب واستعجلوه، وقالوا أقوالاً تدل على السفاهة والجهالة كقولهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٢] تحدي، جهل، سفاهة، وإسفاف. بَدَلاً من أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، بل طلبوا العذاب، ولولا وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) لأخذهم العذاب، وربنا يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] ولولا استغفار المستغفرين وعبادة الطائعين لأخذهم العذاب والله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] أي: وفريق منهم يستغفر. استعجلوا وقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة الأحقاف آية: ٢٢] كما قال أسلافهم، وقالوا: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة النمل آية: ٧١] فيقول الله (تبارك وتعالى):
وكثير من الآيات في القرآن مُشابِه لهذا كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [سورة الحجرات آية: ١٤] هل قال الأعراب جميعاً هذا الكلام؟ بعض الأعراب قال هذا الكلام، فَمِنَ الأعراب من يُنفِق ومن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُرُباتٍ عند الله وصلوات الرسول، ومنهم من يتخذ ما يُنفِقُ مَغْرَمَاً ويتربص بكم الدوائر، فبعض الأعراب قالوا، والقصة في بعض الأعراب الذين جاءوا وقالوا آمَنَّا، وربنا يقول: (قالت الأعراب) اللفظ عام والمراد الخاص أن بعض الأعراب قالوا، كذلك هنا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هذا العموم مخصص على القطع، لأن الله (تبارك وتعالى) خلق أناساً لجهنم، ولو كان الله قد خلق الكل للعبادة إرادة الله نافذة ولا يقع في ملكه إلا مايريد، فإن كان قد خلق الكل للعبادة فكيف عصوا وكيف كفروا وكيف طغوا؟ إذا ً فالآية مخصوصة: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليعبدون. وقول آخر يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلا ليعرفوني، فلولا الخَلْق ما عُرِفَ الله (تبارك وتعالى) ولا عُرِفَ توحيده ولا عُرِفَت عبادتُه، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى ليعرفون. وقال بعضهم (ليعبدون) بمعنى الخضوع والتذلل، فالتعبيد: التذليل، طريق (مُعبَّد): مُذَلَّل للسائرين، و (استعبده): جعله عَبْداً، خَضَّعَه وأَخْضَعَه، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي ليخضعوا لي ويذلُّوا لي، فخضعوا وذلوا طوعاً وكرهاً. وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلا لآمرهم بالعبادة، فمن أطاع نجا ومن عصى أُهلِك.
وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى أنه خَلَقَ الخَلْقَ مهيئين للعبادة بالفطرة، فكل مولود يُولَد على الفطرة، أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، لكن الخَلْقَ خُلق على الفطرة، والفطرة عبادة الله ومعرفة الله، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي مستعدين للمعرفة مهيئين للتعلم في أعضائهم وحركاتهم ومفاصلهم وأعصابهم وعقولهم وتفكيرهم، في فطرتهم، رُكِّبَت في هذه الفطرة معرفةُ الله، فمن أطاع الله (تبارك وتعالى) وسار على فطرته آمن وعَبَدَ ونجا، ومن استكبر وعصى فِطرَتَه وخرج عن استعداده الذي خُلق له هَلَك. وقال بعضهم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ بمعنى العبادة طوعا ً أو كرهاً والخضوع بإرادتهم أو بغير إرادتهم، والدليل على ذلك أن من الناس من سجد لله طوعا ًومن الناس من سجد ظِلُّهُ لله كرهاً. آثار صنعة الله في الكفار، فالكافر يمشي ولكنه خاضع لله، إذ تجري دماؤه بأمر الله، وتهضم معدته الطعام بأمر الله، وتعمل أمعاؤه وتتحرك أعضاؤه، وظِلًّه يسجد (وظلالهم بالغدو والآصال) فمن سجد طوعا ً نجا، ومن سجد كرها ً هَلَك. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ لآمرهم بالعبادة مصداقا لقوله في سورة التوبة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١]، ومصداقا لقوله في سورة البينة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة البينة آية: ٥]. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ للأمر بالعبادة، (لِيَعْبُدُونِ) ليعرفون، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ليخضعوا ويتذللوا، ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ليطيعون.
﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ الآية تُشعِر بأمور، الأمر الأول أن الله (تبارك وتعالى) غير محتاج للرزق، (ما أريد أن يطعمون) إذا ً فربنا (تبارك وتعالى) لا يكلفهم بشيء كما اعتادوا في الأسياد، لأن الأسياد يتخذون العبيد بهدف إعانتهم على التكسب والرزق، فالسيد يُسخِّر عبده في تحصيل الرزق؛ في الزراعة، في الحرفة، في الصناعة، يُسَخِّر العبيد كي يعينوه على تحصيل الرزق، لكن الله (تبارك وتعالى) لا يُذَلُّ له عبادُه لِنَفْعٍ يَحْصُلُ لديه. أيضا الآية تُشعِر أن العبد ليس مُكَلَّفاً بأن يرزق نفسه ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾ أي: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم، لأن في السماء رزقكم وما توعدون والرزق على الله، إذا ً فأنت غير مكلف بالسعي على رزقك أو تحصيل الرزق، أنت مكلّف بالأخذ بالأسباب فقط أما الرازق الحقيقي فهو الله. (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي ما أريد من العبيد أن يرزقوا غيرهم. إذاً فربنا (تبارك وتعالى) لايريد من الناس أن يرزقوه فهو غير محتاج للرزق، أو يطعموه وهو غير محتاج لِعَون العبيد، فقد كان الله ولم يكن شيء، أيضاً العبد غير مُكَلَّف بأن يرزق غيره. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وقُرِأَت ﴿إن الله هو الرازق﴾.
وما من شيء يحتاج إلى رزق إلا وربنا (تبارك وتعالى) هو الرازق، ولا تعتقد أن الإنسان فقط هو المحتاج إلى الرزق، بل الجن يُرزَق، بل الجماد يُرزَق، فما من شيء خُلِق إلا ومحتاج في بقائه للإمداد، فالنبات يُرزَق، والأرض تُرزَق، والشمس بضيائها لابد من مَدَد يُمِدُّها حتى تستمر في الشروق والغروب، والقمر كذلك، ما من شيء في هذا الكون إلا وهو محتاج في بقائه لمدَد، والمدد من الله هو الرزاق! وإلا لانطفأ ضوء الشمس، ولَكَفَّت النجوم عن الحركة، ولامتنعت الأرض عن الإنبات، ولامتنعت الأنهار عن الجريان، ولَجَفَّت البحار، ولماتت الأسماك، فما من شيء إلا ويُرزَق. والرزق ليس الطعام والشراب فقط، بل أنت تُرزَق الظِّل، فالظِّل رزق، والعقل رزق وعقل المرء محسوب من رزقه، والكساء رزق، والدِّين رزق، والعبادة رزق، والسَّتر رزق، والسكينة رزق، والزوجة رزق، والأولاد رزق، ما من شيء إلا وهو رزق، وما من رزق إلا وهو من الله. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ ﴿المتينُ﴾: نعت للرزاق. وقُرِأَت ﴿المتينِ﴾: نعت للقوة، وذُكِّر والقوة مؤنثة لإرادة الإتقان والإحكام، كقول الله (تبارك وتعالى): (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [سورة البقرة آية: ٢٧٥] أي: جاءه وعظ، وفي موضع آخر: ﴿جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ ﴿يونس: ٥٧﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الشديد القوي، شديد المحال، الغالب القاهر، لا يعجزه شيء هو الفعال لمايريد، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد.
وتُختَم سورة الذاريات بتهديد ووعيد لهؤلاء المستعجلين بالعذاب، لم يكتفِ كفار مكة بالاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكتفوا بالتكذيب وبالكفر وإنما استهزأوا بالوعيد، واستهزأوا بالعذاب واستعجلوه، وقالوا أقوالاً تدل على السفاهة والجهالة كقولهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٢] تحدي، جهل، سفاهة، وإسفاف. بَدَلاً من أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، بل طلبوا العذاب، ولولا وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) لأخذهم العذاب، وربنا يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] ولولا استغفار المستغفرين وعبادة الطائعين لأخذهم العذاب والله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٣] أي: وفريق منهم يستغفر. استعجلوا وقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة الأحقاف آية: ٢٢] كما قال أسلافهم، وقالوا: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة النمل آية: ٧١] فيقول الله (تبارك وتعالى):
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ ذَنُوبًۭا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـٰبِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ﴿59﴾
فَوَيْلٌۭ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ ﴿60﴾
(الذين ظلموا): الذين كفروا، و (الظلم): الشِّرك، والكلام لكفار مكة الذين عبدوا الأصنام وسجدوا للأوثان، والله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة لقمان آية: ١٣]. ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ الذين أشركوا يحذرهم ربنا بأن لهم نصيب من العذاب كما كان لمن كفر من الأمم السابقة، و (الذَّنُوب): الدَّلو الكبيرة المملوءة بالماء، فإن لم تكن مملوءة بالماء فلا يُقال عنها ذَنُوب، وتُجمع على ذَنَائِب وأَذْنِبَة. واعتاد العرب إذا استقوْا في البئر أن يقسموا الماء بينهم، لهذا دلوْ ولهذا دلْو، فيتبادلوا الدِّلاء بينهم، عُبِّرَ بعد ذلك بكلمة ذَنُوب عن الحظ والنصيب، فربنا يقول: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا﴾ أي: نصيباً وحَظَّاً من العذاب، ﴿مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ قوم فرعون، وقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، ومن قَصَّ ربنا علينا قصصهم في هذه السورة. (فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يستعجلون العذاب فهو آت لا محالة. ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ عَبَّرَ بالظلم عن الشِّرك ثم عَمَّمَ بعد ذلك بالكفر، لأن الكفر يشمل إنكار الألوهية ويشمل أيضا الشِّرك. ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ ذاك يوم القيامة حيث يُحشَر المتكبرون كهشيم الذَّرّ يطؤهم الناس لهوانهم على الله، حيث يُحشر الكافر في جسد لا يخطر له على بال، غِلَظْ جِلْدِ الكافر كذا وكذا، بل ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع، ضرس الكافر الواحد حجمه كجبل أحد، كل ذلك ليشعر بالعذاب، فكلما ازداد غِلَظ الجلد وكلما ازدادت مساحة الجسم المعرضة للنار ازداد الألم وازداد العذاب.
يُبعَثون عمالقة فوق الخيال، ما بين المنكبين مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع فكيف يكون طوله؟ الضرس الواحد في فمه كجبل أحد، إذاً هذا الفم الذي سوف يشرب من المُهل ما حجمه؟ إذا رأتهم جهنم من بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، تعرفهم وتنادي عليهم كما أن الجنة تعرف أصحابها وتنادي عليهم، يُنادَى المؤمن من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، باب للصائمين وباب لكذا وباب لكذا ومنهم من ينادى من الأبواب جميعاً، كذلك جهنم تنادي هذا الكافر الذي يُبعَث بهذا الشكل وبهذا الحجم. تُرى ملائكة العذاب كيف شكلهم وكيف حجمهم؟ السلاسل التي يُقَيَّد بها ما شكلها؟ وحين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كلمة (ويْل) قال بعضهم: تعني اسم لوادي في جهنم، وقال بعضهم: بل (ويل) كلمة تهديد وتَوَعُّد، وكلمة (وَيْح) إشفاق وتَرَحُّم، وكلمة (ويل) تَوَعُّد وتهديد شديد، المُهَدِّد القادر هو الله! ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ وكأن اليوم خاص بهم، لم يقل (يوم القيامة) بل قال (من يومهم) وكأن اليوم مخصص لهؤلاء. وإذا أردت أن تتخيل فانظر إلى ما خلق الله (تبارك وتعالى) من بشاعة في بعض الأشياء، من الروائح ما هو ذكي ومن الروائح ما هو كريه، أشد الروائح كراهة في هذه الدنيا لا يقاس برائحة نَتَنِ الكفار. في الطعوم منها الحلو ومنها المر، أشد الأشياء مرارة في دنيانا لا يُقاس بمرارة الزقوم. الأشياء منها الجميل ومنها القبيح، أشد الأشياء قبحاً وأشد المخلوقات قبحاً لايُقاس بقبح الخَزَنَة المسئولون عن التعذيب، لأن ملائكة التعذيب وخَزَنَة جهنم لا يمكن أن يكونوا على صورة محببة أو جميلة، لابد وأن تكون الصورة بشعة مخيفة، لأن الله يقول في شأنهم: (غِلاظٌ شِدادٌ).
هناك من الأشياء ما تَقَرُّ له الأعين وتنشرح له الصدور، وهناك من الأشياء ما يُخيف ويُرعِب، فأنت إذا فوجئت بحَيَّة أو ثعبان أو عقرب أو أسد أو وحش كيف يكون الخوف؟ كيف يكون الهلع؟ تُرى حَيَّات جهنم ما شكلها وما حجمها؟ من هذه الحَيَّات حَيَّة أصلها مال، أصلها ذهب، أصلها فضة، الكانزون للأموال يأتي مالُهم يوم القيامة على هيئة ثعبان أقرع يلتفت حول عنقه، ويأخذه بلهْزَمَيْه ويقول له: أنا مالُك أنا كَنزُك، تُرى كيف شكل الحَيَّات في جهنم؟ والعقارب تُرى كيف شكلهم؟ كلنا جَرَّب الألم، في الدنيا آلام وأوجاع كالأمراض والأمغاص وما إلى ذلك، أشد الآلام في هذه الدنيا يعقبها شفاء أو يعقبها الراحة بالموت، الألم هناك لانهاية له. بل إذا اشتد الألم على الإنسان في الدنيا يُغشى عليه من شدة الألم، يُغمى عليه ويذهب في غيبوبة فلا يشعر، رحمة. أما هناك فليس هناك مُسَكِّنات ولا مُهَدِّئات ولا أدوية، ولا يُغشى عليهم ولا يُخفَّف عنهم ولا يُقضى عليهم فيموتوا، أَلَمٌ مستمر، تُرى كيف يكون هذا الألم؟ دُهور وأزمنة، ليس هناك ليل أو نهار ولا أيام ولا شهور، بل هناك خُلد في جنة أو خُلد في نار. بل حتى الموت، يُؤتى بالموت يوم القيامة على شكل كبش فيوضع بين الجنة والنار ثم يُؤمَر به فيُذبح، وينادي المنادي من قبل العليِّ الأعلى: يا أهل الجنة خلود ولا موت، يا أهل النار خلود ولا موت.
هل تُقاس الدنيا بالآخرة؟ بل هل تُقاس الدنيا بالقبر؟ هل نَزَلْتَ القبر؟ أنت تهتم بمسكنك بتزويقه وتزيينه وتنظيفه، هل نزلت يوما إلى قبرك لترى ما فيه؟ أنت تعيش في بيتك سنين، خمسين سنة، مائة من السنين، تُرى كم من السنين تبقى في قبرك؟ وتَأَمَّل فيما مضى من القرون، كم مضى على قوم عاد؟ كم مضى على قوم نوح؟ كم مضى على قوم فرعون؟ كم مضت؟ سنون وسنون قرون آلاف ملايين، كم؟ وهم في قبورهم، والقبر إما حفرة من نار وإما روضة من رياض الجنة، هل تساوي الدنيا لحظة في القبر؟ أنت معتز بمالك وجاهك، معتز بصحتك وشبابك، وتَذَكَّر لحظة تُحمَل فيها إلى حفرة ضيقة، يُدَلِّيك فيها أبناؤك وأحباؤك، هم الذين يُهيلون الترب عليك، الأهل والأحباب. تجد نفسك وحيدا ويُغلق عليك القبر، تستصرخ وما من صريخ، ما أحد يسمع وما أحد يملك، ويُغلق وظلامُ القبر لا يَعدُلُه ظلام أبداً، لو انطفأت الأنوار في الدنيا جميعها وانخسفت الشمس والقمر والنجوم لايعدل هذا الظلام ظلام القبر. وفجأة ينصرف الناس وتسمع وأنت في قبرك خَفْقَ نعالهم على الأديم، إي وربي! انصرفوا كل إلى حال سبيله وأنت بمفردك في هذا القبر تشعر بكل شيء وتسمع كل شيء وترى كل شيء، وفجأة تستيقظ وتُجلَس وتُسأَل: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ سؤال لا يعينك أحد على الإجابة، أنت وحدك تُجِب، فمن كتب له ربه النجاة ثَبَّته بالقول الثابت لا يخشى ولا يخاف، بل يجيب بلسان عربي مبين ولو لم يكن عربياً ولو لم يكن يعرف العربية: ربي هو الله، وديني الإسلام، وقبلتي الكعبة، وإذا سُئِلْتَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قُلتَ بغير تردد: هو رسول الله، عبده ورسوله، أتانا بالهدى فآمنا به وصدقناه واتبعناه.
ويُعرَض عليك مقعد من النار، فإذا أخذك الهلع والرعب إذا بالمنظر يتغير، وإذا بالملائكة تُرَبِّت عليك وتطمئنك وتقول لك هذا مقعدك من النار زُحْزِحْتُ عنه وفُزْتَ بمقعدك في الجنة، ويُكشَف عنك الحجاب فترى مقعدك في الجنة فتقول لك الملائكة هذا مقعدك من الجنة أنظر إليه حتى يبعثك الله إليه، سنين قرون، لا تساوي الدنيا شيئاً، والله زَمْتَةُ وضَمَّةُ القبر لو استطاع الإنسان أن يفتدي من هذه الضَّمَّة بالدنيا وما فيها لَفَعَل لكِنَّا في غفلة والتذكير يُجدي ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
أيها الأخ المسلم، أرحم ما يكون الله (تبارك وتعالى) بعبده، ربنا الرحمن من الأزل إلى الأبد، يرحمنا في حياتنا وفي مماتنا وفي جميع أحوالنا، أرحم ما يكون الله بعبده حين يوضَع في قبره حيث يتخلى الكل عنه، وكما قال علي بن أبي طالب لأصحابه يوماً وهم في زيارة للقبور ينادي: يا أهل التربة، يا أهل الغربة، حدثونا ما وجدتم ونحدثكم بما تركتم، أما أموالكم التي جمعتموها فقد قُسِّمَت، وأما قصوركم وبيوتكم التي شيدتموها فقد سُكِنَت، وأما نساؤكم فقد نُكِحَت، ثم سَكَت، ثم قال: والله لو أُذِنَ لأهل القبور أن يتكلموا لقالوا: إن خير الزاد التقوى. فتزودوا عباد الله وفِرُّوا إلى الله فلا ملجأ من الله إلا إليه.
يُبعَثون عمالقة فوق الخيال، ما بين المنكبين مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع فكيف يكون طوله؟ الضرس الواحد في فمه كجبل أحد، إذاً هذا الفم الذي سوف يشرب من المُهل ما حجمه؟ إذا رأتهم جهنم من بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، تعرفهم وتنادي عليهم كما أن الجنة تعرف أصحابها وتنادي عليهم، يُنادَى المؤمن من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، باب للصائمين وباب لكذا وباب لكذا ومنهم من ينادى من الأبواب جميعاً، كذلك جهنم تنادي هذا الكافر الذي يُبعَث بهذا الشكل وبهذا الحجم. تُرى ملائكة العذاب كيف شكلهم وكيف حجمهم؟ السلاسل التي يُقَيَّد بها ما شكلها؟ وحين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كلمة (ويْل) قال بعضهم: تعني اسم لوادي في جهنم، وقال بعضهم: بل (ويل) كلمة تهديد وتَوَعُّد، وكلمة (وَيْح) إشفاق وتَرَحُّم، وكلمة (ويل) تَوَعُّد وتهديد شديد، المُهَدِّد القادر هو الله! ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ وكأن اليوم خاص بهم، لم يقل (يوم القيامة) بل قال (من يومهم) وكأن اليوم مخصص لهؤلاء. وإذا أردت أن تتخيل فانظر إلى ما خلق الله (تبارك وتعالى) من بشاعة في بعض الأشياء، من الروائح ما هو ذكي ومن الروائح ما هو كريه، أشد الروائح كراهة في هذه الدنيا لا يقاس برائحة نَتَنِ الكفار. في الطعوم منها الحلو ومنها المر، أشد الأشياء مرارة في دنيانا لا يُقاس بمرارة الزقوم. الأشياء منها الجميل ومنها القبيح، أشد الأشياء قبحاً وأشد المخلوقات قبحاً لايُقاس بقبح الخَزَنَة المسئولون عن التعذيب، لأن ملائكة التعذيب وخَزَنَة جهنم لا يمكن أن يكونوا على صورة محببة أو جميلة، لابد وأن تكون الصورة بشعة مخيفة، لأن الله يقول في شأنهم: (غِلاظٌ شِدادٌ).
هناك من الأشياء ما تَقَرُّ له الأعين وتنشرح له الصدور، وهناك من الأشياء ما يُخيف ويُرعِب، فأنت إذا فوجئت بحَيَّة أو ثعبان أو عقرب أو أسد أو وحش كيف يكون الخوف؟ كيف يكون الهلع؟ تُرى حَيَّات جهنم ما شكلها وما حجمها؟ من هذه الحَيَّات حَيَّة أصلها مال، أصلها ذهب، أصلها فضة، الكانزون للأموال يأتي مالُهم يوم القيامة على هيئة ثعبان أقرع يلتفت حول عنقه، ويأخذه بلهْزَمَيْه ويقول له: أنا مالُك أنا كَنزُك، تُرى كيف شكل الحَيَّات في جهنم؟ والعقارب تُرى كيف شكلهم؟ كلنا جَرَّب الألم، في الدنيا آلام وأوجاع كالأمراض والأمغاص وما إلى ذلك، أشد الآلام في هذه الدنيا يعقبها شفاء أو يعقبها الراحة بالموت، الألم هناك لانهاية له. بل إذا اشتد الألم على الإنسان في الدنيا يُغشى عليه من شدة الألم، يُغمى عليه ويذهب في غيبوبة فلا يشعر، رحمة. أما هناك فليس هناك مُسَكِّنات ولا مُهَدِّئات ولا أدوية، ولا يُغشى عليهم ولا يُخفَّف عنهم ولا يُقضى عليهم فيموتوا، أَلَمٌ مستمر، تُرى كيف يكون هذا الألم؟ دُهور وأزمنة، ليس هناك ليل أو نهار ولا أيام ولا شهور، بل هناك خُلد في جنة أو خُلد في نار. بل حتى الموت، يُؤتى بالموت يوم القيامة على شكل كبش فيوضع بين الجنة والنار ثم يُؤمَر به فيُذبح، وينادي المنادي من قبل العليِّ الأعلى: يا أهل الجنة خلود ولا موت، يا أهل النار خلود ولا موت.
هل تُقاس الدنيا بالآخرة؟ بل هل تُقاس الدنيا بالقبر؟ هل نَزَلْتَ القبر؟ أنت تهتم بمسكنك بتزويقه وتزيينه وتنظيفه، هل نزلت يوما إلى قبرك لترى ما فيه؟ أنت تعيش في بيتك سنين، خمسين سنة، مائة من السنين، تُرى كم من السنين تبقى في قبرك؟ وتَأَمَّل فيما مضى من القرون، كم مضى على قوم عاد؟ كم مضى على قوم نوح؟ كم مضى على قوم فرعون؟ كم مضت؟ سنون وسنون قرون آلاف ملايين، كم؟ وهم في قبورهم، والقبر إما حفرة من نار وإما روضة من رياض الجنة، هل تساوي الدنيا لحظة في القبر؟ أنت معتز بمالك وجاهك، معتز بصحتك وشبابك، وتَذَكَّر لحظة تُحمَل فيها إلى حفرة ضيقة، يُدَلِّيك فيها أبناؤك وأحباؤك، هم الذين يُهيلون الترب عليك، الأهل والأحباب. تجد نفسك وحيدا ويُغلق عليك القبر، تستصرخ وما من صريخ، ما أحد يسمع وما أحد يملك، ويُغلق وظلامُ القبر لا يَعدُلُه ظلام أبداً، لو انطفأت الأنوار في الدنيا جميعها وانخسفت الشمس والقمر والنجوم لايعدل هذا الظلام ظلام القبر. وفجأة ينصرف الناس وتسمع وأنت في قبرك خَفْقَ نعالهم على الأديم، إي وربي! انصرفوا كل إلى حال سبيله وأنت بمفردك في هذا القبر تشعر بكل شيء وتسمع كل شيء وترى كل شيء، وفجأة تستيقظ وتُجلَس وتُسأَل: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا كنت تقول في ذلك الرجل؟ سؤال لا يعينك أحد على الإجابة، أنت وحدك تُجِب، فمن كتب له ربه النجاة ثَبَّته بالقول الثابت لا يخشى ولا يخاف، بل يجيب بلسان عربي مبين ولو لم يكن عربياً ولو لم يكن يعرف العربية: ربي هو الله، وديني الإسلام، وقبلتي الكعبة، وإذا سُئِلْتَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قُلتَ بغير تردد: هو رسول الله، عبده ورسوله، أتانا بالهدى فآمنا به وصدقناه واتبعناه.
ويُعرَض عليك مقعد من النار، فإذا أخذك الهلع والرعب إذا بالمنظر يتغير، وإذا بالملائكة تُرَبِّت عليك وتطمئنك وتقول لك هذا مقعدك من النار زُحْزِحْتُ عنه وفُزْتَ بمقعدك في الجنة، ويُكشَف عنك الحجاب فترى مقعدك في الجنة فتقول لك الملائكة هذا مقعدك من الجنة أنظر إليه حتى يبعثك الله إليه، سنين قرون، لا تساوي الدنيا شيئاً، والله زَمْتَةُ وضَمَّةُ القبر لو استطاع الإنسان أن يفتدي من هذه الضَّمَّة بالدنيا وما فيها لَفَعَل لكِنَّا في غفلة والتذكير يُجدي ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
أيها الأخ المسلم، أرحم ما يكون الله (تبارك وتعالى) بعبده، ربنا الرحمن من الأزل إلى الأبد، يرحمنا في حياتنا وفي مماتنا وفي جميع أحوالنا، أرحم ما يكون الله بعبده حين يوضَع في قبره حيث يتخلى الكل عنه، وكما قال علي بن أبي طالب لأصحابه يوماً وهم في زيارة للقبور ينادي: يا أهل التربة، يا أهل الغربة، حدثونا ما وجدتم ونحدثكم بما تركتم، أما أموالكم التي جمعتموها فقد قُسِّمَت، وأما قصوركم وبيوتكم التي شيدتموها فقد سُكِنَت، وأما نساؤكم فقد نُكِحَت، ثم سَكَت، ثم قال: والله لو أُذِنَ لأهل القبور أن يتكلموا لقالوا: إن خير الزاد التقوى. فتزودوا عباد الله وفِرُّوا إلى الله فلا ملجأ من الله إلا إليه.