القرآن الكريم / سورة الفتح / التفسير المقروء

سورة الفتح

مقدمة‬‬
‫لقاؤنا اليوم مع سورة هي أحب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الدنيا وما فيها، هي أحب مما طلعت عليه الشمس، سورة الفتح‫.‬ اشتد الحنين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة، بل وقيل أنه رأى رؤيا، رأى نفسه فيها محرماً طائفاً حول البيت‫.‬ اشتد حنينه وهاج شوقه، فنوى وأحرم بالعمرة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، أحرم معه أصحابه ودعا الناس كي يحرموا معه، فتخلف عنه الأعراب وقالوا كما قال المنافقون‫:‬ (إن ذهب محمد وأصحابه فلن يرجع منهم أحد، هاهم ذاهبون إلى مكة، إلى عقر دار المشركين، هم في عدد قليل لن يرجعوا إلى أهليهم أبدا)، فتخلفوا وتعللوا بالشغل‫.‬ خرج رسول الله وأصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة، وحين اقتربوا من مكة وصل خبرهم إلى قريش، فجمعوا الجموع وخرجت فرسانهم لملاقاته وقد كان محرماً ولا ينوي حرباً، خرج بغير سلاح، وحين علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بخروجهم غيّر اتجاهه وغيّر الطريق، فوصل إلى الحديبية فنزل فيها، وحين نزل بالحديبية ونزل معه أصحابه فرغ منهم الماء، وجاءوا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالوا‫:‬ (نحن في أرض ليس بها ماء)، فأخرج سهماً من كنانته وأمر بغرزها في بئر جافة، ودعا بماء فتمضمض ومَجَّ في البئر ففاضت بالماء، فاض الماء من البئر فارتوى القوم وسقوا‫.‬ وأخذت السفراء بين محمد (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة تروح و تجيء، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لو عرضت علينا قريش خطة فيها صلة رحم لأجبتهم إليها". وفشل السفراء بينه وبينهم حتى جاء سهيل بن عمرو، وحينما رآه النبي من بعيد، وكان لا يزال مشركاً، حين رآه تفاءل باسمه وقال‫:‬ "لقد سُهِّل لكم".
‫وجاء سهيل بن عمرو وبدأت القضية وبدأ الصُلح، وقد حدثت مناوشات بين الفريقين، وأحسّ مشركوا مكة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ينوي القتال إذا صُدَّ عن البيت، فأرادوا صُلحاً وجاءوا يسعون إليه، و رحب النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الصلح، وما ينطق عن الهوى وكل أفعاله بوحي، جاء سهيل متشدداً وحين بدأت الكتابة أمر النبي عَلِيَّاً فكتب‫:‬ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل‫:‬ (أما بسم الله، أما الرحمن الرحيم فنحن لا نعرفه، أكتب ما نعرف، أكتب باسمك اللهم فقط)، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعليّ: "أكتب باسمك اللهم"، فكتب، ثم أمره فكتب‫:‬ (من محمد رسول الله) فقال سهيل‫:‬ (أمحها، لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك وما صددناك، أمحها واكتب اسمك واسم أبيك)، فقال النبي‫:‬ "يا عليّ امحها"، قال‫:‬ (والله ما أنا الذي أمحوها يارسول الله)، ورفض وأبى، فقال‫:‬ "أرني إياها، إعرضها عليّ"، فعرضها على النبي فمحاها بيده (صلى الله عليه وسلم) وقال‫:‬ "أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله" وكتب‫:‬ (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أهل مكة)، وكانت شروط الصلح مجحفة في ظاهرها بالمسلمين، حيث كان من الشروط بعد أن تحددت المعاهدة بعشر سنوات، يأمن فيها الناس، ويختلط فيها الناس ويمشون في بعضهم، كُتِبَ من شروط المعاهدة أن من عاد من المسلمين إلى مشركي مكة لا يردوه إلى محمد (عليه الصلاة والسلام) ومن ذهب من أهل مكة إلى محمد (عليه الصلاة والسلام) فعليه أن يرده إليهم، رجلا كان أو امرأة، ما من أحد يهاجر إليه إلا وعليه أن يرده إلى أهله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتزلزل الناس، وكان أوّل من عبّر عن هذا عمر بن الخطاب، حيث ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال له‫:‬ (يا رسول الله، ألسنا على الحق؟) قال‫:‬ "بلى"، قال‫:‬ (أليسوا على الباطل؟) قال‫:‬ "بلى"، قال‫:‬ (أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟) قال‫:‬ "بلى"، قال‫:‬ (فلم نعطي الدنية في ديننا يارسول الله ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟) قال‫:‬ "يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً"، فخرج عمر من حضرته متغيظاً، فذهب إلى أبي بكر وقال‫:‬ (يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟) قال‫:‬ (بلى)، قال‫:‬ (أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار)، قال‫:‬ (بلى)، قال‫:‬ (فلم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟) قال‫:‬ (يا عمر، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا). وكُتِبَت البنود و فيها الإجحاف الشديد بالمسلمين، وقبل أن تختم الوثيقة، قبل أن يختمها النبي إذا بقادم يأتي يرصف في أغلاله مستجيرا بالنبي وبالمسلمين، وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، الذي يُوَقِّعُ مع رسول الله، جاء مستجيراً مستغيثاً مسلماً، جاء هارباً من ظلم أبيه وظلم المشركين، جاء يرصف في أغلاله، فقال سهيل‫:‬ (هذا أول تنفيذ القضية، أعِدْهُ إلينا)، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "نحن لم نختم بعد"، قال‫:‬ (والله هذا أول التنفيذ وهذا أول شرط)، فأعاده النبي (صلى الله عليه وسلم) خرج يبكي والمسلمون في زلزلة شديدة تعمّهم الكآبة ويسودهم الحزن، (يا رسول الله، أنعيده إليهم يعذبوه؟)، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "من جاءنا منهم فرددناه سيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن ذهب من عندنا إليهم أبعده الله).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫سكت الناس على مضض، وقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحر هديه في الحديبية وقد ساق الهدْي معه، وحلق رأسه ولم يقض مناسكه، وقام الناس يحلقون رءوسهم في غيظ، في حزن، في كآبة، حتى كاد بعضهم أن يقتل بعض، سالت منهم الدماء، حلقوا الرءوس بشدة وبعنف وبغيظ فسالت دماؤهم، ونحروا هديهم تنفيذا لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واقتداء به، وكان من شروط القضية أن يرجع النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، ويأتون من قابل، في العام القادم في ذي القعدة أيضا، يدخلون مكة للعمرة، يمكثون فيها ثلاثة أيام فقط ويخرجون، ولا يدخلون إلا بجلبان السلاح، أي بالسيوف في قرابها فقط‫.‬ وأذّن النبي بالرحيل وقام و رحل، و رحل معه الناس و فجأة حدث في الناس شيء، فإذا هم يهزون الأباعر يجدون السير يحيطون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان الوقت ليلا، وإذا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى الناس وقد اجتمعوا حوله وقال‫:‬ "لقد أُنْزِلت عليّ سورة هي أحبُّ إلىّ من الدنيا وما فيها"، ثم قرأ‫:‬‬‬‬‬‬

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًۭا مُّبِينًۭا ﴿1﴾ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَٰطًۭا مُّسْتَقِيمًۭا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾
قرأ عليهم السورة وقد نزلت كلها دفعة واحدة، واستدعى عمر، وحين سمع عمر الآيات تُتْلَى وسمع الكلام قال‫:‬ (أَوَفتحٌ هو يارسول الله؟) قال‫:‬ "إي وربي! إنه فتح". سورة الفتح مدنية، ونزلت في الطريق بين مكة والمدينة بعد مرجِعِهِ (صلى الله عليه وسلم) من الحديبية‫.‬ افْتُتِحَت السورة بهذا الكلام وهذه البشارة الجميلة‫:‬ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾، قال بعض المفسرين‫:‬ (الفتح) فتح مكة، والكلام عن المستقبل عُبِّرَ عنه بالماضي لتحققه، فقد فُتِحَتْ مكة بعد سنتين فقط‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل (الفتح) فتح خيبر الذي تم بعد قفوله من الحديبية‫.‬ والقول الأرجح والأصح‫:‬ أن (الفتح) هو صلح الحديبية، حيث تم في الحديبية أمور عديدة‫:‬ أولا الكرامة التي تمت والمعجزة التي حدثت بتفجر الماء من مَجِّ رسول الله في البئر، تمت بالبيعة حيث بايع الصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الموت، تمت بيعة الرضوان‫.‬ بهذا الصلح أمن الناس واطمأنوا، وتفرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لبقية العرب، ففتح خيبر، وفتح فدك، وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقد أَمِنَ من المشركين‫.‬ أيضاً بصلح الحديبية اختلط الناس وبدأ المسلمون يمشون في المشركين، فما من أحد أراد أن يعرف عن الإسلام شيئا إلا عرفه، وما أراد أحد أن يسمع القرآن إلا سمعه، فاختلط المسلمون بالناس فعلم الناس عن الإسلام ما لم يكونوا يعلمون‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من هنا لم تمر سنتان إلا ودخل النبي مكة فاتحا في عشرة آلاف مقاتل، ودخل الناس في دين الله أفواجا فقد كان صلح الحديبية فتحا فعلا كما يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ فتحاً ظاهراً، فتحاً واضحاً، فتحاً يبين للناس الحق من الباطل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) اللام في قوله ﴿لِيَغْفِرَ﴾ لام العلة الغائِيَّة وليست علة للفتح ولكن علة غائية، لأن الأمور المتعاطفة الأربعة كانت غاية للفتح وهي‫:‬ يتم نعمته عليك؛ يهديك صراطاً مستقيما؛ ينصرك الله نصراً عزيزا، وقُدِّمَت هذه النعم بأجل النِّعَم؛ غفران الذنوب ما تقدم منها وما تأخر، ليجمع له الله عِزَّيِ الدنيا والآخرة، فاللام لام العلة الغائية، من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ وهل للنبي ذنب حتى يُغْفَرْ؟ قال بعضهم‫:‬ (ما تقدم) ما تم قبل الرسالة في الجاهلية، (وما تأخر) ما حدث منه خلافاً للأوْلى بعد الرسالة‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ بل الصغائر تجوز على الأنبياء ويعاتبون فيها ويغفر الله (تبارك وتعالى) لهم، وضربوا أمثلة كقوله جلا وعلا‫:‬ ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [سورة عبس آية‫:‬ ١ - ٢]، وضربوا أمثلة بقوله في غزوة بدر‫:‬ "اللهم إن تُهْلِكْ هذه العصابة أو إن تَهْلَكْ هذه العصابة فلن تُعْبَدَ في الأرض أبداً" فأوحى الله إليه‫:‬ (ومن أدراك أني لا أُعبد إذا هلكت هذه العصابة؟)، وكذلك في حنين حين قذف الناسَ بحصباء وقال‫:‬ "لولا أني قذفتهم بالحصباء ما انهزموا" فنزل قول الله‫:‬ ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [سورة الأنفال آية‫:‬ ١٧]. وقال بعضهم‫:‬ (ليغفر لك ما تقدم) قبل نزول السورة، (وما تأخر) بعد نزول السورة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ بل الآية كناية عن المغفرة فيما لو وقع منه ذنب، أي لو وقع منك ذنب في الماضي لغفرناه، وإن وقع منك ذنب في الاستقبال فقد غفرناه‫.‬ وأحسن القول على الإطلاق قول القائل‫:‬ الغَفْر‫:‬ الستر، ومنه المِغْفَر‫:‬ غطاء الرأس الساتر في الحرب، فالغفر‫:‬ الستر، والستر ستران‫:‬ ستر بين العبد والذنب فلا يقع منه ذنب، وهو المقام اللائق بالنبوة، وستر بين الذنب وبين العقوبة وهو اللائق لمقام الأولياء والأصدقاء، فحين يقول الله‫:‬ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ﴾ أي‫:‬ ليستر بينك وبين الذنب فيما مضى، وكذلك فيما هو آت، ولم يقع منه ذنب (صلى الله عليه وسلم). ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بالنبوة والحكمة، (ويتم نعمته عليك) بالنصر المؤزر وبظهور الدين، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان مَهْديّاً، فحين يقول‫:‬ ﴿ويهديك صراطا مستقيما﴾ وقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ من قبل النبوة إذاً فمعنى ﴿ويهديك صراطا مستقيما﴾ يثبتك على طريق الهداية إلى أن تلحق بالرفيق الأعلى‫.‬ ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ نصراً غالباً قوياً، نصراً فيه المنعة وفيه العزً نصر لا هزيمة بعده، نصر لا ذل بعده، نصر يُعَزُّ به المنصور فلا يَذِلّ.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وهذه الآيات، وهذه المنح، وهذه العطايا التي خُصَّ بها النبي هل نال الأمةَ منها شيءٌ؟ نعم! ربنا (تبارك وتعالى) حين قال له‫:‬ ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ نزل على الأمة‫:‬ ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٣]، وحين قال الله (تبارك وتعالى): ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ نزل على الأمة‫:‬ ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ٢٠] وحين نزل عليه (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ نزل على الأمة‫:‬ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٤٧]، بل حين نزل قوله (تبارك وتعالى): ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة سورة الأحزاب آية‫:‬ ٥٦] نزل على الأمة‫:‬ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٤٣]. نعم! كل ما حازه نبينا (صلى الله عليه وسلم) من فضل شَعَّ على الأمة وأفاض من فضله عليها، فأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) خير أمة أخرجت للناس‫.‬ حين تلى الرسول الآيات‫:‬ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(١)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(٢)وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ فقالت الناس حين سمعت ورسول الله يقرأ‫:‬ (هنيئا مريئا يارسول الله، هذا لك، فماذا لنا؟) فقرأ النبي (صلى الله عليه وسلم):‬‬‬‬‬‬‬
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوٓا۟ إِيمَـٰنًۭا مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًۭا ﴿4﴾ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًۭا ﴿5﴾
فنزلت المِنَّة وعمَّت النعمة، ورضي الناس وسكنت منهم القلوب واطمأنت منهم النفوس، فالله (تبارك وتعالى) هو الذي يرزق السكينة، وهو الذي يثبت القلوب على الإيمان، وهو الذي يطمئن عباده (سبحانه وتعالى) يقول‫:‬ ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ السكينة‫:‬ الثبات والطمأنينة‫.‬ عادوا في كآبة، عادوا حزانى، عادوا وهم يعتقدون أنهم أُجْحِف بهم، عادوا وقلوبهم ممتلئة بالغم، فصرفه الله عنهم وأنزل السكينة، فاطمأنوا وثابوا إلى رشدهم وعادوا إلى إيمانهم اليقيني بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم‫.‬ ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ والإيمان يزيد وينقص، الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي، الإيمان المذكور في هذه الآية اليقين والثبات، إذاً فقد ازداد يقينهم ورسخ إيمانهم واطمأنوا لنصر الله (تبارك وتعالى) وفضله‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ زيادة الإيمان الشرائع، لأن الله (تبارك وتعالى) حين أرسل رسوله (صلى الله عليه وسلم) أرسله بكلمة لا إله إلا الله فآمن الناس، وحين آمن الناس وصدّقوا نزلت الصلاة نعمة، فازداد إيمانهم حين صلُّوا، وحين صلّوا وحدثت الصلة بينهم وبين ربهم نزلت الزكاة، فازداد إيمانهم، ثم نزل الصيام، ثم نزل الحج فازداد إيمانهم بأداء الشرائع مع إيمانهم بوحدانية الله‫.‬ ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال بعض الناس‫:‬ الآية تعم الخلائق جميعاً، لله جنود السموات والأرض يسلط من يشاء على من يشاء، يبتلي الناس بعضهم ببعض ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٥١].‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ بل جنود السماء هم الملائكة، وجنود الأرض هم المؤمنون، ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، دبَّرَ ما دبَّر وصنع ما صنع ليُدْخِلَ المؤمنين جنات، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ دبّر ما دبّر، وصنع ما صنع من رجوعهم، ومن صلح الحديبية، ومِنْ ومِنْ حتى يطمئن المؤمنون ويؤمنوا بالله وبرسول الله، ويطيعوه ويوقروه، وهنا يثبت الإيمان في قلوبهم وتنزل السكينة عليهم ويشكروا الله على النعم، فيدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ عليماً بالمصالح، حكيماً فيما يقدِّر ويدبِّر، قَدَّر أن يحدث ذلك، ودَبَّر أن يحدث ذلك لعلمه بالمصلحة، ولأن أموره لا تخلو من الحكمة ﴿وكان الله عليما حكيما﴾. ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ اللام‫:‬ لام العلة، الجنات‫:‬ البستان كثير الشجر، ملتف الأغصان، كثير الثمار، يغطي ماتحته، فالجِنَّة سُمِّيَت جِنَّة لخفائهم علينا، فنحن لا نراهم، والمجنون غُطِّيَ عقله، والجَنّ: التغطية والستر، فالجَنَّة مستورة لا تصل إليها شمس، ولا يصل إليها غبار، تكاتفت فيها الأغصان، وتدلت منها الثمار‫.‬ ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ تجري فيها كما قالوا وليس من تحتها، ويعلم الله (تبارك وتعالى) صفة الجنة، فكل ما ذُكِرَ عن الجنة وعن النار ما هو إلا تقريب لأذهان الناس، أما الجنة فما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‫.‬ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لاتعب، ولا نصب، ولا وصب، خلود نحن لا نستوعبه ونحن لا نفهمه، الخلود‫:‬ الإستمرار، كيف هو؟ كيف يبقى الإنسان على شبابه وجماله؟ وكيف يحتفظ الإنسان بقوته وعزيمته؟ كيف يستمتع دون ملل؟ كيف يحيا ولا ليل ولا نهار ولازمان؟ كيف؟ أمور لا نعلمها، ولكن من ذاق عرف ونسأل الله الذوق في الجنة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يسترها ويمحو أثرها، من الكَفْر‫:‬ الدفن والتغطية، والكفار هم الزراع يكفرون الحبة في الأرض، ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يمحوها ويمحو أثرها، ويأتون إلى ربهم وليس عليهم شاهد بذنب، صحائفهم بأيمانهم فيها الحسنات فقط ولا سيئات فيها، يكفر عنهم سيئاتهم‫.‬ ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ والفوز‫:‬ بلوغ البُغْيَة، فوزاً عظيماً لأن فيه منتهى ما يُطْلَبْ من نفع ومنتهى ما يُحْذَرْ من ضر، إذاً فقد فازوا فوزا عظيما بابتعاد المضار وانتفائها عنهم، وبجلب المنافع والتي لا يعلم مداها إلا الله، ﴿وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾. وبضدها تتميز الأشياء‫:‬‬‬‬‬‬‬
وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًۭا ﴿6﴾ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿7﴾
‫﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، الذين دعاهم رسول الله للخروج فأبوْا وتشاغلوا عنه، ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ الكفار الذين عبدوا الأصنام، هؤلاء الذين صالحتموهم، هؤلاء الذين ظننتم أنهم قد غلبوكم في هذه الشروط وأجحفت بكم، هؤلاء يمهلهم ربنا (تبارك وتعالى) ولا يهملهم، فمن مات على كفره هلك‫.‬ ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ الظن السيّء لأنهم ظنوا أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين، ظنوا أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) إذا خرج فلن يرجع لا هو ولا أصحابه، ظنوا بالله (تبارك وتعالى) الظن السيّء، ظنوا أنه لا يقدر على نصرتهم، أو يتخلى عنهم، هؤلاء الذين ظنُّوا بالله ظن السوء ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ الدائرة‫:‬ الخط المحيط بالمركز، استُخْدِمَت الكلمة للتعبير عن كل نازلة تنزل بإنسان فتحيط به، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: على هؤلاء الظانين بالله ظن السوء، عليهم ما ظنوه، يحيق بهم، ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ فيحيط بهم الشر والمساءة، ساءَهُ يسوءُهُ مساءَةً، عليهم دائرة السوء، والسَوْء‫:‬ مصدر، لكنه يُسْتَخدم في إضافة الشيء المكروه، وقُرِأَت ﴿عليهم دائرة السُّوء﴾ بضم السين، وهو الشر والهزيمة والهلاك والعار‫.‬ إذاً فقد توعدهم ربنا بإحاطة الهزيمة بهم، وإحاطة الذل بهم، وإحاطة التعذيب بهم، نعم! يعذبهم ربنا في الدنيا بالهَمّ حين يروا نصر الله لرسوله، وبالغَمّ حين يروا انتشار دين الله، ويعذبهم بالقتل والأسر والاسترقاق والهزيمة، ثم يعذبهم يوم القيامة بما شاء من عذاب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ الغضب من حيث اللفظ‫:‬ يظهر في الإنسان باحمرار الوجه، وانتفاخ الأوداج، وصعود الدم إلى الدماغ، والغضب حين يظهر في الإنسان لابد وأن يُنْفِذَ غضبَه فيمن هو دونه بالعقوبة أو بأي شيء، الغضب تغيُّر في الإنسان، يَحْمَرُّ وجهه، تنتفخ أوداجه، يرتعد، تحدث علامات ومظاهر‫.‬ الغضب في حق الذات العليا ليس كذلك، لأن الله ليس كمثله شيء، وعليه حين تسمع‫:‬ ﴿غضب الله عليهم﴾ أي‫:‬ أراد بهم العقوبة، أراد بهم العذاب، أما الله فيُغَيِّرُ ولا يتغير، ويُحَوِّلُ ولا يتحول‫.‬ ﴿غضب الله عليهم﴾ أي‫:‬ أراد بهم العقوبة، ﴿وأعدّ لهم جهنم﴾ لأنه لعنهم، واللعن‫:‬ الطرد من الرحمة، إذاً فهؤلاء مُخَلَّدون في جهنم لأنهم قد طردوا من الرحمة، وغضب الله عليهم وأعد لهم العذاب الأليم‫.‬ ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي‫:‬ المصير السيّء الذي يصيرون إليه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وتتكرر الآية، وحين تتكرر الآية لابد وأن تضيف معنىً جديداً، ربنا (تبارك وتعالى) بعد ما ذكر مصير المؤمنين ومصير الكفار والمنافقين قال‫:‬ ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ الآية الأولى‫:‬ ﴿ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما﴾ جاءت بعد ذكر المؤمنين، وبعد ذكر قوله (صلى الله عليه وسلم): ﴿وينصرك الله نصرا عزيزا هو الذي انزل السكينه في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما﴾ إذا ً فلو شاء الله لانتصر من المشركين بغير قتال، لهزمهم وزلزلهم وخسف بهم كما خسف بقرى لوط، لو أراد الله لأرسل عليهم حاصباً كما أرسل على ثمود، لو أراد ربنا لأرسل عليهم صيحة واحدة مالها من فواق، لكن الله له جنود السموات والأرض، يسلط من يشاء على من يشاء، وكان الله عليماً بالمصالح حكيماً فيما قضى ودبّر‫.‬ وفي هذه الآية بعد ذكر العقوبة للمشركين والمنافقين الظانِّين بالله ظن السوء، يؤكد ربنا (تبارك وتعالى): ﴿ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزا حكيما﴾ والعزيز‫:‬ الفرد لا مثال له، العزيز‫:‬ النادر، العزيز‫:‬ الذي لا يُنال، العزيز‫:‬ الغالب القوى القاهر، والحكيم فيما قضى وفيما أمر، وفيما دبّر وفيما فعل، وكان الله عزيزا حكيما‫.‬ ويتوجه الخطاب إلى سيد الخلائق أجمعين، والخطاب له (صلى الله عليه وسلم) والمراد هو والأمة، أو المراد الأمة وهو يخاطَب لأنه زعيم الأمة ولأنه سيد الأمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَـٰهِدًۭا وَمُبَشِّرًۭا وَنَذِيرًۭا ﴿8﴾ لِّتُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةًۭ وَأَصِيلًا ﴿9﴾
نعم! إنا أرسلناك شاهدا؛ شاهدا على الأمة، البلاغ، شاهدا عليهم بأعمالهم، شهيدا عليهم يوم القيامة، بل شهيدا على الشهداء، فربنا (تبارك وتعالى) يقول له‫:‬ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٤١] بل وحين يُبعث الناس يوم القيامة وتُسْأَلُ الرسل ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ٦] ويُسْأَلُ نوح‫:‬ (هل بَلَّغْتَ؟) فيقول‫:‬ (إي ياربي، بَلَّغْتُ) فتؤتى أمة نوح، يؤتى بها (هل بَلَّغَكم؟) فتقول أمةُ نوح الذين كذبوه‫:‬ (ما أتانا من بشير ولا نذير) يحلفون ويكذبون على الله كما يكذبون عليكم، فيقول ربنا (تبارك وتعالى) لنوح‫:‬ (ائتِ بمن يشهد لك)، فيقول‫:‬ (محمد وأمته)، فنشهد لنوح بأنه بَلَّغ، وحين نُسْأل‫:‬ (وكيف علمتم؟) نقول‫:‬ (بلغنا الصادق المصدوق) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ١٤٣] ولكن احذر! فإن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة، احذر من اللعن! أن تلعن أحداً أو أن تلعن شيئاً، فإن الرجل إذا لعن الأرض ردت الأرض عليه وقالت‫:‬ (لعنة الله على العاصي منا). نعم! يقول الله ممتنا على الحبيب المصطفى‫:‬ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا) شاهداً على الأمة بالبلاغ، شاهداً على الشهداء، شاهداً عليهم بأعمالهم من أطاع ومن عصى‫.‬ ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ مبشرا للمؤمنين بالجنة وبالنعيم، ﴿وَنَذِيرًا﴾ للكافرين وللمنافقين‫.‬ ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ﴿ليؤمنوا﴾ قراءه بالياء و بالتاء، ذاك أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) وتلك دعوته؛ الإيمان بالله وبرسوله، لا إله إلا الله محمد رسول الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ ﴿وَتُعَزّزوهُ﴾ ﴿وتُعْزِرُوهُ﴾ ﴿وتَعزُرُوَه﴾ ﴿وتَعْزِرُوهُ﴾ قراءات والتعزير‫:‬ النصر، التعزير‫:‬ التعظيم، التعزير‫:‬ المنع مما يُخاف، ومنه‫:‬ التعزير في الحدود، الحاكم إذا عزّر العاصي مَنَعَه عن ارتكاب جريمته أو تكرارها، وتعزروه‫:‬ تمنعوه‫.‬ ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أَوْقَرَهُ، وقّره‫:‬ عظمه، فخَّمه‫.‬ ﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ غدواً وعشياً، وقد يكون المقصود بالتسبيح‫:‬ كل اليوم، فإنه يُكَنَّى عن جميعٍ بطرَفيْه فتقول‫:‬ شرقاً وغرباً، أي‫:‬ الأرض جميعها‫.‬ والآية فيها قولان‫:‬ قول يقول أن الأفعال كلها منسوبة للذات العليا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه (الله)، كيف نعزّر ربنا (تبارك وتعالى)؟ قيل‫:‬ التعزير‫:‬ المنع والنصر، ننصر الله‫:‬ أي ننصر دين الله (ان تنصروا الله ينصركم) والتعزير‫:‬ المنع، منع الإشراك، فما من شرك إلا ونقاومه، وما من كفر إلا ونجاهده، وما تنزل راية الجهاد أبدا حتى تقوم الساعة‫.‬ تعزروه‫:‬ تمنعوا عنه مالا يليق من وصف الشريكة والولد، فسبحانه وتعالى! ما اتخذ صاحبة وما اتخذ ولداً، هذا هو التعزير في حق الله (سبحانه وتعالى). ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ توقروا الله، تصفوه بصفات الجلال والكمال، تصفوه بما وصف به نفسه‫:‬ (ليس كمثله شيء). ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ تسبحوا الله (تبارك وتعالى) بكرةً وأصيلاً بالصلاة، إذ الصلاة فيها التسبيح غدواً وعشياً، أو تسبحوه بالقول، بالتنزيه والتسبيح، من السباحة، والسباحة‫:‬ السير بسرعة في الماء أو الهواء، والتسبيح بمعنى أنك تسرع في تنزيه الله عما لا يليق بجلاله وكماله‫.‬ إذا فربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ يامحمد للأمة، لتؤمنوا بالله، وتعزروا الله، وتوقروا الله، وتسبحوا الله بكرة وأصيلا، ذاك قول‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫والقول الآخر‫:‬ أن الآية ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(٨)لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ (محمد عليه الصلاة والسلام) تعزروا محمداً، تمنعوه من الكفار، تمنعوه من أذى المشركين، تنصروه وتلتفوا حوله‫.‬ ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ تفخموه وتعظموه، لا تنادوا محمداً باسمه أبداً، بل بالصفة‫:‬ يا رسول الله، يا نبي الله، أما بالاسم فيَحْرُم، حيث يقول ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [سورة النور آية‫:‬ ٦٣] وقال‫:‬ ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [سورة الحجرات آية‫:‬ ٢] وقال‫:‬ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [سورة الحجرات آية‫:‬ ١] إذا ً فالتوقير‫:‬ وصفه بالصفة، بالنداء عليه بالصفة، خطابه بصوت خفيض، عدم رفع الصوت، عدم النداء عليه من خلف الحجرات، عدم الدخول عليه إلا بإذن، إذا قال انصرفوا فانصرفوا، إلى آخر ما تعلمناه من أدب مع سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم). (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الكلام فيه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم). (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) عاد الكلام للذات العليا، وهنا إذا كان هذا هو المعنى الذي أنت تريد أن تفهم، فعليك أن تقرأها كما يجب وهو‫:‬ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(٨)لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ وتقف وقف تام، ثم تقول‫:‬ ﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم، التوقير لرسول الله حياً وميتاً، ومن زار المدينة وأكرمه الله بالمثول بين يديه فطوبى لمن فاز بصحبته، وطوبى لمن نال في حضرته المثول، هو الوسيلة تُرْتَجَى، فلولا رضاه لانعدم القبول، فمن نال هذا الشرف ووقف أمام الحضرة النبوية فعليه أن يقف على بعد أمتار محترزا أن يلمس المقصورة، أو أن يتلصص من خلالها، أو أن يرفع صوته ولو بالصلاة عليه، بل يقف في خشوع وأدب في حضرة سيد الخلائق، يسأله الشفاعة، ويصلي عليه، ويشهد له بالتبليغ، فالأدب مع سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم) حياً وميتاً، ومن آذاه بالقول أو الإشارة دخل جهنم خالدا فيها، وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٥٧] ومن إيذاء الرسول أن تؤذي أزواجه، ومن إيذاء الرسول أن تؤذى أصحابه، فالله (تبارك وتعالى) قد اختار له أصحابه فجعلهم له وزراءً وأنصاراً. ايها الأخ المسلم عليك بالأدب مع رسول الله، وكلما ذُكِرَ اسمُه أو ذُكِرَت صفتُه صلِّ عليه، فمن صلّى عليه صلاة صلّى الله عليه عشرا‫.‬‬‬‬‬‬
‫قبل أن يتم صلح الحديبية، مشت السفراء بين النبي (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة، وكان من السفراء عثمان بن عفان المبشر بسُكنى أعلى الجنان، الذي قال فيه رسول الملك الديان‫:‬ "لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان"، نعم! كان عثمان من السفراء وذهب إلى مكة، وجاء خبر وسرت الإشاعة بين الناس؛ قُتِلَ عثمان، قتله أهل مكة‫.‬ وهنا جمع النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه من كانوا معه في الحديبية، وطلب منهم البيعة، بايعوه على ألا يفروا، وقيل‫:‬ بل بايعوه على الموت قتالاً لأهل مكة وثأراً لعثمان، وتمت البيعة؛ بيعة مشهودة، بيعة محمودة، ذكرها الله في كتابه العزيز ورضي عن المبايعين رضاءً لا سخط بعده، حجبهم عن النار وبشرهم بالجنة، تلك البيعة يقول الله (تبارك وتعالى) فيها في سورة الفتح‫:‬‬‬‬‬‬‬
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًۭا ﴿10﴾
‫﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ أي‫:‬ يطيعون الله، إذ المقصود من البيعة طاعة الله وامتثال أمره، وهذا الكلام تشريف لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإعلاء لقدره كقوله‫:‬ ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [سورة النساء آية‫:‬ ٨٠]. ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ استئناف للتأكيد، تأكيد أن البيعة هي لله، استئناف مؤكِّد أن من بايع محمدا (صلى الله عليه وسلم) فقد بايع الله، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ آية من المتشابهات، كقوله (عز وجل): ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [سورة الحاقة آية‫:‬ ١٧] وكقوله عز وجل‫:‬ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [سورة القصص آية‫:‬ ٨٨] وكقوله (عز وجل): ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سورة يونس آية‫:‬ ٣] آيات الصفات هذه فيها رأيان، رأي للسلف ورأي للخلف، أما رأي الخلف، وهم العلماء المتأخرون فيؤولون هذه الآيات، وفي هذه الآية بالذات يؤلون اليد بالقدرة أو بالنصرة، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم، يد الله في توفيقهم إلى الهداية فوق يدهم في الطاعة، هم يؤولون اليد بالقدرة دون تشبيه أو تمثيل لأن الله ليس كمثله شيء‫.‬ وأما رأي السلف، وهم الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة أهل السنة، يقولون في هذه الآيات؛ آيات الصفات، أنه يجب الإيمان بها، وتفويض علم معناها المراد ومنها إلى الله تعالى، ترك الخوض في تعيين التأويل بعد إقامة الدليل القاطع على أن ظاهر اللفظ محال في حق الله لأنه ليس كمثله شيء، فأمرونا بذلك‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫نحن نؤمن بها، ونفوض علم معناها المراد منها إلى الله (تبارك وتعالى)، مع تنزيهه (جلّ وعلا) عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾. ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ نكث‫:‬ نقض، والنِّكْث‫:‬ أن تنقض خيوط الأكسية حتى تُغزل من جديد، نكث ينكث‫:‬ نقض الغزل، فك الخيوط ونقض المغزول حتى يعيد الغزل مرة أخرى، فيعبر بالنكث عن النقض، الرجوع، عدم الوفاء، عدم الإتمام‫.‬ ﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ أي‫:‬ لم يتم عهده، أو لم يفِ بما عاهد عليه الله (تبارك وتعالى) ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يعود الوبال عليه، وتعود العقوبة عليه لأن إثم نكث العهد راجع عليه، فالله غني عن عباده‫.‬ ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أوفى، ووَفَى، ووفَّى‫:‬ أتم، كلها بمعنى واحد، ﴿فسيؤتيه﴾ ﴿فسنؤتيه﴾ قراءتان ﴿ومن أوفى بما عاهد عليهِ اللهَ﴾ قراءة أخرى بكسر الهاء تتسق مع اللغة العربية‫.‬ أما القراءة بضم الهاء توصُّلا لتفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم العهد المشْعِرُ به الكلام، فأنت حين تقول‫:‬ ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ فأنت تضم الهاء توصلاً إلى تفخيم لفظ الجلالة، أما إذا قال‫:‬ ﴿ومن أوفى بما عاهد عليهِ الله﴾ فاللفظ مرقق، وهي قراءة لاتتعلق باللغة، وإنما قُرِأَتْ خصيصاً هكذا، وهي هنا الوحيدة في القرآن كله توصلا لتفخيم لفظ الجلالة حتى يشعر القاريء، السامع أن العهد فخم، عظيم، جليل، فهو عهد مع الذات العلية‫.‬ ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ تلك كانت إشارة لهذه البيعة العظيمة المحمودة، وستأتي إشارة أخرى إليها في نفس السورة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويأتي الكلام لفضح المنافقين، فحين خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة معتمرا وخرج معه أصحابه وكانوا زهاء أربعة عشر مائة، دعا القبائل، الأعراب المحيطين بالمدينة للخروج معه، من قبائل أسلم وغفار والدِّيل وأشجع وجهينة ومزينة، دعاههم إلى الخروج معه إلى مكة فتعللوا بانشغالهم بالأموال والأهل، ورفضوا الخروج خوفاً وجبناً وقالوا‫:‬ كيف يذهب إلى مكة وفيها أعداؤه و ما هو وأصحابه إلا أكلة رأس؟ عددهم قليل يشبعهم رأس واحد من الإبل، فهم أكلة رأس إذا نحروا جزورا واحدا كفاهم، ولن يعودوا، فسوف تصدهم قريش عن البيت وهنا تقوم الحرب بينهم، فتستأصلهم قريش عن آخرهم، خافوا وظنوا ظن السوء، وجبنوا وتعللوا وقالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يفضحهم ربنا (تبارك وتعالى) بل ويحكي لنبيه وحبيبه (صلى الله عليه وسلم) ما سوف يقولون، لأن السورة نزلت في منصرفه من الحديبية إلى المدينة وهو راجع في الطريق، فيقول الله مُنْبِئاً إياه عما سوف يحدث‫:‬‬‬‬‬
سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًۢا ۚ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۢا ﴿11﴾
فضح مقالتهم من قبل أن يقولوها ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ المخلّفون‫:‬ جمع مخلَّف، والمخُلّف‫:‬ المتروك في مكانٍ خلف القوم الخارجين من المدينة، كالنساء والصبيان‫.‬ والأعراب هم سكان البادية وليس سكان الحضر، ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ الذين خُلّفُوا، والذين خلّفهم الجبن والهلع، وخلّفهم نفاقهم، ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾، ﴿شغَّلتنا﴾ قراءة أخرى بالتشديد، والتشديد لتكثير الشغل، ﴿أهلونا﴾ جمع أهل، والأهل‫:‬ خاصة الرجل من زوجة وولد، حين يعود النبي إليهم سوف يعتذرون له ويقولون كما أنبأه الله (تبارك وتعالى):شغلتنا أموالنا وأهلونا ﴿فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ أي‫:‬ استغفر الله (تبارك وتعالى) لنا عن تخلفنا عنك، فقد كنا من أصحاب الأعذار، شغلتنا الأموال وشغلنا الأهل عن الخروج معك‫.‬ يقول الله مُكذّبا إياهم ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فهم يكذبون في الاعتذار، لم تشغلهم الأموال، ولم تشغلهم الأهلون، وإنما خلّفهم الجبن والنفاق، أيضا حين يقولون استغفر لنا هم أيضا في هذا هم كاذبون، إذ هم منافقون يخفون الكفر ويظهرون الإسلام، هم لا يريدون الاستغفار على الحقيقة لأن المؤمن لا يذنب عامدا ويقول سوف أستغفر، وإنما المؤمن يذنب عن غير عمد، يقع في الخطيئة أو يقع في المعصية عن غير عمد فليس هناك معصوم إلا الأنبياء، أما أن يتعمد أن يخطئ ثم يقول سوف أستغفر فذاك ليس من خلق المؤمن، فهم يكذبون في الاعتذار وفي طلب الاستغفار، فقال الله‫:‬ ﴿يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم﴾.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فإذا جاءوك وقالوا هذا ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ من يملك لكم من الله شيئا؟ هو الملك، هو الواحد الأحد، هو القهار، هو الله الخالق المدبر المهيمن، من يملك لكم من الله شيئا؟ من يمنعكم منه؟ من يحجب عنكم النفع أو يقيكم شر الضر؟ من؟ ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ ضَرا ً بالفتح‫:‬ مصدر، ويستخدم في المرة، ويستخدم في أكثر من مرة كذلك، في عدد من المرات، ضرَرْتُه ضَرّا ذاك بالفتح‫.‬ أما بالضم على قراءة من ضمها‫:‬ ﴿إن أراد بكم ضُرّا﴾ فهو اسم لكل ما يصيب الإنسان من أذى، من هزال، من مرض، ومنه قول أيوب‫:‬ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سورة الانبياء آية‫:‬ ٨٣]. ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي ليس الأمر كما زعموا، وليس الأمر كما كذبوا، وإنما الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وشرح مكنون نفوسهم واستخرج سوء نيتهم و طويتهم‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬
بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهْلِيهِمْ أَبَدًۭا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًۢا بُورًۭا ﴿12﴾
ذاك الذي منعكم، ليس الأهل وليس المال، وإنما الذي منعكم أنكم ظننتم، والظن أَكْذَبُ الحديث، والظن توهم وتخيل وتوقع يخطيء في غالب الأحيان، ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ﴾ أي‫:‬ لن يرجع ﴿الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ﴾ لأنهم ظنُّوا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا سافر للعمرة ومعه أصحابه سوف يُصَدّ، وحين يُصَدّ عن المسجد سوف يناضل في سبيل دخول المسجد، وهنا يُحاصَر ويُستأصَل هو من ومعه‫.‬ ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ﴿وزَيَّن ذلك في قلوبكم﴾ قراءة أي‫:‬ زَيَّن الشيطان ذلك، أو زَيّنه الله إبتلاءاً لهم ومعاملتهم بنفس ظنهم، ﴿وزُيّن ذلك في قلوبكم﴾ زُيّن هذا الفكر، وهذا الظن، وهذا التوقع، متلأت منه الصدور واقتنعت به الأفئدة واعتقدوا أنه لا محالة مُستأصَل هو وأصحابه‫.‬ ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ مكررة، ظننتم أن لن ينقلب الرسول وهذا الظن هو ظن السَّوْء، لتسجيل نوعية الظن فقال‫:‬ ﴿وظننتم ظن السَّوْء﴾ وهو عدم انقلاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وعدم نصرة الله له‫.‬ ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ أي‫:‬ كنتم في علم الله الأزلي من الهالكين، الفاسدين، الضائعين‫.‬ (بارَ) الشيء‫:‬ هَلَك، وأباره الله‫:‬ أهلكه، والبُور‫:‬ جمع بائر، أي هالك، ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ أي‫:‬ كنتم في علم الله أنكم من الهالكين، ومن هلك في علم الله فلا نجاة له، كيف ينجو؟ ومن ينجيه؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وتأتي الآية ترفع من شأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأيضا تحدد الإيمان المطلوب والذي إذا انتُقِصَ منه شيء كان كَلَا إيمان، يقول الله (تبارك وتعالى):‬‬
وَمَن لَّمْ يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَعِيرًۭا ﴿13﴾
إذاً فقد سَجّل عليهم الكفر حين يقول بعد هذه الآيات‫:‬ ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إذا ً قرن الإيمان برسول الله بالإيمان بالله، فإن آمن إنسان بالله وآمن بالوحدانية ولم يؤمن بمحمد (عليه الصلاة والسلام) عُدّ كافرا، لا يُقْبَلُ الإيمان بالله ما لم يكن مصحوبا بالإيمان برسول الله، يُعَدُّ كافراً، ولذا يقول‫:‬ ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ جاء بلفظ الكافرين مكان الضمير، النَّسَقْ أن يقول‫:‬ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا) لكنه بدلا من الضمير جاء بلفظ الكافرين؛ لتسجيل الكفر على كل من لم يَقْرِنِ الإيمان بالله مع الإيمان برسول الله‫.‬ ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا، وهيأنا، والنار مخلوقة، مستعدة، منتظرة يأكل بعضها بعضا، لذا حين ترى هؤلاء من بعيد يسمعون لها تغيظا وزفيرا، ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ وحين يقول‫:‬ ﴿سعيرا﴾، الكلمة مِن سَعَرْتُ النارَ، وسعَّرتُها، وأسْعَرتُها‫:‬ أوقدتُها وهيجتُها فاشتد أُوَارها‫.‬ وجاءت الكلمة نكرة ﴿سعيرا﴾، هذا التنكير للتهويل حتى يعتقد السامع ويعلم أنها فوق كل خيال في الهول وفي الفظاعة وفي الإيلام، أيضا جاءت نكرة ربما أن لهؤلاء نار مخصوصة! فجيء بها نكرة وكأنها نار مخصوصة غير النار المعهودة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭا ﴿14﴾
‫﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خَلْقا ًومِلْكا وتقديراً وتدبيراً وتصريفاً، فقد يصنع الإنسان الشيء ولا يملكه، يُغْتصَب منه أو يبيعه، وما من مالك على وجه الأرض إلا ويذهب مُلْكُه، فكل شيء زائل إلا الله، فقد خلق الخلق على غير مثال، فهو الخالق وهو المالك وهو الملك وهو المدبر وهو المهيمن وهو المصَرِّف، فلا يقع في ملكه إلا مايريد وهو الفعال لمايريد‫.‬‬‬‬
‫وربنا خلق الخلق ليبتليهم من أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار، من هنا يقول الله ولله ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء نعم هو الملك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأنه الملك والمالك ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ إشارة إلى الابتلاء الذي ابتلى به الناس في هذه الدار دار الدنيا دار الزوال من أطاع غُفِرَ له ومن عصى عُذِّب ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وختام الآية يدل على أمر غاية في الأهمية، نعم كان الله ولم يكن شيء وسيبقى الله ولن يبقى شيء، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ إذاً فقد كان من الأزل غفورا رحيما، وعليه فالمغفرة والرحمة من الذات، وأما التعذيب فهو تحت قضائه ومن قضائه بالعَرَضْ، لذا لم يقل‫:‬ وكان الله غفورا مُعَذِّبا، فهو يقول‫:‬ ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ولم يأت بصفة تتفق مع التعذيب كي يُشْعِرَ الناس بأن المغفرة والرحمة من صفات الذات، وأما الغضب والتعذيب فهي إرادة داخلة تحت قضائه بالعَرَض وليس بالأبدية أو الأزلية، وليست من صفات الذات العليّة، ولذا تسمع في الحديث القدسي‫:‬ (رحمتي سبقت غضبي)، وطالما أن الرحمة سبقت فهي أزلية، وطالما أن الغضب مسبوق فهو ليس أزلي، إذاً فهو حادث، إذا ً فهو عارض، قضاءٌ من قضاء الله، فالتعذيب خاضع لقضائه بالعَرَض، وأما الرحمة فهي صفة أزلية لذا افتتح الكتاب بصفتين أزلييتين له‫:‬ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾.‬‬‬‬‬‬
‫هناك وعد وعده الله لأهل الحديبية، ألف وأربعمائة، وعدهم الله مغانم كثيرة إذا عادوا بعد الصلح غير غانمين، لم يدخلوا المسجد، لم يؤدوا العمرة، لم يغنموا مغانم، عادوا فيهم الحزن وفيهم الضيق، امتلأت صدورهم بالغمّ والكرب إلى أن نزلت هذه السورة، فحين نزلت امتلأت قلوبهم بالسكينة وبالفرح لرسول الله‫:‬ هنيئا مريئا يارسول الله ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾، نزلت السكينة عليهم وبشرهم ربهم (تبارك وتعالى) بمغانم عاجلة يأخذونها في العاجل؛ وهي خيبر، حيث عاد النبي إلى المدينة في ذي الحجة، نحن قلنا أنه خرج في ذي القعدة للعمرة، وتم الصلح وعاد في ذي الحجة، بقي في المدينة حتى نهاية ذي الحجة، وجاء المحرم في السنة السابعة، فقد إنتهت السنة السادسة وأُمِرَ أن يذهب إلى خيبر، وأمره الله أن يختص بغنائم خيبر المبايعين لرسول الله في الحديبية، سواءً منهم من حضر ومن غاب، حتى لو لم يشهد خيبر بعد ذلك فله نصيب في المغنم؛ لأنه قد شهد البيعة‫.‬ وحين هَمَّ الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) بالخروج لخيبر في المحرم من السنة السابعة، أراد المنافقون المتخلفون الذين فضحهم الله أن يخرجوا معه، وقد أُنْبِئَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) من قبل خيبر ومن قبل أن يعود إلى المدينة بما سوف يحدث من اعتذارهم من طلبهم اللاستغفار، من كذبهم، بل ومن قولهم الذي سوف يقولونه حين يهمّوا بالخروج إلى خيبر، فينبئه قبل كل ذلك ويقول‫:‬‬‬‬‬‬
سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا۟ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا۟ لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا ﴿15﴾
‫﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ الذين أتى ذكرهم (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا) أي‫:‬ الخروج لخيبر، إذاً فهو يخبره بما سوف يقوله هؤلاء‫.‬ ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ (ذَرْني) أي‫:‬ اتركني، كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [سورة المدثر آية‫:‬ ١١] هذا الفعل يُستَخدم فيه الأمر والمضارع فقط، وأسقط العرب منه صدره، فليس فيه مصدر وليس فيه فعل ماض وليس فيه اسم للفاعل، وإنما يستخدم فقط (ذَر) (ويذرْ)، يذرهُ: يتركه ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [سورة الأعراف آية‫:‬ ١٨٦] فعل مضارع، يذره‫:‬ يتركه‫.‬ هنا يقول الله‫:‬ ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ﴾ جمع غنيمة، وهو ما يُغْنَم في الحرب من الكفار، لتأخذوها ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ أي‫:‬ اتركونا نخرج معكم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾، كلام الله هو قوله‫:‬ ﴿لن تخرجوا معي أبدا﴾، كلام الله هو وعده للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن يغنم خيبر، وأن تُوَزَّع المغانم على من شهد الحديبية فقط، هؤلاء يريدون أن يبدلوا كلام الله، كلام‫:‬ اسم للتكليم، (كَلِم): جمع كلمة، وقُرِئت بقراءتين‫:‬ ﴿يريدون أن يُبَدِّلوا كَلِمَ الله﴾ وقُرِئت‫:‬ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّه﴾. ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ رَدَّ عليهم حين يقولون ذلك، وسوف يقولوه، وصدق ربي وقد قالوه فعلاً! وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) كما أمره ربه ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ نفي في مفهوم النهي، أي‫:‬ لا تتبعونا، فهو ينهاهم عن الاتباع، ينهاهم عن الخروج معه، وجاءت في صيغة النفي‫:‬ ﴿قل لن تتبعونا﴾ وكأنه لن يحدث، حتى ولو حاولوا لن يمَكِّنَهُمُ الله (تبارك وتعالى) وإن خرجوا لن يفوزوا بغنائم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ (من قبل) أن أخرج لخيبر، (من قبل) أن أعود إلى المدينة، حين نزلت السورة، حين وعدهم الله (تبارك وتعالى) مغانم كثيرة يأخذونها، كل ذلك قيل (من قبل). ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ بكسر السين قراءة ﴿بل تحسِدوننا﴾، ﴿تَحْسُدُونَنَا﴾ بضم السين قراءة أخرى، حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم‫:‬ (لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) أي‫:‬ هذا هو حكم الله ألا تخرجوا معي في هذا الغزو، لن يُسَلِّموا بحكم الله ولن يُصَدِّقوه، ويظهر نفاقهم في قولهم‫:‬ ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا) إضراب عن الكلام، أي عدم تصديق لحكم الله وليس هناك حكم من الله بذلك، إنما أنتم تحسدوننا ولا تريدون أن نشارككم في الغنائم، كفر ونفاق وسوء أدب! ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي‫:‬ ليس الأمر كما زَعَمْتَ أن الله قد قال، وأن الله قد حكم بعدم خروجنا، وإنما الأمر أنك تحسدنا وأنك لاتريد أن نشاركك أنت وأصحابك في الغنيمة‫.‬ ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ يَرُدُّ اللهُ (تبارك وتعالى) عليهم بإضراب آخر، (بل) للإضراب، تُضْرِبُ عن كلام آخر، عن موضوع إلى موضوع آخر، تُصَحِّحُ مامضى، مافات من كلام فتصححه، ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي‫:‬ لايفهمون في الدين، ولا يعرفون من أمور الدين شيئاً، ولكن إن كانوا يعرفون شيئاً فهم يعرفون من أمور الدنيا، ﴿يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٧].‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ثم يأمره ربنا (تبارك وتعالى) بأمر آخر‫:‬‬‬‬
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُو۟لِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ تُقَـٰتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا۟ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْرًا حَسَنًۭا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا۟ كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًۭا ﴿16﴾
أعاد الصفة، لم يقل‫:‬ (قل لهم) بل قال‫:‬ ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ لتشنيع التخلّف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولإثبات التخلف عليهم فذكرها مرة أخرى، ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قرر الله وحكم أن هؤلاء لانصيب لهم في خيبر، لا في الخروج ولا في الغنائم، أما في الاستقبال فقد فُتِحَ لهم بابُ التوبة عن النفاق، بابُ التوبة عن ماهم فيه من كذب وغش ورياء، وحدد لهم أمراً يُمتَحَنون به فإذا نجحوا وصدقوا تِيبَ عليهم، وإن كذبوا وعادوا لما كانوا عليه فجهنم تنتظرهم، لكن الآية فيها أمر غريب ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي‫:‬ المقاتلة أو الإسلام، إذاً الآية في المشركين وليست في أهل الكتاب، ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ بمعنى هم يسلمون بغير مقاتلة أو يستسلمون فيعطوا الجزية، وحين قُرِئت ﴿تقاتلونهم أو يسلموا﴾ هذه القراءة تعني أنها في المشركين على وجه الخصوص وأن المطلوب إما المقاتلة وإما الإسلام، إذاً فليس هناك جزية، إذاً هم ليسوا من أهل الكتاب‫.‬ الغرابة في الآية أن النبي قال لهم كما ورد في سورة التوبة‫:‬ ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٨٣] فكيف يُدْعَون إلى قوم أولى بأس شديد؟ ومن الداعي؟ من الذي يدعوهم وقد قرر النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يخرجوا معه أبدا؟ قال بعض الناس‫:‬ لن تخرجوا معى أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من نفاق، فإن تبتم فستخرجون معي، وهنا ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد، هم الذين تربصوا برسول الله بعد فتح مكة في حُنين؛ هوازن وثقيف‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقيل‫:‬ بل هم ليسوا هؤلاء هوازن وثقيف بل غيرهم، وهذا القول فيه شيء من الضعف‫.‬ والقول الأرجح أن هؤلاء القوم الذين هم أولوا بأس شديد، إما أنهم أصحاب مسليمة الكذاب، أصحاب اليمامة من بني حنيفة، لأن الحرب معهم كانت الإسلام أو القتل، لأنهم ارتدوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) هؤلاء هم الذين جاء ذكرهم في الآية‫:‬ ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾، في هذه الحالة الآية دليل على خلافة الصديق صاحب رسول الله في الغار و في الطريق، أمينه في الأسرار وصاحبه في الأسفار، سيد كل قبيلة وفريق بعد النبيين، أبو بكر الصديق هو الذي دعا الناس ودعا المنافقين منهم للخروج لقتال مسليمة الكذاب بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا فالآية دليل على خلافة أبي بكر وأنها حق‫.‬ وإن كان المقصود بِ (أولي بأس شديد) فارس والروم، فالآية دليل على صحة خلافة عمر الإمام الأوّاب، الناطق بالصواب، الموافق حكمه حكم الكتاب، لأنه هو الذي دعا إلى هؤلاء‫.‬ من هنا يقول العلماء ويروون لأحد الأصحاب (رافع بن خَدِيج) قوله‫:‬ كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم ما هي ولا ماهم حتى دعانا أبو بكر لحروب الردة ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ على عهد رسول الله في الحديبية، وفي تبوك وغيرها ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾. أيها الأخ المسلم من أطاع فقد نجا ومن عصى ففي النار مكبوب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫حين نزلت هذه الآيات تُعَنِّفُ المتخلفين وتتوعدهم بالعذاب الأليم، جاء إلى رسول الله الصادقون من أهل الأعذار؛ المرضى والزّمنى كبار السن والمرضى الذين لايُرْجَى لهم شفاء، وأصحاب العاهات، جاءوا يبكون إلى رسول الله ويقولون‫:‬ يارسول الله، كيف بنا وقد تخلفنا بأعذارنا؟ فنزل قول الله (تبارك وتعالى) تطميناً لهم وتسكيناً لقلوبهم‫:‬‬‬‬‬
لَّيْسَ عَلَى ٱلْأَعْمَىٰ حَرَجٌۭ وَلَا عَلَى ٱلْأَعْرَجِ حَرَجٌۭ وَلَا عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌۭ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ ۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًۭا ﴿17﴾
‫﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ وتكرار نفي الحرج عن كل منهم للتأكيد على نفي هذا الحرج، وأن عذراً واحداً يكفي للتخلف، فلا يشترط أن يكون فيه أكثر من عذر، ليس على الأعمى والمريض والأعرج وكذا وكذا حرج، قد يُفهم منها اجتماع الأعذار، فأتى بكل عذر على حدة ثم عَمّم فقال‫:‬ ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ والعرج‫:‬ آفة تصيب إحدى القدمين، وبالتالي إن كان مصاباً في قدميه الاثنين فهو أولى، ولا على المريض بأي مرض يمنعه من الخروج‫.‬ ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الطاعة على قدر الاستطاعة، فنبينا (صلى الله عليه وسلم) أمرنا ونهانا وأنبأنا‫:‬ "ما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتُكم عنه فاجتنبوه"، وربنا (تبارك وتعالى) يقول‫:‬ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢٨٦]، (ومن يطع الله ورسوله يُدخله –نُدْخِلْه – جناتٍ تجري من تحتها الانهار ومن يتولَّ يعذبه – نُعذِّبه - عذابا أليما).‬‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم الله الله، يقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ قال ربنا أنه يريد أن يطهرنا، ولا يريد لنا الحرج، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، فالله يعلم السر وأخفى، والحساب ليس على العمل وإنما الحساب على النية، لذا في موضع آخر من القرآن حين يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ٩١] إذا ً فالحساب على النية، أما العمل فليس في طاقة الإنسان وليس في يده، لأن العمل معناه أداء، والأداء معناه حركة، والحركة مرتبطة محركات أخرى، فأنت لكي تأتي إلى المسجد لا تستطيع أن تأتي بنفسك إلا أن تكون لك عافية، وأن تكون لك قدمان تمشي بهما وعينان تبصر بهما الطريق، وأن يكون الطريق آمناً، وأن يكون المسجد مجاورا، ً وأن تأتي إلى المسجد فتجده مفتوحاً، وأن تجد الإمام كي يصلي بك، وهكذا ... حركتك مرتبطة بحركات الآخرين، وما من حركة أو سكون إلا بأمر مدبر الكون، من هنا لم يكن الحساب على العمل رحمة، ولذا من فهم هذا فقد فهم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لن يُدْخِلَ أحدَكم الجنةَ عملُه" قالوا‫:‬ ولا أنت يارسول الله؟ قال‫:‬ "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته‫.‬" قالوا‫:‬ وفيمَ العملُ يارسول الله؟ قال‫:‬ "تدخلون الجنة برحمة الله وتقتسمونها بأعمالكم."‬‬‬‬‬‬‬
‫من هنا نفهم أن العبرة بالنية كقول الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم): "إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى" من هنا نعلم أن الحساب على النية وليس على العمل، وأن النية إن كانت صالحة وفقك الله للعمل الصالح وفتح لك أبواب الرحمة وسلك بك سبل الهدى ويسر لك كل خير في الدنيا وفي الآخرة، فإن قَصُرَ بك العمل صعدت بك النيّة، فإن جئت إلى المسجد للصلاة فوجدت المسجد مغلقاً كُتِبَتْ لك الجماعة ولو لم تؤدها، فإن صلحت النية صلح العمل، من هنا نفهم قول سيد الخلائق (صلى الله عليه وسلم): "ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" موضع النية، موضع الإيمان، موضع الكفر، وإن فسدت النية عَلِمَها الله من الأزل، فأغلق أبواب الرحمة، وأغلق أبواب الخير، ولم يجد في طريق الحق تيسير، ووجد في طرق الشر تسخير، اعملوا فكل مُيَسَّر لماخُلِقَ له، هو (سبحانه وتعالى) يرزقك العمل الصالح إن صلحت النية، ويَحْرِمُ الآخر من العمل الصالح إن فسدت النية، لذا يقول‫:‬ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سورة طه آية‫:‬ ١٢٤] نعم! أيضاً والذين أعرضوا قال في شأنهم‫:‬ ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [سورة الزخرف آية‫:‬ ٣٦] ولذا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) عن صلاة الجمعة، أن الملائكة تجلس على أبواب المساجد تكتب أسماء الداخلين أولاً بأول، حتى إذا صعد الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا يستمعون الذكر، فإذا إعتادوا على كتابة أسماء معينة فجاء يوم الجمعة وتخلف أحد الناس انتظروه وترقبوه، فإذا لم يجدوه طووا الصحف وحضروا الذكر، فإذا انتهت الصلاة صعدوا إلى الله فقالوا‫:‬ يارب أين عبدك فلان؟ لم يأت ولم نره؟ فيقول الله (تبارك وتعالى): (يا ملائكتي حبسه العذر أكتبوا له مثل ماكنتم تكتبون).‬‬‬‬‬‬‬
‫إذاً فالعبرة بالنيّة وليس بالعمل، فإن قَصُرَ بك العمل صعدت بك النية، وإن صلحت النية صلح العمل، وإن فسدت النية فسد العمل‫.‬‬‬‬
‫﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة آية‫:‬ ٢١٦] كان صلح الحديبية سبباً في كآبة عمت أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امتلأت قلوبهم بالحزن حتى قال بعضهم‫:‬ كيف نرضى الدنية في ديننا؟ كيف وكيف؟ كيف من جاءنا منهم أعدناه إليهم يعذبوه ويفتنوه؟ وكيف من انصرف عنا لا يعيدوه إلينا؟ كيف نعود ولم نطف بالبيت؟ كيف ننحر هدينا؟ بكى الأصحاب وعمتهم الكآبة وامتلأت قلوبهم بالحزن، ووقَّع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وثيقة الصلح، وقَّعها بعد ما رفض مشركو مكة أن يُقِرُّوا له بالرسالة، بل ورفضوا أن يفتتحوا الوثيقة ببسم الله الرحمن الرحيم‫.‬ كَبُرَ الأمر على المسلمين وأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحروا هديهم، فترددوا بعض الشيء، فقالت له أم سلمة (رضى الله عنها وأرضاها): يارسول الله انحر هديك أمامهم واحلق رأسك تطيب نفوسهم‫.‬ فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمام الناس، وحلق رأسه ونحر هديه، ولم يطف بالبيت وحل من عمرته وعاد بالناس‫.‬ كرهوا الصلح وارتضاه الله (تبارك وتعالى)، توجسوا منه شرا وقد أعد الله لهم خيرا، ونزلت سورة الفتح ونبينا (صلى الله عليه وسلم) في طريقه، نزلت فكانت عنده أفضل من الدنيا وما فيها‫.‬ افتتحت السورة بافتتاحية هي كل الأمل، هي كل الرجاء، هي كل السعادة؛ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ١]. نعم! رضي الله عنه وأرضاه، وهداه صراطا مستقيما، ونصره نصرا عزيزا، وكذلك رضى عن المؤمنين‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكان صلح الحديبية خيرا عظيما أخفاه الله لهم، فقد أَمِنَ الناسُ واستقرت أحوال المسلمين، وحدثت الفتوحات وغنموا مغانم لم يحلموا بها، أولها خيبر وما أدراك ما خيبر! ودخل الناس في الإسلام، وانتشر الإسلام بين القبائل، وعاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قابل، في العام التالي، وفي ذي القعدة أيضا ودخل مكة وتركوها له، دخلها وأصحابه وطاف بالبيت كيف شاء، ثلاثة أيام في الحرم، كف المشركون أيديهم عنه وعن المسلمين، وإذا بهم على مشارف الجبال وعلى رءوس الهضاب ينظرون إلى المسلمين، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، رأوهم رُكَّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله، رأوا الدين كسلوك وخلق وتصرف وعبادة، علموا عن الإسلام مالم يكونوا يعلموا، ولم يمض عام بعد هذه العمرة إلا وفَتَحَتْ مكةُ أبوابَها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد كانت مدة المعاهدة عشر سنوات بالتمام والكمال لكن الله أراد لرسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يُطَهِّرَ البيت بعد عامين فقط‫.‬ كان في هذا الصلح الخير العظيم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولصحابته واللأمة، ومن هذا الخير العميم قول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬
لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحًۭا قَرِيبًۭا ﴿18﴾ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةًۭ يَأْخُذُونَهَا ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًۭا ﴿19﴾
‫﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ الدنيا وما فيها لا تساوى شيئاً إلى جوار هذه الآية العظيمة! رضاء الله (تبارك وتعالى) هو جل مطلبنا، رضاء الله (تبارك وتعالى) هو سعادة الدنيا والآخرة، رضاء الله (تبارك وتعالى) هو الهدف من خلق السموات والأرض، رضاء الله (تبارك وتعالى) هو غاية الرسل، هو غاية الرسالات والشرائع‫.‬ (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) وقد كان المؤمنون مع رسول الله ألفاً وأربعمائة صحاب (رضى عنهم) إذا فقد كُتِبَتْ لهم الجنة وكُتِبَتْ لهم السعادة، ونجاهم ربنا (تبارك وتعالى) من النار‫.‬ ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ هذه الشجرة المباركة، سَمُرَة، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف تحتها حين جاءه الخبر بمقتل عثمان بن عفان، فقد أرسله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رسولاً إلى أهل مكة أن أتيحوا لنا فرصة الطواف بالبيت، ماجئنا مقاتلين وماجتنا محاربين وماجئنا معتدين، جئنا محرمين وقد سقنا الهدي معنا، دعونا نطوف بالبيت، أَرْسَلَ عثمان رسول سلام فجاءه الخبر بمقتل عثمان، وهنا ثار رسول الله لصاحبه ودعا المسلمين، وإذا بالمنادي ينادي في المسلمين‫:‬ البيعة البيعة لقد نزل روح القدس! نزل جبريل يأمر بالبيعة وجاء الناس جميعاً يبايعون رسول الله على القتال حتى الموت، أو يبايعونه على ألا يفروا، يبايعونه على قتال أهل مكة انتقاما لعثمان بن عفان‫.‬ هذه البيعة، ببيعة الرضوان، التي سُمِّيَت بهذا الاسم من قول الله‫:‬ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ ولكن عثمان لم يكن قد حضر بعد، تلك كانت إشاعة ولم يقتل، وتأخر عثمان فبايع النبي (صلى الله عليه وسلم) عنه فضرب بيمناه يسراه وقال‫:‬ "هذه عن عثمان"، فكانت بيعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنه خيرا من بيعته لنفسه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ سماهم ربنا (تبارك وتعالى) مؤمنين، وتلك شهادة وكفى بها شهادة، وحَفَّهم الرضوان وتحقق لهم الرضا، (علم ما في قلوبهم) إذاً فقد وافق ظاهرُهم باطنَهم، (علم ما في قلوبهم) من الصدق والوفاء والإخلاص‫.‬ ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ والسكينة من حيث اللغة‫:‬ سكون النفس، السكينة‫:‬ الإطمئنان وسكون النفس إلى صدق وعد الله (تبارك وتعالى) الوثوق بالله‫.‬ أما السكينة من حيث معناها الحقيقي والتي ينزلها الله على أوليائه فلايعلم مداها ولا معناها إلا الله، ومن ذاق عرف! ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وقُرِأَتْ ﴿وآتاهم فَتْحًا قَرِيبًا﴾ إذا فقد بشرهم بفتح قريب، هذا الفتح القريب هو فتح خيبر، وخيبر كانت مجاورة للمدينة من ضواحيها، ذات عقار وذات زرع وذات ضرع، كانت لليهود وكان فيها ثرواتهم وزروع ونخيل ودور، مغانم خيبر لم تحدث من قبل‫.‬ ولم يمض على عودة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من صلح الحديبية سوى شهرين فقط، وأُذِنَ له بفتح خيبر وفُتِحَت له خيبر‫.‬ إذا فقد وعدهم الله في عودتهم أنهم سوف يفتتحون فتحا قريبا يغنمون منه مغانم كثيرة، ولم يخبرهم به ولكنه بشرهم وتحقق الوعد‫.‬ ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) مغانم خيبر التي وعدهم بها ربنا (تبارك وتعالى) وقَصَرَها ربُّنا (تبارك وتعالى) على من حضر البيعة فقط، سواءً حضر فتح خيبر أو لم يحضر، الذين شهدوا البيعة هم أصحاب مغانم خيبر حتى ولو لم يحضروا الفتح، ومن حضر من غيرهم لا نصيب لهم في المغانم، قَصَرَها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أصحاب البيعة لأن الله أمر بذلك‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ العزيز‫:‬ الغالب، القوي، القاهر الذي ليس له مثيل، الذي لايُدرَك ولايُنال، القاهر فوق عباده‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فقد كان صلح الحديبية بحكمة ولحكمة، وكل أمور الله لا تخلو عن الحكمة وإن ذهلت عنها العقول‫.‬ ويأتي الوعد ويأتي التكرير وتأتي البشارة اللأمة جمعيها بعد ما جاءت البشارة لأهل البيعة‫:‬‬‬‬‬
وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةًۭ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِۦ وَكَفَّ أَيْدِىَ ٱلنَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةًۭ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَٰطًۭا مُّسْتَقِيمًۭا ﴿20﴾ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا۟ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرًۭا ﴿21﴾
‫﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ تلك المغانم إلى أن تقوم الساعة ولم تُحَدَّد، منها فتح فارس، منها فتح الروم، منها فتح مكة، منها حُنَين، كل ما كُتِبَ لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى أن تقوم الساعة‫.‬ ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ (هذه) قال بعض الناس‫:‬ هي خيبر‫.‬ والرأي الأرجح والأصح‫:‬ هي صلح الحديبية، كان مغنما عظيما رغم الشكل الظاهري الذي ساء المسلمين وأصابهم بالحزن والكآبة، إلا أنَّ حقيقة الصلح فيما ظهر بعد ذلك كان مغنما عظيما‫.‬ وتأتي الآيات لتبين لِمَ تَمَّ هذا الصلح، ولِمَ كتبه الله، ولِمَ أَجَّلَ فتح مكة، ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ صلح الحديبية‫.‬ ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ (الناس): الكفار، قريش‫.‬ حين سمعوا بمقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) أرادوا أن يأخذوه على غرة وهو في الحديبية، وقد حَوَّل طريقه حين سمع بخروجهم، حَوَّل طريقه ونزل بالحديبية، وجاءه ثمانون فارسا منهم ليأخذوه على غرة فلم يُمَكِّنَهم ربنا (تبارك وتعالى) فكشفهم فوقعوا في أيدي المسلمين أُسارى بغير قتال، وجاء المسلمون وساقوهم إلى رسول الله، قد نزلوا من جبل التنعيم في صلاة الصبح حتى يأخذوه على غرة وهو في صلاته، فأوقعهم الله، فأطلقهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دون فداء وسُمُّوا العتقاء، أعتقهم وأطلقهم‫.‬ أيضا خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه إلى الحديبية، ترك المدينة وفي المدينة منافقون، وحَوْلَها اليهود، وترك في المدينة النساء والمرضى وأصحاب الأعذار، وكان من الممكن أن يستولى اليهود على المدينة، وربما حَدَّثَتْهُم أنفسُهم بذلك، وكذلك القبائل المختلفة، فكَفَّ رُّبنا (تبارك وتعالى) أيديهم عن المدينة، عن النساء والذرية، وكَفَّ أيدي المشركين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في الحديبية‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وكذلك حين أراد فتح مكة وجاءت غطفان، وجاء عيينة بن حصن الفزاري، وجاءت القبائل لنصرة اليهود، أنزل في قلوبهم الرعب فانصرفوا، نعم! ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (آية): علامة على صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصلح الذي حسبوه شرا وإذا به خير عظيم، فتح خيبر الذي وعدهم الله به فتحقق قبل مُضِيّ شهرين أو ثلاثة أشهر، ولتكون آية للمؤمنين حين يدخلون مكة فعلا آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين‫.‬ ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ بطاعتهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين بايعهم على القتال حتى الموت، أيضا حين أمرهم بكف اليد ووافق على شروط الصلح فأطاعوا واطمأنوا لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولنصرة الله لرسوله، حين فعلوا ذلك وأطاعوا الله ورسوله في الأمر بالقتال، وفي البيعة، ثم في الأمر بالكف، أراد الله أن يهديهم صراطا مستقيما، يثبتهم على الهداية، ويزيدهم إيمانا على إيمانهم، ويرزقهم اليقين والصبر والعلم بأن الله (تبارك وتعالى) غالب على أمره‫.‬ ثم يُحَدِّثُهم ربُّنا تبارك وتعالى عما كانوا يأمَلون، كانوا يأمَلون في دخول مكة فيقول ربنا (تبارك وتعالى): ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ هذه الأخرى التي لم يقدروا عليها هي دخول مكة، هي الطواف بالبيت، هي أداء العمرة‫.‬ ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ لم يكتبها الله (تبارك وتعالى) لهم، ولم يتمكنوا منها في ذلك العام‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ إذاً فلا يعجزه شيء، إذاً فلم تدخلوا مكة ومنعكم الله عن الدخول لا لأن الأمر يعجزه، ولا لأن الأمر غير مكتوب لكم، ولا لأنكم لا تستأهلون ذلك، ولكن الله أحاط بها فهي في علمه من الأزل، في قدرته، أحاط بها، وحين أحاط بها فهي محبوسة موقوفة مكتوبة لكم تدركونها لامحالة، إذاً فهي لكم وهي مكتوبة لكم ومن نصيبكم، ولكن لكل أجلٍ كتاب‫.‬ (أحاط الله بها) فإذا أحطت بالشيء حبسته، وإذا حبسته هيأته لكي تحوزه، لكي تحصل عليه، هاهو قد أحاط بالأخرى‫.‬ ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ قدرة الله (تبارك وتعالى) قدرة ذاتية لا تتعلق بشيء دون شيء، فإيجاد أُمَّة كخلق نملة، وخَلْقُ إنسان كإيجاد كافة الأكوان، فليس في قدرته سهل و عسير، أو قليل وكثير، ولكن الله إذا أراد شيئا فإنما يقول له‫:‬ (كن) فيكون‫.‬ ثم ينبئهم ربُّنا (تبارك وتعالى) أن عدم دخولهم مكة والأمر بالصلح والرجوع لم يكن لقِلَّتِهم أو لقِلَّةِ عَدَدِهم، أو خوفا عليهم من الهزيمة، أو لكثرة عَدَدِ المشركين أو عُدَدِهم، أبداً! لم يكن لأمرٍ من ذلك، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول‫:‬‬‬‬‬‬‬‬
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوَلَّوُا۟ ٱلْأَدْبَـٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّۭا وَلَا نَصِيرًۭا ﴿22﴾ سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًۭا ﴿23﴾
‫﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لو حدث ودخلتم مكة، أو قبل أن تدخلوا مكة حدث القتال بينكم وبينهم (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) إذاً فالنصر قائم لا محالة، ولم يكن الصلح عن خوف أو وهن أو تَوَقُّع لهزيمة أبداً، لو حدث القتال لانتصرتم‫.‬ ﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ لفرُّوا وانهزموا ولا يجدون ولياً يحميهم، أو نصيراً ينصرهم أو يمنع عنهم القتل والأسر‫.‬ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ (سنّة الله): طريقة الله، عادة الله (تبارك وتعالى) في الكون وفي العباد‫.‬ ماهي هذه الطريقة؟ وماهي هذه السُّنّة التي لا تتبدل ولا تتغير منذ الخلق إلى أن تقوم الساعة؟ هي قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الروم آية‫:‬ ٤٧] ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [سورة غافر آية‫:‬ ٥١].‬‬‬‬‬‬‬
‫أيها الأخ المسلم ما التقى الحق والباطل أبداً في أمرٍ فاصلٍ إلا وظهر الحق وزهق الباطل، أما إذا التقى الحق والباطل فانهزم الحق فذلك إلى حين وليس الأمر فيصلاً، أما إذا التقى الحق بالباطل في أمرٍ فيصلٍ فلابد وأن يظهر الحق، ﴿سُنًّة الله التي خلت من قبل﴾: مضت من قبل في الأمم السابقة وجميع الرسل نصرهم الله‫.‬ ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ أي‫:‬ لن يُبَدِّلها مخلوق، ولو اجتمع الإنس والجن على تبديل سُنَّة الله فلن تجد لسُنَّة الله تبديلا، كما أن الله (تبارك وتعالى) قضى من الأزل ألا تتبدل سُنَّتُه‫.‬‬‬‬‬‬
وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿24﴾
إذا ًفحين وافق النبي (صلى الله عليه وسلم) على شروط الصلح التي رأيتم أنها مجحفة حتى قيل كيف نعطي الدنية في ديننا؟ حين وافق على هذه الشروط، وحين قال‫:‬ "ما تقدم إلى قريش خطة فيها حقن للدماء إلا ووافقتهم عليها"، حين قَبِلَ أن تُمحى كلمة (رسول الله) ويٌكتب بدلا منها (محمد بن عبد الله)، حين وافق أن تُمحى كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) ويُكتب بدلا منها (باسمك اللهم)، حين قَبِلَ أن يُسلّم إليهم من فر بدينه إليه ويعيده إلى التعذيب والفتنة وقال‫:‬ "سوف يجعل الله له فرجا ومخرجا"، حين قَبِلَ هذه الشروط المجحفة قَبِلَها بأمرٍ وبوحيٍ من الله، فما كان له أن يتصرف من تلقاء نفسه، لذا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ وقد كان من الممكن لقريش أن تحشد جيوشها، وكان من الممكن لقريش أن تخرج بعُددها وعَددها وتحيط بالمسلمين وتحاصرهم من كل جانب، خاصةً أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين خرج خرج معتمِراً، خرج مُحرِماً لا يلبس الدروع ولا يلبس المِغْفَر، وليس معه إلا السيف في الجراب، ليس معهم الكُراع، وليس معهم التروس، وليس معهم الأقواس، ليس معهم السهام، لم تكن معهم الأسلحة، لم تكن معهم العُدد، كانوا مُحرِمين ومع ذلك كان من الممكن للمشركين أن يحاصروهم، نعم! يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾ لكن الله لم يشأ أن يحدث القتال، وكان من الممكن أن تحدّث قريش نفسها بذلك، فتجمع الجموع، وقد جمعت فعلا الجموع، وهيأت نفسها لكن الله قذف في قلوبهم الرعب فلم يحدث قتال، هو الذي فعل ذلك حين كفّ أيدي محمد (صلى الله عليه وسلم) والأصحاب عنهم، كان هو الآمر بذلك‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ الحديبية، فهي قريبة من مكة وكأنها ببطنها، ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ نعم! أظفرهم الله عليهم وقد كان المسلمون رغم قلة العدد، ألفاً وأربعمائة، وقلة السلاح لكن الإيمان في قلوبهم، واليقين والتوكل على الله، والثقة بالله كان كل ذلك كفيلا بهزيمة المشركين وبفتح مكة عنوة‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ وقُرِأَت ﴿وكان الله بما يعملون بصيرا﴾ (بما يعملون) المشركين، فيجازيهم على صدهم لكم عن المسجد الحرام‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ فيجازيكم ويثيبكم على طاعتكم لرسول الله، وعلى كف أيديكم عن الناس حين أمركم الرسول بذلك، وحين أمركم بالبيعة فبايعتم، وعَلِمَ ما في قلوبكم من الصدق والوفاء‫.‬ ثم تأتي آية كلها تسكين للنفوس وتهدئة وتطمين، وتَوَعُّد للكفار، ويقول الله (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬
هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُۥ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌۭ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌۭ مُّؤْمِنَـٰتٌۭ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌۢ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا۟ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿25﴾
‫﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حين يقول‫:‬ (هم الذين كفروا) وَصَمَهُم بالكفر، وطالما وصمهم بالكفر فذلك توعد وتهدي، أيضا حين يَصِمُهُم بالكفر إذاً فأنتم المؤمنون، هم الذين كفروا أما أنتم فقد رضي الله عنكم، أما أنتم فأنتم المؤمنون الفائزون‫.‬ ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ والصَّدُّ عن المسجد الحرام لايَعدِلُهُ ذنب (ومن أظلم ممن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) لا أحد أظلم منهم‫.‬ ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ (الهَدْيُ): جمع هَدْيَة، وهو ما يُهدى إلى الحرم من النعم‫.‬ أيضا قُرِأَت‫:‬ ﴿والهَدِيُّ﴾، ﴿الهَدِيُّ﴾: جمع هَدِيَّة، وهو ما يُهدى أيضا للحرم‫.‬ والهدي (معكوفا): محبوسا، عكَفَهُ يعكُفُه ويعكِفه‫:‬ حَبَسَهُ، وعكف نفسه على كذا‫:‬ حبس نفسه على كذا، ومنه الاعتكاف بالمسجد أي‫:‬ الاحتباس بالمسجد، حبس نفسه بالمسجد فلا يخرج‫.‬ ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا﴾ أي‫:‬ محبوسا وموقوفا، فقد ساقوا الهدْي معهم وأرادوا أن يهدوه للحرم فصَدُّوا الهدْيَ أيضا عن أن يبلغ مَحِلَّه، (المحِلّ) بالكسْر‫:‬ غاية الشيء، المكان للنحر، والمحِلّ للهدي‫:‬ هو المكان المعهود الذي يُنحرُ فيه الهدي، منى، أما (المحَلّ) بالفتح‫:‬ هو الموضع الذي يَحِلُّه و ينزل فيه الناس‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ تأتي العلة أو إحدى العلل في كف الأيدي وفي عدم السماح لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وللمسلمين بالدخول في مكة، هذه العلة يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ إذاً فقد كان في مكة أناس مؤمنون من الرجال ومن النساء لا يعرفهم الصحابة، لا يعلموهم بأعيانهم، منهم الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة وأبو بصير و أبو جندل، مسلمون مؤمنون منهم من يخفي إيمانه ومنهم من خَفِيَ إسلامُه عن الصحابة، هؤلاء موجودون بمكة بين المشركين فكيف نميّزهم وكيف نعرفهم؟ لولا هؤلاء الرجال والنساء لم تعلموهم موجودين فعلا بمكة‫.‬ أيضا كتب الله لبعض هؤلاء المشركين أن يكون مسلماً وأن يُهدى إلى الطريق المستقيم، فلوْ قُتِلَ يومئذ قُتِلَ كافرا، ولو تُرِكَ إلى الفتح لأصبح مسلما‫.‬ (فلولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) في علم الله لم تعلموهم أنتم بالإضافة إلى ماهو موجود من مسلمين يخفون إسلامهم، أيضا فهناك من كُتِبَ له الإسلام وكُتِبَت له الهداية وسَبَقَت له من الله الحسنى، لمْ يإِنِ الأوانُ بعد‫.‬ ﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾ تدوسوهم، (الوطء): الغَلْب والدَّوس، (أن تطئوهم) بأرجلكم، بأسلحتكم، تغلبوهم وتقهروهم، لأنهم إذا دخلوا مكة بسيوفهم دخلوا محاربين لقُتِلَ من قُتِلَ دون أن ندري أمسلما هو أم لا، أو ربما سوف يُسلم في الغد، والله يعلم وأنتم لا تعلمون‫.‬ ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (تصيبكم منهم) تلحقكم بسببهم ومن جهتهم معرّة، (المعرّة): الإثم، (المعرّة): العيب‫.‬ أصل الكلمة من (العٌرّ): الجرب‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫(عيّره) فلان‫:‬ سَبَّهُ بعيبٍ فيه، أو ألحق به العار‫.‬ فلولا أن تصيبكم بقتل هؤلاء الرجال والنساء المؤمنين المعرة، أولا تجب فيهم الكفارة فلو قَتَلوا لكان قتلا خطأً ووجبت عليهم الكفارة، أو الدِّية إذا عُلِم أنه مسلم أو من قوم مسلمين، أيضا لَعَيَّرَهُم الكفارُ وقالوا‫:‬ قَتَلُوا إخوانهم من المسلمين، وقَتَلُوا إخوانَهم في الدين، ٍ ولم يميزوا بين العدو والصديق‫.‬ فلولا أن تصيبكم معرة (بغير علم)، وكلمة (بغير علم) شهادة لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالعصمة من المعصية، والعصمة من التعدي، لأن الله يقول‫:‬ ٍ ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي‫:‬ أن تطئوهم بغير علم فتصيبكم منهم معرة، إذاً لوحدث وقتل المسلمون أحدا من المسلمين لكان ذلك بغير علم وعن غير قصد‫.‬ تشبه الآية شهادة شهدتها النملة للملك العادل سليمان حين قالت لصويحٍباتها‫:‬ ﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [سورة النمل آية‫:‬ ١٨] إذاً لو حدث حَطْم للنمل لحدث عن غير قصد، شهادة‫.‬ فكذلك يشهد ربنا (تبارك وتعالى) للصحابة في كتابه العزيز أنهم لو ارتكبوا خطأ لحدث عن غير قصد وعن غير علم، نزَّهَهُم واصطفاهم ورفع شأنهم وقدرهم، فانتبِهوا لهذه الآية ولهذه الشهادة! ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ جواب (لولا) محذوف أي‫:‬ لسمحنا لكم ولأَذِنّا لكم بدخول مكة‫.‬ ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ إذا فهناك أناس سوف يدخلهم الله في رحمته من كفار مكة، سوف يدخلهم الله في رحمته بهدايتهم للإسلام، ٍ ولو دخلتم لوطأتموهم ولقتلتموهم بغير علم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ وقُرِأَت‫:‬ ﴿لو تزايلوا﴾ تباينوا، (زِلْتُ) الشيء‫:‬ فصلتُه عن غيره‫.‬ (لو تزيلوا) لو انفصلوا وأصبح المسلمون في جانب والكفار في جانب، لو أصبح المسلمون من أهل مكة في مكان والكفار في مكان، ومن سوف يُسْلِم في الغد في مكان ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ لكنهم لم يتزيلوا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، فهم مشركون من حيث الظاهر وأراد الله أن يدخلهم في رحمته فيُسلِمون في الغد، بالإضافة إلى المسلمين الذين قد أخفوا إسلامهم عن أقوامهم والمعذبين منهم كذلك، والذين لا يعرفهم الأصحاب بأعيانهم، لا يعرفون أشكالهم فهم يعرفون أسماءهم، كالوليد بن الوليد سمعوا به، وسمعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو له‫:‬ "اللهم انج الوليد بن الوليد"، وعياش وهكذا، سمعوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو لهم لكنهم لم يعرفهم لم يروا وجوههم ولم يميزوا أشكالهم، من هنا يقول الله‫:‬ ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (منهم) للبيان وليست للتبعيض، لبيان من سوف يَلْحَق بهم العذاب، بالسيف، بالقتل، بالأسر‫.‬ أيها الأخ المسلم حكمة الله لا تُدْرَكْ، ومن هنا كان للإيمان حلاوة وهو أن تؤمن بقضاء الله (تبارك وتعالى) رغم مايبدو لك مما يخالف ماتعتقد ومما تعتقد أنه شر، الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره له حلاوة يشعر بها المؤمن الراضي في قلبه، والرضا لمن يرضى، ومن رضي عن الله رضي الله عنه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫إن من أكبر العيوب بل الأمراض التي يصاب بها الإنسان العصبية، والعصبية أن يتعصب الإنسان أو يتحيز الإنسان لعشيرته أو لقومه أو لأهله دون النظر إلى الحق، يتعصب بالهوى ويتحيز بالغرض، والغرض مرض، مرض في القلب إذا أصيب به الإنسان لايرى الحق ولا يذعن للحق، يُعمى بصرُه، ويُعمى عقلُه عن رؤية الحق، فهو متحيز متصلب منحاز لعشيرته أو قبيلته أو رأيه أو عقيدته دون نظرٍ في الحق والحق المطلق‫.‬ كفار مكة وُصِفوا بهذه العصبية والحمية حين أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب القضية‫:‬ (وهذا ما قاضى عليه رسول الله أهل مكة) إذا بهم يصرون على محو هذه الصفة‫:‬ (اكتب محمد بن عبد الله فلوكنا نعلم أنك رسول الله ماقاتلناك)، وحين كتب‫:‬ (بسم الله الرحمن الرحيم) لم يقبلوها وقالوا‫:‬ (ما ندري ما الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم) تَصَلُّب، وحين اشترطوا وشرطوا‫:‬ (من جاءك منا أعدته إلينا ومن جاء منك لا نعيده إليك)، وحين أصروا على رجوعه وقد جاء معتمرا بغير سلاح وقالوا‫:‬ (لا تتحدث الأعراب ويتحدث الناس أنك دخلت علينا عنوة، وأنك دخلت مكة رغما عن أنفنا) هذه العصبية التي ذمها الله فيهم حين يقول (تبارك وتعالى):‬‬‬‬‬‬‬‬‬
إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوٓا۟ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًۭا ﴿26﴾
‫﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ وكأن ذلك السبب الذي من أجله يُعَذَّبون عذابا أليما، يقول‫:‬ ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ إذاً فالحَمِيّة في القلب، وحَمِيّة الجاهلية كافية لوقوع عذاب الله (تبارك وتعالى). و (الحَمِيّة): العصبية، (حَمِيْتُ) عن كذا‫:‬ امتنعت عن فعله مخافه المعَرّة، أنَفَة، يأنف الإنسان عن الفعل فيقول‫:‬ حَمِيتُ عنه، تَكَّبُر وكِبْر، هؤلاء جَعَلَ في قلوبهم الحميّة ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ في تعنتهم وفي إصرارهم على عدم دخول النبي وأصحابه للعمرة، وعدم دخول الهدْي، حتى الهدي نُحِرَ مكانه في الحديبية، رفضوا أن يأخذوا الهديَ إلى مكة، رفضوا أن يصلوا بالهدي إلى الحرم وأصروا أن يُنحَرَ في مكانه في الحديبية، هذا الإصرار وهذا التعنت وهذه العصبية والجاهلية والحمية كانت سببا ًكافيا لأن يقع بهم العذاب‫.‬ ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ لم يقابلوا حميّة قريش بحميّة، لم يقابلوا العصبية بعصبية، لم يقابلوا التعنت بتعنت، بل قابلوا كل ذلك بالحلم والصبر وحسن الخلق وسعة الصدر، وكل ذلك كان بفضل الله (تبارك وتعالى) حيث يقول‫:‬ ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ نزلت السكينة، الصبر، الاطمئنان، سكون النفس، الرضا بالقضاء وبأمر الله، والطاعة لرسول الله‫.‬ (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (كلمة التقوى): هي الكلمة التي يُتّقَى بها ٍمن غضب الله، (كلمة التقوى): هي الكلمة التي تتقي بها الشرك؛ ألا وهي كلمة الإخلاص، ألا وهي كلمة لا إله إلا الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫هم أبوْا أن يَكْتُبَ: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فكنا نحن أصحابها وأهلها، وأبوْا أن يَكْتُبَ: (محمد رسول الله) فكنا نحن المؤمنون بذلك‫.‬ من هنا يقول الله (تبارك وتعالى): ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ هم أحق بالكلمة من كفار مكة، هم أحق بالكلمة من غيرهم من المشركين ومن الكفار‫.‬ (وأهلها): أي المتأهلين لها، هم أهل لهذه الكلمة، كلمة التقوى، الكلمة التي من أجلها أُرْسِلَت الرسل وأُنْزِلَت الكتب، ومن أجلها قامت السموات والأرض، ومن أجلها كانت الجنة وكانت النار‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ نعم! كان الله بكل شيء عليما من الأزل، يعلم ما كان وما هو كائن وماسوف يكون إلى يوم القيامة، وعِلْمُ الله عِلْمٌ ذاتي لايزيد ولا ينقص ولا تخفى عليه خافية، وعِلْمُ الله (تبارك وتعالى) بالناس من قبل أن يخلقهم، يَسَّر لكل مخلوق ماخُلِقَ له‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ وقد عَلِمَ رُّبنا أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) وأمته هم أهل لكلمة التقوى فألزمهم الكلمة، ويسر لهم الطريق إليها، وهداهم وأنزل على قلوبهم السكينة‫.‬ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ فإن عذّب عذّب بعلم، وإن رَحِمَ رَحِمَ بعلم، وإن أَدْخَلَ الجنة أَدْخَلَ بعلم، وإن أَدْخَلَ النار أَدْخَلَ بعلم، وكل أفعال الله (تبارك وتعالى) بعلم وبحكمة‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫فقد رأى نبينا (صلى الله عليه وسلم) في منامه أنه دخل المسجد الحرام مع أصحابه محلّقين رءوسهم ومقصرين، واستيقظ من نومه فرحا مسرورا، وبشر أصحابه بهذه الرؤيا العظيمة، واعتقد الأصحاب أن الرؤيا محققة لامحالة في عامهم هذا، ورؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا الأنبياء حق‫.‬ وأحرم (صلى الله عليه وسلم) بالعمرة، وأحرم أصحابه، وساروا إلى مكة، وصُدُّوا عن البيت الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ مَحِلَّه، وبدأت المفاوضات وحدث صلح الحديبية، وإذا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) ينحر هديه، ويحلق رأسه، آمرا أصحابه أن يقلدوه، وما وصل الهدي إلى مَحِلَّه، ومادخل الأصحاب إلى المسجد، قَصَّروا وحلقوا وما رأوا البيت العظيم، وحدثت الكآبة وعمّ الحزن، وعادوا ودموعهم غزيرة، وأحزانهم كثيرة، ونزلت سورة الفتح، فطمأنتهم وبشرتهم ووعدتهم بالمغفرة وبالأجر العظيم، وتحقق بنزولها الرضا ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾. وعدهم الله (تبارك وتعالى) مغانم كثيرة، ووعدهم بالمغفرة والأجر الجزيل في الآخرة، وتحقق لهم الرضا، ونزلت عليهم السكينة، وجاء الحق في قوله (تبارك وتعالى):‬‬‬
لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًۭا قَرِيبًا ﴿27﴾
‫﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ نعم! رؤياه حق، ورؤيا الأنبياء وحي، فقد كانت الرؤيا حقا وصدقا، وهي رؤيا حقيقية ملتبسة بالحق، وهي رؤيا صادقة، وصدق الرسول في تحديثكم بها‫.‬ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ (اللام) جواب قسم محذوف، إذاً فهو تأكيد بأن دخول المسجد حادث لا محالة، ولكن متى؟ هل أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عن العام الذي يدخلون فيه المسجد؟ هل قال لهم سوف تدخلون المسجد في عامكم هذا؟ هو رأى أنه يدخل وأصحابه آمنين، متى؟ علم ذلك عند الله‫.‬ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ لاتخافون، (آمنين): الأمن المطلق، لو تأملنا في كلمة " آمِنِينَ " وتأمل الأصحاب في وقتها، لعلموا أن الدخول لن يكون في ذلك العام لأن الأمن لم يكن قد تحقق بعد بل كانت الحرب قائمة، وشرط الأمن أن يدخلوا في أمن وسلام واطمئنان كامل‫.‬ وحين أخبرهم نبينا (صلى الله عليه وسلم) بالرؤيا قال‫:‬ ﴿آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ إذاً فهو أمن عند الدخول، اطمئنان وسلام وسكينة عند الدخول، ثم لاخوف بعد ذلك، ولو دخلوا في عام الحديبية لدخلوا خائفين ولاستمر الخوف ملازما لهم‫.‬ وفي الآية لفتة، وهي قول الله (تبارك وتعالى): ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ وكلمة (إن شاء الله) استثناء، فكيف تأتي الآية مؤكدة بالقسم (لتدخلن) ثم بعد ذلك يأتي الشك بالاستثناء؟ (إن شاء الله) وقد يشاء وقد لا يشاء‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫من هنا قال العلماء‫:‬ إذا كان القول هو من قول الله‫:‬ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ إذاً فقد استثنى الله فيما يعلم مؤدِّبا ومعلِّما عباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون، هاهو ربنا القادر على كل شيء، قَدَّم المشيئة واستثنى فيما يعلم أنه حادث ومحقق يعلِّمنا أن نستثني فيمالا نعلم، فما من أحد منا يعلم ما يحدث في الغد وماتدري نفس ماذا تكسب غدا، وربنا (تبارك وتعالى) يُعَلِّمُنا ويقول لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(٢٣)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سورة الكهف آية‫:‬ ٢٣ - ٢٤] إذاً فربنا (تبارك وتعالى) يستثني فيما يعلم كي يعلِّمنا أن نستثني فيما لا نعلم‫.‬ وقال بعض الناس‫:‬ هذا الاستثناء وتقديم المشيئة من قول مَلَك الرؤيا للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مَلَكُ الرؤيا يقول له‫:‬ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ وطالما كان القائل مَلَكُ الرؤيا فقد كان لا بد وأن يقدم المشيئة‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل هذه الآية حكاية عن قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، وإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو المتَحَدِّث والمبَشِّر إذاً فلابد له أن يتأدب بأدب الله، وأن ينَفِّذَ ما قال الله له‫:‬ ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(٢٣)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ إذا ًفقد قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه‫:‬ "يا أصحابي لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله"، إذاً فتقديم المشيئة من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) والآية حكاية عن قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم‫:‬ إنَّ تقديم المشيئة يعني أن المخاطَبين بالرؤيا في ذاك الوقت لن يدخلوا جميعاً المسجد فمنهم من يموت، لذا لَزِمَ أن نقول (إن شاء الله)، فمنهم من يحيا ويدخُل، ومنهم من يُصيبُه الموت قَبْلَ أن تتحقق الرؤيا، فإذا كان الكل غير داخلين بل يدخل بعضهم ولا يدخل البعض الآخر لموت أو لمرض أو لعذر، وجب أن نقول‫:‬ (إن شاء الله) لأنه يشاء لبعضهم أن يمد حياته ولا يشاء لبعضهم بأن يقبض روحه‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ أنَّ الاستثناء من الأمن ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ وقد يكون البعض غير آمن‫.‬ أقوال، وكلها صواب، وأرجحها أنها حكاية عن قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه‫.‬ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ أي‫:‬ بعضكم محلّق وبعضكم مقصّر، من البدهي أن الإنسان لا يحلّق ويقصِّر في وقت واحد (محلِّقين ومقصِّرين) إذاً بعضكم محلِّقين وبعضكم مقصِّرين‫.‬ ﴿لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أي‫:‬ فعلم الله تبارك وتعالى أن في تأخير الدخول إلى المسجد الحرام من الخير والصلاح مالا تعلمون، فأخَّر دخولكم في عام الحديبية إلى العام القادم في عمرة القضاء، صدقت الرؤيا ولكن لم يحققها في عامها لأنه يعلم مالا تعلمون، يعلم أن في التأخير الصلاح والخير العميم‫.‬ (فعلم مالم تعلموا) وهو ماسبق أن أخبرنا به الله‫:‬ ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾ فعَلِمَ أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم، وخِيفَةَ أن تطئوهم أخَّرَ دخولكم حتى يَمِيزَ المؤمن من الكافر، وحتى لا تدخلوا بالسلاح فتطئوهم فعَلِمَ مالم تعلموا‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ من دون الرؤيا، أو من دون دخول مكة، أو من دون الفتح، (جعل من دون ذلك فتحا قريبا) ألا وهو فتح خيبر الذي تم بعد العودة من صلح الحديبية‫.‬ ولو تأملنا لوجدنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حين ذهب معتمرا عام الحديبية، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة، كان العدد أربعة عشر مائة، ولو نظرت إلى عدد الداخلين للمسجد بعد سنتين فقط لوجدت أن العدد عشرة آلاف! إذاً فقد كان الصلح خير، وكان صلح الحديبية بركة، وأَمِنَ الناس، فقد كانوا يتقاتلون خائفين وحين أَمِنَ الناس بالصلح ما حُدِّثَ رجل يَعقِلُ شيئا عن الإسلام إلا ودخل فيه، وزاد عدد المسلمين في هذين العامين أضعاف أضعاف ماكان عليه العدد منذ البعثة إلى صلح الحديبية، من ألف وأربعمائة إلى عشرة آلاف يدخلون المسجد، إذاً فقد عَلِمَ الله مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا‫.‬ وتأتي الشهادة من العلي الأعلى لسيد الخلائق أجمعين، ذلك الذي رفض الكفار أن يقروا له بالرسالة، وحين حزن الصحابة لَمَّا أمرهم رسول الله أن يزيلوا كلمة (رسول الله)، والتي أبى سهيل بن عمرو مفاوض أهل مكة أن يكتبها في الوثيقة‫:‬ (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله أهل مكة)، قال‫:‬ ما نعلم أنك رسول الله ولو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك أكتب محمد بن عبد الله، فقال‫:‬ "أنا محمد بن عبد الله وأنا محمد رسول الله" ومحى كلمة (رسول الله) وكتب (محمد بن عبد الله)، فينزل جبريل ويقول بقول العلي الأعلى‫:‬ (محمد رسول الله) هو يشهد له، هذه الشهادة التي شَهِدَها الله من فوق سبع سموات أثلجت صدور المؤمنين، ومن قبلها يقول الله (تبارك وتعالى) مؤكدا‫:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًۭا ﴿28﴾
‫﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ إذاً فهي شهادة أيضا، ﴿أرسل رسولَه﴾ نَسَبَهُ إليه تشريفا وتعظيما ورفعة لقدره‫.‬ ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ و ﴿الهُدَى﴾: الدلالة على الخير، والدلالة على الحق‫.‬ (بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الإسلام دين الحق، وكل الأديان حق، وإنما حرَّفوها فنَزَلَ الدين الحق، وكلمة (الدِّين): إسم تُستَعمل كمصدر ويستوي فيه المفرد والجمع‫.‬ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أي‫:‬ على الأديان جميعها، نزل الإسلام لينسخ ماكان حقّاً، ويُظْهِر فساد ماكان باطلاً، ففي التوراة والإنجيل كان هناك بعض الحق وكان فيهما أيضا الباطل، فنزل القرآن ينسخ الحق بحَقِّه ويُظْهِر فساد الباطل؛ كقولهم (عزير ابن الله) و (المسيح ابن الله). وسوف يَظْهَرُ الإسلام على جميع الأديان إن عاجلا أو آجلا ولا يبقى في الأرض إلا الإسلام‫.‬ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (ليظهره) الضمير عائد على الإسلام، أو الضمير عائد على محمد (صلى الله عليه وسلم) أي ليظهر محمدا (صلى الله عليه وسلم) على الدين كله، أي‫:‬ يَظْهَر هو وأتباعه على كل أتباع الأديان الأخرى فيقهروهم ويسودوهم ويسترِقُّوهم وينتصروا عليهم بالحجة والبرهان، بالجدال، بالسيف، يظهر الإسلام على الدين كله‫.‬ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ والباء زائدة، أي‫:‬ (كفى اللهُ شهيدا)، شاهدا على صدق محمد (صلى الله عليه وسلم) شهيدا على تحقيق الوعد بالفتح القريب (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا)، شهيدا على تحقيق الوعد بدخول المسجد الحرام آمنين مُحًلِّقين لا تخافون، شهيدا على أنه الرسول الحق خاتم الأنبياء والمرسلين، شهيدا على تحقيق الوعد لإظهار الإسلام على الأديان كلها، وكفى بالله شهيدا‫.‬ ...‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
مُّحَمَّدٌۭ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًۭا سُجَّدًۭا يَبْتَغُونَ فَضْلًۭا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًۭا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةًۭ وَأَجْرًا عَظِيمًۢا ﴿29﴾
‫﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ القول الحق، والقول الصدق، والشهادة الواضحة من العَليِّ الأعلى‫.‬ (وَالَّذِينَ مَعَهُ) قالوا‫:‬ (الذين معه): الذين حضروا صلح الحديبية، الذين (رضي الله عنهم) إذ يبايعون النبي تحت الشجرة‫.‬ وقيل‫:‬ (الذين معه): أُمَّة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أن تقوم الساعة، فنحن الذين معه إلى أن تقوم الساعة، أُمَّة النبي‫.‬ ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ ﴿أشِدَّاء﴾: جمع شديد، (رُحَمَاء): جمع رحيم‫.‬ إذاً فهم غلاظ على أعداء الله أعداء الدين غلظة الأسد على فريسته، أما فيما بينهم فهم متراحمون متوادون متحابون في جلال الله (تبارك وتعالى) يرحم بعضُهم بعضا، يرحم الكبيرُ الصغيرَ، ويرحم الغنيُّ الفقيرَ، هم رحماء بينهم مصداقا لقوله تعالى‫:‬ ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سورة المائدة آية‫:‬ ٥٤] هؤلاء الذين يحبهم الله ويحبونه‫.‬ ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ علامة أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلامة أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) الصلاة، عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد ترك الدين‫.‬ والآية تُقْرَأ‫:‬ (محمدٌ رسول الله) (محمد) مبتدأ، و (رسول) خبر، وانتهى الكلام‫.‬ (والذين معه) مبتدأ ثان، ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ خبر‫.‬ تُقْرَأ‫:‬ (محمد رسول الله) صفةُ النبي ونَعْتِه، (والذين معه) وتأتي صفات الأمة‫.‬ وقرأ بعض الناس بالوصل ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (محمد رسول الله) مبتدأ، (محمد) مبتدأ، (والذين معه) معطوفة على المبتدأ، إذاً فالوصف يشمل الكل محمد والذين معه جميعا أشداء على الكفار رحماء بينهم‫.‬ والأرجح القراءة بالوقف، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يتصف بمالم يتصف به أحد من الأمة، هو رسول الله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿تَرَاهُمْ﴾ أينما وجدتهم بالليل أو بالنهار، ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ إذاً فهم كثيرو الصلاة لا يفوتهم فرض، بل هم يَتَنَفَّلُون أيضا بالليل، يقومون الليل إلا قليلا‫.‬ ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ إذاً فصلاتهم لله، وخضوعهم وخشوعهم لله، تراهم ركعا سجدا من أجل أن يسألوا الله من فضله، يبتغون الثواب والجنة والأمان والنجاة من النار، وكل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والرضوان لا يعلو عليه شيء‫.‬ ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ السيما‫:‬ العلامة، وَسَمَهُ: عَلَّمَه، والوَسْم للماشية‫:‬ أن تُكْوى حتى تُعلَّم ولا تختلط بماشية الغير‫.‬ (سيماهم) أي‫:‬ علامتهم في وجوههم من أثر السجود‫.‬ قال بعضهم‫:‬ السيما التي في الوجه هي حُسْنُ السَّمْتْ، فما من عبدٍ يصلي لله ويواظب على صلاته إلا رُؤي ذلك في وجهه، و رَوَى بعضُهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في سنن ابن ماجه‫:‬ "من كثُرَت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار". وقال بعضهم‫:‬ أنَّ العبد إذا سجد وقام من سجوده عَلَقَ بجبهته شيئا من الأرض كما حدث مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أمطرت السماء فقام من سجوده وأثر الطين في جبهته، فقالوا‫:‬ ما يَعْلَقُ بالجبهة من الغبار أو التراب أو الرمل حال السجود يُرَى في الوجه بعد السجود، ولذا كَرِهَ العلماء أن يمسح المصلي جبهته بعد السجود واستحبوا للمصلي أن يترك أثر السجود ولا يمسحه، فإذا كان هناك غبار أو أثر للسجود فلا يمسحه بيده، وما مسح النبي جبهته‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ بل الكلام عن الآخرة، فهؤلاء يُبعثون يوم القيامة ووجوهم كالقمر ليلة البدر، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، يظهر ذلك يوم القيامة، فإذا بأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) الذين هم على صلاتهم يحافظون، يُبعَثون يوم القيامة ووجوهم كالقمر ليلة البدر من أثر السجود الذي سجدوه في حياتهم‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وقال بعضهم راويا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث من أحاديثه‫:‬ إذا قضى الله وفرغ من القضاء يوم القيامة بين العباد، وأراد ان يرحم من عباده من يشاء، أمر الملائكة أن يُخرِجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، فتدخل الملائكة لتُخرِجَ من النار من لم يشرك بالله شيئا، يعرفونهم بأثر السجود، فالنار تأكل ابن آدم كله، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، حتى لو دخل المسلم النار جزاء عصيانه وأكلت النار جسده، لا تجرؤ أن تقترب من أثر السجود، الجبهة التي وُضِعَت في الأرض خضوعا وخشوعا لله‫.‬ تدخل الملائكة فتعرفهم بأثر السجود فتُخرِجُهم، تلك سيماهم في وجوههم من أثر السجود‫.‬ و سُئِلَ بعضهم من التابعين كمجاهد وغيره‫:‬ هل أثر السجود هو النَّدْبُ الذي يكون في الجبهة من كثرة السجود؟ قال‫:‬ لا، فكم من رجل جبهته كرُكَبِ العَنْزِ وقلبه أشد قساوة من الحجارة، إنما هو حُسْنُ السَّمْتِ ووضاءة الوجه ونور يجعله الله (تبارك وتعالى) في وجوه الساجدين‫.‬ ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾ هما مثلان؛ مثل في التوراة، ومثل في الإنجيل‫.‬ أما مثلهم في التوراة؛ أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم رُكَّعا سُجَّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذاك مثلهم في التوراة‫.‬ أما مثلهم في الإنجيل فمثلٌ آخر ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾. وقال بعضهم‫:‬ هو مَثَلٌ واحدٌ في التوراة والإنجيل، وتُقْرَأ‫:‬ ﴿ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل كزرعٍ﴾ إذا ً هم أشداءُ على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، إذاً فقد ذُكِرَ ذلك في التوراة والإنجيل، ﴿كَزَرْعٍ﴾ استئناف كلام، أي‫:‬ هم كزرع‫.‬ وقال بعضهم‫:‬ هما مَثَلان، ولذا يجب الوقف على كلمة (التوراة).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫وذاك أرجح وأقرب إلى الصواب والله أعلم بمراده‫.‬ ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ مَثَلٌ آخر ذُكِرَ في الإنجيل عنَّا وعن أمة النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (كزرعٍ أخرج شطْئهُ) بسكون الطاء، ﴿كزرعٍ أخرج شَطَئَهُ﴾ بفتح الطاء، (شَطَاءَهُ) بالمد، ﴿أخرج شَطَهُ﴾ بغير همس، (أخرج شَطْوَهُ). الشِّطْأ‫:‬ ما يخرج من الزرع بعد النبات، النبات إذا نَبَتَ وخرج الزرعُ خرج ضعيفا، وخرج عُودا واحدا، فإذا تفرّع وأخرج أفراخه وأخرج فروعه من الأجناب على الشَّاطئيْن (أخرج شطأه) فيُقال‫:‬ أَشْطَأَ الزرعُ، فالشَّطْأ ما يَخْرُج ويَنْبُت من الفروع، وجَمْعُهُ: أَشْطاء، شُطُوء‫.‬ ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ قَوَّاه، من الموازرة، أو (فآزره) مِنْ أَزَرَهُ أو أَزَرْتُه شَدَدتُ إزاره، الإزار إذا كان مشدودا تقوّى المرء وسُتِر، فكذلك آزره عاونه أو قوّاه، خرج الشطأُ فقَوَّى الشطأُ الزرعَ لأن الزرعَ إذا خرج عودا واحدا ثم كثرت الفروعُ قوّى الزرعُ الفروعَ أو قَوَّت الفروعُ الزرعَ. ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ تحوّل من الدِّقَّة إلى الغِلَظْ، خرج رقيقا رفيعا دقيقا ثم بعد ذلك استغلظ، وصل إلى الغِلْظ‫.‬ (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) جمع ساق، (فاستوى على سؤقِه) قراءة‫.‬ استوى، استقام، واعتدل على الساق الذي هو العود الغليظ الذي تقام عليه الفروع وتخرج منه الثمار وما إلى ذلك فهو الأصل‫.‬ ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ كل زارعٍ يراه، سواء كان هو الزارع أو غيره، كل زارع يراه يُعجَب به‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (اللام) لام العلة، جعلهم ربنا كذلك ليغيظ بهم الكفار حين يروا القوة والتراحم، وكأن الزرع كان ضعيفا قليلا كما كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) في بدء حياتهم وفي بدء أمرهم، كانوا قلة مُتَخَفِّين، يعبدون الله (تبارك وتعالى) خائفين فقوّاهم ربنا وكثَّرهم، فأصبحوا كالزرع الذي استغلظ واستوى على سوقه وأخرج شطأه فأعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار‫.‬ وقال بعض العلماء‫:‬ إنَّ المثال ضُرِبَ للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابُه، فنبِيُّنا (صلى الله عليه وسلم) هو الزرع ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ والشطأ أصحابه، هو أخرجهم، هو هداهم، هو علّمهم، هو أدبهم، هو فَهَّمهم، هو جمعهم حوله، فاجتمع الأصحاب حول النبي فقَوَّاهم بوحيه ومعجزاته وقرآنه، وهم أيضا قوُّوه بالحب وبالإخلاص والمودة والتآلف والبيعة، وفدائه (صلى الله عليه وسلم) بأروحهم ونفوسهم كما كان أحدهم يقف معطيا ظهره للعدو، معطيا وجهه للنبي (صلى الله عليه وسلم) حاميا له ويقول له‫:‬ نفسي فداءَ نفسِك وروحي فداءَ روحِك يارسول الله، وتَلَقَّى السهام والرماح عنه حتى وقع وبه بضع وسبعون ضربة وهو يحمي النبي (صلى الله عليه وسلم) بجسده، وكما نام عليّ (رضى الله عنه) في فراشه ليلة حاصره الكفار، نعم! محمد رسول الله‫.‬ كزرعٍ أخرج شطأه‫:‬ الأصحاب، فآزره فاستغلظ فاستوى على عوده، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وقد أغاظ النبي (صلى الله عليه وسلم) الكفار بقوته وبأمته وبصحابته وبانتشار الإسلام وبانتشار الدين وبارتفاع كلمة الله (تبارك وتعالى) وإلى أن تقوم الساعة أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) تغيظ الكفار، إلى أن تقوم الساعة، مهما قلّ العدد ومهما ضَعُفَت الشوكة ومهما جَبُنَ الناس ومهما حدث، لأن الحق يعلو وهم غَيظٌ للكفار‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ تُخْتَمُ السورة بالوعد، وكلمة (منهم) ليست للتبعيض أي البعض والبعض لا، وإنما (منهم) هنا للتجنيس، للجنس، وهي أيضا للتأكيد‫.‬ إذاً فالوعد يشمل الجميع، وعدهم مغفرة، إذاً فهم غير معصومين، فإن أخطأوا أو أذنبوا عن غير عمد يكون ذلك مغفور لهم بوعد الله، وأجرا عظيما وُعِدُوه في الآخرة‫.‬ وكلمة (منهم) كما قلنا للتجنيس وليست للتبعيض كقول الله (تبارك وتعالى): ﴿ونُنَزِّلُ من القرآن ماهو شفاء﴾ والقرآن كُلُّه شفاء، إذاً فكلمة (مِنْ) للتأكيد وللبيان وليست للتبعيض‫.‬‬‬‬‬‬
‫﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ فصحابة النبي (صلى الله عليه وسلم) هم أولياء الله، وهم أحباب الله، وهم خيرة الله من خلقه، وخير الناس على الإطلاق منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة بعد النبيين هم أصحاب محمد (عليه الصلاة والسلام). وقد قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "خير القرون قرني" وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً مابلغ مُدَّ أحدهم" أو "ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" والمُدّ: ملء الكف‫.‬ وقال (صلى الله عليه وسلم): "إن الله اختارني واختار لي أصحابي فجعلهم لي وزراء و أختانا وأنصارا من سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يَقْبَلُ الله يوم القيامة منه صَرْفا ولا عَدْلا". لذا قال العلماء‫:‬ إنَّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فوق الشبهات وأي طاعنٍ عليهم خرج من شرع الله‫.‬ وسُئِلَ مالك، إمام دار الهجرة، عن رجلٍ يقع في أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقرأ قول الله (تبارك وتعالى): ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ فمن أصبح في قلبه غيظ لواحدٍ من أصحابه انطبقت عليه الآية، فمن كان في قلبه غيظٌ لواحدٍ من أصحاب النبي كان من هؤلاء الذين أغاظهم الله، ذلك رأي مالك بن أنس إمام دار الهجرة‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫وأخبرنا العلماء وحذرنا شيوخنا وقالوا‫:‬ من طعن في أحد الأصحاب بالكذب أو بالخطأ فقد رد كلام الله، لأن الله تبارك وتعالى يقول‫:‬ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [سورة الأحزاب آية‫:‬ ٢٣] ويقول‫:‬ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [سورة الفتح آية‫:‬ ١٨] وكانوا أصحابه (رَضِيَ عنهم) ويقول‫:‬ ﴿وعدهم مغفرة وأجرا عظيما﴾. ويصف المهاجرين بأنهم أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ٨] فإذا كان الله يقول عن المهاجرين جميعا ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ فمن كذّب واحداً منهم فقد رد على الله قوله‫.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫ويقول عن الأنصار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة الحشر آية‫:‬ ٩] فمن طعن في أحدٍ من الأنصار فقد رد على الله قوله لأنه وصفهم بأنهم (هم المفلحون) من هنا أي طاعن على صاحبٍ من أصحاب رسول الله كان ممن قال الله فيهم‫:‬ ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ إذاً فقد دخل فيمن اغتاظ و دخل في الكفار، ومن كذّب أحدَهم أو كذَّب حديثا رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد رد على الله قوله وكَذَّب بقول الله، الله يصفهم بالصدق ﴿صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾، رضي عنهم وأرضاهم، ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [سورة التوبة آية‫:‬ ١٠٠] إذاً فقد رد على الله قوله، وأي طاعن في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الواردة من أصحابه، أو من يدّعي أن الصحابة أناسٌ بَشَر يقع منهم ما يقع من البشر يخطئون ويصيبون، وقد كانوا عدولا في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) أما بعد ذلك فقد جاءت الفتن وحدثت الحروب وأسيلت الدماء فلابد أن يخضع الأصحاب للتأريخ وللبحث عن عدالتهم والنظر في أحوالهم، من كان على حق منهم ومن كان على باطل، من صدق ومن لم يصدق، ونبحث في أمرهم فهم غير معصومين، من قال ذلك وقع في المحظور! فهؤلاء أصحاب رسول الله هم العدول في الدنيا والآخرة، وهم الشهود في الدنيا والآخرة، وكل ما حدث فهم مغفور لهم، وحدث عن اجتهاد وكل مجتهد مصيب، اجتهدوا في الحق وكانت بُغْيَتُهم الحق، وهؤلاء الذين حدثت معهم الفتن كانوا يعلمون بأمرها قبل أن تقع، وأخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بها وكان يعلم عنها، وقال في حديثه الصحيح‫:‬ "أرى مواقع الفتن في بيوتكم كمواقع القَطْر"، قال وحَدَّثهم، وعَلِمَ عمرُ بالفتنة، وعَلِمَ بأنه يُقْتَل، وسأل عنها حذيفة بن اليمان وأخبره وقال‫:‬ بينك وبينها باب، قال‫:‬ يُفتَحُ أم يُكسَر؟ قال‫:‬ بل يُكسَر، قال‫:‬ إذاً لا يُغلَق أبدا‫.‬ وعَلِمَ عثمانُ بمقتله وأخبره النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته وقال‫:‬ "بشروا عثمان بالجنة على فتنة تصيبه"، وقال‫:‬ "يا عثمان إنَّ الله مُلْبِسُكَ قميصا فلا تخلعه وإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه" من هنا رفض عثمان أن ينْخَلِع وصَمَّمَ على إبقاء القميص الذي ألبسه الله‫.‬ كل ذلك معلوم وكانوا يعلمون به، بل وهم العشرة المبشرون بالجنة طلحة و الزبير، ألم يقل فيهم رسول الله‫:‬ "طلحة والزبير جاراي في الجنة"؟ بلى قال! وقال‫:‬ "لكلِّ نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان". أبو بكر خليفة رسول الله على التحقيق، صاحبه في الغار وفي الطريق، الذي قال فيه سيد كل قبيلة وفريق‫:‬ "ما طلعت الشمس وما غربت على رجل بعد النبين أفضل من أبي بكر الصديق"، سمّاه ربُّنا صِدِّيقا‫.‬ عمر الإمام التواب، الناطق بالصواب، الموافق حكمه حكم الكتاب، الذي قال للنبي‫:‬ احجب نساءك، فنزلت آية الحجاب، الذي قال فيه رسول الملك الوهاب‫:‬ "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب". عثمان ذو النورين، زَوْجُ ابنتين من بنات رسول الله، وحين ماتت الثانية قال له‫:‬ "يا عثمان لو أن عندي ثالثة لزوجتك إياها"، عثمان حين بكى لما ماتت زوجته الأولى ودخل رسول الله عليه ووجده يبكي قال‫:‬ "ما يبكيك؟ " قال‫:‬ وهل دَخَلَ على أحد ما دَخَلَ عليّ؟ انقطع النَسَبُ الذي بيني وبينك، فنَزَلَ جبريل‫:‬ (يا محمد إنَّ الله يأمرك أن تزوجه بأختها)، في الحال! عثمان بن عفان مَنْ نَوَّرَ المحرابَ بإمامته، ورَتَّلَ القرآنَ بتلاوته، المبَشَّر بسُكنى أعلى الجنان، الذي قال فيه رسول الملك الديان‫:‬ "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‫عليّ بن أبي طالب، ليث بني غالب، مظهر العجائب، مُفَرِّق الكتائب، الصائم بالصيف، والضارب بالسيف، والمواسي للضيف، ذاك ابن عم رسول الله اختاره النبي (صلى الله عليه وسلم) لابنته، الذي قال فيه رسول الملك الواهب‫:‬ "أنا مدينة العلم وبابها علي بن أبي طالب". طلحة، "لقد أوجب طلحة"، نظر إليه وهو يدخل المسجد وقال لأصحابه‫:‬ "من أراد أن يرى رجلا قضى نحبَه وهو يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة". الزبير بن العوام جار رسول الله في الجنة‫.‬ سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في سبيل الله‫.‬‬‬‬‬‬‬
‫وغيره وغيره، العشرة المبشرين بالجنة أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، لو كذّبْتَ أصحابَ النبي أو كذّبْتَ واحداً منهم لانهدم الدين، ولانهدمت الشرائع، هم الذين حملوا إلينا القرآن، وهم الذين نقلوا إلينا سُنَّةَ سيد الأنام، وهم جاهدوا في سبيل رب الأكوان حتى ارتفعت راية الإسلام ولم يبق إلا الإيمان، هؤلاء أصحاب النبي بهم أضاءت الأمة، أشرقوا بوجوههم وبوجودهم فهوى المشركون إلى المصارع، هؤلاء أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) الطعن فيهم طعن في الإسلام، من أين نعلم الصلاة وركعات الصلاة وأوقات الصلاة؟ أنَّى لنا أن نعلم الصيام وكيفية الصيام؟ أنَّى لنا أن نعلم مناسك الحج؟ القضاء والزواج والطلاق والعتاق والمواريث والأوامر والنواهي؟ كل ذلك هم الذين نقلوه إلينا، ولولا الصحابة ما كُنَّا ولا كان الإسلام، هم الذين فتحوا الأمصار، هم الذين أدخلوا الإسلام إلى مصر وغيرها من الأمصار، هم الذين نقلوا القرآن، هم الذين حَمَلُوا سُنّة سيد الأنام، جاهدوا في سبيل رب الأكوان، أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) كلهم عدول، كلهم أولياء الله، كلهم مُبَشَّرون، هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، هم الصادقون، هم المفلحون بنص القرآن، ومن خالف ذلك أو طعن في واحد منهم فقد رَدَّ على الله قوله، وأغاظه ما ورد في القرآن‫:‬ ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾.‬‬‬

أيها الأخ المسلم عليك بحب الأصحاب، فقد أحبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) ويُحْشَرُ المرءُ مع من أَحَبّ، "أصحابي كالنجوم البوازغ بأيهم اقتديتم اهتديتم"، أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) من سَبَّ واحداً منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفا يوم القيامة، هذا قول النبي (صلى الله عليه وسلم).‬‬
‫دافِعوا عنهم ولا تسمَحوا لأحدٍ بمهاجمتهم، ولا تسمحوا لأحد أن يتحدث عن حروبهم أو اختلافاتهم أو الفتن التي حدثت في عصرهم، أو يكَذِّب أحاديثهم، إياكم أن تسمحوا بذلك، فمن سمح بذلك كان منهم، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول في شأن الخائضين‫:‬ ﴿ولا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم اذا مثلهم﴾ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هم العدول، هم أولياء الله، هم خيرته من خلقه، هم المرْضِيِّ عنهم، هم الأولون، هم السابقون‫.‬‬‬‬‬