سورة الحجرات

لقاؤنا مع سورة الحجرات، لقاؤنا اليوم مع الحب الإلهي، مع الحنان الرباني، لقاؤنا اليوم مع الأدب الذي أدَّب الله (تبارك وتعالى) به أصحاب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، لقاؤنا اليوم مع مكارم الأخلاق، لقاؤنا اليوم مع القدْر العالي لسيد الخلائق أجمعين‫.‬ سورة الحجرات مدنية، نزلت بالمدينة، وفي ترتيب المصحف هي بعد سورة الفتح حيث اختُتِمَت سورة الفتح بالشهادة من الله لرسول الله بالصدق والرسالة، اختتمت بالمديح والثناء على أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، اختتمت سورة الفتح بذلك وافتُتِحَت سورة الحجرات برفعة قدر النبي (صلى الله عليه وسلم) وإجلال شأنه، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌۭ ﴿1﴾
‫﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وحُذف المفعول، لا تقدموا ماذا؟ لاتقدموا القول؟ لاتقدموا فعلا؟ لا تقدموا قوْلا؟ لاتقدموا حُكما؟ لا تقدموا أنفسكم؟ حُذِفَ المفعول للتعميم ولإيهام السامع أن التقديم ممنوع في كل شيء، وذُكِرَ الله (تبارك وتعالى) رفعةً لقدر النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعظيما لشأنه، وكأن الخطأ مع رسول الله خطأ مع الله‫.‬ (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وكلمة ﴿بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ تمثيل للمسارعة والتعجل في الإقدام على القطع بحكمٍ في أمرٍ لم يأذن فيه الله ورسوله، بحال من يتقدم في السير والمشي بين يدي متبوعه، فإذا سار السيدُ في طريق فتقدمه خادمُه أو تابعُه كان ذلك أمرا ً مستهجنا، فمُثِّلَ التقديمُ بين يدي الله ورسوله كمن تقدم بين يدي سيده ومتبوعه‫.‬ وذُكِرَت اليدان لبيان الحدود، السمت في التقدم‫.‬ ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إذا ًفقد مُنِعَ المؤمنون من أن يشيروا على رسول الله برأيٍ قبل أن يستشيرهم، أو يتكلموا قبل أن يبدأهم بالكلام، أو يقطعوا بحُكمٍ قبل أن يحكم هو فيه، أو يتصرفوا في شأن قبل أن يأذن هو فيه، هو المقدَّم في كل شيء وعلى كل شيء‫.‬ وقُرِأَت ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ من التقدم، أي‫:‬ يمشوا أمامَه أو يتقدموه في السير، أو يتقدموه في الدخول إلى أي مكان، أو يتقدموه في الأكل من الطعام، أي نوع من أنواع التقدم ممنوع، والخطاب للمؤمنين‫.‬ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والآية دليل على أن طاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واجبة، وأن التعرض لكلامه وحديثه وأوامره ونواهيه ممنوع، بل الواجب الاتباع، والاتباع المطلق دون تردد ودون أخذٍ و رَدّ ودون تفكير في العِلَّة أو لِمَ أو لماذا، بل الواجب الاتباع المطلق وعدم الاعتراض على أي أمرٍ أو فعلٍ أو قولٍ أو حُكْمٍ يقضي به رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ اتقوا المخالفة، اتقوا هذا الذي نهاكم عنه‫.‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم‫.‬‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَرْفَعُوٓا۟ أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىِّ وَلَا تَجْهَرُوا۟ لَهُۥ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـٰلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿2﴾
‫﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كَرَّرَ النداء لجذب الانتباه ولمزيد الاتعاظ، أيضا للدلالة على أهمية واستقلال الأمر المنادَى له، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مرة أخرى انتبهوا، واستمعوا، واستيقظوا فالأمر جَدُّ خطير! ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ إذاً فرَفْعُ الصوتِ فوق صوت النبي (صلى الله عليه وسلم) في الكلام معه، أو في الكلام مع غيره في حضرته ممنوع‫.‬ يجب أن تكون الأصوات منخفضة عن صوت النبي (صلى الله عليه وسلم) في أي أمر، في أي شأن، في الحديث معه، أو في الحديث مع غيره في حضرته‫.‬ ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ وقد يُظَنّ ويُتَوَهَّم من قول‫:‬ ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ جواز مساواة الصوت لصوت النبي، فلو كان الصوت مماثلا لصوت النبي جاز، من هنا لِدَفْعِ هذا التوهم والظن يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ و (الكاف) كاف التشبيه والتمثيل، أي‫:‬ حين تخاطِب زميلَك وأخاك ومن هو مثلَك فالمخاطبة قد تكون متماثلة، أمَّا مع سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) فيجب أن يكون الصوت خفيضا وأخفض وأقل من صوت النبي‫.‬ إذاً فالممنوع رفع الصوت، أيضا يُمْنَع أن يساوي صوتُك صوتَه، فلابد أن تكون نبرة الصوت أخفض وأقل من صوت النبي (صلى الله عليه وسلم). أيضا حين يقول‫:‬ ﴿ولا تجهروا له بالقول﴾ لم تُتْرَك مطلقة، وإنما جاء بكاف التشبيه والتمثيل لبيان أمر غاية في الأهمية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ إذاً فالجهر المطلق ممنوع، يجب أن ينخفض الصوت ولا يساوي، ولكن حين تخفض صوتك عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سواءً كنت مُحدِّثاً له، مُحدِّثاً لغيره في حضرته أيضا لا تجهر له كجهرك لأخيك، بمعنى أنه يَحرُم أن تناديه وتقول‫:‬ يا محمد! أو تقول‫:‬ يا أبا القاسم! فنداء النبي بالاسم والكنية ممنوع، وإنما يجوز النداء عليه بالصفة‫:‬ يارسول الله! يا نبي الله! ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ تؤكد قول الله (تبارك وتعالى): ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٦٣] فيحرُم أن تناديه باسمه، ويحرم أن تناديه بكنيته، بل النداء بالصفة‫.‬ ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي‫:‬ كراهية أن تحبط أعمالكم، أو‫:‬ لئلا تَحْبَطَ أعمالُكم بهذا الفعل، وقد يكون التقدير‫:‬ (لَأَنْ) تحبط أعمالكم، و (اللام) لام الصيرورة، وكأن هذا الفعل يصير بصاحبه إلى الكفر‫.‬ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي‫:‬ وأنتم لا تشعرون بأن ذلك مُحْبِطٌ للعمل، لا وأنتم لا تشعرون بحبوطها‫.‬ لأن العمل إذا حبط شعر صاحبُه، وإذا كَفَرَ كَفَرَ باختياره، وإذا أضاع ثواب أعماله أضاعها باختياره، فكلمة‫:‬ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي‫:‬ وأنتم لا تظنون وتعتقدون وتحسون أن هذه الأعمال من رفع الصوت ومن الجهر بالقول للنبي (صلى الله عليه وسلم) ومن ندائه باسمه أو بكنيته؛ لا تشعرون أن هذه الأفعال تضيع ثواب الأعمال‫.‬ و (الحُبوط): الهلاك والضياع والذهاب، من قولهم‫:‬ (حَبِطَت الناقة أو الشاة) إذا استحلَّت المرعى وأكلت حتى امتلأت فانتفخت فماتت‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فحبوط العمل يعني ذهابه بمعنى‫:‬ ذهاب الثواب، فالعمل كَلَا عمل، لأنه لا ثواب له من أجل رفع الصوت على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقط! وتخيل مجرد رفع الصوت يحبط العمل، رفع الصوت عن غير قصد، والجهر له بالقول، أي يساوي صوتك صوته، يضيع ثواب العمل، وكذلك النداء عليه بالاسم أو الكنية يضيع ثواب العمل، كل ذلك إن حدث حدث عن غير قصد وعن غير عمد، أما رفع الصوت استهانة بمقامه، أو اجتراءً عليه فذاك هو الكفر بعينه‫.‬ والخطاب للمؤمنين وليس للناس، ولما كان الخطاب للمؤمنين والنداء عليهم دلّ ذلك على أن رفع الصوت الذي عوتبوا عليه وحُذِّروا منه هو الحادث منهم عن غير قصد وعن غير علم، بجهلٍ بمقام النبوة وجلال قدرها‫.‬ والآيات تُشعِر أن النبيَّ بمكانٍ من الله يوجب توقيره واحترامه‫.‬ ثم يأتي الكلام عن الذين استجابوا للأوامر، أو الذين وفقهم الله (تبارك وتعالى) لهذه الآداب من قبل نزول الآيات‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿3﴾
الغَضّ: الخفض، غَضَّ طرفَه، غَضَّ من بصرِه، غَضَّ من صوتِه‫:‬ خَفَضَه‫.‬ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) وكلمة (عند رسول الله) تعني حالة الحديث معه أو مع غيره في حضرته‫.‬ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ أخلصها فلم يبق فيها غير التقوى، امتحن قلوبهم للتقوى‫:‬ عَرَفَها وعرف أنها أهل التقوى، فامتلأت بالتقوى وبالخشية وبالخشوع‫.‬ والامتحان في الأصل‫:‬ (امتحان الذهب) بإذابته حتى يخلص إبريزه من خبثه، والامتحان يؤدي للعلم، فأنت إذا امتحنت شيئا عَلِمتَ أصله وفصله، وإذا امتحنت الذهب خلّصته، وبالتالي أولئك الذين امتحن قلوبهم للتقوى، إذاً فقد أصابهم بأمورٍ نتج عنها أنهم خَلُصوا وخلصت قلوبهم للتقوى، فلم يشغلها غير التقوى، وليس فيها محل لشيء سوى التقوى‫.‬ أيضا امتحن قلوبهم للتقوى‫:‬ أخلصها للتقوى، فهم أهل التقوى وأهل لها، وامتلأت قلوبهم بخشية الله (تبارك وتعالى). أولئك ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ إستئناف لبيان أن خفض الصوت عند رسول الله فقط، الأدب في حضرته فقط، يؤدي إلى المغفرة والأجر العظيم، بل وجاء الجزاء والثواب نكرة، ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) هذا التنكير للتعظيم، ولبيان عِظَمِ قدر هذا الأجر الجزيل على خفضهم لصوتهم عند رسول الله، وتأدبهم بأدب الله الذي أدَّبهم به‫.‬ أيضا تُشْعِر بأن من لم يفعل ذلك ليس من أولئك، هؤلاء غَضُّوا أصواتهم فلهم مغفرة وأجر عظيم، غيرهم الذين لم يتأدبوا بهذا الأدب لهم أمر غير ذلك، ما هو الأمر المخالف للمغفرة؟ العقاب، ما هو الأمر المخالف للأجر العظيم؟ العذاب الأليم فالذين يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم مغفرة وأجر عظيم‫.‬ وبضدها تتميز الأشياء‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿4﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا۟ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًۭا لَّهُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿5﴾
‫﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾ ﴿الْحُجُرَاتِ﴾: جمع حُجْرة، أو جمع حُجَرْ. والكلمة مادتها أصلا من المنع، الحَجْر‫:‬ المنع، وكل شيء مَنَعْت أن يوصَلَ إليه فقد حَجَرْتَ عليه‫.‬ والحُجْرَة هي المكان المحاط بحائط فلا يوصَلْ إليه‫.‬ ﴿الْحُجُرَاتِ﴾: هي حجرات نسائه (صلى الله عليه وسلم)، والآية تُشعِر أن النبيَّ ما احتجب عن رعيته، وإن كان في خلوته فهو في بعض شأنه مع نسائه، كناية عن اختلائه (صلى الله عليه وسلم) بنسائه، وأنه لا يحتجب عن رعيته إلا لمراعاة شئونه وشئون نسائه، للراحة، للطعام، إلى غير ذلك من هذه الشئون‫.‬ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ المنادي كان واحدا أو أثنين من وفد بني تميم، لكن العار لحق بالجميع، لأن النداء حدث فيهم، ومن فعل منهم ذلك فقد أصاب الجميع بهذا العتاب‫.‬ ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ لأن البعض منهم لم يكن راضيا عن ذلك، (أكثرهم لا يعقلون) لأن العقل يوجب الحِشْمة والأدب والوقار والتأدب في معاملة سيد الخلائق أجمعين‫.‬ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ بغير نداء فلا ينادون عليه، دخلوا المسجد فلم يجدوه ينتظروا ويصبروا‫.‬ وكلمة (حتى) تفيد غاية للشيء في ذاته، إذاً معنى هذا أنه ينبغي أن يصبروا ولا ينتهي صبرهم أبدا لأن الغاية من الصبر خروج النبي، وطالما لم يخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فالصبر قائم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ وكلمة (إليهم) تفيد لو أنهم دخلوا المسجد وانتظروه وخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من الحجرات، فليس لهم أن يكلموه أو يذهبوا إليه أو ينتهي صبرهم، فقد يكون قد خرج للصلاة، أو خرج لشأن من الشئون، أو خرج لغيرهم، فعليهم الصبر حتى يخرج (إليهم) أي يتوجه إليهم ويستفتحهم أو يفاتحهم بالخطاب ويكلمهم، ﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ ولم يقل‫:‬ حتى (تخرج) لأنه قد يخرج لغيرهم، فهم من الواجب عليهم أن يصبروا حتى يخرج، وبعد أن يخرج يتوجه إليهم ويفاتحهم ويبدأهم بالكلام، لو أنهم فعلوا ذلك ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في دنياهم وفي دينهم، إذا نادوا، إذا لم يصبروا، كان شرا لهم، لأن عدم النداء، والصبر، والانتظار حتى يفاتحهم هو بالكلام ذاك خير، عكسه شر‫.‬ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور رحيم لما مضى، لما فعلوه قبل أن يعلموا، أو فعله البعض منهم، غفور رحيم إذ أنه اقتصر (سبحانه وتعالى) على النصح والتقريع، ولو شاء لعاقبهم في التو واللحظة، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة‫.‬ غفور رحيم إذ اقتصر على النصح والتقريع ولم يعاجلهم بالعقوبة، أيضا غفر لهم ما مضى من أمرهم قبل أن تنزل هذه الآيات‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخوة والأحباب، يُقال في سبب نزول هذه السورة وهذه الآيات على وجه الخصوص‫:‬ أن وفدا من بني تميم، وكانوا أعرابا فيهم الجفاء والغلظة، جاءوا وكانوا سبعين رجلا، جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليُفَادوا ذراري لهم، فنادى بعضُهم، قيل‫:‬ هو الأقرع بن حابس أو عيينة بن حصن، نادَوا على رسول الله وقالوا‫:‬ يا محمد أخرج إلينا فإن مَدْحنا زَين وذَمَّنا شَين، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ذاك الله! " الله هو الذي مَدْحُه زَين وذَمُّه شَين، أما الإنسان مهما مَدَح أو ذَمّ لن يؤثر ذلك في الممدوح أو المذموم، فحين قالوا مدحنا زين وذمنا شين، قال‫:‬ "ذاك الله! "، هو الذي له هذا، وخرج إليهم‫.‬ وقال أبو بكر‫:‬ يا رسول الله أمِّر عليهم فلانا، القعقاع بن معبد، وقال عمر‫:‬ بل أَمِّر عليهم فلانا، الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر‫:‬ ما أردتَ إلا خلافي، قال عمر‫:‬ ما أردتُ خلافك! فتماريا فارتفعت أصواتهما، فنزلت هذه الآيات في شأن رفع الصوت، وفي شأن المناداة من وراء الحجرات، وفي شأن الكلام بالاسم (يا محمد). ومن هنا بعد أن نزلت الآيات قال أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وسلم): والذي بعثك بالحق، لا أخاطبك بعد ذلك إلا كأخ السِّرار، كأني أُسِرُّ إلى أخي سِرّاً، فكان يُسِرُّ إليه الكلام ولا يُسمِعُ أحداً من الحاضرين ما يقوله‫.‬ وأما عمر فكان يخفض صوتَه حتى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يستفهمه‫:‬ "ماذا قلت يا عمر؟ " مرة مرة ومرات، لأنه لا يسمع ما يقوله من خفض الصوت‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتَفَقَّدَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) أصحابه يوما، فلم يجد ثابت بن قيس، فأرسل يسأل عنه، فقال رجل‫:‬ أنا يا رسول الله أعلم لك عِلْمَه، فذهب فوجده في بيته جالسا مُنَكِّساُ رأسَه فقال‫:‬ ما شأنك يا ثابت؟ قال‫:‬ شَرّ! قال‫:‬ ولِمَ ذلك؟ قال‫:‬ رفعت صوتي، وتكلم عن نفسه وقد كان جهير الصوت، فهو خطيب النبي (صلى الله عليه وسلم) كما كان حَسّان شاعر النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال عن نفسه أنه رفع صوته فوق صوت النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه يخشى أن يكون قد حبط عمله، فعاد الرجل إلى رسول الله وأخبره بالخبر، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ارجع إليه وقل‫:‬ لست منهم، بل تعيش حميدا، وتموت شهيدا، وتدخل الجنة" وقد استشهد ثابت بن قيس في حرب اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب، بل إن ثابت بن قيس بعد ما بُشِّرَ بهذه البشرى وذهب لحرب اليمامة قُتِلَ شهيدا هو وسالم مولى حذيفة، حَفَروا حُفَر في الأرض وجلسوا فيها حتى لا ينكشفوا، أخذوا يقاتلون حتى قُتِلوا، ورأى رجلٌ من أصحاب ثابت، هذا الذي بشره النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه يموت شهيدا، رآه في المنام قد أتاه وقال له‫:‬ كان عليَّ دِرْعٌ حين استُشْهِدتُ فأخذه رجل من المسلمين وأخفاه في مكان كذا وكذا وكذا، اذهب إلى خالد بن الوليد، قائد الجيش، ومُرْهُ أن يأخذ درعي من عنده ويذهب به إلى أبي بكر خليفة رسول الله ويقول له‫:‬ ثابت يقول لك‫:‬ بِعْ هذا الدرع واصنع بثمنه كذا وكذا، وعبدي فلان وعبدي فلان، أو رقيقي فلان ورقيقي فلان حر لله، وإياك أن تستيقظ وتقول حُلم! ونَفِّذْ.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫واستيقظ الرجل وذهب إلى خالد وأخبره برؤيا ثابت بن قيس، وذهب خالد إلى المكان الذي وُصِفَ في المنام فوجد الدرعَ فأخذه، وذهب به إلى أبي بكر وقص عليه القصص، فأنفَذَ أبو بكر وصيتَه وهو ميت! ثابت بن قيس ذاك الذي خشى وخاف واعتزل في بيته منكسا رأسه خوفا من رفع صوته فوق صوت النبي (صلى الله عليه وسلم) فبشره‫:‬ "بل تعيش حميدا وتموت شهيدا وتدخل الجنة" أو كما قال‫.‬‬‬‬‬
‫فقد أرسل رسول الله رجلا يُدْعَى وليد بن عقبة ابن أبي مُعَيط، وعقبة ابن أبي مُعَيط كان مشركا وقُتِلَ في بدر، أما ابنه وليد فقد كان مسلما، أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) وليد بن عقبة إلى بني المصطلِق ليأخذ منهم الصدقات، وكان بينه و بين القوم إِحَن، وحين ذهب إليهم وسمعوا به، خرجوا إليه ليستقبلوه ويكرموه، فهابهم واعتقد أنهم خرجوا ليقتلوه فعاد مرتعدا خائفا مسرعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم له أن الناس منعوا الزكاة وهموا بقتله‫.‬ فهَمَّ النبي أن يغزوهم فنزل جبريل ينبئه بالخبر، وجاء القوم بصدقاتهم وقالوا‫:‬ يا رسول الله أرسلت إلينا مُصَدِّقا، أي يجمع الصدقات، فخرجنا لنكرمه ولنستقبله فولّى مدبرا وزعم أننا خرجنا لنقتله، والله يارسول الله ما خرجنا لذلك، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓا۟ أَن تُصِيبُوا۟ قَوْمًۢا بِجَهَـٰلَةٍۢ فَتُصْبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَـٰدِمِينَ ﴿6﴾
‫﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ النداء أيضا للمؤمنين، وتعددت النداءات في السورة، فالأدب للمؤمن‫.‬ ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ فاسق‫:‬ أيُّ فاسق، تنكير للتعميم، الفاسق‫:‬ الكذاب، في هذه الآية، والفاسق عموما‫:‬ هو من ترك مأمورا به أو ارتكب محظورا، ذاك هو الفاسق، الخارج عن الطاعة بأي صورة من الصور‫.‬ ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ أيُّ نبأ، ذاك التنكير للتعميم‫.‬ ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وقُرِأَت‫:‬ ﴿فتثبتوا﴾، تبينوا من التبيين والتَبَيُّن، فتثبتوا، فتوقفوا ولا تقضوا بشيء، لا تفعلوا شيء حتى تتيقنوا الخبر‫.‬ ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ أي‫:‬ لئلا تصيبوا قوما بجهالة وأنتم جاهلين أحوالهم، كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعزم على الخروج لهؤلاء الذين منعوا الزكاة، فلو خرج إليهم أو قاتلهم لحدث عنت شديد‫.‬ ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ والندم‫:‬ الغم الشديد على فِعْلٍ تم مع تمني ألا يكون قد حدث، وهذه الآية دليل على أن خبر الواحد العدل مقبول، لأن الله شَرَطَ التبيُّن بفسق المُخبِر‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ إذا ً فالتبيُّن إذا جاء الخبر من فاسق، فإذا جاء الخبر من عدل بغير تبيين فالآية دليل على قبول خبر الواحد العدل، أما خبر الفاسق إن كان متعلقا بغيره فلابد من التبيُّن، أما إذا جاء الفاسق فأقرّ على نفسه بدَيْن قُبِلَ خبرُه، فيُقْبَل خبرُ الفاسق فيما يتعلق بشخصه في الدعوة، أن يدّعي شيئا، وفي الجحود والنكران، أن يُنْكرَ عن نفسه يُقْبَل خبرُه، يُقْبَل يمينُه أيضا إذا أَقَرَّ على نفسه بشيء لغيره أو بحق، أيضا إذا نقل الفاسق خبرا أو أمانة عن أحد لأحد طالما لم يخرج الأمر عن المبلغ والمبلغ له قبل الخبر لأننا لو مَنَعْنا خبر الفاسق في كل الأمور لتعطلت المصالح، فليس كل الناس عدول، وخبر الفاسق ممنوع فيما يخص الناس، فيما يخص غيره، فيما يخص العامة، فيما يخص الأحكام العامة، أما فيما يختص بذاته، أو أرسله واحد من الناس إلى غيره وقال أعطه هذا أو قل له ذلك أو ما إلى ذلك قُبِلَ خبرُه، لأنه لم يتعدَّ من أرسله ومن أُرْسِلَ إليه‫.‬‬‬‬
وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ ﴿7﴾ فَضْلًۭا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةًۭ ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌۭ ﴿8﴾
‫﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ إذاً فالآية تُشعِر بأن هناك من أشار على النبي (صلى الله عليه وسلم) بغزو بني المصطلِق وصَدَّق خبر الوليد، لأن الله يقول‫:‬ ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ إذاً فهناك فريق أشار على النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك، أو في بعض الأمور الأخرى، لو يطيعكم رسول الله فيما تأمرونه به وتحدثونه عنه لعَنِتُّم، والعَنَت، عَنِتَ الرجلُ عَنَتا‫:‬ ً أصابه الجهل والمشقة والهلاك، ويُعَبَّر بالعنت عن الأمر الشاق الشديد، لعَنِتُّم‫:‬ أي لَشَقَّ ذلك عليكم ولأصابكم الهلاك، أنتم ليس هو، لأنه يقضي بالظاهر، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم‫.‬ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ هذا الكلام يدل على أن هناك فئة أخرى لم تُشِرْ عليه بشيء، ولم تأمره بغزو بني المصطلِق، بل صمتوا وتركوا الرسول يقضي بما يرى، وأرادوا التثبت والتبيُّن، هؤلاء يذكرهم الله (تبارك وتعالى) ويمتدحهم بأنه حبَّبَ إليهم الإيمانز وقد تكون الآية استئناف لبيان عذر من أشار إليه بغزو بني المصطلق، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ولكن الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، أي‫:‬ أن العذر لكم، لأنهم حين أشاروا عليه بالغزو كان ذلك من فرط حبهم اللإيمان، وفرط كرههم للكفر والامتناع عن الانقياد، فأشاروا عليه بذلك، فالله يعذرهم ويبين العلة في خطئهم‫.‬ أو الكلام عن غيرهم، فهم فريقان، فريق أشار وفريق توقّف‫.‬ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ إذاً فالإيمان من فعل الله، والله (تبارك وتعالى) خَلَقَ الخلْقَ وأعمالَهم، والإيمان مخلوق، والإيمان في قلب المؤمن من خَلْقِ الله (تبارك وتعالى)، ولا فضل لمؤمن في إيمانه، بل الفضل كله لله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ على كل الأديان وعلى كل الشرائع‫.‬ ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ جعله مُحَبَّباُ إلى قلوبكم، جعله مميَّزاً عن غيره‫.‬ ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ الكُفْر‫:‬ جحود النعمة، الكَفْر‫:‬ التغطية، الكُفْر‫:‬ تغطية نعمة الله، والخطاب للمؤمنين ﴿كَرَّهَ إليكم الكفر﴾ أي‫:‬ الجحود بنعمة الله، إذ كل مؤمن يعلم أن الله (تبارك وتعالى) نِعَمَهُ لا تُحصى على مر الدهور، ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ فكَرَّهَ الله إليهم الكفر والجحود بالنِّعَم‫.‬ (وَالْفُسُوقَ): الخروج عن الطاعة، من قولهم‫:‬ فَسَقَت الرُّطَبة‫:‬ خرجت عن قشرتها، فكذلك الفسوق‫:‬ الخروج عن لباس التقوى الذي أنزله الله علينا، ﴿لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٦]، والفسوق‫:‬ ترك الأوامر وارتكاب النواهي، كَرَّه إليكم الكفر، وكَرَّه إليكم الفسوق، وكَرَّه إليكم العصيان، والعصيان‫:‬ عدم الانقياد، الامتناع عن الانقياد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ شهادة لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، لا يكفر أحد منهم أبدا نعمة الله عليه، ولا يفسق واحد منهم أبدا، ولا يعصي واحد منهم أبدا، شهادة من العلي الأعلى الذي خلقهم وهيأهم لذلك، واختارهم أصحابا لنبيه (صلى الله عليه وسلم)، ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ شهادة تؤكد الشهادة التي جاءت في آخر سورة الفتح، أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فوق كل الشبهات، كلهم عدول، وكل ما حدث منهم باجتهاد، وكل مجتهد مصيب، وما فسقوا بحروبهم، وما عصوا بحروبهم، وما كفروا باختلافهم أبدا، كل ذلك باجتهاد، وكل مجتهد مصيب، فقد حكم الله عليهم بذلك ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. والرَّشَد‫:‬ الاستقامة على طريق الحق مع تَصَلُّبٍ فيه، ليس الاستقامة فقط على طريق الحق، بل التصلب أيضا في هذا الحق، الرُّشد من الرشادة‫:‬ وهي الصخرة الصلبة القوية، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ حكم من الله وشهادة‫.‬ ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ إذا ً فحب الإيمان فضل، وتزيين الإيمان في قلب العبد نعمة، وأن يُكَرِّه لك ربُّك الكفر والفسوق والعصيان ذاك من فضل الله عليك وليس من كسبك أو من فعلك أبدا، وإنما هو من خَلْق الله ومن فعل الله‫.‬ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ عليم بأحوالكم حكيم في تدبير أموركم‫.‬ أيها الأخ المسلم هذه السورة والتي نزلت كي يتأدب الناس بأدب الله (تبارك وتعالى) هذه السورة تبين رفعة قدر النبي (صلى الله عليه وسلم) وحرمته وجلال قدره وعظيم شأنه، أيضا تشهد للأصحاب بأنهم هم الراشدون (رضى الله عنهم أجمعين).‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم اعلم أن حرمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته كحرمته (صلى الله عليه وسلم) في مماته، وأن رفع الصوت في حضرته وهو حي كرفع الصوت أمام مقصورته وهو ميت، ورفع الصوت في مسجده (صلى الله عليه وسلم) بعد ما مات ودُفِنَ فيه إثمه كإثم رفع الصوت في حضرته وهو حي، وحرمة النبي (صلى الله عليه وسلم) لا تنتهي أبد الآبدين، فهو الشفيع وهو الشافع وهو المقرَّب وهو سيد الخلائق أجمعين منذ خُلِق إلى الأبد، واعلم أن حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته هو حديثه بعد مماته، وإذا قُرِئ عليك حديث رسول الله الآن، وجب أن تعلم أن حرمة الحديث المقروء عليك كحرمة الحديث الذي نطق به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا يجوز رفع الصوت مطلقا في حضرة من يقرأ حديث رسول الله، وقراءة حديثه بعد مماته كما لو كان هو المتحدث، وجب على السامعين الأدب لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما لو كان في حضرته؛ لأن حرمة الكلام قائمة بدليل قوله (تبارك وتعالى): ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٢٠٤] فكان الأمر لحرمة القرآن إذا تلاه النبي أو تُلِيَ عليك إلى أن تقوم الساعة، (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) إذا قُرِئ من أي إنسان، من أي شخص، في حياة النبي وبعد مماته، حرمة الكلام لا تنتهي، كذلك حرمة حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما نطق عن الهوى بل هو وحي يوحى، وحرمة حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كحرمة القرآن؛ لأن أكثر بل كُلُّ حديث رسول الله وحي يوحى، وما تكلم من تلقاء نفسه، وقد عَدَّدَ الفقهاء والعلماء و حصروا حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوجدوا أن غالب الحديث وحي وقليل من حديثه وكلامه بلفظه وبتعبيره، أما الغالب والأعظم والأكثر من حديثه فهو بوحي من الله (تبارك وتعالى) فتصبح حرمة حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كحرمة الوحي‫.‬‬‬‬‬
‫كذلك لا يجوز رفع الصوت عند قراءة الحديث، ولا يجوز الاعتراض على حديث رسول الله، ولا يجوز التقديم بين يدي حديث رسول الله، ولا يجوز مطلقا التعليل أو الاعتراض أو الإنكار أو الجحود، بل يجب الاتباع، والاتباع المطلق لحديث رسول الله‫.‬ وإذا ذهبت لزيارة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنّ الله عليك بهذا، وتفضّل عليك بشرف المثول في حضرته، فتأدب بالأدب الذي أدبنا به الله (تبارك وتعالى) وقِفْ بعيدا عن المقصورة متأدبا خاشعا في حضرة سيد الخلائق، وإياك ورفع الصوت ولو بالصلاة عليه، وإياك والتلصص من المقصورة أو التمسح فيها، بل ابتعد عنها وقِفْ متأدبا خاشعا فإنه يراك، بل ويسمع قولك ويرد السلام عليك، إي وربي! ما سَلَّم عليه مؤمنٌ إلا رد عليه السلام، فعليك بالأدب في حضرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي حضرة حديثه، واعلم أن حرمة النبي (صلى الله عليه وسلم) قائمة إلى الأبد لا تنتهي، وحرمة حديثه كذلك، صَلُّوا عليه، ومن صَلَّى عليه صلاة صَلَّى الله عليه بها عشرا، فأنتم المستفيدون من الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإياكم والوقوع في أصحابه فمن سب أصحابه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقْبلُ منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، إياكم وأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وتأدبوا معهم، واحتشموا وتأدبوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومع حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإياك أن تجترئ فتنادي باسمه، وإياك وأن تجترئ فتنادي بكنيته، وإياك أن يُذْكَرَ في حضرتك ولا تصلي عليه، فقد قال جبريل للنبي‫:‬ (يا رسول الله أَبْعَدَ اللهُ رجلاُ ذُكِرْتَ عنده ولم يُصَلِّ عليك، قل آمين) فقال (صلى الله عليه وسلم): "آمين."‬‬‬
‫كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه‫.‬ وإذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، هكذا قال سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم). وحين سُئل‫:‬ هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول؟ قال‫:‬ "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". وهو القائل‫:‬ "سِبابُ المؤمن فسوق وقتاله كُفْر". ولكنا نرى في سورة الحجرات أن الله (تبارك وتعالى) حدثنا عن قتال المؤمنين بعضهم لبعض، وهل يقتتل المؤمنون؟ نعم! يقتتل المؤمنون، واقتتال المؤمنين لا يخرج عن ثلاثة أحوال‫:‬ أن تكون الفئتان المتقاتلتان باغيتين، أو تكون إحداهما باغية على الأخرى، أو تكون الفئتان متأوِّلتان؛ كلٌّ اجتهد واعتقد أنه مصيب‫.‬ تلك هي أحوال ثلاثة، وربنا (تبارك وتعالى) ينبه لهذه الأحوال الثلاثة فيقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُوا۟ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓا۟ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾
وفي الآية دلائل على أمور‫:‬ أول دليل في الآية أن القتال بين المؤمن والمؤمن لا يرفع عنه صفة الإيمان، فقد سمّاهم ربنا (تبارك وتعالى) مؤمنين‫.‬ الأمر الثاني أن الآية تأمر أولي الأمر بالإصلاح بين المتقاتلِين‫.‬ وفي الآية أمر بقتال الفئة الباغية، وهو فرض على الكفاية؛ إن قام به البعض سقط عن الكُلّ، وإن لم يقم به أحد أثِمَ الكُلّ. وفي الآية دليل أيضا على أن الفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله تُرِكَت، في الآية أَمْرٌ بالإصلاح أولا، ثم أَمْرٌ بالقتال ثانيا، ثم أَمْرٌ بالإصلاح بعد ذلك قُيِّدَ بالعدل‫.‬ لو تأمَّلْنا الآية لوجدنا الله يقول‫:‬ ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ ثم قال بعد ذلك وبعد الأمر بالقتال للفئة الباغية‫:‬ ﴿فإن فاءت﴾ إلى أمر الله ﴿فأصلحوا بينهما بالعدل﴾ وقَيَّد الصلح هنا بالعدل لم يُقَيِّدْهُ في الآية الأولى لأن القتال لم يحدث والنفوس لا زالت بريئة من الهوى، فنحن نأمر بالإصلاح ونزيل الشبهات ونصلح بين الفريقين، ولكن هذا الصلح إذا لم يُجْدِ وبغت إحدى الطائفتين أُمِرْنَا بقتال الفئة الباغية، فإن فاءت بعد القتال هناك مظنة الحَيْف والجَور في إصلاحنا بين الطائفتين لأننا قد قاتلنا إحدى الطائفتين وأصبنا منها وأصابت منا، فهناك مظنة الجور للدماء التي سالت منا ولِما أصابنا في هذا القتال، من هنا قَيِّد الله إصلاح في المرة الثانية بالعدل وأّكَّد‫:‬ ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. الحالة الأولى أن يقتتل فئتان من المؤمنين والفئتان باغيتان، كلٌّ منهما باغية ظالمة بشبهة أو بتأويل لا يَسُوغ، وفي هذه الحالة على أولي الأمر أن يزيلوا الشبهات بين الطائفتين وأن يصلحوا بينهما بتبيين أمر الله وبالفصل بين المتقاتلين بما حكم به الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الحالة الثانية أن تكون إحدى الطائفتين باغية والأخرى بُغِيَ عليها، وهنا وجب على أولي الأمر أن يبينوا الأمر للفئة الباغية بالنصح والإرشاد وبدعائها إلى كتاب الله ليحكم بينهما، فإن استجابت وضعت الحرب أوزارها وكفى الله المؤمنين القتال، فإن لم تستجب لدعوتها لأمر الله وظلت على بغيها وإصرارها على قتال الطائفة الأخرى وجب هنا على ولي الأمر أن يقاتل الفئة الباغية بمن معه من المسلمين، وفرض القتال هنا فرض كفاية‫.‬ يقاتل الفئة الباغية حتى تعود وترجع وترضى بحكم الله (تبارك وتعالى) فإن حدث ذلك تم الصلح بينهما بالعدل، وفي كلمة العدل أقوال وآراء‫.‬ الحالة الثالثة أن يكون التقاتل بين الطائفتين لاعن بَغْيِ إحداهما على الأخرى ولا عن شبهةٍ وظلم ٍ من الفئتين، بل الفئتان متأوِّلتان، كما حدث بين الصحابة، كل فريق يعتقد أنه على الحق ولا يرضى لنفسه أن يكون باغيا ولكن الحق اشتُبِهَ عليهم واختُلِفَ فيه، و كل فريق يظن أنه على الحق، وهنا على ولي الأمر أو على المسلمين أن يصلحوا بين الطائفتين بدعوتهما لحكم الله ولابد أن يستجيبا، لأن الطائفتين متأوِّلتان مجتهدتان كل منهما يعتقد أنه على الحق، ففي أغلب الأمور والأحوال تستجيب الطوائف المختلفة لحكم الله، وهنا يُحَكَّم بينهما بكتاب الله، فإن لم يصطلحا ويكُفَّا عن القتال أصبحت الفئتان باغيتين ووجب على ولي الأمر أن يقاتل الفئتين معا حتى يعود الجميع إلى أمر الله‫.‬ (الطائفة): الجزء من الشيء، و (الطائفة) تُطَلق على الرجل الواحد وعلى الاثنين وعلى الجماعة، وقد قال الله في سورة النور‫:‬ ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٢] وقيل‫:‬ يصح بشهود رجل واحد، فالطائفة من الشيء‫:‬ الجزء منه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الطائفتان باغيتان، الطائفتان يقاتلان بشُبَه وباجتهاد أو بتأويل لا يسوغ لهما أو منهما، هنا يحدث الصلح، المصالحة، الدعوة لأمر الله، فإن استجابت الطائفتان كان بها، وإن استجابت إحداهما وأَبَت الأخرى فهي باغية ووجب قتال الفئة الباغية‫.‬ ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ و (البغي): التطاول والفساد، فإن بغت إحداهما على الأخرى ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ أَمْرٌ بالقتال، فرض كفاية‫.‬ ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ (تفيء): ترجع، وسُمِّيَ الظل فَيئاً لرجوعه بعد غياب الشمس أو بعد زوال الشمس، ﴿حَتَّى تَفِيءَ﴾: حتى ترجع، (إلى أمر الله): إلى حكم الله‫.‬ ﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾ أي‫:‬ رجعت وكفّت عن القتال هذه الفئة الباغية وارتضت حكم الله، ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ بين الطائفتين، ﴿بِالْعَدْلِ﴾ قُيِّدَ الصلح هنا بالعدل كما قلنا لأن مظنة الحيف والجور قائمة على الصلح، قائمة في حق المصلِح لأنه قاتل وأُصيب وهكذا، وقد يدفعه ذلك للظلم أو للميل إلى الفئة غير الباغية، فأمرنا ربنا (تبارك وتعالى) بتحري العدل‫.‬ ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ واعدلوا في كل الأمور، و (القسط): هو العدْل، (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا): اعدلوا في كل الأمور‫.‬ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي‫:‬ يحمد أفعالهم بحسن الثواب والجزاء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وفي كلمة العدل أقوال؛ قال بعض الناس‫:‬ إذا تم القتال وفاءت الفئة الباغية هل تَضْمن الأموال والدماء أم لا تضمن؟ اقتتلت فئتان وتم الصلح بينهما، بغت إحداهما على الأخرى فقاتلنا التي تبغي حتى تفيء، ففاءت لكن هناك خسائر في الأموال، أيضا في الدماء، فهل تضمن الفئة الباغية، بمعنى هل تعوِّض، الفئة الأخرى عن الأموال التي افتقدت؟ وهل تدفع الدِّيَة عن الدماء التي سالت وأهريقت أم لا؟ قال بعض الناس‫:‬ لابد وأن تضمن، هذا هو الصلح بالعدل، أن تعوَّض الفئة التي ظُلِمَت وبُغِيَ عليها، تعوَّض في أموالها التي فقدتها وفي دمائها التي سُفِكَت‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ لا تضمن ولا تعوِّض إلا ما كان موجودا بعينه، كأن بغت فئة على فئة واستولت على أشياء، والأشياء موجودة لم تتلف، وجب إعادة الأشياء طالما هي موجودة بعينها، كالأراضي والدور والعقار وما إلى ذلك‫.‬ أما إذا تَلَفت، هُدِمَت الدور فكيف تُعاد؟ فلا ضمان ولا تعويض ولا دية عن الدماء، لأنك إذا أمرت الفئة الباغية بعد أن فاءت بالتعويض قد لا ترضى ويستعر القتال مرة أخرى، وقد لا تقوى أو لا تقدر‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ الأمر يتوقف على الحالة التي فيها الفئة الباغية، فإن كانت الفئة الباغية قليلة العدد ضعيفة الشوكة أُمِرَت فعوَّضت ووَدَت الدماء بالدية ودفعت التعويض الكافي عن الإفساد اللأموال، وإن كانت الفئة الباغية كثيرة العدد عظيمة الشوكة يُخشى من رفضها واستمرارها في القتال لا تَضْمن‫.‬ وذاك رأي ضعيف يجعل ميزان العدل يتأرجح‫.‬ وقالوا‫:‬ أبدا ليس ضعيفا! لأن المسألة تتعلق بالمصلحة، فالمصلحة العامة للمسلمين أن يُكَفَّ عن القتال، فإن كانت الفئة الباغية كثيرة العدد لا تَضْمن، حتى نَضمنَ السلام والوئام بين المؤمنين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ بل الفئة الباغية تَضْمن فهناك أحوال؛ إن كانت الفئتان باغيتين، كل فئة منهم وكل طائفة منهم باغية، فلا تعويض ولا دية فالكل ظالم، القاتل والمقتول، الفئة الباغية والفئة الأخرى أيضا باغية، فهما باغيتان، فلا ضمان بينهما ولا تعويض ولا دية‫.‬ أما إذا كانت الفئتان إحداهما باغية والأخرى غير باغية، بُغيَ عليها، ضَمِنَت الفئة الباغية، وأُمِرَت بالدِّية، وعوَّضت الأموال والدماء‫.‬ إن كانت الطائفتان مجتهدتين متأوِّلتين، كما حدث في شأن الصحابة، فلا ضمان بينهما ولا تعويض بينهما، لأن كل طائفة تعتقد أنها على الحق، فحين أفسدت الأموال أو سفكت الدماء سفكت باجتهاد وتأويل وليس بظلم وبغي، وعليه فلا يجب الضمان والتعويض إلا على الفئة الباغية‫.‬ وقالوا‫:‬ إذا اقتتل رجلان متوارثان كأخ وأخيه، فهل يرث القاتل المقتول؟ قالوا‫:‬ لا يرث القاتل المقتول أبداً. وقال بعضهم‫:‬ بل إذا كان القاتل باغيا لا يرث، أما إذا كان القاتل مَبْغيٌّ عليه، بُغِيَ عليه من المقتول فانتصر لنفسه وقَتَلَ الباغي، وَرِثَه قياساً على القصاص‫.‬ هذه الأوامر في شأن قتال المؤمنين لم تُفْهَم ولم تُعرف أحكامُها إلا بعد ما حدث بين الصحابة من قتال، لأنهم سنّوا لنا الأحكام في قتال المؤمنين والمسلمين، لأن الأحكام في قتال المشركين والكفار اتضحت بالكتاب و بِسُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقول الرسول وبفِعْلِه، فقتال المشركين وأحكام القتال وما يترتب عليه في الأسير والسبيْ والذَّراري والأموال والفيء والغنائم، كل ذلك اتضح بسنّة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) القولية والفعلية، أما القتال بين المسلمين فلم تتضح أحكامه إلا بما حدث بين الصحابة‫.‬ ولذا قال بعض الراسخين‫:‬ قتال الصحابة كان نعمة وفضلا من الله، حتى يبينوا لنا أحكام قتال المسلمين، وأحكام قتال الفئة الباغية، لأننا لم نكن نعرفها ولم يكن يتيسر لنا أن نعرفها إلا بسُنَّتِهِم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقد سُئِلَ الإمام علي (رضى الله عنه) عن الفئة التي قاتلها في صفين وموقعة الجمل‫:‬ أمشركون هم؟ قال‫:‬ لا، من الشرك فرُّوا‫.‬ قالوا‫:‬ أمنافقون هم؟ قال‫:‬ لا، لأن المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا‫.‬ قالوا‫:‬ فمن هم؟ قال‫:‬ إخواننا بَغَوْا علينا‫.‬ فتبينت الأحكام، ومن هذه الأحكام‫:‬ لا يُقْتَل أسيرُهم أبداً، أما في المشركين فيجوز قتل الأسير صبراً، أما في قتال المسلمين فلا يجوز قتل الأسير، ولا يُذَفَّفْ، أي‫:‬ يُجْهَزْ على الجريح، ولا تُسْبَى النساء، ولا تسبى الذُّرِّية، ولا تُقسَم الأموال، ومن فرَّ فلا يُتْبَع، ولا يُتبَع مُدْبِرا، ولا يُقتَل جريحا، ولا يُقتَل أسيرا‫.‬ أما في قتال المشركين فتُسبَى النساء، وتُسبَى الذرية، ويقسَم الفيء أو الغنيمة، وكذلك يمكن أن يُذفَّفْ على الجريح، ويمكن أيضا أن يُقتل الأسير طبقا لما يتراءى لإمام المسلمين‫.‬ أما في قتال المسلمين بعضهم بعضا فلا يصح مطلقا أن يُتبَع مدبرُهم طالما ولَّى، أو جُرِح إياك أن تُجْهِزَ عليه، أو أُسِر إياك أن تقتله، أو وقع ماله في يدك لا يحل لك، لأن المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه، وكذلك لا تُسبى النساء، ولا تُسبى الذرية‫.‬ وأول من قاتل المسلمين أبو بكر الصديق (رضي الله عنه وأرضاه)، حيث تمسكوا بالإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم واعتبرهم مرتدين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وأما ما حدث بعد ذلك بين الصحابة فكلهم متأوِّل، اقتتال الصحابة أمر شهدوه وغِبْنا، وعَلِموه وجَهِلنا، فإن اجتمعوا تَبِعنا، وإن اختلفوا وقفنا، دماءٌ نجَّى الله منها أيدينا فلا نخَضِّب بها ألسنتنا، هم أعلم بالأمر منا، وهم الذين شهدوا وغبنا، وهم أقرب من الله منّا، وهم الذين (رضي الله عنهم وغفر لهم)، فنأخذ من أمور قتالهم سُنَن وأحكام في قتال الفئة الباغية، لأن الفئة الباغية إذا خرجت على وليّ الأمر العدْل الحاكم المسلم الذي بويع بيعة صحيحة، إن خرجت عليه طائفة وجب عليه أن يدعوها إلى كتاب الله، كما فعل عليّ، فإن فاءت وعادت لا يحدث شيء معها، لا يعاقبها لا بالقتل، ولا بالأسر، ولا بمصادرة الأموال، فإن أصرَّت وبَغَت يقاتلها، فإن قاتلها لا يتبع مدبرَها، ولا يقتل أسيرها، ولا يذفف على جريحها، ولا يسبي نساءها وذراريها‫.‬ تلك هي الأحكام والتي منّ الله علينا ببيانها بأفعال الصحابة، فصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير متهمين في دينهم، بل هم العدول كلهم (رضى الله عنهم وأرضاهم) وقد كانوا مجتهدين، اجتهدوا وتأولوا، وكل أفعالهم وكل حروبهم كانت في سبيل الله، اجتهدوا فمنهم من اجتهد وأخطأ، ومنهم من اجتهد فأصاب، الله أعلم بهم وقد غفر لهم، فعلينا أن نبرئ ألسنتا من الخوض في شأنهم‫.‬ ثم يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌۭ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾
وقُرِئت (بين إخوتكم)، وقُرِأَت (بين إخوانكم). المؤمنون إخوة، هذه الأخوة هي أخوة الإيمان، وهي أَثْبَت من أخوة النسب، لأن أخوة النسب تنقطع بالاختلاف في الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بالاختلاف في النسب، فأخوة الدين أثبت من أخوة النسب‫.‬ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ أَكَّدَ ربنا (تبارك وتعالى) على الأخوة بين المؤمنين وإن تقاتلا لأن الأخوة قائمة، ثم يأمرنا بالإصلاح ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ وهنا جاء بالمُظْهَر بدلاً من الضمير، فالقياس‫:‬ (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينهم) فقال‫:‬ ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ فجاء باللفظ الظاهر للتأكيد والتعليل والتقرير على الأخوة والأمر بالإصلاح، وتعليل الغرض من الإصلاح، بل نَسَبَ الأخوة إلى المُصلِح فقال (فأصلحوا بين أخويكم) فهم إخوة، وهم أيضا لنا إخوة، فالمؤمن المختلف مع المؤمن هما أَخَوان، فإن دَخَلْتَ أنت لتصلح فلابد وأن تعتبر أن الكلَّ إخوة لك‫.‬ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوا مخالفة الله ومخالفة أمره في الصلح بين الناس وإن كانا اثنين، لأنه هنا انتقل من صيغة الجمع إلى صيغة التثنية‫.‬ واتقوا الله في الصُّلح أن يكون بالعدل، واتقوا الله في مخالفة أمره بقتال الفئة الباغية، وبالإصلاح بن الناس، ببيان الرشد وبيان الصواب وبيان حكم الله، فاتقوا الله في كل ذلك‫.‬ ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لأن الله (تبارك وتعالى) يرحم عباده الذين يرحمون إخوانهم، ويرحم عباده الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يَحقِره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره الشريف ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يَحقِرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". ذاك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) والتوفيق بين قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" وقوله‫:‬ "قتال المؤمن كُفْر" وبين هذا الكلام وهذه الآيات التي تفيد بأن المؤمن قد يَقتُل أخاه المؤمن، وأن القتال بين المؤمنين لا ينفي عنهم صفة الإيمان، وأن المؤمنون إخوة يُبَيِّن لك أن الأحوال تختلف، فالمسلم إذا رفع سيفه على المسلم من أجل الدنيا، من أجل الجاه، من أجل السلطان، هنا هو باغٍ، ومن مات دون عِرْضِه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون نفسه فهو شهيد، لأن الآخَر يبغي عليه، كالسارق إذا دخل عليك بالسلاح يبتغي مالك فقتلك فأنت شهيد وهو في النار، فإن قتلتَه أنت فأنت بريء وهو في النار‫.‬ أما إذا التقى المسلمان وهما باغيان كل يبغي على أخيه، يتصارعان من أجل الدنيا فهما لاشك في النار‫.‬ أما إذا التقى المسلمان أو المؤمنان واقتتلوا وهم مجتهدون، كلٌّ يرى أنه على صواب، كلٌّ يعتقد أنه على الحق، والهدف من القتال الله الدار الآخرة فذاك أمر آخر‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫إذاً فتتحدد المسألة بالهدف من القتال، فإن كان الهدف من القتال الدنيا وزخرفها وزينتها فالقاتل والمقتول في النار، وإن كان الهدف الدفاع عن المال أو العرض أو النفس أو الوطن، وإن كان الهدف ابتغاء مرضاة الله، إن كان الهدف هو رضوان الله، إن كان الهدف هو الآخرة، فذاك أمر آخر، وكل مجتهد مُصيب، فمن اجتهد فأخطأ فله أجر ومن اجتهد فأصاب فله أجران، وقتال الصحابة من هذا النوع، القتال الذي هو في سبيل الله، القتال الذي هو ناشئ عن اجتهاد وتأويل، منهم من اجتهد فأصاب ومنهم من اجتهد فأخطأ والله أعلم بالجميع‫.‬ يؤدبنا الله (تبارك وتعالى) كما أدَّب أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤدبنا ويقول‫:‬‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌۭ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُوا۟ خَيْرًۭا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌۭ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيْرًۭا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلْأَلْقَـٰبِ ۖ بِئْسَ ٱلِٱسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلْإِيمَـٰنِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿11﴾
‫(السُّخرية): الاستهزاء، سَخِرْتُ منه أسْخَرُ سَخَرا وسُخْرِية ومَسْخَرة، والاسم‫:‬ السُخْرِيّ والسِّخْريّ أيضا‫.‬ والاستهزاء غالبا ما يكون في الجموع والجماعات، في المجتمعات حيث يجتمع الناس، ولذا تجد ربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ ولم يقل (أحد من أحد) وكأن السخرية غالبا ما تكون في المنتديات والمجتمعات حيث يجتمع الناس فيسخرون بعضهم من بعض، أو يسخر أحدهم من أحد فيتضاحك الجميع‫.‬ وكلمة (قوم) تُطلَق على الرجال فقط، لأن الرجال هم القوامون ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٣٤] وسُمِّيَ الرجال قَوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد، إذا حدثت الشدائد ودُعِيَ الناس قام لها الرجال، فالقيام بالأمور وظيفة الرجال، من هنا يطلق كلمة قوم على الرجال‫.‬ ولكن قد تدخل النساء في كلمة قوم مجازا، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [سورة العنكبوت آية‫:‬ ١٤] أي‫:‬ رجالا ً ونساءً، دخلت النساء بالتبعية وعُبِّرَ بالقوم تغليبا للرجال‫.‬ ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ أي ربما يكون المسخور منه خير عند الله من الساخر، أسلم نية، وأسلم مُعتَقَدا، وأَخلَص قلبا، وأطيب سريرة‫.‬ وقد يكون من تَسْخَرَ منه عند الله مُقرَّبا، وعند الله مقبولا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وهذه السخرية التي نهى الله (تبارك وتعالى) عنها تتضح إذا حدث التفاوت بين الساخر ومن سخر منه، في المال، في الصحة، في الجسم، في اللباس، في العلم، في اللباقة، فيكون الرجل غنيا فيسخر من الفقير، أو قويا فيسخر من الضعيف، أو مصَحَّحا فيسخر من ذي العاهة كالأعرج والأعور، أو يكون حَسَن الثياب فيسخر ممن هو رَثُّ الثياب، أو يكون ذا منطق فيسخر ممن هو ليس بلبيق، هذه السخرية عقوبتها شديدة، بل غالبا ما يكون الساخر أقل شأنا من المسخور منه لأن الله يقول‫:‬ ﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ وفي غالب الأحوال تجد أن الساخر من غيره هو صاحب العيوب وهو المعيوب‫.‬ ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾ أَفْرَدَ النساء بالذكر رغم أن النساء تدخل في كلمة (قوم) مجازا وقال‫:‬ ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ ليدلِّل على أن السخرية في النساء أكثر ومعتادة، وكم سخرت الجميلة من القبيحة، وكم سخرت الطويلة من القصيرة، وكم سخرت البيضاء من السوداء، وغالبا ما تُعجَب المرأة بنفسها أو بجمالها أو بمالها أو بجاهها، فهن ناقصات عقل ودين، فتسخر ممن هي أقل منها شأنا، من هنا يؤكد القرآن ويختص النساء بالذكر تأكيدا على النهي‫.‬ ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (اللمز): العيب، واللمز قد يكون باليد، بالإشارة، بالعين، باللسان، وأغلب ما يكون باللسان‫.‬ أما (الهَمْز) فلا يكون إلا باللسان‫.‬ واللمز‫:‬ العيب، فمن لَمَزَ أحدا فقد عابه‫.‬ ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ (النَبَزْ): اللَّقَب ونَبَزْتُه‫:‬ لَقَّبْتُه، والنَّبَز يطلق عُرفاً على لقب السوء‫.‬ ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ أي ولا يدعو بعضكم بعضا بألقاب السوء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ أي بئس الذِّكر الذي يُذكَر به المؤمن أن يُقال له يا فاسق أو يا كافر أو يا زاني أو يا سِكِّير، فالمؤمن إذا عاب عليه أحد ولمزه بأمر قد تاب منه، أو أمر قد عُرِفَ عنه، فقد سمّاه فاسقا بعد أن سُمِّيَ مؤمنا فذاك لا يصح‫.‬ أو (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي أن الساخر والنابز واللامز فاسق، وفَسَقَ بعد أن كان مؤمنا (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)، ثم قال‫:‬ ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ إذاً معنى ذلك أن من فعل ذلك فَسَق، و بئس الذكر لك أن تُعَدّ فاسقا بعد أن كنت مؤمنا‫.‬ هذه الآيات نزلت كلها لأمور حدثت، فنزل الأمر بالإصلاح بين المؤمنين إذا اقتتلوا لأن الأوس والخزرج حدث بينهما قتال بسعف النخيل وبالجريد وبالنعال وبالعصي لخلاف بينهما فنزلت‫.‬ وقيل بل نزلت لأن الأنصار حدث بينهم وبين بعض أيضا قتال‫.‬ وقيل في مسألة السخرية أن صفية بنت حُيَيّ بن أخطب، أم المؤمنين زوجة النبي (صلى الله عليه وسلم) ذهبت إليه تبكي وقالت‫:‬ يُعَيِّرنني النساء فيَقُلْنَ يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها‫:‬ "ولِمَ لا تقولين لهم أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد، فأنا بنت نبي وبنت أخ نبي وزوجة نبي" وقيل أيضا أن السيدة عائشة حاكت رجلا، والمحاكاة داخلة في النهي، وهي أن تُقَلِّد أحد الناس قاصدا بذلك إضحاك الآخرين، أن تقلد أحدا في المشي، في الكلام، في أي شيء، فإذا رأى الناس ذلك تضاحكوا، ذاك نوع من أنواع السخرية‫.‬ وقيل أيضا أن الرجل أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يُلَقَّب بأسماء عديدة ويُسَمَّى بأسماء كثيرة، فكان الرجل إذا نودي باسم من أسمائه حَزِن، وجاء النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يوما فنادى رجلاً باسمه فقالوا‫:‬ مَهْ يارسول الله، إنه لا يرضى بهذا الاسم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "من حق المؤمن على المؤمن أن يُسَمِّيَه بأحسن أسمائه إليه". وكانت الألقاب على عهد رسول الله، والألقاب الحسنة الطيبة مطلوبة وهي سُنّة، وقد لُقِّبَ أبو بكر بعتيق، ونزل جبريل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول له‫:‬ (أخبر عتيق أن الله عنه راضٍ). لَقَّب رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) عمرَ بالفاروق، ولَقَّب خالد بسيف الله، ولَقَّب حمزة بأسد الله وأسد رسوله، ولَقَّب عثمان بذي النورين، ولَقَّب حُذيفة بذي الشهادتين، ولَقَّب أبا بكر بالصِّدِّيق، فالألقاب الحسنة مطلوبة، أما ألقاب السوء فلا تصح، وهي عصيان، وهي فسوق بعد إيمان‫.‬ وقال ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فكأن اللامز لأخيه كاللامز لنفسه، كقوله تعالى‫:‬ ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ أي‫:‬ ولا يقتل بعضكم بعضا، فالمؤمنون كنفس واحدة، كجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وكقوله (تبارك وتعالى): ﴿فَسَلِّمُوا على أنفسكم﴾، أي‫:‬ فليُسَلِّم بعضكم على بعض، وهنا يقول‫:‬ (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) إذاً فاللامز لأخيه فكأنه قد لمز نفسه‫.‬ ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ومن لم يتب عن هذه السخرية بالآخرين، عن اللمز، عن التنابز بالألقاب ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ظلموا أنفسهم وعَرَّضوها للهلاك، وسُمُّوا فَسَقَة بعد أن كانوا مؤمنين‫.‬ أيها الأخ المسلم يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من عَيَّرَ أخاه بذنب تاب منه، حَقَّاً على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا وفي الآخرة". قيل أن ذلك بسبب أن بعض الناس من الصحابة قال لأحدهم‫:‬ يا ابن اليهودية‫.‬ وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا قال لأخيه يا كافر باء بها أحدهما فإن كما قال وإلا رَجَعَت إليه". فإذا قال الرجل لآخر‫:‬ يا كافر، فإن كان كافرا فالكلمة حق، وإن لم يكن كَفَر القائل بالكلمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وإن عيّر الرجل أخاه وقال‫:‬ يا شارب الخمر أو يا زاني أو سارق أو يا كذا يا كذا، عيّره بذنب تاب منه، لابد وأن يقع في نفس الذنب، ولكن لابد وأن يُكْشَف سترُه‫.‬ من هنا أخبرنا أشياخنا وأسيادنا أن الإنسان إذا كان على طاعة ورأى أخاه على معصية قال‫:‬ الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، ودعا له، وستره ولا يفضحه، لأن من تَتَبَّع عورة المسلم تَتَبَّع الله عورته حتى يفضحه في عُقْرِ داره‫.‬ وقال لنا أشياخنا إن الأعمال أمارات ظنية وليست أدلة قطعية، من هنا نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منع الغُلُوّ في تعظيم أو مدح الرجل الصالح فقال‫:‬ "إن كان أحدكم ولابد مادحا أخاه فليقل أَحْسَبُه كذا ولا أُزَكِّي على الله أحدا والله حسيبه". لأن الأعمال أمارات ظنية، تراه يحج، تراه يصوم، تراه يزكي، تراه يصلي، تراه يقرأ القرآن، علامات و أمارات ظنية فقط وليست أدلة قطعية، لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وربما الطائع ظاهرا والأعمال كلها صالحة وفي قلبه صفة مذمومة تبطل أعماله لا يعلمها إلا الله، كالرياء، كالنفاق، كالعُجْب، صفات كثيرة وأمراض القلوب عديدة، وربما العاصي ترى أعماله ظاهرها سيئ وفي قلبه صفة محمودة من أجلها غفر الله له، فالأعمال أمارات ظنية وليست أدلة قطعية والله يعلم وأنتم لا تعلمون‫.‬ ومن هنا إذا رأيت الصالح فلا تبالغ في مدحه وقل‫:‬ أحسبه كذا ولا أزكى الله أحدا، ً وإذا رأيت العاصي فاستغفر الله له، وربما تُبْتَلَى بما ابْتُلِيَ به، فاحمد الله على أن عافاك ولا تَسُبَّ أخاك، عليك أن تكره السيئة ولا تكره الذات المسيئة، إذا أردت أن تَسُبَّ وتَذُمّ فَذُمّ المعاصي ولا تَذُمّ العاصي، عليك أن تكره المعصية ولا تكره العاصي، بل إن رأيت المسلم على معصية وجب عليك ستره، ومن ستر مُسلِماً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إن الله حَرَّمَ من المسلم دمه وعرضه وأن يُظَنَّ به ظن السوء"، ويقول الله (تبارك وتعالى) في سورة الحجرات والتي نحن بصددها‫:‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱجْتَنِبُوا۟ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌۭ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًۭا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿12﴾
‫﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ نعم! بعض الظن إثم وهو كثيره، إذاً فالمأمور باجتنابه هو الكثير، هو الإثم‫.‬ و (الإثم): الذنب الذي يستحق العقوبة، والهمزة في الكلمة بدلا من الواو، و ﴿وَثْمُ﴾ الشيء‫:‬ كَسْرُه‫.‬ فالإثم ذنب كَسَرَ تقوى صاحبه فاستحق عليه العقوبة‫.‬ والظن ظنَّان؛ ظن محمود وظن مذموم‫.‬ والظن المحمود ما سَلِمَ معه دِين الظّانِّ ودِين المظنون به، والمذموم من الظن مالا يسلم معه دين الظَّانِّ ولا دين المظنون‫.‬ والظن المحمود أن تظن بالله خيرا، حيث يقول ربنا (جل جلاله): (أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيرا فخير)، والظن المحمود أن تظن بالمؤمنين خيرا، حيث يقول الله (تبارك وتعالى) مؤدبا لنا ومعلما‫:‬ ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [سورة النور آية‫:‬ ١٢]، والظن المحمود أن تظن بالمسلمين جميعهم خيرا، فأمة محمد بخير، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يَكْذِبُه‫.‬ وهناك أمور في الشريعة يُحْكَم فيها بالظن كالقياس، فالقياس في الأحكام كلها بالظن وليس بالدلالات القطعية، أيضا حتى في العبادات، من غَلَبَ على ظنه أن الشمس غربت أفطر، ومن غلب على ظنه دخول الوقت صلّى‫.‬ والظن أيضا في الأحكام فيما يتعلق بقِيَمِ التعويض في الجنايات سواءً في الدية أو الأُروش، أي التعويض في الجروح، كل تقويم لما يجب فيه التعويض يتم بالظن، فمن قتل الصيد وهو مُحرِم فداؤه مِثْلُ ما قتل من النَّعَم يحكم به ذوا عدل منكم، هؤلاء العدول حين يحكمون بقيمة الصيد المقتول ويقررون ما يساويه إنما يقررونه بغَلَبَة الظن وليس بالدلالة القطعية، إذاً فمن الظن ما يُعمَل به في الأحكام‫.‬ ومن الظن المحمود الظن بالله، والظن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) والظن بالمؤمنين خيرا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وأما الظن المذموم فهو ما لم تقم عليه أمارة صحيحة، أو دليل من ظاهر الأمر والعمل‫.‬ والظن المذموم أن يقع في نفس الظّانِّ أمرا ليس أوْلى من ضده فهو كالشك، أمر وقع في نفس الظّانِّ لا دلالة عليه ولا أمارة ولا ما يقويه من أدلة أو أمور أخرى‫.‬ والظن مُحَرَّم حَرَّمَه الله (تبارك وتعالى) وسَمَّاه إثماً وحَرَّمَه النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله‫:‬ "إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يُظَنُّ به ظن السوء". والظن يؤدي بالضرورة إلى الظلم، فأنت إن ظننت في أخيك شرا أو سوءا أو فسادا أو خيانة تحول قلبك عنه، وحَلَّت البغضاء محل الحب والتوادد والتراحم الذي أُمِرَت به أمة محمد (عليه الصلاة والسلام). أيضا الظن يؤدي إلى أمر آخر جد خطير ألا وهو التجسس، لأنك إن ظننت شيئاً في أخيك أردت أن تعرف الحق والحقيقة، فتحريت وبحثت فوقعت في التجسس، فإذا وقعت في التجسس ووصلت بتجسسك وتحسسك إلى بعض الأمور من العيب أو العورات، وقعت فيما هو أشد ألا وهو الغيبة، فها أنت تُحدِّث الناس عما اكشفته في أخيك‫.‬ لذا قرن الله تلك المآثم في آية واحدة‫:‬ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ وكأنها أفعال قبيحة تترتب بعضها على بعض، لأن الظن شك، والظن ليس بيقين، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "إياكم والظن فإن الظن أَكْذَبُ الحديث"، وطالما ظننتَ ولم تتيقن تجسست‫.‬ وقُرِأَت ﴿ولا تحسَّسُوا﴾ بدلاً من ﴿ولا تجسسوا﴾، والتحسُّس تَفَعُّل، من الحَسّ والجَسّ، و (التجسُّس): التَحَرِّي والبحث عما يُكْتَم عنك، وقد يتجسس المرء لغيره كالجاسوس، و (التحسُّس): البحث عن الأخبار، و (التحسس): الوصول ببعض الحواس لما قد غاب عنك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والتحسُّس قد يكون غاية التجسُّس، فهو يَجِسّ حتى يصل بالحِسِّ إلى ما أُخفيَ عنه، والتحسُّس لا يكون إلا لنفسك، والتجسُّس قد يكون لك ولغيرك، ومنه الجاسوس‫.‬ و (التجسُّس): تَتَبُّع الأخبار، وقد نهى ربنا (تبارك وتعالى) عنه، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "لا تحسَّسُوا ولا تَجَسَّسوا ولا تناجشوا"، و (التناجش): الزيادة في البيع، كما يحدث في المزادات أن يؤجِّر صاحب المزاد رجالاً يزيدون في سعر السلعة خداعاً للناس لا يبتغون شراءً، وإنما حيلة لخداع الذي يبتغي الشراء فعلا فيقع في السلعة بثمن أزيد من حقيقتها، "ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا". التجسُّس والتحسُّس تتبُّع للعورات والبحث عما لا يعنيك، ورَحِمَ اللهُ امرءاً شغلته عيوبه عن عيوب الناس، ومهما تجسست ومهما تحسست فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يحذر هؤلاء الذين يتجسسون ويتجسسون فيقول‫:‬ "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تغتابوا المسلمين ولا تَتَبَّعُوا عوراتهم فمن تَتَبَّع عوراتهم يَتْبَعُ الله عورته ومن يَتْبَعُ الله عورته يفضحه في بيته". التجسُّس والتحسُّس والتسمُّع والتلصُّص، وأن تعطي أذنك للغير حتى تسمع ما يريد إخفاؤه عنك، وأن تتلصص بعينك من خَصَصِ الباب على جارك أو على غيرك، وأن تسمع وتتلصَّص وتسأل وتبحث، كل ذلك ممنوع! ومن تَتَبَّع ما يرى في الناس يَطُلْ حزنُه‫.‬ (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) الغيبة وما أدراك ما الغيبة! (الغيبة): هي ذِكْر العَيب بظهر الغَيب‫.‬ وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا‫:‬ الله ورسوله أعلم قال‫:‬ "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره" قيل يا رسول الله‫:‬ أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال‫:‬ "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أتدرون ما البهتان؟ (البهتان): أن تقول في أخيك ما ليس فيه فتتهمه بعيب هو منه بريء، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "من بَهَتَ مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طِينةِ الخَبَال" و (طِينةُ الخبال): عصارة أهل جهنم‫.‬ والغيبة أنواع وجوهها ثلاثة‫:‬ الغيبة والبهتان والإفك؛ فأما (الغيبة): فذكرك أخاك بما هو فيه، وأما (البهتان): فذكرك أخاك بما ليس فيه، وأما (الإفك): فنَقْلُكَ عن أخيك ما وصل إليك مما هو فيه، ذاك هو الإفك‫.‬ فإن قال رجل لآخر إن فلانا يشرب الخمر وكان صادقا في قوله، فجئتَ أنت فقلتَ لآخر لقد أخبرني فلان أن فلانا يشرب خمرا، ذاك هو الإفك بعينه! أن تنقل ما بَلَغَك عن أخيك سواء أكان ما تنقله حقا أم غير ذلك‫.‬ ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّثَ بما سمع"، فحديثك بما سمعت ولو لم تزد فيه حرفا نوع من أنواع الكذب؛ لأنك لم تشهد بعينك ولم تسمع بأذنك وإنما أنت تنقل‫.‬ وقد وقع بعض أصحاب النبي في مثل هذا حين تكلموا في حديث الإفك، فعاتبهم الله على ذلك، بل أُقيمَ عليهم حدُّ القذف، فجُلِدَ من فعل ذلك ثمانين جلدة على مرأى ومسمع ومشهد من الناس‫.‬ والغيبة من الكبائر! ويحدثنا رسولنا (صلى الله عليه وسلم) فيقول في حديثه الشهير عن المعراج‫:‬ "مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت ياجبريل من هؤلاء؟ فقال‫:‬ هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". وقال نبينا (صلى الله عليه وسلم): "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس". إن الغيبة تُبْطِل الصيام، الغيبة من الكبائر وهي مظلمة يجب فيها التحلُّل، لأنك إذا اغتبت إنسانا وَقَعتَ فيه فلابد وأن يُعَوَّض، إما أن تَتَحَلَّلَه منها في دنياك أو تُحْبَس في أخراك، فيؤخذ من حسناتك له، فإن فَرَغَت حسناتُك أُخِذَ من سيئاته فزيدت في سيئاتك‫.‬ ولذلك قيل لأحد الصالحين اغتابك فلان حتى رحمناك، فتبسَّمَ وقال‫:‬ بل إياه فارحموا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وجاء رجل لأحد الصالحين وقال له بلغني أنك تغتابني، فتبسَّمَ وقال‫:‬ إن قَدْرَك عندي أهون من أن أُحَكِّمَك في حسناتي‫.‬ لأنك إذا اغتبت إنسانا فكأنك قد حَكَّمته في حسناتك يأخذ منها كيف شاء حتى يرضى، وذاك في يوم ليس فيه دينار ولا درهم، وإنما القصاص بين الناس بالحسنات والسيئات‫.‬ والغيبة منها ما هو مباح، مثال ذلك‫:‬ غيبة الفاسق الفاجر الذي يكون الغرض منها أن يَحْذَرَ الناس شَرَّه‫.‬ أيضا الشكوى للقاضي فيقول المظلوم‫:‬ ظلمني، سرقني، أخذ مالي، خانني، فعل كذا وكذا، فقول المدَّعي المظلوم للقاضي عن أخيه مثل هذه الأمور لا يُعَدُّ من الغيبة الحرام بل هي معفوٌّ عنها لضرورة إظهار المظلمة‫.‬ وكذلك في الاستفتاء‫.‬ في المظالم قال نبينا (صلى الله عليه وسلم): "لصاحب الحق مقال" فطالما كان لك حق عند أخيك ولجأت إلى القاضي أو الحاكم كان لابد أن تقول، فإن قُلْتَ عُفِيَ عن ذلك‫.‬ وكذلك في الاستفتاء، مثال ذلك أن هند ذهبت للنبي (صلى الله عليه وسلم) وقالت إن أبا سفيان زوجها رجل شحيح، أو رجل مِسِّيك، لا يعطيني ما يكفيني وولدي فآخذ من غير عِلمِه؟ قال‫:‬ "نعم فخُذي"، ولم يعاتبها النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد ذَكَرَت زوجها بصفتين؛ وصفته بالشح ووصفته بالظلم، إذاً فهي غيبة ولكن معفوٌّ عنها، لأن الاستفتاء يلزم معه شرح الأمر، وُيعفى عن الغيبة الضرورية للاستفتاء، فهي تستفتي في شأن المال أتأخذ من وراء زوجها بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف؟ إذا تَعَدَّت وذكرت أمور أخرى؛ قالت لا يصلي، قالت يشرب، قالت يفعل، قالت يكذب، هنا وقعت في الحرام، إذاً فلا يصح أن تتجاوز الغيبةُ القَدْرَ المطلوب لبيان المظلمة أمام القاضي أو للاستفتاء ولا يتعدى ذلك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيضا يُباح بعض الغيبة إذا استُشْهِدْتَ، مثال ذلك‫:‬ أن يأتيك رجل ويقول خَطَبَ فلان ابنتي ما رأيك فيه؟ أو يأتيك رجل ويقول جاءني فلان وأراد أن يعمل عندي أو يشاركني في تجارة، هنا أنت مُستَشار، والمستشار مُؤتمَن كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هنا يُباح لك أن تُبَيِّنَ القَدْرَ الذي يكفي لاحتراز واحتراس السائل والمستشير‫.‬ تلك هو الأمور التي يُباح فيها بعض الغيبة وبالقدر اللازم والضروري، فإن جاء الخاطب لرجل وذهب يسألك عنه ما رأيك خطب فلان ابنتي؟ يمكن لك أن تقول لا أنصحك بذلك وتسكت، يمكن لك ذلك، أما إذا كان ولابد أن تُظْهِرَ أمرا جاز لك ذلك؛ حيث خُطِبَت امرأة من معاوية ومن أبي جَهْم، وذهبت تستشير النبي (صلى الله عليه وسلم) وقالت يا رسول الله ما رأيك؟ فقال‫:‬ "أما معاوية فصعلوك لا مال له" ولم يُعَدّ ذلك من الغيبة لأنه ينصحها، هو فقير لا مال له‫.‬ "وأما أبو جَهْم فلا يضع عصاه عن عاتقه". إذاً فيجوز للمستشار أن يشير بما يعلم مراقبا الله متقيا في أن يقع فيما لا يعلم، أو يزيد عمالا يجب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والغيبة لابد لها من توبة، فكل الكبائر لا يُكَفِّرها إلا التوبة، ويُضاف إلى التوبة أمور، لكل كبيرة شأنها؛ فالسرقة مثلا لا يكفي فيها التوبة فقط بل لابد من إعادة المسروق إلى صاحبه، في الغيبة قال بعض الناس‫:‬ يكفي فيها التوبة، ذاك رأي ضعيف، وقال البعض الآخر‫:‬ يكفي فيها أن يَستغفِرَ المغتابُ لمن اغتابه آناء الليل وأطراف النهار، وقال بعض الناس، وهو الرأي الأرجح والأقوى والأصح، أن كفارة الغيبة أولاً التوبة لأنها كبيرة، ثانياً الاستغفار لمن اغتبته بظهر الغيب، ثالثاً الإصلاح، فقد تكلمتَ عنه بما يكرهه مع غيرك، فلابد وأن تُصلِحَ ذلك لأنك أعطيت للناس فكرة أو رأيا عنه قد لا يصادف حقاً، الأمر الرابع والأهم أن تتحلَّلَه؛ أي تذهب إليه وتطلب منه السماح، فهو صاحب الحق، واستدل القائلون بذلك بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول فيه‫:‬ "من كان عنده مظلمة لأخيه في مال أو عرض فليتحلله منه قبل ان يأتي يوم ليس فيه دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته لصاحبه فإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته صاحبه فزيدَ في سيئاته"، من هنا قال أصحاب الرأي الأخير هذا الحديث يعني أنك لابد وأن تتحلَّل، فتستغفر وتتوب بالإضافة إلى التحلل وهو استسماح واسترضاء من اغتبته‫.‬ وحين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يمَثِّل لنا ما ينال المغتابُ من عِرضِ أخيه فيقول‫:‬ ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ مَيْتا وميِّتا قراءتان‫.‬ جاء بكلمة الحب في موضع الكراهة، هذا أمر مُستَقذَر مكروه، لا يؤتى بلفظ وكلمة الحب في محل الكراهة أبداً لكن انظر ربنا يقول‫:‬ (أيحب؟) وشّبّه الغيبة بأكل لحم الإنسان، وجعل الإنسان الذي اغتبته أخاك وجعله مَيِّتاً، لم تأكل لحمه حَيّاً، وإن كان ذلك فهو مُستقبَح مُستقذَر، ولكن جعله ميتا، وجعله أخاك ابن أمك وأبيك أيمكن ذلك؟ وجاء بكلمة (أحد) للتعميم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ قَرَّرَهم ربنا (تبارك وتعالى) وقال‫:‬ ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ أي‫:‬ فكرهتموه فلا تفعلوه‫.‬ أو فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا أن تغتابوا الناس‫.‬ أو فكرهتم أكل الميتة فاكرهوا الغيبة كما أن تكرهوا أكل لحم الإنسان ميتا‫.‬ أو كلمة ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ خبر ومعناه‫:‬ الأمر، أمر جاء في صيغة الخبر وكأن الناس استفاقوا وعلموا فأطاعوا فكرِهوا، فحدثنا فقال‫:‬ (فكرهتموه)، والمعنى‫:‬ (اكرهوه). كما جاء في كثير من مواضع القرآن الخبر بمعنى الأمر، كقوله (تبارك وتعالى): ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ١٠] ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ خبر، والمعنى‫:‬ أَمْرٌ لنا جميعاً أن نستغفر للصحابة والتابعين وأن نقول ذلك، وجاء بصيغة الإخبار وكأننا قد أطعنا ونفذنا‫.‬ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ اتقوا الله أن تقعوا في هذه الأمور؛ في الظن السيء، في التجسُّس، في التحسُّس، في الغيبة، في الإفك، في البهتان‫.‬ اتقوا الله لأن الله يسمع ويرى، إن الله يدافع عن الذين آمنوا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. وفتح لنا أبواب الأمل والرجاء فقال‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ صيغة مبالغة ليبين أنه مهما كَثُرَ المذنبون تاب الله عليهم جميعاً، أيضا مهما عَظُمَت الذنوب محاها الله جميعاً، أيضا مهما أذنب العبد فتاب مُحِيَ الذنب ومُحِيَ أثرُه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫الناس رجلان؛ رجل بَرٌّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله‫.‬ والناس بنو آدم، وخلق الله (تبارك وتعالى) آدم من تراب، وقال عز مِنْ قائل‫:‬‬‬‬‬
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًۭا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا۟ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۭ ﴿13﴾
نهى ربنا (تبارك وتعالى) عن السخرية، لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء، ونهى عن التنابز بالألقاب، ونهى عن اللمز، ونهى عن الظن السيئ، ونهى عن التجسُّس، ونهى عن الغيبة، كل ذلك في السورة، ثم تُخْتَم هذه الأمور بقوله (عز وجل): ﴿خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ وكأن الناس إخوة من أب واحد وأم واحدة فكيف يفعل الأخ مع أخيه ذلك؟ كيف تتكاثروا بالأموال؟ وتتفاخروا بالأنساب؟ وتنابزوا بالألقاب؟ وتظنون في بعضكم ظن السَّوء؟ وتغتابوا أنفسكم وتأكلوا لحومكم وتقعوا في أعراضكم وأنتم لآدم وآدم من تراب؟ بل ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يخطب في حجة الوادع ويُحَذِّر الناس‫:‬ "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بَلَّغت؟ " نعم بلَّغت يا سيدي يا رسول الله! قال‫:‬ "ليُبَلِّغَ الشاهدُ الغائبَ."‬‬‬
‫﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ ولو شاء الله (تبارك وتعالى) لخلق الناس جميعا كما خلق آدم من تراب، ولو شاء لخلقهم من أب بغير أم كما خلق حواء، ولو شاء لخلقهم من أم بغير أب كما خلق عيسى، لكن الله (تبارك وتعالى) خلقنا من أب وأم حتى نكون إخوة، وجعلنا شعوبا وقبائل، وتلك رحمة كبرى! وتَأَمَّل لو أن الخَلْقَ حين خُلِقوا لم يكونوا شعوبا ولا قبائل كيف يعرف أحدهم الآخر؟ وكيف يُنسَبون؟ والمرء يُنسَب؛ فلان بن فلان، من عشيرة كذا، من قبيلة كذا، من شَعب كذا، من أُمَّة كذا، مِن ومِن، فإذا نُسِبَ المرءُ وعُرِفَ نسبُه عُرِفْ وعَرَفَه الآخرُ وتعارف الناس، أمّا إذا لم يكن الناس شعوبا وقبائل وكَثُرَ الناس وتكاثروا كالنمل والجراد وما إلى ذلك كيف يحدث التعارف؟ كيف يحدث التزاوج؟ كيف تُعرَف الأنساب؟ كيف يعرف الرجل عَمَّه؟ وكيف يُمَيِّزُ المرء خالَه؟ من هنا كانت رحمة امتَنَّ الله (تبارك وتعالى) بها علينا فقال‫:‬ ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ و (الشعوب): جمع شَعْب، و (الشَّعب): الجَمْع الكثير من الناس المنتسِبون لأصل واحد‫.‬ والفعل منها (شَعَّبَهُ): جَمَعَه، ُ وهو من الأضداد، و (شَعَّبهُ): أيضا فَرَّقهُ. والشَّعب كأنه مُتَشَعِّب والأصل واحد ثم تَشَعَّب، ذاك الأصل خرج منه كما يخرج من الشجرة الفروع فتشعبت يمنة ويسرة، إذاً فقد خَلَقَنا ربنا من أب واحد‫.‬ ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ والشَّعب يجمع القبائل، والقبائل تجمع العمائر، والعِمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفَخِذ يجمع الفصائل، والفصيلة تجمع العشائر، عشيرة فلان وعشيرة فلان إليها يُنْسَب‫.‬ الله (تبارك وتعالى) خَلَقَنا من ذكر وأنثى وجَعَلَنا شعوبا وقبائل لِمَ؟ ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ يَعرِفُ بعضُكم بعضاً، ويَسُود المعروف بينكم‫.‬ والمعروف‫:‬ ما عُرِفَ حُسْنُه بالشَّرع والعقل‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ذاك هو النَّسَب! فإن تفاخرتم بالأنساب فنَسَبُ الله التقوى، ونَسَبُ الناس يوضَع‫.‬ وينادي ربنا (تبارك وتعالى) يوم القيامة‫:‬ (اليوم أضع أنسابكم وأرفع نسبي أين المتقون أين المتقون؟) ذاك هو النسب‫:‬ التقوى‫.‬ و (التقوى): مراعاة حدود الله (تبارك وتعالى) أمرا ونهيا، وأن تتصف بما أمرك الله أن تتصف به وأن تَتَنَزَّهَ عما نهى الله (تبارك وتعالى) أن تتصف به، تلك هي التقوى، (ولباس التقوى ذلك خير)، نعم! ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ عليم بكم، خبير بأحوالكم، هو أعلم بمن اتقى فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بكم إذ أنتم أَجِنّة في بطون أمهاتكم، هو أعلم بكم لأنه خلقكم، ونهانا فقال‫:‬ ﴿ولا تزُكَوُّا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾ فالتفاخر بالأنساب ممنوع، التفاخر بالألقاب ممنوع، والتفاخر بكثرة المال ممنوع، التنابز بالألقاب ممنوع، أن يزدريَ الغنيُّ الفقيرَ ممنوع، أن يزدري المِنطِيقُ غير اللّبيق ممنوع، أن تختال بنفسك وبخِلْقَتِك ممنوع، فمن عَيَّب صنعةً فقد عَيَّب الصانع، وقد دخلت حفصة على رسول الله فقالت عائشة يارسول الله إنها، وأشارت، أي‫:‬ إنها قصيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لقد قُلْتِ كلمةً لو مُزِجَ بها البحر لمَزَجَته" قالت‫:‬ ما فيها؟ قصيرة، لم تَذْكُر عنها شيئا ليس فيها، والعيب في الخِلْقةِ خطير، لأنك إذا قلت فلان قصير، فلان طويل، فلان كذا، فلان كذا، فأنت تُعَيِّب الصنعة، لا بل أنت تُعَيِّبُ الصانع! فالصانع هو الله، ولو شاء لعافاه وابتلاك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وإن عَيَّبْتَه في خُلُقه فقلت عنه كذا وكذا ووصفته بأوصاف الفسق والعيب؛ كالكذب والسُّكر وكذا وكذا، فاحذر فإنك إن عَيَّبت أخاك أو عَيَّرتَه يُوشِكُ أن يعافيَه اللهُ ويبتليك، نعم! مَرَّ نبينا (صلى الله عليه وسلم) على بعض أصحابه يقولون عن فلان الذي رُجِم كذا، وفعل الله به كذا، فغضب غضبةً شديدةً وقال‫:‬ "إنه الآن يَرْفُلُ في الجنة! تاب توبة لو وُزِّعَت على أهل الأرض لكَفَتْهُم! لا تَسُبُّوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم". العافية من الله ليس منك، والأعمال أمارات ظنية ليست دلالات قطعية، لذا أَمَرَنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) في الخير والشر‫:‬ "إن كان أحدكم ولابد مادحا أخاه فليقل أحسبه كذا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا"، لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‫.‬ وكذلك في العَيب، فإن عَيَّبتَ الصَّنعةَ فقد عَيَّبتَ الصانع، تلك في الخِلقة‫.‬ وإن عَيَّبتَ في الخُلُق عافاه الله وابتلاك، لأن المعافاة من الله، وإن عَيَّبْتَهُ في الدِّين فقد وقعتَ أنت فيما عَيَّبْتَهُ فيه، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول‫:‬ "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر باء بها أحدهما إن كان كما قال أو رجعت عليه" فإياكم والغيبة! وإياكم وظن السَّوء! وإياكم والتجسُّس والتحسُّس! إياكم والسخرية من الناس! إياكم والتنابز بالألقاب! إياكم وما نهى الله عنه! إياكم وذِكُرُ الناس! فذكر الناس داء، وعليكم بذكر الله، فذكر الله شفاء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫يُروى لنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان جالسا مع أصحابه، فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، يقول عمر (رضى الله عنه وأرضاه): جاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يُرى عليه آثار السفر، فجلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جلس بين يديه ووضع يديه على فَخِذَيه ثم قال‫:‬ "يا محمد أخبرني عن الاسلام، قال (صلى الله عليه وسلم): الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وأن تؤتي الزكاة، وأن تصوم رمضان، وأن تحج البيت إذا استطعت إلى ذلك سبيلا‫.‬ قال‫:‬ صَدَقت! " فعَجِبنا لرجل يسأل ثم يُصدِّق، "ثم قال‫:‬ أخبرني عن الإيمان‫.‬ قال‫:‬ الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره حُلْوه ومُرِّه‫.‬ قال‫:‬ صدقت! " فعجبنا لرجل يسأل ثم يُصدِّق، "ثم قال‫:‬ فأخبرني عن الإحسان‫.‬ فقال‫:‬ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال‫:‬ صدقت! ثم قال‫:‬ فأخبرني عن الساعة‫.‬ قال‫:‬ ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل‫.‬ قال‫:‬ فأخبرني عن أمارتها‫.‬ قال‫:‬ أن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَها، وأن ترى الحُفاة العُراة رِعاءَ الإبل يتطاولون في البنيان‫.‬ قال‫:‬ صدقت! ثم انصرف" فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "عَلَيَّ بالرجل" فذهبنا نلتمسه فلم نجده، فقلنا يا رسول الله وكأن الأرض انشقت وابتلعته، أو كأنه صعد إلى السماء، قال‫:‬ "ذاك جبريل جاء يعلمكم دينكم". و (الإسلام): هو الاستسلام بظاهر الجوارح، والإسلام قد يكون عن صِدق، وقد يكون عن غير صدق، فَمِنَ الناس من أسلم وهو صادق، استسلم ظاهرُه وآمن باطنُه‫.‬ ومن الناس من أسلم ظاهرا ليعصم نفسه وماله، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فمنهم من أسلم ظاهرا ليقي نفسه، ليعصم نفسه وماله، أيضا ليكتسب من المغانم ويُعامَل معاملة المسلمين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من هؤلاء فريق من الأعراب، و (الأعراب): هم سكان البدو، وسكان البدو ارتحالهم كثير، وبُعدُهم عن الحضر كثير، وحضورهم للتنزيل قليل، فهم أحرى وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، وإن كان من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر حقا وصدقا‫.‬ لذا جاء بعض الأعراب من بني أسد، كما قيل، لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة وزعموا الإسلام وطلبوا الصدقات، بل ومَنّوا على رسول الله بإسلامهم وقالوا‫:‬ جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وكانت السَّنَة سَنَة جدباء، ففضحهم الله (تبارك وتعالى) حيث أسلموا بظاهرهم ولم يسلموا ببواطنهم، ينبئنا القرآن بذلك في سورة الحجرات حيث يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬
قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوٓا۟ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـٰلِكُمْ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ ﴿14﴾
‫(الأعراب): هم سكان البادية كما قلنا، جاءوا وقالوا آمَنَّا، فعلّمهم ربنا (تبارك وتعالى) وعَلَّمَنا أن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر، لذا نهاهم عن قولهم آمنا لأنهم لم يؤمنوا على الحقيقة، قال‫:‬ ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ لم يحدث هذا، ولكن قولوا، إن شئتم أن تقولوا، أسلمنا، أي‫:‬ استسلمنا بظاهرنا وانقدنا، فالإسلام هو الانقياد بالظاهر ونُطْق الشهادة، فإن نَطَق الإنسان بالشهادتين وكَفَّ عن القتال للمسلمين، حُقِنَ دمه وعومِلَ معاملة المسلم وأَمْرُهُ إلى الله لأنّا لم نؤمر أن نفتش عن قلوب العباد، الله أعلم بما في نفوسهم، أما ما يُقبَل منه ظاهرا هو النُّطق بالشهادة والكّفُّ عن قتال المسلمين، إن فعل ذلك عُدَّ من المسلمين وإن كان منافقا، الله يحاسبه‫.‬ ولذلك كان حول النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة كثيرٌ من المنافقين، وكان يعلمهم بأسمائهم وأحسابهم، وعَرَّفه الله إياهم بسيماهم، ولكنه لم يقتلهم لأنه قَبِلَ منهم ظاهر الأمر مُعَلِّماً للأئمة وللأمة أن نقبل من الناس ما ظهر لنا، وأما ما خَفِيَ عنا فمَوكول إلى العليم الخبير‫.‬ ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ إذاً الإيمان يدخل في القلب، وهو من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، ولذا إن شَهِدتَ لأحدٍ من الناس فلتشهد له بالإسلام، وإياك أن تشهد لأحد من الناس بالإيمان، لأن الإيمان يعلمه الله، حتى إن الإنسان عن نفسه إن سُئِلَ قال‫:‬ أنا مسلم والحمد لله، فإن سئل عن الإيمان قال‫:‬ أنا مؤمن إن شاء الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي لم يواطئ القلبُ اللسانَ، لأن الإيمان نُطْقٌ باللسان واعتقاد بالجَنان، فإذا لم يكن الاعتقاد في القلب قائما ثابتا راسخا لا ارتياب فيه ولا تَشَكُّك؛ ذاك هو الإيمان الذي يواطئ فيه القلبُ اللسانَ. ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ هاهم قد استسلموا بظاهرهم وبظاهر جوارحهم، وكفّوا الأيدي عن المسلمين، ونطقوا بالشهادتين، إن أخلصتم في العبادة وفي طاعة الله وفي طاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذاك يؤدي بكم إلى الإسلام الصادق الحقيقي، لأنه في هذه الحالة إذا كَفَّ اليدَ عن المسلمين وعن قتالهم، ونَطَقَ بالشهادتين، وبدأ يَأمَن، وبدأ يسمع، وبدأ يعقل، وبدأ يفكر، هُدِيَ إلى الإسلام لا محالة‫.‬ فإن حدث هذا‫:‬ الطاعة والانقياد، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج وما إلى ذلك من تعليمات وأوامر الإسلام، ﴿لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ لا يَنْقُصْكُم من أعمالكم شيئا، (لاتَهُ) (يَلِيتُهُ) (لَيْتاً): نَقَصَ من أجره‫.‬ وقُرِأَت ﴿لا يألِتكُم﴾ من (أَلَتَهُ) (يِأْلِتْهُ) (أَلْتاً): أيضا بنفس المعنى؛ نَقَصَ. قُرِأَت (لا يألتكم) اعتبارا بقوله (تبارك وتعالى) ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [سورة الطور آية‫:‬ ٢١] ألَتْناهم‫:‬ نقَصناهم‫.‬ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، تجد أعمالك كاملة يوم القيامة فتؤجر عليها، ولا يَنْقُص من عملك شيء، ولا ينقص الثواب، فلا تُضاف إليك معاصي لم ترتكبها، ولا تُحرَم من أعمال صالحة أو من ثواب تلك الأعمال‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إذا ً فأنت لا تُحاسَب بالعدل وإنما تُحاسب بالرحمة، لأن الله حين يقول‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إذاً فهو غفور لما فرَطَ منَّا رحيم بنا، فيحاسبنا برحمته ومغفرته، لأنه لو حاسبنا بعدله لهَلَكْنا، إي وربي! لو حُوسبَ الإنسان بالعدل لهَلَك، لأن الصالحات ليس منه بل مِنَّة من الله، فعلامَ يأخذ عليها الأجر؟ أنت تتصدق بمالك؟ أبدا والله! بل بمال الله، أنت تُصلِّي، من هداك؟ هو الله! وهكذا ربنا (تبارك وتعالى) يحاسب الناس برحمته، لذا يقول‫:‬ ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر الفُرُطات، يغفر الذنوب والسيئات، ومن استغفر وجد الله غفورا رحيما‫.‬ ثم يُعَرِّفُنا الله بالإيمان الصادق فيقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ ﴿15﴾
‫﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين ينطبق عليهم الاسم حقاً. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قَرَن ربنا (تبارك وتعالى) الإيمان بمحمد (عليه الصلاة والسلام) بالإيمان به، فإن آمن أحدٌ بالله ولم يؤمن برسول الله لا يُعَدُّ مؤمناً، ولا يُقبَل منه إيمان مهما وَحَّدَ الله ومهما اعتقد في وحدانية الله، طالما أنكر نبوة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يؤمن به فلن يُقبَلَ منه إيمان، إذ شرط الإيمان أن تؤمن بالله وبرسول الله‫.‬ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا﴾ جاء بكلمة "ثُمّ" ولم يقل‫:‬ "ولم يرتابوا" جاءت "ثم" ليُشعر السامع بأن الارتياب ممنوع من بدء الإيمان لحين الموت‫.‬ لأنه لو قال‫:‬ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ و ﴿لَمْ يَرْتَابُوا﴾ كان شرط عدم الارتياب مصاحب للإيمان حالة الإيمان، آمن الآن ولم يرتاب الآن، فإن ارتاب في الغد أو في العام القادم عُدّ مؤمنا أيضا، لأن شرط عدم الارتياب في ساعة الإيمان وفي حالة الإيمان‫.‬ لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أي‫:‬ لم يرتابوا حال إيمانهم، ولم يرتابوا طوال أعمارهم حتى لقوا الله (عز وجل) من هنا أتى بكلمة ﴿ثُمَّ﴾ ليشعرك بأن عدم الارتياب المطلوب شرطا اللإيمان الصادق أن يكون دائما وأبدا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ والجهاد بالنفس والمال يعمّ العبادات، فأنت الآن حين تذهب للصلاة تجاهد بنفسك، وحين تؤتي الزكاة تجاهد بمالك، ليس الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال في ساحة الوغى فقط، بل الجهاد بالنفس والمال لكل مسلم طالما أطاع الله، فما العبادات إلا تكاليف يجاهد الإنسان نفسه فيها، فيصبر على الطاعة ويصبر عن المعصية، وذاك جهاد، تلك مجاهدة للنفس في اصطبارها على الطاعة وفي اصطبارها عن المعصية‫.‬ أيضا الزكاة أو الإنفاق، أو حتى الحج، فالحج مُرَكَّب من عبادة بدنية وعبادة مالية، فأنت تذهب بنفسك وتطوف وتسعى وتتلقى الصعاب وتتحمل المشاق وأيضا تنفق من مالك‫.‬ إذاً فكلمة ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعمّ كافة من أطاع الله ورسوله، وتعمّ العبادات المالية كالزكاة، والعبادات البدنية كالصلاة، والعبادات المركَّبة منهما كالحج‫.‬ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الذين صدقوا الله (تبارك وتعالى) وصدقوا في إيمانهم‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫حين نزلت الآية تفضح الأعراب الذين جاءوا يطلبون الصدقات والأموال ويزعمون الإسلام والإيمان، نزلت وسمعوها، فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وحلفوا أنهم مؤمنون حقا، وأن الإيمان قد دخل في قلوبهم، فنزل قول الله (تبارك وتعالى):‬‬
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ ﴿16﴾
الآية فيها تجهيل لهم وتوبيخ وتبكيت‫:‬ ﴿أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾؟ تجعلون الله يَعْلم ماتعلموا ولا يَعلم هو؟ قال لكم‫:‬ (قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) وأنتم تزعمون أن الإيمان في القلوب موجود وأنكم صادقون في إدعائكم الإيمان؟ فهل تُعلِّمون الله بدينكم وهو يَعْلَمُ ما في السموات وما في الأرض لا تخفى عليه خافية؟ أتُعَلِّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم؟ وعِلْمُ الله أيها الأخ المسلم يختلف عن علم الإنسان؛ عِلْمُ الإنسان ينبع من وجود المعلوم، فأنت لا تعلم عن السماء شيئا إلا بعد أن وُجِدَت السماء ورأيتَ أنتَ السماء، وأنت لا تعلم عن فلان شيئا إلا إن رأيته وسمعت عنه، وأنت لا تعلم الأشياء إلا إذا اطَّلعت عليها، فعلم الإنسان نابع من وجود المعلوم، فمن عَلِمَ بشيء معنى ذلك أن الشيء وُجِدَ أولاً ثم عَلِمَه بالرؤية، بالسماع، بالتجربة، بالاختبار، بإعلام الغير لك‫.‬ فأنت تعلم عن الشمس، فعلمك عن الشمس نبع من وجود الشمس وشروق الشمس وغروب الشمس وهكذا، ذاك علم الإنسان‫.‬ وعلم الإنسان يزيد وينقص، يزيد بالتعلم، وينقص بالنسيان وبعدم مذاكرة العلم، فدوام العلم مذاكرته، وبالكِبَر؛ بِكِبَر السن فلا يعلم بعد علم شيئا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وعلم الإنسان قد يصادف الحق وقد لا يصادف الحق، فكم من المعلومات تَعَلَّمناها وجاءت الأيام وأثبتت خطأ هذه النظريات، كدوران الشمس حول الأرض مثلا، أو كحركة الشمس من المشرق إلى المغرب مثلا، استقرت قرونا من الزمان ثم جاء الناس وقالوا‫:‬ أبداً! وإنما المتحرك هو الأرض وليست الشمس، وهكذا في كل يوم تطلع علينا العلوم والاكتشافات بأمور قد تُخَطِّيء ما رسخ من علوم سابقة، إذا فعلم الإنسان قد يخطئ وقد يصيب، وقد يصادف علمك حقيقة المعلوم وقد لا يصادف حقيقة المعلوم، فأنت تظن عن فلان من الناس مثلا فلان صالح صادق أمين وتظل على ذلك سنين، وتكتشف فجأة أن ظنك في غير محله، فعلم الإنسان قد يصادف حقيقة المعلوم وقد لا يصادف حقيقة المعلوم، ذاك بعض علامات عن علم الإنسان‫.‬ لو نظرنا إلى علم الله، بالمقارنة وليس كمثله شيء وإنما للبيان ولمزيد من الفهم، ربُّنا (تبارك وتعالى) عِلْمُه سبب لوجود الأشياء، فعلم الإنسان نبع من وجود الأشياء أما علم الله سَبَقَ وجود الأشياء، وبِعِلْمِه وُجِدَت الأشياء، فعلمنا بالشمس نبع من وجود الشمس وعِلْم الله بالشمس كان سببا في خَلْق الشمس، فعلمه بالشمس سبق وجود الشمس أمَّا علمك أنت بالشمس لَحِق وجود الشمس، ذاك أول شيء‫.‬ من هنا كان علم الله (تبارك وتعالى) أزليا وذات الله عالِمة لا ينفصل العلم عنها كالإنسان، فالإنسان بغير علم غيرُ عالم، الإنسان شيء والعلم شيء آخر، فأنت إنسان غير متعلم ثم تتعلم فتصبح عالماً، فالعلم صفة تأتيك إذا تعلمت وتنفَكُّ عنك إذا جهلت أو نسيت، أما الله فهو ذاتٌ عالِمة، عِلْمُه أزلي، من صفاته العَلِيّة، لأنك لا تستطيع أن تقول أنه لم يكن يعلم ثم عَلِم، بل هو العالم من الأزل، وعلمه سبق وجود الأشياء، بل من عِلْمِه نبعت الأشياء وفقا لعلمه‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫علم الله أيضا لا يزيد ولا ينقص؛ لأن العلم يزيد بالتعلم وربنا لا يتعلم، بل ربنا العالم والعليم، إذاً فعلمه لا يمكن أن يزيد، وعلمه لا ينقص فهو لا يَضِلُّ ولا يَنسى، فعلمه أبدي وعلم الإنسان يزيد وينقص، علم الإنسان قد يصادف حقيقة المعلوم وقد لا يصادف حقيقة المعلوم، علم الله (تبارك وتعالى) هو الحق ولا يمكن أن يخالف حقيقة المعلوم، إذ المعلوم نشأ أصلا من علم الله‫.‬ من هنا يُجَهِّلُهم ربنا ويوبخهم ويقول‫:‬ ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. ثم يعاتبهم حين مَنُّوا على رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بالإسلام فقالوا أسلمنا ولم نقاتلك ولم نقاتل المسلمين وأعطنا، فيقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا۟ ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا۟ عَلَىَّ إِسْلَـٰمَكُم ۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَـٰنِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ﴿17﴾
‫﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ (أن): في موضع نصب على تقدير (لأن أسلموا)، و (المَنّ) أصلا‫:‬ القطع، والعطاء الذي تعطيه للسائل فيقطع حاجته إلى الأبد، ذاك هو المن‫.‬ والمَنُّ يشترط فيه أن يكون العاطي غير مُثاب على العطاء ممن أعطاه، ذاك هو المن‫.‬ شرط المنّ أن تُعطي بغير انتظار أجر أو مقابل لا في الدنيا ولا في الأُخرى، فأنت إن أعطيت السائل صدقة ولم تطلب منه شيئا في الدنيا حتى الدعاء، لكنك ترجو بِرَّها وثوابها في الآخرة، إذا ً فذاك لا يمكن أن يُطلَق عليه المنّ، فالمنّ عطاء سابق بالفضل لا ثواب عليه ولا يُنتَظَر عليه شكرا ولا جزاءً، من الذي يَمُنّ؟ هو الله! لله المنّ فقط، هو العاطي بغير مقابل بِسَبْق الرحمة و بعميم الفضل، لذا يقول (تبارك وتعالى): ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ منصوبة بنزع الخافض أي‫:‬ (بإسلامكم) فحُذِفَت الباء حرف الجر فنُصِبَت بدلاً من الجر علامة على حذف حرف الجر‫.‬ ﴿قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ أي‫:‬ لا تمنُّوا عليّ بهذا الإسلام‫.‬ ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إن حدث وكنتم مَهْديُّون، وإن حدث وكنتم مؤمنون حقا، فلله المنّ والفضل‫.‬ ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي‫:‬ إن كنتم صادقين فيما زعمتم أنكم مؤمنون أو مسلمون فَمَن الذي وفقكم للإسلام؟ هو الله! مَن بيده قلوب العباد يقلبها حيث يشاء؟ هو الله! فإن أسلم العبد فلِلَّه المنّ والفضل، وإن آمن العبد فلِلَّه المنّ والفضل، وإن كفر العبد فبسوء طَوِيَّته ونِيَّتِه وما ربك بظلام للعبيد‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فالناس في الأصل في ضلال، أرسل الله لهم الهداية على لسان الرسل ومن خلال الكتب، من اختاره الله واصطفاه أخذ بيده، ومن تركه وأوكله لنفسه تركه وما يختار لنفسه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‫.‬ والهداية لا تستلزم الاهتداء، فأنت قد تهدي غيرك ولكنه لا يهتدي، لا يعمل بهداك، فالقرآن هدىً في ذاته وفي نفسه، ورسولنا (صلى الله عليه وسلم) هُدى، لكن لا يلزم من وجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يهتدى الناس به، بدليل أن بعض الناس إذا رأوه قالوا أهذا الذي بعث الله رسولا؟ واستهزأوا به، إذاً فالهدى لا يستلزم الاهتداء‫.‬ الهداية أنواع، الهداية‫:‬ الدلالة على المطلوب بلطف، على سبيل المثال كي نفهم‫:‬ سألك سائل عن الطريق إلى بلدة كذا فوصفت له الطريق، إذاً فأنت قد هديته، تهديه أي‫:‬ تدله على الطريق، إن تَبِعَ الكلام هُدِيَ إلى البلدة التي سأل عنها، وإن لم يَتْبَع الكلام لم يُهْدَ، إذاً فالهداية ليست شرطا للاهتداء، أنت هَدَيت وهو لم يسمع، أو أعمل عقله، أو نسي، أو سمع كلام غيرك، ذاك نوع من أنواع الهداية‫.‬ نوع آخر من الهداية أنه إذا سألك عن الطريق إلى البلدة وقفت وبذلت الجهد وشرحت ورسمت له وما إلى ذلك، ذاك نوع آخر فيه مزيد من الاعتناء‫.‬ وهناك نوع آخر من الهداية وهو أن تأخذه وتُوصِلُه إلى ما طلب، أين بلدة كذا أين موقع كذا أين شارع كذا؟ فتأخذه بيده حتى توصله إلى ما طلب، تلك نوع آخر من الهداية أَلَا وهي هداية الله، أن يأخذ بيد العبد فيشرح صدره للإسلام، ويفتح قلبه للإيمان، ويُحَبِّب إليه الإيمان ويُزيِّنه في قلبه، ويُكَرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، تلك هداية الله‫.‬ أما هداية الرسل فالأمر والنهي، هداية الرسل البيان، وهداية الكتب كذلك، وإن شئتَ سمعتَ وإن شئتَ عصيتَ، أما هداية الله فهي اصطفاء واجتباء واختيار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إذا ًالآية تُشعِر بأنهم لم يؤمنوا على الحقيقة، وأن الهداية في هذه الآية هي مجرد الدلالة وليست الأخذ باليد، لأنه حين يقول‫:‬ ﴿أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إذاً فيما زعموا، أمّا لو كان الله قد هداهم بهدايته التي لا ضلال بعدها لكان شأنهم شأن آخر‫.‬ لذا يقول‫:‬ ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ هم زعموا الإيمان، فإن كنتم صادقين في زعمكم فالذي هداكم، أي الذي دَلَّكم على الإسلام، هو الله، فهناك من الناس من هُدِيَ إلى صراط مستقيم بِخَلْق الله وبِأَخْذ الله بِيَد من يريد أن يهديه كهداية الرسل، مَن الذي هدى إبراهيم وجعله من الموقنين؟ هو الله ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٧٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٩٠] الرسل هداهم ربنا، خَلَقَ فيهم الإيمان واصطفاهم واجتباهم وجعلهم رسلا للناس، ثم الرسل أَعْلَمَت الناس و دَلَّتْهم، فالهداية‫:‬ الدلالة المطلقة، سواء هُدِيَ من دللته أو لم يُهْدَ. من هنا هذه الآية تُشعر بأن الناس لم يؤمنوا حقاً لأن الله أَوْكَلَ حقيقة الإيمان إلى زعمهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إن حدث وكنتم صادقين في أنكم أسلمتم، فالذي دَلَّكم على طريق الإسلام هو الله‫.‬ وتُخْتَم سورة الحجرات بالختام المنطقي لكل ما ورد في السورة‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿18﴾
في بداية سورة الحجرات تأديب الصحابة وتأديب المسلمين بالأدب الواجب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم): عدم رفع الصوت، عدم المناداة بالاسم، عدم مساواة صوت المتكلم مع صوت رسول الله، عدم رفع الصوت في حضرته، عدم النداء عليه، الاستئذان، الصبر حتى يفاتحك بالكلام، عدم الإشارة إلا أن تُستشار، كل التأديبات والتعليمات‫.‬ ثم بعد ذلك التنبيه على التأكُّد والتَثَبُّت من أنباء الفسقة (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). ثم أَدَّبَنا ربنا بالأخلاق الكريمة بيننا وبين إخواننا المسلمين؛ ممنوع السخرية، ممنوع التنابز بالألقاب، ممنوع الظن السيئ بالمسلم، ممنوع الغيبة، ممنوع التجسس، تلك أمور قد تبدو للناس وقد لا تبدو، فالظن في داخلك قد لا أراه ولا يراه أحد، والغيبة قد لا يعلم بها من اغتبته، قد لا يعلم ولا يخبره أحد بأنك تغتابه‫.‬ أيضا السخرية؛ قد تسخر به من خلف ظهره، إذا به يقوم وينصرف من مجلسك فتسخر وتلمز وتشير وتضحك وتتضاحك مع إخوانك وقد انصرف الرجل ولا يدري من ذلك شيئا، وهكذا‫.‬ كل تلك الأمور التي نهى ربنا (تبارك وتعالى) عنها والتي قد لا تظهر للناس يُنَبِّه ربنا أن هذا ليس الغرض من الخلْق، وليس الغرض من تفاضل الناس بعضهم البعض، فهناك الغني وهناك الفقير ولا يصح أن يسخر الغني من الفقير، وهناك الصحيح وهناك المريض ولا يصح أن يسخر القوي من الضعيف، وهناك وهناك‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫إذاً الأمر أعمق من هذا، الأمر أنَّكَ وجميع الناس من أب واحد، آدم، وهذا الأب من التراب، فالمنشأ واحد، ثم بعد ذلك حفرة في الأرض كلنا صائر إليها، إذاً فقد خُلِقَ الناس من أب وأم ومن تراب، وجعلهم ربنا وفرّقهم فغيَّر في الصور والألوان، آيات، اختلاف الصور والألسنة والألوان، هو الذي خَلَقَ ذلك وصنعه، ثم جعل الناس شعوبا وقبائل ليُعرفوا، يُعرف فلان بن فلان من قبيلة فلان من شعب فلان من فخذ كذا ليُعرَف الناس، وإلا ما كانت الناس تَعرِفُ من أنت ومن هو، ما الفرق بينك وبينه، أنت ابن فلان وهو ابن فلان، أنت عربي وهو أعجمي، لا للتفاخر ولا للتكاثر بالأموال وإنما للتعارف‫.‬ ثم يُضرب لنا المثل عن هؤلاء الذين يمنُّون بالإسلام ويُوضَّح أمرُ الإسلام وأمرُ الإيمان‫.‬ وتُختم السورة بأن الله يعلم، وإذا كان الله يعلم فلا بد وأن يُحاسِب، ومن نوقِشَ الحساب هَلَك‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ كل ما غاب عنك لا يغيب عن الله، فهو الخالق له وهو المدبر وهو المهيمن، لأن الله لم يخلق الخَلْق ثم تركهم سُدى ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [سورة القيامة آية‫:‬ ٣٦] هل يخلق ربنا الأسماك في البحار ثم يدعها تقتات من تلقاء نفسها، تبحث عن قوتها؟ يخلق الطيور ويتركها تبحث عن الطعام دون أن تجد؟ يخلقها ويدعها تموت وقتما تشاء هي؟ الدود في باطن الأرض، والسمك في أعماق البحر، والطيور فوق السحاب، بل النبات، بل الشجر، بل الورق ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام آية‫:‬ ٥٩]. لابد وأن يكون كذلك لأنه هو الله الخالق الموجب المدبر للأشياء المعدِم لها، فلكل شيء وُجِد بدايةٌ ونهايةٌ، وبين البداية والنهاية تدبير، فالمبدئ هو الله والمعيد هو الله، بين المبدئ والمعيد؛ المحصي‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫بين البداية وبين النهاية هناك أمور؛ أرزاق وحركات وعلاقات وما إلى ذلك‫:‬ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فانتبهوا لما نُهيتم عنه لأن الله يرى ويسمع‫.‬

أيها الإخوة والأحباب إياكم وذكر الناس فذكر الناس داء، وعليكم بذكر الله فذكر الله شفاء، شفاء لكل شيء، وما من إنسان في كَرب ويذكر الله (تبارك وتعالى) إلا ويزول كربُه، وإذا لم يزُل الكرب في الواقع زال في النفس، فكم من مريض تدخل عليه ولا يُرجى شفاؤه تجده مطمئنا لقضاء الله، تجده راضيا بما هو فيه وتتعجب، ذاك رجل ينتظر الموت ومع هذا في سكينة وفي وئام مع نفسه وفي اطمئنان كيف ذلك؟ ذِكْرُ الله! وكم من إنسان خسر في تجارته أو بارت سلعته، وتجده غير ساخط ولا متبرم، بل هو راضٍ بقضاء الله، فقد استوى لديه المكسب والخسارة، فالكل من لَدُنِ الله‫.‬ (الإيمان)، اللفظ، بل الكلمة، بل من جَرْسِها حين تسمع (الإيمان)، صوتُ الكلمة، نَغَمُها، يُشعر بالحنان وبالاطمئنان وبمنتهى الأمان، فالإيمان أمان، وطالما كان المؤمن مؤمنا حقا لا تجده أبدا إلا راضيا، ولذا يُنَبِّه ربنا (تبارك وتعالى) المؤمنين فيقول‫:‬ ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ إذا ًمن قبل أن نُخلَق، ومن قبل أن تَحدُث الحوادث، ومن قبل أن تَجري علينا المصائب فهي مكتوبة من الأزل، كتبها من أوجدها، وأوجدها وفقا لما كتب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫طالما الأمر كذلك وهو أمر يسير لأنه يقول‫:‬ ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ٢٢] ينبئنا لماذا‫:‬ ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [سورة الحديد آية‫:‬ ٢٣] معنى هذا أنك إذا حزنت على شيء فات فقد نقص منك الإيمان، لأن ما فاتك من الله سوى الله يسير، وكل حَظٍّ لك سوى الله حقير، فكيف تحزن على أمرٍ فات؟ فَوّته ربما فيه مضرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون‫.‬ وكذلك الفرح، فَرِحَ بالمال، فرح بالجاه، فرح بالمنصب، فرح بأي شيء من أمور الدنيا، وما أدراك ومَن أدراك أن هذا الذي جاءك فيه خير أو رَشَد؟ فكم وَلِيَ رجلٌ سلطانا وكان عليه وبالا، مُلْك فرعون أكان عليه وبالاً أم كان عليه خيرا ورَشَدا؟ لو كان رجلا عاديا ربما هُدِيَ إلى الإسلام‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫السلاطين والولاة والملوك والرؤساء الذين أنت تنظر إليهم بشيء من الإعجاب أو الحسد أو التمني، هل تدري ما هو صائر إليه أمره؟ إذا وقفت أنت بين يَدَي الله سُئلت عن نفسك، وإذا وقف هو بين يَدَي الله سُئل عن الرعية بما فيها البهائم، هل تساوي هذه الوقفة مُلْكَ الدنيا وما فيها؟ لا والله! وقد يأتي المال ويكون فيه المعصية والوبال فيُستغل المال في معصية الله، كان الرجل فقيرا فيَغْشى المساجد ويعبد الله، ويسأله الفرج، ويسأله التوسعة في الأرزاق، ويلجأ إلى الله، فقد مرض ابنه ولا يجد له ثمن الدواء فيلجأ إلى الله، ويشعر ببرد الشتاء ولا يجد ما يستدفئ به فيلجأ إلى الله، مكلوم مكروب مهموم لاجئ إلى الله دائما وأبدا، فأُعْطِيَ المال، فبدلاً من أن يلجأ إلى الله في مرض أبنائه لجأ إلى الطبيب وقال يا طبيب، يا دواء، ولم يقل يا الله! وبدلاً من أن يَغْشى المساجد بدأ يَغْشى القهاوي والنوادي وما إلى ذلك، وبدلاً مِن وبدلاً مِن أصبح وأصبح وأصبح! من هنا لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم لأن الله له في خلقه شئون، وما قُدِّر من الأزل لابد وأن يكون تلك حكمة الله، والمؤمن يرى ذلك ويفهم ويعلم فيطمئن‫.‬ هذا هو معنى الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره؛ أن يستوي لديك الحلو والمر، فإن أصابتك الضراء صبرت، وإن أصابتك السراء شكرت، لذا يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "عجبٌ أمرُ المؤمن وأمْرُ المؤمن كُلُّه عَجَب إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر وهذا لا يكون إلا للمؤمن" ففَتِّش عن نفسك وسَلْ قلبك أمؤمن أنت حقا؟ أرضيت أنت عن الله قبل أن تسأله أن يرضى عنك؟ هل أحببت أنت الله حتى تطلب حب الله؟ كيف تبخل بطاعته وتطمع في رحمته؟ ارجع لنفسك وارجع لكتاب الله فهو نور وبرهان يُتلى، بالخير قد أَمَر وعن الشرور نَهَى، عُد الى كلام الله وعُد إلى كتاب الله‫.‬‬‬‬‬