القرآن الكريم / سورة ق / التفسير المقروء

سورة ق

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا اليوم مع سورة أخذها الناس من فِيّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو على المنبر، سورة كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرؤها في الفِطر وفي الأضحى، وكثيراً ما قرأها في صلاة الفجر، وأخذها الناس منه وهو يقرؤها على منبره في يوم الجمعة، سورة ق والتي فيها ذِكْر الموت والحياة، ذِكْر الجنة والنار، فيها بعض أدلة القدرة التامة على الخلق والبعث، سورة ق افُتِتَحت بحرف واحد‫.‬‬‬‬

قٓ ۚ وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْمَجِيدِ ﴿1﴾
ومن السور ما افتُتِحَ بحرف واحد كسورة ق، وسورة ص، وسورة ن، ومنها ما افتُتِحَ بحرفين كسورة يس، وحم، وطس، ومنها ما افُتِتَح بثلاثة حروف‫:‬ ألم، وألر، وطسم، ومنها ما افُتِتح بأربعة حروف مثل‫:‬ المر، و المص، ومنها افُتِتَح بخمسة مثل حم عسق، وكهيعص‫.‬ والكلام في هذه الحروف كثير، والحق أبلج‫.‬ ﴿ق﴾ جبل من الزمرد الأخضر محيط بالأرض؛ أهو كذلك؟ قيل ذلك! ﴿ق﴾ اسم للقرآن، ﴿ق﴾ اسم للسورة، ﴿ق﴾ اسم من أسماء الله تعالى، ﴿ق﴾ حرف يدل على كلمة، أي‫:‬ قُضِيَ الأمر، كقولهم في حم أي‫:‬ حُمَّ الأمر، أو ﴿ق﴾ بمعنى قف عند أمر الله ونهيه ولا تَعْدُهُما، والأمر للمصطفى (صلى الله عليه وسلم) هل هي كذلك؟ هل هي استفتاح للسورة؟ هل هذا الحرف مُفتَتَح لأسماء الذات العليّة‫:‬ قهار قابض قريب قادر، هل وهل؟ كلها اجتهادات اجتهد فيها الناس ولا دليل عليها، والقول الحق أنه سِرُّ الله فلا تطلبوه، هي من المتشابه الذي استأثر الله (تبارك وتعالى) بعلمه، والمتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به كُلٌّ من عند ربنا، وما وجدنا أحدا من الصحابة سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن مُفتَتَح السور وما صَحَّ حديث واحد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في شرح معانيها، وكأنهم توقفوا وكان ذاك منهجهم‫:‬ ما عرفناه وفهمناه عملنا به وما لم نفهمه آمنا به‫.‬ ﴿ق﴾ قسم، ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ قسم آخر، والواو واو عطف، أي‫:‬ أَقْسَمَ الله (تبارك وتعالى) بـ (ق) وأقسم بالقرآن المجيد‫.‬ أو (ق) منفصلة ليست قسما ً ولا يعرف معناها والمراد منها على الحقيقة إلا الله، ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ (الواو): واو القَسَمْ بالقرآن ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ ذاك هو القَسَم، أما (ق) فشأنها يعلمه الله (تبارك وتعالى). وقُرِأَت بالجزْم وصلا ووقفا، وقُرِأَت بالفتح‫:‬ قافَ، وقُرِأَت بالكسر‫:‬ قافِ، وقُرِأَت بالضم‫:‬ قافُ، قراءات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ القرآن‫:‬ كتاب الله، كلامه القديم القائم بذاته، والذي لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال والحلول في الأوراق‫.‬ المجيد‫:‬ الكريم، المجيد‫:‬ الشريف، المجيد‫:‬ كثير الخير ذو المجد والشرف على سائر الكتب‫.‬ وكلمة المجيد أصلاً من قولهم‫:‬ مَجَدت الإبل، إذا نزلت على مرعى كثير الخير واسعا‫.‬ والمجيد إذا أُطلِقَت كوصف فهو الشريف ذاتُه، الجميل فعالُه، العظيم خيرُه، القريب نوالُه‫.‬ والقرآن المجيد‫:‬ عظيم القدر كثير البركة، من ابتغى فيه مقصودا وجده، ومن لاذ به استغنى به عن غيره، ذاك هو المجيد‫.‬ ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ جواب القسم قالوا فيه كثير‫.‬ قالوا‫:‬ (ق والقرآن المجيد) (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وكل ما بين الآيتين اعتراض وتمهيد لذلك لأنه ذِكْر لقدرة الله‫.‬ وقالوا‫:‬ جواب القسم (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ)، أقوال أرجحها أن جواب القسم محذوف تقديره (والقرآن المجيد لَتُبْعَثُنّ)، أو (والقرآن المجيد إنه الحق، وإن النبي حق)، يدل على جواب القسم قول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
بَلْ عَجِبُوٓا۟ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌۭ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ ﴿2﴾
ذاك دليل على جواب القسم‫:‬ (ق والقرآن المجيد، بل عجبوا) إذاً فهو قَسَم على الصدق وعلى الحق، وعلى أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) المبعوث الحق والرسول الحق‫.‬ ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ التعجيب هنا لقوم تعجبوا من أمر ليس فيه عجب، و (العجب): الأمر الذي يُتعجب منه، يقال فيه‫:‬ أُعجوبة وعُجْب وعُجَاب وعُجَّاب‫.‬ ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ تَعَجَّبوا، ﴿أَنْ جَاءَهُمْ﴾ أي‫:‬ لأن جاءهم، ﴿مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ العجب أن الرسول جاءهم منهم، فتعجبوا كيف يكون بشرا، وتعجبوا كيف يكون محمداً بالذات (عليه الصلاة السلام) هاهم يتعجبون من أمرٍ لا عجب فيه، إذ أَنَّ الرسول لابد وأن يكون منهم ومن جنسهم ومن أنفسهم حتى يعلموا صدقه ونسبه وحسبه، ويعقلوا عنه ويفهموا كلامه، فلابد أن يكون الرسول إلى الناس من الناس، ومع ذلك عجبوا أن جاءهم منذر منهم‫.‬ و (المنذر): الذي يُحذِّر ويخوِّف مع إعطاء مهلة كي تتخذ حذرك مما خوّفك منه، ذاك هو الإنذار‫.‬ (الإنذار) أن أخوّفك بشيء وأعطيك مهلة حتى تحترس وتحترز، فالمنذر هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنذرهم بَطْشَةَ الله وحذّرهم وأعطاهم المدة أَلَا وهي مدة حياتهم‫.‬ (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) جاء بكلمة (الكافرون) وهي مُظْهَر، ولم يقل‫:‬ (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقالوا هذا شيء عجيب) ذاك تقدير الكلام‫:‬ عجبوا وقالوا، لكنه قال‫:‬ (عجبوا) ثم قال‫:‬ ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ جاء بالمظهَر مكان الضمير ليدلل على أن تعجبهم أدّى بهم إلى الكفر، وليُشعِر بأنهم هم الذين قالوا ذلك وهم الكفار على الحقيقة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أن أُرسِلَ اليهم بشر ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [سورة الفرقان آية‫:‬ ٧] وقالوا لولا أُنْزِلَ عليه مَلَك، وطلبوا أن يروا الملائكة، وطلبوا وتعنتوا، ثم هاهم يكذّبون بالبعث وهو موضوع الإنذار، اتضح من قوله‫:‬ ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ بِمَ أنذرهم المنذر؟ بالبعث‫.‬ لذا يقول‫:‬‬‬‬‬‬‬
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًۭا ۖ ذَٰلِكَ رَجْعٌۢ بَعِيدٌۭ ﴿3﴾
إذا ًأنذرهم بالموت، وأنذرهم بالبعث، وأنذرهم بالقيامة، وأنذرهم بالحساب، فازداد عجبهم، وزاد كفرهم على كفرهم‫.‬ تعجبوا أن يُرسَل إليهم بشر ثم تعجبوا أن يُبعثوا وتهكموا، وقال‫:‬ (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الكلام فيه حذف تقديره‫:‬ (أءِذا متنا وكنا ترابا نُبعث ونَرجع ونَعود؟ ذلك رجع بعيد) ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ أي‫:‬ وأصبحنا ترابا بعد فترة من الزمان وأكلت الأرض أجسادنا وتحولنا إلى التراب، ﴿ذَلِكَ﴾ أي‫:‬ ما تَدَّعيه من بعث ونشور وقيام للحساب (رجع بعيد): رجوع مستحيل بعيد عن الأفهام، بعيد عن الإمكان، بعيد عن القدرة، فاستقصروا قدرة الله على الإعادة‫.‬ رَجَعَهُ يرجِعُهُ رَجْعا ً: أعاده‫.‬ ورَجَع هو يَرجِعُ رُجوعاً: عاد من نفسه‫.‬ فهم يقولون‫:‬ ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أي‫:‬ أَمْرٌ مستحيل بعيد عن الأفهام، وبعيد عن العقول، وبعيد عن التصديق، وبعيد عن الإمكان‫.‬ إذاً فقد كَذَّبوا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وتعجبوا من أن يكون بشرا، ثم كَذَّبوا بالبعث واستقصروا قدرة الله فازدادوا كفرا على كفر‫.‬ يَرُدُّ الله (تبارك وتعالى) عليهم مُزيحا لتعللهم ولأسباب شكهم فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌۢ ﴿4﴾
هم يتعجبون‫:‬ (أءذا متنا وكنا ترابا رجع بعيد) كيف يعاد التراب وكيف يُرَكَّب مرة أخرى؟ والتراب قد ينتشر في الأرض وتذروه الرياح، ويتفتت الإنسان وتتوزع أشلاؤه وأجزاؤه ويتحول إلى تراب بضعة منه هنا وبضعة منه هناك، والتراب بعد ذلك يثور؛ تثيره الرياح، ويأتي أناس بعد قرون يحفرون الأرض ويبنون عليها وتختلط الأتربة الجديدة بالقديمة وما إلى ذلك، فتَوَزَّع ذاك التراب وتلك الذرّات فكيف يعيدها إلهك الذي تزعم عنه ذلك؟ فيَرُدُّ الله عليهم مُزيحا هذا التعلل فيقول‫:‬ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ بمعنى أن الله (تبارك وتعالى) يعلم ما تأكله الأرض من أجساد الناس ذرة ذرة، بل وأصغر من الذرة! إذا كانت الاستحالة في نظركم أنه أصبح ترابا وتوزع وتشتت، طالما عَلِمَ القادر مكان التراب وأين ذهب وعَلِمَ ما أُكِلَ منه وما بقي منه إذاً فهو قادر على الإعادة‫.‬ وقال بعض الناس ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ أي‫:‬ نعلم من يموت ومن يبقى على قيد الحياة‫.‬ والأرجح (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي‫:‬ تأكل منهم وتأخذ منهم، فتتحول أجسادهم إلى التراب، والأرض في قبضة القهار‫.‬ (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) إما تمثيل لعلمه (تبارك وتعالى) بدقائق وتفاصيل الأشياء والجزئيات والكليات، تمثيلُ عِلْمِه بذلك بعِلمِ من عنده كتاب محفوظ يطلع عليه وقتما يشاء، حُفِظَ فيه كل شيء، أو هناك كتاب فعلاً ألا وهو اللوح المحفوظ، والذي أُمِرَ القلمُ فكتب فيه ما كان وما يكون، ورُفِعَ فوق العرش مكنونا عن الخلائق مرفوعا عن حيز الإدراك‫.‬ (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ، فَعيل بمعنى فاعل، حفيظ أي حافظ، أي هذا الكتاب حافظ لأجسادهم وأسمائهم وأجزائهم وحركاتهم وسكناتهم وما كان من أمرهم وما هو كائن‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) بمعنى محفوظ، فعيل بمعنى مفعول، أي محفوظ فيه كل شيء الكليات والجزئيات تفاصيل كل شيء، أو محفوظ من أن يناله تحريف أو تغيير أو تبديل، محفوظ من أن يطلع عليه أحد‫.‬‬‬‬
بَلْ كَذَّبُوا۟ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىٓ أَمْرٍۢ مَّرِيجٍ ﴿5﴾
إذا ً فقد أضافوا تكذيبا ً إلى تكذيب، رغم كل ذلك كذبوا بالحق‫.‬ الحق‫:‬ القرآن، الحق‫:‬ محمد (عليه الصلاة والسلام) أي‫:‬ كذبوا بمحمد (عليه الصلاة والسلام) لما جاءهم، أو بالإسلام، أو بالدين‫.‬ ﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ مريج‫:‬ مُختلِط‫.‬ " بَلْ " كلمة للإضراب بمعنى ترك الكلام والدخول في كلام آخر، هؤلاء تعجبوا وعَجِبُوا أن جاءهم منذرٌ منهم وقالوا هذا شيء عجيب، ثم تعجبوا من البعث ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ كيف نُبعث؟ يقول الله‫:‬ (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) إذا ً فالمسألة هي مسألة التكذيب والكفر والفجور، هم كذّبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج؛ أمر مختلِطٍ فاسد لأنهم قالوا عن النبي مرة ساحر، وقالوا عنه شاعر، وقالوا عنه كاهن، وقالوا عنه مجنون، ولا تتفق هذه الأشياء ولا تتحد في شخص واحد، إما ساحر وإما كاهن وإما شاعر وإما مجنون فاختلط الأمر عليهم‫.‬ أيضا في شأن البعث كذلك اختلط الأمر عليهم، فمِنْ مُكَذّب ومِن مُنكِر ومِن مُستبعِد، تارة يشكّون وتارة يكذبون وتارة يكفرون فهم في أمر ٍ مريج‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وحين جاءهم النبي (صلى الله عليه وسلم) من أوسطهم يعلمون صدقه ويعلمون نسبه قالوا‫:‬ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٣١] طلبوا أن يكون الرسول ذا جاه وذا شرف من عظماء مكة أو عظماء ثقيف، صاحب مال وصاحب جاه وصاحب سلطان، ثم يقولون كيف يكون الرسول بشراً يأكل الطعام؟ مرة تُنكِرون أن يكون الرسول بشرا، ومرة تنكرون أن يكون الرسول محمدا وتطلبون أن يكون بشرا ولكن من الأغنياء، ألم تقولوا من قبل لابد أن يكون الرسول مَلَكاً؟ لِمَ تطالبون أن يكون الرسول رجلا غنيا وقد أنكرتم أن يكون الرسول رجلا؟ ورَدّ عليهم ربنا وقال‫:‬ ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ٩٥] فهم في أمر مريج، مرة يطالبون الرسول أن يكون بشرا ولكن غنيا، ومرة ينكرون البشرية ويقولون لابد وأن يكون مَلَكاً، ومرة يقولون ساحر، ومرة يقولون كاهن وهكذا‫.‬ حتى في القرآن اختلط عليهم الأمر هو شِعر، بل يُتلى عليه ويُملى عليه فيكتتبه، بل هو من أساطير الأولين، بل هو نوع من أنواع الكهانة، فهم في أمر مريج، لم يكفروا بدليل ولم يكفروا بسند ولم يكفروا لِشُبهة واقعة فعلا، ولكن هم الذين اشتُبه عليهم الأمر وهم الذين اختَلَطَ عليهم الأمر، وهم الذين خَلَطوا على أنفسهم الأمور لأنهم ما أرادوا الإيمان وما أرادوا الاستسلام، فهم في أمر مريج‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويشرع ربنا (تبارك وتعالى) في بيان بعض الأدلة على القدرة التامة على الإيجاد والإفناء والبعث فيقول عَزَّ مِن قائل‫:‬‬‬‬
أَفَلَمْ يَنظُرُوٓا۟ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍۢ ﴿6﴾ وَٱلْأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِىَ وَأَنۢبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍۭ بَهِيجٍۢ ﴿7﴾ تَبْصِرَةًۭ وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍۢ مُّنِيبٍۢ ﴿8﴾ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ مُّبَـٰرَكًۭا فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ جَنَّـٰتٍۢ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ ﴿9﴾ وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَـٰتٍۢ لَّهَا طَلْعٌۭ نَّضِيدٌۭ ﴿10﴾ رِّزْقًۭا لِّلْعِبَادِ ۖ وَأَحْيَيْنَا بِهِۦ بَلْدَةًۭ مَّيْتًۭا ۚ كَذَٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴿11﴾
شروع في بيان بعض الأدلة على القدرة التامة على البعث الذي أنكروه‫:‬ ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ و (السماء): كل ما عَلَاك فهو سماء‫.‬ (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا) كيف بنيناها بلا عمد؟ لا يرون لها أعمدة فكيف بُنيَت بغير عَمَد؟ وهم حين يبنون مساكنهم لابد من الأعمدة، حتى الخيام لا تُقام إلا بعمود في وسطها تُقام عليه، فكيف أُقيمَت السماء بغير عمد؟ أفلم ينظروا نظر تَدَبُّر ونظر تَأَمُّل فيمن خلق هذه السماء؟ كيف خلقها وسوّاها ورفع سَمْكَها؟ ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾ ليس البناء فقط، بل الزينة أيضا بنجوم، هل عُلِّقت النجوم بسلاسل؟ أين هي السلاسل؟ وكيف لها مسارات؟ كانوا يعرفونها ويستدلون بها ويهتدون بها في سفرهم وفي طرقاتهم، إذا ً فهذه النجوم التي تشرق وتغرب وتتحرك وتدور، ولها منازل ومشارق ومغارب، إذا ً فهي غير معلقة بشيء بل هي سابحة، وإن كانت معلقة فبقدرة الله (تبارك وتعالى). ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ (فروج): شقوق، جَمْعُ فَرْج، و (الفَرْج): الشَّق بين الشيئين يسمى فَرْجاً، فهذه السماء على عِظَمِهَا وكِبَرِهَا وكِبَرِ حجمها الذي يفوق كل خيال لا ترى فيها تفاوت، لا ترى فيها شقوق، لا ترى فيها خلل، تمام الكمال في الخلق والإيجاد والحُسن والسَّمْت الجميل‫.‬ ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ والأرض التي يمشون عليها مددناها، وهذا لا يُنافي كروية الأرض، فلِعِظَم حجم الأرض لا تتضح الكروية للسائرين عليها ولكنها مُدّت وبُسِطت حتى يسهل عليك السير عليها، هذه الأرض كيف مُدَّت؟ ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ (الرواسي): الجبال، جَمْعُ راسية، لأن الجبل رسى و ثبت فهو لا يتحرك، هذه الجبال كيف وُجدت وكيف ثبتت وكيف رَسَت وكيف وُضعت بغير أوتاد؟ هذه الجبال مَنِ الذي وضعها؟ هذه الجبال بها رست الأرض، ولولا الجبال لمادت الأرض وماجت‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أنبتنا في هذه الأرض الميتة من كل صنف‫.‬ ﴿بَهِيجٍ﴾: حَسَن المنظر، (بَهُجَ) الشيء‫:‬ حَسُنَ، فهو بهيج حَسَن تستريح إليه الأعين وتَلَذُّ الأنظار إذا وقعت عليه، وانظر إلى النبات ألوانه، أشكاله، رائحته، الورود والزهور والرياحين، تَعَدُّد الأصناف، وتَعَدُّد الألوان، وتَعَدُّد الطعوم، وتَعَدُّد الروائح، حتى الفواكه؛ لكل فاكهة لون، ولكل فاكهة رائحة مميزة، روائح تفتح شهية الإنسان، روائح تثير فيك غريزة الجوع، روائح تجعلك تشتاق إليها، ولو كانت روائح هذه الثمار كريهة لعَافَها الإنسان، ولكن الله (تبارك وتعالى) جعل روائحها مختلفة حتى يتم التمييز بينها وبين بعضها، حتى ولو كان الإنسان أعمى لا يُبصِر لميّز نوع النبات أو الفاكهة من رائحتها، فميّز بينها بالأشكال، وميّز بينها بالطُّعوم، وميّز بينها بالروائح فلا يمكن أن تختلط على إنسان، فإن كان لا يشم ميّزها بعينه، وإن كان لا يشعر بالطعم ميزها بالرائحة، روائح وألوان تسر الناظرين‫.‬ ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ (تبصرة): أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى لكل عبد منيب‫.‬ إذا ً لا يتذكر ولا يستشعر قدرة الله (تبارك وتعالى) ولا يشعر بعظمة البارئ (سبحانه وتعالى) إلا كل عبد رَجَّاع إلى الله، تائب إلى الله، مُقِرّ بالألوهية والربوبية، دائما وأبدا ذاكراً الله (تبارك وتعالى) فيستبصر وتتفتح بصيرته ويعلم أن الله على كل شيء قدير، ويتذكر البعث ويتذكر الإحياء، ويرى الأرض ميتة فإذا بها تحيا، وإذا بالنبات يخرج، وإذا وإذا وإذا، كل ذلك يقربه من الله (تبارك وتعالى) ويذكره بالله (تبارك وتعالى) فهي تبصرة وذكرى لكل عبد استشعر لذة العبودية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿مُنيب﴾: راجع إلى الله بالاستسلام المطلق بالتسليم المطلق، بالإنابة، بالتوبة، بتفويض الأمور إليه، هذه النباتات والمخلوقات، والأرض وما فيها، والسماء وما إلى ذلك، كل ذلك جُعِل تبصرة وذكرى لكل عبد منيب رَجَّاع إلى الله‫.‬ ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا﴾ وأحسن وصف لهذا الماء هو كلمة ﴿مُباركاً﴾، لأن الماء النازل من السماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة له، الماء صفاته الثلاث المعلومة والمعهودة لكل الناس‫:‬ لا لون ولا طعم ولا رائحة، إذا أصبح له طعم تغيرّ، أو إذا أصبحت له رائحة إذاً فقد تعطن، فهو بغير لون وبغير طعم وبغير رائحة ومع ذلك به الحياة، إذاً فهو ماء مبارك، ذاك وصفه‫:‬ (مبارك)؛ كثير الخير ودائم الخير، والبركة‫:‬ دوام الخير ونماؤه وثباته‫.‬ ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾ و (السماء): السحاب، وقلنا إن (السماء): كل ما علاك فهو سماء، و (نزلنا من السماء) أي‫:‬ من السحاب، من جهة العلو ماءً مباركاً. ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ﴾ بهذا الماء عديم اللون وعديم الرائحة وعديم الطعم ﴿جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ و (الجنات): البساتين، فواكه وثمار وأشجار مختلفة متنوعة‫.‬ و (حَبّ الحصيد) أي‫:‬ الحَبّ الحصيد الذي من شأنه أن يُحصد، كالبُرّ (القمح) والشعير، كل ما يحصد، لا يُجتَنى كالثمار، بل يُحصد، ذاك الحَبّ الحصيد‫.‬ أصل الكلام‫:‬ (جنات والحَبّ الحصيد) حُذِفَت الألف وااللام وأضيف المنعوت إلى النعت إضافة بيان؛ لبيان أن الحَبّ المقصود هو الحَبّ الذي من شأنه أن يُحصَد كالقمح والأرز والشعير وما إلى ذلك بنفس الماء هو هو، والأرض هي هي، ويخرج من الأرض هي هي وبنفس الماء وبسببه جنات وحَبّ الحصيد، ثمار، وفواكه، والحلو والمر، هكذا‫.‬ ﴿وَالنَّخْلَ﴾ كذلك! من نفس الماء ومن نفس الأرض ينبت الحب قصير ويُحصَد، وينبت النخل طويل ويُصعَد إليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ قارن، تَأَمَّل، نفس الأرض ونفس الماء، يخرج من الأرض غصن وفرع قصير فيه الحب كالقمح فإذا بك تحصد، وبنفس الماء تخرج النخلة‫.‬ ﴿بَاسِقَاتٍ﴾: طُوال، بَسَقَ يبْسُقُ بُسُوقاً: طال واستقام، فتجد النخلة طويلة مرتفعة مستقيمة في طولها ليس فيها اعوجاج أو تعرّج‫.‬ ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ و (الطَّلْع): أول ما يطلع من النخلة، أَطْلَعَت النخلة طَلِعَ طَلْعُها، هذه النخلات الباسقات لها طلع نضيد‫:‬ مُرَكّب بعضه فوق بعض، مُنَظَّم إليه، كما لو كأن يَدَاً نَضَدَته، (نَضَد) الشيء ينضُدُه‫:‬ رَكَّبه ورَتَّبَه بعضه فوق بعض و (نَضَّدتُ) الشيء‫:‬ رَكَّبتُه بعضه فوق بعض، فكذلك ثمار النخل، والطَّلع حين يطلع تنظر إليه فإذا هو مرتَّب منسَّق، من الذي رتَّبه ونظَّمه؟ يدُ القدرة! ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ أي‫:‬ منضود مُرَكَّب ومُرَتَّب بعضه فوق بعض، دليل على كثرة الثمار، ليست ثمرة واحدة بل ثمار متعددة، عدد لا يُحصى من البلح كله في مكان واحد مُرتَّب ومُركَّب ومُنضَّد‫.‬ ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ كل ذلك! فواكه وجنات، وحَبّ الحصيد، والنخل باسقات، كل ذلك أعتدناه وأعددناه، ورزقناهم رزقا للعباد، وكان الله قادرا على أن يجعل لك رزقا واحدا كالبهائم تأكل صنفا واحدا، ولو قَدَّمتَ اللحم والبرسيم لأكلت البقرة البرسيم فقط، ولو خَيَّرتَها بين الفواكه وبين البرسيم لاختارت البرسيم، فهي لا تأكل إلا صنفا واحدا من الطعام، أما أنت فإذا فَكّرتَ يوماً أن تَعُدَّ أصناف الطعام والله ما قدرت على ذلك! أصناف الطعام من حلو و فواكه، من جميع الأنواع والأصناف، حتى الخضروات بطرق وأساليب متعددة، لا عَدّ ولا حصر لأصناف الطعام التي يأكلها الإنسان، كل ذلك من ماء واحد؛ الماء المبارك، نعم حقا إنه مبارك! والذي بَرّك عليه وجعله مباركاً هو الله (تبارك وتعالى).‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً﴾ بالماء الذي فعل كل ذلك ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ اللفظ مُذكّر على اعتبار المكان، والمكان مُذكّر‫.‬ جاز قول (بلدة ميتة) لكنها ليست قراءة، من حيث اللغة‫.‬ أنظر إلى الأرض ميتة لا حركة فيها ولا نمو ولا شيء، وينزل الماء من السماء، وفجأة تخضّر وتهتز، وفجأة يخرج منها الأحمر والأصفر والأخضر والأرزق، زهور وورود وفواكه وحبوب، أنواع لا عَدَّ لها ولا حصر، بنفس الماء أحيينا به بلدة ميتاً. ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ أين العجب من البعث؟ ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾: كذلك خروج الناس يوم القيامة حين البعث، فكما أنبتنا من هذه الأرض الميتة النبات بالماء المبارك، كذلك يقدر الله (تبارك وتعالى) أن ينزل من السماء ماءً مباركاً على الأرض فتنبت الأجساد كما تنبت الأشجار، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول‫:‬ "كل ابن ادم يأكله التراب إلا عَجْبَ الذنب"، آخر فقرة في العمود الفقري في ظهر الإنسان حيث موضع الذيل للحيوانات والبهائم، "منه خُلِق وفيه يُرَكَّب."‬‬‬‬
‫من المعلوم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، ولا تأكل أجساد الشهداء، ولا تأكل أجساد الأولياء، وربنا (تبارك وتعالى) الملك المهيمن القادر على كل شيء، الخالق للسُّنن يبطلها وقتما شاء ويجريها وقتما يشاء، وقد تَعَجَّب رجل من قرية هَلَكَت و (أنّى يحي الله هذه بعد موتها) فأراه الله كيف يُبطِل السُّنن ويُجريها في وقت واحد وفي مكان واحد، فنظر إلى طعامه فوجده لم يَتَسَنَّه، الماء لازال عذبا بحلاوته بسلاسته، والطعام لا زال كما هو لم يتغير، ونظر إلى الحمار الذي كان يركبه فوجده عظاما، هذا جرت عليه السُّنّة ومَرَّت عليه السنون ومات وأصبح عظاما وترابا، والطعام لم يتغير‫.‬ كما فعل مع النار؛ فالنار تحرق، وحين أَمَرها‫:‬ (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) لم تحرق النار إلا القيْد الذي قُيِّد به، أما الجسد الشريف فلم تمسسه النار بسوء، نفس النار في نفس المكان! وكذلك فعل مع أهل الكهف؛ أنامهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، هم أحياء وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، والدنيا من حولهم تمر والأيام تمضي، وأناس تموت وأناس تحيى وتولد، وهكذا، ووقف الزمان بالنسبة لهم، هو الله هو الله! فكذلك أَمَرَ الله (تبارك وتعالى) التراب وأَمَرَ الأرض أن يأكل ابن آدم كله ماعدا عجب الذنب، وهو أول شيء يتجمع في الرحم؛ نطفة، عَلَقة، عظاماً، إذ الإنسان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يجعل ربنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً، هذه العظام هي عَجَبُ الذَنَبُ، منه يخرج الإنسان، يخرج العمود الفقري وتخرج الأعضاء ثم تُكسى هذه العظام باللحم، وكُلُّه يؤكل، تأكله الأرض ويأكله التراب، ويبقى عجب الذنب حتى إذا أراد الله بعث الناس أنزل من السماء ماءً فإذا بالناس ينبتون من عجب الذنب كما تنبت الأشجار، ويخرجون حيث يُعرضون على الله الواحد القهار‫.‬‬‬‬‬‬
‫وتأتي التسرية والتسلية للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)؛ إن كان قومك كذبوك فقد كَذَّب الذين من قبلهم، وإن كنت جئت بأمر عجبوا منه فقد جاء به الرسل من قبلك، ألا وهو الإنذار بالبعث، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿12﴾ وَعَادٌۭ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَٰنُ لُوطٍۢ ﴿13﴾ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍۢ ۚ كُلٌّۭ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿14﴾
الكلام فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وفيه تهديد شديد ووعيد لكفار مكة‫.‬ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وكلنا يعرف نوح وقصته مع قومه، قصصناها وقُصَّت علينا من قبل‫.‬ ﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ (الرَّسّ): اسم لبئر، والبئر كانت في أرض مجاورة لأرض ثمود، وكان حول هذه البئر قومٌ كفروا بنبيهم و رَسُّوه في البئر، أي دسُّوه في البئر فقتلوه، هؤلاء هم أصحاب الرَّسّ. ﴿وَثَمُودُ﴾ كلكم يعرف ثمود، وكيف فعل معهم صالح، وكيف جاءهم بالناقة‫.‬ ﴿وَعَادٌ﴾ وكيف جاءهم هود بالبينات‫.‬ ﴿وَفِرْعَوْنُ﴾ أي‫:‬ فرعون وقومه وكيف كانت عاقبتهم‫.‬ ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ وجاء في شأن لوط وقال‫:‬ (إخوان لوط) لأن قوم لوط كانوا أصهاره‫.‬ ﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ الأيكة‫:‬ الغَيضة التي تنبت ناعم الشجر، الجنة العظيمة، وأُرسِلَ إليهم شعيب صاحب مدين، هؤلاء أصحاب الأيكة‫.‬ ﴿وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾ وتُبّع كما قلنا من قبل وشرحنا في سورة الحجر وفي سورة هود وفي سورة الدخان، ﴿تُبَّع﴾: لقب لكل من مَلَكَ اليمن، كفرعون لقب لكل من مَلَكَ مصر، وقيصر لقب لكل من مَلَك الروم، وكسرى لقب لكل من مَلَك الفرس، والنجاشي لقب لكل من مَلَك الحبشة، فهي ألقاب، ﴿تُبَّع﴾: رجل صالح في أرجح الأقوال، أو نبي، أرجح الأقوال أنه كان رجل صالح مؤمن وكَفَرَ قومُه، ذاك هو تُبَّع وكان باليمن وكفر قومه‫.‬ ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ كل هؤلاء كذّبوا الرسل كما كذّبك قومك يا محمد، الكلام تسلية للنبي، وتهديد ووعيد للكفار أن يحدث لهم كما حدث لهؤلاء الكفار الذين قصصنا عليكم قصصهم‫.‬ ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي‫:‬ وعيدي، أي وجب الوعيد، التوعد الذي توعدهم الله به وحَذَّرهم، كما حُذِّرَت ثمود حَذَّرَهم صالح، وحُذِّرت عاد حَذَّرَهم هود، وحُذِّرَ فرعون حَذَّرَه موسى‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ لأنهم كذّبوا الرسل فَحَقَّ عليهم وعيد الله، وَجَبَ وتحقق ونزل عليهم العذاب‫.‬
ثم يأتي السؤال سؤال تقريري يُبَيِّن ويُدَلِّل لهؤلاء المتشككين أن من قَدَرَ على الإنشاء قدر على الإعادة بعد الإفناء، فيقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍۢ مِّنْ خَلْقٍۢ جَدِيدٍۢ ﴿15﴾
‫(عَيِىَ) بالأمر‫:‬ عَجَزَ عنه وانتهت حيلته فيه‫.‬ (عَيِىَ) بالأمر أو (عَيَّ) بالأمر، وجاءت وشُرِحَت في آخر سورة الأحقاف‫.‬ ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ أفعجزنا عن الخلق الأول؟ في البداية كان الله ولم يكن شيء غيره! وكان عرشه على الماء حين خَلَق الخلْق الأول، هل عجز عنه؟ أبداً! حتى الكفار يقرون بأنه خلقهم وخلق السموات والأرض هاهي السموات وهاهي الأرض وهاهي الناس هل عجز أم خلق؟ خلق وقدر وحكم وعدل (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ وليس هناك رد لأن السؤال سؤال لا يحتاج إلى جواب، السؤال تقريري، قَرَّرَهم فأقروا بخلق الله لهم، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٨٧]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة العنكبوت آية‫:‬ ٦١]، إذا ًفقد أقروا بالخلق الأول لِمَ أنكروا الخلق الثاني؟ ولِمَ أنكروا البعث وهو أهون من الابتداء في عقولنا وعلى حساب تقديرنا؟ الابتداء أصعب من الإعادة والإعادة أسهل، ومن قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء، لذا يقول‫:‬ ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ إذاً فالأمر ليس تعجيزاً لله أو انتقاصا لقدرة الله، بل هم في شك، لَبَس عليه الأمر يَلبِسَه‫:‬ اختلط، خَلَط عليه الأمر فلا يدري أمامه من خلفه، يمينه من شماله، اختلطت عليه الأمور فهو في حيرة وفي شك وفي تردد لا يدري أين يتوجه (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) إذاً الأمر هم في شكٍ من خلق جديد؛ وهو الإعادة وهو البعث، كيف يأتي الشك في قدرة الله على الإعادة وقد أقررتم بقدرته على الابتداء؟ أيّها أهون وأيها أسهل؟ الاعادة أم الابتداء؟ الاعادة أسهل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ربنا (تبارك وتعالى) ليس لديه سهل وعسير أو قليل وكثير، خَلْقُ نملة كإيجاد أُمّة، وخَلْقُ إنسان كإيجاد كافة الأكوان، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
إن الآيات من سورة ق تبين للناس قدرة الله (تبارك وتعالى) على البعث وعلى الإعادة، وقد زعم الكفار أن الله (تبارك وتعالى) لا يقدر على الإعادة، وكيف يُبعثون وقد أصبحت أجسادهم ترابا ً يذروه الرياح‫.‬ وأَعْلَمَنَا ربُّنا (تبارك وتعالى) أنه يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات، وأن عِلمَه (سبحانه وتعالى) أحاط بتفاصيل الأشياء، وما من شيء يؤكل من أجساد الأموات إلا والله يعلمه؛ ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ بل وعنده (سبحانه وتعالى) كتاب حفيظ‫.‬ يُبَيِّن ربنا (تبارك وتعالى) قُربَه من الإنسان وأنه حين خلقه لم يهمله، بل بين البدء وبين الإعادة عِلْمُ الله وهيمنة الله وتدبير وتصريف الله (تبارك وتعالى) لكل الأمور، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِۦ نَفْسُهُۥ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ﴿16﴾
طالما كان هو الخالق فلابد وأنه خَلَق بعِلْم، وطالما خَلَق بعِلْم إذا ً فقد خلق الإنسان وفقا لإرادته لما طُلِبَ منه، عالماً به في كل حركة وسكون حتى إذا حاسبه حاسبه بعلم‫.‬ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ (الوسوسة): الصوت الخفي، (الوسوسة) هي خواطر النفس وهواجس الضمير وما تحدثك به نفسك ولا يسمعها غيرك، ربنا (تبارك وتعالى) يرى خفايا الوهم والتفكير ويسمع هواجس الضمير‫.‬ ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (الحبل): العرق، (حبل الوريد) إضافة بيان، فالحبل هو الوريد، والوريد المذكور في هذه الآية هو الوريد الموجود في صفحة العنق، وللإنسان وريدان يكتنفان صفحة العنق من الأمام ثم يتصلان بالوتين وهو عرق القلب‫.‬ ربنا (تبارك وتعالى) يمثل لنا قُربَ العِلم وقُربَ القدرة، ليس القرب قرب مكان، فالذات العليّة لا يحويها مكان ولا يحدها زمان‫.‬ ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ﴾ أي بالعلم، وأقرب إليه بالقدرة، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو في باطن عنقه، هذا الحبل الذي يَرِدُهُ الدم والمتصل بالقلب وكأن عِلْم الرب أقرب إليك من علم القلب! إذاً فهذا الوريد الذي به الحياة وبانقطاعه تنقطع الحياة، الله أقدر عليك من حبل وريدك، وأعلم بما توسوس به نفسك من حبل وريدك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌۭ ﴿17﴾ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌۭ ﴿18﴾
‫﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ أي‫:‬ حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، وكأن الله (تبارك وتعالى) يبين لنا أن علمه بالإنسان، وبظاهره وباطنه وجهره وسره وحركته وسكونه وحتى الوساوس والخواطر، ذاك العلم يُغني عن وجود الكتبة والحفظة، فهو أعلم به منهما وأحفظ له منهما وأقرب إليه منهما حين يتلقيان، أي‫:‬ نحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يلفظ من قول، وطالما كان الله عالما بالإنسان وهو أعلم به من الحفظة والكتبة، بل هو أقرب إليه منهما ومن حبل وريده، فلِمَ خَلَقَ هذين المَلَكين ولِمَ أَمَرهما بمراقبة العبد وإحصاء لفظه وفعله؟ فَعَلَ ربُّنا ذلك لتكون حُجَّةُ الله بالغة على عباده‫.‬ هذان الملَكان اللَّذَين أوكلهما الله (تبارك وتعالى) بالعبد معهما كتاب مختوم، ينزلان على العبد ملكان بالنهار وملكان بالليل يتعاقبان، مَلَك عن اليمين كاتب الحسنات، ومَلَك عن اليسار كاتب السيئات، ومع الملائكة كتابا مختوما جاءوا به، فإذا أحصوا على العبد ما فعل وما تكلم به كتبا ذلك، وقبل أن يصعدا بما كتبا وحَفِظَا يأمر أحدهما الآخر أن يفتح الكتاب المختوم الذي سُلِّمَ لهما في الملإ الأعلى، فإذا فتح الكتاب المختوم وجده قد نص على كل ما كتباه! ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ (التلقِّي): التَلَقُّن، يتلقى المتلقيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فقال عن اليمين وعن الشمال قعيد اكتفى بذكر الثانية وحذف الأولى‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫أو كلمة (قعيد) تنفع للمفرد وللمثنى وللجمع، فكل ما جاء على وزن فعول و فعيل يصلح للمفرد والمثنى والجمع، كقول الله (تبارك وتعالى) في شأن موسى وهارون ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٤٣]،يقول الله في قولهما لفرعون‫:‬ ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الشعراء آية‫:‬ ١٦]، وفي مواضع أخرى ﴿رَسُولَا﴾ [سورة طه آية‫:‬ ٤٧] وكلمة (رسول) أفادت عن الاثنين، وكقوله (تبارك وتعالى) في شأن حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [سورة التحريم آية‫:‬ ٤]. إذا ً فكلمة (قعيد) على وزن فعيل قد تُستخدم للمثنى والمفرد والجمع، فإما عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد‫.‬ وقعيد كجليس، أي مُجالِس، كأكيل مُؤاكِل، ونديم مُنادِم‫.‬ أو قعيد كسميع وعليم، أي قاعد وكسامع وعالم‫.‬ وليست كلمة قعيد المقصودة بما هو ضد قائم، أي قاعد بمعنى جالس، أبداً! وإنما قعيد هنا بمعنى حاضر وملازم وثابت لا ينفك عن العبد ولا يتركه أبدا، ً قعيد ملازم له ثابت حاضر معه في كل آن وحين‫.‬ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ جاء بتعبير ﴿يَلْفِظ﴾ واللفظ يستخدم أصلا في إخراج الطعام من الفم، يلفظ الإنسان بالطعام الممجوج أو المرّ يلفظه من فمه، فما يلفظ من قول كما يلفظ الطعام، وكأن القول الملفوظ به يُشعِر بهذا أنه كُلَّما كُتِمَ القول كلما كان أفضل، وأن القول الملفوظ قد يكون كالأكل الفاسد، فاحترس من كلامك وقولك! ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (الرقيب): هو العتيد و (العتيد): هو الرقيب، رقيب عتيد وصفان لَمَلَكٍ واحد، فكل مَلَك من الملكيْن عن اليمين وعن الشمال قعيد هو رقيب وهو عتيد، (الرقيب): المتَّبِع للأمور، (الرقيب): الحافظ، (الرقيب): الشاهد، (الرقيب): الذي لا يفوته لمحة ولا خطرة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(العتيد): المهَيَّأ الحاضر، عَتُدَ الشيء هو عتيد‫:‬ تجهّز وتهيأ، وعَتَّده تَعتيداً: هيأه وأعَدَّه، وأَعْتَدَه إعتاداً: هيأه وجهزه لشيء، من قول الله (تبارك وتعالى) في شأن امرأة العزيز‫:‬ ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ٣١]، الرقيب العتيد إذا ً فهو مَلَك مهيأ لهذا مخلوق من أجل ذلك، أَعَدَّه الله وهيأه للتدوين وللرقابة وللحفظ وللشهادة على العبد‫.‬ الملَكان الموكَّلان بالعبد اللَّذان يحصيان على العبد أنفاسه، تُرى ماذا يكتبون؟ قالوا‫:‬ يكتبون كل شيء، ما يلفظ من قول حتى التأوه والأنين في مرضه مكتوب مسطور‫.‬ وقالوا‫:‬ بل يكتبون فقط ما يؤجر عليه أو يؤزر عليه، يكتبون فقط ما فيه ثواب وعقاب‫.‬ وقال فريق ثالث وهو أرجح الأقوال‫:‬ إن الملَكين يكتبان كل شيء حتى النَّفَس، حتى الأنين، حتى التأوّه، فإذا انتهى النهار وانتهت الكتابة وانتهت نوبتهما وصعدا بالكتاب مسطور فيه كل شيء، مُحِيَ منه ما كان مباحا، مُحِيَ منه ما ليس فيه ثواب ولا عقاب وأُبقِيَ على ما فيه ثواب أو عقاب‫.‬ ويُروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال‫:‬ "ما من حافظين يصعدان إلى الله (تبارك وتعالى) بصحيفة عبد فيرى الله في أولها خيرا وآخرها خيرا إلا قال الله (تبارك تعالى) لملائكته‫:‬ اشهدوا أني قد غفرتُ لعبدي ما بين طرفي الصحيفة". من هنا يحرص العبد على أن يبدأ يومه بخير وأن يختم يومه بخير، من هنا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قام من أول اليوم افتُتِحَ اليوم بالذكر وبالصلاة (أصبحنا وأصبح الملك لله)، وإذا خُتِمَ كذلك بالصلاة، لذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يَكرهُ النوم قبل صلاة العشاء ويَكرهُ الحديث الذي لا طائل وراءه بعدها، فكلما حرص العبد على أن يبدأ يومه حين يستيقظ بذكر الله، وإذا حرص على أن يختم يومه بالاستغفار وذكر الله ضَمِنَ أن يُغفر له ما بين ذلك من هفوات وخطرات وسيئات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكاتب الحسنات على اليمين وكاتب السيئات على الشمال، فإذا عمل العبد حسنة كتبها صاحبُ اليمين عشراً، فإذا عمل العبد سيئة قال كاتبُ اليمين لكاتبِ الشمال، لأن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات الحسنة بعشرة أمثالها، وكاتب السيئات على الشمال لا يكتب إلا السيئة والسيئة بسيئة، وصاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل الحسنة كُتِبَت فوراً بعشر حسنات، فإذا عمل سيئة قال صاحبُ اليمين لصاحب الشمال‫:‬ دَعْه سبعَ ساعات ولا تكتبها لَعَلَّه يُسَبِّح أو يستغفر، نعم! وَرَدَ ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال‫:‬ "إنَّ الله (تبارك وتعالى) وَكَّلَ بالعبد مَلَكين عن اليمين وعن الشمال وصاحب اليمين أمين على صاحب الشمال فإذا عمل العبد حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال‫:‬ لا تكتبها ودَعْهُ سبعَ ساعات لَعَلَّه يُسَبِّح أو يستغفر). و قد وَرَدَ أيضا في الخبر أن العبد يلازمه الملكان طوال حياته يحصيان ويكتبان، وإن كان العبد صالحا أُجِّل وأُلْهِمَ التسبيح وأُلْهِمَ الاستغفار فلا تكتب عليه السيئات، وإذا مات العبد انتهى عمل الملكين وطَوِيا الصحائف وقالا يا رب مات عبدك فلان فَأْذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله‫:‬ سماواتي مملوءة من ملائكتي يسبحوني، فيقول الملكان يا رب فأذن لنا أن نبقى في الأرض، فيقول الله‫:‬ أرضي مملوءة بخلقي الذين يسبحوني ويُهَلِّلوني، فيقول الملكان يا رب فأين نكون؟ فيقول الله (تبارك وتعالى): كونا على قبر عبدي فَسَبِّحاني وهَلِّلاني وكَبِّراني واكتبا ذلك في صحيفة عبدي، فإذا جاء يوم البعث جاء المَلَكان و أنشطا كتابا في عُنُق العبد، فإذا بُعِثَ العبد قيل له‫:‬ ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [سورة الإسراء آية‫:‬ ١٤] نعم! ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد!‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ٱلْمَوْتِ بِٱلْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿19﴾
‫(السَّكرة): واحدة السَّكَرات، و (السَّكرة): الشِّدَّة، (سكرة الموت): شِدَّته وغَمُّه وزَمْتَتُه، وقد قيل إن الموت أشد من ضربات السيوف وقرض المقاريض‫.‬ (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) شدة الموت (بِالْحَقِّ) بالأمر الحق، حيث يُعايِنُ الميت قبل أن يموت الثواب والعقاب، حيث يعاين الميت مقعد الجنة ومقعد النار، (بِالْحَقِّ) بالوعد الحق‫.‬ أو ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ الذي هو انتقال الميت إلى دار الحق‫.‬ أو جاءت سكرة الموت بالحق أي بالموت، لأن الموت حق‫.‬ أو جاءت سكرة الموت بالحق أي جاءت سكرة الموت بالموت فلا مهرب ولا منجى ولا محيص‫.‬ ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ حَادَ يحِيدُ حُيودا وحَيْدة وحَيدودة‫:‬ مَالَ وتَنَحّى﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أي‫:‬ ذلك ما كنت منه تفر وتميل وتهرب وتبعد، وسكرة الموت تصيب الصالح والطالح، وليس الألم حال الموت دليلا على عمل العبد أو صلاحه أو فسقه، فقد عانى سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) من سكرات الموت كما تروي لنا عائشة (رضي الله عنها): (كان بين يَدَي النبي رِكوة أو عُلبة فيها ماء فأخذ يُدخِلُ يديه في الماء وأخذ يمسح بها وجهه ويقول‫:‬ "لا إله إلا الله أَلَا إن للموت سكرات" ثم نَصَب يده فجعل يقول‫:‬ "في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى" حتى قُبِضَ وسَقَطَت يده) فإذا كان سيد الخلائق أجمعين وأَحَبُّ الناس إلى الله (تبارك وتعالى) على الإطلاق قد عانى من سكرة الموت وقال إن للموت سكرات، فما يعانيه العبد من مشقة حال الموت لا يعني أن الله غير راضٍ عنه‫.‬ ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ يقال له ذلك، أو كأنه يقال له ذلك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾: تفر وتهرب وتبعد وتُبعِدُهُ عن خاطرك، فكم مَرَّ بخاطر الناس فصرفوه عن خواطرهم لأن الإنسان إذا تذكر الموت عَمِلَ لما بعد الموت وصُدَّت نفسه عن المعاصي وعن الدنيا، وكي يستمتع الإنسان بما لديه وبما خوّله الله يصرف الموت عن فكره ويصرف الموت عن خاطره، فيميل ويحيد عن الموت بشتى الوسائل حتى عن التذكر له، يحيد عنه ويلهّي نفسه بأمور حتى لا يظل ذاكرا للموت فتُصَدُّ نفسه ولا يجد المتعة في المحسوسات التي أَلِفَها وتعود عليها‫.‬ أو تكون الكلمة للكافر فقط، لكن العلماء قالوا إن الكلام لكل إنسان‫:‬ ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ فما من إنسان إلا ويحيد عن الموت، يفر منه ويهرب منه‫.‬‬‬‬‬‬
وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ ﴿20﴾ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّعَهَا سَآئِقٌۭ وَشَهِيدٌۭ ﴿21﴾ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌۭ ﴿22﴾
‫﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ والصور كما قلنا من قبل قَرْن، بوق من نور، يَنفُخ فيه مَلَك يُسَمَّى إسرافيل يَنْفُخُ نفختين‫:‬ نفخة الإماتة، ونفخة البعث‫.‬ ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ تلك النفخة الثانية؛ نفخة الإعادة نفخة البعث‫.‬ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ أي‫:‬ ذلك اليوم الذي يتحقق فيه الوعيد الذي أوعد الله به عباده، ذلك اليوم الذي يتحقق فيه الوعد للصالحين والوعيد للكفار‫.‬ وبين الموت وبين نفخة الصور أمور وأمور، فبين الموت وبين نفخة الإعادة قرون وقرون، تُرى ماذا يفعل العبد في هذه الفترة؟ هل يموت ولا يدري ولا يشعر وفجأة يُبعث وقد مضت قرون وقرون؟ أم أن العبد يشعر؟ لابد وأن العبد يشعر! حيث أنبأنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: "إنَّ القبر إما حفرة من حفر النار وإما روضة من رياض الجنة" وإذا دُفِنَ العبد واجتاز الامتحان والسؤال بنجاح عُرِضَ عليه مقعده من الجنة وقيل له هذا مقعدك من الجنة انظر إليه حتى يبعثك الله إليه، فإذا نظر إلى مقعده من الجنة ذَهِلَ عن كل شيء وتوقف الزمان، فما هي إلا لحظات وإذا به قد بُعث لدخول الجنة‫.‬ وأما الآخر والعياذ بالله فهو في ألم وفي عذاب، وكما قال ربنا (تبارك وتعالى) في شأن فرعون‫:‬ ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٤٦] نعم! ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد‫.‬ ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (السائق): مَلَك يسوقها، و (الشهيد): جوارحها‫.‬ (السائق): القرين من الشياطين، والكلام عن النفس الأمارة وعن الإنسان السيئ، و (الشهيد): هو العمل‫.‬ كل نفس معها سائق وشهيد مَلَكان؛ مَلَك يسوقها ومَلَك يشهد عليها، أهما الحافظان الكاتبان؟ أهما الرقيبان العتيدان؟ (كل نفس) ولم يستثنِ، وجاءت كل نفس معها سائق يسوقها حيث موضع السؤال، وشهيد حيث يشهد عليها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتخيل نفسك قد أصبحت في الصباح، أو استيقظت في منتصف الليل، على قَرْعٍ على بابك، وفوجئت بهذا القرع فقمت مذعورا من نومك وفتحت، فإذا برجلين أشداء من رجال الشرطة وإذا بهما يطلبان أن تصحبهما إلى حيث لا تدري والقيود في أيديها، هاهما يأخذان ذلك الرجل يسوقانه إلى المخفر أو إلى القاضي أو إلى مكان مظلم بعيد، كيف يكون الحال والناس من حولك خائفون ولا أحد يجرؤ أن يتكلم وإلا أُخِذَ معك، وها أنت تجلس في مكان ورجل يجلس أمامك يسلط عليك الأضواء، واستجواب وسؤال عاقبته السجن أو النفي أو التشريد أو القتل والإعدام، كيف يكون الحال في هذا الوقت؟ مهما كان العبد مؤمنا، أقصى ما يأمل فيه رحمة الله، الأمل في الله، العدالة يوم القيامة أن يحدث شيء، هو أيضاً في أمل، في رجاء، وإذا افتقد الأمل والرجاء، كهؤلاء الذين استُشْهِدوا في السجون نتيجة لظلم الحاكم في يوم من الأيام أو في زمن من الأزمان كانت عندهم السكينة والأمل في لقاء الله، أما يوم القيامة فالسائق والشهيد لا يرتشيان، والسائق والشهيد لا يموتان، والسائق والشهيد يأتمران بأمر الملِك، هو الله! وليس بعد ذلك من أمل أو نجاة أو حياة أخرى، بل هو خلود في الجنة أو خلود في النار‫.‬ والاستيقاظ هنا ليس استيقاظاً من نوم بل قَومَةٌ من قبر، بعثٌ من موت‫.‬ ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ والكلام للإنسان، وقُرِأَت‫:‬ ﴿لقد كنتِ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنكِ غطاءكِ فبصركِ اليوم حديد﴾ والكلام للنفس‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫هل الإنسان كان في غفلة؟ وهل يُقال هذا لكل إنسان صالحاً كان أم عاصياً، طائعاً كان أم فاسقاً؟ نعتقد والله أعلم أن الكلام يقال لمن كانوا في غفلة عن الموت وعن البعث وعن يوم القيامة، هؤلاء الذين انهمكوا في الشهوات، هؤلاء الذين أَلِفوا التمتع بالمحسوسات، هؤلاء الذين أَخَذَتهم الدنيا وذَهَبَت بهم كل مَذهَب، فهم لا يتذكرون الموت ولا يتوقعون العَرْض ولا ينتظرون ثوابا ولا عقابا، بل هؤلاء يظنون أنهم مُخَلَّدون، يتصرفون في هذه الدنيا وتراهم يظلمون ويأكلون أموال الناس بالباطل ويكذبون ويغتابون ويستهزئون من المؤمنين، ولا يُبالون بحلال أو بحرام أو بطاعة أو بعصيان، بل تجد المرء منهم يفخر بمعصيته ويجاهر بذنبه ويحض غيره علي ذلك، هؤلاء هم في غفلة‫.‬ أما المصَلُّون الذين هم على صلاتهم دائمون، هؤلاء المتذكرون للموت المتفكرون في خلق الله الناطقون بلسان التوحيد الهاتفون لا إله إلا أنت سبحانك ما خلقت هذا باطلاً فقنا عذاب النار، هؤلاء ليسوا في غفلة، هؤلاء الذين إذا استيقظوا ما انتظروا المساء وإذا أمسوا ما انتظروا الصباح، هؤلاء ما خَطَوْا خطوة وظنوا أنهم يُتبِعوها غيرها، أولئك هم الآمنون، أولئك هم المطمئنون، أولئك الذين يجعل الله لهم يوم القيامة وُدَّا، ً هؤلاء تحت العرش مستظلون مجتمعون على حوض المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ما كانوا في غفلة‫.‬ أمَّا من كانوا في غفلة فهم المستحقون لهذه المقالة‫.‬ ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾ (الغطاء): الحاجب الذي يحجب العبد عن الشيء، ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾: غطاء الغفلة، غطاء الشهوة، غطاء النفس الأمارة، أنا وأنا وأنا، غطاء الدنيا‫.‬ ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ قوي نافذ يرى ما لم يكن يراه‫.‬ (حديد الفهم)، (حديد الذكاء)، (حديد البصر): قَوِيُّه نافِذُه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(البصر): عيْن القلب، البصيرة التي ترى الأمور على حقيقتها، ترى الأمور وقد تركها الزِّيف، فالدنيا زِيف وزخرف، إي وربي! ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٧] والزينة تداري الحقيقة، الزينة تخفي الحقيقة، الزينة تُقام ثم تُفَضّ، الزينة دِهَان، الزينة مظهر خارجي يخفي حقيقة الأمر، بل توعّد الشيطان وقال‫:‬ ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الحجر آية‫:‬ ٣٩] فالناس في الدنيا يرون الأشياء على ظواهرها ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٧] حين البعث يُكشف الغطاء فتُرى الأمور على حقيقتها، ذاك الذي فرح بالمال يجد أن المال لا طائل وراءه ولا فائدة منه فيصرخ ويقول‫:‬ ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٢٨]، أصحاب السلطان يصرخون ويقولون‫:‬ ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ٢٩]، فالكل عَبْد والكل سواء، والملِكُ هو الله! بل هذا الذي ارتشى من أجل امرأته، وارتشى من أجل عياله، وأَكَلَ الحرام وتَوَسَّع في الحرام، ذاك يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، بل تنادي الأم على ولدها يا بُنَيّ ألم يكن صدري لك غذاءً وبطني لك وعاءً وحِجْري لك وِطاءً؟ فيقول بلى يا أمي، فتقول احمل عني اليوم شيئا، فيصرخ ويقول إليكِ عني فإني بشأني عن شأنِكِ مشغول‫.‬ ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (البصيرة أو البصر): العين، رؤية عين فيعاين العبدُ الجنة والنار ويعاين حقائق الأشياء، بصرك اليوم حديد، فإن كان مؤمنا فبصره معه ثابت دائم خالد، كي يرى بالبصر الخالد وجه الله الخالد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وإن كان من الكفار فبصره حديد يرى الحقائق ويرى الثواب والعقاب، ثم يزرقّ، ثم يعمى فيصرخ ويقول‫:‬ ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [سورة طه آية‫:‬ ١٢٥] فيُقال له‫:‬ ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [سورة طه آية‫:‬ ١٢٦]. ويأتي الخصام، وتأتي الفضائح، ويأتي التَّخَلِّي، وتنقلب الأحباب إلى الأعداء، وينقلب الحُبُّ إلى عداوة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَقَالَ قَرِينُهُۥ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ﴿23﴾ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍۢ ﴿24﴾ مَّنَّاعٍۢ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍۢ مُّرِيبٍ ﴿25﴾ ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ ﴿26﴾
‫﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ من الشياطين الذي وسوس إليه، الذي دعاه إلى المعاصي فاستجاب، هاهو ذاك الشيطان يقول‫:‬ ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ﴾ هاهو إنسان ﴿عَتِيدٌ﴾: جاهز مُهَيَّأ لجهنم، هُيِّئ وأُعِدّ وجُهِّز لجهنم‫.‬ أو القرين هنا الملك السائق والشهيد، جاء به وقال‫:‬ رب هذا ما لدي عتيد، لقد جئتُ به وبعمله وبصحيفة حسناته وسيئاته، فالقرين إما المَلَكْ، وقيل مَلَك السيئات الذي يكتب السيئات، وقيل القرين الشيطان‫.‬ فيأتي النداء من العليِّ الأعلى‫:‬ ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ لا يؤذن لهم فيعتذرون ولا هم يُستَعْتَبون‫.‬ ﴿كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (كَفَّار): شديد الكفر دائم على كفره، مُصِرٌّ عليه عَنيدٌ مُعانِد، و (العنيد): الذي يخالف الحق وهو يعلم أنه حق‫.‬ عَنَدَ يَعنُدُ فهو عَنيد وهو عانِد‫.‬ ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ مخالف للحق، مخالف للقرآن، مخالف للسنّة وهو يعلم أن القرآن حق‫.‬ ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾ مَنَّاع للخير، لا يأتي الخيرَ بل ويمنع غيرَه عن الخير، كالذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، والذين لم يُسلِموا ونَهَوا الناس عن الإسلام، هؤلاء الذين صدوا غيرهم عن سبيل الله كفروا وكَفَّروا غيرهم، عصَوا ودعوا غيرهم إلى المعصية، عصوا الله وهيئوا المعاصي إلى غيرهم وزينوا لهم، هؤلاء دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها‫.‬ (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) مانع للزكاة، مانع للصدقات، مانع للحج، مانع لكل خير، مانع لغيره عن الإتيان بكل خير‫.‬ ﴿مُعْتَدٍ﴾ أي متعدي الحدود، عدوانٌ في كل شيء، يتعدى الحد ويعتدي على الحرمات ويعتدي على الدين ويعتدي على غيره‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿مُرِيبٍ﴾ متشكك في البعث، (أَرَابَ) الرجل فهو (مُريب): أتى بالرِّيبة، و (الرِّيبة): الشك فيه التُّهمة، الفرق بين الرِّيبة والشك أنَّك قد تشك في الأمر، والشك يستوي لديك طرفي الأمر، فأنت تشك‫:‬ فَعلَ أو لم يفعل؟ ولا تُرَجِّح أَحَدَ الأمرين على الآخر، ذاك هو الشك‫.‬ أما الرِّيبة فهو شك فيه تهمة، فأنت تشك في فلان أنه قد سرق مالك لكن الشك لا يصل بك إلى اليقين، بل أنت لا تُرَجِّح؛ قد وقد لا، أما الريبة فهو شك فيه تهمة‫.‬ ﴿مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾ متشكك في البعث مُتَّهِم قدرةَ الله، ذاك هو المعتدي المريب‫.‬ ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ تَبَيَّن أن الكلام للكافر والحمد لله! المشركون عبدة الأصنام، ومَنْ قالوا إن المسيح هو الله، ومن قالوا إن عُزَير ابن الله وهكذا‫.‬ ﴿فَأَلْقِيَاهُ﴾ تأكيد ﴿فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾. في الآية يُلاحَظ قول الله‫:‬ (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) الجواب (فَأَلْقِيَاهُ) الخطاب بالتثنية، فقيل‫:‬ إن في اللغة العربية التثنية في الخطاب، وهي من فصاحة اللغة، (ألقيا) والكلام لواحد‫.‬ وقيل‫:‬ بل التثنية في الأمر تفيد التثنية في الفعل، بمعنى‫:‬ أَلْقِ أَلْقِ، على سبيل الطرد فكُرِّرَ اللفظ (أَلْقِ أَلْقِ) في جهنم ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ فبدلاً من أن يقول‫:‬ (ألق ألق) قال‫:‬ (ألقيا)، دليل على تثنية الفعل‫.‬ وقيل‫:‬ بل التثنية (ألقيا) الكلام لخزنة جهنم‫:‬ خازنان، أو الكلام للسائق والشهيد‫:‬ ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، تصويرٌ ليوم القيامة، ويوم القيامة آتٍ لا محالة، تصويرٌ لنفخة يسمعها كل من في السموات والأرض، تصويرٌ لقيامٍ مِنَ القبور كالقيام من النوم، نعم! لَتَمُوتُنَّ كما تنامون ولتُبعَثُنَّ كما تستيقظون، تصويرٌ لزوال الدنيا، تصويرٌ لموقفٍ يَوَدُّ المرءُ فيه لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، بل ومَنْ في الأرض جميعاً ثُمَّ يُنجيه‫.‬ هل عَمِلتَ لذلك اليوم؟ هل أعددتَ نفسك لذلك اليوم؟ هل استحييتَ من الرقيب العتيد عن اليمين أو عن الشمال قعيد؟ هل استحييتَ من الملِكِ الحق الذي يقول أنه أقرب إليك من حبل الوريد؟ أمْلَكْ لك من هذا الحبل وأعلم بك من هذا الحبل؟ تمثيلٌ للعِلم، تمثيلٌ لقُربِ العِلم والقدرة، هل استحييت من الله وأنت في خلوتك أن يراك؟ هل استحييت من الكتبة الحفظة الذين يشهدون عليك؟ استحيوا من الله حق الحياء‫.‬ وقد رُويَ عن أحد الصالحين أنه مشى في أحد الأسواق فنظر إلى الأرض وإلى الناس ثم نظر إلى السماء وتعجب، فقيل له‫:‬ مِمَّ العجب؟ فقال‫:‬ عَجِبتُ من الناس، ما أكثر ما يلفظون، ونظرتُ إلى الكَتَبةِ فتَعَجَّبتُ ما أسرع ما يكتبون‫.‬ فإذا بُعثَ العبد وأُوقِفَ بين يدي الله وأُعطيَ كتابه بشماله، أو جاء يحمله وراء ظهره، ألقى التبِعة على غيره، ألقى التبِعة على قرينه من الشياطين، هؤلاء حين استكبروا في الأرض وضَلُّوا وأَضَلُّوا، قَيَّضَ الله لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم، لِكُلٍّ منهم شيطان قرين يغويه، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، يُلقي التَّبِعَة على القرين ويشير إليه ويقول‫:‬ هذا أضلني وأغواني وأطغاني، فيرد القرين‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ قَرِينُهُۥ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُۥ وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍۭ بَعِيدٍۢ ﴿27﴾
كلام العبد الكافر محذوف، لكنك تفهمه من قول الله (تبارك وتعالى): (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاء فبصرك اليوم حديد وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته) ينفي عن نفسه تهمة، من الذي اتهمه بها؟ إذا ً فلابد وأن العبد المؤاخَذ المحبوس المنادى بِ: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) لابد وأنه اتهمه وقال هذا القرين أطغاني وأضلني، فَرَدَّ قرينه‫:‬ ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ أي‫:‬ هو مُستَحِقٌّ لهذا العذاب فهو ضالٌّ ومُضِلّ أصلاً، ما أطغيته وما أضللته ولكني دعوته فاستجاب، كقول الشيطان‫:‬ ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [سورة إبراهيم آية‫:‬ ٢٢] ذاك كلام الشيطان وخطبته يوم القيامة؛ يتبرأ، وكذلك كل قرين ضَلّ وأَضَلّ صاحبَه يُلقي كلٌّ منهما التهمة على صاحبه، يقول العبد الكافر هذا أطغاني ويقول القرين ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، هذا يدل على أن الشيطان لا سلطان له إلا على مُختَلِّ الرأي فاسد القلب، الذي هو في ضلال أصلاً، فإن جاءه قرينُه لم يكن له سلطان عليه، بل يدعوه فيستجيب لأن الفطرة فاسدة، هو أصلاً مُختَلُّ الرأي فاسد النية مائل للفجور، فدعاه قرينه فاستجاب له‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا۟ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ ﴿28﴾ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّـٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ ﴿29﴾ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍۢ ﴿30﴾
هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ هذا الخصام لا يُجدي ولا ينفع، مكانُهُ في جهنم يلعن بعضكم بعضا هناك، أما هنا في الحضرة لا تختصموا لديّ. ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ في الدنيا حذرتكم وأنذرتكم على لسان رسلي وبكتبي، أَوعَدتُ وتَوَعَّدتُ وبَيَّنتُ وأوضحتُ، فلا طائل من هذا الخصام، ولا عذر لأحد ولا حُجَّة لأحد‫.‬ ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ إما أنه يَمْنَع من الكذب في حضرته حيث يُبَدَّل القولُ ويقول العاصي ما عصيت أو الكافر ما كفرت، ما يصِحُّ أن يحدث ذلك عندي، ما يصِحُّ أن يحدُثَ كذب أو مخالفة للحقائق أو إبدال للأمور‫.‬ أو (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) هو قوله الأزلي‫:‬ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ١٦٠]. أو قوله الأزلي‫:‬ ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة السجدة آية‫:‬ ١٣]. ما يبدّل القول لديّ، إذاً فلا فائدة من الخصام، ولا فائدة من الاختصام، ولا فائدة من إلقاء التهم، ولا فائدة من الاعتذار، لا فائدة‫.‬ ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (ظَلَّام) ليست صيغة مبالغة، ظالم وظَلَّام أي‫:‬ كثير الظلم، وإنما ظلّام صيغة نَسَب، القهّار صيغة مبالغة، العلاّم صيغة مبالغة كثير العلم، أما الظلّام صيغة نسب كقولك‫:‬ جزّار بقّال لَبّان صيغة نسب، فمعنى كلمة ظلّام أي ذو ظلم، (ما أنا بظلام للعبيد) أي‫:‬ وما أنا بذي ظلم أصلاً للعبيد، أي لا أُعاقِب من لم يُجرِم، ولا أُعاقِب من لم يُخطِئ، ولا أُعاقِب أحداً لا يستحق العقوبة، وربنا (تبارك وتعالى) ليس بذي ظلم أصلاً لأنه مَلَك، ومن حَكَمَ فيما مَلَك فما ظَلَم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ السؤال والجواب تخييلٌ وتصويرٌ وتمثيلٌ، وليس هناك سؤال وليس هناك جواب، وإنما الأمر كأن جهنم على اتساعها كلما أُلقيَ فيها فوج من الجِنَّة أو من الناس قالت‫:‬ هل من مزيد؟ واسعة! أو كأنها لزفيرها وتَغَيُّظها وتَعَلُّقها بالعصاة تأكلهم أكلاً وهي مشتاقة لهم منذ خُلِقَت، تتميّز وتتغيّظ إذا رأتهم من مكانٍ بعيد، فكلما أُلقِيَ فيها فوج قالت‫:‬ (هل من مزيد؟) أي‫:‬ وكأنها تريد المزيد‫.‬ أو قد امتلأت فعلاً وقالت‫:‬ (هل من مزيد؟!) على صيغة الجَحْد، أي‫:‬ ليس هناك مزيد، ليس عندي مكان لمزيد، فالسؤال إما للاستزادة وإما للجحد‫.‬ وقيل‫:‬ بل السؤل والجواب على الحقيقة، وربنا يُنطِق النار كما يُنطِق الجوارح، وذاك هو القول الأرجح والأصح‫.‬ فقد ورد في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال‫:‬ "لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه عليها فتقول قَطّ قَطّ بِعِزّتِكَ وكرمك ولا يزال الجنة فيها فضل حتى يٌنشئ الله فيها خلقا فيسكنهم فضلَ الجَنّة" من هنا السؤال على الحقيقة ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ أي‫:‬ هَلُمّ من مزيد، أو أريد مزيدا، أو إذا امتلأت قالت‫:‬ (هل من مزيد) أي‫:‬ وهل هناك مكان يتسع لمزيد؟ فهو عدم طلب المزيد‫.‬ وكلمة (قدمه) (يضع رب العزة قدمه) جاءت في رواية أخرى لأبي هريرة‫:‬ "حتى يضع الجبار فيها رجله"، (القَدَم): قومٌ قَدَّمهم الله للنار وليس القدم منسوبة إلى الذات العلية (جل وعلا) فليس كمثله شيء! أما القَدَم‫:‬ معناه القوم الذي قَدَّمَهم ربنا لجهنم وعَلِمَ أنهم مستحقون لها، وعَلِمَ من الأزل أنهم أهلها، فحين يقدمهم لجهنم تقول‫:‬ (قَطّ قَطّ حسبي حسبي)، وكذلك (الرِّجْل)، يُقال رِجْلٌ من الجراد‫:‬ سِرْبٌ كبير، ورِجْل من الناس‫:‬ عَدَدٌ كبير، ذاك في قوله يضع رِجله أو يضع قَدَمه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ نعم! ينزوي بعضُها على بعض وتقول‫:‬ (قط قط بعزتك وكرمك). أيها الأخ المسلم النار فيها مكان لكل مخلوق من لَدُن آدم إلى أن تقوم الساعة، والجنة فيها مكان لكل مخلوق من لَدُن آدم إلى أن تقوم الساعة، فإذا دخل أهل النارِ النارَ ونجَّى ربنا (تبارك وتعالى) أهل الجنة من النار، جعلنا الله من الناجين، كان في النار أماكن واتساع، فيها مقاعد وأماكن للذين نجوا منها، فإذا قيل لجهنم هل امتلأتِ وقُدِّمَ لها خلق فامتلأت، انزوى بعضها إلى بعض وضاقت على أهلها، فإذا بهم ألقوا في مكان ضيق مُقَرَّنين هنالك دَعَوا ثبورا‫.‬ أما الجنة إذا دخلها أهلها اتسعت واتسعت وكان فيها مقاعد لمن ضيعوها بكفرهم وسوء عملهم، هذه المقاعد الخالية تُوَزَّع على أهل الجنة‫:‬ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(١٠)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة المؤمنون آية‫:‬ ١٠ - ١١]. أيها الأخ المسلم إذا قيل لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، كان هناك تصويراً آخر لوضع آخر ولموقف آخر، أولئك الأحباب الذين تحابوا في جلال الله، أولئك الأولياء، أولئك الشهداء، أولئك في موقف الأمن والأمان، وهم في موقف الأمن والأمان في ظل الرحمن إذا بالجَنَّة تأتيهم سعياً ﴿وأُزْلِفَتِ الجنة للمتقين غير بعيد﴾.‬‬‬‬‬‬
‫ففي يوم القيامة جنة ونار، وليس هناك شيء غير الجنة أو النار، والنار التي خلقها الله (تبارك وتعالى) نار فوق كل خيال، نار استغاثت منها نار الدنيا، بل نار استغاثت هي من نفسها وصرخت واستغاثت‫:‬ يارب أكل بعضي بعضاً. نارٌ تُنادَى وتجيب، نار وكأنها تعقل وكأنها ترى وتسمع بل وتنطق، فحين توصَف لنا توصَف بأوصاف العقلاء، إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، هل عَرَفَتْهُم؟ هل اشتاقت إليهم؟ هل جاعت؟ وتُنادَى ويناديها ربنا (تبارك وتعالى): ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ حوار وسؤال وجواب، وقُرِئت بقراءات متعددة‫:‬ ﴿يوم يقول لجهنم﴾ ﴿يوم نقول لجهنم﴾ ﴿يوم يُقال لجهنم﴾ ﴿يوم أَقولُ لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد﴾. بعض الناس يقولون إن الكلام تصوير وتمثيل وكأنها يُقال لها وكأنها تجيب بلسان الحال وليس بلسان المقال‫.‬ ونحن نعتقد أنها تَنطِق وتَسمَع وتَأتَمِر وتَعقِل وتتكلم، وربنا القادر على إنطاق كل شيء، يُنْطِقُ الجوارح حيث يحكي لنا القرآن عن صراع الإنسان العاصي الكافر مع أعضائه، مع فخذه ولسانه ويده بل ومع جلده‫:‬ ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سورة فصلت آية‫:‬ ٢١] إذا ًفكل شيء يوم القيامة يَنطِق، الأعضاء تنطق، الأحجار تنطق، كل شيء ينطق، الجنة تنطق، والنار تنطق، حتى مواضع السجود؛ مواضعكم حيث تضعون جباهكم تواضعا لرب العزة، هذه المواضع تشهد لكم، إي وربي! ما من شيء إلا وينطق، حتى الجنة تتهلل كما أن النار تتغيظ، لابد وأن الجنة تتهلل، فهي متسعة، وهي فارغة من أهلها تنتظرهم بشوق، إي وربي! اشتاقت الجنة لأهلها، حين تراهم لابد وأنها تتهلل، وقد خلق الله (تبارك وتعالى) جَنَّةَ عَدْنٍ بيده وشق فيها أنهارها ودلّى فيها ثمارها، ثم أَذِنَ لها فقال‫:‬ (تكلمي) فقالت‫:‬ (قد أفلح المؤمنون).‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكما أن الكفار يُساقون إلى جهنم يوم القيامة، منهم من يُساق على وجهه، ومنهم من يُكبّ فيها كَبَّا، ً ومنهم من يُسحَبُ بالسلاسل إلى الجحيم ويُسجَرون، كما أن ذلك يحدث بالنسبة للنار ولأهلها بضدها تتميز الأشياء، هي الجنة تسعى إلى أهلها لا يَتَكَلَّفون مشقة الوصول إليها هل يصلون إليها مُشاة؟ هل يصلون إليها طائرين؟ هل يصلون إليها رُكباناً على نُجُب خُلِقَت خصيصاً لذلك؟ هل يبحث الإنسان عن موضعه في الجنة؟ هل كُتِبَت فيها الأسماء؟ هل مُيِّزَت فيها الطرق؟ هل يدخل الناس إليها كُلٌّ يحتار أيذهب يمنة أو يسرة؟ أبيته في الأعلى أم بيته أمامه؟ غُرَف مبنية من فوقها غُرَف؛ أيُّ غرفة وأي نهر وأي باب؟ من أين؟ أبواب الجنة تَدُلُّه، إي وربي! تناديه‫:‬ يا فلان هلمّ أنا بابك‫.‬ وهناك من يُنادَى من كل الأبواب، وتتصارع عليه الأبواب، ألا وهو أبو بكر الصديق! يُنادى من أبواب الجنة جميعاً هلمّ هلمّ، كلها يتمنى أن يدخل منها‫.‬ كل من يدخل الجنة يصل إلى منزله دون دليل، فهو أَعْرَف به وأعلم به منه ببيته في الدنيا، إي وربي! يتوجه إلى منزله دون مُرشِد ودون دليل وكأنه يحفظه، وكأنه كان يسكن فيه من قبل، خُلِقَ المكان له فهو يناديه وهو مشتاق إليه مستعد لاستقباله، يسلّم عليه كل شيء في الجنة، والحور في انتظاره في بيوتٍ من لؤلؤ يُرى ما بخارجها ولا يُرى ما بداخلها، لؤلؤة واحدة لا وَصْل فيها ولا فَصْل، تُرى كيف شكلها؟ تُرى طَعْمُ رائحتها؟ ترى مذاقها و جَوُّها وضياؤها وثمارها تُرى كيف يكون كل ذلك؟‬‬‬‬‬
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴿31﴾ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍۢ ﴿32﴾
‫﴿أُزلِفَت﴾: قُرِّبت، و (الزُّلفى) بالباء و (الزلفة) بالتاء المربوطة أو الهاء‫:‬ القربى، ﴿أُزلِفَت﴾: قُرِّبت، قُرِّبت الجنة للمتقين الذين اتقوا الشِّرك واتقوا المعاصي، اتقوا الله واجتنبوا المحارم‫.‬ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) تأكيد لأن معنى ﴿أُزلِفَت﴾ قُرِّبَت، (غير بعيد) تأكيد للقرب وكأنه لا يجد أدنى مشقة في الوصول إليها بل هي تصل إليه‫.‬ متى قُرِّبت الجنة للمتقين؟ تُرى هل قُرِّبَت لهم في الدنيا أم قُرِّبَت لهم يوم القيامة؟ قُرِّبَت لهم في الدارين، قُرِّبَت لهم في الدنيا لأن الله (تبارك وتعالى) جعلهم يشتاقون إليها وجعلها تشتاق إليهم، وعَرَّفَهم السبيل إليها فأَمَرَهم ونهاههم ووَصَفَها لهم، وحين وَصَفَها لهم وقَرَّبَها من أفهامهم فكأنها قُرِّبَت لهم وصفاً وشرحاً وتمثيلاً، وحين قُرِّبَت لهم في الدنيا شرحاً ووصفاً وتمثيلاً اشتاقوا إليها فأتمروا بأمر الله وانتهوا بنهيه‫.‬ أيضاً قُرِّبَت لهم يوم القيامة فَشَمُّوا ريحها من قبل أن يروها‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ مع إضمار القول، وكأنهم حين تُقَرَّبُ إليهم الجنة ويشمون ريحها وإنَّ ريحها ليوجد على مسيرة كذا وكذا وكذا، يُقال لهم بشارة وتطمين وتأكيد للوعد‫:‬ (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) أي‫:‬ هذا ما وُعِدتُم به في الدنيا وعملتم له، هاهو قد تَحَقَّق فيُقال لهم هذا الكلام الحلو‫:‬ (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) كلمة (الأواب) تحمل معاني كثيرة، (الأوّاب): تحمل معنى المسبِّح من قول الله (تبارك وتعالى): ﴿يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سورة سبأ آية‫:‬ ١٠]، (أوّاب): مُسَبِّح، (أوّاب): رَجَّاع إلى الله، (أوّاب): من ترك هواه في رضا الله، (الأوّاب): من يذكر ذنبه ولا يتناساه فيستغفر لذنبه، (الأوّاب): الرجاع إلى الله، إن عصى تاب واستغفر، وإن أطاع حَمِدَ وشكر، وإن توكل توكل على الله، وإن لجأ لجأ إلى الله، إذا ً فهو يُرجِع كل أمر إلى الله مؤمنا معتقدا متيقنا بقول الله ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [سورة هود آية‫:‬ ١٢٣]. فالأوّاب رجّاع إلى الله يعصي ويتوب، يُذنِب ويستغفر، لا يبيت أبداً على ذنب إلا أن يستغفر‫.‬ (الحفيظ): المحافظ على نفسه من الوقوع في المعاصي، (الحفيظ): الحافظ لأوامر الله، (الحفيظ): الحافظ لحدود الله فلا يتعداها وإن تعدّى فبالخطأ أو بالسهو أو بالنسيان أو بالضعف، فإذا به يُفيق ويعود فيستغفر، ومَن يغفر الذنوب إلا الله؟‬‬‬‬‬‬‬‬
مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍۢ مُّنِيبٍ ﴿33﴾
‫﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ نعم! فنحن لم نَرَ الله ولكنا نخافه، ونحن لم نَرَ عقاب الله ولكنا نخشاه، فهؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، أي وهم غائبون عن عذابه، غائبون عن عقابه، غائبون عن رؤيته محجوبون عن ذلك، ورغم كل ذلك فهم يؤمنون بوجود الله، يخافون عذابه، يخشون عقابه، فهم يخافون الله وهم غائبون عن رؤية الله، وحين يقول‫:‬ ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾ وجاء بلفظ الرحمن (ولم يقل من خشيَ (الله)، أو من خشيَ (الجبار)، أو من خشيَ (القهار)، إذاً فهم يخافون عذابه ويرجون رحمته، بل رغم علمهم الأكيد باتساع رحمة الله التي وسعت كل شيء، إلا أنهم يخافونه أيضا ولو أنه هو (الرحمن) ورحمته غلبت غضبه، وهم متأكدون من إتساع رحمته مُؤَمِّلون فيها لم يُلْهِهِم ذلك ولم يشغلهم الأمل في الرحمة عن الخوف من العقاب، فجاء بكلمة (الرحمن) للإشعار بأنهم يخافون وفي نفس الوقت يرجون‫.‬ (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) وهو غائب عن الناس، وهو في خلوته، إذا أُرخِيَ السِّتر وإذا عمَّ الظلام، لأن العبد إذا خشيَ الله في خلوته لو فاضت من عينه دمعة واحدة لأَظَلَّه الله بِظِلِّ عرشه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، إي وربي! لو بكى العبد في خلوته مرة واحدة في عمره خشية من الله لكان في ظل العرش يوم القيامة، مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ (القلب المنيب): القلب السليم‫.‬ (المنيب): المقبِل على الطاعة، المخلِص في أدائها، الذي عرف قَدْرَ الله فهابه وامتنع عن معصيته‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫هذا المنيب المقبِل على الطاعة المخلص في أدائها الذي لم يشغل قلبه إلا الله، فهو دائماً وأبداً مع الله، مُقبِل عليه، مُقبِل على طاعته، مبتعد عن معصيته، مخلص في أداء العبادات، مخلص في ما يَدَع ويَذَرْ وفي كل ما يأتِ، الله نُصْبَ عينيه، فإن أتى بالفعل أتى به لوجه الله، وإن ابتعد عن الفعل ابتعد عن الفعل مخافة الله، ذاك هو المنيب‫.‬ والقلب قلبان؛ قلبٌ مُحْتَشٍ بأمور الدنيا، فإن جاء أمر من أمور الآخرة حَارَ ولم يَدْرِ ما يصنع فيه، وقلبٌ محتشٍ بأمور الآخرة، فإن جاء أمر من أمور الدنيا حَارَ ولم يَدْرِ ما يصنع فيه، فإما أن يكون القلب مشغولاً بالدنيا وإما أن يكون القلب مشغولاً بالآخرة، ولا تجتمع الدنيا والآخرة في قلب عبد أبداً.
ٱدْخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍۢ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلْخُلُودِ ﴿34﴾ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌۭ ﴿35﴾
نداءٌ آخر، ما أرق هذا النداء! وما أحنّ هذا النداء! وما أحلى هذا النداء! ﴿ادْخُلُوهَا﴾ والآمِرُ بالدخول الملِكُ الذي لا يُعصى له أَمْر، القادر على إنفاذ مُراده في كل شيء، القائل هو الملِك، هو القهار، هو القادر، هو الذي لا مُعَقِّب على حكمه ولا رادَّ لأمره‫.‬ ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ أي سلام؟ تُرى هل هو سلام الملائكة عليهم ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾؟ (الرعد‫:‬ ٢٤) تُرى بسلامٍ أي بسلامةٍ من زوال النِّعَم فالنِّعم لا تزول ونعيم الجنة لا يزول؟ أم بسلامةٍ من الآفات من الأمراض من الوهن من الغم من الخوف من القلق من الحَزَن من الندم؟ بسلامٍ لا يعرفه إلا السلام، هو السلام، هو الله! هو الذي يقول‫:‬ ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ سلامٌ من الله، سلام من كل شيء، من الآفات والأذى والوهَنْ والخوف والحزن والندم، سلامة من زوال النعيم والنِّعَم، سلامة من الخوف، سلامٌ من الملائكة عليهم، بل سلام الجنة عليهم‫.‬ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ كلمة (الخلود) نحن نعرف معناها ظاهراً، (الخلود): هو الاستمرار، هو الأبد، هو الذي لا نهاية له ولا انقطاع ولا تغير، خلود لا نعرف معناه إلا إذا ذقناه، ومن ذاق عَرَف! خلود‫:‬ لا موت ولامرض ولا ألم ولا انشغال ولا صداع ولا زكام ولا بكاء ولا عطاس ولا مَغَص ولا احتياج لشيء، لا احتياج لأن تَقُصَّ الأظفار، أو تَقُصَّ الشعر، أو تحتاج لأن تغتسل، أو تحتاج لأن تزيل الغبار، خلود غريب، خلود عجيب، خلود لا نعرف معناه وإنما نتمناه، وعلى الله تحقيق الأماني‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ وفوق كل ذلك‫:‬ ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ تُرى ماذا نشاء في الجنة؟ تُرى ماذا نطلب؟ تُرى ما الذي تشتهيه أنفسنا؟ ترى ما الذي تتطلع إليه نفوسنا وأفئدتنا؟ تُرى هل الأنفس المذكورة هنا هي أنفسنا التي نُحِسُّها ونشعر بها في الدنيا؟ أم أن النفوس تتغير؟ نفوسنا في الدنيا نفوس أمارة ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [سورة يوسف آية‫:‬ ٥٣]، نفوسنا في الدنيا نفوس لوّامة ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٢]، هناك نفوس مطمئنة تُنادَى‫:‬ ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(٢٧)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(٢٨)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(٢٩)وَادْخُلِي جَنَّتِي(٣٠)﴾ [سورة الفجر آية‫:‬ ٢٧- ٣٠] كيف هي تلك النفس؟ ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ ما يشاءون بلا قيد بلا حصر بلا تقييد ولا تكييف، إذاً ففيها كل شيء، فيها كل ما يشاءه الإنسان، فيها ما ذُكر في القرآن ومالم يُذكر، ما عرفناه ومالم نعرفه، بل وحين نريد فيها مانريد نحن الآن لا نعلم ما هو الذي سوف نريد، لأن النفوس سوف تتغير، نفوس الدنيا بالية، نفوس الدنيا أمّارة، نفوس الدنيا فيها الهوى، نفوس الدنيا فيها الشهوات، نفوس الدنيا فيها وفيها وفيها، أما نفوسنا يوم القيامة، في الجنة، تلك النفوس التي يُقال لها‫:‬ ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ نفوس لا يعرفها إلا الله، وعليه فما تشاءه هذه النفوس لا يخطر على بال وبلا قيد وبلا حدود‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ إذا ً فكل ما يُشتَهَى في الجنة بهذه النفس الخالدة، بهذه النفس المطمئنة، بهذه النفس المهيأة للخُلْدِ في الجنة، إذا انقطعت مطالبها وانقطعت أمانيها وانتهت من كل ما يخطر على البال، إذا بالمزيد يأتي، تُرى ما هو المزيد؟ و لِعَدَمِ عِلْمِ العلماء بالمزيد قالوا بعدم علم، باستنباط، باستنتاج، باجتهاد، قالوا‫:‬ (المزيد): الحور العين، قالوا‫:‬ (المزيد): مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النِّعَم والنعيم‫.‬ وأصح الأقوال وأقربها إلى الحق (المزيد): هو النظر إلى وجه الكريم! هذا هو المزيد الذي ليس فوقه مزيد، هذا هو الذي يُذْهِل أهل الجنة عن الجنة ونعيمها، إي وربي! لذة لا تدانيها لذة ولا تقترب منها نعمة، هذا هو المزيد‫.‬ إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نودوا من قبل العليّ الأعلى‫:‬ (يا أهل الجنة هل رضيتم؟) قالوا‫:‬ رضينا يارب، فيقول‫:‬ (يا أهل الجنة سَلُوني) فَرِغَت مسألتُهم، فَرِغَت طلباتهم، لهم ما يشاءون فيها ولم يبق شيئا يشاءوه أو يريدوه، يارب نسألك رضاك، فيقول الله‫:‬ (رضائي أَسْكَنَكُم جنتي) أي‫:‬ تحقَّقَ الرضا، (سَلُوني يا أهل الجنة) فيقولوا‫:‬ يارب مانسألك؟ فيقول‫:‬ (سلوني المزيد) فيقولوا‫:‬ يارب نسألك المزيد، فيُكْشَفُ الحجاب فينظرون إلى وجه الله بغير كيف! فليس كمثله شيء، هو الله! يرون الباقي بالباقي، فَبَصَرُهم باقي خالد، وطالما كان البصر باقيا خالدا استطاع البصر الباقي أن يرى الباقي بغير كيف!‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم يتوجه الكلام إلى هؤلاء الذين كَذَّبوا النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) أُغلِقَت قلوبُهم وأُغلِقَت أسماعهم وعَمِيَت أبصارهم، ووُضِعَ بينهم وبين النور المبين حجاب، هؤلاء يقال لهم مُهَدِّداً:‬‬
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًۭا فَنَقَّبُوا۟ فِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴿36﴾
بعد وصف الجنة وبعد وصف النار ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، يأتي الكلام مُهَدِّداً مُتَوَعِّداً أهل مكة، أهل الحَرَم الذي جعله لهم آمنا، هؤلاء الذين رزقهم الله من كل الثمرات، مَنَّ عليهم وبعث فيهم من أنفسهم رسولا يتلوا عليهم آياته، يزكيهم، يُعَلِّمهم الكتاب والحكمة وقد كانوا في ضلال مبين، يقول الله (تبارك وتعالى) لهم محذراً: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ و (القَرْن): الناس الذين يعيشون في زمان واحد وفي مكان واحد‫.‬ (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا) المهلَكون أشد قوة وأشد سطوة، كعاد؛ إرم ذات العماد، كثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فرعون ذو الأوتاد، كل أولئك أشد أم قريش؟ هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أقوى وأشد سطوة من أهل مكة‫.‬ ﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾ (النَّقْب): الخَرْق في الشيء والدخول فيه، وجَمعُهُ نُقُوب، هؤلاء الذين أُهلِكوا (نَقَّبوا في البلاد): طَوَّفُوا في البلاد وخَرَقوا في البلاد طولا وعرضا هل وجدوا مَهْرَبَاً من الموت؟ ﴿هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ (المحيص): المهرَب‫.‬ حاصَ يَحِيصُ حَيْصاً وحُيُوصاً ومَحْيَصَة‫:‬ حَادَ ومَالَ هَرَبَ، هل من مَهرَب؟ هل من ملجأ؟ هل من مَنْفَذ؟ هؤلاء الذين أُهلِكوا؛ قوم عاد، ثمود، قوم فرعون، أصحاب الأيكة، قوم تُبَّع، أصحاب الرَّس، كل أولئك أُهلِكوا ودُمِّروا وأنتم تَمُرُّون على ديارهم في تجاراتكم وفي أسفاركم هل وجدوا من محيص؟ إن كانوا وجدوا من محيص فسوف تجدون محيصا، وإذا لم يجدوا من محيص فأين لكم المحيص؟ وقُرِئت‫:‬ (فَنَقِبوا)، نَقِبَ البعير‫:‬ رَقَّ الخُفّ من كثرة المشي، (فَنَقِبُوا في البلاد): أي بَلِيَت نعالهُم وبَلِيَت حوافرُ أفراسِهم وبَلِيَت أخفافُ أبْعِرَتِهِم، بَلَت وبَلِيَت وفَنِيَت من كثرة المشيء، من كثرة السفر، من كثرة الذهاب والإياب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقُرِئت أيضاً: (فَنَقِّبوا) على الأمر، والكلام لأهل مكة، نقِّبوا يا أهل مكة في البلاد، ابحثوا واحفروا وسيروا حيث شئتم في كل البلاد هل تجدون مهربا من الله؟ هل تجدون مَفَرَّاً منه؟ هل تجدون ملجأ تلجأون إليه؟ فنقّبوا في البلاد هل من محيص تحيصون إليه، تهربون إليه، وقد أُهلِك من كان قبلكم وهم أشد منكم بطشا وقوة ولم يجدوا مهربا ولم يجدوا ملجأ، هل تجدون ملجأ؟ هلمّ نقبوا في البلاد كيف شتم هل من محيص؟ أبدا والله! لا ملجأ ولا منجى ولا مهرب، والله لا ملجأ من الله إلا إليه والله بكل شيء محيط، أحاط بخلقه وأحاط بمُلْكِه‫.‬‬‬‬
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌۭ ﴿37﴾
‫﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ فيما تُلِيَ عليكم في سورة ق، في كل ما تُلِيَ عليكم في هذه الآيات، ﴿لَذِكْرَى﴾ تدعو للتذكر، تدعو للتأمل، تدعو للتفكر، تدعو للرجوع إلى الحق والرجوع إلى الله، ولكن لِمَن هذه الذكرى؟ هل لكل الناس؟ أبداً! لِمَنْ مَنَّ الله عليه، لمن وَفَّقَهُم الله للهدى‫.‬ ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (القلب): العقل، كُني بالقلب عن العقل لأن القلب مَحِلُّ العقل فَكُنِيَ بالقلب عن العقل‫.‬ إِنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أي عقل يتفكر ويتدبر ويرى ويعرف ويسمع ويفهم‫.‬ ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ استمع بإنصات، استمع بالكلية، ألقى إليك سمعه، انتبه والتفت ولم ينشغل عنك ولم تفوته كلمة أو حرف، (ألقى السمع وهو شهيد): أي وهو حاضر القلب، فقد يسمع الإنسان الكلام وقلبه مشغول وفكره مهموم، يسمع لك دون أن يَعي ما يسمع لأن القلب في اتجاه آخر، في انشغال بأمرٍ آخر، لكن الذكرى هنا تنفع من كان له قلب، من كان حَيَّاً، لأن الله يقول في موضع آخر‫:‬ ﴿لِيُنْذِرَ من كان حَيَّاً﴾، (لمن كان له قلب) أي‫:‬ موضع الحياة، أي‫:‬ حي ليس مَيِّت، والميِّتُ مَيِّتُ الأحياء الذي لا يسمع ولا يفهم ولا يعقل‫.‬ أو القلب بمعنى العقل‫.‬ ﴿أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ حاضر عاقل شاهد فاهم يتأمل و يفكر فيما يسمع، قلبُه حاضرٌ مصغٍ لا يشغله شيء عن السماع للقرآن و عن التفكر في الآيات‫.‬
ثم يأتي بيان لقدرة الله تعالى، وقدرة الله (تبارك وتعالى) لا يعرفها إلا الله، قدرة لا يعتريها نقص، قدرة لا يكتنفها قصور، قدرة تستوي فيها كل المقدورات؛ فليس هناك سهل وليس هناك صعب، ليس هناك يسير وليس هناك عسير، قدرة فوق الخيال، قدرة ليست صفة منفصلة عن الذات بل هي ذات قادرة، الذات العليّة ذات قادرة على كل شيء، وكل شيء في قدرته سواء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍۢ ﴿38﴾
زعمت يهود أن الله بدأ خَلْقَ الدنيا في يوم الأحد وانتهى من خلق الدنيا في ستة أيام؛ في يوم الجمعة، واستراح يوم السبت واستلقى على العرش! كُفْر، جَهْل، سفاهة‫.‬ أولاً كان الله ولم يكن شيء غيره، كان الله ولم تكن شهور ولا أيام، كان الله ولم يكن مكان ولا زمان، كان قبل الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان‫.‬ فكلمة (ستة أيام) ليس من أيام الدنيا وليس من الأيام التي نعرفها، فلم تكن هناك شمس ولم يكن هناك قمر ولم تكن هناك أرض تدور وينشأ من دورانها ليل ونهار، تلك الأيام لا يعرفها إلا الله، أيام الله هو يعرفها ونحن لا نعرفها ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [سورة الحج آية‫:‬ ٤٧] بل وهناك يوم مقداره خمسين ألف سنة! كان الله (تبارك وتعالى) قادرا على أن يخلق السموات والأرض وما فيها في أقل من لحظة؛ (كُنْ)، إي وربي! بين الكاف والنون لكن الله أراد أن يؤدبنا ويُعَلِّمنا التأني في الأمور، والتروي في الأمور، فهاهو القادر بقدرة لا يعتريها نقص ولا قصور، القادر على إيجاد كل شيء في أقل من لحظة بل في أقل من غمضة العين، يخلق الدنيا في ستة أيام لِيُعَلِّمُنا التَأَنِّي والتَرَوِّي‫.‬ ويقول عَزَّ مِن قائل‫:‬ ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ (اللُّغوب): التَعَب والنَّصَب، لَغَبَ يلْغُبُ لغُوبا ً: تَعِبَ ونَصَب، ولَغِبَ يلغَبُ لُغُوبا أيضاً ولكنها لغة ضعيفة‫.‬ لَغَبَ يَلْغُب‫:‬ أصابه التعب والإعياء، هل يصيب رَبَّنا تعبٌ؟ هل يصيب رَبَّنا نَصَبٌ؟ حاشا و كَلَّا هو القادر!‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ ﴿39﴾ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ ﴿40﴾
‫﴿فَاصْبِرْ﴾ فاصبر يا محمد، حلاوة الكلام والمناجاة بين الرب والعبد، بين الله وحبيبه‫.‬ (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ما يقولون من شِرْك وكذب وتكذيب وادعاء؛ المسيح ابن الله، عزير ابن الله، خلق ربنا السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، اصبر؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يغضب لله ويحزن، فهو المحب لله، هو أكثر الناس حُبَّاً لله، وهو أكثر الناس معرفة بالله، فكان إذا سمع انتقاصهم لله واستقصارهم لقدرته أخذه الغضب الشديد فكان الله يُصَبِّرُه، والله يَصْبِر على أذى الناس فهو الصَّبور، عَلَّمَنا الصبر وقال لحبيبه المصطفى‫:‬ ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وكأن الله (تبارك وتعالى) يبين لنا مفتاح الصبر، سِرٌّ في الآية لم يلتفت إليه أحد، أو التفت إليه الناس، يعلم الله، لكنك تستشعر من قوله فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ إذا ً فكأن مفتاح الصبر التسبيح، وكأن التسبيح هو المُعِينُ على الصبر‫.‬ وفي موضع آخر يأمرنا ربنا (تبارك وتعالى) بإقامة الصلاة والصبر على أذى الكفار‫:‬ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٥٣] وكأن الصلاة تُعِينُ على الصبر، وكأن التسبيح يُسَهِّل على العبد الصبر، نعم! لأنك مهما أُصِبت من أذى أو ألم أو شدة أو مَظْلَمَة إذا قلت سبحان الله، ذَكَرْتَ الله، فإن ذَكَرْتَ الله ذَكَرْتَ قدرته وذَكَرْتَ فَرَجَه وذَكَرْتَ رحمته وذَكَرْتَ حنانه على خَلْقِه، فإن تَذَكَّرْتَ ذلك هان في عينيك كل شيء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(٣٩)وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(٤٠)﴾ كلمة تسبيح من حيث اللغة (السِّباحة): السَّير بسرعة في الماء أو الهواء، والتسبيح من حيث اللغة الشرعية‫:‬ هو التنزيه لله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، وكأن المسبِّح يُسرِع بتنزيه الله (تبارك وتعالى) عن كل مالا يليق بجلالة وكماله‫.‬ قالوا‫:‬ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي‫:‬ اجعل تسبيحك لله مُتَلَبِّساً بالحمد، فهو تنزيه مُتَلَبِّس بالحمد على النِّعَم وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يَتَأَوَّلُها ويقول‫:‬ "سبحانك اللهم وبحمدك". ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ صلاة الفجر، ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ الظهر والعصر، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ المغرب والعشاء‫.‬ ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ وقُرِأَت بالكسر ﴿وإدبار السجود﴾ أي‫:‬ انتهاء الصلاة، (وأَدبار السجود) أي‫:‬ وخَلْفَ الصلاة أي‫:‬ بعد الصلاة، (أَدْبَرَ الشيء): انتهى وانصرف، قالوا هذا كلام عن الصلوات الخمس؛ (قبل طلوع الشمس): الفجر، (قبل الغروب): الظهر والعصر، (الليل): صلاة الليل وهي صلاة المغرب وصلاة العشاء‫.‬ أما (أدبار السجود) قالوا‫:‬ صلاة النوافل، فما من فريضة إلا ولها نافلة، كركعتي السُّنّة بعد المغرب وركعتي السُّنّة بعد الظهر وركعتي السُّنّة بعد العشاء‫.‬ وقالوا (أدبار السجود): النوافل عموما‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل التسبيح المذكور هنا هو مجرد ذكر الله وتنزيه الله في كل الأوقات، إذا ً كل هذا يعني أن تَذْكُرَ الله في كل وقت وحين، وكما قالت عائشة (رضى الله عنها): "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ الله على كافة أحواله" إذا نام ذكر وإذا استيقظ ذكر وإذا جلس ذكر إذا أكل ذكر وإذا لبس ذكر، وأذكاره معلومة ومعهودة ومحفوظة‫.‬ فهي إما الصلوات وإما الأذكار وإما النوافل بعد الصلوات‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وهناك حديث يكشف الغموض أو قد يُعِين على فهم المطلوب، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من سبّح الله دُبُرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحَمِدَ الله ثلاثا وثلاثين وكَبَّر الله ثلاثا وثلاثين فذاك تسعة وتسعون وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَت خطاياه ولو كانت مثل زَبَدَ البحر" هذا الحديث يُعيننا على فهم ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ صلاة القيام ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ أي بعد كل صلاة تُسَبِّح ثلاثا وثلاثين وتحمد ثلاثا وثلاثين وتُكَبِّر ثلاثا وثلاثين ثم تختم المائة بقولك لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، إذا فعلت ذلك بعد الصلاة غُفِرَت جميع الذنوب، جميع الخطايا ولو كانت كَزَبَدِ البحر‫.‬ أيها الأخ المسلم ذِكْرُ الله راحة، ذِكْرُ الله شفاء، ذِكْرُ الله دواء، ذِكْرُ الله اطمئنان ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد آية‫:‬ ٢٨]‬‬‬‬
‫في يوم القيامة هناك نفختان؛ نفخة أولى يَصْعَق بها كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ونفخة ثانية؛ نفخة القيام، نفخة البعث، نفخة النشور، هذه النفخة الثانية يسمعها كل مخلوق وكأنها في أُذُنِه، فإذا أراد الله (تبارك وتعالى) نُشُوراً أَمَرَ السماء فأمطرت، فإذا نزل هذا الماء من السماء على الأرض نَبَتَتْ به الأجساد كما تنبت الزروع والأشجار‫.‬ هناك نفخة وهناك نداء، النفخة هي نفخة الصور الثانية والتي يُوكَل بها إسرافيل عليه السلام، وهناك نداء وذاك نداء جبريل للخلائق جميعاً للمثول أمام الملِك‫.‬ يقول الله (تبارك وتعالى) لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مُسَلِّياً ومُسَرِّياً: ﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن﴾ يبين له الأمم التي كَذَّبَت وكيف كان حالها ونتيجتها، ويُهَدَّد أهل مكة، ويُسَلَّي ويُسَرَّي ويقول‫:‬‬‬‬‬‬
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍۢ قَرِيبٍۢ ﴿41﴾ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ ﴿42﴾ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِۦ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ ﴿43﴾ يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًۭا ۚ ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌۭ ﴿44﴾ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍۢ ۖ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿45﴾
‫﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ (المنادي) بإثبات الياء، و (المنادِ) بحذف الياء، قراءات‫.‬ ومنهم من أثبت الياء وَصْلاً وحذفها وَقْفاً، ومنهم من حذفها وَقْفاً ووَصْلاً، ومنهم من أَثْبَتَها وَقْفاً ووَصْلاَ. و (استمع) يا محمد (عليه الصلاة والسلام) والكلام له، ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ قيل أن المنادي هنا هو جبريل، وأما الصيحة فمن إسرافيل‫.‬ ﴿مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ وكأن النداء في الأُذُن، أما المنادي أين يكون؟ حيث يريد الله! ربما أبعد مما يتخيله الخيال، لكن الله يُوصِلُ النداء إلى الآذان في القبور فإذا بالناس يقومون لرب العالمين‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ﴾ (الصَّيحة): هي النفخة الثانية في الصور، وهو قَرْنٌ من نور ينفخ فيه إسرافيل، (بِالْحَقِّ) أي‫:‬ الصَّيحة المتَلَبِّسَة بالحق، الصَّيحة الصادقة، الصَّيحة التي تَحَقَّقَ بها وعد الله، (الصَّيحة بالحق): الصيحة بالبعث والقيام، فالبعث حق‫.‬ (الصيحة بالحق): الحق الذي هو الوعد والوعيد الثواب والعقاب‫.‬ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ الخروج من القبور‫.‬ ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾ وأنتم ترون الدنيا، مِنَّا من يُحيى ومِنَّا من يموت ولا ندري لِمَ مات هذا ولِمَ بَقِيَ هذا على قيد الحياة، تراه سقيما عليلا مريضا تتوقع موته وتجهز نفسك لتشييعه وإذا به هو يشعيك إلى قبرك، بلا سبب، يموت الصغير تارة ويموت الكبير تارة، ويموت العليل تارة ويموت الصحيح تارة وليست هناك أسباب، وإنما هو الأجل ﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَل﴾. ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾ إذاً فَمَن كان يُحي ويميت في الدنيا قادر على أن يُحي ويَبْعَث يوم القيامة‫.‬ ﴿وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾ إلى أين نذهب؟ وإلى أين تصير الأمور؟ وإلى أين تصير الناس؟ إليه تصير الأمور وإليه ترجع الأمور وإليه يصير الناس، هو المنشأ وهو المعاد، هو المبديء وهو المعيد، هو الأول وهو الآخر إليه المصير، لاشك، لا محالة‫.‬ ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا﴾ أرأيتم الأرض حين تتشقق ويخرج منها النبات؟ أرأيتم الأرض ميتة؟ أرأيتم الأرض ليس فيها نبات؟ أرأيتم كيف تتشقق وإذا بالفرع يخرج وإذا بالغصن يخرج؟ أرأيتم ذلك؟ هكذا يكون الأمر؛ تتشقق الأرض، يخرجون منها سِراعاً كما يخرج النبات سِراعاً مُسرِعِين‫.‬ (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) المبديء المعيد، ذلك حشرٌ علينا يسير لأنه أخبرنا وقال‫:‬ (قد علمنا ماتنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وربنا ليس عنده يسير وعسير، وإنما تقريب لأذهاننا ومخاطبة الناس على قدر عقولهم بما عهدوه وألفوه، والله ما هناك يسير وعسير بل الكل في قدرته سواء، هو الله! وتُختَمُ السورة بالتسرية والتطمين والتهدئة وبيان وظيفة النبي، حيث يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ فإن سمعت منهم الأذى فأنت تسمع مايقولوه أمامك، أما نحن فنسمع السر وأخفى، أنت تسمع إذا قالوا أمامك أو بلغك مقالتهم، أما نحن فنعلم السر وأخفى ونعلم ما يقولوه وهم بعيدون عنك، إذاً فَدَعْهُم لي أنا أحاسبهم‫.‬ ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ ما أنت عليهم بمسيطر، لا تستطيع أن تجبرهم على الإسلام، ولا تستطيع أن تقهرهم على الإيمان لم نجعلك عليهم جَبَّاراً أي‫:‬ مُتَسَلَّطاً أو قاهراً تقهرهم وتَجْبُرُهم، وجَبْرُ الإنسان على فعل الشيء، جَبَرهُ وأَجْبَرَه‫:‬ جعله يفعل مايريد رُغماً عن أنفه‫.‬ ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ ما جعلناك كذلك بل أنت داعي إلى الله‫.‬ ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ﴾ هذا هو واجبك وهذه هي وظيفتك؛ الدعوة إلى الله‫.‬ ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ بإثبات الياء قراءة وبحذف الياء قراءة‫.‬ إذاً فلا ينتفع بالقرآن إلا من خاف الله، لا ينتفع بالقرآن إلا من ألقى السمع وهو شهيد، لا ينتفع بالقرآن إلا من كان حَيَّاً وكان له قلب‫.‬ نعم ذَكِّر وإن الذَّكرى تنفع المؤمنين، أما القرآن مهما ذَكَّرت به الغافل، أو أَنْذَرْتَ به الكافر فلا جدوى من ذلك، هذا القرآن لَنَا، لِمَن آمن بالله وخَشِيَ الرحمن بالغيب، هذا القرآن لمن أسلم واستسلم لله هذا القرآن للمتقين المهتدين، لمن حَبَّبَ الله إليهم الإيمان وزَيَّنَهُ في قلوبهم وكَرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، هذا القرآن للراشدين الذين مَنَّ الله عليهم فضلا من الله ونعمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم سورة ق وَرَدَ في فضلها الكثير، وكلام الله كُلُّه رحمة وكُلُّه فضل عظيم‫.‬ ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (الوعيد): التهديد بالعذاب، (الوعد): التبشير بالثواب، فالوعد بشارة بثواب‫.‬ (الوعيد): تهديد بعذاب، وكلنا يخاف، ولابد للمؤمن من الرجاء ولابد للمؤمن من الخوف، فمن رَجَا فقط هَلَك ومن خاف فقط هَلَك، ﴿أُدْعُوه خوفا وطمعا﴾ لابد! فللمؤمن جناحان؛ جناح الخوف وجناح الرجاء، بغيرهما لا يكتمل إيمانه، وبِفَقْدِهِ لأحدهما يَضْعُفُ إيمانُه، فإن رَجَا فقط اجْتَرَأَ على المعاصي؛ ربُّنا رحمن، ربُّنا رحيم، ربُّنا يغفر، ربنا يتوب، فإن رَجَا فقط وقع في المهالك، وإن خاف فقط ما كان له أمل ولامتنع عن الطاعات من شدة خوفه لأنه ييأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‫.‬ من هنا لابد من الرجاء ولابد من الخوف، نخاف ونرجو، من الذي نخافُه؟ الرحمن! حتى لا تنسى الرحمة في غمار خوفك، في غمار رُعْبِك، في غمار وَجَلِك لا تنسى الرحمة، من هنا يقول‫:‬ ﴿من خَشِيَ الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب﴾.‬‬‬‬‬‬